البدعة

البدعة0%

البدعة مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 610

البدعة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 610
المشاهدات: 148769
تحميل: 8454

توضيحات:

البدعة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 610 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 148769 / تحميل: 8454
الحجم الحجم الحجم
البدعة

البدعة

مؤلف:
العربية

اليها، أو يلوم مَن تخلَّف عنها.

وسُئلت عن شيخٍ ينصح تلاميذه ومريديه بالمحافظة على الوضوء وتجديده كلَّما انتفض قائلاً: إنَّ الشعور بالطهارة الحسية يعين على الطهارة الروحية، ويبعث على التسامي!

فقلت: لم يرد أمر بذلك، وللصفاء الروحي طرق شتى، قد يكون من بينهاأن يجدد المسلم وضوءَه كلَّما أحدث.

على أنَّ عدَّ ذلك قانوناً عاماً ملزماً لا أصل له»(١) .

فهلا تعامل (الغزالي) مَعَ مجالس الفاتحة كما تعامل مَعَ مجالس تلاوة القرآن الكريم، ومَعَ قضية تجديد الوضوء. فهل انَّ مجالس التلاوة الجماعية كانت موجودةً في عهد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ أليس المقتضي لذلك كان موجوداً وهو طلب الثواب، وتعاهد القرآن الكريم، والتقرب به الى اللّه تعالى، وأليس المانع كانَ مرتفعاً إذ الأمن مستقر، والتجمع سهل؟!!

ألم يقل (الغزالي) انَّ تجديد الوضوء لم يرد به أمر، أفلا يمكن لقاعدة (المقتضي والمانع) أن تشمله وتنطبق عليه أيضاً، فنقول انَّ مقتضيه كانَ موجوداً وهو طلب الصفاء الروحي، والمانع كانَ مرتفعاً إذ الماء متوفر، والعمل سهل؟!

ألم يقل (الغزالي) انَّ فعل الخير يتجدد على اختلاف الليل والنهار، أفليسَ هذا العمل خيراً ومشتملاً على الخير، أوَليس هو من باب التواصي بالحق والصبر، والتعاون على البر والتقوى كما قال؟!

وهل أضاف (الغزالي) جديداً حين قال: «على انَّ عدَّ ذلك قانوناً عاماً ملزماً لا أصل له»، فهل ينكر هذهِ الحقيقة مَن كان له أدنى مستوى من الثقافة الاسلامية والوعي الديني؟

____________________

(١) محمد الغزالي، تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل، ص ١٠٣ - ١٠٤.

٢٨١

فلماذا هذهِ المفارقة؟ ولماذا هذا اللف والدوران؟

والأنكى من ذلك أنَّ (الغزالي) ينكر على الشهيد (حسن البنا) تجويزه لهذا الأمر، ويعتبر قوله بالجواز مناورةً لتوحيد الاُمة، ورصِّ صوفها.

يقول الشيخ (الغزالي):

«والاستاذ حسن البنا رأى فراراً من الاصطدام بحرّاس البدع الاضافية والتركية أن يدخل الموضوع في دائرة الخلاف الفقهي، والخلاف الفقهي يتحمل وجهات النظر المتباينة.

ومن ثم لم يرَ حرجاً من ترك مؤذن يضم الصلاة على رسول اللّه الى ألفاظ الأذان، ولم يرَ حرجاً من ترك الاُسر الكبيرة والصغيرة تتكلّف فوق طاقتها، لأداء مراسم التعزية المخترعة».

ويوجِّه (الغزالي) ما ذهب اليه الاستاذ (حسن البنا) بالقول:

«والواقع انَّ صنيعهرضي‌الله‌عنه كان سياسة مؤقتة لتجميع الاُمة على اُمهات الدين، وقواعده الممهدة، فقَبِل المكروه إتقاءاً للحرام، من باب أخف الضررين»(١) .

فقل لي أيها القارئ الكريم ماذا يكره الشيخ (الغزالي) من تجميع الامة على اُمهات الدين وقواعده الممهدة، ولماذا يعدّ ذلك العمل سياسةً مؤقتة، ويجعل السياسة الثابتة خلافَ ذلك، فيقبل الحرام، ويرتكب أبشع الضررين؟!

