السقيفة

السقيفة0%

السقيفة مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 211

السقيفة

مؤلف: العلامة المجدد الشيخ محمد رضا المظفر
تصنيف:

الصفحات: 211
المشاهدات: 41546
تحميل: 11283

توضيحات:

السقيفة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 211 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 41546 / تحميل: 11283
الحجم الحجم الحجم
السقيفة

السقيفة

مؤلف:
العربية

الارادة والاضطراب في الرأي والتدبير. وكل ذلك كان ظاهراً على الأنصار في اجتماعهم بالسقيفة.

والشاهد على ذلك: انقسامهم على انفسهم وانسحابهم امام خصومهم كما سترى، وأعظم من ذلك تنازلهم الى الشركة في الأمر من قبل أن ينازعهم منازع، اعني قبل مجيء جماعة المهاجرين اليهم، إذ قال قائلهم:( فانا نقول إذن أي عندما ينازعوننا منا أمير ومنكم أمير، ولن نرضى بدون هذا أبداً)، فقال لهم سعد: (هذا اول الوهن). والحق انه اول الوهن وآخره. ثم يستمر معهم هذا التنازل حتى مجيء المهاجرين، فكرروا هذه الكلمة بالرغم على تنبيه سعد لهم انها من الوهن.

وهذا يكشف ايضا عن سماحة في نفوسهم ولين في طباعهم، ويصدق ما قلناه انهم مدافعون اكثر منهم مهاجمين، فلم يطلبوا الامارة ليملكوا مقدرات الأمة وشئونها بل ليدفعوا ضرر من يخافون ضرره، فاكتفوا بالشركة التي يحصل بها الغرض من الدفاع.

والانصاف ان الأنصار لا ينكر ما هم عليه من استكانة واستخذاء وقصر الرأي والتدبير، وضعف في العزائم، ولا سيما امام دهاء قريش وقوتها، وان حاول بعضهم وهو الحباب بن المنذر ان يسترهذا الضعف. إذ قال في خطابه

١٠١

ذلك اليوم:( يا معشر الأنصاراملكوا عليكم أمركم فان الناس في فيئكم وفي ظلكم ولن يجترئ مجترئ على خلافهم ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم. وأنتم اهل العزة والثروة...).فاطرد خطبته على هذا الاسلوب زاعما ان سيرفع من منعتهم وبأسهم ويسد خللهم، ونهاهم عن الاختلاف وحذرهم عواقبه حتى قال:( فان أبى هؤلاء فمنعكم أمير ومنهم أمير). ولكنه كما ترى بينا هو محلق في السماء رفعه وتعاظما ويملي ارادته قوة إذا به يهبط الى الحضيض ضعفا، إذ يقول:( فان ابى هؤلاء ..) ونقول له: فان ابى هؤلاء الشركة ايضا فما أنتم صانعون؟ لاشك ان ذلك الضعف الذي يملي عليه التنازل هو ذلك الضعف عينه موجود ايضا سيملي عليه التنازل عن جميع الامر، كما وقع.

وهذا من تنازل الخائر المغلوب على امره وتدبيره. وكانت عليه بذلك الحجة الظاهرة، فقال له عمر بن الخطاب:( هيهات لايجتمع اثنان في قرن) أو ما ينسق على هذا المعنى، على ان الحباب هذا من أقوى من وجدنا يومئذ واشجعهم قلباً وأجرأهم لسانا، وأغلظهم على المهاجرين، لولا سعد بن عبادة.

الى هنا لعلنا لمسنا شيئا من نفسية الأنصار ادركنا مقدار الضعف في نفوسهم، والوهن في عزائمهم، والاضطراب في

١٠٢

تدبيرهم. كيف وقد تجلى ذلك في الحباب لسانهم المفوه وخطيبهم المصقع ذلك اليوم، وهو أقوى شكيمة واكثرهم إعتداداً بنفسه وقومه، وكان يدعى بينهم( ذا الرأي).

