البدعة

البدعة0%

البدعة مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 610

البدعة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 610
المشاهدات: 148767
تحميل: 8454

توضيحات:

البدعة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 610 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 148767 / تحميل: 8454
الحجم الحجم الحجم
البدعة

البدعة

مؤلف:
العربية

أخبرني عن القدر: قالعليه‌السلام : سر اللّه فلا تتكلفه!.»(١) .

٦ - روي أنه: «مرَّ أمير المؤمنينعليه‌السلام على قومٍ من أخلاط المسلمين، ليس فيهم مهاجري ولا أنصاري، وهم قعود في بعض المساجد، في أول يوم من شعبان، وإذا هم يخوضون في أمر القدر، وغيره مما اختلف الناس فيه، قد ارتفعت أصواتهم، واشتد فيه جدالهم، فوقف عليهم، وسلّم، فردّوا عليه، ووسعوا له، وقاموا إليه يسألونه القعود اليهم، فلم يحفل بهم، ثم قال لهم - وناداهم -:

يا معشر المتكلمين ألم تعلموا انَّ للّه عباداً قد أسكتتهم خشيتُه من غير عيٍّ ولا بكم؟ وانَّهم هم الفصحاء البلغاء الالباء، العالمون باللّه وأيامه، ولكنّهم إذا ذكروا عظمة اللّه، انكسرت السنتهم، وانقطعت أفئذتهم، وطاشت عقولهم، وتاهت حلومهم، إعزازاً للّه وإعظاماً واجلالاً، فإذا أفاقوا من ذلكَ، استبقوا إلى اللّه بالاعمال الزاكية، يعدّون أنفسهم من الظالمين والخاطئين، وانَّهم براء من المقصرين والمفرطين، إلا أنهم لا يرضونَ اللّه بالقليل، ولا يستكثرون اللّه الكثير، ولا يدلّون عليه بالأعمال، فهم إذا رأيتهم مهيَّمون، مروَّعون، خائفون، مشفقون، وجلون، فأين أنتم منهم يامعشر المبتدعين، ألم تعلموا

انَّ أعلم الناس بالضرر أسكتهم عنه، وانَّ أجهل الناس بالضرر أنطقهم فيه؟»(٢) .

٧ - عن جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام عن أبيهعليه‌السلام أنه قال:

«إنَّ رجلاً قال لأمير المؤمنينعليه‌السلام : هل تصف ربَّنا نزداد له حباً وبه معرفةً؟! فغضب وخطب الناس فقال فيما قال: عليكَ يا عبد اللّه بما دلَّكَ عليه القرآن من صفته، وتقدسكَ فيه الرسول من معرفته، فأتم به، واستضئ بنور هدايته، فانَّما هي نعمة

____________________

(١) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج: ٥، كتاب: العدل والمعاد، باب: ٣، ح: ٣٥، ص: ١١٠.

(٢) محمد باقر المجلسي، بحار الانوار، ج: ٣، كتاب: التوحيد، باب: ٩، ح: ٣٠، ص: ٢٦٥.

١٢١

وحكمة اُوتيتها، فخذ ما اُوتيت، وكن من الشاكرين، وما كلَّفك الشيطان علمه، مما ليس عليكَ في الكتاب فرضه، ولا في سنة الرسول وائمة الهداة أثره، فكِل علمه إلى اللّه، ولا تقدّر عليه عظمة اللّه.

واعلم يا عبد اللّه انَّ الراسخين في العلم، هم الذين أغناهم اللّه عن الاقتحام على السدد المضروبة دونَ الغيوب، إقراراً بجهل ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فقالوا: آمنّا بهِ كلّ من عند رِّبنا، وقد مدح اللّه اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً، وسمّى تركهم التعمق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخاً».

٨ - روي عن أبي عبد اللّه الصادقعليه‌السلام أنه قال:

«جاء حبر إلى أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه فقال: يا أمير المؤمنين! هل رأيتَ ربكَ حين عبدته؟ فقالعليه‌السلام : ويلكَ! ما كنت اعبد رباً لم أره، قال: وكيف رأيته، قالعليه‌السلام : ويلكَ! لا تدركه العيون في مشاهدة الابصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان».