فانّا للّه وإنّا اليه راجعون.

____________________

(١) محمد الغزالي، دستور الوحدة الثقافية، ص: ١٤٣.

٢٨٢

قصد التشريع

لا شكَّ في انَّ نسبة العمل الى الدين تتوقف على ورود النص الاسلامي الصريح الذي يذكره بالتفصيل، ويعينه على نحو الخصوص، كما هو الأمر في نسبة العبادات والمعاملات والأحكام الشرعية المسلّمة الاُخرى إلى الشريعة، والقول بانَّها مأخوذة منها.

كما انَّ العمل الذي يشمله الدليل العام يمكن أن ينتسب الى التشريع عن طريق تلك العموميات أيضاً، ولكن لا يصح أن تتجاوز هذهِ النسبة أصل العمل الى حيث الخصوصيات والتفاصيل غير المذكورة في لسان الدليل.

وبعبارة اُخرى انَّ العمل الذي يشمله العنوان العام يتصف بعنوانين:

الأول: هو العنوان العام الذي يكون مشمولاً بالدليل الشرعي الذي يبرر صدوره من المكلف بصورة مشروعة.

الثاني: هو العنوان الخاص الذي أتى به المكلف، والذي قد يحمل عناوين تفصيلية غير مذكورة في الدليل.

فمن جهة العنوان الأول يمكن نسبة العمل الى الشريعة، وأمّا من جهة العنوان الثاني فلا يصح نسبة العمل الى الشريعة، وإذا ما نُسب العمل الى الشريعة كذلك، فهو يدخل في حيِّز (الابتداع) لانّه إدخال ما ليس من الدين فيه، وهو ما يُطلق عليه عادةً ب(قصد التشريع).

فمثلاً نجد في الأدلة الشرعية العامة انَّها تندب المسلمين الى الصيام طيلة أيام السنة، باستثناء يومي العيدين المحرّم صيامهما بالدليل الخاص، فلو أنَّ شخصاً صامَ يوماً معيناً غير مشمول بأي دليل معين يذكره على نحو الخصوص، فقد امتثل ذلك الدليل

٢٨٣

العام، واستمد صيامُه لذلك اليوم الشرعيةَ من خلال هذا الدليل، فيستطيع أن ينسب صيامه الى الشريعة، ويقول بانَّ هذا الصيام مستفاد من الشريعة الاسلامية وهو جزء من تعاليمها الثابتة.

وأمّا إذا نُسب خصوص العمل الذي مارسه الى الدين، وقال بأنَّ صيام هذا اليوم بعينه وخصوصياته مطلوب من قبل الشريعة، في الوقت الذي لا يوجد بشأنه أي دليل خاص، فقد قصد التشريع، ولا يُشك في كونه قد أدخل في الدين ما ليس منه، إذ انَّ الشريعة لم تطلب صيام ذلك اليوم بعنوانه الخاص، وانَّما ندبت الى الصيام بشكل عام.

وهكذا لو اتخذ الانسان ذكراً، أو دعاءاً، أو نسكاً معيناً، لم يرد به دليل خاص، ولكنّه يندرج تحت عموميات التشريع، كأن ألزم نفسه بالاستغفار في كل يوم، أو بعد كل فريضة (أربعين مرةً) مثلاً، أو بالصلاة عدداً من الركعات تطوعاً للّه مثلاً، فان ادّعى انَّ هذا العمل مطلوب بخصوصه من قبل الشرع، وقصد نسبته الى الدين بالعنوان الخاص فهو مبتدع، وإن كان يأتي به بعنوان الامتثال والجري على مقتضى الأدلة العامة، فهو داخل في دائرة الندب.

ومن الطبيعي انَّ كل تلك الممارسات المشروعة والمنسوبة الى الدين عن طريق الدليل العام يجب أن لا تصطدم مَعَ أي عنوان تحريمي آخر، ولا تكتسب هذا الطابع بأي نحو كان، وإلا فانّ التحريم يشملها من هذا الوجه، كما لو شقَّ الانسان على نفسه بالعبادة والنوافل والاذكار المشروعة بالدليل العام الى درجة الرهبنة والقسوة بالنفس والاضرار بها، فان العمل يخرج بذلك عن نطاقه المشروع، ويكتسب عناوين ثانوية اُخرى.

