شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم10%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297525 / تحميل: 13675
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

العذراء - العائشة بكلّ طُهرٍ بدون أدنى ذنبٍ، المـُنزهّة عن اللوم، المثابِرة على الصلاة مع الصوم - يوماً مّا وحدَها وإذا بالمـَلاك جبرائيل قد دخل مَخدعَها وسلّم عليها قائلاً: ليكنْ الله معكِ يا مريم، فارتاعت العذراء من ظهور المـَلاك، ولكنّ المـَلاك سكّن روعَها قائلاً: لا تخافي يا مريم؛ لأنّكِ قد نلتِ نعمةً مِن لدُن اللّه الذي اختاركِ لتكوني أُمَّ نبيٍّ يبعثه إلى شَعب إسرائيل؛ ليسلكوا في شرائعه بإخلاص.

فأجابت العذراء: وكيف أَلِد بنينَ وأنا لا أَعرِف رجلاً؟! فأجاب المـَلاك: يا مريم إنّ اللّه الذي صنع الإنسان من غير إنسان لَقادرٍ أنْ يخلقَ فيكِ إنساناً من غير إنسان؛ لأنّه لا مُحال عنده. فأجابت مريم: إنّي لَعالِمةٌ أنّ الله قديرٌ، فلتكنْ مشيئتُه، فقال المـَلاك: كوني حاملاً بالنبيّ الذي سَتدْعينَه يسوع، فامنعيه الخَمر والمـُسكِر، وكلَّ لحمٍ نجسٍ؛ لأنّ الطفل قُدّوس اللّه، فانحنت مريم بضعةً قائلةً: ها أنا ذا أَمَة اللّه، فليكن بحسب كلمتك (١) .

* * *

قلتُ: ما جاء في إنجيل برنابا أسلم وأوفق بالاعتبار ممّا جاء في إنجيليّ لوقا ومتّى.

أولاً: جاء في إنجيل لوقا: (القدُّوس المولود منكِ يُدعَى ابنُ اللّه) (٢) .

وفيه أيضاً: أنّ مريم لمـّا أتت خالتها (اليصابات) باركتْها ووصفتْها بأنّها أُمُّ ربّها: (وقالت: أنتِ مباركةٌ في النساء، ومباركة هي ثمرةُ بطنك، فمِن أين لي هذا أنْ تأتي أُمُّ ربي إليَّ) (٣) .

وهذا شيءٌ غريب، كيف يكون المولود من امرأةٍ ابناً للّه، بحجّة أنّه لم يولد من أبٍ؟! إذن لكان الأَولى أنْ يكون آدم ابناً للّه؛ حيث لم يلده أبٌ ولا أُمٌّ.

ثم كيف أصبح هذا المولود من غير أبٍ إلهاً من دون اللّه؟! الأمر الذي يرفضه العقل الرشيد.

____________________

(١) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص٣٧٧.

(٢) إنجيل لوقا، الإصحاح ١/٣٥.

(٣) إنجيل لوقا، الإصحاح ١/٤٢ و٤٣.

٨١

قال صاحب كتاب (الفارق بين المخلوق والخالق): ما جاء في إنجيل لوقا (ص١: ٣٢): (وابن العليّ يُدعَى)، هذه الجملة مُنتزَعة من قول زكريّا (عليه السلام) في ابنه يحيى: (وأنت أيّها الصبّي نبيّ العليّ تُدعَى) (لوقا ١ ص١: ٧٦)، فحُرِّفت في حقّ عيسى (عليه السلام) إلى قول لوقا على لسان المـَلَك: (وابن العليّ يُدعى)؛ ليُوهموا الناس أنّ المسيح إلهٌ ابنُ إله ٍ (١) .

وثانياً: قوله: (هذا يكون عظيماً، وابن العليّ يُدعى، ويُعطيه الربُّ الإلهُ كُرسيّ داود أبيه، ويَملك على بيت يعقوب ولا يكون لمـُلكه نهاية)...

قال الأُستاذ النجّار: إنّ هذه العبارات تفرّد بها لوقا، ولم يذْكرْها أحد من كُتّاب الأناجيل سواه، ونحن لا نقول بأنّ الإلهام قَصَّر معهم - وفيهم أصحاب المسيح المـُشاهِدون لأحواله العالِمون بشأنه - وأفاض على لوقا الذي ليس تلميذاً ولا مِن الإثني عشر، بل رجل دخل في الدين متأخّراً وصار تلميذاً لبولس الذي لم يرَ المسيح ولم يُعاشرْهُ.

فهذه العبارة ممّا جاء به؛ ليُزيّنَ أمرَ المسيح ويُدخِلَ على الناس تعظيمَه، والمسيح ليس في حاجةٍ إلى ذلك.

وقد طعن صاحب كتاب (الفاروق) على هذه الجملة (ويعطيه الإله كرسيّ داود أبيه) بوجهين وجيهين:

الأَوّل: أنّ عيسى (عليه السلام) من أولاد الملِك (يهوياقيم) (٢) ولا يَصلح أنْ يجلس على كرسيّ داود؛ لأنّه لمـّا أحرق الصحيفة التي كتبها (بارخ) من فم النبيّ (أرمياء) نزل الوحي: (قال الربّ عن يهوياقيم (يواقيم) - ملك يهوذا - لا يكون له جالسٌ على كرسيّ داود) (٣) .

الثاني: أنّ المسيح - مع كونه لم يجلس على كرسيّ داود - أمر (بيلاطس) بضربه وإهانته، وسلّمه إلى اليهود - كما يَزعمُه النصارى - ففعلوا به ما فعلوا وصلبوه.

على أنّه يبدو من إنجيل يوحنا (١ ص٦) أنّه كان هارباً من قومِهِ عندما أرادوا أنْ

____________________

(١) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص٣٧٨.

(٢) في إنجيل متّى: الإصحاح الأَوّل: إنّه من ذرّية (ألياقين)، وقد غيّر فرعون مصر اسمه إلى (يهوياقيم) (قاموس الكتاب المقدّس، ص٩٨٦)، وراجع: سِفر الملوك ٢، إصحاح ٢٣/٣٤.

(٣) كتاب أرمياء، إصحاح ٣٦/٣٠.

٨٢

يجعلوه مَلِكاً ولا يُعقل أنْ يهرب من أمرٍ بعثهُ اللّهُ لأجلهِ، على ما بشّر جبرائيلُ أُمّه العذراء قبل ولادته، ومعلومٌ أنّه لمْ يَملِكْ بيتُ يعقوب ساعةً فضلاً عن الأبد (١) .

يا أُخت هارون

ويقول القاضي عبد الجبار في كتابه (تنزيه القرآن عن المطاعن): وربّما قيل في قوله تعالى: ( يَا أُخْتَ هَارُونَ ) : كيف يصحّ أنْ يقال لها ذلك وبينها وبين هارون أَخي موسى الزمان الطويل؟ وجوابنا أنّه ليس في الظاهر هارون الذي أخو موسى، بل كان لها أخٌ يُسمّى بذلك، واثبات الاسم واللقب لا يَدلّ على أنّ المسمّى واحد، وقد قيل: كانت مِن وِلْدِ هارون، كما يقال للرجل من قريش يا أخا قريش (٢) .

ويشرح المبشّرون هذه الناحية ويقولون: وَرَد في سورة مريم: ( فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً ) (٣) يبدو من هذه الآية أنّ مُحمّداً كان يرى أنّ مريم كانت أُخت هارون أخي موسى. وممّا يزيد هذا الأمر وضوحاً وجلاءً ما ورد في سورة التحريم ونصُّه: ( وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ ) (٤) وفي سورة آل عمران: ( إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً ) (٥) فلا شكّ أنّ مُحمّداً توهّم أنّ مريم أُخت هارون - التي كانت أيضاً ابنة عِمران (عمرام) - هي مريم نفسها التي صارت أُمَّ يسوع (المسيح عيسى) بعد ذلك بنحوِ ألف وخمسمِئة وسبعين سنة، وهذا خطأ جسيم؛ لأنّه لم يقلْ أحد من اليهود أنّ مريم أُخت هارون وابنة عمران بقيتْ على قيد الحياة إلى أَيّام المسيح (٦) .

هكذا وَهِم تسدال ومَن حذا حذوَه مِن المبشّرين! لكنّه وهمٌ فاحش؛ إذ كيف يمكن أنْ يخفى مثلُ هذا الفصل البيّن بين موسى والمسيح (عليهما السلام) على العرب العائشين في

____________________

(١) قصص الأنبياء للنجّار، ص٣٧٧ - ٣٧٨.

(٢) تنزيه القرآن عن المطاعن للقاضي عبد الجبار، ص٢٤٧.

(٣) مريم ١٩: ٢٧ - ٢٨.

(٤) التحريم ٦٦: ١٢.

(٥) آل عمران ٣: ٣٥.

(٦) مصادر الإسلام، ص١٠٢ - ١٠٤، والفنّ القصصي ص٥٧ - ٥٨.

٨٣

جِوار اليهود وبين أظهرهم طيلةَ قرونٍ، وكذا مُراودتهم مع نصارى نجران والأحباش، فضلاً عن نبيّ الإسلام النابه البصير ليَتصوّرَ مِن مريم أُمّ المسيح هي مريم أُخت موسى وهارون!

إذ مَن يعرف أنّ لموسى وهارون أُختاً اسمها مريم، لا يمكنه الجهل بهذا الفصل الزمني بين مَريَمين!

ثُمَّ كيف يَسكت اليهود - وهم ألدُّ أعداء الإسلام - على هذا الخطأ التأريخي الفاحش ولم يأخذوه شنعةً على القرآن والإسلام؟

هذا وقد وقع التساؤل عن هذا التشابه على عهد الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) على ما نقله السيّد رضيّ الدين ابن طاووس عن كتاب (غريب القرآن) لعبد الرحمان بن محمد الأَزدي الكوفي - من كبارِ رجال القرن الثالث - بإسناده إلى المغيرة بن شعبة، قال: بعثني رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) إلى أهلِ نَجران، فقالوا: أرأيتَ ما تقرأون (يا أُخت هارون) وهارون أخو موسى، بينه وبين عيسى المسيح بكذا وكذا؟ قال: فرجعتُ وذكرتُ ذلك لرسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) فقال: (أَلا أخبرتَهم (أو قلتَ لهم) أنّهم كانوا يُسمّون بالأنبياء والصالحين قبلهم!) (١)

وهكذا أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي وابن المـُنذر وابن أبي حاتم وابن حبّان والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن المغيرة بن شعبة... الحديث (٢) .

نعم وهِمَت عائشةُ أنّها أُخت هارون أخي موسى، فنبّهها كعبُ الأحبار بأنّها غيرها، والفصل الزمني بينهما كبير، وإنّما هو من تشابه الأسماء، فرجعتْ عن زعمها (٣) .

وذكر كعبُ أنّ الفصل الزمني بينهما ستمِئة سنة؛ ولعلّه مِن حذف الألف في نقل الرواة.

إذن، لم يكنْ ذلك خافياً على أهل النباهة في ذلك العهد، وهكذا في طول عهد الإسلام،

____________________

(١) سعد السعود، ص٢٢١.

(٢) الدرّ المنثور، ج٥، ص٥٠٧.

(٣) فيما رواه ابن سيرين، راجع: الدر المنثور، ج٥، ص٥٠٧.

