السقيفة

السقيفة0%

السقيفة مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 211

السقيفة

مؤلف: العلامة المجدد الشيخ محمد رضا المظفر
تصنيف:

الصفحات: 211
المشاهدات: 43335
تحميل: 12188

توضيحات:

السقيفة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 211 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 43335 / تحميل: 12188
الحجم الحجم الحجم
السقيفة

السقيفة

مؤلف:
العربية

المضي في البحث ويشجعني على اخراجه للناس. وان كان فيه صعوبة اخرى قد تقحمتها وجب الي عبؤها الثقيل.

وبعد التفكير والمحاولات مدة طويلة هديت الى شيء واحد بالاخير ارجو ان ابتعد بسببه عن تأثير العواطف ولعبها بالعقول واقترب من الحق والصدق، هو ان اكثر من مراجعاتي لمؤلفات من اخالفه في الرأي من ناحية مذهبية، بل اجعلها هي المصدر في البحث وظني ان بهذا سيحصل التفاعل من الجانبين: عقيدتي وهذه المصادر، لينتج ما قد يسمونه (الوسط في الرأي) او تكون الحقيقة قد اهتديت اليها بهذه الحيلة، إن طاوعتني .

وقد اخذت على نفسي في هذا الكتاب ان اسجل خلاصة مطالعاتي ومحاكماتي التاريخية، بعد ان سبرت كثيرا من المصادر القديمة التي اشرت اليها آنفا، فاذا كنت اذكر حديثا او حادثا تأريخيا توافرت المصادر على ذكره وتوثيقه، فاني لا اذكر معه تلك المصادر توفيرا على القاريء خشية إعناته بدون جدوى، الا بعض الاحاديث التي ينفرد بها مصدر او مصدران، فاني اضطر اضطرارا الى ذكر المصدر في التعليقة تنويرا لذهن القارئ غير المتتبع.

وكل جهدي ان اضع بين يدي القراء صورة مصغرة مما اهتديت اليه من افكار، ارجو ان تكون خالصة من تأثير

٢١

العواطف والنزعات حرة هي الحق كله او قريبة من الحق، وبالله التوفيق ومنه التسديد.

شهر رمضان ١٣٥٣ هجرية

المؤلف

محمد رضا المظفر

٢٢

تمهيد

بسم الله الرحمن الرحيم

في عام ١١ للهجرة يفعل الدهر فعلته الأولى، فيقلب صفحة من صفحات التاريخ الاسلامي المجيدة كتبت بأحرف من النور الالهي. كلها ايمان وصدق، جهاد وتضحية، فخر وقوة، عز ومجد، عدل ورحمة، اخوة وانسانية.

يقلب الدهر هذه الصفحة الناصعة بالخيرات والفضائل، بأفول ذلك النور المقدس من الأرض، فيستقبل بالمسلمين صفحة من كتابه التكويني مشوشة الخط قال عنها الكتاب التشريعي:( أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ) . لا شك عند من يعترف بالقرآن الكريم وحيا إلهيا لا ينطق صاحبه عن الهوى، في ان هذا الحادث التاريخي العظيم بموت منقذ الأنسانية، كان حدا فاصلا بين عهدين يختلفان كل الاختلاف: ذاك اقبال بالنفس والنفيس على الحق تعالى، وهذا انقلاب عنه على الأعقاب. إذن نحن الآن أمام أمر واقع:

مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم!

٢٣

ولا بد أن يكون المسلمون ( - كلهم؟ لا أدري الآن) قد انقلبوا على اعقابهم.

ولكن... بأي حادث كان مظهر هذا الانقلاب؟.

***

اعطني من نفسك أيها القارئ وفكر بحرية، والتمس لي حادثا ذا بال وقع بعد وفاة صاحب الرسالة مباشرة، فنضح برذاذه جميع المسلمين، فهل تجد غير حادث (السقيفة)؟ ما أعظمه من حادث! وهل تدري ان الشيعة تفسر الآية الكريمة به؟.

فاذا اردنا الآن أن نبحث عن (السقيفة)، فإنما نبحث عن اعظم حدث في الاسلام، واول حوادثه بعد الوفاة، له علاقته الخاصة بالآية الكريمة، أتفسر به أو لا؟.