ونفس الامر يقال بصدد الأعمال المباحة التي لم يرد فيها دليل خاص أو عام، فحين يأتي بها المكلف من دون قصد التشريع، ولا تكتسب عنواناً تحريمياً معيَّناً، فهي باقية على وضعها الأولي، وأمّا إذا قصد المكلف نسبتها الى الشريعة، فانها تتحول الى (بدعة)، لانَّه أدخل في الدين ما ليس منه.

٢٨٤

ومثال ذلك ما لو نام الشخص في وقت معيَّن من النهار لم يرد بشأنه دليل خاص، وأدّعى انَّ هذا الأمر مطلوب بخصوصيته التفصيلية من قبل الشريعة، أو أكلَ طعاماً معيناً لم يرد بخصوصه دليل شرعي خاص، وادّعى استحبابه، أو كراهته، أو حرمته مثلاً، ونسبَ ذلك الى التشريع.

والخلاصة انَّ نسبة العمل الذي لم يرد بشأنه الدليل الخاص الى التشريع بخصوصياته التفصيلية، والقول بانَّه مطلوب مَعَ هذهِ الخصوصيات من قبل الشريعة، يعدّ من (الابتداع) لأنَّه إدخال لما ليس من الدين فيه.

من هنا ندرك انَّ بعض مَن حاول معالجة موضوع (الابتداع) قد خلط بين هذين العنوانين، وحاول أن يرمي المسلمين بذلك غفلة عن جواز نسبة هذهِ الامور إلى الدين من جهة الأدلة العامة الشاملة لها، وانّ الأمر غير مقتصر على القول بتشريعه من حيث الخصوصيات التفصيلية.

ونجد الجذور العميقة لهذا النحو من الخلط أيضاً تمتد الى صدر الاسلام الأول، حيث كان يظن البعض انَّ الاتيان بأي أمرٍ حادث لم يرد بشأنه الدليل الخاص، أو انَّه لم يكن موجوداً في عصر التشريع، يعدّ من الابتداع، ولم يلتفتوا إلى إمكانية نسبة مثل هذهِ الاُمور الحادثة الى الدين عن طريق الادلة العامة الواردة بشأنها.

وفي الحقيقة انَّ هذا الامر راجع الى نوايا المكلفين ودوافعهم النفسية نحو القيام بالممارسات التي تنضوي تحت العموميات والأدلة الكلية المشروعة، ولا يصح التسرّع باطلاق لفظ (البدعة) على تلك الممارسات بمجرد وقوعها، لانَّ هذا سيؤدي الى الخلط في المفاهيم، والاضطراب في تطبيقاتها على مواردها الحقيقية.

ولولا أن يطول بنا المقام لاستعرضنا نماذج كثيرة من أقوال البعض حول رمي مثل هذه الممارسات المشروعة بالابتداع، مَعَ إمكانية تصحيح صدورها عن طريق النية المذكورة.

٢٨٥

على أنّا نكتفي بايراد مظاهر وقوع هذا الخلط في حياة المسلمين الأوائل، والتي نقلها البعض في كتبهم من دون أن يوردوا عليها تعليقاً، أو انَّ البعض كان يعدّ معالجتها بهذهِ الطريقة الخاطئة ناتجة من دوافع الحرص على التشريع، وانَّها كانت من حالات (الابتداع) المحرَّمة في حياة المسلمين.

فمن تلك المظاهر ما مرَّ معنا من: «أنَّ سعد بن مالك سمع رجلاً يقول: لبّيكَ ذا المعارج فقال: ما كنّا نقول هذا على عهد رسول اللّه»(١) .

فمن الواضح انَّ هذهِ المقولة يمكن أن تدرج تحت عموميات التشريع، ولا تكون من قبيل الابتداع.

وجاءَ في مدخل (ابن الحاج):

«ومن كتاب الامام أبي الحسين رزين قال: وعن نافع قال: عطسَ رجل الى جنب عبد اللّه بن عمر، فقال: الحمد للّه والسلام على رسول اللّه، فقال ابن عمر، وأنا أقول الحمد للّه والسلام على رسول اللّه، ما هكذا علَّمنا رسول اللّه أن نقول إذا عطسنا، وانما علَّمنا ان نقول: الحمد للّه ربِّ العالمين»(٢) .

