البدعة

البدعة9%

البدعة مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 610

البدعة
  • البداية
  • السابق
  • 610 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 153728 / تحميل: 9044
الحجم الحجم الحجم
البدعة

البدعة

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

بكاءً، كما في سورة الدخان(1) ، روى الفريقان تحقّق هذا الأمر في شهادة الحسين (عليه السلام)، مثل: ابن عساكر في تاريخه في ترجمة سيّد الشهداء (عليه السلام)، حيث ذكرَ جملة من الروايات المُسندة في ذلك عن مشاهدة الدم تحت الأحجار وفوق الحيطان وغير ذلك.

أوجهُ الاعتراض على ظاهرة البكاء والجواب عليها

نذكر بعد ذلك ما يُثار حول ظاهرة البكاء من انتقادات وإشكالات ونتعرّض للجواب عنها بالتفصيل تباعاً، فهناك عدّة نظريات وآراء مخالفة لظاهرة البكاء تعتمد على وجوه عديدة.

الوجه الأوّل: أنّ أدلة وروايات البكاء تشتمل على مضامين لا يقبلها العقل، مثل:(إنّ مَن بكى ودَمعت عيناه بقدر جَناح ذُبابة، غُفر له كلّ ذنوبه) فهذه الروايات - بتعبيرهم - مضمونها إسرائيلي، شبيه لمـَا لدى النصارى من أنّ المسيح قُتل لتُغفر ذنوب أمّته، فهذه الروايات فيها ما يشابه هذا المضمون، أنّ الحسين (عليه السلام) قُتل ليُكفّر عن ذنوب شيعته إلى يوم القيامة، فهي - بزعم هؤلاء - إغراء بالذنوب وإغراء للمعاصي، فلا يمكن العمل بهذه الروايات؛ لأنّ فيها نفس الإغراء الموجود في الفكرة المسيحيّة واليهوديّة، فحينئذٍ مضمون هذه الروايات لا يقبلها العقل ولا يصدّقها، وهو مضمون دخيل كما عبّروا، وهذا الوجه - في الحقيقة - يتألّف من أمرين:

____________________

(1) الدخان: 29.

٣٠١

الأول: ضعفُ سند هذه الروايات.

الثاني: ضعفُ المضمون؛ لاشتماله على هذا الإغراء الباطل.

الجواب: أمّا ضعفُ السند، فقد ذكرنا سابقاً أنّ كتاب بحار الأنوار يتضمّن باب ثواب البكاء على الحسين (عليه السلام)، ويحتوي على خمسين رواية في فضل واستحباب البكاء، وهذه الروايات الخمسون، ممّا جَمعها صاحب البحار هي غير الروايات العشرين التي جَمعها صاحب الوسائل وغير الروايات المتناثرة التي تربو على العشرات في الأبواب الأخرى، فكيف نردّ هذه الروايات؟ وبأيّ ميزان دِرائيّ ورجالي نُشكّك بها؟ فالقول بضعف السند لهذه الروايات ناتج من ضعف الانتباه أو ضعف الحيطة العلميّة؛ لأنّه بأدنى تصفّح في المصادر المعتبرة الحديثيّة تحصل القناعة واليقين بوجود أسانيد كثيرة جدّاً، منها: الصحيح، والموثّق، والمُعتبر، فضلاً عن كونها تصل إلى حدّ الاستفاضة بل التواتر.

وأمّا المضمون، فقد طعنَ عليه غير واحد، حيث قالوا: إنّ ذِكر الثواب في البكاء على الحسين (عليه السلام)، فيه إغراء للناس لارتكاب الذنوب والاتّكاء على البكاء، ويستشهدون على ذلك: بكون كثير من العوامّ يرتكبون المعاصي ويشاركون في نفس الوقت مشاركة فعّالة في الشعائر الحسينيّة ويخدمون ويحضرون المجالس ويبكون، واتّكالاً على هذه المشاركة وتذرّعاً بهذا البكاء فإنّهم يرتكبون ما يروق لهم من المعاصي، فبالتالي يصبح مضمون هذه الشعائر باطلاً.

الجواب عن هذا الإشكال: إنّ مثل هذا المضمون موجود في موارد عديدة في الشريعة، وهي موارد مسلّمة، مثلاً:( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ

٣٠٢

سَيِّئَاتِكُمْ ) (1) ، فهل هذا إغراء بالصغائر، أو:( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) (2) ، هل هذا إغراء بكلّ المعاصي غير الشِّرك؟!

يُضاف إلى ذلك، روايات عديدة أخرى وردت من طرق العامّة والخاصّة في ثواب البكاء من خشية الله، منها:

عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(مَن خرجَ من عينيه مثل الذُباب من الدمع من خشية الله، آمنهُ الله يوم الفزع الأكبر) (3) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(مَن بكى على ذنبه حتّى تسيل دموعه على لحيته، حرّم الله ديباجة وجهه على النار) (4) فهل هذا إغراء لارتكاب المعاصي والذنوب؟! وكذلك ورد في ثواب الحجّ والصلاة المفترضة والصوم وغيرها من الثواب العظيم، وغفران الذنوب، بل يمكن الردّ على الإشكال في هذه الموارد بوجوه عديدة:

أوّلاً: الترغيب في نفس العمل، لا أنّه إغراء بالمنافرات والمضادّات.

ثانياً: فتح باب التوبة وعدم اليأس.

ثالثاً: إنّ البكاء من خشية الله؛ إنّما يكون من باب المقتضي للتكفير عن الصغائر أو لغفران الذنب، وليس من باب العلّة التامّة، أي أنّ هناك أموراً وشرائط أخرى لابدّ من توفّرها مع المقتضي، من قبيل: عدم الإصرار على الصغائر، والعزم والتصميم على الإقلاع عن المعصية وغير ذلك، فإذا تمّت جميع هذه المقدّمات

____________________

(1) النساء: 31.

(2) النساء: 48.

(3) روضة الواعظين (الفتال النيسابوري): 452.

(4) المصدر السابق.

٣٠٣

وتوفّر المقتضي فتحصل العلّة التامّة للتكفير أو للمغفرة، لذلك نقول: إنّ هذه الأمور هي من باب المقتضي وليست من باب العلّة التامّة.

ورابعاً: في آية( إِنْ تَجْتَنِبُوا... ) المقصود تكفير الذنوب السابقة وليس الآتية في المستقبل، والذي يرتكب الذنوب في المستقبل قد لا يوفّق إلى مثل هذا التكفير والغفران، وهذا نظير ما وردَ في باب الحج: أنّ مَن حجّ يقال له بعد رجوعه استأنفَ العمل(1)، أو أنّه يرجع كما ولدتهُ أمّه، ويُغفر لمَا سبقَ من ذنوبه، فهذا ليس إغراءً بالجهل وبالذنوب، بل المقصود: أنّ هذه مقتضيات، لا أنّها تُحدّد المصير النهائي والعاقبة النهائيّة.

وقد ورد في مضمون بعض الروايات: مَن مات على الولاية، يَشفع ويُشفّع(2)، لكن مَن يضمن أنّه يموت على الولاية إذا كان يرتكب الذنوب والكبائر، فليست ولاية أهل البيت مُغرية للوقوع في الذنوب والمعاصي.

إذ إنّ ارتكاب المعاصي يُسبّب فقدان أغلى جوهرة وأعظم حبل للنجاة، وهو العقيدة، ويؤدّي إلى ضياع الإيمان، حيث قال تعإلى:( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ

____________________

(1) بحار الأنوار 99: 315 / 6؛ وكذلك في تفسير القمّي 1: 70؛ واللفظ للأخير: عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:(إنّ العبد المؤمن حين يخرج من بيته حاجّاً، لا يخطو خطوة ولا تخطو به راحلته إلاّ كُتب له بها حسنة، ومُحيَ عنه سيّئة، ورُفع له بها درجة، فإذا وقفَ بعرفات فلو كانت له ذنوب عدد الثرى رجعَ كما ولدتهُ أُمّه، فقال له: استأنِف العمل..) .

(2) ورد في بحار الأنوار 8: 30 عدّة روايات بهذا المضمون منها: عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :(إنّي أشفعُ يوم القيامة فأُشفّع، ويشفع عليّ فيُشفّع، ويشفع أهل بيتي فيُشفّعون، وإنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفَع في أربعين من إخوانه كلّ قد استوجبوا النار) .

٣٠٤

أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) (1) ، حيث إنّ مجموع الدين يُعتبر كتلة واحدة، ولا ننظر إلى الدين من جهة دون أخرى، وإذا كان تمام الأدلّة الدينيّة يشير إلى أنّ ارتكاب المعاصي والإصرار عليها يؤدّي إلى فقدان الإيمان والمآل إلى سوء العاقبة - والعياذ بالله - فليس فيها جانب إغراء، بل فيها إشارة إلى جهة معيّنة، وهي: أنّها تُخلّص الإنسان وتنقذه من حضيض المعاصي والرذائل، وتعرج به إلى سموّ الفضائل وجادّة الصواب والصراط المستقيم.

