السقيفة

السقيفة0%

السقيفة مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 211

السقيفة

مؤلف: العلامة المجدد الشيخ محمد رضا المظفر
تصنيف:

الصفحات: 211
المشاهدات: 41109
تحميل: 11126

توضيحات:

السقيفة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 211 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 41109 / تحميل: 11126
الحجم الحجم الحجم
السقيفة

السقيفة

مؤلف:
العربية

حدد لهم الوقت بثلاثة ايام، واعطى السلطة التنفيذية لغيرهم، ليقهرهم على تنفيذ خطته.

لماذا كل هذه القيود التي وضعها، مع تهديدهم بالقتل إن تأخروا عن الموعد ولم يبرموا العهد؟ لا شك انها كانت لقصد الابتعاد عن الخلاف والنزاع الطبيعي لمثل هذا الامر. اذا القى حبله على غاربه.

وهنا وجدنا كيف أحكم عمر بن الخطاب وضع هذه الخطة، اتقاء للخلاف والنزاع على الامارة الذي لا ينفك عادة عن اراقة الدماء، في وقت اراد ألا يتحمل تبعة تعيين شخص الخليفة بعده، او انه في الأصح لم يجد نفسه تميل كل الميل إلا لتعيين احد الثلاثة الذين قد ماتوا يومئذ، وهم ابو عبيدة بن الجراح، وسالم مولى ابي حذيفة، ومعاذ بن جبل.

***

ولا اعجب ان يكون ابو بكر وعمر تفطنا الى مافي تشريع إلقاء الامر على عاتق اختيار الامة من فساد، وما ينجم منه من جدال وجلاد. ولكن عجبي ممن يتسرع فينسب ذلك التشريع الى النبي الحكيم الذي لا يفعل إلا عن وحي ولا يحكم الا بوحي. ومع ذلك يدعي الاسلام وعرفان الرسول العظيم.

ولو كان للخليفة عثمان كلمة تسمع ورأي يطاع يوم

٤١

حوصر وأيس من الحياة؛ لما تأخر عن تعيين من يخلفه قطعا. ولكن الموقف كان ابعد من ان يتحكم عليه بمثل ذلك، وهو محاط به ليخلع.

ومما يزيدنا اعتقادا بعقم هذا الحل لمشكلتنا الاجتماعية الخطيرة، انا لم نعرف خليفة تعين بهذه الطريقة إلا ابا بكر وعلي بن ابي طالب، وابو بكر كانت بيعته فتنة او فلتة وقى الله شرها على حد تعبير عمر عنها وهو نفسه الذي شيد اركانها، ومع ذلك قال عنها: (فمن دعا الى مثلها فهو الذي لا بيعة له ولا لمن بايعه)(١) .

اما علي عليه السلام، فبعد تمام البيعة له (الشرعية بنظر اصحاب هذا الرأي) قد وجدنا كيف انتفض عليه نفس اهل الحل والعقد، والأسلام بعدُ لم يرث والعهد قريب، وهؤلاء المنتقضون هم جلة الصحابة. فكانت حرب الجمل فحرب صفين اللتان اريقت بهما الاف الدماء المحرمة هدراً، وانتهكت فيهما حرمات الشريعة، وشلت بهما حركة الدين الاسلامي.

ولم نعرف بعد ذلك خليفة تعين إلا بتعيين من قبله أو بحد السيف، ولقد لعب السيف دورا قاسيا جعل العالم الأسلامي يمخر في بحر من الدماء. ولم يجرئ الطامعين بالخلافة على

______________________________

(١) كنز العمال ج٣ رقم ٢٣٢٦ وغيره.

٤٢

خوض غمار الحروب إلا سن هذا القانون. قانون الاختيار، فمهد السبيل لطلحة الزبير ان يشعلا نار حرب الجمل، ومهد لمعاوية ما اجترم، ولابن الزبير تطاوله للخلافة وهو القصير، وللعباسيين ثورتهم على الامويين ولغيرهم ما شئت ان تحدث والحديث ذو شجون.

