شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم13%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297492 / تحميل: 13675
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثاني من الآيات يعرّف الحاقّة ببعض أشراطها و نبذة ممّا يقع فيها.

قوله تعالى: ( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ) قد تقدّم أنّ النفخ في الصور كناية عن البعث و الإحضار لفصل القضاء، و في توصيف النفخة بالواحدة إشارة إلى مضيّ الأمر و نفوذ القدرة فلا وهن فيه حتّى يحتاج إلى تكرار النفخة، و الّذي يسبق إلى الفهم من سياق الآيات أنّها النفخة الثانية الّتي تحيي الموتى.

قوله تعالى: ( وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ) الدكّ أشدّ الدقّ و هو كسر الشي‏ء و تبديله إلى أجزاء صغار، و حمل الأرض و الجبال إحاطة القدرة بها، و توصيف الدكّة بالواحدة للإشارة إلى سرعة تفتّتهما بحيث لا يفتقر إلى دكّة ثانية.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ) أي قامت القيامة.

قوله تعالى: ( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ) انشقاق الشي‏ء انفصال شطر منه من شطر آخر، و واهية من الوهي بمعنى الضعف، و قيل: من الوهي بمعنى شقّ الأديم و الثوب و نحوهما.

و يمكن أن تكون الآية أعني قوله:( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) في معنى قوله:( وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا ) الفرقان: 25.

قوله تعالى: ( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) قال الراغب: رجا البئر و السماء و غيرهما جانبها و الجمع أرجاء قال تعالى:( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) انتهى، و الملك - كما قيل - يطلق على الواحد و الجمع و المراد به في

٦١

الآية الجمع.

و قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) ضمير( فَوْقَهُمْ ) على ظاهر ما يقتضيه السياق للملائكة، و قيل: الضمير للخلائق.

و ظاهر كلامه أنّ للعرش اليوم حملة من الملائكة قال تعالى:( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) المؤمن: 7 و قد وردت الروايات أنّهم أربعة، و ظاهر الآية أعني قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أنّ الحملة يوم القيامة ثمانية و هل هم من الملائكة أو من غيرهم؟ الآية ساكتة عن ذلك و إن كان لا يخلو السياق من إشعار ما بأنّهم من الملائكة.

و من الممكن - كما تقدّمت الإشارة إليه - أن يكون الغرض من ذكر انشقاق السماء و كون الملائكة على أرجائها و كون حملة العرش يومئذ ثمانية بيان ظهور الملائكة و السماء و العرش للإنسان يومئذ، قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) الزمر: 75.

قوله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى‏ مِنْكُمْ خافِيَةٌ ) الظاهر أنّ المراد به العرض على الله كما قال تعالى:( وعُرِضُوا عَلى‏ رَبِّكَ صَفًّا ) الكهف: 48، و العرض إراءة البائع سلعته للمشتري ببسطها بين يديه، فالعرض يومئذ على الله و هو يوم القضاء إبراز ما عند الإنسان من اعتقاد و عمل إبرازاً لا يخفى معه عقيدة خافية و لا فعلة خافية و ذلك بتبدّل الغيب شهادة و السرّ علناً قال:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) الطارق: 9، و قال:( يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى‏ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ ) المؤمن: 16.

و قد تقدّم في أبحاثنا السابقة أنّ ما عدّ في كلامه تعالى من خصائص يوم القيامة كاختصاص الملك بالله، و كون الأمر له، و أن لا عاصم منه، و بروز الخلق له و عدم خفاء شي‏ء منهم عليه و غير ذلك، كلّ ذلك دائميّة الثبوت له تعالى، و إنّما المراد ظهور هذه الحقائق يومئذ ظهوراً لا ستر عليه و لا مرية فيه.

٦٢

فالمعنى: يومئذ يظهر أنّكم في معرض على علم الله و يظهر كلّ فعلة خافية من أفعالكم.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) قال في المجمع، هاؤم أمر للجماعة بمنزلة هاكم، تقول للواحد: هاء يا رجل، و للاثنين: هاؤما يا رجلان، و للجماعة: هاؤم يا رجال، و للمرأة: هاء يا امرأة بكسر الهمزة و ليس بعدها ياء، و للمرأتين: هاؤما، و للنساء: هاؤنّ. هذه لغة أهل الحجاز.

و تميم و قيس يقولون: هاء يا رجل مثل قول أهل الحجاز، و للاثنين: هاءا، و للجماعة: هاؤا، و للمرأة: هائي، و للنساء هاؤنّ.

و بعض العرب يجعل مكان الهمزة كافاً فيقول: هاك هاكما هاكم هاك هاكما هاكنّ، و معناه: خذ و تناول، و يؤمر بها و لا ينهى. انتهى.

و الآية و ما بعدها إلى قوله:( الْخاطِؤُنَ ) بيان تفصيليّ لاختلاف حال الناس يومئذ من حيث السعادة و الشقاء، و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إسراء: 71 كلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين، و الظاهر أنّ قوله:( هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) خطاب للملائكة، و الهاء في( كِتابِيَهْ ) و كذا في أواخر الآيات التالية للوقف و تسمّى هاء الاستراحة.

و المعنى: فأمّا من اُوتي كتابه بيمينه فيقول للملائكة: خذوا و اقرأوا كتابيه أي إنّها كتاب يقضي بسعادتي.

قوله تعالى: ( إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ ) الظنّ بمعنى اليقين، و الآية تعليل لما يتحصّل من الآية السابقة و محصّل التعليل إنّما كان كتابي كتاب اليمين و قاضياً بسعادتي لأنّي أيقنت في الدنيا أنّي ساُلاقي حسابي فآمنت بربّي و أصلحت عملي.

قوله تعالى: ( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) أي يعيش عيشة يرضاها فنسبة الرضا إلى العيشة من المجاز العقليّ.

٦٣

قوله تعالى: ( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ - إلى قوله -الْخالِيَةِ ) أي هو في جنّة عالية قدراً فيها ما لا عين رأت و لا اُذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.

و قوله:( قُطُوفُها دانِيَةٌ ) القطوف جمع قطف بالكسر فالسكون و هو ما يجتنى من الثمر و المعنى: أثمارها قريبة منه يتناوله كيف يشاء.

و قوله:( كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ ) أي يقال لهم: كلوا و اشربوا من جميع ما يؤكل فيها و ما يشرب حال كونه هنيئاً لكم بما قدّمتم من الإيمان و العمل الصالح في الدنيا الّتي تقضّت أيّامها.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ ) و هؤلاء هم الطائفة الثانية و هم الأشقياء المجرمون يؤتون صحيفة أعمالهم بشمالهم و قد مرّ الكلام في معناه في سورة الإسراء، و هؤلاء يتمنّون أن لو لم يكونوا يؤتون كتابهم و يدرون ما حسابهم يتمنّون ذلك لما يشاهدون من أليم العذاب المعدّ لهم.

قوله تعالى: ( يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ) ذكروا أنّ ضمير( لَيْتَها ) للموتة الاُولى الّتي ذاقها الإنسان في الدنيا.

و المعنى: يا ليت الموتة الاُولى الّتي ذقتها كانت قاضية عليّ تقضي بعدمي فكنت انعدمت و لم اُبعث حيّاً فأقع في ورطة العذاب الخالد و اُشاهد ما اُشاهد.

قوله تعالى: ( ما أَغْنى‏ عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ) كلمتا تحسّر يقولهما حيث يرى خيبة سعيه في الدنيا فإنّه كان يحسب أنّ مفتاح سعادته في الحياة هو المال و السلطان يدفعان عنه كلّ مكروه و يسلّطانه على كلّ ما يحبّ و يرضى فبذل كلّ جهده في تحصيلهما و أعرض عن ربّه و عن كلّ حقّ يدعى إليه و كذّب داعيه فلمّا شاهد تقطّع الأسباب و أنّه في يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون ذكر عدم نفع ماله و بطلان سلطانه تحسّراً و توجّعاً و ما ذا ينفع التحسّر.؟

قوله تعالى: ( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ - إلى قوله -فَاسْلُكُوهُ ) حكاية أمره تعالى الملائكة بأخذه و إدخاله النار، و التقدير يقال للملائكة خذوه إلخ، و( فَغُلُّوهُ ) أمر من الغلّ بالفتح

٦٤

و هو الشدّ بالغلّ الّذي يجمع بين اليد و الرجل و العنق.

و قوله:( ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ) أي أدخلوه النار العظيمة و ألزموه إيّاها.

و قوله:( ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ ) السلسلة القيد، و الذرع الطول، و الذراع بُعد ما بين المرفق و رأس الأصابع و هو واحد الطول و سلوكه فيه جعله فيه، و المحصّل ثمّ اجعلوه في قيد طوله سبعون ذراعاً.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَ لا يَحُضُّ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) الحضّ التحريض و الترغيب، و الآيتان في مقام التعليل للأمر بالأخذ و الإدخال في النار أي إنّ الأخذ ثمّ التصلية في الجحيم و السلوك في السلسلة لأجل أنّه كان لا يؤمن بالله العظيم و لا يحرّض على طعام المسكين أي يساهل في أمر المساكين و لا يبالي بما يقاسونه.

قوله تعالى: ( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ - إلى قوله -الْخاطِؤُنَ ) الحميم الصديق و الآية تفريع على قوله:( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يؤمن بالله العظيم فليس له اليوم ههنا صديق ينفعه أي شفيع يشفع له إذ لا مغفرة لكافر فلا شفاعة.

و قوله:( وَ لا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ) الغسلين الغسالة و كأنّ المراد به ما يسيل من أبدان أهل النار من قيح و نحوه و الآية عطف على قوله في الآية السابقة:( حَمِيمٌ ) و متفرّع على قوله:( وَ لا يَحُضُّ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يحرّض على طعام المسكين فليس له اليوم ههنا طعام إلّا من غسلين أهل النار.

و قوله:( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) وصف لغسلين و الخاطؤن المتلبّسون بالخطيئة و الإثم.

٦٥

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يحمله اليوم أربعة و يوم القيامة ثمانية.

أقول: و في تقييد الحاملين في الآية بقوله:( يَوْمَئِذٍ ) إشعار بل ظهور في اختصاص العدد بالقيامة.

و في تفسير القمّيّ، و في حديث آخر قال: حمله ثمانية أربعة من الأوّلين و أربعة من الآخرين فأمّا الأربعة من الأوّلين فنوح و إبراهيم و موسى و عيسى، و أمّا الأربعة من الآخرين فمحمّد و عليّ و الحسن و الحسينعليهم‌السلام .

أقول: و في غير واحد من الروايات أنّ الثمانية مخصوصة بيوم القيامة، و في بعضها أنّ حملة العرش - و العرش العلم - أربعة منّا و أربعة ممّن شاء الله.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّه إذا كان يوم القيامة يدعى كلّ اُناس بإمامه الّذي مات في عصره فإن أثبته اُعطي كتابه بيمينه لقوله:( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ‏ ) فمن اُوتي كتابه بيمينه فاُولئك يقرؤن كتابهم، و اليمين إثبات الإمام لأنه كتابه يقرؤه - إلى أن قال - و من أنكر كان من أصحاب الشمال الّذين قال الله:( وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ) إلخ.

أقول: و في عدّة من الروايات تطبيق قوله:( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إلخ، على عليّعليه‌السلام ، و في بعضها عليه و على شيعته، و كذا تطبيق قوله:( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ ) إلخ، على أعدائه، و هي من الجري دون التفسير.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لو أنّ دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن بأهل الدنيا.

و فيه، أخرج البيهقيّ في شعب الإيمان عن صعصعة بن صوحان قال: جاء أعرابي

٦٦

إلى عليّ بن أبي طالب فقال: كيف هذا الحرف: لا يأكله إلّا الخاطون؟ كلّ و الله يخطو. فتبسّم عليّ و قال: يا أعرابيّ( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) قال: صدقت و الله يا أميرالمؤمنين ما كان الله ليسلم عبده.