٩ - روي انَّ رجلاً قال للحسين بن عليعليه‌السلام : اجلس حتى نتناظر في الدين، فقالعليه‌السلام :

«يا هذا أنا بصير بديني، مكشوف عليَّ هداي، فان كنتَ جاهلاً بدينكَ، فاذهب واطلبه، ما لي وللمماراة؟ وانَّ الشيطان ليوسوس للرجل، ويناجيه ويقول: ناظر الناس في الدين كيلا يظنوا بكَ العجز والجهل.».

١٠ - جاءَ في (التوحيد) عن جعفر بن محمدعليه‌السلام عن أبيهعليه‌السلام قال:

«قيل لعليعليه‌السلام : إنَّ رجلاً يتكلَّم في المشيئة، فقالعليه‌السلام : ادعُه لي، قال: فدُعي له،

____________________

(١) محمد باقر المجلسي، بحار الانوار، ج: ٣، باب: ٩، ح: ١، ص: ٢٥٧.

(٢) محمد بن يعقوب الكليني، الاصول من الكافي، ج: ١، باب: في ابطال الرؤية، ح: ٦، ص: ٩٨.

(٣) محسن الكاشاني، المحجة البيضاء في تهذيب الاحياء، ج: ١، كتاب العلم، ص: ١٠٧.

١٢٢

فقال علي السلام: يا عبد اللّه خلقَكَ اللّه لما شاءَ، أو لما شئتَ؟ قال: لما شاء، قالعليه‌السلام : فيمرضُكَ إذا شاء، أو إذا شئت؟! قال: إذا شاء، قالعليه‌السلام : فيشفيكَ إذا شاء، أو إذا شئت؟! قال: إذا شاء، قالعليه‌السلام : فيدخلكَ حيث شاء، أو حيث شئت؟! قال: حيث شاء، قال: فقال عليعليه‌السلام : لو قلتَ غير هذا لضربتُ الذي فيه عيناك»(١) .

والذي يبدو أنَّ هذا الرجل كان يقول بتفويض الامور إلى العباد، وانَّ اللّه تعالى ليست له علاقة بمخلوقاته بعد خلقهم وانشائهم، فحذَّره أمير المؤمنينعليه‌السلام من الانسياق مَعَ هذا التفكير الخطير، وبيَّن له انَّ إرادة اللّه تعالى ومشيئته تبقى مرافقةً للانسان، ولا يمكن أن تنفك عنه مطلقاً، وسيأتي في آخر هذهِ الدراسة تسليط الضوء من خلال حديث أهل البيتعليهم‌السلام على هذهِ النقطة بشكل أوضح وأوسع، إن شاء اللّه تعالى.

٤ - اتّباع الأهواء

ومن الاسباب الاخرى التي أدَّت إلى نشوء البدع في حياة المسلمين، ظاهرة اتباع الأهواء، والانحراف عن جادة الصواب، وصراط اللّه المستقيم.

فالنفس الانسانية تتجاذبها تيارات وشهوات متعددة، وهي تنساق مع مغريات الحياة وملاذِّها بروية، وتستعصي على الحق، وتأبى قبوله، والسير على هداه، لما فيه من منعٍ للنفس عن اهوائها، ومشتهياتها الفانية.

فقد يدين الانسان بالاسلام، ويُعدّ فيمن يُعدُّ من المسلمين، إلا أنه ما يلبث أن ينتحل الاعذار، ويسوِّف في امتثال الأوامر الالهية، نتيجة لاستسلامه لضغوط قوة الهوى عليه، وقد يندفع الانسان إلى ما هو أبشع من ذلك، تلبيةً للنزعات الأنانية الكامنة في نفسه، فيحرف التعاليم السماوية، وفق أهوائه وميوله الخاصة، من أجل أن

____________________

(١) أبو جعفر الصدوق، التوحيد، باب: ٥٥، ح: ٢، ص: ٢٣٧.

١٢٣

يبرر لنفسه المعتَقد والعمل، أو من أجل أن يُضلّ الآخرين بغير علم، فيردى ويُردي الآخرين معه في الأهواء والمبتدعات.

