السقيفة

السقيفة0%

السقيفة مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 211

السقيفة

مؤلف: العلامة المجدد الشيخ محمد رضا المظفر
تصنيف:

الصفحات: 211
المشاهدات: 43343
تحميل: 12188

توضيحات:

السقيفة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 211 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 43343 / تحميل: 12188
الحجم الحجم الحجم
السقيفة

السقيفة

مؤلف:
العربية

وإذا علمنا ان علي بن ابي طالب هو المهيأ لولاية امور المسلمين بعد النبي على الأقل ان فرض انه لم يكن هو المنصوص عليه، أفلا يثبت لنا ان قضية اسامة كانت لقبول الناس امارة علي على صغر سنه يومئذ بالقياس الى وجوه المسلمين وكان إذ ذاك لا يتجاوز الثلاثين؟ وهذا ما يفسر به المشكل الأول والثاني في هذا البعث.

و(ثانيا)- ان يبعد عن المدينة ساعة وفاته من يطمع في الخلافة خشية ان يزيحوها عن صاحبها الذي نصبه لها في الخلافة. وقد ثبت عنه انه كان يتوجس خيفة على اهل بيته ولا سيما على علي، فوصفهم بأنهم المظلومون من بعده. ولذا نراه اوعب في هذا الجيش كل شخصية معروفة تتطاول الى الرئاسة، ولم يدخل فيه عليا ولا احدا ممن يميل اليه الذين كانوا له بعد ذلك شيعة ووافقوه على ترك البيعة لأبي بكر، فلم يذكر واحد منهم في البعث، وهم ليسوا اولئك النكرات الذين لا يذكرون.

وهذا ما يفسر تباطؤ القوم عن البعث وعرقلتهم له بخلق الاشاعات في المعسكر عن وفاة الرسول، مع اصراره صلى الله عليه وآله ذلك الاصرار العظيم ولم يمكنهم ان يصرحوا بما في نفوسهم، فاعتذروا بصغر قائدهم، وفي هذا كل معنى التهجين لرأي النبي وعصيان أمره الصريح.

فكان الغرض اخلاء المدينة من المزاحمين لعلي ليتم الأمر

٨١

له، بعد ان اتضح للنبي ان التصريحات بخلافته لا تكفي وحدها للعمل بها عندهم، كما امتنعوا عن السير تحت لواء اسامة وهو لايزال في قيد الحياة، فقدر أن القوم إذا ذهبوا في بعثهم هذا يرجعون وقد تم كل شىء لخليفته المنصوب من قبله، فليس يسعهم إلا ان ينضووا حينئذ تحت جماعة المسلمين ورايتهم.

و(ثالثا)- ان يقلل من نزوع المتوثبين للخلافة، ليقيم الحجة لهم وللناس بأن من يكون مامورا طائعا لشاب يافع ولا يصلح لامارة غزوة موقته كيف يصلح لذلك الأمر العظيم وهو ولاية امور جميع المسلمين العامة، وهي في مقام النبوة وصاحبها اولى بالمؤمنين من انفسهم.

وزبدة المخض ان بعث اسامة لايصح أن يفسر إلا بأنه تدبير لاتمام أمر علي بن أبي طالب بمقتضى الظروف المحيطة به من تقدم النص على علي وقرب أجل النبي صلى الله عليه وآله وعلمه بأن هناك من لايروق له ولاية ابن عمه، وبمقتضى الدلائل الموجودة في الواقعة نفسها: من تأمير فتى يافع وتكديس وجوه القوم وقوادهم في البعث وعدم دخول علي ومن يميل اليه وامتناع جماعة عن الالتحاق بالجيش وحث النبي على تنفيذه وغضبه من اعتراضهم وتخلفهم، وهو في مرض الفراق والظرف دقيق على المسلمين.

فهذا البعث في الوقت الذي كان تدبيرا لاخلاء المدينة

٨٢

لعلي وحزبه كان حجة على المستصغرين لسنة ودليلا على عدم صلاح غيره لهذا المنصب العظيم. فاذا كان الاخلاء لم يتم لتمانع القوم وعرقلتهم للبعث فان الحجة ثابتة مع الدهر.