فإنّ التفاعل العاطفي مع أحداث عاشوراء ليس يُنفّر من أعداء أهل البيت (عليهم السلام) فقط، بل هو أيضاً ينفّر من السلوكيّات المنحرفة المبتلى بها، وتتولّد في أعماق الشخص المتأثّر حالة تأنيب الضمير لذلك، فهو يُجسّد في نفسه الصراع والجهاد، فإذا عَرضت له أشكال من المعصية كأنّما يتحرّك عنده هاجس الحرارة الحسينيّة، وينشأ في روحه جانب تأنيب الضمير، فهذا نوع من الانجذاب القلبي والعزم الإرادي نحو الصراط المستقيم.

وليس مفاد الروايات: أنّ مَن بكى على الحسين فلهُ الضمان في حسن العاقبة، وله النتيجة النهائيّة في الصلاح والفلاح، ليس مفادها ذلك؛ إنّما مفاد الروايات: مَن بكى على الحسين غُفرت له ذنوبه، مثل أثر فريضة الحجّ، وغفران الذنوب مشروط - كما يقال - بالموافاة، والموافاة: اصطلاح كلامي وروائي، أي أن يوافي الإنسان خاتمة أجره بحُسن العاقبة، وإلاّ فمعَ سوء العاقبة - والعياذ بالله - ترجع عليه السيئات وتُحبط الحسنات ولا تُكتب له.

____________________

(1) الروم: 10.

٣٠٥

فليس في منطق هذه الروايات إغراء بالمعاصي، وليست هي كعقيدة النصارى بأنّ المسيح قد قُتل ليُغفر للنصارى جميعاً، حتّى وإن عملوا المعاصي والكبائر وأنواع الظلم والعدوان، ولا كعقيدة اليهود الذين قالوا إنّ عزيراً أو غيره له هذه القابليّة على محو المعاصي والكبائر عن قومه.

وإلاّ لأُشكلَ علينا أنّ قرآننا توجد فيه إسرائيليّات، فمنطق الآية:( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ ...) يختلف عن ذاك المنطق الذي ينادي به النصارى، أولئك يقولون: نعمل ما نشاء والعاقبة ستُختم لنا بالحسنى، فأين هذا عن المعنى الذي نحن بصدده؟

مضمون أن يُغفر له ولو كان كزبد البحر، مخالفٌ غير ذلك المعنى أصلاً، بل فيه نوع من إدانة المذنبين، إضافةً إلى فتح باب الأمل وعدم القنوط وعدم اليأس، بل الأمل بروح الله أن ينجذب الإنسان إلى الصراط المستقيم وجانب الطاعات، ولا يقع في طريق المعاصي ويتخبّط في الذنوب.

الوجهُ الثاني: سلّمنا بكون هذه الروايات المشتملة على البكاء تامّة سنداً ومتناً ومضموناً، لكن مضمونها غير أبدي، وليس بدائم، مضمونها هو الحثّ على البكاء في فترة الأئمّة (عليهم السلام)، وهي فترة وحقبة التقيّة، حيث كان الأسلوب الوحيد لإبراز المعارضة والاستنكار للظلم وإبراز التضامن مع أهل البيت (عليهم السلام) هو البكاء، أمّا في يومنا هذا، فالشيعة - ولله الحمد - يعيشون في جوّ من الحريّة النسبيّة، فليست هذه الوسيلة صحيحة.

كان الهدف من تشريع هذه الوسيلة والحثّ عليها هو: حصول غرض معيّن، وهو إبراز التضامن مع أهل البيت (عليهم السلام)، أو التولّي لأهل البيت، وإظهار الاستنكار

٣٠٦

والتبرّي من أعدائهم والمعارضة لخطّهم، باعتبار أنّ الظرف كان ظرف تقيّة، كانت الأفواه مكمّمة، وكانت النفوس في معرض الخطر من الظالم، فقد يكون البكاء هو الأسلوب الوحيد آنذاك، أمّا في أيّامنا هذه - وقد زال الخوف - فهذا ليس بالأسلوب الصحيح.

أمّا الآن فقد انتفت الغاية منها، فتكون أشبه بالقضيّة الخارجيّة الظرفيّة، لا القضيّة الحقيقيّة العامّة الدائمة.

الجواب: فنقول: أمّا كونه أحد الغايات للبكاء فتام، لكن ليس هو تمام غاية البكاء، بل هو أحد الغايات والسُبل لإظهار الظلامة، هذا أوّلاً، وثانياً: ما الموجب لكون هذه الغاية غير قابلة للتحقّق، بل هي مستمرة قابلة للتحقّق؛ لأنّ البكاء نوع من السلوك التربوي لإثارة وجدان أبناء الفِرق الأخرى من المسلمين ومن غير المسلمين، وإلاّ لو حاولت - إظهار النفرة لظالمي أهل البيت والتبرّي من أعداء الدين الذين قادوا التحريف والانحراف في الأمّة الإسلاميّة - بمجرد كلمات فكريّة أو إدراكيّة يكون الأسلوب غير ناجح وغير نافع، وقد يُسبِّب ردّة فعل سلبيّة عندهم، أمّا أسلوب العاطفة الصادقة فهو أكثر إثارة، وأنجح علاجاً لهداية الآخرين، لمَا مرّ من أنّ الطبيعة الإنسانيّة مركّبة من نَمطين جِبلييّن: نَظري إدراكي، وعَملي انفعالي.

والغاية ليست منحصرة في ذلك، بل هناك عِلل كثيرة - كما سنقرأ من الروايات في ختام بحث البكاء - وحصر علّة البكاء بهذه العلّة غير صحيح.

اعتراض: أمّا ما يقال: بأنّ الحسين (عليه السلام) قد منعَ الفواطم أو العقائل من شقّ الجيوب، وخَمش الوجوه، ونهاهنّ عن البكاء، فهذا النهي في الواقع مُغيّى

٣٠٧

ومُعلّل، عندما أخبرَ الحسين (عليه السلام) زينب العقيلة (عليها السلام) بأنّه راحل عن قريب، لطمَت وجهها وصاحت وبكت، فقال لها الحسين (عليه السلام):(مَهلاً لا تُشمِتي القوم بنا) (1) .

حذّرها شماتة الأعداء قبل انتهاء الحرب وقبل حلول الفادحة والمصيبة العظمى؛ لأنّه يُسبّب نوعاً من الضعف النفسي في معسكر الحسين (عليه السلام)، أمّا إخماد الجزع بعد شهادته (عليه السلام)، أو إخماد الوَلولة وكَبت شِدّة الحُزن فهي نوع من إخماد وإسكات لصوت نهضة الحسين (عليه السلام)، وحدٌّ من وصول ظلامته إلى أسماع العالَم بأسره، وكلّ مستقرئ يرى أنّ الذي أوصلَ صوت الحسين (عليه السلام) إلى العالَم، وأنجحَ نهضته إلى اليوم وإلى يوم القيامة هم السبايا ومواقف العقيلة (عليها السلام) وخطبها، وخُطب السجّاد (عليه السلام) في المواضع المختلفة من مشاهد السبي لأهل البيت (عليهم السلام)(2) .

والسرّ واضح؛ لأنّه حينما تكون حالة هياج وحالة احتراق للخيام وتشرّد وهيام الأطفال واليتامى، فالظرف هنا ليس ظرف جزع ولا ظرف إظهار الندبة، بل هو ظرف حزم الأمور وقوّة الجَنان، ومحاولة الإبقاء على البقيّة الباقية من أهل البيت (عليهم السلام).

____________________

(1) اللهوف في قتلى الطفوف (السيّد ابن طاووس): 55؛ بحار الأنوار 44: 391 / 2.

(2) وهناك نهي آخر عن الحسين لسكينة بالخصوص مُغيّى أيضاً بقتله، كما يظهر من الأبيات المنسوبة له (عليه السلام) حين توديع ابنته سكينة:

سيطولُ بعدي يا سُكينة فاعلَمي منكِ البكاء إذا الحِمام دَهاني

لا تُحرقي قلبي بدمعك حسرةً مادام مني الروح في جثماني

وإذا قُتلتُ فأنتِ أولى بالذي تأتينهُ يا خيرة النِسوان

مناقب آل أبي طالب (ابن شهر آشوب) 3: 257.

٣٠٨

الجواب: ليس من المعقول أن تبدو في الإنسان ظاهرة عاطفيّة انفعاليّة من دون أن تكون وليدة لإدراك معيّن، ولا ناشئة عن فهم معلومة ما.

وأصلاً؛ فإنّ التفكيك بين الانفعال والتأثّر العاطفي من جهة، وبين الإحساس والإدراك لأمرٍ ما من جهةٍ أخرى غير ممكن، بل البكاء - كما بيّنا فيما سبق موضوعاً وحكماً، سواءً بالحكم العقلي أو النقلي - هو نوع من الإخبات للمعلومة الحقيقيّة، وشدّة التأثّر بها، وشدّة الإذعان والمتابعة لها، فلو أنّ الإنسان ذكرَ معلومة من المعلومات الحقيقيّة المؤلمة ولم يتأثّر بها، فهذا يعني أنّه لم يشتدّ إذعانه لها، ولم يُرتّب عليها آثار المعلومة الحقيقيّة، بخلاف ما لو تأثّر بها بأيّ نوع من التأثّر، فهذا يدلّ على شدّة إيقانه بتلك الحقيقة.