ثمّ التفت عليّ إلى أبي الأسود فقال: إنّ الأعاجم قد دخلت في الدين كافّة فضع للناس شيئاً يستدلّون به على صلاح ألسنتهم فرسم لهم الرفع و النصب و الخفض.

و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه في الدروع الواقية في حديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و لو أنّ ذراعاً من السلسلة الّتي ذكرها الله في كتابه وضع على جميع جبال الدنيا لذابت عن حرّها.

٦٧

( سورة الحاقّة الآيات 38 - 52)

فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ( 38 ) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ( 39 ) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( 40 ) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ ( 41 ) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ( 42 ) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ( 43 ) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ( 44 ) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( 45 ) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( 46 ) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( 47 ) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ( 48 ) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ ( 49 ) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 50 ) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ( 51 ) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 52 )

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثالث من آيات السورة يؤكّد ما تقدّم من أمر الحاقّة بلسان تصديق القرآن الكريم ليثبت بذلك حقّيّة ما أنبأ به من أمر القيامة.

قوله تعالى: ( فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَ ما لا تُبْصِرُونَ ) ظاهر الآية أنّه إقسام بما هو مشهود لهم و ما لا يشاهدون أي الغيب و الشهادة فهو إقسام بمجموع الخليقة و لا يشمل ذاته المتعالية فإنّ من البعيد من أدب القرآن أن يجمع الخالق و الخلق في صفّ واحد و يعظّمه تعالى و ما صنع تعظيماً مشتركاً في عرض واحد.

و في الإقسام نوع تعظيم و تجليل للمقسم به و خلقه تعالى بما أنّه خلقه جليل جميل لأنّه تعالى جميل لا يصدر منه إلّا الجميل و قد استحسن تعالى فعل نفسه و أثنى

٦٨

على نفسه بخلقه في قوله:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) الم السجدة: 7، و قوله:( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) المؤمنون: 14 فليس للموجودات منه تعالى إلّا الحسن و ما دون ذلك من مساءة فمن أنفسها و بقياس بعضها إلى بعض.

و في اختيار ما يبصرون و ما لا يبصرون للأقسام به على حقّيّة القرآن ما لا يخفى من المناسبة فإنّ النظام الواحد المتشابك أجزاؤه الجاري في مجموع العالم يقضي بتوحّده تعالى و مصير الكلّ إليه و ما يترتّب عليه من بعث الرسل و إنزال الكتب و القرآن خير كتاب سماويّ يهدي إلى الحقّ في جميع ذلك و إلى طريق مستقيم.

و ممّا تقدّم يظهر عدم استقامة ما قيل: إنّ المراد بما تبصرون و ما لا تبصرون الخلق و الخالق فإنّ السياق لا يساعد عليه، و كذا ما قيل: إنّ المراد النعم الظاهرة و الباطنة، و ما قيل: إنّ المراد الجنّ و الإنس و الملائكة أو الأجسام و الأرواح أو الدنيا و الآخرة أو ما يشاهد من آثار القدرة و ما لا يشاهد من أسرارها فاللفظ أعمّ مدلولاً من جميع ذلك.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) الضمير للقرآن، و المستفاد من السياق أنّ المراد برسول كريم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو تصديق لرسالته قبال ما كانوا يقولون إنّه شاعر أو كاهن.

و لا ضير في نسبة القرآن إلى قوله فإنّه إنّما ينسب إليه بما أنّه رسول و الرسول بما أنّه رسول لا يأتي إلّا بقول مرسلة، و قد بيّن ذلك فضل بيان بقوله بعد:( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

و قيل: المراد برسول كريم جبريل، و السياق لا يؤيّده إذ لو كان هو المراد لكان الأنسب نفي كونه ممّا نزلت به الشياطين كما فعل في سورة الشعراء.

على أنّ قوله بعد:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و ما يتلوه إنّما يناسب كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المراد برسول كريم.

قوله تعالى: ( وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) نفي أن يكون القرآن

٦٩

نظماً ألّفه شاعر و لم يقل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شعراً و لم يكن شاعراً.

و قوله:( قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) توبيخ لمجتمعهم حيث إنّ الأكثرين منهم لم يؤمنوا و ما آمن به إلّا قليل منهم.

قوله تعالى: ( وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) نفي أن يكون القرآن كهانة و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كاهنا يأخذ القرآن من الجنّ و هم يُلقونه إليه.

و قوله:( قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) توبيخ أيضاً لمجتمعهم.

قوله تعالى: ( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) أي منزل من ربّ العالمين و ليس من صنع الرسول نسبه إلى الله كما تقدّمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ - إلى قوله -حاجِزِينَ ) يقال: تقوّل على فلان أي اختلق قولاً من نفسه و نسبه إليه، و الوتين - على ما ذكره الراغب - عرق يسقي الكبد و إذا انقطع مات صاحبه، و قيل: هو رباط القلب.

و المعنى:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا ) هذا الرسول الكريم الّذي حمّلناه رسالتنا و أرسلناه إليكم بقرآن نزّلناه عليه و اختلق( بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و نسبه إلينا( لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ) كما يقبض على المجرم فيؤخذ بيده أو المراد قطعنا منه يده اليمنى أو المراد لانتقمنا منه بالقوّة كما في رواية القمّيّ( ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) و قتلناه لتقوّله علينا( فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ‏ ) تحجبونه عنّا و تنجونه من عقوبتنا و إهلاكنا.

و هذا تهديد للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تقدير أن يفتري على الله كذباً و ينسب إليه شيئاً لم يقله و هو رسول من عنده أكرمه بنبوّته و اختاره لرسالته.

فالآيات في معنى قوله:( لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) إسراء: 75، و كذا قوله في الأنبياء بعد ذكر نعمه العظمى عليهم:( وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الأنعام: 88.

فلا يرد أنّ مقتضى الآيات أنّ كلّ من ادّعى النبوّة و افترى على الله الكذب أهلكه الله و عاقبه في الدنيا أشدّ العقاب و هو منقوض ببعض مدّعي النبوّة من الكذّابين.

٧٠

و ذلك أنّ التهديد في الآية متوجّه إلى الرسول الصادق في رسالته لو تقوّل على الله و نسب إليه بعض ما ليس منه لا مطلق مدّعي النبوّة المفتري على الله في دعواه النبوّة و إخباره عن الله تعالى.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) يذكّرهم كرامة تقواهم و معارف المبدأ و المعاد بحقائقها، و يعرّفهم درجاتهم عند الله و مقاماتهم في الآخرة و الجنّة و ما هذا شأنه لا يكون تقوّلاً و افتراء فالآية مسوقة حجّة على كون القرآن منزّهاً عن التقوّل و الفرية.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ ) ستظهر لهم يوم الحسرة.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) قد تقدّم كلام في نظيرتي الآيتين في آخر سورة الواقعة، و السورتان متّحدتان في الغرض و هو وصف يوم القيامة و متّحدتان في سياق خاتمتهما و هي الإقسام على حقّيّة القرآن المنبئ عن يوم القيامة، و قد ختمت السورتان بكون القرآن و ما أنبأ به عن وقوع الواقعة حقّ اليقين ثمّ الأمر بتسبيح اسم الربّ العظيم المنزّه عن خلق العالم باطلاً لا معاد فيه و عن أن يبطل المعارف الحقّة الّتي يعطيها القرآن في أمر المبدأ و المعاد.

٧١

( سورة المعارج مكّيّة و هي أربع و أربعون آية)

( سورة المعارج الآيات 1 - 18)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( 1 ) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ( 2 ) مِّنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ ( 3 ) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ( 4 ) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ( 5 ) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ( 6 ) وَنَرَاهُ قَرِيبًا ( 7 ) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ( 8 ) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ( 9 ) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ( 10 ) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ( 11 ) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ( 12 ) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ( 13 ) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ ( 14 ) كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ ( 15 ) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ ( 16 ) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ ( 17 ) وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ ( 18 )

( بيان‏)

الّذي يعطيه سياق السورة أنّها تصف يوم القيامة بما اُعدّ فيه من أليم العذاب للكافرين. تبتدئ السورة فتذكر سؤال سائل سأل عذاباً من الله للكافرين فتشير إلى أنّه واقع ليس له دافع قريب غير بعيد كما يحسبونه ثمّ تصف اليوم الّذي يقع فيه و العذاب الّذي اُعدّ لهم فيه و تستثني المؤمنين الّذين قاموا بوظائف الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح.

٧٢

و هذا السياق يشبه سياق السور المكّيّة غير أنّ المنقول عن بعضهم أنّ قوله:( وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ) مدني و الاعتبار يؤيّده لأنّ ظاهره الزكاة و قد شرّعت بالمدينة بعد الهجرة، و كون هذه الآية مدنيّة يستتبع كون الآيات الحافّة بها الواقعة تحت الاستثناء و هي أربع عشرة آية (قوله:إِلَّا الْمُصَلِّينَ - إلى قوله -فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ‏ ) مدنيّة لما في سياقها من الاتّحاد و استلزام البعض للبعض.

و مدنيّة هذه الآيات الواقعة تحت الاستثناء تستدعي ما استثنيت منه و هو على الأقل ثلاث آيات (قوله:إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً - إلى قوله -مَنُوعاً ).

على أنّ قوله:( فَما لِلَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ) متفرّع على ما قبله تفرّعاً ظاهراً و هو ما بعده إلى آخر السورة ذو سياق واحد فتكون هذه الآيات أيضاً مدنيّة.

و من جهة اُخرى مضامين هذا الفصل من الآيات تناسب حال المنافقين الحافّين حول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اليمين و عن الشمال عزين و هم الرادّون لبعض ما أنزل الله من الحكم و خاصّة قوله:( أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ) إلخ، و قوله:( عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ ) إلخ على ما سيجي‏ء، و موطن ظهور هذا النفاق المدينة لا مكّة، و لا ضير في التعبير عن هؤلاء بالّذين كفروا فنظير ذلك موجود في سورة التوبة و غيرها.

على أنّهم رووا أنّ السورة نزلت في قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) الأنفال: 32 و قد تقدّم في تفسير الآية أنّ سياقها و الّتي بعدها سياق مدنيّ لا مكّي. لكنّ المرويّ عن الصادقعليه‌السلام أنّ المراد بالحقّ المعلوم في الآية حق يسمّيه صاحب المال في ماله غير الزكاة المفروضة.

و لا عبرة بما نسب إلى اتّفاق المفسّرين أنّ السورة مكّيّة على أنّ الخلاف ظاهر و كذا ما نسب إلى ابن عبّاس أنّها نزلت بعد سورة الحاقّة.

قوله تعالى: ( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) السؤال بمعنى الطلب و الدعاء، و لذا عدّي بالباء كما في قوله:( يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ ) الدخان: 55 و قيل: الفعل مضمّن معنى الاهتمام و الاعتناء و لذا عدّي بالباء، و قيل: الباء زائدة للتأكيد،

٧٣

و مآل الوجوه واحد و هو طلب العذاب من الله كفراً و عتوّاً.

و قيل: الباء بمعنى عن كما في قوله:( فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) الفرقان: 59، و فيه أنّ كونها في الآية المستشهد بها بمعنى عن ممنوع. على أنّ سياق الآيات التالية و خاصّة قوله:( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لا يلائم كون السؤال بمعنى الاستفسار و الاستخبار.

فالآية تحكي سؤال العذاب و طلبه عن بعض من كفر طغياناً و كفراً، و قد وصف العذاب المسؤل من الأوصاف بما يدلّ على إجابة الدعاء بنوع من التهكّم و التحقير و هو قوله:( واقِعٍ ) و قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) .

و المعنى سأل سائل من الكفّار عذاباً للكافرين من الله سيصيبهم و يقع عليهم لا محالة و لا دافع له أي إنّه واقع عليهم سأل أو لم يسأل ففيه جواب تحقيريّ و إجابة لمسؤله تهكّماً.