ولايصح للباحث ان يدعي إنَ السبب الحقيقي لتخلف القوم هو ما تظاهروا به من عدم الرضى بامارة قائدهم الصغير، وان تذرعوا به من عذرا لاخفاء تلك الشنشنة التي عرفها النبي من اخزم، لأنا نرى ان لو كان هذا هو السبب الحقيقي، لما تنفذ البعث بعد أن تم أمر الخلافة الذي به زال المانع الحقيقي، والمسلمون الى النبي اطوع منهم الى ابي بكر لو كان يمنعهم صغر القائد. ولم يتأب عمر نفسه بعد ذلك ان يخاطب اسامة بالامير طيلة حياته اعترافا بامارته.

اما الشفقة على النبي ان لم تكن عذرا آخر تذرعوا به فلا يصح ان تكون سببا حقيقيا، إذ ينبغي أن يكونوا عليه أشفق بالتحاقهم بالبعث، وقد غضب أشد الغضب من تأخرهم على ما فيه من حال ومرض. ولئن ذهبوا يسألون عنه الركبان كان أكثر براً بنبيهم من أن يعصوا امره ويغضبوه ذلك الغضب المؤلم له.

ولو ان القوم كانوا قد امتثلوا الأمر لأصابوا خيرا كثيرا ولتبدل سير التأريخ ومجرى الحوادث تبدلا قد لا يحيط به حتى الخيال( ولو ان أهل القرى لآمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)

٨٣

ولما وقع ما وقع بعد ذلك من خلاف بين المسلمين وتطاحن وحروب دموية انهكت قوى الاسلام واضعفت روحية الدين حتى انفصمت عرى الجامعة الاسلامية سريعا وانتهكت حرمات الأحكام الدينية، فعاد الاسلام كما نشاهد اليوم غريبا كما بدىء.

أي أمر عظيم وتدبير حازم صنعه النبي لسد باب كل خلاف يحدث؟( وكل أفعاله عظيمة) لو تم ما اراد. ولكن لا امر لمن لايطاع.

ب - ائتوني بكتف ودواة

قد شاهد النبي صلى الله عليه وآله ما كان من أمر عرقلة بعث اسامة، وهؤلاء القوم المتباطؤن لم ينفع معهم صعوده المنبر عاصبا رأسه في أشد حال لا تقله رجلاه مما به من لغوب، مشددا عليهم النكير على مقالتهم في حق اسامة وتخلفهم عن البعث.

وهي اول حادثة من نوعها تمر على النبي في المدينة، لا يطاع امره ويتجاهل حكمه، ويتساهل في غضبه، ثم لا يستطيع ان ينفذ هذا الأمر وهو مصر على تنفيذه الى آخر يوم من حياته إذ دخل عليه اسامة راجعا من الجرف فأمره بالسير غاديا.

لاشك ان مثل هذا الحادث يدعو الى تدبير آخر سريع

٨٤

لاتمام الامر لعلي، ومنه يتأكد للنبي جليا ما عليه القوم من التواطؤ على عدم التقيد بالنص على علي. وهم إذ كانوا في حياته لايطيعون أمره في هذا السبيل فكيف اذن بعد وفاته. فلم يجد بعد هذا من خيرا من ان يكتب لهم كتابا فاصلا لا يضلون بعده ابدا، لأنه سيكون امرا ثابتا لا يقبل التأويل والنكران والتناسي، لا كالكلام الذي لا يحفظ الا في الصدور وهي لاتسلم من دخل.

ما أعظمه من كتاب؟

أهم لايضلون بعده ابدا؟

ما أعظمها من نعمة!‍

بالله أباللّه أهكذا قال النبي؟

نعم! لما اشتد المرض به(يوم الخميس) وفي البيت رجال منهم عمر بن الخطاب، قال صلى الله عليه وآله : (هلموا اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ابدا).