فقد يكون هناك ذكر مخصوص لأمر معيَّن يصح التوجيه له، والمحافظة عليه، ولكنَّ هذا لا يعني إلغاء ما تشمله عموميات الشريعة من أدعية وأذكار تشتمل على الحمد والثناء على اللّه تعالى، والصلاة على رسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وذكر (ابن الحاج) في المدخل أيضاً نظير ذلك قائلاً:

«وقد كان عبد اللّه بن عمر رضي الله‌ عنهما ماراً في طريق بالبصرة، فسمع المؤذن، فدخل الى المسجد يصلّي فيه الفرض، فركع، فبينما هو في أثناء الركوع، وإذا بالمؤذن قد وقف على باب المسجد وقال: حضرت الصلاة رحمكم اللّه، ففرغ من ركوعه، وأخذ

____________________

(١) ابن الجوزي، تلبيس إبليس، ص: ٢٥.

(٢) ابن الحاج، المدخل، ج: ٢، ص: ٢٥١.

٢٨٦

نعليه، وخرج وقال: واللّه لا اُصلي في مسجد فيه بدعة»(١) .

وهنا يتضح كل الوضوح انَّ مجرّد القول (حضرت الصلاة رحمكم اللّه)، لا يشكل ظاهرة مخالفة للدين، لو لم يقصد منها التشريع على النحو المتقدم، وانَّما تبقى محتفظة بالعنوان الأولي لها، والتسرع بوصفها بالابتداع في غير محلِّه.

وروي كذلك انه:

«سئل سفيان عن رجل يكثر قراءة قل هو اللّه أحد، لا يقرأ غيرها كما يقرأها، فكرهها وقال: إنَّما أنتم متبعون، فاتبعوا الاولين، ولم يبلغنا عنهم نحو هذا، وانّما نزل القرآن ليُقرأ، ولا يخص شيء دون شيء»(٢) .

فتخصيص شيء دون شيء من القرآن إن كان بقصد الجزئية والتشريع وادّعاء نسبة الأمر إلى الدين من دون دليل شرعي خاص، فهو من باب (الابتداع) وإلا فلا يكون كذلك، فاطلاق القول بكراهة الأمر، وعدِّه على خلاف الاتباع أمر غير مقبول.

ويأتي في نفس هذا الاتجاه ما جاءَ في (تلبيس إبليس) انَّه:

«أخبر رجل عبد اللّه بن مسعود انَّ قوماً يجلسونَ في المسجد بعد المغرب، فيهم رجل يقول: كبّروا اللّه كذا وكذا، وسبحوا اللّه كذا وكذا، واحمدوا اللّه كذا وكذا، قال عبد اللّه: فاذا رأيتهم فعلوا ذلك فأتني وأخبرني بمجلسهم، فأتاهم فجلس، فلما سمع ما يقولونَ، قامَ فأتى ابنَ مسعود، فجاءَ وكان رجلاً حديداً، فقال: أنا عبد اللّه بن مسعود! واللّه الذي لا اله غيره، لقد جئتم ببدعة ظلماً، ولقد فضلتم أصحاب محمد علماً، فقال عمرو بن عتبة: استغفر اللّه، فقال عليكم بالطريق فالزموه، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لتضلنَّ ضلالاً بعيداً»(٣) .

____________________

(١) ابن الحاج، المدخل: ج: ٢، ص: ٢٦٢.

(٢) ابن وضّاح القرطبي، البدع والنهي عنها، ص: ٤٣.

(٣) ابن الجوزي، تلبيس إبليس، ص: ٢٥.

٢٨٧

فهذهِ المعالجة غير صحيحة على إطلاقها لما ذكرناه من تفصيل، على الرغم من انَّ أغلب مَن ذكر هذهِ الواقعة من علماء العامة عدَّها من مصاديق محاربة (الابتداع) ومواجهته.

وسوف نأتي في لاحق دراستنا هذهِ على نماذج اُخرى مشابهة لما ذكرناه قد عُدّت من باب الحرص على تعاليم الشريعة السمحاء، إلا انَّ تأثيرها كان عكسياً على الدين.