٨٤

حتى يأتيَ تسدال وأضرابه مِن أهل السفاسف في مؤخّرة الزمان ليجعلوه شَنعةً على القرآن الكريم!!

والخلاصة، أنّ التسمية باسم الآباء والأُمّهات تشريفاً بهم شيء معروف كما جاء في كلام الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) ولا سيّما وهارون كان سيّدَ قومِه مُهاباً عظيماً له شأن في بني إسرائيل، وهو أُوّل رأس الكَهَنَة الذي ترأّس في اللاويين - أكبر قبائل بني إسرائيل - (١) .

أضف إليه أنّ أُمّ مريم - وهي أُخت اليصابات أُمّ يحيى - كانت من سبط لاوي من نسل هارون (٢) ، فهي من جهة الأُمّ منتسبةٌ إلى هارون، فالتعبير بأُختِ هارون، مُعاتَبَةً لها؛ حيث عُلِم أخذها بِحُرمة هذا النسب العالي، وهذا كما للتميمي: يا أخا تميم، وللهاشمي: يا أخا هاشم... رُوي ذلك (انتسابها إلى هارون) عن السدّي (٣) .

وهذا لا ينافي أنْ تكون مريم من جهةِ الأب منتسبةً إلى داود من سبط يهوذا (٤) ؛ لأنّ العقاب إنما يقع بأشرف الأبوين.

وهناك احتمال: أنّها شُبِّهت بمريم أُخت هارون وموسى؛ لمكان قَداستِها وكانتْ ذات وجاهةً عند قومها، وكانت تُدعى أيضاً بأُخت هارون، ويُعبّر عنها بالنبيّة كهارون أخيها (٥) ، وكانت أكبرَ من موسى بعشرِ سنين، وهي التي قالت لها أُمّها: قُصّيه، عندما قَذفت بتابوت موسى في النيل.

والمعنى: أنّك تماثلين الصدّيقة مريم أُخت موسى وهارون، فكان جديراً بك المحافظة على هذا المقام (٦) .

ابنة عمران

لمْ تذكرْ التوراة عن والدِ مريم شيئاً سِوى أنّها من سبط يهوذا من نسل داود، ولا بُعدَ أنْ يكون اسم والدِها عِمران (عمرام) وكانت التسمية بهذا الاسم شائعةً في بني

____________________

(١) راجع: قاموس الكتاب المقدّس، ص٩١٦.

(٢) المصدر: ص٧٩٥.

(٣) مجمع البيان، ج٦، ص٥١٢.

(٤) المصدر: ص٧٩٤ - ٧٩٥.

(٥) راجع: سِفر الخروج، إصحاح ١٥/٢٠.

(٦) راجع: تفسير نمونه، ج١٣، ص٥١.

٨٥

إسرائيل، وكان في حشد عزرا من كان يُسمّى بهذا الاسم (١) - كما لمْ يُنكر هذا الانتساب مُنذ العهد الأَوّل فإلى الآن - دليلاً على صحّة الانتساب.

وعلى أَيّ حالٍ فلا غَرْوَ أنْ يأتيَ القرآن بحديثٍ لمْ يأتِ مثله في كتب الأقدمين ولا عَرَفه أصحابُ الديانات المعاصرة لنزول القرآن، وقد نبّهنا أنّ القرآن يأتي بالصفو الصحيح من آثارِ الأنبياء والصدّيقين بما أعجب وأبهر، ولذلك يقول سبحانه: بشأن قصص الصدّيقة مريم: ( ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ) (٢) .

إذ جاءت قصّتها في كتب السابقين مشوّهة محرّفة، ولكنّها في القرآن نقيّة زاكية.

تأليه الصدّيقة مريم!

( وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ ) (٣) .

وهذا تعريضٌ بفرقةٍ مِن فِرَقِ النصارى قالوا بأُلوهيّة المسيح وأُمّه... الأمر الّذي أنكرته فِرَقُ النصارى اليوم، بحجّةِ أنّه لم توجدْ فرقة تعتقد أُلوهيّة مريم الغذراء!

لكنّ التأريخ يشهد بوجود فرقة أو فِرَقٍ من المسيحيّين الأَوائل كانوا يعتقدون بأُلوهيّتها إلى جَنب أُلوهيّة المسيح:

يقول عنهم ابن البطريق - الطبيب المؤرِّخ المسيحي (٢٦٣ - ٣٢٨ هـ/٨٧٧ - ٩٤٠م): (٤)

(وكانوا مختلفين في الآراء والأديان، فمنهم من كان يقول: إنّ المسيح وأُمّه إلهان من دون اللّه، وهم (البربرانيّة)... ويُسمَّون (الريمتيّين) (المريمانيّة)، ومنهم من كان يقول: إنّ المسيح مِن الأب بمنزلةِ شُعلة نارٍ انفصلت من شُعلةِ نارٍ، فلم تَنقص الأُولى بانفصال الثانية منها، وهي مقالة (سابليوس) وشيعته، ومنهم من كان يقول: لمْ تحبلْ بهِ مريم تسعةَ

____________________

(١) راجع: عزرا، إصحاح ١٠، عدد ٣٤.

(٢) آل عمران ٣: ٤٤.

(٣) المائدة ٥: ١١٦.

(٤) هو سعيد بن البطريق من أهل مصر، وُلِد بفُسطاطٍ، واُقيم بطريركاً في الإسكندريّة وسُمّي أنتيشيوس ( Entychius ) سنة ٣٢١ هـ ق، له كُتب في الطبّ والتأريخ ولا سيّما تأريخ المسيحيّة، كُتب عن فِرقِ النصارى وما بينهم من شقاقٍ وخلافٍ، راجع: الوافي بالوفيّات للصفدي (٧٦ هـ)، ج١٥، ص١٢٧، رقم ٤٨٥٨، والأعلام للزركلي، ج٣، ص١٤٤.

٨٦

أشهرٍ، وإنّما مرّ في بطنها كما يمرّ الماء في المِيزاب؛ لأنّ الكلمة دخلت في اُذُنِها وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها، وهي مقالة (إليان) وأشياعه، ومنهم من كان يقول: إنّ المسيح إنسانٌ خُلق مِن اللاهوت كواحدٍ مِنّا في جوهره، وأنّ ابتداء الابن من مريم، وأنّه اصطُفي ليكونَ مُخلِصاً للجوهر الإنسي، صَحِبتهُ النعمةُ الإلهيّة وحلّت فيه بالمحبّة والمشيئة، ولذلك سُمّي (ابن اللّه) ، ويقولون: إنّ اللّه جوهر قديم واحد وأقنوم واحد، ويسمّونه بثلاثة أسماءٍ، ولا يؤمنون بالكلمة ولا بروح القُدُس، وهي مقالة (بولس الشمشاطي) بطريرك أنطاكيّة وأشياعه وهم (البوليقانيّون)، ومنهم من كان يقول إنّهم ثلاثة آلهة لم تزلْ: صالحٌ وطالحٌ وعدل بينهما، وهي مقالة (مرقيون) هو رئيس الحواريّين وأنكروا بطرس، ومنهم من كان يقول بأُلوهيّة المسيح، وهي مقالة (بولس) الرسول ومقالة الثلاثمِئة وثمانية عشر أُسقفاً...

ولتصفية هذه الخلافات اجتمع في عام ٣٢٥ ميلاديّة (مجمع نيقيّة) عند الملك (قسطنطين) وبدعوةٍ منه، فاجتمع ألفان وثمانية وأربعون أُسقفاً، ودارتْ البُحوث، وقد اختار الإمبراطور الروماني (قسطنطين) - الذي كان قد دخل في النصرانيّة من الوثنيّة مُنُذ عهدٍ قريب ولم يكنْ يدري مِن النصرانيّة شيئاً - هذا الرأي الأخير (رأي بولس الرسول) وسلّط أصحابه على مخالفيهم، وشرّد أصحاب سائر المذاهب، وبخاصّة القائلين بألوهيّة الأب وحده، وناسوتيّة المسيح! (١)

وهكذا يقول يقول ابن حزم الأندلسي (٣٨٣ - ٤٥٦هـ) وهو قريبُ عهدٍ بابن البطريق - بعد شرح الخلافات بين طوائف النصارى أيّام قسطنطين وكان أَوّل من تنصّر من مُلوك الروم، فكان ممّا عَدَّ من تلك المذاهب والفِرق: البربرانيّة. قال: (ومنهم البربرانيّة، وهم يقولون إنّ عيسى وأُمّه إلهان من دون اللّه عزّ وجلّ: قال: وهذه الفرقة قد بادت...) (٢) .

____________________

(١) راجع ما كتبه سيد قطب بهذا الشأن (في ظِلال القرآن، ج٦، ص١١٧ - ١٢١، المجلّد الثاني، ص٦٨٥ - ٦٨٩) نقلاً عن كتاب محاضرات في النصرانيّة للشيخ محمد أبو زهره، وعن كتاب الأُمّة القبطيّة وغيره من مراجع.

(٢) الفِصَل في الملل والنحل، ج١، ص٤٨.

٨٧

ويكلّم الناس في المهد وكهلاً

جاء في القرآن في ثلاثة مواضع، تكلّمُ المسيح في المهد:

١ - في سورة آل عمران (الآية: ٤٦): ( وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ) .

٢ - في سورة المائدة (الآية: ١١٠): ( إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ) .

٣ - في سورة مريم (الآية: ٢٩): ( فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً ) .

ذكر الرازي أنّ النصارى أنكرت كلام المسيح في المهد، بحجّة أنّه لم يثبتْ عندهم وكانوا هم أَولى بنقله لو كان؛ لأنّه حادث عجيب وبرهان ساطع على صدق نبوّتِه، ولشَهدِه جمّ غفير، ونُقل بالتواتر لتوفّر الدواعي عليه، بما لا يمكن خفاؤه لكي يظهر على يد نبيّ الإسلام فحسب! (١) .

لكن هذا الاعتراض إنّما كان يَرِد لو كان أبناء المسيحيّة قد احتفظوا بمُستَنداتهم الدينيّة طُولَ عهدِ التأريخ ولم يُضيّعوها، ولم يَدَعوها على ذمّة التحريف والخلط والتبديل، على أنّهم مُنذ البدء لم يأخذوا ديانتَهم عن أصلٍ وثيق، ولا عرفوا شيئاً من حياة صاحب الرسالة إلاّ أقاويل وأساطير، فقد ضاعت عنهم كلُّ معالمِ الشريعة والصحيح من سيرة المسيح مُنذ بداية الأمر...

تلك الأناجيل الأربعة، ثلاثة منها (متّى، مرقس، لوقا) لم تحتفظ على معاجز المسيح (الثلاث والثلاثون معجزة) سِوى معجزة واحدة، وإنجيل يوحنّا لم تذكر منها سِوى سبع معاجز (٢) ، فأين الباقي؟

على أنّ هذه الأناجيل بينها اختلاف كبير وهي قريبةُ العهد بالتدوين، والعُمدة أنّها كُتبت في عهدٍ متأخّرٍ (بعد انتهاء أمر المسيح) فخلطتْ الحابلَ بالنابل، وكان فيها الغث والسمين، وبعد أنْ أفاق المسيحيّون من الاضطهادات التي كانت تتوالى عليهم نظروا في

____________________

(١) التفسير الكبير، ج٨، ص٥٢.

(٢) راجع: قاموس الكتاب المقدّس، ص٩٦٧.