بقي علينا ان ندرك لماذا كل هذا الحذر من الحباب من اختلافهم إذ يقول:( ولا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم وينتقض عليكم أمركم)؟ لابد انه كان يحس بشرارة الخلاف تقدح، ويتوجس خيفة من الانتقاض وهذا ما سنبحث عنه في الاتي.

٣ - الأنصار حزبان

إذ قيل الأنصار أرادوا البيعة لسعد، فانما هم الخزرج فقط دون الاوس(١) . وإذا كان الاوس اجتمعوا في السقيفة مع الخزرج فانما هو على ظاهر الحال، ولحس مشترك بالخوف ممن قتلوا آباءهم وابناءهم أن ينالوا الامارة، وهم يبطنون في نفس الوقت للخزرج كمين أحن تتغلغل في صدورهم، فان بين الحيين دماء مطلولة ما زال نضخها على سيوفهم وجروحاً

______________________________

(١) ولذا يقول المؤرخون عند ذكرهم لبيعة الاوس: (فانكسر على الخزرج ما كانوا اجمعوا عليه).

١٠٣

بالغة لايلأم صدعها ولا يرجى رأبها. وكان آخر أيام حروبهم يوم (بُعاث) المشهور وهو قبل الهجرة بست سنين، وهو سبب اسلامهم على ما قيل إذ جاء أحد القبيلين بعد يوم بعاث الى مكة يستنجد قريشا على الفريق الثاني، فالتقوا بالنبي صلى الله عليه وآله وهداهم الله تعالى الى الاسلام.

وكان رئيس الاوس يوم بعاث حضير الكتائب ابو اسيد بن حضير هذا الذي أفسد الأمر على سعد وبايع أبا بكر ومعه الاوس. وكان رئيس الخزرج عمرو بن النعمان، ابو النعمان صاحب راية المسلمين يوم احد(١) .

ولم يلطف الاسلام كثيراً من تنافسهم وتحاسدهم، وان اطفأ بينهم نار الحروب، فقد كانا يتصاولان تصاول الفحلين، لاتصنع الأوس شيئا إلا قالت الخزرج نفاسة: لايذهبون بهذا فضلا علينا. فلا ينتهون حتى يوقعوا مثله. وكذلك اذا فعلت الخزرج شيئا قالت الأوس مقالتهم وصنعت صنعهم(٢) .

ومن منافساتهم التي بلغت حد الافراط يوم استعذر رسول الله من عبد الله بن ابي سلول المنافق الشهير وهو من الخزرج فقال:( يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد

______________________________

(١) راجع العقد الفريد(٢٥٠:٢).

(٢) الطبري(٧:٣) وابن الأثير(٦٦:٢).

١٠٤

بلغني عنه اذاه في أهلي.) الى آخر ما قال، فقام سعد بن معاذ رئيس الاوس فقال:( يا رسول الله انا والله اعذرك منه ان كان الاوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك) فترى سعداً كيف تجاهل الشخص المعنى وتحفظ عند ذكر الخزرج مما يدل على شديد تنافسهم فقام سعد بن عبادة سيد الخزرج فقال لابن معاذ:( كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ولو كان من رهطك لما أحببت ان يقتل) فقام اسيد بن حضير ابن عم سعد بن معاذ فقال لابن عبادة:(كذبت لعمر الله لنقتلنه فانك منافق تجادل عن المنافقين). فثار الحيان الاوس والخزرج حتى هموا ان يقتتلوا ورسول الله قائم على المنبر فنزل فخفضهم حتى سكتوا وسكت(١) .

هكذا هم الاوس والخزرج حزبان متنافسان متحاسدان وانما سعد بن عبادة بادئ بدء يوم السقيفة أراد ان يستميل الاوس باسم الأنصار، وهم حزب واحد امام حزب المهاجرين وقريش، فقال معرضا بخصومهم في خطبته على الأنصار-:( يا معشر الأنصار ان لكم سابقة في الدين وفضيلة ليست لقبيلة من العرب.) ويقصد المهاجرين. وهكذا مضى في خطبته يضرب على هذا الوتر الى ان اجابوه جميعا:(أن

______________________________

(١) راجع البخاري(٦:٢و٢٤:٣).