هذا العامل لم يكن ليتحرر منه الانسان الذي عاش في العصر الاول للتشريع، كما أنه لا يمكن أن يتحرر منه انسان اليوم وانسان غد، ما زال يحمل أعدى أعدائه بين جوانحه، وهي نفسه الأمّارة بالسوء.

قال تعالى:( ومَن أضلُّ مَمَّن اتَّبعَ هَواهُ بِغيرِ هُدىً مِنَ اللّهِ ) (١) .

وقال تعالى:( ولا تتَّبعِ الهَوى فيُضلَّكَ عَن سَبيلِ اللّهِ إنَّ الذينَ يَضلّونَ عَن سَبيلِ اللّهِ لَهُم عذاب شَديد بما نَسوا يَومَ الحِسابِ ) (٢) .

وعن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال:

«ما تحت ظِلّ السماء من إله يُعبد من دون اللّه أعظم عند اللّه، من هوىً متّبع»(٣) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام :

«إنَّما أخاف عليكم اثنين: اتّباع الهوى، وطول الأمل، أما اتّباع الهوى، فانَّه يصدّ عن الحق، وأما طول الأمل، فينسي الآخرة»(٤) .

وقال أبو جعفر الباقرعليه‌السلام :

«قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يقول اللّه عزَّ وجلَّ: وعزتي، وجلالي، وعظمتي، وكبريائي، ونوري، وعلوّي، وارتفاع مكاني، لا يؤثر عبد هواه على هواي، إلا شتّتُّ عليه أمره، ولبّستُ عليه دنياه، وشغلتُ قلبه بها، ولم اُوته منها إلا ما قدَّرتُ له.

وعزتي، وجلالي، وعظمتي، ونوري، وعلوّي، وارتفاع مكاني، لا يؤثر عبد

____________________

(١) القصص: ٥٠.

(٢) ص: ٢٦.

(٣) نور الدين الهيثمي، مجمع الزوائد، ج: ١، باب: في البدع والاهواء، ص: ١٨٨.

(٤) محمد بن يعقوب الكليني، الاصول من الكافي، ج: ٢، باب: اتّباع الهوى، ح: ٣، ص: ٣٢٥.

١٢٤

هواي على هواه، إلا استحفظته ملائكتي، وكفّلت السموات والارضين رزقه، وكنت له من وراء تجارة كل تاجر، وأتته الدنيا وهي راغمة».

وعن أبي عبد اللّه الصادقعليه‌السلام أنه قال:

«احذروا أهواءكم، كما تحذرون أعداءكم، فليس شيء أعدى للرجال من اتّباع أهوائهم، وحصائد السنتهم».

وفي الحقيقة انَّ اتّباع الاهواء يعدّ من أبرز العوامل التي ساهمت في ظهور البدع والمحدثات، يقول أمير المؤمنينعليه‌السلام :

«أيها الناس إنَّما بدء وقوع الفتن أهواء تُتبع، وأحكام تُبتدع، يُخالف فيها كتاب اللّه، يتولى فيها رجال رجالاً، فلو انَّ الباطل خلص، لم يخفَ على ذي حجى، ولو انَّ الحق خلص، لم يكن اختلاف، ولكن يؤخذ من هذا ضغث، ومن هذا ضعث، فيُمزجان فيجيئان معاً، فهنالك استحوذ الشيطان على أوليائه، ونجا الذينَ سبقت لهم من اللّه الحسنى».

ويمكن لنا أن نلتمس بعض المصاديق التي تولّدت عن هذا العامل في بدايات التشريع، على أنّا نذكّر قبل ذلك انَّ أغلب الفتن التي مرَّت بها الامة الاسلامية، وأكثر الانقسامات التي حصلت فيها، إنَّما هي ناشئة في واقعها من جراء اتّباع الاهواء، والابتعاد عن كتاب اللّه وعترة أهل البيتعليهم‌السلام الذين أوصى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امته بأن تتمسك بهما، وتلوذ في حماهما، لانهما لن يفترقا حتى يردا عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحوض.