٨٨

تلك الأساطير واختارت الكنيسة من بينها تلك التي لا تتعارض مع نزعتها وجعلتها رسميّةً، ولم تَكتَرث لِما بين مضامينها من التخالف والتناقض مادام ذلك لا يخالف المـَنزع العام الذي قصدته الكنيسة، والأناجيل جميعها منقطعة السند، ولا توجد نسخة إنجيل بخطِّ تلميذٍ من تلاميذ ذلك المؤلِّف ولا ما يضمن شُبهة صحّةٍ فيها (١) .

من ذلك الخلط الفاحش، إسناد (لوقا) التكلّم في المـَهد إلى يوحنّا المعمدان (يحيى بن زكريّا) بدلَ المسيح (عيسى بن مريم)، (٢) وسكت عنه سائر الأناجيل.

جاء في إنجيل لوقا: كان في أَيّام هيروديس - مَلِك اليهود - (٤ - ٤٠ - ق م) كاهنٌ اسمه زكريّا وامرأته من بنات هارون واسمها (اليصابات) وكانت عاقراً... فبينما زكريّا يَكهنُ في نوبةٍ فرفته أمام اللّه، إذ ظهر له مَلائكةُ الرّبِّ فبشّروه بيحيى... ولمـّا حبلت اليصابات أخفت نفسَها خمسة أشهرٍ، وفي الشهر السادس أُرسِل جبرائيل إلى مدينةِ ناصرة إلى العذراء مريم ليُبشِّرها بعيسى وقال لها: هاهي خالتك اليصابات أيضاً حُبلى بابنٍ في شيخوختها.

وفي تلك الأيام ذهبت مريم إلى مدينة يهوذا ودخلت على اليصابات وسلّمت عليها، وظلّت عندها ثلاثة أشهر ثم عادت إلى بيتها في الناصرة.

ولما تمّ زمان حمل اليصابات ولدتْ ابناً وسَمع الجيران والأقرباء وفرِحوا بذلك، وفي اليوم الثامن جاؤوا ليَختنوه وسمّوه يحيى - بإشارة من أبيه - وفي الحال انفتح فمُه ولسانُه، وتكلّم وبارك اللّه... فتعجّب الجميع من ذلك الحادث الغريب؟!

____________________

(١) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص٣٩٩.

(٢) كان لوقا طبيباً من أهل أنطاكيّة، ولم يرَ المسيح أصلاً وقد لُقِّن النصرانيّة عن (بولس)، وبولس هذا كان يهوديّاً متعصّباً على المسيحيّة ولم يرَ المسيح في حياته، وكان يُسيء إلى النصارى إساءات متواصلة، ولمـّا رأى أنّ اضطهاده للنصرانيّة لا يُجدي عَمَدَ من طريق الحيلة إلى الدخول فيها وإظهار الاعتقاد بالمسيحيّة، وادّعى أنّه صُرِع وفي حال صَرعه لمسه المسيح وزجره عن الإساءة إلى متابعيه، ومن ذلك الوقت آمن وأرسله المسيح ليُبشِّر بإنجيله (نظير ما اختلقه كعب الأحبار - الكاهن اليهودي - تعليلاً لإسلامه أيام عمر بن الخطاب) وانطلت حيلتُه على الكنيسة، وهو الذي جعل النصارى يمرقون من واجبات الناموس الذي جاء المسيح لتأييدها، فأباح لهم أكل المِيتة وشرابَ الخمور، وأنّ الإيمان وحده كان في النجاة بدون عمل... قصص الأنبياء للنجّار، ص٤٠٠.

وكان تأليف لوقا إنجيله بإيحاءات من شيخه بولس هذا الذي حاول التشويهَ في شريعة المسيح والحطَّ من قداسته، ومن ذلك نسبة الكلام في المـَهد - وهي نفحة قُدسيّة - إلى يحيى قبل أن يأتيَ عيسى المسيح، الأمر الذي اغترّ به أتباع المسيح من غير دراية.

٨٩

وأمّا مريم العذراء فلمـّا تمّ أيامُ حَملِها ولدت ابناً فقمّطتْه وأضجعته في المِذوَدِ... ولمـّا تمّت ثمانيةُ أيّام جاؤوا ليَختنوا الصبّي وسُمّي اليسوع... (١)

ولنَتساءل كاتب الإنجيل: هل كانت هناك ضرورة تدعو إلى تكلّمِ يحيى في اليوم الثامن من ولادته؟ (مع العلم أنّ المعجزات خوارق للعادات لا تظهر على يدِ أولياء اللّه إلاّ حينما تدعو الضرورة إليه!).

والصحيح أنّه من سهوِ الكاتب إنْ لم يكن هناك عَمْدٌ.

* * *

هذا، وليس في القرآن تصريحٌ بأنّ المسيح تكلَّمَ في المـَهد حال رضَاعِه وقبل أوان الكلام؛ ذلك أنّ اللّه امتنّ على المسيح إذ أيّده بروح القُُدُس، ومنحَ له عقلاً وافراً يكلّمُ الناس - بكلامٍ معقولٍ - مُنذ طفولتِه فإلى أوان كهولته، فكان(عليه السلام) مُنذ صِغَره زكيّاً بارعاً وافرَ العقل، ينطقُ كما ينطق الرجل الخبير، وسنذكر مُحاجّتَه مع العلماء في أروشليم مُذ بلغَ من العُمر اثنتي عشرة سنة، بحيث أعجبَ الجميعَ كلامُهُ، فخافت مريمُ عليه وعنّفتْه على ذلك (٢) .

وهذا هو الظاهر من قوله تعالى: ( إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ) (٣) .

أخرج الطبري بإسناده إلى سعيد بن جبير عن قُتادة قال: يكلّمُهم صغيراً وكبيراً، وهكذا أخرج بإسناده إلى الربيع بن أنس، وعن ابن جُريج قال: كلّمهم صغيراً وكبيراً وكهلاً... (٤)

وهذا كقولهم: (اطلبوا العلمـَ مِن المـَهد إلى اللَحد) أي مُنذ الصِغَر فإلى نهاية الكِبَر، والمـَهد كناية عن حالة الصبّي في نُعومة أظفاره ورخاوة هندامه، فيضطجع فيما مُهِّد له من مضجعٍ ناعم فارهٍ.

____________________

(١) إنجيل لوقا، إصحاح، ١ و٢.

(٢) قصص الأنبياء للنجّار، ص٣٨٧، وسنذكر الحديث بتفصيله.

(٣) المائدة ٥: ١١٠.

(٤) جامع البيان، ج٣، ص١٨٨.

٩٠

مريم تعودُ بابنها وقد جاوزَ سنَّ الرضَاعة

على أنّ مريم لمـّا جاءت بالمسيح كان قد تجاوزَ دَورَ الرضَاعة الأُولى بعد مدّة طويلة مِن ولادتِهِ.

جاء في إنجيل متّى: ولمـّا وُلِد يسوع في بيت لحم في أيام هيروديس المـَلِك، جاءت جماعة من المجوس ليقدّسوه وعَلم المـَلِك بذلك، واستفسر من الكَهَنة عن مولدهِ فأنبأوهُ بمكانِ ولادتِه وكان قد همَّ بقتلِه، وقال للمجوس إذا عِرفتُموه فأخبروني لكي اُقدّسَهُ معكم.

أمّا المجوس فوجدوه في بيت لحم مع أُمّهِ مريم، فخرّوا وسجدوا له وقدّموا هداياهم، ورَجعوا مُنصرفينَ على غير طريق المـَلِك.

وبعد ما انصرفوا إذا مَلائكة الرّبِّ قد ظهروا ليوسف - خطيب مريم - في حُلُمٍ وأمروه أنْ يهربَ بالصبيّ إلى مكان بعيد لا يعرفونه؛ خوفاً على الصبيّ من السلطان، فلمـّا مات المـَلِك أُلهِم يوسف بأنْ يرجع مع الصبيّ إلى أرضِ إسرائيل، وقد كان (أرخيلاوس) مَلِك اليهود، فخاف يوسف وعرَّج على نواحي الجليل وسكن في مدينة يقال لها ناصرة (١) .

وفي أنجيل برنابا نفس العبارة مع شيء مِن التوضيح:

(ولمـّا مات هيروديس ظهر مَلاك الربِّ في حُلُمٍ ليوسف قائلاً: عُد إلى اليهوديّة؛ لأنّه قد مات الذين كانوا يريدون قتل الصبّي، فأخذ يوسف الطفل ومريم - وكان الطفل بالغاً سبع سنين من العمر - وجاء إلى اليهوديّة، حيثُ سَمِع أنّ أرخيلاوس بن هيروديس صار حاكماً فيها، فذهب إلى الجليل لأنّه خاف البقاء في اليهوديّة (أورشليم) فذهبوا ليسكنوا في الناصرة.

وهكذا يبدو من ظاهر تعبير القرآن: قال تعالى: ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً . .....

قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً...

____________________

(١) إنجيل متّى، إصحاح ١ و٢.

٩١

فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً...

فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ... ) (١) .

يبدو من هذه الآيات أنّ مريم اختارت لعبادتها أرضاً غير آهِلةٍ بعيدةً عن مساكن أهلها؛ لتختلي بعبادةِ ربِّها دونَ أعين الناظرين، وفي هذا الدور جاءها مَلاك الربّ ليُبشّرها بالمسيح، ولمـّا حملتْ به أخذت تَبتعدُ أكثر خوفَ الفضيحة، وكان هناك (في المكان القصّي) نخل ومعينُ ماء، فوضعتْ حَملَها هناك بعيداً عن الناس كافّة، وأمرها المـَلاك أنْ لا تتكلّم مع أحدٍ يمرُّ عليها أو تمرّ عليه؛ بحجّة أنّها صائمة صومَ صمتٍ، فكانت مختليةً بنفسها وولَدِها، يعيشان في هدوء وفراغة بالٍ بعيداً عن هرج العامّة. ( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ) (٢) .

وكم عاشا هناك في خَلأ من الناس؟

يبدو أنها لم تَعِش هناك سِوى سنتين أو ثلاث؛ لأنّها حين رجعت إلى قومها كانت تَحمل طفلَها، ولابدَّ أنّ الطفل عندما يبلغ مثلَ هذا السنّ قادر على التكلّم، وليس ذلك بغريب، أمّا قولهم: فلعلّه من جهة أنّهم استغربوا أنّها جاءت بولدٍ وهي غير متزوّجة، فلابدّ أنّها هي المجيبة على ذلك، وليس الطفل - الذي هو نِتاج الحَمل - بِمسؤولٍ ولا قادرٍ على حلّ الإشكال. فالطفل غير عارف بسبب هذا الإنتاج، فلا معنى للسؤال منه!

لكنّهم عندما واجهوا كلام المسيح في رَزانة وتعقّل متين عرفوا أنّ ذلك آية من آيات اللّه، فلا موضع للاستغراب!

____________________

(١) مريم ١٩: ١٦ - ٣٠.

(٢) المؤمنون ٢٣: ٥٠.

٩٢

هذا ولم يتكلّمْ من أصحابِ الأناجيل عن الحَمل بالمسيح وولادته شيئاً يُذكر سِوى ما جاء - باختصارٍ وإجمالٍ - في متّى (١ ص١: ١٨) ولوقا (١ ص١: ٢٧ - ٣٢).