٢٨٨

٢٨٩

٢٩٠

الباب الثالث : تطبيقات للابتداع

الفصل الأول: نموذجان بارزان للابتداع.

الفصل الثاني: حديث سنة الخلفاء الراشدين.

٢٩١

الفصل الأول : نموذجان بارزان للابتداع

١- صلاة التراويح

أ - إطلاق لفظ البدعة على التراويح.

ب - النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينهى عن صلاة النوافل جماعة.

ح - التراويح امر مبتدع من وجهة نظر الكثير من علماء العامة.

د - أمير المؤمنينعليه‌السلام ينهى عن صلاة التراويح.

ه‍ - التضارب الفاضح في عدد ركعات التراويح.

مداخلات.

٢٩٢

٢٩٣

١ - صلاةُ التراويح

ورد في اُمهات الكتب الحديثية لدى أبناء العامة بما في ذلك (البخاري) و(الموطأ) (واللفظ للبخاري):

«وعن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريِّ أنه قال: خرجتُ مَعَ عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه ليلةً في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرّقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاءِ على قارئ واحدٍ لكان أمثل.

ثمَّ عزم فجمعهم على اُبي بن كعب، ثم خرجتُ معه ليلةً اُخرى، والناس يصلّون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعةُ هذه، والتي ينامونَ عنها أفضل من التي يقومون - يريد آخر الليل - وكان الناس يقومون أوَّله»(١) .

وفي (الموطأ) انَّ عمر قال:«نعمت البدعة هذه».

ولنا قرائن عديدة تشير إلى انَّ (التراويح) من محدثات الامور في الشريعة الاسلامية، ولا يوجد بينها وبين الدين أيُّ ارتباط، ومن هذهِ القرائن ما يلي:

____________________

(١) البخاري، صحيح البخاري، ج: ٢، ص: ٢٥٢، ومالك بن أنس، الموطأ، ص: ٧٣، وانظر: كنز العمال، ج: ٨، ح: ٢٣٤٦٦، ص: ٤٠٨.

٢٩٤

أ - اطلاق لفظ (البدعة) على (التراويح)

يشكّل إطلاق لفظ (البدعة) في الحديث المتقدم على هذهِ الصلاة قرينةً واضحة على عدم وجود أيّ ارتباط بين هذهِ الصلاة وبين الدين.

فمن الواضح أنَّ مفهوم (البدعة) قد أخذ بعده الاصطلاحي في مرتكزات الأصحاب، نتيجةً لتناول النصوص النبوية له بكثرة وتكرار، وتأكيدها على ذمِّه وانتقاده، ودعوتها إلى ضرورة مواجهته ومكافحته واستئصاله.

فلفظ (البدعة) الوارد في هذا الحديث إما ان يُراد به المعنى الاصطلاحي، أو المعنى اللغوي، فان اُريد منه المعنى الاصطلاحي، فهذا يعني الحادث الذي لا أصل له في الدين، وهو ثابت بالاتفاق.

وان اُريد منه المعنى اللغوي فهو يعني الأمر الحادث من دون مثال سابق، كما نقلنا ذلك آنفاً عن الكتب اللغوية، وهذا يعني انَّ هذهِ الصلاة المخترعة ليست مسبوقة بمثال، وليس لها أصل، فيثبت انَّها (بدعة).

وممّا يؤيّد عدم وجود الارتباط بينَ هذه الصلاة وبين الدين، وكونها تشريعاً ابتدائياً قول عمر في نفس الحديث:

«إني أرى لو جمعت هؤلاءِ على قارئ واحدٍ لكان أمثل».

فحسب المداليل اللغوية التي نمتلكها لا نفهم من القول «إنّي أرى» إلا التشريع الابتدائي، والاجتهاد الشخصي في مقابل الوحي المنزل.

ونحن لم نعهد على طيلة المسيرة الرسالية من النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه كان يقول «إنّي أرى» ويشرِّع أمراً من قبل نفسه، ولم يكن يتبع إلا ما يُوحى إليه، ولا ينطق عن الهوى، إن هو الا وحي يوحى، ولا يحيد عن الحكم الالهي قيد شعرة، وكيف يكون ذلك وقد قال اللّه تعالى عنه وهو صاحب الرسالة وربيب الوحي:

( وَلَو تقَّول عَلَينا بَعضَ الأقاويل* لأَخَذنا مِنهُ باليَمينِ* ثم لَقطَعنا منه

٢٩٥

الوتينَ ) (١) .