وعلى هذا الاساس قلت في المقدمة شرق فيها قوم وغرب آخرون فدخلت العقائد والأهواء في سرد الحادثة، فكانت ذات ألوان ووجوه يكد فيها الباحث، ويجهد مستهدف الحقيقة.

***

وما علي لو أدعي قبل الدخول في بحث السقيفة ان الآية الكريمة تفسر بحوادث الردة التي وقعت في خلافة ابي بكر.

٢٤

ولكني لا اطمئن الى هذا الاحتمال، ما دامت الآية تشعرنا بأن الانقلاب يقع بعد موت النبي مباشرة، وما دامت هي خطاباً لجميع المسلمين، واهل الردة كيفما فرضناهم هم اقل القليل من المسلمين، بل في العدوة القصوى منهم.

وفوق ذلك نجد ان عمدة من نسميهم بأهل الردة هم المتنبؤن واشياعهم، كمسيلمة واتباعه، وطليحة واوليائه. وهؤلاء كانوا في عهد النبي واستغلظ امرهم بعده، ما عدا سجاح التميمية، وما كان لها كبير شأن وقد اندمجت بمسيلمة. اما الأسود العنسي فقد قتل في حياة الرسول ولازم انصاره طريقته بعده. وعلقمة بن علاثة ارتد في زمانه صلى الله عليه وآله. ومثله ام رفل سلمى بنت مالك وتابعوها.

أفيصح ان نقول: إن هؤلاء انقلبوا على الاعقاب بعد النبي، وكان الخطاب بالاية لهم؟ اللهم ان هذا يأبى الانصاف ان يصدق به، عند من كان له شيء من حرية الرأي وصحة التفكير.

ومالك بن نويرة(١) .

مالك وادع سجاح (والموادعة. المتاركة والمسالمة على ترك الحرب كما كان كعب القرضي موادعا لرسول الله). وليست الموادعة من الردة في شيء واكثر من ذلك إنما كانت

______________________________

(١) وبه يضرب المثل المشهور: (فتىً ولا كمالك).

٢٥

منه لمصلحة المسلمين، ليرد سجاح عن غزوهم في تلك الأصقاع النائية عن مركز المسلمين. وكان الذي أراد.

وإن كانت تلك الموادعة ذنباً، فقد اظهر هو وقومه التوبة بعد ذلك، كما صنع وكيع وسماعة، وهما وادعا سجاح ايضا، وقبل المسلمون المحاربون توبتهما.

وهذا ابو بكر يدين مالكا إذ قتله خالد بن الوليد وخلا بزوجته ليلة قتله، فهل تفسر بهذا آية الانقلاب؟.

ولا ذنب لمالك إذ عد من اهل الردة إلا أن قاتله بطل المسلمين يومئذ وقائدهم. وحقيق عليهم ان يدافعوا عن فعلته ويبرروا عمله. فليكن مالك مرتدا يستحق القتل! وما يهمنا ان نشين مالكا بما يستحق وبما لا يستحق، ما دامت كرامة خالد محفوظة مصونة من النقد!.

عمر بن الخطاب يريد ان يؤخذ خالد بقتله لمالك ونزوه على زوجته وابو بكر يعتذر عنه (انه اجتهد فأخطأ). وما الخطأ على المجتهدين بعزيز. وهذا من اوليات ابي بكر. إذ يجعل الاجتهاد عذرا للمخالفة الصريحة للقانون الاسلامي.

وابو بكر لم يقل لمتمم اخي مالك انه ارتد فقتل بل قال له: ما دعوته وما قتلته، لما قال له متمم من ابيات:

ادعوته بالله ثم قتلته

لوهو دعاك بذمة لم يغدر

٢٦

نعم! التاريخ ينزه مالكا. وقضى الدفاع عن خالد ان يحكم بعض الكتاب في هذا العصر بكفر مالك وارتداده!.

***

ومن هم أهل الردة غير هؤلاء؟.

مانعوا الزكاة.