الى هنا اجد من نفسي القناعة والأطمئنان الى القول بفساد تشريع تعيين الامام باختيار اهل الحل والعقد. وهيهات ان يكون من النبي الحكيم مثل هذا التشريع.

وكيف يخفى عليه ضرر هذا التشريع، ولا يخفى على عائشة ام المؤمنين يوم تقول لعمر على لسان ابنه عبد الله:

(لاتدع امة محمد بلا راع. استخلف عليهم ولا تدعهم بعدك هملا فاني اخشى عليهم الفتنة).

وما ادري لماذا لم يشر احد على محمد عليه افضل التحيات ان يستخلف او يبين على الاقل طريقة الأستخلاف حتى لا يفتتنوا، كما اشارت عائشة على عمر؟ ولماذا لم يسأله احد عن هذا الأمر، وهم يسألونه عن الكبيرة والصغيرة لماذا...؟

والمرجح انه سئل فأجاب، ولكن التأريخ هو المتهم في اهمال مثل هذه القضايا. على ان تأريخ الشيعة لم يهمل مثل هذا السؤال والجواب الصريح عليه.

٤٣

٤ - لا نص في قاعدة الاختيار

لنتنازل الان عن جميع ما قلناه في البحث السابق من فساد تشريع قاعدة الاختيار، ولكن ألا يجب علينا ان نسأل مدعي صدور هذا التشريع من النبي عن الدليل عليه في كتاب أو سنة.

وبودي ان يدلني احد على قول الرسول في هذا الشأن، فما سمعنا عنه انه قال يوما: ان الاختيار في تعيين الأمام لأهل الحل والعقد، او انه امر الأمة باختيار الأمام بعده، لا تصريحا ولا تلويحا. على ان الدواعي جد متوفرة لنقل مثل هذا القول، والقوة والحول في صدر الاسلام الى ما بعده في يد من يرتئي هذا الرأي ويدافع عنه، فليس لأحد ان يدعي ان هذا الاثر قد خفي علينا او امتنع الرواة عن نقله.

أجل! إلا ان الله تعالى قال في كتابه العزيز:( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) .

إذن لم يثبت عن النبي قول وتصريح في هذا الأمر من الاتكال على اختيار الأمة، بل قال تعالى:( مَا كَانَ لَهُمُ

٤٤

الْخِيَرَةُ ) . فلنذهب الان من طريق ثانية الى إثبات صحة هذا التشريع، فنقول:

(أليس النبي كان غير غافل عن امر الخلافة! ولكنه سكت عن الحل لمشكلتها بطريق النص على احد من اصحابه، فلا بد انه أوكل ذلك الى اختيار أمته، فيكون سكوته إذن دليلا على هذا الايكال).

وهذا يقرب من التفكير الصحيح لأول وهلة، اذا استطعنا التصديق بسكوته عن النص فلذلك لا يصح إلا اذا ثبت لنا ان لا نص هناك، فوجب ان ننظر فيما تقوله اهل السنة والشيعة من النص على ابي بكر او علي بن ابي طالب. وسيأتي في البحث (٧)و(٨).

ولكن لو فكرنا قليلا، فلا نرضى لمصلح عاقل فضلا عن النبي الكريم ان يرمز لهذا الأمر العظيم الذي وقع فيه اعظم خلاف في الامة بمثل هذا الرمز الخفي. وما الذي يلجئه الى مثل هذا الدليل الصامت إن صح هذا التعبير مع علمه بما سيقع بعده من انشقاق وخلاف تتسع شقته هذا الاتساع، وتتخلله فتن وحروب أنهكت المسلمين وأفسدت روحية الاسلام؟!.