١ - جاءَ في الاعتصام ما نصه:

«شرب نفر من أهل الشام الخمر، وعليهم يزيد بن أبي سفيان، فقالوا: هي لنا

____________________

(١) محمد يعقوب الكليني، الاصول من الكافي: ج: ٢، باب: اتّباع الهوى، ح: ٢، ص: ٣٣٥.

(٢) محمد يعقوب الكليني، الاصول من الكافي، ج: ٢، باب: اتّباع الهوى، ح: ١، ص: ٣٣٥.

(٣) نهج البلاغة: الكلام / ٥٠.

١٢٥

حلال، وتأولوا هذهِ الآية:( لَيسَ عَلى الّذينَ آمنُوا وَعَمِلُوا الصّالحاتِ جُناح فيما طَعمُوا إذا ما اتّقوا وآمنُوا وعَمِلُوا الصالِحاتِ ثُمَّ اتقّوا وآمنُوا ثُمَّ اتقّوا وأحسَنُوا وَاللّهُ يُحِبُّ المُحسِنينَ ) (١) ، قال: فكتب فيهم إلى عمر، فكتب عمر إليه: أن ابعث بهم اليَّ قبل أن يفسدوا مَن قِبَلَكَ، فلما قدموا إلى عمر استشار فيهم الناس، فقالوا: يا أمير المؤمنين! نرى انَّهم قد كذبوا على اللّه، وشرعوا في دينه ما لم يأذن به، فاضرب أعناقهم! وعليرضي‌الله‌عنه ساكت، قال: فما تقول يا أبا الحسن؟ قال: أرى أن تستتيبهم، فان تابوا جلدتهم ثمانين ثمانين لشربهم الخمر، وإن لم يتوبوا ضربتَ أعناقهم، فانهم قد كذبوا على اللّه، وشرعوا في دين اللّه ما لم يأذن به»(٢) .

٢ - مرَّ الامام عليعليه‌السلام بقتلى الخوارج فقال:

«بؤساً لكم! لقد ضرَّكم مَن غزِّكم، فقيل: ومَن غرَّهم؟ فقال: الشيطان المضل، والنفس الامارة بالسوء، غرَّهم بالأماني، وفَسَحت لهم في المعاصي، ووعدتهم الاظهار، فاقتحمت بهم النار»(٣) .

____________________

(١) المائدة: ٩٣.

(٢) أبو اسحاق الشاطبي، الاعتصام، ج: ٢، ص: ٤٦.

(٣) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج: ١٩، ص: ٢٣٥.

١٢٦

١٢٧

الباب الثاني : هوية الابتداع

الفصل الاول: البدعة في اللغة والاصطلاح الشرعي.

الفصل الثاني: تقسيم البدعة.

الفصل الثالث: مفهوم البدعة في النصوص الاسلامية.

الفصل الرابع: مفهوم البدعة بين الاطّرد والانعكاس.

١٢٨

الفصل الاول : البدعة في اللغة والاصطلاح الشرعي

البدعة لغة.

البدعة في الاصطلاح الشرعي.

١٢٩

١٣٠

١٣١

البدعة لغةً

للبدعة في اللغة أصلان، أحدهما: (البَدع)، وهو مأخوذ من (بَدَعَ)، وثانيهما: (الابداع)، وهو ما مأخوذ من (أبدعَ).

وكلا هذين الاصلين يعطي معنىً واحداً، وهو عبارة عن انشاء الشيء لا على مثالٍ سابق، واختراعه وابتكاره بعد أن لم يكن.

يقول الفراهيدي عن (البَدع): «هو إحداث شيء لم يكن له من قبل خلق ولا ذكر ولا معرفة»(١) .

ويقول الراغب عن (الابداع): «هو انشاء صفةٍ بلا احتذاء واقتداء»(٢) .

وينص الأزهري على أنَّ (الابداع) أكثر استعمالاً من (البَدع)، وهذا لا يعني أنَّ استعمال (البَدع) خطأ، وانما هو صحيح ولكنه قليل، فيقول في ذلك: و«(أبدعَ) أكثر في الكلام من (بَدَعَ)، ولو استعمل (بَدَعَ) لم يكن خطأ»(٣) !