ومن غير الممكن أن توجد ظاهر البكاء في الجناح العملي في النفس وكفعل نفساني، من دون أن يكون هناك إدراك ما، فكيف إذا كان إدراك حرمان ذروة التكامل في المعصوم، وشدّة الحسرة على فقدان تلك الكمالات البشريّة، ومن ثَمّ شدّة التلهّف للاقتداء والانجذاب إلى ذلك الكمال والمثل الأعلى، فسوف يتأثّر الإنسان بشدّة وينفعل بدرجة عالية، هذا أدنى ما يمكن أن يتصوّر.

وهذا التفاعل: إنّما هو انجذاب النفس إلى الكمالات الموجودة المطويّة في شخصيّة المعصوم؛ وإنّما التأثّر به والقرب منه يُعدّ من أسمى الفضائل، ويُعتبر نفرة عن الرذائل.

فالفضائل كلّها مجتمعة في الذات المطهّرة لسيّد الشهداء (عليه السلام)، والبراءة من أعدائه ومناوئيه تُعتبر نفرة من الرذائل والآثام المجتمعة في أعداء أهل البيت (عليهم السلام).

٣٠٩

وهذه أقلّ حصيلة يمكن أن تُتصوّر في البكاء، حيث إنّ أدنى مرتبة من مراتب مجلس الرثاء والتعزية هي نفس هذا المقدار أيضاً، وهو في الواقع أمر عظيم ينبغي عدم الاستهانة به، حيث يولِّد الانجذاب نحو الفضائل، والنفرة والارتداع عن الرذائل، وهل المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير هذا؟ وهل الغاية في نشر الدين وتبليغ الرسالة إلاّ انتشال الفرد من مستنقع الرذائل والصعود به إلى سموّ الفضائل.

هذا أدنى حصيلة عمليّة تنشأ من البكاء، فهو نوع من المجاوبة والتفاعل لا الجمود والخمول، ولا الحياديّة السلبيّة.

فربّما يواجه الإنسان فضيلةً وتُعرض عليه رذيلةً، فيظلّ مرتاباً متردّداً، ومتربّصاً في نفسه لا يحسم الموقف:( وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ ) (1) ، فيضلّ يعيش فترة حياديّة مع نفسه، لا هو ينجذب للفضائل، ولا يتأثّر بالرذائل، يعني تسيطر على نفسه حالة تربّص، وهذه حالة التربّص قد ذمّها القرآن الكريم، وهي مرغوب عنها في علم الأخلاق وعلم السير والسلوك؛ لأنّ نفس التوقّف هو تسافل ودركات، أمّا الانجذاب نحو الفضائل فيُعتبر نوعاً من التفاعل السليم.

فالبكاء يعني التأثّر والانجذاب والإقرار والإذعان، وبالتالي التبعيّة.

بخلاف ما لو لم يبكِ الإنسان ولم يتفاعل، بل يكون موقفه التفرّج والحياديّة، وشتّان بين الحالتين!

أضف إلى ذلك: أنّ في البكاء نوعاً من التولّي، حيث إنّ البكاء يدلّ على

____________________

(1) الحديد: 14.

٣١٠

فإذاً، ظرف المرحلة بخصوصها هي جنبة ضبط وتدبير وحزم، وليس من الصحيح إظهار المآتم والعزاء في ذلك الظرف، فمن ثَمّ فإنّ أمره (عليه السلام) مختصّ بذلك الظرف، وهو نوع من التدبير والحكمة منه (عليه السلام)، ولابدّ من لمّ الشَمل وجمع الشِتات للأرامل واليتامى، وإنّ ذلك الظرف ليس ظرف بكاء ورثاء ولا محل لإظهار المصيبة.

خلاصة القول: في مقام الإجابة على الانتقادات والاعتراضات السابقة: أنّ ما ذُكر في العلوم التخصصيّة في حقيقة البكاء من جهة البحث الموضوعي، هو أنّ هناك شرطان لرجحان البكاء هما: أن يكون البكاء وليداً لمعلومة ولإدراك حقيقي، وأن يكون لغاية حقيقيّة وهادفة إيجابيّة، فيكون من سنخ الانفعالات الكماليّة الممدوحة للنفس بلا ريب، وهو كذلك ممدوح في لغة القرآن ولغة النصوص الشرعيّة، وخَلصنا إلى أنّ البكاء هو نوع من التفاعل الجدّي والفعلي مع الحقيقة.

وبعبارةٍ أخرى: أنّ إعطاء السامع، أو القارئ، أو المُشاهد، أو المُوالي فكرة إدراكيّة بحتة غير مثمر بمفرده، وإنّ البكاء بمنزلة إمضاء مُحرّك للسير على تلك الفكرة، أو ما يعبّر عنه: بحصول إرادة جدّيّة عازمة فعليّة للمعنى.

فالبكاء إذا ولّدَ حضور الفكرة، العِبرة إذا تعقّبت العَبرة حينئذٍ يكون نوع من التفاعل الشديد والإيمان الأكيد بالفكرة والعِبرة.

ويُعتبر ذلك نوعاً من التسجيل المؤكَّد لتفاعل الباكي وإيمانه واختياره لمسيرة تلك العِبرة.

الوجهُ الثالث: الذي يُذكر للنقض على البكاء: أن لو سلّمنا أنّنا قَبلنا بأمر البكاء في الجملة، ولكنّ استمرار البكاء على نحو سنوي، أو راتب شهري، أو

٣١١

أسبوعي بشكلٍ دائم يولِّد حالة وانطباعاً عن الشيعة والموالين لأهل البيت (عليهم السلام)، بأنّ هؤلاء أصحاب أحقاد وضغون، وإنّهم يحملون العُقد، واستمرارهم بالبكاء واجترارهم له يدلّ على أنّهم عَديمي الأمل فهذه ظاهرة سلبيّة انهزاميّة تكشف عن عُقد روحيّة، وكبت نفسي دَفين، فبدل أن يَقدموا على أعمال وبرامج ومراحل لبناء مذهبهم ولبناء أنفسهم ليخرجوا من حالة المظلوميّة إلى حالة قيادة أنفسهم والغلبة على مَن ظلمهم، فإنّهم يبقون على حالة الانتكاس والتراجع، وهذه الحالة يمكن أن نسمّيها الحالة الروحيّة الشاذّة، هي حالة توجِد خَللاً في الاتّزان الروحي (كما في علم النفس وعلم الاجتماع)، فالبكاء حيث إنّه في علم النفس ليس بحالة اتّزان روحي؛ وإنّما حالة اختلال فكري لا نستطيع معهما أن نهتدي السبيل، بل نحن عديمو الأمل، لدينا حالة كبت، وهذه الأوصاف هي أوصاف مَرضيّة وليست أوصاف روحيّة سليمة.

فحينئذٍ يكون الإبقاء على مثل هذه الظاهرة إبقاءً على حالة مرضيّة بإجماع العلوم الإنسانيّة التجريبيّة الحديثة، ولمّا كانت هذه الظاهرة المرضيّة تتشعّب إلى أمراض روحيّة أو فكريّة أو نفسيّة عديدة، فمن اللازم الابتعاد عنها ونبذها جانباً.

فملخّص الاعتراض في هذا الوجه الثالث: هو كون البكاء عبارة عن مجموعة من العُقد النفسيّة، وهو يوجِب انعكاس حالة مرضيّة روحيّة لأفراد المذهب وأبناء الطائفة.

الجواب: فنقول: على ضوء ما ذكرنا سابقاً من كلمات علماء النفس

٣١٢

والاجتماع والفلسفة: بأنّ الفطرة الإنسانيّة السليمة التي هي باقية على حالها لابدّ لها من التأثّر والتفاعل، أمّا التي لا تتأثّر بالأمور المحرِّكة للعاطفة تكون ممسوخة، إذ فيها جناح واحد فقط وهو جناح الإدراك، أمّا جناح العمل فإنّه مُنعدم فيها، كما هو الفرق بين المجتمعات الغربيّة والمجتمعات الشرقيّة.

فعلى عكس زعم المُعترض، تكون هذه حالة صحيحة وسليمة وليست حالة مرضيّة، ولا حالة عُقد، بل ذكرنا أنّ العُقد إنّما تجتمع فيمن لا يكون له متنفّس للانفعال، يعني أنّ الذي لا ينفعل، والذي لا يظهر انفعاله إزاء المعلومات الحقيقيّة التي تصيبه والذي يكبت ردود الفعل الطبيعيّة للحوادث سوف تتكدّس عنده الصدَمات إلى أن تصبح عُقد وتناقضات، وإلى أن تنفجر يوماً ما، وربّما تظهر لديه حالات شاذّة من قبيل: سوء الظن بالآخرين، أو اتّخاذ موقف العَداء لجميع مَن حوله.