أما كان الجدير اذا لم يكن قد نص على احد ان يصرح لامته بايكال الأمر الى اختيارهم؟ ثم يحدده باختيار اهل الحل والعقد منهم، او يحدده بخصوص اهل المدينة او

٤٥

اهل عاصمة الخلافة، ثم يكتفي باختيار الواحد والاثنين منهم (على ما يذهب اليه جماعة من علماء اهل السنة)، ثم يذكر شروط الامام حتى يعرفوا من يجب ان يختاروه!

أكل هذه الامور والقيود نستقيها من هذا الدليل الصامت ويكون هذا السكوت حجة على من يشكك في واحد من هذه الشئون فيستحق عقاب الخالق الجبار، ثم مع ذلك يخرج عن ربقة الاسلام ويدخل في زمرة الكافرين؟!.

اللهم اشهد علي اني لا أستطيع ان أؤمن بصحة دليل صامت يدل هذه الدلالة الواسعة على اعظم الشئون العامة التي يعم بلاؤها جميع الخلق في كل زمان ومكان، في وقت الحاجة الى دليل ناطق وحجة واضحة.

اللهم اشهد اني لا استطيع ان أؤمن بذلك إلا اذا فقدت حرية التفكير ومسكة العقل.

٥ - اختلاف امتي رحمة

وأخشى الآن أن أكون قد أخذت بقلمي النعرة المذهبية في بحثي السابق، فبالغت في تشويه تلك الدعوى وخرجت عن خطتي التي رسمتها لنفسي.

وهل تراني اخفف وطأة من تلك السورة، فأطمئن الى

٤٦

تعليل مقبول لذلك الصمت، بأن أقول: إن الرسول إنما ترك بيان هذا الأمر ليوقع الخلاف بين امته رحمة بهم لما روى عنه: (اختلاف أمتي رحمة)؟.

ولكن هيهات! إن لم تؤول الكلمة بما يتفق ومبادئ الاسلام(١) فانها الكذب الصراح على داعية الوحدة ومقاتل نزعات الجاهلية الاولى بسيف من الاخوة الاسلامية انتشل العرب من هوة عميقة للتفرق والنزاع والنزال.

إن أكبر ظاهرة للاسلام بل من أعظم أعماله، تلك الدعوة الى الوحدة المطلقة بأوسع معانيها وتحطيم الفروق حتى بين الشعوب والامم المختلفة. ألا (إنما المؤمنون إخوة).

______________________________

(١) هذه الكلمة مروية من طرق الطرفين. والوارد في تفسيرها عن آل البيت غيرما يتخيل من ظاهرها ففي علل الشرايع: (انه قيل للامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: ان قوما يروون أن رسول الله قال: (اختلاف امتي رحمة)، فقال : صدقوا، فقيل: اذا كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب، قال ليس حيث تذهب وذهبوا انما أراد قول الله عز وجل( فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ ) واختلاف أهل البلدان الى نبيهم ثم من عنده الى بلادهم رحمة... ) الخبر. ومثله في معاني الأخبار للصدوق، وفيه: (انما أراد اختلافهم من البلدان لا اختلافا في دين الله، انما الدين واحد).

٤٧

وليس هناك شئ في الاسلام غني عن البرهان بل عن البيان مثل دعوته الى الوحدة والعمل لها بكل الوسائل، ليكون المؤمنون كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا. وقد تجلى ذلك ظاهرا في كثير من الأحكام العملية: في وجوب الحج وصلاة الجمعة والجماعة وحرمة الغيبة واللمز والغمز والقذف... وما الى ذلك مما لا يحصى، وبعد هذا أيمكننا ان نجرأ فندعي ان الرسول يدعو الى الخلاف! وأكثر من ذلك يسعى الى التفرقة، وأية تفرقة هي؟ إن هذا لبهتان عظيم وزور مبين! اللهم اني استجير بك من شطحات القلم والتفكير.