فأية فرصة غالية هذه يجب ان يقتنصها الحاضرون لهم ولجيلهم للأجيال اللاحقة حتى الأبد؟ وأية نعمة كبرى هذه لا تعادلها نعمة!... أما كان على المسلمين ان يستغلوها اعظم غنيمة فيسرعوا الى تلبية هذا الطلب ليخلد لهم الهدى ما بقوا؟ فأي شىء كان يؤخرهم عن اقتناص هذه النعمة؟

او ليس عمر بن الخطاب حال دون هذا التدبير، فأوهى

٨٥

منه عقدته المحكمة، فقال:( ان رسول الله قد غلبه الوجع أو ليهجر وعندكم القرآن وحسبنا كتاب الله)!. فاختلف الحضور واكثروا اللغط والنقاش، منهم من يقول قربوا يكتب لكم كتابا لاتضلوا بعده، ومنهم من يقول: ما قال عمر.

فما ترى نبي الرحمة صانعا بعد هذا؟ أيكتب الكتاب وهو في زعم بعضهم على حال مرض غالب( حاشا النبي الذي لاينطق عن الهوى ان هو إلا وحي يوحى)، فكيف إذن يهتدون به ولايضلون بعده ابدا، وقد وقع فيه الخلاف من الآن، وطعن بتلك الطعنة النجلاء التي لاسبرلها ولا غور. فلم يجد روحي فداه إلا ان ينهرهم وينبههم على خطأهم فقال: (قوموا. ولا ينبغي عند نبي نزاع) لتبقى هذه الحادثة حجة على مرور القرون.

حقا انها لرزية من أعظم الرزايا سببت كل ضلال وقع ويقع بعد النبي. وحق لإبن عباس حبر الأمة ان يبكي عند تذكرها حتى يخضب دمعه الحصباء ويقول:( ان الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وبين ان يكتب لهم ذلك الكتاب).

وليفكر المفكر أي شىء كان يدعو عمر ليقول هذه المقالة القارصة في حق النبي المختار، وما ضره لو كان يكتب هذا

٨٦

الكتاب ليعصم الخلق عن الضلالة ابد الدهور وسجيس الليالي؟

أكان لايحب أن يبقى الخلق على هدى لا يضلون؟

أم كان يعتقد حقيقة ان النبي ليهجر. ولكن لا يعتقد هذا الاعتقاد إلا من كان يجهل حقيقة النبي وما جاء به القرآن من الآيات التي ندد بها على المشركين. وليس ذلك عمر. وما باله لم يعتقد بهجر ابي بكر( وليس شأنه شأن النبي) لما أوصى بالخلافة، وكان قد أغمى عليه اثناء تحرير الاستخلاف، فأتم ذلك عثمان بالنص على عمر من دون علم ابي بكر، خشية ان يدركه الموت قبل الوصية، فأمضى ما كتبه عثمان لما استفاق.

أم ماذا؟

ليتني أستطيع أن افهم غير انه علم بما سيكتبه النبي من النص على علي، وقد سبق للنبي ان عبر مثل هذا التعبير في العترة يوم الغدير إذ ذكر الثقلين كتاب الله وعترته اهل بيته ووصفهما بأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، ثم قال: (لن تضلوا ان اتبعتموها)(١) أو على المشهور( لن تضلوا ما ان تمسكتم بهما ابدا) ففهم عمر من قوله:( لا تضلوا بعده ابدا) ماذا سيريد ان يكتب الرسول. ويشهد لتنبه عمر

______________________________

(١)مستدرك الحاكم(١٠٦:٣).