قوله تعالى: ( لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) للكافرين متعلّق بعذاب و صفة له، و كذا قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) و قد مرّت الإشارة إلى معنى الآية.

قوله تعالى: ( مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ ) الجارّ و المجرور متعلّق بقوله:( دافِعٌ ) أي ليس له دافع من جانب الله و من المعلوم أنّه لو اندفع لم يندفع إلّا من جانب الله سبحانه، و من المحتمل أن يتعلّق بقوله:( بِعَذابٍ ) .

و المعارج جمع معرج و فسّروه بالمصاعد و هي الدرجات و هي مقامات الملكوت الّتي يعرج إليها الملائكة عند رجوعهم إلى الله سبحانه على ما يفسّره قوله بعد:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ ) إلخ فله سبحانه معارج الملكوت و مقاماتها المترتّبة علوّاً و شرفاً الّتي تعرج فيها الملائكة و الروح بحسب قربهم من الله و ليست بمقامات وهميّة اعتباريّة.

و قيل: المراد بالمعارج الدرجات الّتي يصعد فيها الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح قال تعالى:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) الفاطر 10، و قال:( وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى‏ مِنْكُمْ ) الحجّ: 37.

و قيل: المراد به مقامات القرب الّتي يعرج إليها المؤمنون بالإيمان و العمل

٧٤

الصالح قال تعالى:( هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَ اللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ) آل عمران: 163 و قال:( لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ) الأنفال: 4 و قال:( رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ ) المؤمن: 15.

و الحقّ أنّ مآل الوجهين إلى الوجه الأوّل، و الدرجات المذكورة حقيقيّة ليست بالوهميّة الاعتباريّة.

قوله تعالى: ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) المراد بهذا اليوم يوم القيامة على ما يفيده سياق الآيات التالية.

و المراد بكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة على ما ذكروا أنّه بحيث لو وقع في الدنيا و انطبق على الزمان الجاري فيها كان مقداره من الزمان خمسين ألف سنة من سني الدنيا.

و المراد بعروج الملائكة و الروح إليه يومئذ رجوعهم إليه تعالى عند رجوع الكلّ إليه فإنّ يوم القيامة يوم بروز سقوط الوسائط و تقطّع الأسباب و ارتفاع الروابط بينها و بين مسبّباتها و الملائكة وسائط موكّلة على اُمور العالم و حوادث الكون فإذا تقطّعت الأسباب عن مسبّباتها و زيّل الله بينهم و رجع الكلّ إلى الله عزّ اسمه رجعوا إليه و عرجوا معارجهم فحفّوا من حول عرش ربّهم و صفّوا قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) الزمر 75، و قال:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) النبأ: 38.

و الظاهر أنّ المراد بالروح الروح الّذي هو من أمره تعالى كما قال:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) إسراء: 85 و هو غير الملائكة كما هو ظاهر قوله تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) النحل: 2.

فلا يعبأ بما قيل: إنّ المراد بالروح جبرئيل و إن اُطلق عليه الروح الأمين و روح القدس في قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) الشعراء: 194 و قوله:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ) النحل: 103 فإنّ المقيّد غير المطلق.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لمّا كان سؤال السائل للعذاب عن تعنّت

٧٥

و استكبار و هو ممّا يشقّ تحمّله أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر و وصفه بالجميل - و الجميل من الصبر ما ليس فيه شائبة الجزع و الشكوى - و علّله بأنّ اليوم بما فيه من العذاب قريب.

قوله تعالى: ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً ) ضميراً( يَرَوْنَهُ ) و( نَراهُ ) للعذاب أو ليوم القيامة بما فيه من العذاب الواقع و يؤيّد الأوّل قوله فيما بعد:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) إلخ.

و المراد بالرؤية الاعتقاد بنوع من العناية المجازيّة و رؤيتهم ذلك بعيداً ظنّهم أنّه بعيد من الإمكان فإنّ سؤال العذاب من الله سبحانه استكباراً عن دينه و ردّاً لحكمه لا يجامع الإيمان بالمعاد و إن تفوّه به السائل، و رؤيته تعالى ذلك قريباً علمه بتحقّقه و كلّ ما هو آت قريب.

و في الآيتين تعليل أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر الجميل فإنّ تحمّل الأذى و الصبر على المكاره يهون على الإنسان إذا استيقن أنّ الفرج قريب و تذكّر ذلك فالكلام في معنى قولنا فاصبر على تعنّتهم و استكبارهم في سؤالهم العذاب صبراً جميلاً لا يشوبه جزع و شكوى فإنّا نعلم أنّ العذاب قريب على خلاف ما يستبعدونه، و علمنا لا يتخلّف عن الواقع بل هو نفس الواقع.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) المهل المذاب من المعدنيّات كالنحاس و الذهب و غيرهما، و قيل: درديّ الزيت، و قيل: عكر القطران(1) .

و الظرف متعلّق بقوله:( واقِعٍ ) على ما يفيده السياق.

قوله تعالى: ( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ ) العهن مطلق الصوف، و لعلّ المراد المنفوش منه كما في قوله تعالى:( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) القارعة: 5.

و قيل: هو الصوف الأحمر، و قيل: المصبوغ ألواناً لأنّ الجبال ذات ألوان مختلفة فمنها جدد بيض و حمر و غرابيب سود(2) .

____________________

(1) أي ردية و خبيثه‏.

(2) كما في الآية من سورة فاطر.

٧٦

قوله تعالى: ( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) الحميم القريب الّذي تهتمّ بأمره و تشفق عليه.

إشارة إلى شدّة اليوم فالإنسان يومئذ تشغله نفسه عن غيره حتّى أنّ الحميم لا يسأل حميمه عن حاله لاشتغاله بنفسه.

قوله تعالى: ( يُبَصَّرُونَهُمْ ) الضميران للأحماء المعلوم من السياق و التبصير الإراءة و الإيضاح أي يُرى و يوضح الأحماء للأحماء فلا يسألونهم عن حالهم اشتغالاً بأنفسهم.

و الجملة مستأنفة في معنى الجواب عن سؤال مقدّر كأنّه لمّا قيل: لا يسأل حميم حميماً سئل فقيل: هل يرى الأحماء يومئذ أحماءهم؟ فاُجيب: يبصّرونهم و يمكن أن يكون( يُبَصَّرُونَهُمْ ) صفة( حَمِيماً ) .

و من ردي‏ءً التفسير قول بعضهم: إنّ معنى قوله:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يبصّر الملائكة الكفّار، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر المؤمنون أعداءهم من الكفّار و ما هم فيه من العذاب فيشمتون بهم، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر أتباع الضلالة رؤساءهم. و هي جميعاً وجوه لا دليل عليها.

قوله تعالى: ( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ ) قال في المجمع: المودّة مشتركة بين التمنّي و بين المحبّة يقال: وددت الشي‏ء أي تمنّيته و وددته أي أحببته أودّ فيهما جميعاً. انتهى، و يمكن أن يكون استعماله بمعنى التمنّي من باب التضمين.

و قال: و الافتداء الضرر عن الشي‏ء ببدل منه انتهى، و قال: الفصيلة الجماعة المنقطعة عن جملة القبيلة برجوعها إلى اُبوّة خاصّة عن اُبوّة عامّة. انتهى، و ذكر بعضهم أنّ الفصيلة عشيرته الأقربين الّذين فصل عنهم كالآباء الأدنين.

و سياق هذه الآيات سياق الإضراب و الترقّي بالنسبة إلى قوله:( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) فيفيد أنّ المجرم يبلغ به شدّة العذاب إلى أن يتمنّى أن يفتدي من العذاب بأحبّ أقاربه و أكرمهم عليه بنيه و صاحبته و أخيه و فصيلته و جميع من في الأرض ثمّ ينجيه الافتداء فيودّ ذلك فضلاً عن عدم سؤاله عن حال حميمه.

٧٧

و المعنى( يَوَدُّ ) و يتمنّى( الْمُجْرِمُ ) و هو المتلبّس بالأجرام أعمّ من الكافر( لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ ) و هذا هو الّذي يتمنّاه، و الجملة قائمة مقام مفعول يودّ.( بِبَنِيهِ ) الّذين هم أحبّ الناس عنده( وَ صاحِبَتِهِ ) الّتي كانت سكنا له و كان يحبّها و ربّما قدّمها على أبويه( وَ أَخِيهِ ) الّذي كان شقيقه و ناصره( وَ فَصِيلَتِهِ ) من عشيرته الأقربين( الَّتِي تُؤْوِيهِ ) و تضمّه إليها( وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) من اُولي العقل( ثُمَّ يُنْجِيهِ ) هذا الافتداء.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّها لَظى‏ نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى) كلّا للردع، و ضمير( إِنَّها ) لجهنّم أو للنار و سمّيت لظى لكونها تتلظّى و تشتعل، و النزّاعة اسم مبالغة من النزع بمعنى الاقتلاع، و الشوى الأطراف كاليد و الرجل يقال: رماه فأشواه أي أصاب شواه كذا قال الراغب، و إيعاء المال إمساكه في وعاء.

فقوله:( كَلَّا ) ردع لتمنّيه النجاة من العذاب بالافتداء و قد علّل الردع بقوله:( إِنَّها لَظى) إلخ و محصّله أنّ جهنّم نار مشتعلة محرقة للأطراف شأنها أنّها تطلب المجرمين لتعذّبهم فلا تصرف عنهم بافتداء كائناً ما كان.

فقوله:( إِنَّها لَظى‏ ) أي نار صفتها الاشتعال لا تنعزل عن شأنها و لا تخمد، و قوله:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) أي صفتها إحراق الأطراف و اقتلاعها لا يبطل ما لها من الأثر فيمن تعذّبه.

و قوله:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى‏ ) أي تطلب من أدبر عن الدعوة الإلهيّة إلى الإيمان بالله و أعرض عن عبادته تعالى و جمع المال فأمسكه في وعائه و لم ينفق منه للسائل و المحروم.

و هذا المعنى هو المناسب لسياق الاستثناء الآتي و ذكر الصلاة و الإنفاق فيه.

٧٨

( بحث روائي‏)

في المجمع، حدّثنا السيّد أبوالحمد قال: حدّثنا الحاكم أبوالقاسم الحسكاني و ساق السند عن جعفر بن محمّد الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: لما نصب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، طار ذلك في البلاد فقدم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النعمان بن الحارث الفهريّ.

فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله و أنّك رسول الله و أمرتنا بالجهاد و الحجّ و الصوم و الصلاة و الزكاة فقبلناها ثمّ لم ترض حتّى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه، فهذا شي‏ء منك أو أمر من عند الله؟ فقال: و الله الّذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من الله.

فولى النعمان بن الحارث و هو يقول: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله و أنزل الله تعالى:( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) .

أقول: و هذا المعنى مروي بغير طريق من طرق الشيعة، و قد ردّ الحديث بعضهم بأنّه موضوع لكون سورة المعارج مكّيّة، و قد عرفت الكلام في مكّيّة السورة.

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و عبد بن حميد و النسائيّ و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال هو النضر بن الحارث قال: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ: في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال. نزلت بمكّة في النضر بن الحارث و قد قال:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و كان عذابه يوم بدر.

أقول: و هذا المعنى مرويّ أيضاً عن غير السدّيّ، و في بعض رواياتهم أنّ

٧٩

القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية هو الحارث بن علقمة رجل من عبد الدار، و في بعضها أنّ سائل العذاب هو أبوجهل بن هشام سأله يوم بدر و لازمه مدنيّة السورة و المعتمد على أيّ حال نزول السورة بعد قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و قد تقدّم كلام في سياق الآية.