ب - النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينهى عن صلاة النوافل جماعة و...

يحث على إخفائها في البيوت

إنَّ من الامور التي تؤيِّد منافاة صلاة (التراويح) لمبادئ الشريعة وتعاليمها، وانَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يصلِّها، هو الطائفة الكبيرة من الأحاديث النبوية التي دلَّت على حث المسلمين على صلاة النوافل عموماً في البيوت، لأنَّ هذا الأمر أقرب للاخلاص، وأدعى للقبول، بل وورد النهي من قبل رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن صلاة النوافل جماعةً لمّا رأى بعض الاصحاب يصلّون خلفه، ووجَّههم إلى إخفاء النوافل، وعدم تشريع الجماعة فيها.

وقد وردت روايات كثيرة في كتب العامة تدل على استحباب إخفاء النوافل والاتيان بها في البيوت، وأفتى بهذا الأمر علماء العامة في مصنفاتهم فقد ورد في (الترغيب والترهيب) عن عبد اللّه بن مسعود انَّه قال:

«سألتُ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيُّما أفضل: الصلاة في بيتي، أو الصلاة في المسجد؟ قال، ألا ترى إلى بيتي ما أقربه من المسجد، فلان اُصلي في بيتي أحبُّ إليَّ من أن اُصلّي في المسجد، إلا أن تكون صلاةً مكتوبة. رواه أحمد وابن ماجة وابن خزيمة في صحيحه»(٢) .

وجاءَ فيه أيضاً:

«وعن أبي موسىرضي‌الله‌عنه قال: خرج نفر من أهل العراق إلى عمر، فلَّما قدموا عليه يسألون عن صلاة الرجل في بيته، فقال عمر: سألتُ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال: أما صلاة الرجل في بيته فنور، فنوِّروا بيوتكم. رواه ابن خزيمة في صحيحه»(٣) .

____________________

(١) الحاقة: ٤٤ - ٤٥ - ٤٦.

(٢) المنذري، الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، تعليق: مصطفى محمد عمارة، ج: ١، ص: ٣٧٩، ح: ٤.

(٣) المنذري، الترغيب والترهيب، ج: ١، ص: ٣٧٩، ح: ٥، وانظر: كنز العمال، ج: ٨، ح: ٢٣٣٦٠، ص: ٣٨٤.

٢٩٦

وفي (كنز العمال):

«سُئل عمر عن الصلاة في المسجد فقال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الفريضة في المسجد، والتطوع في البيت»(١) .

من هنا رأى بعض علماء العامة أفضلية قيام المرء في رمضان ببيته على صلاة (التراويح) المدّعاة، فقد «قال مالك وأبو يوسف وبعض الشافعية انَّ فعلها (الصلاة ليلاً في رمضان) فرادى في البيت أفضل لحديث: خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة»(٢) .

وقال (ابن قدامة) في (المغني):

(والتطوع في البيت أفضل لقول رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليكم بالصلاة في بيوتكم فانَّ خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» رواه مسلم، وعن زيد بن ثابت انَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة» رواه أبو داود»(٣) .

ولا يمكن الادّعاء بانَّ هذهِ الروايات مطلقة فتُخصص بما دل على استحباب صلاة (التراويح) المدّعاة، لانَّه لا يوجد أيّ سند شرعي، ودليل صحيح على كون النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد صلّى هذهِ النافلة في حياته الشريفة، غير ما يُدعى بهذا الشأن من النزر القليل المفتعل من الأحاديث التي يتشبث بها البعض، إذ الغريق يتشبث بكل حشيش!

بل وقد صرَّح إمامان كبيران من أئمة العامة بأنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نهى القوم عن هذهِ الصلاة وعنَّفهم على فعلها، وأمرهم أن يصلّوا النوافل في بيوتهم على طبق تلك القاعدة العامة.

____________________

(١) علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: ٨، ح: ٢٣٣٦٣، ص: ٣٨٤.