٨٧

لذلك قوله: (حسبنا كتاب الله) إذ فهم ان غرض النبي ان يقرن الثقلين احدهما بالآخر فكأنه قال: يكفينا واحد منهما وهو الكتاب ولا حاجة لنا بالآخر، وإلا فما كان معنى لقوله حسبنا... وهو يدعي هجر النبي صلى الله عليه وآله

فكانت هذه المقالة من عمر والمقالة بمشهد النبي للحيلولة دون الكتاب لعلي، اقداما جريئا جاء في وقته المناسب له قبل أن تفوت الفرصة. ولا يشبهه أي موقف آخر منه على كثرة مواقفه في اتمام البيعة لأبي بكر، كما سنرى في انكاره موت النبي وموقفه في السقيفة وبعدها فانه هو الذي شيد(١) بيعة ابي بكر وكافح المخالفين. ولولاه لم يثبت لأبي بكر امر ولا قامت له قائمة: فقد كسر سيف الزبير، ودفع في صدر المقداد، ووطأ سعد بن عبادة وقال: اقتلوه فانه صاحب فتنة، وحطم انف الحباب بن المنذر، وتوعد من لجأ الى بيت فاطمة عليها السلام وكان بيده عسيب نحل(٢) بعد خروجهم من السقيفة يدعو الناس الى البيعة...

ولا يستطيع الباحث ان ينكر من عمر بن الخطاب تمالؤه على علي بن ابي طالب ويقظته فيما يخص استخلافه. وكذلك جماعته الذين شاهدنا منهم التعاضد والتكاتف في اكثر

______________________________

(١) راجع شرح ابن ابي الحديد(٥٨:١).

(٢) راجع كنز العمال(ج٣ رقم ٢٣٤٦ و٢٣٦٣).

٨٨

الحوادث كأبي بكر وابي عبيدة سالم مولى حذيفة ومعاذ بن جبل واضرابهم. وكذا علي نفسه ظاهر عليه جليا ميله عن هؤلاء في جميع مواقفه معهم حتى انه لم يبايع ابا بكر حتى ماتت فاطمة فبايع مقهورا، ولم يدخل في حرب قط على عهد الخلفاء الثلاثة، وهو ابن بجدتها وقطب رحاها. وكان يتهم عمر انه لم يشد أزر ابي بكر إلا ليجعلها له بعده فقال له مرة:(احلب حلبا لك شطرة اشدد له اليوم أمره ليرده عليك غدا)(١) وقد صدقت فيه مقالته فاستخلف من قبل ابي بكر.

وهل يخفى على أحد ما كان في القلوب من تنافر؟ ويكفي شاهدا أن نسمع المحاورة التي دارت بين عمر بن الخطاب وابن عباس كما رواها ابن عباس(٢) .

عمر (لابن عباس): أتدري مامنع قومكم منكم بعد محمد؟

ابن عباس:( وهو يكره أن يجيبه) ان لم أكن أدري فأمير المؤمنين يدريني.

-: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة، فتبجحوا

______________________________

(١) السياسة والامامة: باب امامة ابي بكر. وشرح النهج (٥:٢).

(٢) الطبري (٣١:٥) وابن الأثير (٣١:٣) وشرح النهج (١٨:٢).

٨٩

على قومكم بجحاً بجحاً، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت.

-: يا أمير المؤمنين إن تأذن لي في الكلام وتمط عني الغضب تكلمت.

-: تكلم:

-: اما قولك: (اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت) فلو ان قريشاً اختارت لأنفسها حيث اختار الله عز وجل لها لكان الصواب بيدها غير مردود ومحسود. واما قولك:( انهم كرهوا ان تكون لنا النبوة والخلافة) فان الله عز وجل وصف قوما بالكراهية فقال: (ذلك بأنهم كرهوا ما انزل الله فأحبط اعمالهم).

-: هيهات! والله يا إبن عباس قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره ان افرك عنها فتزيل منزلتك مني.

-: وما هي؟ فان كانت حقاً فما ينبغي ان تزيل منزلتي منك وان كنت باطلا فمثلي اماط الباطل عن نفسه.

-: بلغني انك تقول انما صرفوها حسداً وظلماً.

-: اما قولك (ظلما) فقد تبين للجاهل والحليم. واما قولك (حسداً) فإن إبليس حسد آدم فنحن ولده المحسودون.

-: هيهات! ابت والله قلوبكم يا بني هاشم إلا حسداً ما يحول وضغنا وغشا ما يزول.

٩٠

-: مهلا! لاتصف قلوب قوم اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا بالحسد والغش، فان قلب رسول الله من بني هاشم.