مانعوا الزكاة؟. من هؤلاء بأسمائهم وقبائلهم! ليت احدا يرشدني اليهم! فقد وجدت التأريخ يجمجم في ذكرهم فيحصر، ويروح ويغدو فلا يجد غير المتنبئين واشياعهم. وأبو بكر لما قال كلمته المشهورة: (لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه)، فانما قالها عندما جاء وفد طليحة المتنبئ المتقدم ذكره يطلبون الموادعة على الصلاة وترك الزكاة، لافي قوم غير المتنبئين.

واذا كانوا وربما كانت بعض القبائل المجهولة امتنعت عن الزكاة فهل العصيان بترك واجب، وهم يقيمون الصلاة يكون كفرا وارتدادا؟ بأي مذهب وبأي دين؟ فليتأول المتأولون ما شاؤوا.

ولم يعرف عنهم انهم أنكروا وجوب الزكاة بقول، حتى يكونوا من منكري ضروريات الدين الذين يعدون في الكافرين المرتدين. وأكثر ما عرف عنهم اذا كان لهم من منكري ضروريات الدين الذين يعدون في الكافرين المرتدين.

٢٧

وأكثر ما عرف عنهم اذا كان لهم وجود غير المتنبئين انهم امتنعوا عن أدائها.

وتغلق دعوى المدعي أن هؤلاء أنكروا بيعة ابي بكر التي كانت عن غير مشورة من المسلمين كما صرح به عمر بن الخطاب، فلم يعترفوا له بامامة وولاية حتى يؤدوا له الزكاة. ولعلهم كانوا يطالبون بخلافة من كان النص من النبي على خلافته، فأهمل مطالبتهم التأريخ.

هذه احتمالات لا يفندها التأريخ والاعتبار وادعتها الشيعة فيهم، فما لنا بتكذيبها من برهان، فالأحسن لنا ألا نعترف بوجودهم كما أهمل التأريخ أسماءهم وقبائلهم.

ومهما كان الامر، فان استطاع الكاتب ان يثبت الانقلاب بأول حدث في الاسلام، فلا يهمه ماذا سيكون شأن الحوادث اللاحقة، بل يستعين على تفسيرها بتفسير الحادث الأول، وكفى!

وأجدني مضطرا قبل كل شيء الى ان اقف مع القاريء على ما صنعه النبي صلى الله عليه وآله، من حل للخلاف بعده: إما في وصية باستخلاف أحد، او في قاعدة مضبوطة يرجعون اليها، او انه اهمل الأمر وتركهم وشأنهم، لأن هذا البحث له علاقة قوية في موضوع بحثنا، يتوقف عليه تفسير كثير من الحوادث.

٢٨

إذن سنعقد الكتاب على اربعة فصول:

الفصل الاول في موقف النبي تجاه الخلافة

الفصل الثاني في تدبيره لمنع الخلاف

الفصل الثالث في بيعة السقيفة

الفصل الرابع موقف علي بن ابي طالب.

٢٩

الفصل الاول: مَوقِفْ النَّبي تجَاه الخَلافَة

٣٠

(١ هل كان يعلم بأمر الخلافة؟)

٣١

هل تجد من نفسك الميل الى الاعتقاد بأن النبي صلى الله عليه وآله كان لا يعلم بما سيجري بعده: من خلافات وحوادث من اجل الخلافة؟ وهل تراه كان غافلا عما يجب في هذا السبيل؟.

إذا كان لك هذا الميل فلا كلام لي معك، وارجو منك ياقارئي العزيز علي أن تلقي الكتاب عندئذ عنك ولا تتعب نفسك بالاستمرار معي الى اخر الحديث، لاني افرض قارئي مسلما يؤمن بالنبي ورسالته، ويعرف من تأريخه ما يكفيه في طرد هذا الوهم.

فان من يمت الى الاسلام بصلة العقيدة لابد ان يثبت عنده على الاقل ان صاحبه صرح في مقامات كثيرة بما ستحدثه امته من بعده فقد قال غير مرة: (ستفترق امتي على ثلاث وسبعين فرقة فرقة ناجية والباقون في النار).

واكثر من ذلك انه لم يستثن من اصحابه إلا مثل همل النعم، ثم هم يدخلون النار بارتدادهم بعده على ادبارهم القهقري، او يردون عليه الحوض فيختلجون بما احدثوا

٣٢

بعده. وفي بعض الاحاديث: (فيقال لي: إنهم لم يزالوا مرتدين على اعقابهم منذ فارقتهم)(١)

واخبرهم انهم يتبعون سنن من قبلهم شبراً بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعوهم.