وعلى هذا الاساس تقول من (البَدع): «بدعتُ الشيء إذا أنشأته»(٤) .

وتقول من (الابداع): ابتدعَ الشيء: أي (أنشأه وبدأه)(٥) ، وتقول أيضاً: «أبدعتُ الشيء أي اخترعته لا على مثال»(٦) .

____________________

(١) الفراهيدي، العين، ج: ٢، ص: ٥٤.

(٢) الراغب الاصفهاني، معجم مفردات الفاظ االقرآن الكريم، ص: ٣٦.

(٣) الأزهري، تهذيب اللغة، ج: ٢، ص: ٢٤١.

(٤) ابن دريد، جمهرة اللغة، ج: ١، ص: ٢٩٨.

(٥) ابن منظور، لسان العرب، ج: ٨، ص: ٦.

(٦) الجوهري، الصحاح، ج: ٣، ص: ١١٨٣.

١٣٢

و(أبدَعَ) اللّه تعالى الخلق (إبداعاً): أي خلقهم لا على مثال سابق، و(أبدعتُ) الشيءَ و(ابتدعته): استخرجته وأحدثته، ومنه قيل للحالة المخالفة (بدعة)، وهي اسم من (الابتداع)، كالرفعة من الارتفاع(١) ، ومعنى (البدعة): الشيء الذي يكون أولاً(٢) ، وجمع (البدعة) (البدع)(٣) ، وانّما سميت (بدعة) لانَّ قائلها ابتدعها هو نفسه(٤) .

وفي أسماء الله تعالى (البديع): وهو الخالق المخترع لا على مثال سابق(٥) .

يقول اللّه تعالى:( بَديعُ السَّمواتِ والأَرضِ ) (٦) : أي مبتدعها ومبتدئها لا على مثال سبق(٧) ، وبديع الحكمة غريبها، ومنه الحديث: (روّحوا أنفسكم ببديع الحكمة، فانها تكلّ كما تكل الابدان»(٨) .

ويقول اللّه تعالى:( وَرَهبَانيَّةً اَبَتَدعُوها ) (٩) : أي أحدثوها من عند أنفسهم(١٠) .

فيتحصل لدينا من خلال كل ما تقدَّم انَّ المعنى اللغوي ل(البدعة): هو الشيء الذي يُبتكر ويُخترع من دون مثال سابق، ويُبتدأ به بعد أن لم يكن موجوداً من قبل.

____________________

(١) الفيومي، المصباح المنير، ج: ١، ص: ٣٨.

(٢) ابن منظور، لسان العرب، ج: ٨، ص: ٦.

(٣) ابن دريد، جمهرة اللغة، ج: ١، ص: ٢٩٨.

(٤) الطريحي، مجمع البحرين، ج: ٤، ص: ٢٩٩.

(٥) ابن الأثير، النهاية، ج: ١، ص: ١٠٦.

(٦) البقرة: ١١٧.

(٧) الزبيدي، تاج العروس، ج: ٥، ص: ٢٧٠.

(٨) الطريحي، مجمع البحرين، ج: ٤، ص: ٢٩٨.

(٩) الحديد: ٢٧.

(١٠) الطريحي، مجمع البحرين، ج: ٤، ص: ٢٩٨.

١٣٣

البدعة في الاصطلاح الشرعي

اكتنف مفهوم (البدعة) بالكثير من التشويش والغموض في كلمات العلماء والباحثين، فوردت في مقام تحديد هويته، وتوضيح قيوده، عدة تعريفات متفاوتة ومختلفة.

وكان أن اختلفت تبعاً لذلك رؤى هؤلاء الأعلام في المفردات التطبيقية لهذا المفهوم على الواقع العملي، حتى وصل الأمر الى أن تقاطعت بعض هذهِ الحدود والتعريفات فيما بينها. مما أدّى الى تكفير بعض الطوائف الاسلامية للبعض الآخر، بذريعة (الابتداع)، والخروج عن حياط السنة النبوية الشريفة.