و في أمالي الشيخ، بإسناده إلى أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث: ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإنّ في القيامة خمسين موقفاً كلّ موقف مثل ألف سنة ممّا تعدّون ثمّ تلا هذه الآية( فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) .

أقول: و روي هذا المعنى في روضة الكافي، عن حفص بن غياث عنهعليه‌السلام .

و في المجمع، روى أبوسعيد الخدريّ قال: قيل لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أطول هذا اليوم فقال: و الّذي نفس محمّد بيده إنّه ليخفّ على المؤمن حتّى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن عدّة من الجوامع عن أبي سعيد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) قال: الرصاص الذائب و النحاس كذلك تذوب السماء.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يقول: يعرّفونهم ثمّ لا يتساءلون.

و فيه في قوله تعالى:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) قال: تنزع عينه و تسودّ وجهه.

و فيه في قوله تعالى:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى ) قال: تجرّه إليها.

٨٠

العذراء - العائشة بكلّ طُهرٍ بدون أدنى ذنبٍ، المـُنزهّة عن اللوم، المثابِرة على الصلاة مع الصوم - يوماً مّا وحدَها وإذا بالمـَلاك جبرائيل قد دخل مَخدعَها وسلّم عليها قائلاً: ليكنْ الله معكِ يا مريم، فارتاعت العذراء من ظهور المـَلاك، ولكنّ المـَلاك سكّن روعَها قائلاً: لا تخافي يا مريم؛ لأنّكِ قد نلتِ نعمةً مِن لدُن اللّه الذي اختاركِ لتكوني أُمَّ نبيٍّ يبعثه إلى شَعب إسرائيل؛ ليسلكوا في شرائعه بإخلاص.

فأجابت العذراء: وكيف أَلِد بنينَ وأنا لا أَعرِف رجلاً؟! فأجاب المـَلاك: يا مريم إنّ اللّه الذي صنع الإنسان من غير إنسان لَقادرٍ أنْ يخلقَ فيكِ إنساناً من غير إنسان؛ لأنّه لا مُحال عنده. فأجابت مريم: إنّي لَعالِمةٌ أنّ الله قديرٌ، فلتكنْ مشيئتُه، فقال المـَلاك: كوني حاملاً بالنبيّ الذي سَتدْعينَه يسوع، فامنعيه الخَمر والمـُسكِر، وكلَّ لحمٍ نجسٍ؛ لأنّ الطفل قُدّوس اللّه، فانحنت مريم بضعةً قائلةً: ها أنا ذا أَمَة اللّه، فليكن بحسب كلمتك (١) .

* * *

قلتُ: ما جاء في إنجيل برنابا أسلم وأوفق بالاعتبار ممّا جاء في إنجيليّ لوقا ومتّى.

أولاً: جاء في إنجيل لوقا: (القدُّوس المولود منكِ يُدعَى ابنُ اللّه) (٢) .

وفيه أيضاً: أنّ مريم لمـّا أتت خالتها (اليصابات) باركتْها ووصفتْها بأنّها أُمُّ ربّها: (وقالت: أنتِ مباركةٌ في النساء، ومباركة هي ثمرةُ بطنك، فمِن أين لي هذا أنْ تأتي أُمُّ ربي إليَّ) (٣) .

وهذا شيءٌ غريب، كيف يكون المولود من امرأةٍ ابناً للّه، بحجّة أنّه لم يولد من أبٍ؟! إذن لكان الأَولى أنْ يكون آدم ابناً للّه؛ حيث لم يلده أبٌ ولا أُمٌّ.

ثم كيف أصبح هذا المولود من غير أبٍ إلهاً من دون اللّه؟! الأمر الذي يرفضه العقل الرشيد.

____________________

(١) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص٣٧٧.

(٢) إنجيل لوقا، الإصحاح ١/٣٥.

(٣) إنجيل لوقا، الإصحاح ١/٤٢ و٤٣.

٨١

قال صاحب كتاب (الفارق بين المخلوق والخالق): ما جاء في إنجيل لوقا (ص١: ٣٢): (وابن العليّ يُدعَى)، هذه الجملة مُنتزَعة من قول زكريّا (عليه السلام) في ابنه يحيى: (وأنت أيّها الصبّي نبيّ العليّ تُدعَى) (لوقا ١ ص١: ٧٦)، فحُرِّفت في حقّ عيسى (عليه السلام) إلى قول لوقا على لسان المـَلَك: (وابن العليّ يُدعى)؛ ليُوهموا الناس أنّ المسيح إلهٌ ابنُ إله ٍ (١) .

وثانياً: قوله: (هذا يكون عظيماً، وابن العليّ يُدعى، ويُعطيه الربُّ الإلهُ كُرسيّ داود أبيه، ويَملك على بيت يعقوب ولا يكون لمـُلكه نهاية)...

قال الأُستاذ النجّار: إنّ هذه العبارات تفرّد بها لوقا، ولم يذْكرْها أحد من كُتّاب الأناجيل سواه، ونحن لا نقول بأنّ الإلهام قَصَّر معهم - وفيهم أصحاب المسيح المـُشاهِدون لأحواله العالِمون بشأنه - وأفاض على لوقا الذي ليس تلميذاً ولا مِن الإثني عشر، بل رجل دخل في الدين متأخّراً وصار تلميذاً لبولس الذي لم يرَ المسيح ولم يُعاشرْهُ.

فهذه العبارة ممّا جاء به؛ ليُزيّنَ أمرَ المسيح ويُدخِلَ على الناس تعظيمَه، والمسيح ليس في حاجةٍ إلى ذلك.

وقد طعن صاحب كتاب (الفاروق) على هذه الجملة (ويعطيه الإله كرسيّ داود أبيه) بوجهين وجيهين:

الأَوّل: أنّ عيسى (عليه السلام) من أولاد الملِك (يهوياقيم) (٢) ولا يَصلح أنْ يجلس على كرسيّ داود؛ لأنّه لمـّا أحرق الصحيفة التي كتبها (بارخ) من فم النبيّ (أرمياء) نزل الوحي: (قال الربّ عن يهوياقيم (يواقيم) - ملك يهوذا - لا يكون له جالسٌ على كرسيّ داود) (٣) .

الثاني: أنّ المسيح - مع كونه لم يجلس على كرسيّ داود - أمر (بيلاطس) بضربه وإهانته، وسلّمه إلى اليهود - كما يَزعمُه النصارى - ففعلوا به ما فعلوا وصلبوه.

على أنّه يبدو من إنجيل يوحنا (١ ص٦) أنّه كان هارباً من قومِهِ عندما أرادوا أنْ

____________________

(١) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص٣٧٨.

(٢) في إنجيل متّى: الإصحاح الأَوّل: إنّه من ذرّية (ألياقين)، وقد غيّر فرعون مصر اسمه إلى (يهوياقيم) (قاموس الكتاب المقدّس، ص٩٨٦)، وراجع: سِفر الملوك ٢، إصحاح ٢٣/٣٤.

(٣) كتاب أرمياء، إصحاح ٣٦/٣٠.

٨٢

يجعلوه مَلِكاً ولا يُعقل أنْ يهرب من أمرٍ بعثهُ اللّهُ لأجلهِ، على ما بشّر جبرائيلُ أُمّه العذراء قبل ولادته، ومعلومٌ أنّه لمْ يَملِكْ بيتُ يعقوب ساعةً فضلاً عن الأبد (١) .

يا أُخت هارون

ويقول القاضي عبد الجبار في كتابه (تنزيه القرآن عن المطاعن): وربّما قيل في قوله تعالى: ( يَا أُخْتَ هَارُونَ ) : كيف يصحّ أنْ يقال لها ذلك وبينها وبين هارون أَخي موسى الزمان الطويل؟ وجوابنا أنّه ليس في الظاهر هارون الذي أخو موسى، بل كان لها أخٌ يُسمّى بذلك، واثبات الاسم واللقب لا يَدلّ على أنّ المسمّى واحد، وقد قيل: كانت مِن وِلْدِ هارون، كما يقال للرجل من قريش يا أخا قريش (٢) .

ويشرح المبشّرون هذه الناحية ويقولون: وَرَد في سورة مريم: ( فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً ) (٣) يبدو من هذه الآية أنّ مُحمّداً كان يرى أنّ مريم كانت أُخت هارون أخي موسى. وممّا يزيد هذا الأمر وضوحاً وجلاءً ما ورد في سورة التحريم ونصُّه: ( وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ ) (٤) وفي سورة آل عمران: ( إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً ) (٥) فلا شكّ أنّ مُحمّداً توهّم أنّ مريم أُخت هارون - التي كانت أيضاً ابنة عِمران (عمرام) - هي مريم نفسها التي صارت أُمَّ يسوع (المسيح عيسى) بعد ذلك بنحوِ ألف وخمسمِئة وسبعين سنة، وهذا خطأ جسيم؛ لأنّه لم يقلْ أحد من اليهود أنّ مريم أُخت هارون وابنة عمران بقيتْ على قيد الحياة إلى أَيّام المسيح (٦) .

هكذا وَهِم تسدال ومَن حذا حذوَه مِن المبشّرين! لكنّه وهمٌ فاحش؛ إذ كيف يمكن أنْ يخفى مثلُ هذا الفصل البيّن بين موسى والمسيح (عليهما السلام) على العرب العائشين في

____________________

(١) قصص الأنبياء للنجّار، ص٣٧٧ - ٣٧٨.

(٢) تنزيه القرآن عن المطاعن للقاضي عبد الجبار، ص٢٤٧.

(٣) مريم ١٩: ٢٧ - ٢٨.

(٤) التحريم ٦٦: ١٢.

(٥) آل عمران ٣: ٣٥.

(٦) مصادر الإسلام، ص١٠٢ - ١٠٤، والفنّ القصصي ص٥٧ - ٥٨.

٨٣

جِوار اليهود وبين أظهرهم طيلةَ قرونٍ، وكذا مُراودتهم مع نصارى نجران والأحباش، فضلاً عن نبيّ الإسلام النابه البصير ليَتصوّرَ مِن مريم أُمّ المسيح هي مريم أُخت موسى وهارون!

إذ مَن يعرف أنّ لموسى وهارون أُختاً اسمها مريم، لا يمكنه الجهل بهذا الفصل الزمني بين مَريَمين!

ثُمَّ كيف يَسكت اليهود - وهم ألدُّ أعداء الإسلام - على هذا الخطأ التأريخي الفاحش ولم يأخذوه شنعةً على القرآن والإسلام؟

هذا وقد وقع التساؤل عن هذا التشابه على عهد الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) على ما نقله السيّد رضيّ الدين ابن طاووس عن كتاب (غريب القرآن) لعبد الرحمان بن محمد الأَزدي الكوفي - من كبارِ رجال القرن الثالث - بإسناده إلى المغيرة بن شعبة، قال: بعثني رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) إلى أهلِ نَجران، فقالوا: أرأيتَ ما تقرأون (يا أُخت هارون) وهارون أخو موسى، بينه وبين عيسى المسيح بكذا وكذا؟ قال: فرجعتُ وذكرتُ ذلك لرسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) فقال: (أَلا أخبرتَهم (أو قلتَ لهم) أنّهم كانوا يُسمّون بالأنبياء والصالحين قبلهم!) (١)

وهكذا أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي وابن المـُنذر وابن أبي حاتم وابن حبّان والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن المغيرة بن شعبة... الحديث (٢) .

نعم وهِمَت عائشةُ أنّها أُخت هارون أخي موسى، فنبّهها كعبُ الأحبار بأنّها غيرها، والفصل الزمني بينهما كبير، وإنّما هو من تشابه الأسماء، فرجعتْ عن زعمها (٣) .

وذكر كعبُ أنّ الفصل الزمني بينهما ستمِئة سنة؛ ولعلّه مِن حذف الألف في نقل الرواة.