والشخصيّات المعروفة في المجتمعات البشريّة - بعد استقراء أحوالهم وأطوارهم - نجدها تتمتّع بهذه الصفة الأساسيّة في النفس، فالذي لا يُبدي العواطف الإنسانيّة الصادقة، ولا تظهر أشكالها عليه، سوف يجتمع في خفايا نفسه ركام من الحقد وأكوام من العُقد، حيث إنّ الإنسان لا يخلو من جانب العاطفة، والاستجابة للعاطفة أمرٌ ثابت ناشئ ومتولّد عن الظاهرة العمليّة والوجدانيّة والضميريّة من الإدراك الحقيقي.

فإذا لم تحصل هذه الاستجابة فلابدّ من وجود اختلال في توازن الإنسان.

لذلك نجد أنّ المنطق القرآني والإرشادات من السنّة النبويّة الشريفة والسيرة العلويّة الكريمة، كلّها تُقرّر هذه الموازنة والتعادل بين جميع قوى النفس دون أن

٣١٣

يتمّ ترجيح جانبٍ للنفس دون جانب آخر.

فإذاً، المنطق المتعادل والمتوازن هو كون نفس الإنسان في حالة من التجاذب والتأثير والتأثّر بين أجنحتها المختلفة.

الوجهُ الرابع: أنّ البكاء ظاهرة تُنافي الصبر المرغوب فيه، ولا تنسجم مع الاستعانة بالله عزّ وجل، كما في سورة البقرة( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (1) فالبكاء منافٍ للصبر والتحمّل ومُناقض للاستعانة بالله سبحانه.

الجواب: أمّا الجواب لمَا قيل من وجوب الصبر والتحمّل عند نزول المصيبة كما في الآية الشريفة:( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ( 156 ) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (2) .

فنقول: كيف يتّفق هذا مع بكاء يعقوب على يوسف حتّى ابيضّت عيناه، هل هذا خلاف الصبر؟ أو بكاء السجّاد على أبيه سيّد الشهداء (عليه السلام) والأوامر التي بَلغت حدّ التواتر، الواردة في ثواب البكاء على الحسين (عليه السلام) إلى ظهور المهدي (عجّل الله فرجه) بل في بعضها إلى يوم القيامة.

فهل يتنافى ذلك كلّه مع الصبر؟ كلاّ.

وقد وردَ عن الصادق (عليه السلام):(إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جَزع ما خلا البكاء على الحسين بن عليّ (عليه السلام)؛ فإنّه فيه مأجور) (3) ، هذا ليس استثناءً

____________________

(1) البقرة: 156 - 157.

(2) البقرة: 156 - 157.

(3) بحار الأنوار 44: 291 / 32. راجع روايات الجزع ص: 312 من هذا الكتاب.

٣١٤

متّصلاً، بل هو استثناء منقطع؛ لأنّ الجزع نوع اعتراض على تقدير الله ويُعتبر حالة من الانهيار والتذمّر والانكسار، أمّا في الجزع على الحسين فليس اعتراضاً على قضاء الله وقدره، بل هو - بالعكس - نوع من الاعتراض على ما فعله أعداء الله، ولا يُعدّ انهياراً أو انكساراً، بل هو ذروة الإرادة للتخلّق والاتّصاف بالفضائل، وشَحذ الهِمم للانتقام من الظالمين، والاستعداد لنصرة أئمّة الدين والتهيئة لظهور الإمام الحجّة المنتظر (عجّل الله فرجه).

فقد يقال: أليس الحالة التي يندب إليها الشرع والقرآن عند المصيبة هي الصبر وقول:( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) ، فلا موضع للبكاء، بل البكاء يخالف الخُلق القرآني والتوصية الشرعيّة في ذلك، ونرى أنّ القرآن حين يستعرض لنا بأنّ الصبر هو الموقف الإيجابي عند البلاء والمصيبة، وفي نفس الوقت يستعرض لنا القرآن أمثولة نموذجيّة وهي: نبيّ الله يعقوب، يستعرض فعله بمديح وثناء لا انتقاصَ فيه، مضافاً إلى ما وردَ عن الصادق (عليه السلام).

ينحلّ هذا التضاد البدوي بأدنى تأمّل؛ وذلك بالبحث عن سبب كراهة الجزع، أو عن سبب إيجابيّة الصبر في المصائب، باعتبار أنّ الجزع مردّه إلى كراهة قضاء الله وقدره، ومآله إلى الانهيار أو الانكسار مثلاً، ولا ريبَ هذا أمر سلبيّ وغير إيجابي؛ لأنّه من الضعف وعدم الصمود والطيش، وعدم رباطة الجأش، وعدم الرضا بقضاء الله سبحانه وتعإلى وقدره، أو مردّه إلى الاعتراض على الله - والعياذ بالله - أو كراهة ما قضى الله سبحانه، ولذلك لو كان الصبر في موضع آخر لمَا كان الصبر ممدوحاً، مثلاً: صبر المسلمين مقابل كيد الكافرين ليس موضع صبر؛ لأنّ اللازم عليهم الردّ وحفظ عزّتهم لو كان لهم عدد وعدّة ومع

٣١٥

توفّر الشروط الموضوعيّة للقتال، كما في تعبير الآيات القرآنية مثل:( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) (1) .

فالصبر ثمّة ليس في محلّه، ومثله تعبير أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة:(رَوّوا السيوف من الدماء، تَرووا من الماء) (2) ، و(ما غُزي قومٌ في عُقر دارهم إلاّ ذلّوا) (3) ، فيتبيّن أنّ الصبر ليس راجحاً في كلّ مورد، بل الصبر بلحاظ ظرفه وجهته يكون ممدوحاً أو حسناً، وإلاّ قد يكون خلاف ذلك، فمن ثَمّ قد يكون إيجابيّاً و سلبيّاً فلابدّ أن يُقسّم الصبر إلى: مذموم، ومحمود.

ومثلُ ما في قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي (عليه السلام):(أبشِر فإنّ الشهادة من وراءك، فكيف صبرك إذاً، فقلتُ: يا رسول الله، ليس هذا من مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشرى والشكر..) (4) .

أي هذا موضع إبراز الشكر لله، لا موضع السكوت والتحمّل والصبر، نعم، هو مقابل اصطدام البليّة يكون صبراً، أمّا في مقابل تقدير الله، ليس عليك فقط أن تصبر، بل عليك الشكر والرضا بقضائه وقدره.

فالصبر درجة، أمّا الشكر لله سبحانه والرضا بقضائه وقدره فهو أرقى وأسمى.

الصبر وتحمّل المصيبة يمثّل درجة، أمّا الإحساس بعذوبة تقديره سبحانه

____________________

(1) البقرة: 193.

(2) نهج البلاغة 3: 244.

(3) نهج البلاغة 2: 74.

(4) شرح نهج البلاغة 9: 305.

٣١٦

وبحلاوة قضائه فيجسّد درجة أرقى، فتكون مورداً للرضا وللشكر، وهذه الحالة لا تُنافي الصبر بل تزيد عليه فضيلة، كذلك في موارد التشوّق إلى ذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث وردَ على لسان الأئمّة (عليهم السلام) أنّهم يَعدّون خسران وفقدان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مصيبة عُظمى، وتعبيرهم (عليهم السلام):(لم يُصب أحد فيما يُصاب، كما يُصاب بفقد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يوم القيامة، فهي أعظم مصيبة) .

إذا كان الصبر معناه الحمد لله سبحانه على قضائه وقدره، فهذا صحيح وفي محلّه، لكن ليس معنى ذلك استلزامه عدم إبراز الأحاسيس، وعدم حصول التشوّق والعاطفة الصادقة التي هي وليدة الانجذاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل ههنا عدم إظهار ذلك غير محمود، الإظهار هو نوع من الفضيلة زائدة على الصبر، لا أنّ هذا الإظهار ينافي الصبر.

وفي مصحّحة معاوية بن وهب:(كلّ الجَزع والبكاء مكروه ما خلا الجزع والبكاء لقتل الحسين (عليه السلام)) (1) .

وفي رواية علي بن أبي حمزة:(إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جَزع، ما خلا البكاء على الحسين بن عليّ (عليه السلام) فإنّه فيه مأجور) (2) .

وفي صحيح معاوية بن وهب الآخر، المروي بعدّة طُرق عن أبي عبد الله (عليه السلام):(وارحَم تلك الأعين التي جَرت دموعها رحمةً لنا، وارحَم تلك

____________________

(1) وسائل الشيعة 14: 505 أبواب المزار - باب 66 استحباب البكاء لقتل الحسين وما أصاب أهل البيت (عليهم السلام).

(2) وسائل الشيعة 14: 507 أبواب المزار باب 66، ح13.