-: اليك عني؟

* * *

نقلنا هذه المحاورة بطولها لانها تجلي كثيرا من الغوامض في بحثنا، فهي تكشف لنا:

(اولا) عما في نفوس الطرفين من نزوان بغضاء كامنة يستطير شرارها. وهذا ما أردنا استكشافه الآن وسقنا لأجله المحاورة.

و(ثانيا)- عن ان القوم كانوا قد تعمدوا منع الأمر عن آل البيت، وان منعهم كان عاطفيا كراهة اجتماع النبوة والخلافة فيهم خشية تبجحهم، وقد فسر ابن عباس هذه الخشية بالحسد وانها من الظلم. واستشعر الألم الكامن من تأكيد هذه الكلمة (بجحا بجحا).

و(ثالثا)- عن ان الامامة انما هي باختيار الله، وأن الخلافة في آل البيت مما انزله الله، وليست تابعة لاختيار قريش وكراهتهم.

٩١

و(رابعا) عن ان ظلمهم لآل البيت بأخذها منهم مشهور يعرفه كل احد.

وهذان الامران الأخيران صرح بهما ابن عباس على شدة تحفظه واتقائه غضب عمر الذي لم يسلم منه بالأخير. ولم يرد عليه عمر الرد الذي يكذب هذا التصريح اكثر من الطعن فيه وفي بني هاشم ثم الزجر له بقوله: (اليك عني). وهذا الزجر ينطق صريحا بالعجز عن الجواب، فختمت به المحاورة.

والغرض من كل ذلك ان اقدام عمر الجرىء ، على نسبة الهجر الى النبي المعصوم، وعلى دعوى ان كتاب الله وحده كاف للناس بلا حاجة الى شىء آخر على عكس تصريح النبي، لايستغرب منه ما دام القصد منع الأمر عن علي. وقد اتضح ان بينهما مالا يستطيع التأريخ نكرانه والتمويه فيه.

واما اعتذار بعض الناس عنه بأنه ظهر له ان الأمر ليس للوجوب فهو اعتذار بارد لايقره العلم. فمن اين ظهر ذلك؟ أمن قول النبي( لا تضلوا بعده أبدا) وهل هناك أمر اعظم مصلحة في الحكم الشرعي تجعله للوجوب من هداية الخلق اجمعين الى أبد الدهور ام من وقوع النزاع وغضب النبي وزجرهم بالانصراف. واذا كان قد فهم الاستحباب فلماذا يرده بأشنع كلمة لا يواجه بمثلها الرجل العادي من

٩٢

الناس لاسيما عند المرض، أعني كلمة الهجر والهذيان، مهما لطف العبارة بتحويلها الى كلمة( قد غلبه الوجع). ثم أي معنى حينئذ لقوله:( حسبنا كتاب الله)، وهو رد على النبي وتدخل في مصلحة الحكم واساسه، وكان يغنيه ان يقول لا يجب علينا امتثال الأمر.

* * *

والخلاصة إن الكتاب الذي أراد أن يكتبه النبي صلى الله عليه وآله من نفس وصفه له:( لاتضلوا بعده أبداً) ومن نفس رد عمر( حسبنا كتاب الله) ومن قرائن الأحوال المحيطة بالقصة بعد سبق توقف البعث عن الذهاب نعرف ان المقصود منه النص على خليفته من بعده وهو علي بن أبي طالب، لاسيما ان كل خلاف بين المسلمين وكل ضلال وقع ويقع في الأمة هو ناشيء من الخلاف في أمر الخلافة فهو أسّ كل ضلالة. ولو تركوا النبي يكتب التصريح بالخلافة من بعده لما كان مجال للشك والخلاف الا بالخروج رأسا عن الاسلام.

وليس بالبعيد انه صلى الله عليه وآله امتنع عن التصريح شفاها أو كتبا بعد هذه القصة بالنص على خليفته لئلا يأخذ اللجاج بالبعض الى الخروج على الاسلام، فتكون المصيبة أعظم على الاسلام والمسلمين وهذا ما حدا بعلي عليه السلام الىالمجاراة والمماشاة، فلذا قال في خطبته الشقشقية:( فطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء...