و (الخلافة) امر كانت تحدثه به نفسه الشريفة، ويشير اليها انها ستكون ملكا عضوضا بعد الثلاثين سنة. وثبت انه قال: (هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش). وقال: ( من لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية). وقال... وقال... الى مالا يحصى.

وسيرته والأحاديث عنه وما اكثرها تشهد شهادة قطعية على ما كان من اختلاف امته، وعلى أن الخلافة والامامة من اولى القضايا التي كانت نصب عينيه.

٢ - هل وضع حلا للخلاف؟

إذن كان صلى الله عليه وآله وسلم عالما بأن الدهر سيقلب لأمته صفحة مملوءة بالحوادث والفتن، والخلافات والمحن، وان لابد لهم من خلافة وإمارة.

______________________________

(١) صحيح مسلم ٨: ١٠٧ وغيره

٣٣

فلا بد ان نفرض انه قد وضع حلا مرضيا لهذا الامر يكون حدا للمنازعات وقاعدة يرجع اليها الناس، لتكون حجة على المنافقين والمعاندين، وسلاحا للمؤمنين، ما دمنا نعتقد انه نبي مرسل جاء بشيرا ونذيرا للعالمين الى يوم يبعثون، فلم يكن دينه خاصا بعصره، ليترك امته من بعده سدى من غير راع او طريقة يتبعونها، مع علمه بافتراق امته في ذلك.

ولا يصح من حاكم عادل ان يحكم بنجاة فرقة واحدة على الصدفة من دون بيان وحجة تكون سببا لنجاتهم باتباعها، وسببا لهلاك باقي الفرق بتركها.

لنفرض ان الحديث والتأريخ لم يسجلا لنا الحل الذي نطمئن اليه، فهل يصح ان نصدقهما بهذا الاهمال، ونوافقهما على ان النبي ترك امته سدى، وفي فوضوية لاحد لها يختلفون ويتضاربون، ثم يتقاتلون، وتراق آلاف آلاف الدماء المسلمة، ساكتا عن اعظم امر مُني به الاسلام والمسلمون، مع انه كان على علم به؟.

ولو كنا نصدقها مستسلمين لكذبنا عقولنا وتفكيرنا، فان الاسلام جاء رحمة لينقذ العالم الاسلامي من الهمجية والجاهلية الأولى ، فكيف يقر تلك المجازر البشرية في اقصى حدودها، تلك المجازر التي لم يحدث التأريخ عن مثلها ولا عن بعض منها في عصر الجاهليين.

٣٤

فما علينا إلا ان نتهم التأريخ والحديث بالكتمان وتشويه الحقيقة بقصد او بغير قصد. ولئن لم يكن محمد نبياً مرسلا يعلم عن وحي ويحكم بوحي فليكن على الاقل اعظم سياسي في العالم كله لا اعظم منه، فكيف يخفى عليه مثل هذا الأمر العظيم لصلاح الأمة بل العالم بأسره مدى الدهر، او يعلم به ولا يضع له حدا فاصلا؟.

وهل يرضى لنفسه عاقل يتولى شئون بلده فضلاً عن امة، ان يتركها تحت رحمة الاهواء واختلاف الآراء ولو لأمد محدود، وهو قادر على اصلاحها او التنويه عن اصلاحها، إلا ان يكون مسلوبا من كل رحمة وانسانية؟ حاشا نبينا الاكرم من جاء رحمة للعالمين ومتمما لمكارم الاخلاق وخاتما للنبيين! وقد قال الله تعالى على لسانه بعد حجة الوداع: (اليوم اكملت لكم دينكم).

وقد وجدناه نفسه لا يترك حتى المدينة المنورة، اذا خرج لحرب او غزاة ، من غير امير يخلفه عليها، فكيف نصدق عنه انه اهمل امر هذه الامة العظيمة بعده الى اخر الدهر، من دون وضع قاعدة يرجعون اليها او تعيين خلف بعده.