٦ - الاجماع على قاعدة الاختيار

وهنا لا بد أن ننصف في القول فلا نجري الكلام على عواهنه، فأني لم أعرف عن اخواننا أهل السنة أنهم فسروا هذا الصمت المدعى بذلك التفسير إلا من قل. وعلى الاقل انهم لم يجعلوه وحده دليلا على ايكال أمر الخلافة لاختيار أهل الحل والعقد، وإما يستدلون باجماع أهل الصدر الاول على كفاية اختيار أهل الحل والعقد، بدليل بيعة أبي بكر يوم السقيفة. وعندهم الاجماع حجة لما روي عنه عليه الصلاة والسلام، (لا تجتمع أمتي على الخطأ) و (لا تجتمع أمتي على ضلال).

٤٨

ولكن الشيعة لا يعتبرون مثل هذا الاجماع. وإنما يعتبرون الاجماع اذا كشف عن رضى امام معصوم حيث يكون داخلا في أحد المجمعين. وبيعة أبي بكر لم تقترن بموافقة الامام وهو علي بن أبي طالب فلم يتم عندهم الاجماع الذي يكون حجة.

ويذهبون الى أكثر من ذلك، فيقولون إن الاجماع بكل معانيه لم ينعقد على صحة بيعة أبي بكر، لمخالفة علي الذي يدور معه الحق حيثما دار ومخالفة قومه بني هاشم وسعد بن عبادة وابنه وجماعة من كبار الصحابة كسلمان وابي ذر والمقداد وعمار والزبير وخالد بن سعيد وحذيفة اليمان وبريدة وغيرهم. ولم يبايع من بايع منهم بعد ذلك إلا قهرا واضطرارا حفظا لبيضة الاسلام وتوحيدا لكلمة المسلمين. ولا يصح بحال ان يدعي ان هؤلاء ليسوا من اهل الحل والعقد، وهم من تعرف. ويقول الشيعة ايضا: لم يتكرر بعد ذلك تعيين الامام باختيار أهل الحل والعقد، حتى نؤمن بحصول الاجماع على صحة الاختيار في تعيينه، لان كل خليفة تعين إنما تعين بنص السابق عليه أو بحد السيف والقوة، ما عدا علي بن ابي طالب عليه السلام، وهو امام بالنص من النبي صلى الله عليه وآله ولا شأن لاختيار الامة في امامته.

* * *

هكذا اختلف الطرفان، وأجدني الآن حائرا إزاء أدلة

٤٩

الطرفين. واذا اردت ان اعالج في بحثي حادث السقيفة فانما اعالجه من عدة نواح هذه أهمها، فهل استطيع ان استنتج الحكم الفاصل لاحدى الطائفتين؟ هذا ما قد يكشفه مستقبل البحث، وكل آت قريب ولا أتنبأ بالنتيجة قبل وقتها.

وكنت راغبا في بحثي هنا أن احصل على نتيجة حاسمة قبل الدخول في تفسير حوادث السقيفة، بل قبل الدخول في البحث عن النص على الامام بعد النبي في هذا الفصل، ولكني هنا وجدت هذه المسائل متداخلة بعضها آخذ برقاب بعض.

ومع ذلك أجد بامكاني أن أضع تقريرا يقرب من التفكير الصحيح مع الاعراض عما يقوله الطرفان في هذا الشأن، مستعينا بما تقدم في الابحاث السابقة، فهل تعيرني تفكيرك لحظة.

لاحظ انك لا تشك وانا معك ان النبي ما فاه ولا ببنت شفة عن قاعدة انعقاد الامامة باختيار أهل الحل والعقد، مع ان الواجب يدعو للبيان الصريح، كما قلنا آنفا، فلماذا سكت عن ذلك؟.

أكان إهمالا وتوريطا للمسلمين في الخلاف والنزاع، او أنه لم يشرع مثل هذا التشريع؟ والثاني هو الاقرب للصحة. وعليه فما قيمة الاجماع إن تم مع علمنا بان هذا الامر ليس من الدين ولم يشرعه الله على لسان نبيه، على أنا وجدنا في

٥٠

ابحاثنا السالفة ان البرهان الصحيح يقودنا الى الاعتراف بفساد هذا التشريع، فنعلم بنتيجة ان النبي لم يشرعه لأمته، فلا بد ان نتهم الاجماع المدعى باحدى التهم المتقدمة.