٣١٧

القلوب التي جَزعت واحترَقت لنا، وارحَم الصرخة التي كانت لنا) (1) .

الجَزع: بمعنى الانكسار، ولكنّه هنا ليس انكساراً، وليس بجزع بحقيقته، نعم، جزع من ظلم الأعداء وجزع من رذائل الأداء، وهذا جزع محمود وليس جزعاً مذموماً، باعتبار أنّه نوع من التشوّق الشديد لسيّد الشهداء (عليه السلام)، كما رواه الشيخ في أماليه بسنده عن عائشة، قالت: لمّا مات إبراهيم بكى النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى جَرت دموعه على لحيته، فقيل: يا رسول الله، تنهى عن البكاء وأنت تبكي؟!

فقال:(ليس هذا بكاء؛ وإنّما هذه رحمة، ومَن لا يَرحم لا يُرحم) (2) .

والسرّ في ذلك: هو أنّ أيّ فضيلة من الفضائل التي هي مربوطة بالخلق الإلهي، أو بالآداب الإلهيّة، أو بكلمات الله، كنماذج مجسّمة في المعصومين (عليهم السلام)، فعدم التفاعل الشديد معها ومع هذا الخلق ومع تلك الآداب، يُعتبر أمراً غير محمود بل مذموماً، فلابدّ من الانجذاب والتولّي والمتابعة والمودّة لهم، وهذا التشوّق ليس بالمذموم بل محمود وحسن، ليس هو من الجزع المذموم، والتشكّي ليس فيه اعتراض على الله، بل هو اعتراض واستنكار على الظلم والظالمين ونبذ للرذيلة وأصحابها، كما في جواب العقيلة (عليها السلام) حينما دخلت في الكوفة إلى مجلس عبيد الله بن زياد، وتوجّه إليها وقال: كيف رأيتِ صُنعَ الله بكِ وبأهل بيتكِ، قالت: (ما رأيتُ إلاّ جميلاً)(3) .

في حين أنّها تُبدي استنكارها من عُظم الفجيعة، وقد أحاطتها هالة من

____________________

(1) وسائل الشيعة 14: 412 أبواب المزار باب 37، ح7.

(2) وسائل الشيعة 3: 282 أبواب الدفن باب 88، ح 8.

(3) بحار الأنوار: 45: 116.

٣١٨

الحُزن والأسى.

الوجهُ الخامس: أنّ التمادي في الشعائر الحسينيّة، وفي البكاء يسبِّب طغيان حالة الانفعال والعاطفة على حالة التعقّل والتدبّر والتريّث والاقتباس من المُعطيات السامية لنهضته (عليه الصلاة والسلام)، والحالة العاطفيّة ليست حالة عقلائيّة، بل هي حالة هيجان واضطراب نفسي، وهذا خلاف ما هو الغاية والغرض من الشعائر الحسينيّة، حيث إنّ الغاية والغرض والهدف منها هو: الاتّعاظ والاعتبار من المواقف النبيلة في نهضته (عليه السلام)، والاقتباس من أنوار سيرته، وليس حصول حالة هيجان عاطفي وحماسي فقط من دون تدبّر ورَويّة.

فإذاً، سوف تطغى الحالة العاطفيّة على الحالة العقلائيّة، والحال أنّ المطلوب من الشعائر: هو التذكير بالمعاني الدينيّة والمبادئ الدينيّة، وأخذ العِبر والعِظات التي ضحّى سيّد الشهداء (عليه السلام) من أجلها، وحالة البكاء والهيجان خلاف ذلك، فبدلَ استلهام الدروس والعِبر تُستبدل بحالة عاطفيّة!

وربّما ترجع هذه الإشكالات بعضها إلى البعض الآخر، وإن اختلفت عناوينها.

وبعبارةٍ أخرى: أنّ التمادي في البكاء يُسبّب طغيان حالة الانفعال والعاطفة على حالة التعقّل والتدبّر، فالبكاء ليس فيه تفاعل إيجابي مع أغراض وغايات الشعائر الحسينيّة، وإنّه نوع من إخلاء الشعائر الحسينيّة عن محتواها وتفريغها عن مضمونها.

فالبكاء: صِرف تأثّر عاطفي من دون إدراك مضامين النهضة الحسينيّة، أو من دون إدراك أغراض وغايات وأهداف النهضة الحسينيّة.

٣١٩

الحبّ، وهل التولّي إلاّ الحبّ؟ وهل هناك مصداق للحبّ أوضح وأصدق من البكاء على مصابهم؟ والحُزن لحزنهم؟ والنفرة من أعدائهم؟ وبعبارةٍ أخرى: لو لم يكن للبكاء إلاّ هذا القدر من الفائدة لكفى، فهو نوع من المحافظة على جذور وأسس رُكني العقيدة المقدّسة الشريفة، ألا وهما التولّي لأولياء الله سبحانه والتبرّي من أعدائه وأعدائهم.

نعم، لابدّ فيه من إعطاء حقّ جانب الإدراك، مثل: لابُدّية إعطاء جانب العاطفة حقّها، دون أن يطغى أحد الجانبين على الآخر، كما يظهر من الروايات أنّ هناك دعوة إلى البكاء، كذلك هناك ورايات للتدبّر والتأسي بأفعالهم (عليهم السلام) والاقتداء بسيرتهم:(... ألا وإنّ لكلّ مأمومٍ إماماً يقتدي به، ويستضيء بنور علمه...) (1) ، هذا ضمن مضامين متواترة من الآيات والروايات، التي لا يتمّ الاقتداء والتأسّي إلاّ بعد استخلاص العِبر وتحليلها والتدبّر بها.

ومع ذلك، فإنّ البكاء بأيّ درجة كان وبأيّ شكل حصل - سواء في نثر، أو شعر، أو خطابة - لا يمكن فرضه إلاّ مع فرض تقارنه مع معلومة معيّنة ينطوي ضمنها، فهو يمتزج بنحو الإجمال مع تلك الحقائق الإدراكيّة، ولا يمكن فرض البكاء من دون حصول العِظة والعِبرة ولو بنحو الإجمال؛ لأنّنا نفرض أنّ الحالة العاطفيّة هي دوماً معلولة لجانب إدراكي.

الوجهُ السادس: البكاء في الواقع يُستخدم كسلاح ضدّ النفس، والحال أنّ ما يمتلكه الإنسان من طاقة مملوءة ومخزونة يجب أن يوجّهها ضدّ العدو، أو يوظّفها في الإثارة نحو السلوك العملي والبرنامج التطبيقي، بينما هذه الشحنة التي امتلأ

____________________

(1) شرح نهج البلاغة 16: 205.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

ورويت هذهِ المقولة عن سفيان الثوري وعن أبي روّاد أيضاً(١) .

«وقال أبو عمير بن النحاس: حدثنا ضمرة عن ابن أبي روّاد، قال: كان الرجل إذا أتاه، قال له: أين تريدُ إلى الشام؟ قال: إنَّ بها ثوراً فاحذر لا ينطحك بقرنيه»(٢) !

وقال عباد بن أحمد العرزمي: سمعتُ عمّي محمد بن عبد الرحمان، قال: ذهبتُ إلى ثور لأسمع منه، فأبطأتُ وكانَ يوماً حاراً، فلما رجعتُ قال لي أبي: أينَ كنتَ؟ قال: كنتُ عند ثور، قال: فقال لي: يا بنيّ اتقِ لا ينطحكَ بقرنيه»(٣) !

وفي نفس الوقت نرى أنَّ محدّثي العامة قد رووا في كتبهم المعتبرة انَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمر بمقاطعة القدريين وهجرانهم، وحذَّر من مجالستهم والتعامل معهم بأي شكل كان، وبيَّنصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّهم خارجون عن الاسلام، وليس لهم فيه أدنى نصيب، ووجَّه اليهم الذم العنيف، واعتبرهم مجوس هذه الامة، من خلال مجموعة كبيرة من الاحاديث(٤) ، فكيف يمكن لنا بعد ذلك الركون والاطمئنان لما يرويه لنا (ثور بن يزيد) من أحاديث؟!

أضف إلى ذلكَ انّ علماء الرجال من أبناء العامة قد ضعَّفوا هذا الرجل بأنفسهم، وجاءت النصوص المستفيضة للدلالة على عدم أهليته للرواية، وعدم الاحتجاج به، وهذا ما يعزز لنا رفضه أيضاً، ورفض حديث (سنة الخلفاء الراشدين) معه!

واليكَ أيها القارئ الكريم بعض الأقوال المشهورة فيه:

____________________

(١) جمال الدين المزي، تهذيب الكمال، ج: ٤، ص: ٤٣٤.

(٢) جمال الدين المزي، تهذيب الكمال، ج: ٤، ص: ٤٢٤.

(٣) جمال الدين المزي، تهذيب الكمال، ج: ٤، ص: ٤٢٤.