عيسى يحاجّ العلماء في سنٍّ مبكّرٍ

جاء في إنجيل برنابا (١ ص٢: ١ - ١٥): (ولمـّا مات هيروديس ظهر مَلاك الربِّ في حُلُم ليوسف قائلاً: عُد إلى اليهوديّة (أورشليم)؛ لأنّه مات الذين كانوا يريدون موت الصبيّ، فأخذ يوسف الطفل ومريم - وكان الطفل بالغاً سبع سنين من العمر - وجاء إلى اليهوديّة، حيث سمع أنّ أرخيلاوس بن هيروديس كان حاكماً في اليهوديّة، فذهب إلى الجليل؛ لأنّه خاف أن يبقى في اليهوديّة، فذهبوا ليسكنوا في الناصرة. فنما الصبيّ في النعمة والحِكمة أمام اللّه والناس.

ولمـّا بلغ يسوع اثنتي عشرة سنة من العمر صعد مع مريم ويوسف إلى أورشليم؛ ليسجد هناك حسب شريعة الربّ المكتوبة في كتاب موسى، ولمـّا تمّت صلواته انصرفوا بعد أن فقدوا يسوع؛ لأنّهم ظنّوا أنّه عاد إلى الوطن مع أقربائهم ولذلك عادت مريم ويوسف إلى أورشليم ينشدان يسوع بين الأقرباء والجيران.

وفي اليوم الثالث وجدوا الصبيَّ في الهيكل وسطَ العلماء يحاجّهم في أمر الناموس، وأُعجبَ كلّ أحدٍ بأسئلته وأجوبته، قائلاً: كيف أُوتي مثل هذا العلم وهو حَدث ولم يتعلّم القراءة؟ فعنّفته مريم قائلةً: يا بنيّ ماذا فعلت بنا، فقد نشدتُك وأبوك ثلاثة أيّام ونحن حزينان، فأجاب يسوع: أَلا تعلمين أنّ خدمة اللّه يجب أنْ تُقدّم على الأب والأُمّ، ثمّ نزل يسوع مع أُمّه ويوسف إلى الناصرة، وكان مطيعاً لهما بتواضع واحترام... (١)

ولعلّ هذا هو المراد بتكلّمه مع الناس صغيراً وكبيراً ( في المهد وكهلاً ) ... واللّه العالم.

الكُهولة هو تخطّي الثلاثين

قال الراغب: الكَهْلَ مَن وَخَطه الشيبُ، (٢) أي خالطَ سوادَ شَعَره، وهو الذي تخطّى الشبابَ وحانتْ مشيبتُه.

____________________

(١) قصص الأنبياء للنجار، ص٣٨٦ - ٣٨٧.

(٢) المفردات للراغب الإصبهاني، مادة (كَهَل).

٩٣

والمعروف أنّ المسيح (عليه السلام) أُرسِل إلى الناس عندما بلغ ثلاثين سنة، ورُفع إلى السماء بعد ثلاث سنين (١) .

لكنْ الشباب قبل بلوغ ثلاثين عاماً، وعنده يأتي دور الكُهُولة حتّى نهاية الأربعين.

قال الجوهري - في الصحاح -: الكَهْل من الرجال الذي جاوزَ الثلاثين ووَخَطه الشيب، وقال ابن الأثير - في النهاية -: الكَهْل من الرجال مَن زاد على ثلاثين سنة إلى أربعين، فما بين الثلاثين والأربعين هي سنّ الكهولة.

ويبدو من كلام أهل اللغة أنّ الكُهُولة هي السنّ التي تجتمع فيها القِوى، ويكون المـَرء في أجمع قواه ما بين سنّ الثلاثين فإلى أربعين.

قال ابن فارس: الكاف والهاء واللام أصل يدلّ على قوّة في الشيء أو اجتماع جبلّةٍ، من ذلك الكاهل: ما بين الكتفَين، سُمّي بذلك لقوّته، ويقولون للرجل المـُجتمِع إذا وَخَطه الشيب: كَهْلٌ وامرأة كَهْلةٌ (٢) ، قال أبو منصور الثعالبي: يقال للرجل إذا اجتمعت لحيتُه وبلغ غايةَ شبابِهِ: مجتمِع (٣) .

التبشير بِمَقدم رسول الإسلام مُحمّد (صلّى الله عليه وآله)

( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) (٤) .

أنكروا وجود هذه البِشارة في بشائر المسيح (عليه السلام)؛ بحجّةِ خلوّ الأناجيل عنها!!

لكن البِشارة موجودة، والقوم حرّفوها في التراجم تحريفاً.

جاء التبشير بِمَقدم سيّدنا مُحمّد (صلّى الله عليه وآله) في وصايا المسيح (عليه السلام) للحواريّين والذين اتّبعوه بلفظةٍ تدلّ على وصف المـُبَشّر به بأنّه (كثير المـَحمَدَة) المـُنطَبِقة مع لفظةِ (أحمد) وهو أفعل التفضيل من الحَمد.

____________________

(١) تفسير آلاء الرحمان للبلاغي، ج ١، ص ٢٨٤.

(٢) معجم مقاييس اللغة لابن فارس، ج ٥، ص ١٤٤.

(٣) فقه اللغة وسِرّ العربية للثعالبي، ص ١١١.

(٤) الصفّ ٦١: ٦.

٩٤

وكانت لغةُ المسيح التي بَشّر بها هي العِبرانيّة، وهي لغةُ إنجيل يوحنّا الذي جاء فيه هذا التبشير، لكنّها تُرجِمت إلى اليونانيّة ولم يُعرف المـُترجم ولا سبب التَرجمة إليها... وضاع الأصل ولم يَعد له وجود حتّى الآن.

والتَراجم الموجودة حاليّاً هي تراجم عن النُسَخ اليونانيّة.. والبِشارة في اليونانيّة كانت بلفظة (بير كلوطوس) ومعناها: (الذي له حمدٌ كثير).

لكن القوم حرّفوا اللفظة إلى (باراكلي طوس) لتُتَرجم إلى المـُبشَّر أو المـُسلَّى أو المـُعزَّى (١) وجاء تعريبُها (فار قليطا) كما هو معروف.

* * *

يقول الأستاذ النجّار: كنتُ في سَنة ١٨٩٣ - ١٨٩٤ ميلاديّة طالباً بدار العُلوم في السَنة الأُولى، وكان يجلس بجانبي - في درس اللغة العربيّة - العلاّمة الكبير الدكتور (كارلونلينو) المـُستَشرق التلياني، وكان يحضر درس اللغة العربيّة بتوصيةٍ من الحُكومة الإيتاليّة.

فانعقدت أواصر الصُحبة المتينة بيني وبينه، وكان المرحوم (أحمد بك نجيب) يُعطي محاضراتٍ في الانفتياتر والعمومي، وكنّا نَحضَرُها ونُعطي مَلازِمَ من كتابهِ (الأثر الجليل في قدماء وادي النيل)، ففي ليلةِ السابع والعشرين من شهر رجب سنة ١٣١١ خرجنا بعد المحاظرة وسُرنا في (درب الجماميز)، فقال لي الدكتور (نلينو): هذه الليلة ليلة المِعراج؟ قلت: نعم. فقال: وبعد ثلاثة أيام عيد السيّدة زينب؟ فقلت: نعم...

ثم قلت له - وأنا أعلم أنّه حاصل على شهادة الدكتوراه في آداب اليهود اليونانيّة القديمة -: ما معنى (بيريكلتوس)؟ فأجابني بقوله: إنّ القَسَسَ يقولون: إنّ هذه الكلمة معناها (المـُعَزّى). فقلت: إنّي أسأل الدكتور (كارلونينو) الحاصل على الدكتوراه في آداب اللغة اليونانيّة القديمة ولستُ أسأل قسّيساً! فقال: إنّ معناها: (الذي له حمدٌ كثير)، فقلت:

____________________

(١) جاء في إنجيل يوحنّا، إصحاح ١٥ / ٢٦ و ٢٧: ومتّى جاء المـُعَزّى الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحقّ الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضاً؛ لأنّكم معي من الابتداء.

وفي إصحاح، ١٦ / ٧: لكنّي أقول لكم الحقّ، إنّه خير لكم أنْ أنطلق؛ لأنّه إن لم انطلق لا يأتيكم المعزّى، ولكن إنْ ذهبت أرسله إليكم.

وفي النسخة الفارسيّة جاءت عبارة)تسلّى دهنده): أي المـُسلّي.

٩٥

هل ذلك يُوافق أفعل التفضيل مِن حَمَدَ؟ فقال: نعم! فقلت: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من أسمائه (أحمد)، فقال: يا أخي أنت تحفظُ كثيراً... وقد ازددت بذلك تثبّتاً في معنى قولهِ تعالى حكايةً عن المسيح: ( وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) (١) .

وقال الحجّة البلاغي: الكلمة في الأصل اليوناني (بير كلوطوس) الذي تعريبه (فيرقلوط) بمعنى (كثير المـَحمَدَة) الموافق لاسم (أحمد) و (مُحمّد)، لكنّهم صححّوه - حَسَبَ زعمهم - إلى (بيراكلي طوس) ويعبّرون عنه بـ (فارقليط) كما عن التَراجم المطبوعة بلندن سنة (١٨٢١ و ١٨٣١ و ١٨٤١م) ومطبوعةِ وليم بلندن (١٨٥٧م) على النُسخة الروميّة المطبوعة سنة (١٦٦٤م)، والتَرجمة العبريّة المطبوعة سنة (١٩٠١م)، لكن أبدلهُ بعض المترجمين إلى لفظة (المـُعَزّى) أو (المـُسلَّى) وشاع ذلك (٢) .

* * *

وذكر مُحمّد بن إسحاق المؤرِّخ الإسلامي المعروف صاحب السيرة النبويّة المتوفّى سنة (١٥١هـ) نقلاً عن إنجيل يوحنّا أنّ كلمة البِشارة كانت بالسريانيّة (المـُنْحَمَنّاً)، وهي بالروميّة (البَرَقليطس)، (٣) يعني: مُحمّداً (صلّى الله عليه وآله).

قال: وقد كان فيما بلغني عمّا كان وَضْعُ عيسى بن مريم فيما جاءه من الله في الإنجيل لأهلِ الإنجيل من صفةِ رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ممّا أثبت لهم (يُحنّس) الحواري (٤) لهم حين نُسِخ لهم الإنجيل عن عهد (٥) عيسى بن مريم (عليه السلام) في رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: (من أبغضني فقد أبغض الربَّ، ولولا أنّي صنعتُ بحضرتهم صنائعَ لم يصنعْها أحد قبلي ما كانت لهم خطيئة، ولكن من الآن بَطِروا وظنّوا أنّهم يُعزّونَني، (٦) وأيضاً للربّ، ولكن لابدَّ مِن أنْ تتمَّ الكلمة التي في الناموس: أنّهم أبغضونني مجّاناً (٧) أي باطلاً، لو

____________________

(١) هامش قصص الأنبياء للنجّار، ص ٣٩٧ - ٣٩٨، والآية ٦ من سورة الصفّ.

(٢) راجع: الرحلة المدرسيّة للبلاغي، ج ٢، ص ٣٣.

(٣) ولعلّه يقصد بالروميّة اليونانيّة، حيث اتصال العرب باليونان يومذاك كان عن طريق الروم الشرقيّة.

(٤) ولعلّه محرّف (يوحنّى)؛ حيث البِشارة بذلك موجودة في إنجيل يوحنّا، إصحاح ١٥ / ٢٦.