إذن، لم يكنْ ذلك خافياً على أهل النباهة في ذلك العهد، وهكذا في طول عهد الإسلام،

____________________

(١) سعد السعود، ص٢٢١.

(٢) الدرّ المنثور، ج٥، ص٥٠٧.

(٣) فيما رواه ابن سيرين، راجع: الدر المنثور، ج٥، ص٥٠٧.

٨٤

حتى يأتيَ تسدال وأضرابه مِن أهل السفاسف في مؤخّرة الزمان ليجعلوه شَنعةً على القرآن الكريم!!

والخلاصة، أنّ التسمية باسم الآباء والأُمّهات تشريفاً بهم شيء معروف كما جاء في كلام الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) ولا سيّما وهارون كان سيّدَ قومِه مُهاباً عظيماً له شأن في بني إسرائيل، وهو أُوّل رأس الكَهَنَة الذي ترأّس في اللاويين - أكبر قبائل بني إسرائيل - (١) .

أضف إليه أنّ أُمّ مريم - وهي أُخت اليصابات أُمّ يحيى - كانت من سبط لاوي من نسل هارون (٢) ، فهي من جهة الأُمّ منتسبةٌ إلى هارون، فالتعبير بأُختِ هارون، مُعاتَبَةً لها؛ حيث عُلِم أخذها بِحُرمة هذا النسب العالي، وهذا كما للتميمي: يا أخا تميم، وللهاشمي: يا أخا هاشم... رُوي ذلك (انتسابها إلى هارون) عن السدّي (٣) .

وهذا لا ينافي أنْ تكون مريم من جهةِ الأب منتسبةً إلى داود من سبط يهوذا (٤) ؛ لأنّ العقاب إنما يقع بأشرف الأبوين.

وهناك احتمال: أنّها شُبِّهت بمريم أُخت هارون وموسى؛ لمكان قَداستِها وكانتْ ذات وجاهةً عند قومها، وكانت تُدعى أيضاً بأُخت هارون، ويُعبّر عنها بالنبيّة كهارون أخيها (٥) ، وكانت أكبرَ من موسى بعشرِ سنين، وهي التي قالت لها أُمّها: قُصّيه، عندما قَذفت بتابوت موسى في النيل.

والمعنى: أنّك تماثلين الصدّيقة مريم أُخت موسى وهارون، فكان جديراً بك المحافظة على هذا المقام (٦) .

ابنة عمران

لمْ تذكرْ التوراة عن والدِ مريم شيئاً سِوى أنّها من سبط يهوذا من نسل داود، ولا بُعدَ أنْ يكون اسم والدِها عِمران (عمرام) وكانت التسمية بهذا الاسم شائعةً في بني

____________________

(١) راجع: قاموس الكتاب المقدّس، ص٩١٦.

(٢) المصدر: ص٧٩٥.

(٣) مجمع البيان، ج٦، ص٥١٢.

(٤) المصدر: ص٧٩٤ - ٧٩٥.

(٥) راجع: سِفر الخروج، إصحاح ١٥/٢٠.

(٦) راجع: تفسير نمونه، ج١٣، ص٥١.

٨٥

إسرائيل، وكان في حشد عزرا من كان يُسمّى بهذا الاسم (١) - كما لمْ يُنكر هذا الانتساب مُنذ العهد الأَوّل فإلى الآن - دليلاً على صحّة الانتساب.

وعلى أَيّ حالٍ فلا غَرْوَ أنْ يأتيَ القرآن بحديثٍ لمْ يأتِ مثله في كتب الأقدمين ولا عَرَفه أصحابُ الديانات المعاصرة لنزول القرآن، وقد نبّهنا أنّ القرآن يأتي بالصفو الصحيح من آثارِ الأنبياء والصدّيقين بما أعجب وأبهر، ولذلك يقول سبحانه: بشأن قصص الصدّيقة مريم: ( ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ) (٢) .

إذ جاءت قصّتها في كتب السابقين مشوّهة محرّفة، ولكنّها في القرآن نقيّة زاكية.

تأليه الصدّيقة مريم!

( وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ ) (٣) .

وهذا تعريضٌ بفرقةٍ مِن فِرَقِ النصارى قالوا بأُلوهيّة المسيح وأُمّه... الأمر الّذي أنكرته فِرَقُ النصارى اليوم، بحجّةِ أنّه لم توجدْ فرقة تعتقد أُلوهيّة مريم الغذراء!

لكنّ التأريخ يشهد بوجود فرقة أو فِرَقٍ من المسيحيّين الأَوائل كانوا يعتقدون بأُلوهيّتها إلى جَنب أُلوهيّة المسيح:

يقول عنهم ابن البطريق - الطبيب المؤرِّخ المسيحي (٢٦٣ - ٣٢٨ هـ/٨٧٧ - ٩٤٠م): (٤)

(وكانوا مختلفين في الآراء والأديان، فمنهم من كان يقول: إنّ المسيح وأُمّه إلهان من دون اللّه، وهم (البربرانيّة)... ويُسمَّون (الريمتيّين) (المريمانيّة)، ومنهم من كان يقول: إنّ المسيح مِن الأب بمنزلةِ شُعلة نارٍ انفصلت من شُعلةِ نارٍ، فلم تَنقص الأُولى بانفصال الثانية منها، وهي مقالة (سابليوس) وشيعته، ومنهم من كان يقول: لمْ تحبلْ بهِ مريم تسعةَ

____________________

(١) راجع: عزرا، إصحاح ١٠، عدد ٣٤.

(٢) آل عمران ٣: ٤٤.

(٣) المائدة ٥: ١١٦.

(٤) هو سعيد بن البطريق من أهل مصر، وُلِد بفُسطاطٍ، واُقيم بطريركاً في الإسكندريّة وسُمّي أنتيشيوس ( Entychius ) سنة ٣٢١ هـ ق، له كُتب في الطبّ والتأريخ ولا سيّما تأريخ المسيحيّة، كُتب عن فِرقِ النصارى وما بينهم من شقاقٍ وخلافٍ، راجع: الوافي بالوفيّات للصفدي (٧٦ هـ)، ج١٥، ص١٢٧، رقم ٤٨٥٨، والأعلام للزركلي، ج٣، ص١٤٤.

٨٦

أشهرٍ، وإنّما مرّ في بطنها كما يمرّ الماء في المِيزاب؛ لأنّ الكلمة دخلت في اُذُنِها وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها، وهي مقالة (إليان) وأشياعه، ومنهم من كان يقول: إنّ المسيح إنسانٌ خُلق مِن اللاهوت كواحدٍ مِنّا في جوهره، وأنّ ابتداء الابن من مريم، وأنّه اصطُفي ليكونَ مُخلِصاً للجوهر الإنسي، صَحِبتهُ النعمةُ الإلهيّة وحلّت فيه بالمحبّة والمشيئة، ولذلك سُمّي (ابن اللّه) ، ويقولون: إنّ اللّه جوهر قديم واحد وأقنوم واحد، ويسمّونه بثلاثة أسماءٍ، ولا يؤمنون بالكلمة ولا بروح القُدُس، وهي مقالة (بولس الشمشاطي) بطريرك أنطاكيّة وأشياعه وهم (البوليقانيّون)، ومنهم من كان يقول إنّهم ثلاثة آلهة لم تزلْ: صالحٌ وطالحٌ وعدل بينهما، وهي مقالة (مرقيون) هو رئيس الحواريّين وأنكروا بطرس، ومنهم من كان يقول بأُلوهيّة المسيح، وهي مقالة (بولس) الرسول ومقالة الثلاثمِئة وثمانية عشر أُسقفاً...

ولتصفية هذه الخلافات اجتمع في عام ٣٢٥ ميلاديّة (مجمع نيقيّة) عند الملك (قسطنطين) وبدعوةٍ منه، فاجتمع ألفان وثمانية وأربعون أُسقفاً، ودارتْ البُحوث، وقد اختار الإمبراطور الروماني (قسطنطين) - الذي كان قد دخل في النصرانيّة من الوثنيّة مُنُذ عهدٍ قريب ولم يكنْ يدري مِن النصرانيّة شيئاً - هذا الرأي الأخير (رأي بولس الرسول) وسلّط أصحابه على مخالفيهم، وشرّد أصحاب سائر المذاهب، وبخاصّة القائلين بألوهيّة الأب وحده، وناسوتيّة المسيح! (١)

وهكذا يقول يقول ابن حزم الأندلسي (٣٨٣ - ٤٥٦هـ) وهو قريبُ عهدٍ بابن البطريق - بعد شرح الخلافات بين طوائف النصارى أيّام قسطنطين وكان أَوّل من تنصّر من مُلوك الروم، فكان ممّا عَدَّ من تلك المذاهب والفِرق: البربرانيّة. قال: (ومنهم البربرانيّة، وهم يقولون إنّ عيسى وأُمّه إلهان من دون اللّه عزّ وجلّ: قال: وهذه الفرقة قد بادت...) (٢) .

____________________

(١) راجع ما كتبه سيد قطب بهذا الشأن (في ظِلال القرآن، ج٦، ص١١٧ - ١٢١، المجلّد الثاني، ص٦٨٥ - ٦٨٩) نقلاً عن كتاب محاضرات في النصرانيّة للشيخ محمد أبو زهره، وعن كتاب الأُمّة القبطيّة وغيره من مراجع.

(٢) الفِصَل في الملل والنحل، ج١، ص٤٨.

٨٧

ويكلّم الناس في المهد وكهلاً

جاء في القرآن في ثلاثة مواضع، تكلّمُ المسيح في المهد:

١ - في سورة آل عمران (الآية: ٤٦): ( وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ) .

٢ - في سورة المائدة (الآية: ١١٠): ( إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ) .

٣ - في سورة مريم (الآية: ٢٩): ( فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً ) .

ذكر الرازي أنّ النصارى أنكرت كلام المسيح في المهد، بحجّة أنّه لم يثبتْ عندهم وكانوا هم أَولى بنقله لو كان؛ لأنّه حادث عجيب وبرهان ساطع على صدق نبوّتِه، ولشَهدِه جمّ غفير، ونُقل بالتواتر لتوفّر الدواعي عليه، بما لا يمكن خفاؤه لكي يظهر على يد نبيّ الإسلام فحسب! (١) .

لكن هذا الاعتراض إنّما كان يَرِد لو كان أبناء المسيحيّة قد احتفظوا بمُستَنداتهم الدينيّة طُولَ عهدِ التأريخ ولم يُضيّعوها، ولم يَدَعوها على ذمّة التحريف والخلط والتبديل، على أنّهم مُنذ البدء لم يأخذوا ديانتَهم عن أصلٍ وثيق، ولا عرفوا شيئاً من حياة صاحب الرسالة إلاّ أقاويل وأساطير، فقد ضاعت عنهم كلُّ معالمِ الشريعة والصحيح من سيرة المسيح مُنذ بداية الأمر...

تلك الأناجيل الأربعة، ثلاثة منها (متّى، مرقس، لوقا) لم تحتفظ على معاجز المسيح (الثلاث والثلاثون معجزة) سِوى معجزة واحدة، وإنجيل يوحنّا لم تذكر منها سِوى سبع معاجز (٢) ، فأين الباقي؟

على أنّ هذه الأناجيل بينها اختلاف كبير وهي قريبةُ العهد بالتدوين، والعُمدة أنّها كُتبت في عهدٍ متأخّرٍ (بعد انتهاء أمر المسيح) فخلطتْ الحابلَ بالنابل، وكان فيها الغث والسمين، وبعد أنْ أفاق المسيحيّون من الاضطهادات التي كانت تتوالى عليهم نظروا في

____________________

(١) التفسير الكبير، ج٨، ص٥٢.

(٢) راجع: قاموس الكتاب المقدّس، ص٩٦٧.