(٤) راجع على سبيل المثال: ابن ماجة، سنن ابن ماجة، ج: ١، باب: ١٠ في القدر، ح: ٩٢، ص: ٣٥، وأبا داود، سنن أبي داود، ج: ٤، باب: في القدر، ص: ٢٢٢، ح: ٤٦٩١، وح: ٤٦٩٢، وفي مسند أحمد، ج: ٢، ص: ٨٢، وج: ٥، ص، ٤٠٦ و ٤٠٧، والترمذي، سنن الترمذي، ج: ٤، كتاب القدر، باب ٦: ١٣، ص: ٣٩٥، ح: ٢١٤٩، وعلاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: ١، ص: ٣٦٢، ح: ١٥٩٧، وانظر لمزيد من التفصيل: كنز العمال، ح: ١، ص: ٣٦٣ - ٣٦٤، الاحاديث: ١٥٩٧ - ١٦٠٣، وابن الأثير في جامع الاصول في أحاديث الرسول، ج: ١٠، ص: ١٢٨ - ١٣٢.

٣٤١

«وقال أبو مسهر وغيره: كان الاوزاعي يتكلَّم فيه ويهجوه»(١) .

وقال أبو مسهر أيضاً: حدثني سلمة بن العيّار قال: كانَ الاوزاعي يسيء القول في ثلاثة: في ثور بن يزيد، ومحمد بن اسحق، وزرعة بن ابراهيم»(٢) .

وجاءَ عنه أيضاً في (تهذيب الكمال) انَّه:

«.قدم المدينة فنهى مالك عن مجالسته، وليس لمالك عنه رواية لا في الموطأ، ولا في الكتب الستة، ولا في غرائب مالك للدارقطني، فما أدري أين وقعت روايته عنه مَعَ ذمِّه له»(٣) .

«وقال أبو مسهر: حدثنا أبو مسلم الفزاريُّ، قال: ما سمعتُ الأوزاعي يقول في أحدٍ من الناس إلا في ثور بن يزيد، ومحمد بن اسحق، قال: وقلتُ له: يا أبا عمرو حدثنا ثور بن يزيد، قال: فغضبَ عليَّ غضبةً ما رأيتُ مثلها، ثم قال: قال رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ستة لعنتُهم، فلعنهم اللّه وكلُّ نبي مجاب: الزائد في كتاب اللّه، والمكذِّب بقدر اللّه.)، ثور بن يزيد أحدهم تأخذ دينَكَ عنه؟ وأمّا محمَّد بن اسحق فكانَ يرى الاعتزال، قال: فجئتُ إلى كتابي الذي سمعتُه من ثور ومحمد بن اسحق، فألقيته في التنّور»(٤) .

«وقال نعيم بن حمّاد، قال عبد اللّه بن المبارك:

أيها الطالبُ علماً

ائتِ حمّادَ بنَ زيد

فاطلبنَّ العلمَ منهُ

ثمَّ قيِّده بقيد

لا كثورٍ وكجهم

وكعمرو بنِ عُبيد»(٥)

____________________

(١) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب: ج: ٢، ص: ٣٤.

(٢) جمال الدين المزي، تهذيب الكمال، ج: ٤، ص: ٤٢٥.

(٣) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج: ٢، ص: ٣٥.

(٤) جمال الدين المزي: تهذيب الكمال، ج: ٤، ص: ٤٢٥.

(٥) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج: ٢، ص: ٣٥، وانظر: تهذيب الكمال للمزي، ج: ٤، ص: ٤٢٦.

٣٤٢

السلسلة الثانية : «الوليد بن مسلم، عن العلاء بن زبر، عن يحيى بن أبي المطاع، قال: سمعت العرباض بن سارية.»(١) .

ففي هذهَ السلسلة (الوليد بن مسلم)، ولكي تطّلع - أيها القارئ الكريم - على حال (الوليد) ننقل لكَ بعض أقوال علماء العامة ورواتهم فيه:

«.وقال أبو بكر المزوري: قلتُ لأحمد بن حنبل في الوليد، قال: هو كثير الخطأ»(٢) .

«وقال أبو بكر الاسماعيلي: سمعتُ مَن يحكي عن عبد اللّه بن أحمد بن حنبل، عن أحمد، وسُئلَ عن الوليد بن مسلم فقال: كانَ رفّاعاً»(٣) .

«وقال حنبل بن اسحق: سمعتُ يحيى بن معين يقول: قال أبو مسهر: كانَ الوليد يأخذ من ابن أبي السَّفر حديث الأوزاعي، وكان ابن أبي السَّفر كذّاباً، وهو يقول فيها: قال الأوزاعي»(٤) .

«وقال أبو الحسن الدارقطني - في كتاب (الضعفاء والمتروكون) -: الوليد بن مسلم يرسل، يروي عن الاوزاعي أحاديث عند الأوزاعي عن شيوخ ضعفاء»(٥) .

«وقال أبو مسهر: الوليد مدلِّس عن كذّابين»(٦) .

«وقال مؤمَّل بن إهاب عن أبي مسهر: كانَ الوليد بن مسلِّم يحدِّث بأحاديث

____________________

(١) ابن ماجة، سنن ابن ماجة، ج: ١، ص: ١٦، فيه: (حدثنا عبد اللّه بن أحمد بن بشير بن ذكوان الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم.).

(٢) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج: ١١، ص: ١٥٤، وتهذيب الكمال للمزي، ج: ٣١، ص: ٩٦.

(٣) جمال الدين المزي، تهذيب الكمال، ج: ٣١، ص: ٩٦.

(٤) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج: ١١، ص: ١٥٤ وتهذيب الكمال للمزي، ج: ٣١، ص: ٩٦ - ٩٧، وميزان الاعتدال لمحمد بن أحمد الذهبي، ج: ٤، ص: ٣٤٨، وسير اعلام النبلاء للذهبي، ج: ٩، ص: ٢١٥.

(٥) شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج: ٩، ص: ٢١٦ - ٢١٧، وتهذيب الكمال للمزي، ج: ٣١، ص: ٩٧.

(٦) شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج: ٩، ص: ٢١٦، وانظر: ميزان الاعتدال للذهبي، ج: ٤، ص: ٣٤٧.

٣٤٣

الاوزاعي عن الكذّابين، ثم يدلسها عنهم«(١) .

«وقال صالح بن محمد الأسدي الحافظ، سمعتُ الهيثم بن خارجة يقول: قلتُ للوليد بن مسلم: قد أفسدتَ حديث الاوزاعي، قال: كيف؟ قلتُ تروي عن الأوزاعي عن نافع، وعن الأوزاعي عن الزهري، وعن الأوزاعي عن يحيى بن سعيد، وغيرُكَ يُدخل بينَ الأوزاعي وبينَ نافع عبد اللّه بن عامر الأسلمي، وبينه وبينَ الزهري ابراهيم بن مرّة وقرة وغيرهما، فما يحملكَ على هذا؟

قال: اُنبِّل الأوزاعي أن يروي عن مثل هؤلاء، قلتُ: فإذا روى الأوزاعي عن هؤلاء، وهؤلاء ضعفاء، أحاديث مناكير، فأسقطتهم أنتَ، وصيرتها من رواية الأوزاعي عن الثقات، ضَعُفَ الأوزاعي.

فلم يلتفت إلى قولي»(٢) .

وفي هامش كتاب (سير أعلام النبلاء) قال المحقق معلقاً على هذا الحديث:

«وهذا النوع من التدليس يسمى عند المتقدمين تجويداً، فيقولونَ: جوَّدة فلان، يريدونُ ذكر فيه من الأجواد، وحذفَ الأدنياء، وسمّاه المتأخرون: تدليس التسوية، وذلكَ انَّ المدلِّس الذي سمع الحديث من شيخه الثقة عن ضعيف عن ثقة، يسقط الضعيف من السند، ويجعل الحديث عن شيخه الثقة، عن الثقة الثاني بلفظ محتمل، فيستوي الاسناد كلّه ثقات، وهو شرُّ أنواع التدليس وأفحشها، لانَّ الثقة الاول ربَّما لا يكون معروفاً بالتدليس، فلا يحترز الواقف على السنة عن عنعنةٍ وأمثالها من الألفاظ المحتملة التي لا يُقبل مثلها من المدلّسين، ويكون هذا المدلِّس الذي يحترز من تدليسه قد أتى بلفظ السماع الصريح عن شيخه، فأمنَ بذلكَ من تدليسه، وفي ذلكَ غرر شديد»(٣) .

____________________

(١) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج: ١١، ص: ١٥٤، وفي تهذيب الكمال للمزي، ج: ٣١، ص: ٩٧.

(٢) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج: ١١، ص: ١٥٤، وتهذيب الكمال للمزي، ج: ٣١، ص: ٩٧، وسير أعلام النبلاء للذهبي، ج: ٩، ص: ٢١٥ - ٢١٦، وميزان الاعتدال للذهبي، ج: ٤، ص: ٣٤٨.

(٣) شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، بتحقيق: كامل الخرّاط، ج: ٩، ص: ٢١٦ (الهامش).