٣ - ايكال الامر الى اختيار الأمة

لنختار الان لحل هذه المشكلة انه صلى الله عليه واله

٣٥

وسلم أوكل امته الى اختيارهم، او الى اختيار اهل الحل والعقد منهم خاصة في تقرير شئون الخلافة. فهل يصح هذا الفرض للحل؟.

اما انا ايها القارئ لا استطيع ان اقتنع بأن هذا الفرض يكون حلا مرضيا لهذه المشكلة، ولعلك انت ترى مع من يرى ان تعيين الرئيس بالانتخاب من ارقى التشريعات الحديثة وقد سبق اليه الاسلام، فهذا من مفاخره.

فوجب علينا ان نبحث هذه الناحية العلمية بدقة، واملي كما هو مفروض انك تعطيني من نفسك النصف وتفكر معي تفكيرا حرا، بعيدا عن تأثير العاطفة التي تقضي علينا ان نتمسك بهذه المفخرة للاسلام.

ولا ينبغي لنا ان نحاول هذه المحاولة، فربما نلصق به ما ليس له، ولعلها لا تثبت للبحث مفخرة يمتدح بها، فنكون قد نقضنا غرضنا الذي نريده من إثبات الفضيلة للاسلام بالسبق الى هذا التشريع.

والذي ادعيه الآن ان إرجاع الأمة مدى الدهر الى اختيارها في تعيين الرئيس لها هو عين الفوضوية التي اردنا التخلص منها في البحث السابق، وليس معناه إلا إلقاء الأمة في اعظم هوة من الخلاف لاحد لها ولا قعر.

٣٦

وسر ذلك ان الناس مختلفون متباينون، ليس بينهم اثنان يتفقان في فكر أو عاطفة أو ذوق أو عادة أو عمل، حتى التوءمين، إلا من التشابه القريب أو البعيد من غير اتفاق حقيقي، كاختلافهم في أجسامهم وسحنات وجوههم، وتشابههم في ذلك. بل الناس مختلفون في كل شيء من دقائق أجسادهم وأخلاقهم ونفوسهم وعاداتهم فلم يتفق لشخصين أن يتفقا تحقيقا حتى في بصمة الأصابع، حتى قيل ان كل فرد من الانسان نوع برأسه.

وعليه، فيستحيل أن تتفق أهل بلدة واحدة على حكم واحد أو عمل واحد، فضلا عن أمة كبيرة كالأمة الأسلامية على توالي الزمان. وبالأخص اذا كان الحكم مسرحا للعواطف والأغراض الشخصية والتحيزات كالحكم في الزعامة العامة.

ومن هذا نستنتج ان الرأي العام الحقيقي غير موجود أبدا، بل يستحيل وجوده لأية امة في العالم، ومن خطل الرأي أن يطلب الانسان تكوين الرأي العام، وتوحيد اختيار الأمة بأسرها لأمر من الأمور، على ان محاولة ذلك يستحيل أن تسلم من منازعات دموية واضطرابات شديدة اذا كان تكوينه يراد لأمر ذي شأن، إلا أن يكون هنا حاكم يفصل بين المتنازعين بما له من القوة القاهرة لمخالفيه، كما هو موجود فعلا في الانتخابات الجارية عند الأمم المتمدنة، فان تحكيم الأكثرية ذات القوة الطبيعة خير علاج على منازعاتهم في الامور العامة.

٣٧

وتحكيم الاكثرية في الحقيقة فرار من محاولة تكوين الرأي العام الحقيقي، بل هو اعتراف باستحالته، ومع ذلك لم يستغن غالبا الرجوع الى الأكثرية ليكون لها الفصل عن ملطفات ومؤثرات اخرى تنضم الى قوته الطبيعية، أهمها سلطة الحكومة والقانون العام القاضي بتحكيم الأكثرية الذي أصبح بحكم التقليد لا مسيطرا على معتنقيه.

وبتوسيط أمثال هذه الأمور تمكن التسوية بين الأكثرية على راي متوسط، وإلا فالاتفاق الحقيقي على تفاصيل الأمور يستحيل حتى في الأكثرية.