٨٨

تلك الأساطير واختارت الكنيسة من بينها تلك التي لا تتعارض مع نزعتها وجعلتها رسميّةً، ولم تَكتَرث لِما بين مضامينها من التخالف والتناقض مادام ذلك لا يخالف المـَنزع العام الذي قصدته الكنيسة، والأناجيل جميعها منقطعة السند، ولا توجد نسخة إنجيل بخطِّ تلميذٍ من تلاميذ ذلك المؤلِّف ولا ما يضمن شُبهة صحّةٍ فيها (١) .

من ذلك الخلط الفاحش، إسناد (لوقا) التكلّم في المـَهد إلى يوحنّا المعمدان (يحيى بن زكريّا) بدلَ المسيح (عيسى بن مريم)، (٢) وسكت عنه سائر الأناجيل.

جاء في إنجيل لوقا: كان في أَيّام هيروديس - مَلِك اليهود - (٤ - ٤٠ - ق م) كاهنٌ اسمه زكريّا وامرأته من بنات هارون واسمها (اليصابات) وكانت عاقراً... فبينما زكريّا يَكهنُ في نوبةٍ فرفته أمام اللّه، إذ ظهر له مَلائكةُ الرّبِّ فبشّروه بيحيى... ولمـّا حبلت اليصابات أخفت نفسَها خمسة أشهرٍ، وفي الشهر السادس أُرسِل جبرائيل إلى مدينةِ ناصرة إلى العذراء مريم ليُبشِّرها بعيسى وقال لها: هاهي خالتك اليصابات أيضاً حُبلى بابنٍ في شيخوختها.

وفي تلك الأيام ذهبت مريم إلى مدينة يهوذا ودخلت على اليصابات وسلّمت عليها، وظلّت عندها ثلاثة أشهر ثم عادت إلى بيتها في الناصرة.

ولما تمّ زمان حمل اليصابات ولدتْ ابناً وسَمع الجيران والأقرباء وفرِحوا بذلك، وفي اليوم الثامن جاؤوا ليَختنوه وسمّوه يحيى - بإشارة من أبيه - وفي الحال انفتح فمُه ولسانُه، وتكلّم وبارك اللّه... فتعجّب الجميع من ذلك الحادث الغريب؟!

____________________

(١) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص٣٩٩.

(٢) كان لوقا طبيباً من أهل أنطاكيّة، ولم يرَ المسيح أصلاً وقد لُقِّن النصرانيّة عن (بولس)، وبولس هذا كان يهوديّاً متعصّباً على المسيحيّة ولم يرَ المسيح في حياته، وكان يُسيء إلى النصارى إساءات متواصلة، ولمـّا رأى أنّ اضطهاده للنصرانيّة لا يُجدي عَمَدَ من طريق الحيلة إلى الدخول فيها وإظهار الاعتقاد بالمسيحيّة، وادّعى أنّه صُرِع وفي حال صَرعه لمسه المسيح وزجره عن الإساءة إلى متابعيه، ومن ذلك الوقت آمن وأرسله المسيح ليُبشِّر بإنجيله (نظير ما اختلقه كعب الأحبار - الكاهن اليهودي - تعليلاً لإسلامه أيام عمر بن الخطاب) وانطلت حيلتُه على الكنيسة، وهو الذي جعل النصارى يمرقون من واجبات الناموس الذي جاء المسيح لتأييدها، فأباح لهم أكل المِيتة وشرابَ الخمور، وأنّ الإيمان وحده كان في النجاة بدون عمل... قصص الأنبياء للنجّار، ص٤٠٠.

وكان تأليف لوقا إنجيله بإيحاءات من شيخه بولس هذا الذي حاول التشويهَ في شريعة المسيح والحطَّ من قداسته، ومن ذلك نسبة الكلام في المـَهد - وهي نفحة قُدسيّة - إلى يحيى قبل أن يأتيَ عيسى المسيح، الأمر الذي اغترّ به أتباع المسيح من غير دراية.

٨٩

وأمّا مريم العذراء فلمـّا تمّ أيامُ حَملِها ولدت ابناً فقمّطتْه وأضجعته في المِذوَدِ... ولمـّا تمّت ثمانيةُ أيّام جاؤوا ليَختنوا الصبّي وسُمّي اليسوع... (١)

ولنَتساءل كاتب الإنجيل: هل كانت هناك ضرورة تدعو إلى تكلّمِ يحيى في اليوم الثامن من ولادته؟ (مع العلم أنّ المعجزات خوارق للعادات لا تظهر على يدِ أولياء اللّه إلاّ حينما تدعو الضرورة إليه!).

والصحيح أنّه من سهوِ الكاتب إنْ لم يكن هناك عَمْدٌ.

* * *

هذا، وليس في القرآن تصريحٌ بأنّ المسيح تكلَّمَ في المـَهد حال رضَاعِه وقبل أوان الكلام؛ ذلك أنّ اللّه امتنّ على المسيح إذ أيّده بروح القُُدُس، ومنحَ له عقلاً وافراً يكلّمُ الناس - بكلامٍ معقولٍ - مُنذ طفولتِه فإلى أوان كهولته، فكان(عليه السلام) مُنذ صِغَره زكيّاً بارعاً وافرَ العقل، ينطقُ كما ينطق الرجل الخبير، وسنذكر مُحاجّتَه مع العلماء في أروشليم مُذ بلغَ من العُمر اثنتي عشرة سنة، بحيث أعجبَ الجميعَ كلامُهُ، فخافت مريمُ عليه وعنّفتْه على ذلك (٢) .

وهذا هو الظاهر من قوله تعالى: ( إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ) (٣) .

أخرج الطبري بإسناده إلى سعيد بن جبير عن قُتادة قال: يكلّمُهم صغيراً وكبيراً، وهكذا أخرج بإسناده إلى الربيع بن أنس، وعن ابن جُريج قال: كلّمهم صغيراً وكبيراً وكهلاً... (٤)

وهذا كقولهم: (اطلبوا العلمـَ مِن المـَهد إلى اللَحد) أي مُنذ الصِغَر فإلى نهاية الكِبَر، والمـَهد كناية عن حالة الصبّي في نُعومة أظفاره ورخاوة هندامه، فيضطجع فيما مُهِّد له من مضجعٍ ناعم فارهٍ.

____________________

(١) إنجيل لوقا، إصحاح، ١ و٢.

(٢) قصص الأنبياء للنجّار، ص٣٨٧، وسنذكر الحديث بتفصيله.

(٣) المائدة ٥: ١١٠.

(٤) جامع البيان، ج٣، ص١٨٨.

٩٠

مريم تعودُ بابنها وقد جاوزَ سنَّ الرضَاعة

على أنّ مريم لمـّا جاءت بالمسيح كان قد تجاوزَ دَورَ الرضَاعة الأُولى بعد مدّة طويلة مِن ولادتِهِ.

جاء في إنجيل متّى: ولمـّا وُلِد يسوع في بيت لحم في أيام هيروديس المـَلِك، جاءت جماعة من المجوس ليقدّسوه وعَلم المـَلِك بذلك، واستفسر من الكَهَنة عن مولدهِ فأنبأوهُ بمكانِ ولادتِه وكان قد همَّ بقتلِه، وقال للمجوس إذا عِرفتُموه فأخبروني لكي اُقدّسَهُ معكم.

أمّا المجوس فوجدوه في بيت لحم مع أُمّهِ مريم، فخرّوا وسجدوا له وقدّموا هداياهم، ورَجعوا مُنصرفينَ على غير طريق المـَلِك.

وبعد ما انصرفوا إذا مَلائكة الرّبِّ قد ظهروا ليوسف - خطيب مريم - في حُلُمٍ وأمروه أنْ يهربَ بالصبيّ إلى مكان بعيد لا يعرفونه؛ خوفاً على الصبيّ من السلطان، فلمـّا مات المـَلِك أُلهِم يوسف بأنْ يرجع مع الصبيّ إلى أرضِ إسرائيل، وقد كان (أرخيلاوس) مَلِك اليهود، فخاف يوسف وعرَّج على نواحي الجليل وسكن في مدينة يقال لها ناصرة (١) .

وفي أنجيل برنابا نفس العبارة مع شيء مِن التوضيح:

(ولمـّا مات هيروديس ظهر مَلاك الربِّ في حُلُمٍ ليوسف قائلاً: عُد إلى اليهوديّة؛ لأنّه قد مات الذين كانوا يريدون قتل الصبّي، فأخذ يوسف الطفل ومريم - وكان الطفل بالغاً سبع سنين من العمر - وجاء إلى اليهوديّة، حيثُ سَمِع أنّ أرخيلاوس بن هيروديس صار حاكماً فيها، فذهب إلى الجليل لأنّه خاف البقاء في اليهوديّة (أورشليم) فذهبوا ليسكنوا في الناصرة.

وهكذا يبدو من ظاهر تعبير القرآن: قال تعالى: ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً . .....

قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً...

____________________

(١) إنجيل متّى، إصحاح ١ و٢.

٩١

فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً...

فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ... ) (١) .

يبدو من هذه الآيات أنّ مريم اختارت لعبادتها أرضاً غير آهِلةٍ بعيدةً عن مساكن أهلها؛ لتختلي بعبادةِ ربِّها دونَ أعين الناظرين، وفي هذا الدور جاءها مَلاك الربّ ليُبشّرها بالمسيح، ولمـّا حملتْ به أخذت تَبتعدُ أكثر خوفَ الفضيحة، وكان هناك (في المكان القصّي) نخل ومعينُ ماء، فوضعتْ حَملَها هناك بعيداً عن الناس كافّة، وأمرها المـَلاك أنْ لا تتكلّم مع أحدٍ يمرُّ عليها أو تمرّ عليه؛ بحجّة أنّها صائمة صومَ صمتٍ، فكانت مختليةً بنفسها وولَدِها، يعيشان في هدوء وفراغة بالٍ بعيداً عن هرج العامّة. ( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ) (٢) .

وكم عاشا هناك في خَلأ من الناس؟

يبدو أنها لم تَعِش هناك سِوى سنتين أو ثلاث؛ لأنّها حين رجعت إلى قومها كانت تَحمل طفلَها، ولابدَّ أنّ الطفل عندما يبلغ مثلَ هذا السنّ قادر على التكلّم، وليس ذلك بغريب، أمّا قولهم: فلعلّه من جهة أنّهم استغربوا أنّها جاءت بولدٍ وهي غير متزوّجة، فلابدّ أنّها هي المجيبة على ذلك، وليس الطفل - الذي هو نِتاج الحَمل - بِمسؤولٍ ولا قادرٍ على حلّ الإشكال. فالطفل غير عارف بسبب هذا الإنتاج، فلا معنى للسؤال منه!

لكنّهم عندما واجهوا كلام المسيح في رَزانة وتعقّل متين عرفوا أنّ ذلك آية من آيات اللّه، فلا موضع للاستغراب!

____________________

(١) مريم ١٩: ١٦ - ٣٠.

(٢) المؤمنون ٢٣: ٥٠.

٩٢

هذا ولم يتكلّمْ من أصحابِ الأناجيل عن الحَمل بالمسيح وولادته شيئاً يُذكر سِوى ما جاء - باختصارٍ وإجمالٍ - في متّى (١ ص١: ١٨) ولوقا (١ ص١: ٢٧ - ٣٢).

عيسى يحاجّ العلماء في سنٍّ مبكّرٍ

جاء في إنجيل برنابا (١ ص٢: ١ - ١٥): (ولمـّا مات هيروديس ظهر مَلاك الربِّ في حُلُم ليوسف قائلاً: عُد إلى اليهوديّة (أورشليم)؛ لأنّه مات الذين كانوا يريدون موت الصبيّ، فأخذ يوسف الطفل ومريم - وكان الطفل بالغاً سبع سنين من العمر - وجاء إلى اليهوديّة، حيث سمع أنّ أرخيلاوس بن هيروديس كان حاكماً في اليهوديّة، فذهب إلى الجليل؛ لأنّه خاف أن يبقى في اليهوديّة، فذهبوا ليسكنوا في الناصرة. فنما الصبيّ في النعمة والحِكمة أمام اللّه والناس.