٣٤٤

«وقال الآجري سمعتُ أبا داود يقول: روى الوليد عن مالك عشرة أحاديث ليس لها أصل، منها عن نافع أربعة»(١) .

«وقال أبو داود: كل منكر يجيء عن الوليد بن مسلم، إذا حدَّث عن الغرباء يخطئ»(٢) .

«وقال: بقية أحسن حالاً من الوليد بن مسلم»(٣) .

وسيأتي الكلام عن (بقية) الذي هو أحسن حالاً من (الوليد) لاحقاً إن شاءَ اللّه تعالى، ويثبت انَّه ضعيف أيضاً، فكيف بالذي أضعف منه.

وقال الذهبي في (سير أعلام النبلاء): «قلتُ: البخاري ومسلم قد احتجّا به، لكنهما ينتقيان حديثَه، ويتجنبان ما يُنكر له»(٤) .

ومما تجدر الاشارة إليه أنَّ كلاً من (مسلم) و(البخاري) لم يرويا حديث (سنة الخلفاء الراشدين) على نحو الخصوص.

السلسلة الثالثة : «يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن خالد بن معدان، عن العرباض بن سارية.»(٥) .

وقد وقع في هذهِ السلسلة راويان ضعيفان: أحدهما (يحيى بن أبي كثير)،

____________________

(١) جمال الدين المزي تهذيب الكمال بتحقيق الدكتور بشار عواد معروف، ج: ٣١، ص: ٩٩، (الهامش) عن سؤالاته: ٥ الورقة ١٥، وعن ميزان الاعتدال للذهبي، ج: ٤، ص: ٣٤٧.

(٢) جمال الدين المزي، تهذيب الكمال، ج: ٣١، ص: ٩٩ (الهامش).

(٣) جمال الدين المزي، تهذيب الكمال، ج: ٣١، ص: ٩٩ (الهامش).

(٤) شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج: ٩، ص: ٢١٦، وتهذيب الكمال للمزي، ج: ٣١، ص: ٩٩ (الهامش).

(٥) مسند أحمد بن حنبل، ج: ٥، ص: ١٠٩ فيه: (حدثنا عبد اللّه، حدثني أبي، حدثنا اسماعيل بن هشام الدستوائي، عن يحيى بن كثير، عن محمد بن إبراهيم).

وفي مستدرك الحاكم، ج: ١، ص: ٩٦ - ٩٧، وفيه: (حدثنا أبو عبد اللّه عبد اللّه الحسين بن الحسن بن أيوب، حدثنا أبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلي، حدثنا عبد اللّه بن يوسف التينسي، حدثنا الليث بن يزيد بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن خالد بن معدان، عن عبد الرحمن بن عمر السلمي، عن العرباض بن سارية.).

٣٤٥

والآخر (محمد بن إبراهيم بن الحارث).

فأمّا (يحيى بن أبي كثير) فقد جاءَ عنه:

قال (الذهبي) في (سير أعلام النبلاء): «وقال العقيلي: كان يُذكر بالتدليس»(١) .

وفيه أيضاً: «وقال يحيى بن قطّان: مرسلات يحيى بن أبي كثير شبه الريح»(٢) .

وفيه أيضاً: «وقال يزيد بن هارون عن همام قال: ما رأيتُ أصلبَ وجهاً من يحيى بن أبي كثير، كنّا نحدّثه بالغداة، فنروح بالعشي فيحدثناه»(٣) .

وقال في (تهذيب التهذيب): «قلتُ: تتمة: كلام ابن حبان: كان يدلِّس، فكلما روى عن أنس فقد دلَّس عنه، لم يسمع من أنس، ولا من صحابي»(٤) .

وقال (الذهبي) في (ميزان الاعتدال): «يروي عن أنس ولم يسمع منه»(٥) .

وفيه أيضاً: «وقال نعيم بن حماد: حدثنا المبارك عن همام، قال: كنّا نحدِّث يحيى بن أبي كثير بالغداة، قإذا كانَ بالعشي قلبه عنّا»(٦) .

هذا حال (يحيى بن أبي كثير)، وأما (محمد بن إبراهيم بن الحارث) فقد ضعَّفه (أحمد بن حنبل)، حيث جاءَ في (سير أعلام النبلاء) و(تهذيب التهذيب) و(ميزان الاعتدال):

«وقال العقيلي: حدثنا عبد اللّه بن أحمد: قال: سمعتُ أبي ذكر محمد بن إبراهيم

____________________

(١) شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج: ٦، ص: ٢٨، وميزان الاعتدال لمحمد بن أحمد الذهبي، ج: ٤، ص: ٤٠٢، وتهذيب التهذيب للعسقلاني، ج: ١١، ص: ٢٦٩، وتهذيب الكمال للمزي، ج: ٣١، ص: ٥٠٩.

(٢) شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج: ٦، ص: ٣٠، وتهذيب التهذيب للعسقلاني، ج: ١١، ص: ٢٦٩. وميزان الاعتدال للذهبي، ج: ٤، ص: ٤٠٣، وتهذيب الكمال للمزي، ج: ٣١، ص: ٥٠٩.

(٣) شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج: ٦، ص: ٣٠ - ٣١، وتهذيب الكمال للمزي، ج: ٣١، ص: ٥٠٩.

(٤) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج: ١١، ص: ٢٦٩.

(٥) محمد بن أحمد الذهبي، ميزان الاعتدال، ج: ٤، ص: ٤٠٢.

(٦) محمد بن أحمد الذهبي، ميزان الاعتدال، ج: ٤، ص: ٤٠٢، وتهذيب الكمال للمزي، ج: ٣١، ص: ٥٠٩.

٣٤٦

التيمي، فقال: في حديثه شيء، يروي أحاديث مناكير أو منكرة»(١) .

السلسلة الرابعة : «معاوية بن صالح، عن ضمرة بن حبيب، عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي: أنَّه سمع العرباض بن سارية.»(٢) .

أما هذهِ السلسلة ففيها (معاوية بن صالح)، وقد جاءَ فيه:

في (تهذيب التهذيب): «وقال صالح بن أحمد بن حنبل، عن علي بن المديني: سألتُ يحيى بن سعيد عنه، فقال: ما كنّا نأخذ عنه ذلك الزمان ولا حرفاً»(٣) .

«وقال أبو صالح الفراء: حدثنا أبو اسحق يعني الفزاريّ يوماً بحديث عن معاوية بن صالح، ثم قال أبو اسحق: ما كانَ بأهلٍ أن يُروى عنه»(٤) .

«وقال ابن أبي خثيمة والدوري في تأريخيهما عن ابن معين: كان يحيى بن سعيد لا يرضاه»(٥) .

____________________

(١) شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج: ٥، ص: ٢٩٥، وتهذيب التهذيب للعسقلاني، ج: ٩، ص: ٦٠٠، وميزان الاعتدال للذهبي، ج: ٣، ص: ٤٤٥، المحمدون ٧٠٩٧، وتذيب الكمال للمزي، ج: ٣٤، ص: ٣٠٤، ولسان الميزان لابن حجر العسقلاني، ج: ٥، ص: ٢٠.

(٢) ابن ماجة، سنن ابن ماجة، ج: ١٦، ح: ٤٣، فيه: (حدثنا إسماعيل بن بشر بن منصور، وإبراهيم السواق قالا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح.).

وفي مسند أحمد، ج: ٥، ص: ١٠٩، وفيه: (حدثنا عبد اللّه، حدثني أبي، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا معاوية.).

وفي مستدرك الحاكم، ج: ١، ص، ٩٦ - ٩٧، وفيه: (أبو الحسن أحمد بن محمد العنبري، حدثنا عثمان بن سعيد الدارمي، (وأخبرنا) أبو بكر أحمد بن جعفر القطيعي، حدثنا عبد اللّه بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثنا عبد الرحمن يعني ابن مهدي، عن معاوية بن صالح.).

(٣) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج: ١٠، ص: ٢١٠، والامام الرازي في الجرح والتعديل، ج: ٤، ص: ٣٨٢، وتهذيب الكمال للمزي، ج: ٢٨، ص: ١٩٠.

(٤) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج: ١٠، ص: ٢١٠، وسير أعلام النبلاء للذهبي، ج: ٧، ص: ١٦٠، وتهذيب الكمال للمزي، ج: ٢٨، ص: ١٩٠.

(٥) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج: ١٠، ص: ٢١٠، وسير أعلام النبلاء للذهبي، ج: ٧، ص: ١٦٠، وتهذيب الكمال للمزي، ج: ٢٨، ص: ١٨٩.

٣٤٧

«وعن عباس عن يحيى في موضع آخر: ليس برضي»(١) .

«وقال الليث بن عبده: قال يحيى بن معين: كان ابن مهديإذا تحدث بحديث معاوية بن صالح زبره يحيى بن سعيد، وقال: ايش هذهِ الاحاديث، وكان ابن مهدي لا يبالي عن مَن روى»(٢)

«وقال يعقوب بن شيبة السدوسي: قد حمل الناس عنه، ومنهم مَن يرى أنَّه وسط ليس بالثبت ولا بالضعيف، ومنهم مَن يضعّفه»(٣) .