(٢) راجع صحيح مسلم بشرح النووي، ج: ٦، ص: ٣٩ - ٤٠، وفتح الباري للعسقلاني، ج: ٤، ص: ٢٥٢، والتاج الجامع للاصول لناصيف، ج: ٢، ص: ٦٧.

(٣) موفق الدين بن قدامة، المغني، ج: ١، ص: ٧٧٥.

٢٩٧

جاء في (المغني):

«وقال مالك والشافعي: قيام رمضان لمن قوي في البيت أحب الينا لما روى زيد بن ثابت قال: احتجر رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجيرة بخصفة أو حصير، فخرج رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها فتتبع إليه رجال، وجاؤوا يصلّون بصلاته، قال: ثم جاؤوا ليلةً فحضروا، وأبطأ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهم، فلم يخرج اليهم، فرفعوا أصواتهم، وحصبوا الباب، فخرج اليهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مغضباً فقال:

(ما زال بكم صنيعكم حتى ظننتُ انّه سيُكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فانَّ خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة) رواه مسلم»(١) .

ومما يدل على أنَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقم بالناس في نافلة شهر رمضان ما روي في (كنز العمّال):

«عن أبي بن كعب أنَّ عمر بن الخطّاب أمره أن يصلّي بالليل في رمضان، فقال: إنَّ الناس يصومونّ النهار، ولا يحسنون أن يقرأوا، فلو قرأت عليهم بالليل، فقال: يا أمير المؤمنين هذا شيء لم يكن، فقال: قد علمتُ، ولكنّه حسنٌ! فصلّى بهم عشرين ركعة»(٢) .

وروى (الزيغلي) في (نصب الراية) عن نافع:

«انَّ ابن عمر كان لا يصلي خلفَ الامام في شهر رمضان»(٣) .

وجاء في (الاعتصام):

«وخرَّج سعيد بن منصور واسماعيل القاضي عن أبي امامة الباهليرضي‌الله‌عنه أنه قال:

____________________

(١) موفق الدين بن قدامة، المغني، ج: ١، ص: ٨٠٠، انظر نص الحديث في صحيح البخاري، ج: ٧، ص: ٩٩، باب: ما يجوز من الغضب والشدة لأمر اللّه، ح: ٤، وكنز العمال، ج: ٧، ح: ٢١٥٤١، ص: ٨١٦، وح: ٢١٥٤٣، و ٢١٥٤٥، ص: ٨١٧.

(٢) علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: ٨، ح: ٢٣٤٧١، ص: ٤٠٩.

(٣) الزيغلي، نصب الراية، ج: ٢، ص: ١٥٤.

٢٩٨

أحدثتم قيام شهر رمضان ولم يُكتب عليكم، انما كُتب عليكم الصيام.»(١) .

وجاءَ في (صحيح البخاري) في باب (فضل مَن قامَ رمضان):

«عن أبي هريرةرضي‌الله‌عنه انّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: مَن قامَ رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه.

قال ابن شهاب: فتوفي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والناس على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر، وصدراً من خلافة عمر رضي ‌الله ‌عنهما»(٢) .

فقال (العسقلاني) في (فتح الباري) ضمن شرح الحديث ما نصه:

«قال ابن شهاب فتوفي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والناس، في رواية الكشميهني: والأمر (على ذلك): أي على ترك الجماعة في التراويح».

وأضاف الى ذلك القول:

«ولأحمد من رواية ابن أبي ذئب عن الزهري في هذا الحديث (ولم يكن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمع الناس على القيام)، وقد أدرج بعضهم قول ابن أبي شهاب في نفس الخبر، أخرجه الترمذي عن طريق معمَّر بن أبي شهاب»(٣) .

فهذا تصريح واضح من (ابن حجر العسقلاني) بأنَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يصلِّ هذهِ الصلاة، ولم يجمع الناس لها.

ثم يضعّف (ابن حجر) بعد ذلك الحديث المنتحل الذي يُروى فيه أنَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد استحسن هذهِ الصلاة حين رآها! فيذكر انَّ لضعفه سببين:

الاول: انَّ فيه مسلم بن خالد وهو ضعيف، والثاني: انَّ الحديث يذكر انَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جَمعَ الناس على اُبي بن كعب، بينما المعروف انَّ عمر هو الذي صنع ذلك،

____________________

(١) أبو اسحق الشاطبي، الاعتصام، ج: ١، ص: ٢٩١.