ولمـّا بلغ يسوع اثنتي عشرة سنة من العمر صعد مع مريم ويوسف إلى أورشليم؛ ليسجد هناك حسب شريعة الربّ المكتوبة في كتاب موسى، ولمـّا تمّت صلواته انصرفوا بعد أن فقدوا يسوع؛ لأنّهم ظنّوا أنّه عاد إلى الوطن مع أقربائهم ولذلك عادت مريم ويوسف إلى أورشليم ينشدان يسوع بين الأقرباء والجيران.

وفي اليوم الثالث وجدوا الصبيَّ في الهيكل وسطَ العلماء يحاجّهم في أمر الناموس، وأُعجبَ كلّ أحدٍ بأسئلته وأجوبته، قائلاً: كيف أُوتي مثل هذا العلم وهو حَدث ولم يتعلّم القراءة؟ فعنّفته مريم قائلةً: يا بنيّ ماذا فعلت بنا، فقد نشدتُك وأبوك ثلاثة أيّام ونحن حزينان، فأجاب يسوع: أَلا تعلمين أنّ خدمة اللّه يجب أنْ تُقدّم على الأب والأُمّ، ثمّ نزل يسوع مع أُمّه ويوسف إلى الناصرة، وكان مطيعاً لهما بتواضع واحترام... (١)

ولعلّ هذا هو المراد بتكلّمه مع الناس صغيراً وكبيراً ( في المهد وكهلاً ) ... واللّه العالم.

الكُهولة هو تخطّي الثلاثين

قال الراغب: الكَهْلَ مَن وَخَطه الشيبُ، (٢) أي خالطَ سوادَ شَعَره، وهو الذي تخطّى الشبابَ وحانتْ مشيبتُه.

____________________

(١) قصص الأنبياء للنجار، ص٣٨٦ - ٣٨٧.

(٢) المفردات للراغب الإصبهاني، مادة (كَهَل).

٩٣

والمعروف أنّ المسيح (عليه السلام) أُرسِل إلى الناس عندما بلغ ثلاثين سنة، ورُفع إلى السماء بعد ثلاث سنين (١) .

لكنْ الشباب قبل بلوغ ثلاثين عاماً، وعنده يأتي دور الكُهُولة حتّى نهاية الأربعين.

قال الجوهري - في الصحاح -: الكَهْل من الرجال الذي جاوزَ الثلاثين ووَخَطه الشيب، وقال ابن الأثير - في النهاية -: الكَهْل من الرجال مَن زاد على ثلاثين سنة إلى أربعين، فما بين الثلاثين والأربعين هي سنّ الكهولة.

ويبدو من كلام أهل اللغة أنّ الكُهُولة هي السنّ التي تجتمع فيها القِوى، ويكون المـَرء في أجمع قواه ما بين سنّ الثلاثين فإلى أربعين.

قال ابن فارس: الكاف والهاء واللام أصل يدلّ على قوّة في الشيء أو اجتماع جبلّةٍ، من ذلك الكاهل: ما بين الكتفَين، سُمّي بذلك لقوّته، ويقولون للرجل المـُجتمِع إذا وَخَطه الشيب: كَهْلٌ وامرأة كَهْلةٌ (٢) ، قال أبو منصور الثعالبي: يقال للرجل إذا اجتمعت لحيتُه وبلغ غايةَ شبابِهِ: مجتمِع (٣) .

التبشير بِمَقدم رسول الإسلام مُحمّد (صلّى الله عليه وآله)

( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) (٤) .

أنكروا وجود هذه البِشارة في بشائر المسيح (عليه السلام)؛ بحجّةِ خلوّ الأناجيل عنها!!

لكن البِشارة موجودة، والقوم حرّفوها في التراجم تحريفاً.

جاء التبشير بِمَقدم سيّدنا مُحمّد (صلّى الله عليه وآله) في وصايا المسيح (عليه السلام) للحواريّين والذين اتّبعوه بلفظةٍ تدلّ على وصف المـُبَشّر به بأنّه (كثير المـَحمَدَة) المـُنطَبِقة مع لفظةِ (أحمد) وهو أفعل التفضيل من الحَمد.

____________________

(١) تفسير آلاء الرحمان للبلاغي، ج ١، ص ٢٨٤.

(٢) معجم مقاييس اللغة لابن فارس، ج ٥، ص ١٤٤.

(٣) فقه اللغة وسِرّ العربية للثعالبي، ص ١١١.

(٤) الصفّ ٦١: ٦.

٩٤

وكانت لغةُ المسيح التي بَشّر بها هي العِبرانيّة، وهي لغةُ إنجيل يوحنّا الذي جاء فيه هذا التبشير، لكنّها تُرجِمت إلى اليونانيّة ولم يُعرف المـُترجم ولا سبب التَرجمة إليها... وضاع الأصل ولم يَعد له وجود حتّى الآن.

والتَراجم الموجودة حاليّاً هي تراجم عن النُسَخ اليونانيّة.. والبِشارة في اليونانيّة كانت بلفظة (بير كلوطوس) ومعناها: (الذي له حمدٌ كثير).

لكن القوم حرّفوا اللفظة إلى (باراكلي طوس) لتُتَرجم إلى المـُبشَّر أو المـُسلَّى أو المـُعزَّى (١) وجاء تعريبُها (فار قليطا) كما هو معروف.

* * *

يقول الأستاذ النجّار: كنتُ في سَنة ١٨٩٣ - ١٨٩٤ ميلاديّة طالباً بدار العُلوم في السَنة الأُولى، وكان يجلس بجانبي - في درس اللغة العربيّة - العلاّمة الكبير الدكتور (كارلونلينو) المـُستَشرق التلياني، وكان يحضر درس اللغة العربيّة بتوصيةٍ من الحُكومة الإيتاليّة.

فانعقدت أواصر الصُحبة المتينة بيني وبينه، وكان المرحوم (أحمد بك نجيب) يُعطي محاضراتٍ في الانفتياتر والعمومي، وكنّا نَحضَرُها ونُعطي مَلازِمَ من كتابهِ (الأثر الجليل في قدماء وادي النيل)، ففي ليلةِ السابع والعشرين من شهر رجب سنة ١٣١١ خرجنا بعد المحاظرة وسُرنا في (درب الجماميز)، فقال لي الدكتور (نلينو): هذه الليلة ليلة المِعراج؟ قلت: نعم. فقال: وبعد ثلاثة أيام عيد السيّدة زينب؟ فقلت: نعم...

ثم قلت له - وأنا أعلم أنّه حاصل على شهادة الدكتوراه في آداب اليهود اليونانيّة القديمة -: ما معنى (بيريكلتوس)؟ فأجابني بقوله: إنّ القَسَسَ يقولون: إنّ هذه الكلمة معناها (المـُعَزّى). فقلت: إنّي أسأل الدكتور (كارلونينو) الحاصل على الدكتوراه في آداب اللغة اليونانيّة القديمة ولستُ أسأل قسّيساً! فقال: إنّ معناها: (الذي له حمدٌ كثير)، فقلت:

____________________

(١) جاء في إنجيل يوحنّا، إصحاح ١٥ / ٢٦ و ٢٧: ومتّى جاء المـُعَزّى الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحقّ الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضاً؛ لأنّكم معي من الابتداء.

وفي إصحاح، ١٦ / ٧: لكنّي أقول لكم الحقّ، إنّه خير لكم أنْ أنطلق؛ لأنّه إن لم انطلق لا يأتيكم المعزّى، ولكن إنْ ذهبت أرسله إليكم.

وفي النسخة الفارسيّة جاءت عبارة)تسلّى دهنده): أي المـُسلّي.

٩٥

هل ذلك يُوافق أفعل التفضيل مِن حَمَدَ؟ فقال: نعم! فقلت: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من أسمائه (أحمد)، فقال: يا أخي أنت تحفظُ كثيراً... وقد ازددت بذلك تثبّتاً في معنى قولهِ تعالى حكايةً عن المسيح: ( وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) (١) .

وقال الحجّة البلاغي: الكلمة في الأصل اليوناني (بير كلوطوس) الذي تعريبه (فيرقلوط) بمعنى (كثير المـَحمَدَة) الموافق لاسم (أحمد) و (مُحمّد)، لكنّهم صححّوه - حَسَبَ زعمهم - إلى (بيراكلي طوس) ويعبّرون عنه بـ (فارقليط) كما عن التَراجم المطبوعة بلندن سنة (١٨٢١ و ١٨٣١ و ١٨٤١م) ومطبوعةِ وليم بلندن (١٨٥٧م) على النُسخة الروميّة المطبوعة سنة (١٦٦٤م)، والتَرجمة العبريّة المطبوعة سنة (١٩٠١م)، لكن أبدلهُ بعض المترجمين إلى لفظة (المـُعَزّى) أو (المـُسلَّى) وشاع ذلك (٢) .

* * *

وذكر مُحمّد بن إسحاق المؤرِّخ الإسلامي المعروف صاحب السيرة النبويّة المتوفّى سنة (١٥١هـ) نقلاً عن إنجيل يوحنّا أنّ كلمة البِشارة كانت بالسريانيّة (المـُنْحَمَنّاً)، وهي بالروميّة (البَرَقليطس)، (٣) يعني: مُحمّداً (صلّى الله عليه وآله).

قال: وقد كان فيما بلغني عمّا كان وَضْعُ عيسى بن مريم فيما جاءه من الله في الإنجيل لأهلِ الإنجيل من صفةِ رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ممّا أثبت لهم (يُحنّس) الحواري (٤) لهم حين نُسِخ لهم الإنجيل عن عهد (٥) عيسى بن مريم (عليه السلام) في رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: (من أبغضني فقد أبغض الربَّ، ولولا أنّي صنعتُ بحضرتهم صنائعَ لم يصنعْها أحد قبلي ما كانت لهم خطيئة، ولكن من الآن بَطِروا وظنّوا أنّهم يُعزّونَني، (٦) وأيضاً للربّ، ولكن لابدَّ مِن أنْ تتمَّ الكلمة التي في الناموس: أنّهم أبغضونني مجّاناً (٧) أي باطلاً، لو

____________________

(١) هامش قصص الأنبياء للنجّار، ص ٣٩٧ - ٣٩٨، والآية ٦ من سورة الصفّ.

(٢) راجع: الرحلة المدرسيّة للبلاغي، ج ٢، ص ٣٣.

(٣) ولعلّه يقصد بالروميّة اليونانيّة، حيث اتصال العرب باليونان يومذاك كان عن طريق الروم الشرقيّة.

(٤) ولعلّه محرّف (يوحنّى)؛ حيث البِشارة بذلك موجودة في إنجيل يوحنّا، إصحاح ١٥ / ٢٦.

(٥) ظاهر العبارة أنّ هذا الإنجيل كُتب متأخّراً عن عهد المسيح (عليه السلام) وهو كذلك؛ لأنّ الأساقفة اجتمعوا عند يوحنّا سنة ٩٦ وقيل: ٦٥، والتمسوا منه أنْ يكتب لهم عن المسيح وينادي بإنجيل ممّا لم يكتبه أصحاب الأناجيل الأُخر (راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص ٤٠١).

(٦) أي يغلبونَني.

(٧) وجاءت عينُ العبارة في إنجيل يوحنّا، إصحاح ١٥ / ٢٣ - ٢٥ هكذا: (الذي يَبغضُني يَبغض أبي أيضاً. لو لم أكنْ قد

٩٦

قد جاء (المـُنْحمنّا) هذا الذي يُرسلُه الله إليكم من عند الربّ روح القُدُس، وهذا الذي مِن عند الربّ خرج، فهو شهيد عليَّ وأنتم أيضاً؛ لأنّكم قديماً كنتم معي، في هذا قلت لكم لكيما لا تشكّوا (١) .