١٠٥

وفقت في الرأي وأصبت في القول ولن نعدو ما أمرت، نوليك هذا الأمر، فأنت لنا مقنع ولصالح المؤمنين رضى).

ثم انهم ترادوا الكلام فيما إذا أبت المهاجرين من قريش بيعتهم، فقالت طائفة: (اذن نقول منا امير ومنكم امير). فقال سعد: (هذا اول الوهن) وقد سبقت الاشارة اليه. وفي الحقيقة انه اول الوهن وتنازل منهم عرفنا فيما سبق دلالته على مبلغ ضعف ارادتهم امام ارادة قريش حتى قبل مواجهتهم، بل يدل ايضا على تخلخل صفوفهم ووجود خلاف كامن كمون النار في الرماد، فلم يتأثروا بدعوة سعد، وأبطأوا عليه حتى داهمهم المهاجرون، وهم إنما اسرعوا الى عقد هذا الاجتماع ليسبقوا الحوادث، وإلا فقد كانت الفرصة الكافية لبيعته من قبل ان يعلم جماعة المهاجرون باجتماعهم فتكبسه عليهم. لولا انهم اضاعوها باختلافهم وتباطؤهم حتى مضى الوقت. ومثل هذه الامور بعرف الساسة لاتقبل الاناة والابطاء.

والحق ان الاوس كانوا غير مرتاحين لبيعة سعد، وهم يتنافسون مع الخزرج في أتفه الأشياء وادناها، وكأنهم كانوا لايريدون ان يبدأوها بالخلاف خشية أن يقال:(اوس وخزرج)، وفي هذه الكلمة ما فيها من معان لاتتفق وروحية الاسلام، فيبتعدون عنها ما استطاعوا ان المجاملة محفوظة

١٠٦

بين الطرفين. ولذلك لما رأوا المجال للوثبة واسعا نقضوا أمر سعد وما اجتمعت عليه الخزرج، وهذا عندما رأوا ان الخلاف جاء من الخزرج انفسهم بمقالة بشير بن سعد الخزرجي، وستأتي، وباسراعه الى بيعة ابي بكر، وقد كان اول المبايعين. وايضا رأوا ان الدعوة ضد سعد أنما جاءت من قبل غيرهم وهم المهاجرين.

فظهرت منهم حسيكة الخلاف والتناقس، وقال بعضهم لبعض وفيهم اسيد بن حضير زعيمهم: (لئن وليتموها سعداً عليكم مرة واحدة لازالت لهم بذلك الفضيلة ولا جعلوا لكم فيها نصيبا أبداً فقوموا فبايعوا ابا بكر) فقام اسيد فبايع ومعه الاوس، وليسأل السائل هل جُعل لهم نصيب فيها بمبايعتهم لأبي بكر؟ ولكنه التنافس هو الذي أملى عليهم هذا القول ومنافسة القرابة ابعد أثراً واعظم مفعولا.

هذا ولا ينكر ما لأبي بكر من كبير أثر في استمالة الاوس الى جانب المهاجرين، فقد وقف موقفا مؤثراً وكان يعرف من اين تؤكل الكتف فلم يفته ما كان يعلمه من التنافس بين الحيين، حتى استغله لانقاذ الموقف وبرع في هذا الاستغلال، فقد قال في ذلك اليوم: (ان هذا الأمر ان تطاولت اليه الخزرج لم تقصر عنه الاوس وان تطاولت اليه الاوس لم تقصر عنه الخزرج، وقد كانت بين الحيين قتلى لا تنسى وجراح لا

١٠٧

تداوى، فان نعق منكم ناعق جلس بين لحيي اسد يضغمه المهاجري ويجرحه الأنصاري)(١) .