٩٣

فرأيت ان الصبر على هاتا أحجى...). وسيأتي في الفصل الرابع الكلام عن موقفه مع الخلفاء تفصيلا.

٩٤

٩٥

الفصل الثالث : بيعَة السقيفة

(١- الدوافع لاجتماع السقيفة(١) )

تصور الأنصار انهم الذين آووا ونصروا يوم عز الناصر، وأسلموا يوم قحط المسلمين، فبذلوا للاسلام نفوسهم واموالهم، فكانوا بحق (انصاراً) كما سماهم النبي صلى الله عليه وآله، و(حضنة الاسلام واعضاد الملة) كما دعتهم الزهراء عليها السلام في خطبتها الشهيرة عند مطالبتها بالنحلة.

اذن، لابد أن يروا لأنفسهم حقا في الأسلام لايغمط وسابقة ليست لغيرهم لاتنكر، ولهم في تشييده يد مشهورة وذكر جميل.. وهذا ما يطمعهم في امارة المسلمين كجزاء

______________________________

(١) السقيفة: الصفة والظلة، وهي شبه البهو الواسع الطويل السقف. وكان لبني ساعدة بن كعب بن الخزرج وهم حي من الأنصار ومنهم سعد بن عبادة نقيبهم ورئيس خزرج ظلة يجلسون تحتها هي دار ندوتهم لفصل القضايا اشتهرت (بسقيفة بني ساعدة). اجتمع فيها الأنصار اوسهم وخزرجهم ليبايعوا سعد بن عبادة خليفة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

٩٦

لتضحيتهم في سبيل الاسلام وكنتيجة لنجاحهم وتفوقهم على العرب في النصرة والايواء.

ومن جهة ثانية: انهم كانوا قد وتروا قريشا والعرب؛ وأية ترة هي؟ آووا ونصروا من سفه أحلامهم، وهم يحرقون الارم عليه ليقتلوه، فتمنع عن جبروتهم باولئك المستضعفين في نظر (أهل النواضح) واكثر من ذلك انهم قتلوا صناديدهم واسروا رجالهم وجعجعوا بهم حتى دانت بأسيافهم العرب. فكانت الأنصار والحال هذه تتخوف هؤلاء الذين وتروهم اذا خلصت اليهم الامارة ان يأخذوهم بترتهم، وهم عندئذ المغلوبون على أمرهم سوقة لايملكون لأنفسهم قوة ولا دفاعا، وكفاهم ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وآله مخاطا لهم: (ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض). والمناظرة التي وقعت يوم السقيفة كانت تشير الى تخوفهم هذا، بل صرح الحباب بن المنذر إذ يقول: ( ولكنا نخاف ان يليها بعدكم من قتلنا ابناءهم وآباءهم واخوانهم). وقد صدقت فراسته فتولى الأمر بنو أمية وكان ما كان منهم في وقفة (الحرة) المخزية التي يندى منها جبين الشرف والانسانية، ويبرأ منها الاسلام وأهله.

وشيء ثالث هناك: إذا كان صاحب الأمر هو علي بن أبي طالب، فلم يخف عليهم حسد العرب له وتمالؤها عليه،

٩٧

وهي موتورة له اكثر من أي شخص آخر من المسلمين بعد النبي، فلا تمكنه العرب وقريش خاصة من امورهم. وليس بعيدا عهد تأخر جيش اسامة والحيلولة دون كتاب النبي. ولا بد انهم علموا بمؤامرات هناك وتفكيرات احسوها عيانا في جماعة من الناس. فالأنصار والحال هذه قد لايرون كبير إثم في تطاولهم لمنصب الخلافة، مادامت خارجة عن معدنها، ولا يأمنون أن يتولاها من لا يحمدون مغبة أمره، ولا يجدون غيرهم ممن يتطاولون لها اولى بها في نصرة وخدمة وتضحية، ولعلهم لأجل هذا لما يئسوا من الأمر بعد محاولتهم الفاشلة ورأوه قد خرج من أيديهم ايضا قال كلهم أو بعضهم: (لانبايع إلا عليا)(١) ولكن بعد خراب البصرة.