وقد استُغل هذا المفوم الاسلامي أبشع استغلال من قبل بعض المتطرفين، الذين عمدوا الى تحريفه عن واقعه، والتدليس في حقيقته، من أجل النيل من معتقدات أتباع مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام ، واتهامهم بمختلف الأباطيل.

وقد عُدَّ هذا الامر من أبرز الوسائل التي أعلنتها (الوهابية)، واتخذتها شعاراً في أمر التشنيع على أتباع مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام ، والصاق التهم المفتعلة بهم، كذباً وبهتاناً وزوراً.

وفي حقيقة الأمر انَّه على الرغم من الملابسات التي اكتنفت هذا المفهوم الاسلامي الواضح، والهالة المفتعلة من التشويش والغموض التي اُحيطت به. إلا انّا نرى بأنَّ جلاءه ووضوحه في التشريع أكبر من أن تنال منه تلك الأقاويل، أو أن تحجب حقيقته يدُ التزوير، كما انَّ حضوره في صفوف المفردات البارزة للتشريع، قد تركَ الارتكاز الواضح عنه في أذهان المسلمين، والانطباع الذي لا يتعرض الى الاهتزاز والتحريف بمجرد ما يُطلق حوله من ادّعاءات، ولهذا نرى انَّ المعنى النظري لمفهوم (البدعة) قد أخذ موقعه المتقدم من الوضوح في النصوص الشرعية التي تعرضت له، وفي أقوال الكثير من العلماء الذين تعرَّضوا لبيان حدِّه ومفهومه، ولكن نقطة الاضطراب التي انطلق منها التشويش

١٣٤

على هذا المفهوم، انما بدأت عندما حاول البعض أن يعكس آثار الموارد التطبيقية على أصل المفهوم، ويكيّف الحدَّ والتعريف تبعاً لتلك الموارد المدّعاة.

فوقع الخلاف والتقاطع في الآراء التي تعرضت لتحديد هوية الابتداع، في الجانب العملي للمفهوم، إن صحَّ هذا التعبير.

على انَّ من الواضح انَّ محاولة التوفيق بين المفهوم والمصداق الذي يعبِّر عنه، لا ينبغي أن تلجئ الباحث الى حرف المفهوم عن واقعه وحقيقته، لجعله متلائماً ومنسجماً مع مصداق خارجي محدّد، ومورد تطبيقي معيَّن، فتقع حينئذٍ هوية الحد والمفهوم ضحية لمثل هذا التلاعب غير المشروع، وهذا ما حدث مع مفهوم (البدعة) الذي يُعد من أكثر المفاهيم الاسلامية دقةً وحساسيةً وعمقاً.

كما انَّ المفترض أن تحدد اُولاً هوية المفهوم الواقعية بدقة متناهية، ارتكازاً على الاسس والمباني السليمة والثابتة، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة تطبيق ذلك المفهوم على موارده، من دون تحيّز أو استثناء.

ومما يؤسف له انَّ مفهوم (البدعة) قد خضع مع جملة اُخرى من مفردات الثقافة الاسلامية الى هذا النوع من المهاترات.

ومن خلال إلقاء نظرة فاحصة في النصوص الاسلامية المستفيضة التي تعرَّضت لتحديد مفهوم (البدعة)، ومن ثم محاولة اعداد قاسم مشترك لأقوال العلماء في تحديد هذا المفهوم بشكل مجمل، يمكن لنا أن ننتزع قدراً متيقناً يمثل نحواً من الاتفاق على انَّ معنى (البدعة) هو: (إدخال ما ليس من الدين فيه).

ولعلَّ هذا المعنى المذكور قد حظي بهذا التواطؤ المطرد، بسبب وضوح أمره في التشريع، وارتكاز معناه في أذهان المتعاملين مع النصوص الاسلامية، ولو على مستوى الاطلاع.

ولذا نلاحظ انَّ هذا المفهوم بمعناه المتقدم، ما برح يُلقي بظلاله الطويلة على كل

١٣٥

الدراسات، والاقوال التي تعرضت لتحديد هويته، وبيان معناه، من خلال قوة التصريحات الواردة على لسان صاحب الرسالةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشأنه.