(٥) ظاهر العبارة أنّ هذا الإنجيل كُتب متأخّراً عن عهد المسيح (عليه السلام) وهو كذلك؛ لأنّ الأساقفة اجتمعوا عند يوحنّا سنة ٩٦ وقيل: ٦٥، والتمسوا منه أنْ يكتب لهم عن المسيح وينادي بإنجيل ممّا لم يكتبه أصحاب الأناجيل الأُخر (راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص ٤٠١).

(٦) أي يغلبونَني.

(٧) وجاءت عينُ العبارة في إنجيل يوحنّا، إصحاح ١٥ / ٢٣ - ٢٥ هكذا: (الذي يَبغضُني يَبغض أبي أيضاً. لو لم أكنْ قد

٩٦

قد جاء (المـُنْحمنّا) هذا الذي يُرسلُه الله إليكم من عند الربّ روح القُدُس، وهذا الذي مِن عند الربّ خرج، فهو شهيد عليَّ وأنتم أيضاً؛ لأنّكم قديماً كنتم معي، في هذا قلت لكم لكيما لا تشكّوا (١) .

وهذه العبارة الأخيرة أيضاً جاءت في إنجيل يوحنّا، هكذا: ومتّى جاء (المـُعَزّى) الذي سأرسلُه أنا إليكم من الأب روح الذي من عند الأب ينبثق، فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضاً؛ لأنّكم معي في الابتداء (٢) .

قال ابن إسحاق: والمـُنحمنّا بالسريانيّة: مُحمّد، وهو بالروميّة: البرقليطس (صلّى الله عليه وآله).

انظر إلى هذه التطابق مع إنجيل يوحنّا قبل اثني عشر قرناً، وكيف حصل التحريف في لفظهِ إلى (المـُعَزّى) وغيره.

قِصّة الصّلب

جاءت قصّةُ صَلبِ المسيح (عليه السلام) والأسباب التي دعت إلى صَلبه في الأناجيل مختلفةً أشدّ الاختلاف، فلا تكاد جزئية من الجزئيّات في أحدها تتحدّ مع الجزئيّة نفسها في إنجيل آخر.

ولمـّا كانت هذه الأناجيل من تأليف أُناس يدّعي المسيحيّون لهم الإلهام ويعتقدون خلوّها من الخطأ، كان ينبغي أنْ تكون كُتُبهم في مثل هذه الحادثة المهمّة - التي هي مناط النجاة ومدعاة الإيمان في نظرهم - متطابقةً متوافقةً، بحيث لا يكون فيها اختلاف أصلاً؛ إذ النفس لا تطمئنّ إلى الأخذ بروايات جاءت بشأن قضيّةٍ واحدةٍ إذا اختلفت وتضارب بعضها مع البعض، الأمر الذي يُنبئ عن عدم أمانة الراوي كلَّ الأمانة، وتزول الثقة بروايتهِ، فلم يجز التصديق بها في نظر الاعتبار.

____________________

عملتُ بينهم أعمالاً لم يعملْها أحد غيري لم تكن لهم خطيئة، وأمّا الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي، لكن لكي تتمّ الكلمة المكتوبة في ناموسهم: إنّهم أبغضوني بلا سبب...).

(١) راجع: سيرة ابن هشام، ج ١، ص ٢٤٨؛ والروض الأنف، ج ١، ص ٢٦٤.

(٢) إصحاح ١٥ / ٢٦ - ٢٧.

٩٧

وقد فصّل الكلام الأستاذ النجّار عن هذا الاختلاف الفاحش، وأبانَ مواضعَ التناقضِ والتهافتِ بين الأناجيل بشأن قصّةِ الصَلبِ، قال: لم تختلف الأناجيل الأربعة في مسألةٍ من المسائل كاختلافها في تفصيلِ مسألةِ صَلب المسيح وقتلهِ (١) .

قال: إنّ أدنى نظر يَهدي إلى أنّ عبارات هذه الأناجيل الأربعة متخالفة، وشهادتها لا تصلح أنْ تكون مُستنداً يَثبت به أمرٌ له مِن الأهميّة مثل ما لمسألةِ صَلبِ المسيح التي يدّعيها المسيحيّون ويجعلونها أساسَ إيمانهم:

١ - إنّ (متّى) يقول: إنّ يسوع جاء مع تلاميذه إلى قرية (جثيماني). ووافقه (مرقس)، وخالفهما (لوقا) وقال: إلى جبل الزيتون. وقال (يوحنّا): عِبر وادي (قدرون).

٢ - وقال (متّى): ثُمّ أخذ معه (بطرس) وابني (زبدى) وابتدأ يَحزن ويَكتئب، ووافقه (مرقس)، وخالف (لوقا) في ذلك وذكر أنّه انفصل عنهم رمية حجرٍ وصار يُصلّي، وأسقط (يوحنا) هذه العبارة.

٣ - ذكر (متّى) أنّه قال لمن معه: (نفسي حزينة حتّى الموت، امكثوا هاهنا واسهروا معي) ثُمّ راجعهم فوجدهم نياماً وهكذا للمرّة الثانية والثالثة فأنبأهم للمرّة الثالثة أنّ (ابن الإنسان) - يعني نفسه - سُلِّم إلى أيدي خُطاة، ثُمّ قال: قوموا نتطلّق هوذا الذي يُسلمني قد اقترب. وعبارة (مرقس) توافق عبارة (متّى) في المعنى.

وأمّا (لوقا) فزاد: أنّ مَلَكاً من السماء نزل إلى المسيح يُقويه، وأنّه كان يصلّي بأشدِّ لجَاجةٍ وصار عرقُهُ كقطراتِ دمٍ، وأسقط مجيئَه إلى التلاميذ للمرّة الثالثة.

وأمّا (يوحنا) فقد أسقط ذلك كلّه ولم يَذكر شيئاً منه، وهو أحد الثلاثة الذين انفرد بهم يسوع عن سائر التلاميذ، وهو دليل على عدم حصول شيء من ذلك.

٤ - قال (متّى): وفيما هو يتكلّم إذا يهوذا أحد الإثني عشر قد جاء ومعه جمعٌ كثير بسيوف وعصيٍّ من عند رؤساء الكَهَنة وشيوخهم وشيوخ الشعب، والذي سلّمه أعطاهم علامةً قائلاً: هو هو امسكوه، فلِلوقتِ تقدّمٌ إلى يسوع وقال: السلام عليك يا سيّدي وقبّله،

____________________

(١) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص ٤٣٣ - ٤٥٢.

٩٨

فقال يسوع: يا صاحب لماذا جئت؟ حينئذٍ تَقدّموا وألقوا الأيادي على يسوع وأمسكوه.

وافق (مرقس) (متّى) في المعنى، وقال (لوقا): إنّ المسيح قال: يا يهوذا أبِقُبلةٍ تُسلم ابن الإنسان؟! بدل قوله (يا صاحب لماذا جئت). وزاد: إنّ المسيح خرج إليهم وقال: مَن تطلبون؟ قالوا: يسوع الناصري، فقال لهم: أنا هو، فرجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض. ثم أعاد سؤاله وأعادوا الجواب، ثم قال: فإن كنتم تَطلبونَني فَدَعُوا هؤلاءِ يذهبون.

٥ - ذكر (متّى) أنّهم قبضوا على يسوع، ثُمّ أنّ بطرس استلّ سيفه وضرب عبدَ رئيس الكَهَنة فقطع أُذُنَه، حينئذٍ تركه التلاميذ كلّهم وهربوا، أمّا (مرقس) فلمْ يَذكر هربَ التلاميذ، وأمّا (لوقا) فانفرد عن الجميع بأنّ المسيح لَمَسَ أُذُنَ العبد وأبرأها.

٦ - يقول (متّى): إنّ الذين أمسكوا يسوع مضوا به إلى (قيافا) رئيس الكَهَنة. وأمّا (يوحنّا) فقال: إنّهم أوثقوه وذهبوا إلى (حنّان) حما (قيافا).

٧ - ذكر (متّى) أنّ رؤساء الكَهَنة والشيوخ والجمع كلّه كانوا يَطلبون شهادةَ زُورٍ على يسوع فلمْ يجدوا، ومع أنّه جاء شهودُ زُورٍ كثيرون لم يجدوا.

قال الأُستاذ النجّار: انظروا إلى هذا الكلام الغَلق المتناقض كلَّ التناقض، إذا كانوا طلبوا شهود زُورٍ فلم يجدوا فيكف يقول بعد ذلك: (ومع أنّه جاء شهود زُورٍ كثيرون لم يجدوا)؟!

٨ - المفهوم صراحةً من عبارة (متّى) و (مرقس) أنّ المـُحاكمة كانت ليلاً عَقِب القبض على المسيح ووصوله إلى دار رئيس الكَهَنة، ولكن (لوقا) و (يوحنّا) جعلا المـُحاكمة صباحاً.

٩ - قال (يوحنّا): وكانت واقفات عند صلب المسيح أمّه وأخت أمّه وكلّم المسيح مع أنّه، وقد انفرد (يوحنّا) يذكر هذه العبارة. وأمّا (لوقا) فلم يذكر قرب أحد من معارفه إليه ولم يشر إليهم بكلمة ولم يَذكر (مرقس) أحداً من معارفه نظر حادثة الصَلب من قريب.

٩٩

١٠ - ذكر (متّى) أنّ حجاب الهيكل قد انشقّ إلى نصفين اثنين من فوقٍ إلى أسفلٍ حين أسلم المسيحُ الروحَ، والأرض تزلزلت والصخور تشقّقت والقبور تفتّحت، وقام كثيرٌ من أجساد القدّيسين الأموات، وأمّا (مرقس) فقد أهملَ هذا القول كلّه ولم يذكر منه شيئاً، وقال (لوقا): واظلمت الشمس وانشقّ حجاب الهيكل، ولم يَذكر زلزلةَ الأرض ولا غير ذلك ممّا ذكره (متّى).

وعدّد الأستاذ النجّار أكثرَ من ثلاثينَ موضعاً خالفتْ فيها الأناجيل، وعقّبها بقوله: أراني قد مَلَلتُ جدّاً من إيرادِ الأقوال المتخالفة بهذا الشأن، وأظنّ أنّ القارئ قد سَئِم كما سَئِمتُ، ولو ذهبتُ في هذا الشوط اُعدّد هذا التضادّ بين الأناجيل لأضعت وقتاً ثميناً.

قال: وبعد ذلك فهل يظنّ ظانّ أنّ مُحمّداً (صلّى اللّه عليه وآله) هو الذي ابتدع مسألة نفي صَلب المسيح؟ (١)

وإذا نظرنا إلى مسألة صَلب المسيح وقتلَه لم نجدْها عند المسيحيّين إجماعيّة، بل وُجِد مِن طوائف المسيحييّن مَن ينفي الصَلب والقتل. منهم: (الساطرينوسيون) و(الكاربو كراتيون) و(المركيونيّون) و(البارديسيانيون) و(التاتيانسيون) و(البارسكاليونون) و(البوليسيون)... وهؤلاءِ مع كثيرينَ غيرهم لم يُسلِّموا بوجهٍ من الوجوه: أنّ المسيح سُمِّر فعلاً ومات على الصَليب.