هذا من جهة ومن جهة اخرى، انا لا أدري أن هؤلاء الذين اقدموا على الاجتماع في السقيفة لعقد البيعة بدون مشورة من جميع الموجودين في المدينة وغيرهم على أي سناد استندوا وبأية حجة اجتمعوا.

والمفروض ان لاحجة إلا الاجماع، وهو على فرضه بعد لم ينعقد على صحة عملهم؟ فهذا العمل من أساسه كان بغير حجة قائمة ولا بينة واضحة، ولذا قال عمر لسعد بن عبادة: (اقتلوه قتله الله إنه صاحب فتنة).

فلأي شيء استحق القتل ولم يكن يدعو إلا الى نفسه كما دعا غيره؟ ولماذا كان صاحب فتنة؟ ليس إلا لأن دعوته من غير حجة قائمة. وإذا كان قد ثبت من النبي صحة انعقاد الخلافة بأختيار أهل الحل والعقد، ويكتفي بمثل القوم الذين اجتمعوا في السقيفة يومئذ فلم يكن قد دعا سعد إلا الى ما هو مشروع لا يستحق عليه قتلا ولا غضباً.

أما النص المروي: (الأئمة من قريش) فلم يكن معروفاً عند المهاجرين يومئذ او أنهم لم يريدوا ان يعرفوه، ولذا لم يستدلوا له ذلك اليوم، بناء على ما هو الصحيح وإنما

٥١

استدل الخليفة أبو بكر بالقرابة من الرسول وان العرب لا تعرف هذا الأمر إلا بهذا الحي من قريش.

٧ - النص على أبي بكر

لم نتوقف فيما مضى للاعتقاد بأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو كل نصب الامام الى اختيار الامة، أو أهل الحل والعقد منهم خاصة... وهنا نبحث عما إذا كان قد عين شخص الامام بعده، فمن هو هذا الامام؟

أصحيح انه هو (أبو بكر)؟ يقطع الباحث ان الأحاديث المروية في النص عليه موضوعة إذا كان يفهم منها النص المدعي وليس أدل على ذلك مما ثبت من تصريحاته نفسه، ولا سيما عندما تمنى قبيل موته ان يسأل عن أشياء ثلاثة ترك السؤال عنها، أحدها أمر الخلافة انه فيمن حتى لا ننازع أهله. ثم من تصريحات خليفته عمر بن الخطاب لا سيما عندما دنت منه الوفاة فصرح ان النبي لم يستخلف. ثم من تصريحات عائشة (وهي المدافعة والمنفحة عن أبيها وقد قامت بقسط وافر من تأييده وتثبيت خلافته) فنفت الاستخلاف لما سئلت من كان رسول الله مستخلفاً لو استخلف.(١)

______________________________

(١) ومن الغريب اعتذار ابن حزم: (ان هذا الأثر خفي على عمر كما خفي عليه كثير من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله كالاستيذان وغيره، أو أنه أراد استخلافا بعهد مكتوب، ونحن نقر ان استخلافه لم يكن بعهد مكتوب. وأما الخبر في ذلك عن عائشة فكذلك ايضاً... ). ولئن خفي هذا الأمر على عمر وعائشة فعلى غيرهما اخفى واخفى، على ان جمله ارادتها للعهد المكتوب فابعد وابعد.

٥٢

ويكفينا لعدم الوثوق بهذا النص المدعى أن نطلع على مجرى حادث السقيفة، ونعرف استدلال من استدل على صحة بيعته بالاجماع. أولا تراه نفسه يوم السقيفة كيف قدم للبيعة عمر وأبا عبيدة، فقال : (قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين). أتراه كان لا يعلم بالنص عليه، أو كان عالماً به ولكنه أعرض عنه؟ لا شيء منهما يصح أن يقال.