وهذه العبارة الأخيرة أيضاً جاءت في إنجيل يوحنّا، هكذا: ومتّى جاء (المـُعَزّى) الذي سأرسلُه أنا إليكم من الأب روح الذي من عند الأب ينبثق، فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضاً؛ لأنّكم معي في الابتداء (٢) .

قال ابن إسحاق: والمـُنحمنّا بالسريانيّة: مُحمّد، وهو بالروميّة: البرقليطس (صلّى الله عليه وآله).

انظر إلى هذه التطابق مع إنجيل يوحنّا قبل اثني عشر قرناً، وكيف حصل التحريف في لفظهِ إلى (المـُعَزّى) وغيره.

قِصّة الصّلب

جاءت قصّةُ صَلبِ المسيح (عليه السلام) والأسباب التي دعت إلى صَلبه في الأناجيل مختلفةً أشدّ الاختلاف، فلا تكاد جزئية من الجزئيّات في أحدها تتحدّ مع الجزئيّة نفسها في إنجيل آخر.

ولمـّا كانت هذه الأناجيل من تأليف أُناس يدّعي المسيحيّون لهم الإلهام ويعتقدون خلوّها من الخطأ، كان ينبغي أنْ تكون كُتُبهم في مثل هذه الحادثة المهمّة - التي هي مناط النجاة ومدعاة الإيمان في نظرهم - متطابقةً متوافقةً، بحيث لا يكون فيها اختلاف أصلاً؛ إذ النفس لا تطمئنّ إلى الأخذ بروايات جاءت بشأن قضيّةٍ واحدةٍ إذا اختلفت وتضارب بعضها مع البعض، الأمر الذي يُنبئ عن عدم أمانة الراوي كلَّ الأمانة، وتزول الثقة بروايتهِ، فلم يجز التصديق بها في نظر الاعتبار.

____________________

عملتُ بينهم أعمالاً لم يعملْها أحد غيري لم تكن لهم خطيئة، وأمّا الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي، لكن لكي تتمّ الكلمة المكتوبة في ناموسهم: إنّهم أبغضوني بلا سبب...).

(١) راجع: سيرة ابن هشام، ج ١، ص ٢٤٨؛ والروض الأنف، ج ١، ص ٢٦٤.

(٢) إصحاح ١٥ / ٢٦ - ٢٧.

٩٧

وقد فصّل الكلام الأستاذ النجّار عن هذا الاختلاف الفاحش، وأبانَ مواضعَ التناقضِ والتهافتِ بين الأناجيل بشأن قصّةِ الصَلبِ، قال: لم تختلف الأناجيل الأربعة في مسألةٍ من المسائل كاختلافها في تفصيلِ مسألةِ صَلب المسيح وقتلهِ (١) .

قال: إنّ أدنى نظر يَهدي إلى أنّ عبارات هذه الأناجيل الأربعة متخالفة، وشهادتها لا تصلح أنْ تكون مُستنداً يَثبت به أمرٌ له مِن الأهميّة مثل ما لمسألةِ صَلبِ المسيح التي يدّعيها المسيحيّون ويجعلونها أساسَ إيمانهم:

١ - إنّ (متّى) يقول: إنّ يسوع جاء مع تلاميذه إلى قرية (جثيماني). ووافقه (مرقس)، وخالفهما (لوقا) وقال: إلى جبل الزيتون. وقال (يوحنّا): عِبر وادي (قدرون).

٢ - وقال (متّى): ثُمّ أخذ معه (بطرس) وابني (زبدى) وابتدأ يَحزن ويَكتئب، ووافقه (مرقس)، وخالف (لوقا) في ذلك وذكر أنّه انفصل عنهم رمية حجرٍ وصار يُصلّي، وأسقط (يوحنا) هذه العبارة.

٣ - ذكر (متّى) أنّه قال لمن معه: (نفسي حزينة حتّى الموت، امكثوا هاهنا واسهروا معي) ثُمّ راجعهم فوجدهم نياماً وهكذا للمرّة الثانية والثالثة فأنبأهم للمرّة الثالثة أنّ (ابن الإنسان) - يعني نفسه - سُلِّم إلى أيدي خُطاة، ثُمّ قال: قوموا نتطلّق هوذا الذي يُسلمني قد اقترب. وعبارة (مرقس) توافق عبارة (متّى) في المعنى.

وأمّا (لوقا) فزاد: أنّ مَلَكاً من السماء نزل إلى المسيح يُقويه، وأنّه كان يصلّي بأشدِّ لجَاجةٍ وصار عرقُهُ كقطراتِ دمٍ، وأسقط مجيئَه إلى التلاميذ للمرّة الثالثة.

وأمّا (يوحنا) فقد أسقط ذلك كلّه ولم يَذكر شيئاً منه، وهو أحد الثلاثة الذين انفرد بهم يسوع عن سائر التلاميذ، وهو دليل على عدم حصول شيء من ذلك.

٤ - قال (متّى): وفيما هو يتكلّم إذا يهوذا أحد الإثني عشر قد جاء ومعه جمعٌ كثير بسيوف وعصيٍّ من عند رؤساء الكَهَنة وشيوخهم وشيوخ الشعب، والذي سلّمه أعطاهم علامةً قائلاً: هو هو امسكوه، فلِلوقتِ تقدّمٌ إلى يسوع وقال: السلام عليك يا سيّدي وقبّله،

____________________

(١) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص ٤٣٣ - ٤٥٢.

٩٨

فقال يسوع: يا صاحب لماذا جئت؟ حينئذٍ تَقدّموا وألقوا الأيادي على يسوع وأمسكوه.

وافق (مرقس) (متّى) في المعنى، وقال (لوقا): إنّ المسيح قال: يا يهوذا أبِقُبلةٍ تُسلم ابن الإنسان؟! بدل قوله (يا صاحب لماذا جئت). وزاد: إنّ المسيح خرج إليهم وقال: مَن تطلبون؟ قالوا: يسوع الناصري، فقال لهم: أنا هو، فرجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض. ثم أعاد سؤاله وأعادوا الجواب، ثم قال: فإن كنتم تَطلبونَني فَدَعُوا هؤلاءِ يذهبون.

٥ - ذكر (متّى) أنّهم قبضوا على يسوع، ثُمّ أنّ بطرس استلّ سيفه وضرب عبدَ رئيس الكَهَنة فقطع أُذُنَه، حينئذٍ تركه التلاميذ كلّهم وهربوا، أمّا (مرقس) فلمْ يَذكر هربَ التلاميذ، وأمّا (لوقا) فانفرد عن الجميع بأنّ المسيح لَمَسَ أُذُنَ العبد وأبرأها.

٦ - يقول (متّى): إنّ الذين أمسكوا يسوع مضوا به إلى (قيافا) رئيس الكَهَنة. وأمّا (يوحنّا) فقال: إنّهم أوثقوه وذهبوا إلى (حنّان) حما (قيافا).

٧ - ذكر (متّى) أنّ رؤساء الكَهَنة والشيوخ والجمع كلّه كانوا يَطلبون شهادةَ زُورٍ على يسوع فلمْ يجدوا، ومع أنّه جاء شهودُ زُورٍ كثيرون لم يجدوا.

قال الأُستاذ النجّار: انظروا إلى هذا الكلام الغَلق المتناقض كلَّ التناقض، إذا كانوا طلبوا شهود زُورٍ فلم يجدوا فيكف يقول بعد ذلك: (ومع أنّه جاء شهود زُورٍ كثيرون لم يجدوا)؟!

٨ - المفهوم صراحةً من عبارة (متّى) و (مرقس) أنّ المـُحاكمة كانت ليلاً عَقِب القبض على المسيح ووصوله إلى دار رئيس الكَهَنة، ولكن (لوقا) و (يوحنّا) جعلا المـُحاكمة صباحاً.

٩ - قال (يوحنّا): وكانت واقفات عند صلب المسيح أمّه وأخت أمّه وكلّم المسيح مع أنّه، وقد انفرد (يوحنّا) يذكر هذه العبارة. وأمّا (لوقا) فلم يذكر قرب أحد من معارفه إليه ولم يشر إليهم بكلمة ولم يَذكر (مرقس) أحداً من معارفه نظر حادثة الصَلب من قريب.

٩٩

١٠ - ذكر (متّى) أنّ حجاب الهيكل قد انشقّ إلى نصفين اثنين من فوقٍ إلى أسفلٍ حين أسلم المسيحُ الروحَ، والأرض تزلزلت والصخور تشقّقت والقبور تفتّحت، وقام كثيرٌ من أجساد القدّيسين الأموات، وأمّا (مرقس) فقد أهملَ هذا القول كلّه ولم يذكر منه شيئاً، وقال (لوقا): واظلمت الشمس وانشقّ حجاب الهيكل، ولم يَذكر زلزلةَ الأرض ولا غير ذلك ممّا ذكره (متّى).

وعدّد الأستاذ النجّار أكثرَ من ثلاثينَ موضعاً خالفتْ فيها الأناجيل، وعقّبها بقوله: أراني قد مَلَلتُ جدّاً من إيرادِ الأقوال المتخالفة بهذا الشأن، وأظنّ أنّ القارئ قد سَئِم كما سَئِمتُ، ولو ذهبتُ في هذا الشوط اُعدّد هذا التضادّ بين الأناجيل لأضعت وقتاً ثميناً.

قال: وبعد ذلك فهل يظنّ ظانّ أنّ مُحمّداً (صلّى اللّه عليه وآله) هو الذي ابتدع مسألة نفي صَلب المسيح؟ (١)

وإذا نظرنا إلى مسألة صَلب المسيح وقتلَه لم نجدْها عند المسيحيّين إجماعيّة، بل وُجِد مِن طوائف المسيحييّن مَن ينفي الصَلب والقتل. منهم: (الساطرينوسيون) و(الكاربو كراتيون) و(المركيونيّون) و(البارديسيانيون) و(التاتيانسيون) و(البارسكاليونون) و(البوليسيون)... وهؤلاءِ مع كثيرينَ غيرهم لم يُسلِّموا بوجهٍ من الوجوه: أنّ المسيح سُمِّر فعلاً ومات على الصَليب.

وما ذكرنا هنا مقرّر في تأريخهم الذي يُدرَّس في مدارس اللاهوت الإنجيليّة باسم (موسى هيم). وهناك شهادات من علماء النصرانيّة تفيد المطّلع بصيرةً:

١ - قال الميسو (ارادوار سيوس) الشهير - أحد أعضاء (الانسيتودي فرانسي) في باريس والمشهور بمعارضة المسلمين - في كتابه (عقيدة المسلمين في بعض مسائل النصرانيّة، ص٤٩): إنّ القرآن ينفي قتلَ عيسى وصَلبَه، ويقول بأنّه شبّهه على غيره فغَلطَ اليهودُ فيه وظنّوا أنّهم قتلوه، قال: وما قاله القرآن موجودٌ عند طوائفٍ من المسيحيّين، منهم (الباسيليديون) كانوا يعتقدون أنّ عيسى وهو ذاهب لمحلّ الصلب ألقى الشبه على

____________________

(١) بل لم يكن له غاية من هذا النفي، ولعلّ إثباته أنفع له؛ حيث اليهود الّذين واجههم كانوا يَقتلون الأنبياء بغير حقٍّ. فكانت حادثةُ صَلب المسيح على أيديهم أدلَّ شيء على هذا المدّعى، الأمر الذي يدلّ على أنّ مُحمّداً (صلّى اللّه عليه وآله) كان على وضعِ بيان الحقيقة لا غير.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578