وما ذكرنا هنا مقرّر في تأريخهم الذي يُدرَّس في مدارس اللاهوت الإنجيليّة باسم (موسى هيم). وهناك شهادات من علماء النصرانيّة تفيد المطّلع بصيرةً:

١ - قال الميسو (ارادوار سيوس) الشهير - أحد أعضاء (الانسيتودي فرانسي) في باريس والمشهور بمعارضة المسلمين - في كتابه (عقيدة المسلمين في بعض مسائل النصرانيّة، ص٤٩): إنّ القرآن ينفي قتلَ عيسى وصَلبَه، ويقول بأنّه شبّهه على غيره فغَلطَ اليهودُ فيه وظنّوا أنّهم قتلوه، قال: وما قاله القرآن موجودٌ عند طوائفٍ من المسيحيّين، منهم (الباسيليديون) كانوا يعتقدون أنّ عيسى وهو ذاهب لمحلّ الصلب ألقى الشبه على

____________________

(١) بل لم يكن له غاية من هذا النفي، ولعلّ إثباته أنفع له؛ حيث اليهود الّذين واجههم كانوا يَقتلون الأنبياء بغير حقٍّ. فكانت حادثةُ صَلب المسيح على أيديهم أدلَّ شيء على هذا المدّعى، الأمر الذي يدلّ على أنّ مُحمّداً (صلّى اللّه عليه وآله) كان على وضعِ بيان الحقيقة لا غير.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١) )

التّفسير

بما ذا رموا موسىعليه‌السلام واتّهموه؟

بعد البحوث التي مرّت في الآيات السابقة حول وجوب احترام مقام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وترك كلّ ما يؤذيه والابتعاد عنه ، فقد وجّهت هذه الآيات الخطاب للمؤمنين ، وقالت :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً ) .

إنّ إختيار موسىعليه‌السلام من جميع الأنبياء الذين طالما أوذوا ، بسبب أنّ المؤذين من بني إسرائيل قد آذوه أكثر من أي نبي آخر ، إضافة إلى أنّ بعض أنواع الأذى التي رآها كانت تشبه أذى المنافقين لنبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهناك بحث بين المفسّرين في المراد من إيذاء موسىعليه‌السلام هنا؟ ولماذا ذكره

٣٦١

القرآن بشكل مبهم؟ وقد ذكروا احتمالات عديدة في تفسير الآية ، ومن جملتها :

١ ـ إنّ موسى وهارونعليهما‌السلام قد ذهبا إلى جبل ـ طبق رواية ـ وودّع هارون الحياة ، فأشاع المرجفون من بني إسرائيل أنّ موسىعليه‌السلام قد تسبّب في موته ، فأبان الله سبحانه حقيقة الأمر ، وأسقط ما في يد المرجفين.

٢ ـ كما أوردنا مفصّلا في ذيل الآيات الأخيرة من سورة القصص ، فإنّ قارون المحتال أراد أن يتملّص من قانون الزكاة ، ولا يؤدّي حقوق الضعفاء والفقراء ، فعمد إلى بغيّ واتّفق معها على أن تقوم بين الناس وتتّهم موسىعليه‌السلام بأنّه زنى بها ، إلّا أنّ هذه الخطّة قد فشلت بلطف الله سبحانه ، بل وشهدت تلك المرأة بطهارة موسىعليه‌السلام وعفته ، وبما أراده منها قارون.

٣ ـ إنّ جماعة من الأعداء اتّهموا موسىعليه‌السلام بالسحر والجنون والافتراء على الله ، ولكن الله تعالى برّأه منها بالمعجزات الباهرات.

٤ ـ إنّ جماعة من جهّال بني إسرائيل قد اتّهموه بأنّ فيه بعض العيوب الجسمية كالبرص وغيره ، لأنّه كان إذا أراد أن يغتسل ويستحمّ لا يتعرّى أمام أحد مطلقا ، فأراد أن يغتسل يوما بمنأى عن الناس ، فوضع ثيابه على حجر هناك ، فتدحرج الحجر بثيابه ، فرأى بنو إسرائيل جسمه ، فوجدوه مبرّأ من العيوب.

٥ ـ كان المعذرون من بني إسرائيل أحد عوامل إيذاء موسىعليه‌السلام ، فقد كانوا يطلبون تارة أن يريهم اللهعزوجل «جهرة» ، واخرى يقولون : إنّ نوعا واحدا من الطعام ـ وهو «المنّ والسلوى» ـ لا يناسبنا ، وثالثة يقولون : إنّنا غير مستعدّين للدخول إلى بيت المقدس ومحاربة «العمالقة». اذهب أنت وربّك فقاتلا ، وافتحاه لنا لندخله بعد ذلك!

الّا أنّ الأقرب لمعنى الآية ، هو أنّها بصدد بيان حكم كلّي عام جامع ، لأنّ بني إسرائيل قد آذوا موسىعليه‌السلام من جوانب متعدّدة ذلك الأذى الذي لم يكن يختلف عن أذى بعض أهل المدينة (لنبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله ) كإشاعة بعض الأكاذيب واتّهام زوج النّبي

٣٦٢

بتهم باطلة ، وقد مرّ تفصيلها في تفسير سورة النور ـ ذيل الآيات ١١ ـ ٢٠ ـ والاعتراضات التي اعترضوا بها على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في زواجه بزينب ، وأنواع الأذى والمضايقات التي كانوا يضايقونه بها في بيته ، أو مناداته بأسلوب خال من الأدب والأخلاق ، وغير ذلك.

وأمّا الاتّهام بالسحر والجنون وأمثال ذلك ، أو العيوب البدنية ، فإنّها وإن اتّهم موسى بها ، إلّا أنّها لا تتناسب مع( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) بالنسبة لنبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ لم يتّهم المؤمنون موسىعليه‌السلام ولا نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله بالسحر والجنون. وكذلك الاتّهام بالعيوب البدنية ، فإنّه على فرض كونه قد حدث بالنسبة لموسىعليه‌السلام ، وأنّ الله تعالى قد برّأه ، فليس له مصداق أو حادثة تؤيّده في تاريخ نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وعلى أيّة حال ، فيمكن أن يستفاد من هذه الآية أنّ من كان عند الله وجيها وذا منزلة ، فإنّ الله سبحانه يدافع عنه في مقابل من يؤذيه ويتّهمه بالأباطيل ، فكن طاهرا وعفيفا ، واحفظ وجاهتك عند الله ، فإنّه تعالى سيظهر عفّتك وطهارتك للناس ، حتّى وإن سعى الأشقياء والمسيؤون إلى اتّهامك وتحطيم منزلتك وتشويه سمعتك بين الناس.

وقد قرأنا نظير هذا المعنى في قصّة «يوسف» الصدّيق الطاهر ، وكيف برّأه الله سبحانه من تهمة امرأة عزيز مصر الكبيرة والخطيرة.

وكذلك في شأن «مريم» بنت عمران أمّ عيسىعليه‌السلام ، حيث شهد وليدها الرضيع بطهارتها وعفّتها ، وقطع بذلك ألسن المتربّصين بها من بني إسرائيل ، والذين كانوا يسعون لاتّهامها وتلويث سمعتها.

والجدير بالذكر أنّ هذا الخطاب لم يكن مختّصا بالمؤمنين في زمان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل من الممكن أن تشمل الآية حتّى أولئك الذين سيولدون بعده ويقومون بعمل يؤذون روحه الطاهرة به ، فيحتقرون دينه ويستصغرون شأنه ، وينسون مواريثه ، ولذلك

جاء في بعض الرّوايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام : «يا أيّها الذين آمنوا لا

٣٦٣

تؤذوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في علي والأئمّة صلوات الله عليهم ...»(١) .

وآخر كلام في تفسير هذه الآية هو : أنّه بعد ملاحظة أحوال الأنبياء العظام الذين لم يكونوا بمأمن من جراحات ألسن الجاهلين والمنافقين ، يجب أن لا نتوقّع أن لا يبتلى المؤمنون والطاهرون بمثل هؤلاء الأفراد ، فإنّ الإمام الصادقعليه‌السلام يقول : «إنّ رضى الناس لا يملك وألسنتهم لا تضبط ..» ثمّ يضيف الإمام في نهاية هذا الحديث : «ألم ينسبوا إلى موسى أنّه عنين وآذوه حتّى برّأه الله ممّا قالوا ، وكان عند الله وجيها»(٢) .

قولوا الحقّ لتصلح أعمالكم :

بعد البحوث السابقة حول ناشري الإشاعات والذين يؤذون النّبي ، تصدر الآية التالية أمرا هو في الحقيقة علاج لهذا المرض الاجتماعي الخطير ، فتقول :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) .

«القول السديد» من مادّة (سد) أي المحكم المنيع الذي لا يعتريه الخلل ، والموافق للحقّ والواقع ، ويعني القول الذي يقف كالسدّ المنيع أمام أمواج الفساد والباطل. وإذا ما فسّره بعض المفسّرين بالصواب ، والبعض الآخر بكونه خالصا من الكذب واللغو وخاليا منه ، أو تساوي الظاهر والباطن ووحدتهما ، أو الصلاح والرشاد ، وأمثال ذلك ، فإنّها في الواقع تفاسير ترجع إلى المعنى الجامع أعلاه.

ثمّ تبيّن الآية التالية نتيجة القول السديد ، فتقول :( يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) .

إنّ التقوى في الواقع هي دعامة إصلاح اللسان وأساسه ، ومنبع قول الحقّ ، والقول الحقّ أحد العوامل المؤثّرة في إصلاح الأعمال ، وإصلاح الأعمال سبب

__________________

(١) نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، ص ٣٠٨.

(٢) نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، ص ٣٠٩.

٣٦٤

مغفرة الذنوب ، وذلك لـ( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) .(١)

يقول علماء الأخلاق : إنّ اللسان أكثر أعضاء البدن بركة ، وأكثر الوسائل تأثيرا في الطاعة والهداية والصلاح ، وهو في الوقت نفسه يعدّ أخطر أعضاء البدن وأكثرها معصية وذنبا ، حتّى أنّ ما يقرب من الثلاثين كبيرة تصدر من هذا العضو الصغير(٢) .

وفي حديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يستقيم إيمان عبد حتّى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه»(٣) .

ومن الرائع جدّا ما ورد في حديث آخر عن الإمام السجّادعليه‌السلام : «إنّ لسان ابن آدم يشرف كلّ يوم على جوارحه فيقول : كيف أصبحتم؟ فيقولون : بخير إن تركتنا. ويقولون : الله الله فينا ، ويناشدونه ويقولون : إنّما نثاب بك ونعاقب بك»(٤) .

هناك روايات كثيرة في هذا الباب تحكي جميعا عن الأهميّة الفائقة للّسان ودوره في إصلاح الأخلاق وتهذيب النفوس الإنسانية ، ولذلك نقرأ في حديث : «ما جلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على هذا المنبر قطّ إلّا تلا هذه الآية :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

__________________

(١) سورة هود ، الآية ١١٤.