وهذا الرجوع الى الأكثرية اخر ما توصل اليه الأنسان بعد العجز عن تحصيل الاتفاق الحقيقي وبعد أن فشل البشر على ممر تلك القرون الطويلة التي انهكته بالتجارب القاسية، فوجد ذلك خير ضمان للسلام في الأمم. وليس معنى ذلك ان الأكثرية لا تخطأ، كيف والجماعات دائما تفكر بأحط فكرة فيها، ومن مزاياها انها خاضعة لسلطان العاطفة، فهي علاج لفض المنازعات ليس إلا، لا لضمان تحصيل الرأي المصيب.

وبهذا البيان نخرج الى فكرة ان تعيين الرئيس أو غيره بالانتخاب الذي هو من أرقى التشريعات الحديثة معناه الرجوع الى الأكثرية دائما التي أصبحت من التقاليد المرعية عند الناس في هذا العصر، وهذا لم يسبق اليه الاسلام، ومن يدعي ان النبي صلى الله عليه وآله أوكل أمته الى اختيارهم

٣٨

في تقرير شئون الخلافة لا يدعي انه شرع قانون الاكثرية لأنه ليس لهذه الدعوى شاهد في زبر الأولين، على انه كما ذكرنا لا يسلم من الخطأ، فلا يسوغ لنا أن ننسبه الى من لا ينطق إلا عن وحي ولا يريد إلا الحق.

وإذا ادعى انه أوكل الأمر الى اتفاق أمته واختيارهم جميعا، فمن خطل الرأي، إلا اذا جوزنا عليه ان يطلب المستحيل او تعمد ايقاع أمته في منازعات دائمية تفضي الى ازهاق النفوس واضعاف القوى المادية والأدبية، ثم الى ضعف كلمة الاسلام في الارض.

فتلخص ان هذا التشريع أعني تشريع تعيين الامام بالانتخاب لا يصح لنا ان ننسبه الى منقذ البشرية من الضلالة الى الهدى الذي لا ينطق إلا عن وحي، سواء فسرناه بالأكثرية او باتفاق الجميع.

***

ومهما حاولنا اصلاح هذا التشريع بتفسير الأمة بأهل الحل والعقد منها خاصة، فلا اجد هذه المحاولة تسلم من ذلك النقص البارز فان اهل الحل والعقد وكبار الأمة هم بؤرة الخلاف والنزاع. فان الخاصة مع اختلاف نفوسهم وتباين نزعاتهم كسائر الناس، لا ينفكون عن تحيزات فيهم اعظم منها في غيرهم. ويندر ان يتجردوا من اهواء نفسية واغراض

٣٩

شخصية، تجعل كل فرد يشرئب الى هذا المنصب الرفيع ما هيئ له ووجد مجالا لأرتقائه، ولو عن غير قصد، بل عن رغبة نفسية كامنة هي غريزية لا يفطن لها صاحبها او لا يعدها باطلا وخروجا عن محجة الصواب. بل حب النفس قد يحمله على الأعتقاد بأن زعامته اصلح للأمة واجدى، فيوحي الهوى للنفس البرهان المقنع على صحة رأيه.

وللمعتقد ان يعتقد ان الخليفة ابا بكر تفطن الى سوء عواقب هذا التشريع، فأسرع الى تعيين الخليفة من بعده، بالرغم على جدة هذا التشريع الذي به كان خليفة، وعلى تركزه في النفوس تتوقف صحة خلافته. كيف لا وقد شاهد هو الموقف في بيعته يوم السقيفة، وكان أدق من سم الخياط، مع غفلة الناس يومئذ عن الامر، وانشغالهم بفاجعة نبيهم.

وهكذا حذا حذوه خليفته، فاخترع طريقة الشورى من ستة اشخاص، وهي تبعد كل البعد عن قاعدة الرجوع الى اختيار اهل الحل والعقد، على ان وجدنا هؤلاء وهم ستة لا غير لم يتفقوا على رأي واحد، فلعبت دورها التحيزات والعواطف، فصغى رجل لضغنه، ومال الاخر لصهره، على حد تعبير الامام علي بن ابي طالب.

ولا شك لم يخف على الخليفة عمر استحالة حتى اتفاق الجماعة الصغيرة، فحكم فيها الأكثرية، وعند التساوي فالكفة الراجحة التي فيها عبد الرحمن بن عوف. ومع ذلك

٤٠