فانظر الى كلمة(لم تقصر) وما لها من بليغ اثر في القلوب المتحاسدة وما بها من تحريض لأحد المتناظرين على نظيره المتطاول.

نعم! انها لتجعل لكل من الحيين الكفاية تجاه الحي الآخر، فان تطاول احدهما وهم الخزرج الآن فحقيق بالآخر ان يتطاول لها ككفتي ميزان، من غير فضيلة يختص بها المتطاول. فلا تسل كيف أشرأبت اعناق الاوس لهذا الأمر؟

وبعدها انظر كيف ذكر الترات السابقة ونبش الدفائن. وهذا ما يثير بالحفائظ ويوقظ الضغائن. وهنا راح يستدل على خطأ تولى أحد الحيين لهذا الأمر، لأنه يقع بين خصمين ألدين: فرماهم بالمسكنة كما يقول ابن دأب عيسى بن زيد.

استطعنا في هذا البحث أن نلمس التنافس بين الاوس والخزرج لنعرف مدى تأثيره على مجرى حادث السقيفة، كما عرفنا ان اهل الدعوة عند التحقيق انما هم الخزرج فقط، ولم تشاركهم الاوس مشاركة جدية.

______________________________

(١) البيان والتبيين (١٨١:٣).

١٠٨

فلنترك الأنصار الآن مجتمعين في السقيفة يتبارون الخطب ويتحمسون لجهادهم وتضحيتهم، وسعد بن عبادة قد ترأس حفلهم يخطبهم ويقول في آخر خطبته:( استبدوا بالأمر دون الناس فانه لكم دون الناس) ولنذهب ميممين المهاجرين وباقي المسلمين حول دار النبي في المسجد، لنراهم ماذا هم صانعون!

٤ - هل مات النبي محمد ...؟

نعم! كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قد خرج في آخر فجر من حياته الى الصلاة، فصلى بالمسلمين الغداة. وكان هذا آخر عهدهم برؤية تلك الطلعة المحبوبة وذلك النور الالهي.

ولم تزل شمس السماء إلا وقد آذنت شمس الأرض بالمغيب من افقها الى افق الحق الدائم، وها هو ذا النبي مسجى بين اهله ينتدبون فيه حظهم، والباب مغلق دون الناس.

انه يوم...! وأي يوم هو على اهل المدينة والمسلمين!.

فقدوا...؟ وأية نعمة فقدوا...؟

فقدوا الرحمة والانسانية. فقدوا الأخلاق الالهية. فقدوا

١٠٩

حياتهم وعزهم ومجدهم. فقدوا طريق الحق اللاحب وصراط الله المستقيم ونوره المشرق بآياته الباهرة...!

فقدوا نبيهم العظيم وأباهم الكريم...!

فاعظم بيومه يوما! واعظم به فقيدا!

انه يوم كان للمسلمين مضرب المثل فاذا بالغوا في يوم مصيبة قالوا:( انه كيوم مات فيه رسول الله).

وما تنتظر من المسلمين ساعة يسمعون الواعية والباب مغلق على من فيه، إلا ان يُهرعوا فيجتمعوا في مسجدهم والطرقات، نكسا ابصارهم مطأطئي رؤسهم. ولم تبق عين لم تدمع؛ ولا قلب لم يجزع، ولانفس لم يتقطع.

وما ينتظرون هم...؟

لاشك ليس هناك ما يدعوهم الى تكذيب النعاة. وإذ علموا آنئذ أن مجرى حياتهم قد تبدل راحوا ولا شك يتطلعون الى ما يظهر لهم على مسرح العالم الاسلامي من حوادث ومفاجآت، فتطيش لذلك عقولهم، ويقوى حسهم بمستقبل هذا الدين الجديد الذي أخذ بأطراف الجزيرة، والمنافقون يتحينون به الفرص، فتنهد عزائمهم، ويستشرفون على الأكثر على خليفة النبي الذي سيقود الأمة لينقذ الموقف، فيضربون اخماسا في اسداس.