(٢) عد الغزالي في إحياء العلوم عشرين كبيرة أو معصية تصدر عن اللسان ، وهي : ١ ـ الكذب ٢ ـ الغيبة ٣ ـ النميمة ٤ ـ النفاق في الكلام ، أي كون الإنسان ذا لسانين ووجهين ٥ ـ المدح في غير موضعه ٦ ـ بذاءة الكلام ٧ ـ الغناء والأشعار غير المرضية ٨ ـ الإفراط في المزاح ٩ ـ السخرية والاستهزاء ١٠ ـ إفشاء أسرار الآخرين ١١ ـ الوعد الكاذب ١٢ ـ اللعن في غير موضعه ١٣ ـ التخاصم والنزاع ١٤ ـ الجدال والمراء ١٥ ـ البحث في امور الباطل ١٦ ـ الثرثرة ١٧ ـ البحث في الأمور التي لا تعني الإنسان ١٨ ـ وصف مجالس الشراب والقمار والمعصية ١٩ ـ السؤال عن المسائل الخارجة عن إدراك الإنسان والبحث فيها ٢٠ ـ التصنع والتكلف في الكلام. ونزيد عليها عشرة مواضيع مهمة اخرى ، وهي : ١ ـ الاتهام ٢ ـ شهادة الزور ٣ ـ إشاعة الفحشاء ، ونشر الإشاعات التي لا أساس لها ٤ ـ مدح الإنسان نفسه ٥ ـ الإصرار في غير محله ٦ ـ الغلظة والخشونة في الكلام ٧ ـ الأذى باللسان ٨ ـ ذم من لا يستحق الذم ٩ ـ كفران النعمة اللسان ١٠ ـ الإعلام الباطل.

(٣) بحار الأنوار ، المجلد ٧١ ، صفحة ٧٨.

(٤) بحار الأنوار ، المجلد ٧١ ، صفحة ٢٧٨.

٣٦٥

اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) (١).

ثمّ تضيف الآية في النهاية :( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً ) وأي فوز وظفر أسمى من أن تكون أعمال الإنسان صالحة ، وذنوبه مغفورة ، وهو عند الله من المبيضة وجوههم الذينرضي‌الله‌عنهم ؟!

* * *

__________________

(١) الدرّ المنثور ، طبقا لنقل تفسير الميزان ، الجزء ١٦ ، صفحة ٣٧٦.

٣٦٦

الآيتان

( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣) )

التّفسير

حمل الأمانة الإلهية أعظم افتخارات البشر :

تكمل هاتان الآيتان ـ اللتان هما آخر آيات سورة الأحزاب ـ المسائل المهمّة التي وردت في هذه السورة في مجالات الإيمان ، والعمل الصالح ، والجهاد ، والإيثار ، والعفّة والأدب والأخلاق ، وتبيّن كيف أنّ الإنسان يحتل موقعا ساميا جدّا بحيث يستطيع أن يكون حامل رسالة الله العظيمة ، وكيف أنّه إذا ما جهل قيمه الحياتية والوجودية سيظلم نفسه غاية الظلم ، وينحدر إلى أسفل سافلين!

تبيّن الآية أوّلا أعظم امتيازات الإنسان وأهمّها في كلّ عالم الخلقة ، فتقول :( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ

٣٦٧

مِنْها ) .

ممّا لا شكّ فيه أنّ إباءها تحمل المسؤولية وامتناعها عن ذلك لم يكن استكبارا منها ، كما كان ذلك من الشيطان ، حيث تقول الآية (٢٤) من سورة البقرة :( أَبى وَاسْتَكْبَرَ ) ، بل إنّ إياءها كان مقترنا بالإشفاق ، أي الخوف الممتزج بالتوجّه والخضوع.

إلّا أنّ الإنسان ، اعجوبة عالم الخلقة ، قد تقدّم( وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) .

لقد تحدّث كبار مفسّري الإسلام حول هذه الآية كثيرا ، وسعوا كثيرا من أجل الوصول إلى حقيقة معنى «الأمانة» ، وأبدوا وجهات نظر مختلفة ، نختار أفضلها بتقصّي القرائن الموجودة في طيّات الآية.

ويجب التأكيد في هذه الآية العميقة المحتوى على خمس موارد :

١ ـ ما هو المراد من الأمانة؟

٢ ـ ما معنى عرضها على السماوات والأرض والجبال؟

٣ ـ لماذا وكيف أبت هذه الموجودات حمل هذه الأمانة؟

٤ ـ كيف حمل الإنسان ثقل الأمانة هذا؟

٥ ـ لماذا وكيف كان ظلوما جهولا؟

لقد ذكرت تفاسير مختلفة للأمانة ومن جملتها :

أنّ المراد من الأمانة : هي الولاية الإلهية ، وكمال صفة العبودية ، والذي يحصل عن طريق المعرفة والعمل الصالح.

أنّ المراد : صفة الإختيار والحرية والإرادة التي تميّز الإنسان عن سائر الموجودات.

أنّ المراد : العقل الذي هو ملاك التكليف ، ومناط الثواب والعقاب.

أنّ المراد : أعضاء جسم الإنسان ، فالعين أمانة الله ، ويجب الحفاظ عليها وعدم

٣٦٨

استعمالها في طريق المعصية ، والاذن واليد والرجل واللسان كلّها أمانات يجب حفظها.

أنّ المراد : الأمانات التي يأخذها الناس بعضهم من بعض ، والوفاء بالعهود.

أنّ المراد : معرفة الله سبحانه.

أنّ المراد : الواجبات والتكاليف الإلهيّة كالصلاة والصوم والحجّ.

لكن يتّضح من خلال أدنى دقّة أن هذه التفاسير لا تتناقض مع بعضها ، بل يمكن إدغام بعضها في البعض الآخر ، فبعضها أخذت جانبا من الموضوع ، وبعضها الآخر كلّه.

ومن أجل الحصول على جواب جامع كاف ، يجب أن نلقي نظرة على الإنسان لنرى أي شيء يمتلكه وتفتقده السماوات والأرضون والجبال؟

إنّ الإنسان موجود له استعدادات وقابليات يستطيع من خلال استغلالها أن يكون أتمّ مصداق لخليفة الله ، ويستطيع أن يصل إلى قمّة العظمة والشرف باكتساب المعرفة وتهذيب النفس وتحصيل الكمالات ، وأن يسمو حتّى على الملائكة.

إنّ هذا الاستعداد المقترن بالحرية والإرادة والإختيار يعني أنّ الإنسان يطوي هذا الطريق بإرادته وإختياره ، ويبدأ فيه من الصفر ويسير إلى ما لا نهاية.

إنّ السماء والأرض والجبال تمتلك نوعا من المعرفة الإلهية ، وهي تذكر الله سبحانه وتسبّحه ، وتخضع لعظمته وتخشع لها وتسجد ، إلّا أنّ كلّ ذلك ذاتي وتكويني وإجباري ، ولذلك ليس فيه تكامل ورقي ، والموجود الوحيد الذي لا ينتهي منحني صعوده ونزوله ، وهو قادر على ارتقاء قمّة التكامل بصورة لا تعرف الحدود ، ويقوم بكلّ هذه الأعمال بإرادته وإختياره ، هو الإنسان ، وهذه هي «الأمانة الإلهيّة» التي امتنعت من حملها كلّ الموجودات ، وحملها الإنسان! ولذلك نرى الآية التالية قسّمت البشر إلى ثلاث فئات : «المؤمنين» و «الكفّار» و

٣٦٩

«المنافقين».

بناء على هذا يجب القول في عبارة مختصرة أنّ الأمانة الإلهية هي قابلية التكامل غير المحدودة والممتزجة بالإرادة والإختيار ، والوصول إلى مقام الإنسان الكامل ، وعبودية الله الخاصّة وتقبّل ولاية الله.

لكن لماذا عبّر عن هذا الأمر بالأمانة ، مع أنّ كلّ وجودنا وكلّ ما لدينا أمانة الله؟

لقد عبّر بهذا التعبير لأهميّة امتياز البشر العظيم هذا ، وإلّا فإنّ بقية المواهب أمانات الله أيضا ، غير أنّ أهميّتها تقلّ أمام هذا الامتياز.

ويمكن أن نعبّر هنا عن هذه الأمانة بتعبير آخر ونقول : إنّها التعهّد والالتزام وقبول المسؤولية.

بناء على هذا فإنّ أولئك الذين فسّروا الأمانة بصفة الإختيار والحرية في الإرادة ، قد أشاروا إلى جانب من هذه الأمانة العظمى ، كما أنّ أولئك الذين فسّروها بالعقل ، أو أعضاء البدن ، أو أمانات الناس لدى بعضهم البعض ، أو الفرائض والواجبات ، أو التكاليف بصورة عامّة ، قد أشار كلّ منهم إلى غصن من أغصان هذه الشجرة العظيمة المثمرة ، واقتطف منها ثمرة.

لكن ما هو المراد من عرض هذه الأمانة على السموات والأرض؟

هل المراد : أنّ الله سبحانه قد منح هذه الموجودات شيئا من العقل والشعور ثمّ عرض عليها حمل هذه الأمانة؟

أو أنّ المراد من العرض هو المقارنة؟ أي أنّها عند ما قارنت حجم هذه الأمانة مع ما لديها من القابليات والاستعدادات أعلنت عدم لياقتها واستعدادها عن تحمّل هذه الأمانة العظيمة.

طبعا ، يبدو أنّ المعنى الثّاني هو الأنسب ، وبهذا فإنّ السماوات والأرض والجبال قد صرخت جميعا بأنّا لا طاقة لنا بحمل هذه الأمانة.

٣٧٠

ومن هنا يتّضح جواب السؤال الثالث أيضا ، بأنّ هذه الموجودات لما ذا وكيف رفضت وأبت حمل هذه الأمانة العظمى ، وأظهرت إشفاقها من ذلك؟

ومن هنا تتّضح كيفية حمل الإنسان لهذه الأمانة الإلهية ، لأنّ الإنسان كان قد خلق بشكل يستطيع معه تحمّل المسؤولية والقيام بها ، وأن يتقبّل ولاية الله ، ويسير في طريق العبودية والكمال ويتّجه نحو المعبود الدائم ، وأن يطوي هذا الطريق بقدمه وإرادته ، وبالاستعانة بربّه.

أمّا ما ورد في روايات عديدة وردت عن أهل البيتعليهم‌السلام من تفسير هذه الأمانة بقبول ولاية أمير المؤمنين عليعليه‌السلام وولده ، فمن أجل أنّ ولاية الأنبياء والأئمّة نور ساطع من تلك الولاية الإلهية الكليّة ، والوصول إلى مقام العبودية ، وطي طريق التكامل لا يمكن أن يتمّ من دون قبول ولاية أولياء الله.

جاء في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام أنّه سئل عن تفسير آية عرض الأمانة ، فقال : «الأمانة الولاية ، من ادّعاها بغير حقّ كفر»(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال عند ما سئل عن تفسير هذه الآية : «الأمانة الولاية ، والإنسان هو أبو الشرور المنافق»(٢) .

والمسألة الاخرى التي يلزم ذكرها هنا ، هي أنّنا قلنا في ذيل الآية (١٧٢) من سورة الأعراف فيما يتعلّق بعالم الذرّ بأن أخذ ميثاق الله على التوحيد كان عن طريق الفطرة ، واستعداد وطبيعة الآدمي ، وإنّ عالم الذرّ هو عالم الاستعداد والفطرة.

وفي مورد قبول الأمانة الإلهيّة يجب القول بأنّ هذا القبول لم يكن قبول اتّفاق وعقد ، بل كان قبولا تكوينيا حسب عالم الاستعداد.

السؤال الوحيد الذي يبقى هو مسألة كون الإنسان «ظلوما جهولا» ، فهل أنّ

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلّد ٣ ، صفحة ٣٤١ ذيل الآية مورد البحث.

(٢) المصدر السابق.