الأمر الذي لم يكن بوسع أحد أن يحرفه نظرياً عمّا هو عليه، إلا ثلّة قليلة ممن حاول عبثاً أن يغيِّر مسار المفهوم عمّا هو عليه، ويعطيه بعداً ضيِّقاً وأُفقاً محدوداً، إلا انه ما يلبث أن ينجرف الى حقيقته، بفعل تيار الوضوح المشار اليه آنفاً.

وهذا يدعونا الى الحديث عن قيود احترازية وتوضيحية ينطوي عليها تعريف (البدعة) المذكور آنفاً، ولكنَّ الحديث الأهم يبقى حول وضع الضابطة التي يتم بموجبها انطباق مفهوم (البدعة) على هذا المورد دون ذلك، باعتبار أن أصل الخلاف ينطلق من هذهِ النقطة ويتفرع عليها، وهذا ما سنتعرض له مفصلاً تحت عنوان (مفهوم البدعة بين الاطراد والانعكاس) إن شاء اللّه تعالى.

وقبل الخوض في بيان هذين المطلبين نرى أن ضرورة البحث العلمي تدعونا الى التعرض لموضوع (تقسيم البدعة)، باعتبار انه يرتبط ارتباطاً وثيقاً، بتحديد مفهومها وتوضيح معالمها، كما سنلاحظه بين طيات البحث.

وقصدُنا من (تقسيم البدعة) هنا هو تقسيمها الى ممدوحة ومذمومة على ما يُدّعى، دون بقية التقسيمات، لأنَّ هذا التقسيم هو الذي يغنينا بحثه في معرض الحديث عن هوية الابتداع، وهو الذي يتصل اتصالاً مباشراً برسم الصورة النهائية لمفهوم (البدعة)، ويدخل في صميم التعريف.

١٣٦

١٣٧

الفصل الثاني : تقسيم البدعة

مع القائلين بالتقسيم.

انعكاسات القول بالتقسيم.

بطلان القول بالتقسيم.

مع النافين للتقسيم.

استدراك خائب!

١٣٨

١٣٩

تقسيم البدعة

هناك ملاحظة بارزة تطرح نفسها أمام المتتبع للتعريفات الواردة في مقام تحديد هوية (البدعة) ورسم معالمها، وخصوصاً التعريفات التي أوردها أبناء العامة لهذا المفهوم. تلك الملاحظة تتلخص في انَّ الكثير من هذهِ التعريفات قد طُبعت بخاصيتين متميزتين:

الخاصية الأولى: انَّ هذهِ الحدود جعلت تقسيم (البدعة) الى ممدوحة ومذمومة أساساً لتوضيح مفهومها، وتحديد هويتها، وانطلقت في بناء أصل التعريف على هذا الأساس.

الخاصية الثانية: انَّ هذهِ الحدود قد سيقت بطريقة لا تصطدم فيها مع قول عمر بشأن صلاة التروايح: «نعمت البدعة هذه».

والملاحظ انَّ هاتين الخاصيتين متداخلتان، اذ انَّ المؤشرات العلمية تدلل على أنَّ السبب الذي ألجأ القائلين بالتقسيم الى انتهاج هذا السبيل انَّما يكمن في محاولة تخريج المقولة المتقدمة آنفاً ومحاولة تبرير اطلاق لفظ (البدعة) على ما يُعتقد انَّه من الامور الممدوحة وهو (التروايح).

فقد ورد في اُمهات الكتب الحديثية لدى أبناء العامة، بما في ذلك صحيح البخاري أنَّ عمر قد اطّلع في زمان خلافته على الناس، وهم يتنفلون ليلاً في المسجد النبوي، في شهر رمضان، فرأى أن يحمعهم على قارئ واحد، ليصلوا النوافل جماعة، بدلاً من أن يصلوها فرادى، فجمعهم على أبيّ بن كعب، ثم اطّلع عليهم ليلةً آُخرى، وهم يصلّون هذهِ النافلة في جماعة، فأعجبه ذلك وقال: «نعمت البدعة هذه».

وقد كان مفهوم (البدعة) قد أخد بعده الارتكازي المستفاد من الشريعة في

١٤٠