ولا شيء أوضح من خطبته يومئذ إذ يقول فيها: (ان العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لقريش أوسط العرب داراً ونسباً).

بل لو كان نص عليه لما كانت العرب تعرف هذا الأمر إلا لشخصه بنص صاحب الرسالة. وليس المقام مقام حياء من الدعوة الى نفسه.

وعندي لا شيء أوضح من وضع الأحاديث في النص

٥٣

عليه وأجد ان الذي ألجأ الى وضعها ان من وضعوها بعد ان ضاقوا ذرعاً بالاستدلال على خلافته بالاجماع، مما وجدوه من مخالفة من خالف ممن لا يمكن اهمال شأنهم. وهذا هو التعصب الذي يحمل صاحبه على الكذب والاختراع، فيقف حجر عثرة دون وصول طالب الحقيقة الى هدفه، ويجعل النفس لا تثق بكل ما يرويه هذا المتعصب فيما يخص معتقده، بل في كل شيء.

* * *

أما قضية تقديمه للصلاة فان صحت (وهي صحيحة بمعنى انه صلى بالمسلمين)، فليس فيها اية اشارة الى تعيينه للخلافة، فضلا عن النص، لأن الامامة في الصلاة ليست بالأمر الخطير الشأن الذي لا يكون إلا لمن له الامامة، ولا سيما على مذهب اهل السنة، وكان ائمام المسلمين بعضهم ببعض مما اعتادوا عليه، وشاع يومئذ بينهم بترغيب النبي فيه، فقد ورد(١) ان ابا بكر صلى بالناس من دون إذن النبي صلى الله عليه وآله لما ذهب الى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم.

ولا اعتقد بصحة ما يروى ان النبي هو الذي قدمه للصلاة وانه صلى أياما، لأن ابا بكر كان من جيش اسامة من غير شك وسيأتي وقد نهى النبي عن التخلف عنه،

______________________________

(١) راجع صحيح البخاري ١ : ٨.

٥٤

وشدد في الاسراع بانفاذه، فكيف يجتمع هذا مع تقديم النبي له للصلاة مدة مرضه؟

نعم الثابت انه صلى صلاة واحدة وهي صلاة الغدير يوم الأثنين يوم وفاة النبي صلى الله عليه وآله ، وقبل ان يتمها خرج صاحب الرسالة يتهادى بين رجلين ورجلاه تخطان الأرض من الوجع فصلى بالناس صلاتهم وتأخر ابو بكر. فان عائشة هي التي روت امر النبي بتقديمه لا غيرها، وانها راجعته في ذلك حتى قال لها غاضبا: (انكن لأنتن صواحب يوسف) وهي نفسها تروي خروجه في نفس تلك الصلاة(١) . وكان خروجه بهذه الحال الى الصلاة يوم وفاته وهو يوم الأثنين.

ولو ان النبي كان قدمه للصلاة اشارة الى خلافته، فلماذا خرج بهذه الحال المؤلمة، وصلى بالناس صلاة المضطرين جالسا؟

ولا معنى ما يقال: (انه صلى ابو بكر بصلاة النبي وصلى الناس بصلاة ابي بكر) فمن هو الامام اذن ؟ ان كان أبا بكر فلم يكن قد صلى بصلاة النبي، وان كان النبي فلم تكن الناس قد صلت بصلاة أبي بكر، وتأويله ان صح ان النبي جالسا فلا يرون شخصه وكان مريضا فلا يسمعون

______________________________

(١) صحيح البخاري (١ : ٧٨و٨٤ في حديثين). وصحيح مسلم في باب استخلاف الامام اذا عرض له من كتاب الصلاة.

٥٥

صوته، فكانت الناس تعرف ركوعه وسجوده بصلاة أبي بكر الذي كان بازائه لما تأخر عن مقامه.