هذه أسباب قد تقنع النفوس الاعتيادية على تنفيذ رغباتها، وتحملها على الاعتقاد بصحة ما يوحي اليها أهواؤها بقصد أو بغير قصد من جراء تأثير العاطفة، فتعمى العين عن أوضح ما يقوم في طريقها من نور للحق ودليل على فساد ايحاء النفس بنزعاتها، وهذا ما يؤيده علم النفس.

وإذا نحن تفهمنا هذه الحقائق وتدبرناها جيداً استطعنا ان نعرف السر في استباق الأنصار بهذه العجالة الى عقد

______________________________

(١) الطبري(١٩٨:٣) وابن الأثير(١٥٧:٢) وغيرهما.

٩٨

اجتماعهم سراً في سقيفتهم، واستطعنا ان نعرف لماذا كان سرياً بلا مشورة لمهاجرين ولا باقي المسلمين.

أجل! ما هو إلا لأنهم طلبوا الغرة من أصحاب الرسول واهل بيته، فانتهزوا فرصة انشغالهم بفادحهم العظيم وبجهازهم نبيهم، ليحكموا البيعة لأحد نقبائهم وسيد الخزرج، أو لأي شخص آخر منهم قبل ان يفرغ أهلها أو طالبوها. وحينئذ ظنوا ان سيتم لهم كل شيء.

٢ - نفسية الأنصار

حاولنا في البحث السابق ان نتشبث بما يرفع الأنصار عن سوء النية والقصد، ولكنا نؤمن بأن ما قلنا عنهم لا يخرج عن عده من الوساوس التي لا تبرر عمل المرء من الناحية الدينية. على انا نرجو ان يكونوا معذورين فيما عملوا لئلا نخسر عدداً وفيراً من الصحابة.

اما نفس عملهم سواء كانوا بسوء نية أم لا فلا يسعنا ان نحكم بصحته، فإنا مهما فرضنا الحقيقة من جهة النص على الامام فان استبدادهم هذا وتسرعهم في عقد اجتماعهم لنصب خليفة منهم لايخرج عن عدة خيانة للاسلام وتفريطاً في حقوق المسلمين بلا مبرر، وفي وقت قد دهمت الاسلام فيه هذه الفاجعة

٩٩

الدهيماء، والمسلمون كالمذهولين بمصابهم لايعلمون ماذا سيلاقون من العرب واعداء الاسلام.

ولا نريد الآن ان نجلس في دست القضاء لنحكم لهم أو عليهم، ولعل هناك من يرى صحة عملهم فلا نضايقه، وإنما مهمتنا ان ندرس الاسباب التي دعتهم إلى عملهم هذا، وأن ندرس نفسياتهم.

في البحث السابق رأينا ان خدمتهم للاسلام الممتازة هي التي خيلت لهم الحق في الخلافة أو في سلطان المسلمين. وهذا نعرفه من حجتهم على لسان المرشح منهم للخلافة سعد بن عبادة في خطبته ذلك اليوم، ينضم الى ذلك تخوفهم من ان يخلص الأمر الى من قتلوا أبناءهم وآباءهم واخوانهم، مع اعتقادهم بخروج الأمر عن أهله، ويدل على هذا الأخير كما تقدم طلبهم مبايعة علي بعد اليأس.

هذه الأسباب التي استطعنا عرفانها. وكل ذلك تقدم وفيها قبس نسير على ضوئه لمعرفة نفسياتهم.

فانا نعرف مجموعها انهم في محاولتهم كانوا مدافعين اكثر منهم مهاجمين، والدفاع دائما يكون عن الشعور بالضعف والانخذال وهذا الشعور من أعظم الأدواء النفسية لمن أراد الظفر في الحياة، إذ ينشأ منه الوهن في العزيمة والضعف في

١٠٠