كل هذه الأفكار وأكثر منها بغير شك كانت تمر على

١١٠

رؤس ذلك الجمع الحاشد الطائش اللب الحائر الفكر، الذي يحوم حول دار النبوة والوحي، يرقب منها على عادته ان تبعث له بما يطمن خاطره ويهدئ روعه ويعرفه مستقبل أمره، حتى اصبح الناس كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية( كما في الحديث).

ولكن ولكن عمر بن الخطاب صاحب رسول الله ذلك الرجل الحديدي أبى على الناس تصديقهم بموت نبيهم؛ إذ طلع صارخا مهددا( وقد قطع عليهم تفكيرهم وهواجسهم) وراح يهتف بهم:( ما مات رسول الله ولا يموت حتى يظهر دينه على الدين كله. وليرجعن فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم ممن ارجف بموته. لااسمع رجلا يقول مات رسول الله إلا ضربته بسيفي).

اتراك( لو خلوت بنفسك وأنت هادئ الأفكار) تقتنع بوحي هذه الفكرة من هذا الذي لايقعقع له بالشنان، وأنت لا تدري لماذا رسول الله يقطع أيدي وأرجل من أرجف بموته، أو بالأصح من قال بموته؟ ولأي ذنب يستحق الضرب بالسيف هذا القائل؟ ومن أين علم ان رسول الله لايموت حتى يظهر دينه على الدين كله؟ وما هو هذا الرجوع؟ أرجوع بعد الموت او بعد غيبة( كغيبة موسى بن عمران كما يدعيها عمر بن الخطاب في بعض الحديث) ولكنها أية غيبة هذه وهو مسجى بين اهله لا حراك فيه؟

إلا اني اعتقد انك لو كنت ممن ضمه هذا الاجتماع

١١١

لذهبت بتياره ولتأثرت بهذا القول الى أبعد حد كسائر من معك ما دام الاجتماع بتلك الحال التي وصفناها، والخطيب هو عمر بن الخطاب، وقد جاء بتلك الدعوة الثائرة، في صرامة ارادة ورأي بلغا أقصى درجات الصرامة، وقد استعمل المغريات الخلابة للجماعات: فمن أمل بحياة الرسول وباظهار دينه على الدين كله الى توعيد بقطع رسول الله أيدي وأرجل المرجفين بموته، وتهديد منه(اعني عمر) بقتل من يقول مات رسول الله.

انهما الخوف والأمل إذا اجتمعا مع هذا الرأي القاطع والارادة الصارمة لهما التأثير العظيم الذي لا يوصف على افكار الجماعة الاجتماعية وأي تخدير بهما لأعصاب المجتمعين. ومن وراء ذلك أن شأن المحبين يتعللون في موت حبيبهم إذا نعي بالأوهام ولا يرضون لأنفسهم التصديق بموته لاسيما مثل فقيدهم هذا العظيم الذي يجوز عليه ما لايجوز على البشر.

ولا شك ان مميزات الجماعة المقصودة لعلماء الاجتماع كانت متوفرة في الاجتماع الفجائي المضطرب الأفكار المتأثر بهذا الحدث العظيم المتحفر للحوادث المجهولة والمفاجآت المنتظرة. ومن البديهي ان الاجتماع الذي يتألف على هذا النحو تتكون منه روح واحدة مشتركة حساسة تتغلب على نفسيات أفراده الشخصية، وتكون هذه الروح خاضعة

١١٢

لمؤثرات لا حكم لها غالبا على روحية الفرد لو كان خارج الاجتماع. وأهم خواص هذه الروح انها تكون عرضة للتقلبات والانقلابات الفجائية ويبطل فيها حكم العقل وسلطانه ويقوى سلطان المحاكاة والتقليد الأعمى. ولذلك لا تفكر الجماعات إلا بأحط فكرة فيها، وتقبل ايضا كل فكرة تعرض عليها إذا اقترنت بالمؤثرات الخلابة وان خرجت عن حدود المعقول. ومن أقوى المؤثرات شخصية الخطيب وصرامة رأيه.