والأحاديث مضطربة في هذا الباب ، مع أن أكثرها عن عائشة ام المؤمنين واختلافها الجوهري في ستة امور:

١ - (في علاقة عمر بالصلاة) فيذكر بعضها ان النبي قال: (مروا عمر) بعد مراجعة عائشة عن أبيها فأبي عمر وتقدم أبو بكر وبعضها ذكر انه أبتداء أمر عمر، فقال عمر لبلال قل له ان أبا بكر على الباب. وحينئذ أمر أبا بكر. وبعضهم ذكر انه اول من صلى عمر بغير اذن النبي فلما سمع صوته قال : (يأبى الله ذلك والمؤمنون) وفي بعضها انه أمر أبا بكر ان يصلي نفس الصلاة التي صلاها عمر بالناس، وفي بعضها صلى عمر وكان ابو بكر غائبا. وفي بعضها ان النبي أمر أبا بكر وأبو بكر قال لعمر صل بالناس فامتنع.

٢ - (في من أمره النبي ليأمر ابا بكر)، فبعضها تذكر عائشة ، وبعضها بلالا، وبعضها عبد الله بن زمعة.

٣ - (فيمن راجعه في أمر أبي بكر)، فبعضها تذكر عائشة وحدها راجعته ثلاث مرات أو أكثر، وبعضها تذكر عائشة راجعته ثم خالت لحفصة فراجعته مرة أو مرتين ، فلما زجرها النبي قالت لعائشة: ( ما كنت لأصيب منك خيراً).

٥٦

٤ - ( في الصلاة المأمور بها)، فبعضها يخصها بصلاة العصر وبعضها بصلاة العشاء، والثالث بصلاة الصبح.

٥ - (في خروج النبي)، فبعضها تذكر انه خرج وصلى ، واخرى تقول أخرج رأسه من الستار والناس خلف ابي بكر ثم القى الستار ولم يصل معهم.

٦ - (وفي كيفية صلاة النبي بعد الخروج)، فيذكر بعضها انه ائتم بأبي بكر بعد أن دفع في ظهره ومنعه من التأخر. وبعضها ان أبا بكر تأخر وائتم بالنبي. وبعضها ان ابا بكر صلى بصلاة النبي والناس بصلاة ابي بكر. وبعضها ان النبي ابتدأ بالقراءة من حيث انتهى ابو بكر.

٧ - (في جلوس النبي الى جنب ابي بكر) فبعضها تذكر جلوسه الى يساره، وبعضها الى يمينه.

٨ - (في مدة صلاة ابي بكر)، فبعضها تجعلها طيلة مرض النبي، واخرى تخصها بسبع عشر صلاة، وثالثة بثلاثة أيام، ورابعة بستة، ويظهر من بعضها انه صلى صلاة واحدة.

٩ - (في وقت خروج النبي الى الصلاة)، فبعضها صريحة في انه خرج لنفس الصلاة التي امر بها ابا بكر، وبعضها صريحة في انه خرج لصلاة الظهر بعد صلاة ابي بكر اماما، وبعضها صريحة في خروجه لصلاة الصبح.

٥٧

وهذه الاختلافات كما رأيت في جوهر الحادثة. ولم يظهر من الأخبار تعدد امر النبي له بالصلاة ولا تعدد خروجه. وهذا كله يذهب بالاطمئنان بتصديقها في خصوصيات الحادثة لا سيما فيما يتعلق بأمر النبي له، نعمُ يعلم منها شيء واحد على الاجمال هو صلاة ابي بكر بالناس قبل خروج النبي.

ولعل أبا بكر كان مخدوعا في تبليغه أمر النبي، كما جاء في الحديث ان عبد الله بن زمعة خدع عمر بن الخطاب فبلغه أمر النبي له بالصلاة.

واحسب ان اصل الواقعة ان النبي صلى الله عليه وآله أمر الناس بالصلاة لما تعذر عليه الخروج من دون ان يخص احداً بالتقديم، فتصرف متصرف ، وتأول متأول. ولما بلغ ذلك اسماع النبي التجأ ان يخرج يتهادى بين رجلين ورجلاه تخطان الأرض من الوجع، فصلى بالناس جالسا صلاة المضطرين، ليكشف للناس هذا التصرف الذي استبد به عليه.