(٢) البخاري، صحيح البخاري، ج: ٢، ص: ٢٤٩ - ٢٥٠.

(٣) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج: ٤، ص: ٢٥٢.

٢٩٩

حيث يقول:

«وأما ما رواه ابن وهب عن أبي هريرة (خرجَ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإذا الناس في رمضان يصلّون في ناحية المسجد، فقال: ما هذا؟ فقيل: ناس يصلّي بهم اُبي بن كعب، فقال: أصابوا ونعم ما صنعوا)، ذكره ابن عبد البر، وفيه مسلم بن خالد وهو ضعيف، والمحفوظ انَّ عمر هو الذي جمع الناس على اُبي بن كعب»(١) .

ولكي نطلع على حال (مسلم بن خالد) الذي روى انَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد استحسن صلاة التراويح وأقرَّها، يكفينا أن نطّلع على ما ذكره (المزي) في (تهذيب الكمال)، حيث يقول حوله:

«.وقال علي بن المديني: ليس بشيء.وقال البخاري: منكر الحديث.وقال النسائي: ليسَ بالقوي.وقال أبو حاتم: ليسَ بذلك القوي، منكر الحديث، يُكتب حديثه ولا يحتج به، تعرف وتنكر»(٢) .

____________________

(١) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ج: ٤، ص: ٢٥٢.

(٢) جمال الدين المزي، تهذيب الكمال في أسماء الرجال، تحقيق: الدكتور بشار عواد معروف، ج: ٢٧، ص: ٥١٢.

وأضاف محقق الكتاب في الهامش: (وذكره أبو زرعة الرازي في كتاب «أسامي الضعفاء»، (أبو زرعة الرازي: ٦٥٧)، وكذلك ذكره العقيلي وابن الجوزي في جملة الضعفاء، وقال يعقوب بن سفيان: سمعت مشايخ مكة يقولون: كان له حلقة أيام ابن جريح، وكان يطلب ويسمع ولا يكتب، وجعل سماعه سُفتجة، فلما احتيج إليه وحدَّث، كان يأخذ سماعة الذي قد غاب عنه، وكان علي بن المديني يضعفه (المعرفة والتاريخ: ٣ / ٥١)، وقال علي: سمعت ابن نمير يقول: مسلم بن خالد الزنجي ليس يُعبأ بحديثه (تقدمة الجرح والتعديل: ٣٢٣).وقال البزاز: لم يكن بالحافظ (كشف الاستار - ١٧١٦).وقال الدارقطني: سيئ الحفظ (السنن ٣ / ٤٦).وقال: ثقة الا أنه سيئ الحفظ، وقد اضطرب في هذا الحديث - يعني الحديث: «ابن عباس لما أراد رسول اللّه أن يخرج بني النضير.» (السنن ٣ / ٤٦).وساق له الذهبي في (الميزان) عدة أحاديث وقال: هذهِ الأحاديث وأمثالها ترد بها قوة الرجل ويُضعف (٤ / الترجمة ٨٤٨٥٤).وقال ابن حجر في «التهذيب»: قال الساجي: صدوق كان كثير الغلط، حدثنا أحمد بن محرز، سمعت يحيى بن معين يقول: كان مسلم بن خالد ثقة صالح الحديث فما أنكروا عليه حديث أبي هريرة «البيِّنة على مَن ادعى واليمين على مَن انكر إلا في القسامة» وحديث ابن عباس: «ملعون مَن أتى النساء في أدبارهنّ» وحديث أنس: «بعثت على أثر ثمانية آلاف نبي.» وغير ذلك من المناكير.وذكره ابن البرقي في باب مَن نُسب إلى الضعف ممن يكتب حديثه.وقال الدارقطني: ثقة حكاه ابن القطان (١٠ / ١٣٠).وقال ابن حجر في «التقريب»: فقيه صدوق كثير الأوهام).(تهذيب الكمال في معرفة الرجال للمزي، ج: ٢٧، ص: (٥١٣ - ٥١٤)).

٣٠٠