فلا نستغرب قناعة المسلمين يومئذ برأي عمر بقدر ما نستغرب منه نفسه هذا الرأي، وإن لم ينقل لنا صريحا قبولهم له، كما لم ينقل في الوقت نفسه اعتراض أحد عليه سوى ابي بكر وقد جاء متأخرا. وإذا أبيت فعلى الأقل شككهم في موت النبي وألهاهم عن التفكير فيما يجب أن يكون بعده وفيما سيحدث من حوادث منتظرة، لأنهم لاشك التفوا حوله عجبين مستغربين وهو مستمر يبرق ويرعد مهددا حتى ( ازبد شدقاه).

ولكلمة( الارجاف) هنا التأثير البليغ في اقلاع أفكار الجماعات عن الدعوى التي يدعونها لأنها من الألفاظ الخلابة التي تتضمن التهجين الشنيع للدعوى والاشمئزاز منها الى أبعد حد، إذ تشعر هنا ان مدعيها من المنافقين الذين لهم غرض مع النبي والاسلام، فقال:(... ممن ارجف بموته)

١١٣

ولم يقل ممن ادعى أو قال. وهذا كاف للتأثير على الجماعات وتكوين الشعور بكراهية دعواها.

ويشهد لتأثير كلامه على سامعيه التجاء ابي بكر لما جاء من السنج(١) أن يكشف عن وجه النبي ليتحقق موته، ثم يخرج الى الناس مفندا مزاعم عمر، وعمر مستمر يحلف انه لم يمت. وطلب اليه ان يجلس فلم يجلس ثلاث مرات، فقال له: (أيها الحالف على رسلك).. ثم قام خطيبا في ناحية اخرى وقد اجتمع حوله الناس فتشهد وقال وعمر مستمر وقد تركه الناس -:

(من كان يعبد محمدا فان محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فان الله حي لايموت...). ثم تلا هذه الآية الكريمة:( أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ )

و(شاهد ثان): أن الناس لما سمعوا كلام ابي بكر اصبحوا كأنما اخرجوا من مأزق أو اطلقوا ما عقال، فانهم تلقوا الآية وكلهم وراحوا يلهجون بها( فما تسمع بشرا من الناس إلا يتلوها). أما عمر فقد صعق الى الأرض وصدق

______________________________

(١) وهو يبعد عن المسجد بميل واحد (وفي الرواية عن عائشة) وكذا في معجم البلدان ولعله اعتمد على هذه الرواية. ولكن السنح هو عالية من عوالي المدينة وأدنى العوالي بتقدير نفس المعجم يبعد أربعة أميال أو ثلاثة.

١١٤

حينئذ بموت النبي بعد ان تحقق ان الآية من القرآن، كما يقول.

* * *

لله ابوك يابن الخطاب! ما أدهشني بك، وأنت وأنت، إذ تقف ذلك الموقف الرهيب حالفا مهددا، لتنكر أمرا واضحا، ألم يعلمك الاسلام حقيقة محمد فتنكر انه يموت؟ ثم تسمي مدعي موته(مرجفا)؟

لا؟

لا؟ ولكنك تحاول ان تقنع الناس انه غاب كموسى بن عمران، فيرجع ليقطع الأيدي والأرجل. إلا انه بالله عليك أية غيبة هذه؟

وأنت أعجب وأعجب حين تسرع مصدقا وتنقاد طائعا لقول قاله ابو بكر لايكذبك ولا يصدقك، بعد ذلك التوعيد والتهديد. أولست أنت كنت تعترف انه يموت بعد ان يظهر دينه على الدين كله؟ فأي دليل كان في الآية ناقض قولك فأقنعك حتى صعقت الى الأرض. والآية تدل على انه يموت يوم مات!...؟

واعجب من ذلك وقوفك بعد يوم معتذرا فتقول: (فاني قلت بالأمس مقالة ما كانت إلا عن رأيي وما وجدتها في كتاب الله ولا كانت عهدا عهده الي رسول الله. ولكن كنت

١١٥

ارجو ان يعيش رسول الله فيدبرنا ويكون آخرنا موتا)(١) . فأين هذا الرجاء الفاتر من تلك الصرخة المعلنة وذلك الحلف والتهديد وطعن القائل بموته بالارجاف؟ واين هذا الاعتذار الهادئ من تلك الدعوى الثائرة؟

إن لك لسرا عظيما!