واستغرب توبيخه لعائشة لما راجعته عن أبيها إذ قال لها: (انكن لأنتن صواحب يوسف). لماذا هذا التوبيخ القارص؟ وأي شيء صنعته تستحق به هذا اللوم؟ ألا أنها ضنت على أبيها بهذه الكرامة، فلئن لم تستحق المدح فعلى الأقل لا تستحق مثل هذا التوبيخ.

ومن هنا يتطرق الشك ايضا في صحة تقديم النبي لأبي

٥٨

بكر، ويبدو أنه كان من أمرها وتدبيرها، فلذا وجهت اليها هذه الكلمة اللاذعة، لا لمراجعة هناك. ولا شك انها ترغب لأبيها كل فضيلة وتلزه لزاً. ولذا التجأت ان تعتذر عن مراجعتها المستغربة منها التي ادعتها بانها انما كانت تحب ان يصرف عن أبيها لأنها رأت ان الناس لا يحبون رجلا قام مقام النبي ابداً وانهم سيتشأمون به في كل حدث كان.

ألا تراها كيف بعثت الى ابيها تدعوه لما بعث النبي الى علي يدعوه ليوصيه، وكذلك صنعت حفصة لأبيها، ولكن النبي لما رآهم قد اجتمعوا أمرهم بالانصراف وقال: (فإن تك لي حاجة ابعث اليكم)(١) وهذا قول من عنده ضجر وغضب باطن.

والنتيجة: انه ليس هناك ما يستحق ان يسمى نصا ، ولا اشارة الى خلافة ابي بكر.

٨ - النص على علي بن أبي طالب

اذن، أفصحيح ما تقوله الشيعة من النص على علي عليه السلام؟ ايها القارئ! بودي ان يكون حياديا، فلا تنظر الى ما تقوله الشيعة عن هذا الرجل إلا بتقزز، حتى لا اكلفك

______________________________

(١) الطبري (٣ : ١٩٥).

٥٩

بالرجوع الى كتبهم واخبارهم. وانا معك الان سأطرحها جانبا. وما يدرينا لعل حبهم وتعصبهم لصاحبهم يسوقانهم الى القول عنه بما لم يكن، كما ساق أهل السنة الى رواية النص على أبي بكر. فلنأخذ حذرنا من الان.

وبعد هذا اترانا نحذر من مؤلفات اهل السنة وصحاحهم في حق علي، وهم ان تعصبوا فعليه، لا له؟ كلا؟ فان الكثير من محدثيهم يحذرون كل الحذر من رواة مدحه وفضائله، فيقدح المؤلف منهم في الراوي الذي تشم منه رائحة الميل اليه، ويرسلون الطعن في الحديث ارسالا فيقولون: (وفي متنه غرابة شديدة)، وليس إلا لأنه لا يتفق وعقيدته ويكفي في الثقة بالمحدث ان يكون ممن يميل عنه كأبي هريرة والمغيرة بن شعبة وعمران بن حطان وامثالهم.

وقبل ذلك نجد سيوف بني أمية مسلولة على رؤس الرواة لئلا ينسبوا فضيلة لهذا الذي ناصبوه العداء وسنّوا سبّه على المنابر والمعابر. ونجدهم كيف كانوا يغدقون بالاعطيات على الطاعنين فيه والمنحرفين عنه.

ولذا تراني اطمئن كل الاطمئنان وانت معي لا شك الى كل حديث خلص من هذه العقبات، واستطاع ان يطلع رأسه من بين الأحاديث ظافرا بالصحة والتأييد، فسجلته كتب اهل السنة وصحاحهم في فضل علي والنص على خلافته، ومع هذا فستجدني لا اعتمد إلا على بعض

٦٠