٣٧١

وصف الإنسان بهاتين الصفتين ـ وظاهرهما ذمّه وتوبيخه ـ كان نتيجة قبوله لهذه الأمانة؟

من المسلّم أنّ النفي هو جواب هذا السؤال ، لأنّ قبول هذه الأمانة أعظم فخر وميزة للإنسان ، فكيف يمكن أن يذمّ على قبوله مثل هذا المقام السامي؟

أم أنّ هذا الوصف بسبب نسيان غالب البشر وظلمهم أنفسهم ، وعدم العلم بقدر الإنسان ومنزلته وبسبب الفعل الذي بدأ منذ ابتداء نسل آدم من قبل قابيل وأتباعه ، ولا يزال إلى اليوم.

إنّ الإنسان الذي ينادى من العرش ، وبني آدم الذين وضع على رؤوسهم تاج (كرّمنا بني آدم) والبشر الذين هم وكلاء الله في الأرض بمقتضى قوله سبحانه :( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) والإنسان الذي كان معلّما للملائكة وسجدت له ، كم يجب أن يكون ظلوما جهولا لينسى كلّ هذه القيم السامية الرفيعة ، ويجعل نفسه أسيرة هذه الدنيا ، وتابعا لهذا التراب ، ويكون في مصاف الشياطين ، فينحدر إلى أسفل سافلين؟!

أجل إنّ قبول هذا الخطّ المنحرف ـ والذي كان ولا يزال له أتباع وسالكون كثيرون جدّا ـ خير دليل على كون الإنسان ظلوما جهولا ، ولذلك نرى أنّه حتّى آدم نفسه ، والذي كان رأس السلسلة ومتمتّعا بالعصمة ، يعترف بأنّه قد ظلم نفسه( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) .(١)

لقد كان «ترك الأولى» الذي صدر منه ناشئا في الحقيقة عن نسيان جزء من عظمة هذه الأمانة الكبرى!

وعلى أي حال ، فيجب الاعتراف بأنّ الإنسان الضعيف والصغير في الظاهر ، هو اعجوبة علم الخلقة ، حيث استطاع أن يتحمّل أعباء الأمانة التي عجزت السماوات

__________________

(١) الأعراف ، ٢٣.

٣٧٢

والأرضون عن حملها إذا لم ينس مقامه ومنزلته(١) .

وتبيّن الآية التالية علّة عرض هذه الأمانة على الإنسان ، وبيان حقيقة أنّ أفراد البشر قد انقسموا بعد حمل هذه الأمانة إلى ثلاث فئات : المنافقين والمشركين والمؤمنين ، فتقول :( لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) .

يوجد هناك احتمالان في معنى «اللام» في( لِيُعَذِّبَ ) :

الأوّل : أنّها «لام الغاية» التي تذكر لبيان عاقبة الشيء ونهايته ، وبناء على هذا يكون معنى الآية : كانت عاقبة حمل هذه الأمانة أن سلك جماعة طريق النفاق ، وجماعة سبيل الشرك ، وهؤلاء سيبتلون بعذاب الله لخيانتهم أمانته ، وجماعة هم أهل الإيمان الذين ستشملهم رحمته لأدائهم هذه الأمانة والقيام بواجباتهم.

والثاني : أنّها «لام العلّة» ، فتكون هناك جملة مقدرة ، وعلى هذا يكون تفسير الآية : كان الهدف من عرض الأمانة أن يوضع كلّ البشر في بوتقة الاختبار ، ليظهر كلّ إنسان باطنه فيرى من الثواب والعقاب ما يستحقّه.

وهنا امور ينبغي الالتفات إليها :

١ ـ إنّ سبب تقديم أهل النفاق على المشركين هو أنّ المنافق يتظاهر بأنّه أمين في حين أنّه خائن ، إلّا أنّ خيانة المشرك ظاهرة مكشوفة ، ولذلك فإنّ المنافق يستحقّ حظّا أكبر من العذاب.

٢ ـ يمكن أن يكون سبب تقديم هاتين الفئتين على المؤمنين هو أنّ الآية

__________________

(١) اتّضح ممّا قلناه في تفسير الآية أن لا حاجة مطلقا إلى أن نقدر شيئا في الآية ، كما قال ذلك جمع من المفسّرين ، ففسّروا الآية بأنّ المراد من عرض أمانة الله على السماء والأرض والجبال هو عرضها على أهلها ، أي الملائكة! ولذلك قالوا بأنّ أولئك الذين أبوا أن يحملوها قد أدّوها ، وأولئك الذين حملوها خانوها. إنّ هذا التّفسير ليس مخالفا لظاهر الآية من ناحية الاحتياج إلى التقدير وحسب ، بل يمكن أن يناقش ويورد على اعتقاده بأنّ على الملائكة نوع تكليف ، وأنّها حاملة لجزء من هذه الأمانة. وبغضّ النظر عن كلّ ذلك فإنّ تفسير أهل الجبال بالملائكة لا يخلو من غرابة ، دقّقوا ذلك.

٣٧٣

السابقة قد ختمت بـ( ظَلُوماً جَهُولاً ) وهاتان الصفتان تناسبان المنافق والمشرك ، فالمنافق ظالم ، والمشرك جهول.

٣ ـ لقد وردت كلمة (الله) مرّة واحدة في شأن المنافقين والمشركين ، ومرّة في شأن المؤمنين ، وذلك لأنّ مصير الفئتين الاوّليين واحد ، وحساب المؤمنين يختلف عنهما.

٤ ـ يمكن أن يكون التعبير بالتوبة بدل الجزاء والثواب في شأن المؤمنين بسبب أنّ أكثر خوف المؤمنين من الذنوب والمعاصي التي تصدر عنهم أحيانا ، ولذا فإنّ الآية تطمئنهم وتمنحهم السكينة بأنّ ذنوبهم ستغفر.

أو لأنّ توبة الله على عباده تعني رجوعه عليهم بالرحمة ، ونعلم أنّ كلّ الهبات والعطايا والمكافآت قد أخفيت في كلمة «الرحمة».

٥ ـ إنّ وصف الله بالغفور والرحيم ربّما كان في مقابل الظلوم والجهول. أو لمناسبته ذكر التوبة بالنسبة للمؤمنين والمؤمنات.

الآن وقد بلغنا نهاية سورة الأحزاب بفضل الله سبحانه ، نرى لزاما ذكر هذه المسألة ، وهي : أنّ انسجام بداية هذه السورة مع نهايتها يستحقّ الدقّة والانتباه ، لأنّ هذه السورة ـ سورة الأحزاب ـ قد بدأت بخطاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمره بتقوى الله ، ونهيه عن طاعة الكافرين والمنافقين ، والتأكيد على كون الله عليما حكيما ، وانتهت بذكر أعظم مسألة في حياة البشر ، أي حمل أمانة الله. ثمّ بتقسيم البشر إلى ثلاث فئات : المنافقين ، والكافرين ، والمؤمنين ، والتأكيد على كون الله غفورا رحيما.

وبين هذين البحثين طرحت بحوثا كثيرة حول هذه الفئات الثلاثة ، وأسلوب تعاملهم مع هذه الأمانة الإلهية ، وكلّ هذه البحوث يكمل بعضها بعضا ، ويوضّح بعضها بعضا.

اللهمّ اجعلنا ممّن قبلوا أمانتك بإخلاص ، وحملوها بعشق ولذّة ، وقاموا

٣٧٤

بواجباتهم تجاهها.

اللهمّ اجعلنا من المؤمنين الذين وسعتهم رحمتك ، لا من المنافقين والمشركين الذين استحقّوا العذاب لكونهم ظلومين جهولين.

اللهمّ انزل غضبك وسخطك على أحزاب الكفر التي اتّحدت مرّة اخرى ، واحتّلت مدينة الإسلام في عصرنا الحاضر ، واهدم قصورهم على رؤوسهم. اللهمّ وهب لنا من الثبات والاستقامة ما نقف به كالجبل لندافع عن مدينة الإسلام ونحرسها في هذه اللحظات الحسّاسة.

آمين يا ربّ العالمين.

* * *

نهاية سورة الأحزاب

٣٧٥
٣٧٦

سورة

سبأ

مكيّة

وعدد آياتها أربع وخمسون آية

٣٧٧
٣٧٨

«سورة سبأ»

محتوى سورة سبأ :

سمّيت السورة بهذا الاسم (سبأ) لذكرها قصّة قوم سبأ ، وهي من السور المكيّة ، التي تشتمل عادة على بحوث المعارف الإسلامية واصول الإعتقادات ، خصوصا «المبدأ» و «المعاد» و «النبوّة». فأغلب بحوثها تحوم حول تلكم الموضوعات ، لحاجة المسلمين لبلورة امور العقيدة في مكّة ، وإعدادهم للانتقال إلى فروع الدين ، وتشكيل الحكومة ، وتطبيق كافّة البرامج الإسلامية.

وبشكل إجمالي يمكن القول بأنّ محتوى هذه السورة يندرج في خمسة مواضيع :

١ ـ «التوحيد» ، وبعض الآثار الدالّة عليه في عالم الوجود ، وبعض صفات الله المقدّسة كالوحدانية ، والربوبية ، والالوهية.

٢ ـ قضيّة المعاد التي نالت النصيب الأوفى من العرض في هذه السورة ، باستعراضها ضمن بحوث منوّعة ومن زوايا مختلفة.

٣ ـ نبوّة الأنبياء السابقين وبالأخص رسول الإسلام الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله والردّ على تخرصات أعدائه حوله ، وذكر جانب من معجزات من سبقه من الأنبياء.

٤ ـ التعرّض لذكر بعض النعم الإلهية العظيمة ، ومصير الشاكرين والجاحدين من خلال استعراض جانب من حياة النّبي سليمانعليه‌السلام وحياة قوم سبأ.

٥ ـ الدعوة إلى التفكّر والتأمّل والإيمان والعمل الصالح ، وبيان تأثير هذه

٣٧٩

العوامل في سعادة وموفقية البشر.

وعلى كلّ حال ، فانّها تشكّل برنامجا تربويا شاملا لتربية الباحثين عن الحقّ.

فضيلة هذه السورة :

يلاحظ في الروايات تعبيرات ملفتة حول أهميّة هذه السورة وأهميّة قراءتها. من جملتها ما ورد في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «من قرأ سورة سبأ لم يبق نبيّ ولا رسول إلّا كان له يوم القيامة رفيقا ومصافحا»(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ الحمدين جميعا ، سبأ وفاطر ، في ليلة لم يزل ليلته في حفظ الله تعالى وكلاءته ، فإن قرأهما في نهاره لم يصبه في نهاره مكروه ، واعطي من خير الدنيا وخير الآخرة ما لم يخطر على قلبه ولم يبلغ مناه»(٢) .

ونذكّر ـ كما في بداية كلّ سورة ـ بأنّ من الطبيعي أنّ هذا الثواب العظيم لا يكون نصيب من يكتفي من قراءته بلقلقة اللسان وحسب ، بل يجب أن تكون القراءة مقدّمة للتفكير الذي يكون بدوره باعثا على العمل الصالح.

فإنّ من يقرأ هذه السورة مثلا ، سيعلم بأنّ الدمار الذي حلّ بقوم سبأ وجعل من مصرعهم عبرة للعالمين ، ومصيرهم مضربا للأمثال ، إنّما كان لكفرانهم النعم الإلهية الوافرة.

ومن يطّلع على ذلك فسيؤدّي شكر النعمة بطريقة عملية. والشاكر بنعمة الله سيكون في حفظه وأمانه تعالى.

وقد ذكرنا شرحا أوفى حول هذا الموضوع في أوّل تفسيرنا لسورة النور.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، بداية سورة سبأ ، المجلّد ٨ ، صفحة ٣٧٥.

(٢) المصدر السابق.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578