يبدو لي ان عمر كان أبعد من أن يظهر بهذه السهولة لقارئي هذه الحادثة. ومن البعيد جدا وفوق البعد ان يعتقد مثله ان النبي لايموت يوم مات، وهو الذي قال في مرضه كما سبق بكل رباطة جأش:( ان النبي قد غلبه الوجع... حسبنا كتاب الله). فأي معنى تراه لقوله(حسبنا) لرد الكتاب الذي أراده النبي لأمته بعد موته، لو لم يكن معتقدا انه سيموت وان كتاب الله يغني عن أي شئ آخر يريد ان يقرنه النبي به.

وهل تراه قال ما قال دهشة بالمصيبة؟ فما باله لم يعتذر بذلك بعد يوم وقد سمعت اعتذاره! بل ما باله لم يزد دهشة

______________________________

(١) اقتبسنا مجموع هذه العبارة من كنز العمال(١٢٩:٣و٥٣:٤) ومن تاريخ الطبري وابن الأثير والبخاري (١٥٢:٤) والسيرة الدخلانية (٣٤٧:٢) ولفظ (كنت أرجو ان يعيش...) في الصحيح والسيرة. والمروي في هذه الكتب وغيرها بألفاظ متقاربة جداً وتختلف بما لا يضر بالمعنى.

١١٦

لما تحقق انه قد مات! هيهات ان يكون قد دهش فيخفى عليه موت النبي وهو هو من نعرف.

وبعض الناس قد جهّلوا عمر بهذا وابعدوا، فقالوا: من يجهل مثل هذا الأمر الواضح المعلوم بالاضطرار جدير بألا يكون إماما راعيا للأمة...

والتجأ بعضهم الآخر ان يعتذر عنه بأن ذلك من فرط دهشته.

وفيما عندي ان الطرفين لم يعرفاه حق عرفانه ولم يصلا الى غوره وتدبيره في هذا الحادث المدهش. فان من يعتقد ان النبي قد غاب فيحلف لايقنعه مثل حجة ابي بكر فيرتدع ومن خبل بالمصيبة فهو عند اليقين بها ادهش وادهش.

* * *

ويكفي المتدبر في مجموع نقاط هذه الحادثة ان يفهم هذا الذي لايختل بالحرش، فيعرف ان وراء الاكمة ما وراءها، ولايضعه حيث وضعه الناس.

ألا تعتقد معي انه كان يخشى ان يحدث القوم ما لايريد، وقد اشرأبت الأعناق بطبيعة الحال الى من سيخلف النبي، وهذه ساعة طائشة، وابو بكر بالسنح غائب، وهو خدنه وساعده، وهما اينما كانا هما. ولعلهما

١١٧

وحدهما قد تفاهما في هذا الأمر... فأراد ان يصرف القوم عما هم فيه، ويحول تفكيرهم الى ناحية اخرى، ان لم يجعلهم يعتقدون غياب النبي. حتى لا يحدثوا بيعة لأحد من الناس قبل وصول صاحبه. وليس هناك من تحوم حوله الأفكار إلا عليا للنص عليه كما نعتقد او لأنه اولى الناس، ما شئت فقل ( حتى كان عامة المهاجرين وجل الأنصار لايشكون ان عليا هو صاحب الأمر بعد رسول الله)(١) .

وكانوا يلاحظون في علي بن ابي طالب صغر سنّه(٢) وحسد العرب وقريش خاصة إياه، وتمالؤها عليه، ولا تعصب الدماء التي اراقها الاسلام إلا به،لأنه الأمثل، في عشيرة الرسول على عادة العرب وبسيفه قتل اكثر ابطالهم. ويلاحظون (رابعا) كراهة قريش لاجتماع النبوة والخلافة في بني هاشم فيبجحون على قومهم بجحا بجحا كما يراه عمر فيما سبق في الفصل الثاني من محاورته مع ابن عباس. ويلاحظون (خامسا) انه سيحملهم إذا ولي الأمر على الحق الأبلج والمحجة البيضاء وان كرهوا (على حد تعبير عمر نفسه)، والحق مر في الأذواق.

ويظهر أن عمر كان بطل المعارضة في إمارة علي كما

______________________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد (٨:٢).

(٢) راجع الامامة والسياسة.

١١٨

شاهدنا موقفه في قصة الكتاب الذي أراد ان يكتبه النبي وفي مواقفه التي أشرنا اليها في الفصل الثاني، فلا نعجب إذا رأيناه يقف هذا الموقف ليلهي الناس عما يخشاه من استباق احد الى بيعة علي قبل مجئ ابي بكر.

اما انه هل كان يدري كيف سيخرج من هذا المأزق الذي ادخل نفسه فيه فاغلب الظن انه غامر بنفسه ليقف الناس عند حدهم. وعلى صاحبه إذا جاء ان يدبر الأمر حينئذ.

واقوى الشواهد على هذا التعليل ما قلناه من سرعة قناعته بقول صاحبه ابي بكر، وهو لايمس دعواه تكذيبا... وليس إلا ان جاء ابو بكر ووقف خطيبا والتف حوله الناس وهو يعلم من ابو بكر فقد انتهت مهمته وانقلب الدور، ولم يبق إلا ان يخرج من موقفه الحرج بلباقة، لئلا يحسوا بهذا التدبير فينتقض الغرض، فصعق الى الأرض كأنما تحقق موت النبي من جديد مظهرا القناعة بقول صاحبه. ثم لم يلبث ان راح يشتد معه لعملهما كأنما نشط من عقال ولم يقل ما قال، ولم يظهر ما أظهر من الدهشة والاضطراب، حتى رُمى بالخبل وهو عنه بعيد، فقد ذهب بعد ذلك الى السقيفة مع ابي بكر حينما علما باجتماع الأنصار السري ووقفا ذلك الموقف العجيب، وسنحدثك:

١١٩

٥ - وصول النبأ باجتماع الأنصار

لم يهدنا التأريخ الى أن أبا بكر وعمر أي شئ صنعا مباشرة بعد حادثة انكار موت النبي واجتماعهما، واين كانا قبل ذهابهما الى السقيفة فهل دخلا الى دار النبي معا والباب مغلق دون الناس، او انهما وقفا على الباب، او ان ابا بكر وحده دخل الدار؟ كل واحد من هذه الاحتمالات يستشعر فيه حدث وجائز وقوعها جميعا.

ولكن مثلهما جدير به إلا يبارح دار النبي صلى الله عليه وآله في مثل هذه الساعة، وإذا كان شئ يحدث فانما يحدث ها هنا، ومحوره هذا المشغول بجهاز النبي (علي بن ابي طالب)، ومن كان يتهم ان الأنصار تستبد بهذا الأمر على آل البيت والمهاجرين وتطمع فيه دونهم فتبادر إلى إجتماعها معرضة عمن لهم شأن لا ينكر في هذا الأمر.

واغلب الظن انه لم يطل الزمن على وصولهما الى الدار حتى جاء اثنان من الأوس مسرعين الى دار النبي، وهما(١) معن بن عدي وعويم بن ساعدة، وكان بينهما وبين

______________________________

(١) ذكر ذلك في العقد الفريد(٦٣:٣) وفي الجزء الثاني من شرح النهج ولم نر غيرهما يصرح باسم الشخص المخبر. ولكن عمر بن =

١٢٠