«وقال أحمد بن سعد بن أبي مريم عن عمِّه سعيد بن أبي مريم: سمعتُ خالي موسى بن سلمة، قال: أتيتُ معاوية بن صالح لأكتب عنه، فرأيتُ أُراه قال: الملاهي - فقلتُ: ما هذا؟ قال: شيء نهديه إلى صاحب الأندلس!! قال: فتركته ولم أكتب عنه»(٤) .

«وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، ولا يحتج به»(٥) .

«وقال محمد بن عبد اللّه بن عمّار الموصلي: الناس يروون عنه، وزعموا انَّه لم يكن يدري أيَّ شيء الحديث»(٦) .

وفي (ميزان الاعتدال): «وقال أبو حاتم لا يحتج به، وكذا لم يخرِّج له البخاري.»(٧) .

____________________

(١) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج: ١٠، ص: ٢١٠، وسير أعلام النبلاء للذهبي، ج: ٧، ص: ١٦٠، وتهذيب الكمال للمزي، ج: ٢٨، ص: ١٨٩.

(٢) جمال الدين المزي، تهذيب الكمال، ج: ٢٨، ص: ١٩٣، وتهذيب التهذيب للعسقلاني، ج: ١٠، ص: ٢١٠، وسير أعلام النبلاء للذهبي، ج: ٧، ص: ١٦٢، وميزان الاعتدال للذهبي ج: ٤، ص: ١٣٥.

(٣) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج: ١٠، ص: ٢١١، وتهذيب الكمال للمزي، ج: ٢٨، ص: ١٩٢.

(٤) شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج: ٧، ص: ١٦٠ - ١٦١، وتهذيب التهذيب للعسقلاني، ج: ١٠، ص: ١٩٠، وتهذيب الكمال للمزي، ج: ٢٨، ص: ١٩٠.

(٥) الرازي، الجرح والتعديل، ج: ٤، ص: ٣٨٢ وتهذيب الكمال للمزي، ج: ٢٨، ص: ١٩١.

(٦) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج: ١، ص: ٢١١، وتهذيب الكمال للمزي، ج: ٢٨، ص: ١٩٢.

(٧) محمد بن أحمد الذهبي، ميزان الاعتدال، ج: ٤، ص: ١٣٥.

٣٤٨

السلسلة الخامسة : «عمرو بن أبي سلمة التينسي، أنبأنا عبد اللّه بن العلاء بن زيد، عن يحيى بن أبي المطاع، قال سمعت العرباض.»(١) .

ولنطالع شيئاً مما يقوله علماء أبناء العامة حول (عمرو بن أبي سلمة التينسي) الذي وقع في هذه السلسلة:

قال عنه (الذهبي) في (ميزان الاعتدال): «وقال أبو حاتم لا يحتج به»(٢) .

وقال (ابن حجر العسقلاني) في (تهذيب التهذيب):

«وقال أحمد: روى عن زهير أحاديث بواطيل»(٣) .

وفيه أيضاً: «وقال الساجي: ضعيف»(٤) .

وفيه أيضاً: «وقال العقيلي في حديثه وهم»(٥) .

وفي (الجرح والتعديل): «حدثنا عبد الرحمن، قال ذكره أبي، عن اسحق بن منصور، عن يحيى بن معين، انَّه قال: عمرو بن أبي سلمة ضعيف»(٦) .

وفيه أيضاً: «حدثنا عبد الرحمن قال: سألتُ أبي عن عمرو بن أبي سلمة، فقال: يكتب حديثه، ولا يحتج به»(٧) .

السلسلة السادسة : «بقية بن الوليد بن بُجير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن

____________________

(١) الحاكم في المستدرك، ج: ١، ص: ٩٦ - ٩٧، وفيه: (يحيى بن أبي المطاع القرشي، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عيسى بن زيد التينسي، حدثنا عمرو بن أبي سلمة التينسي).

(٢) ميزان الاعتدال للذهبي، ج: ٣، ص: ٢٦٢.

(٣) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج: ٨، ص: ٤٤، وميزان الاعتدال للذهبي، ج: ٣، ص: ٢٦٢.

(٤) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج: ٨، ص: ٤٤، وميزان الاعتدال للذهبي، ج: ٣، ص: ٢٦٢.

(٥) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج: ٨، ص: ٤٤، وميزان الاعتدال للذهبي ج: ٣، ص: ٢٦٢.

(٦) الجرح والتعديل، ج: ٦، ص: ٢٣٠، وانظر، سير أعلام النبلاء للذهبي، ج: ١٠، ص: ٢١، وميزان الاعتدال للذهبي، ج: ٣، ص: ٢٦٢، وتهذيب التهذيب للعسقلاني، ج: ٨، ص: ٤٣.

(٧) الرازي، الجرح والتعديل، ج: ٦، ص: ٢٣٥ - ٢٣٦، وتهذيب التهذيب للعسقلاني، ج: ٨، ص: ٤٣.

٣٤٩

عبد الرحمن بن عمرو السلمي، عن العرباض بن سارية.»(١) .

روي الحديث في هذه السلسلة عن (بقية بن الوليد)، وهو ليس بأحسن حالاً من الرواة الذين سبقوه، واليك - أيها القارئ الكريم - بعض أقوال علماء العامة فيه:

«قال ابن عيينة: لا تسمعوا من بقية ما كانَ في سُنّة، واسمعوا منه ما كانَ في ثوابٍ وغيره»(٢) .

«وقال عبد اللّه بن أحمد بن حنبل، سُئل أبي عن بقية واسماعيل بن عياش، فقال: بقية أحب إليَّ، وإذا حدَّثَ عن قومٍ ليسوا بمعروفينَ، فلا تقبلوه»(٣) .

«وقال ابن أبي خَثيمة سُئل يحيى عن بقية، فقال: إذا حدَّث عن الثقات مثل صفوان بن عمرو وغيره فاقبلوه، وإذا ما حدَّث عن اُولئك المجهولين فلا، وإذا كنّى الرجل ولم يسمّه فليس يساوي شيئاً»(٤) .

«وقال يحيى، ولقد قال لي نُعيم يعني ابن حمّاد: كان بقية يضنُّ بحديثه عن الثقات، قال: طلبتُ منه كتابَ صفوان، فقال: كتاب صفوان؟ أي كأنه قال: - يحيى بن معين - كان يحِّدث عن الضعفاء بمائة حديث قبل أن يحدِّث عن الثقات»(٥) .

«وقال يعقوب. ويحدِّث عن قومٍ متروكي الحديث، وعن الضعفاء، ويحيد عن أسمائهم إلى كناهم، وعن كناهم إلى أسمائهم، ويحدِّث عمَّن هو أصغر منه»(٦) .

____________________

(١) الترمذي، سنن الترمذي، ج: ٥، ص: ٤٣، باب: ١٦: (حدثنا علي بن حجر حدثنا بقية بن الوليد.).

(٢) الرازي، الجرح والتعديل، ج: ٢، ص: ٣٤٥، وتهذيب التهذيب للعسقلاني، ج: ١، ص: ٤٧٤، وتهذيب الكمال للمزي، ج: ٤، ص: ١٩٦، وسير أعلام النبلاء للذهبي، ج: ٨، ص: ٥٢٠.

(٣) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج: ١، ص: ٤٧٤، وسير أعلام النبلاء للذهبي، ج: ٨، ص: ٥٢١، وتهذيب الكمال للمزي، ج: ٤، ص: ١٩٦ - ١٩٧.

(٤) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج: ١، ص: ٤٧٤ - ٤٧٥، وسير أعلام النبلاء للذهبي، ج: ٨، ص: ٥٢١، وتهذيب الكمال للمزي، ج: ٤، ص: ١٩٧.

(٥) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج: ١، ص: ٤٧٥، وسير أعلام النبلاء للذهبي، ج: ٨، ص: ٥٢١، وتهذيب الكمال للمزي، ج: ٤، ص: ١٩٧.

(٦) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج: ١، ص: ٤٧٥، وسير أعلام النبلاء للذهبي، ج: ٨، ص: ٥٢٢، وتهذيب الكمال للمزي، ج: ٤، ص: ١٩٧.

٣٥٠

وقال أبو زرعة:.فأمّا في المجهولين فيحدِّث عن قومٍ لا يُعرفونَ ولا يضبطون»(١) .

«وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه ولا يُحتج به»(٢) .

«وقال ابن عدي: يخالف في بعض رواياته عن الثقات»(٣) .

«وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول: روى بقية عن عبد اللّه بن عمر مناكير»(٤) .

«وقال الجوزقاني في كتاب (الموضوعات) تأليفه: ضعيف الحديث لا يُحتج به«(٥) .

«وقال الجوجزاني: رحم اللّه بقية ما كانَ يبالي إذا وَجَدَ خرافة عمَّن يأخذ»(٦) .

«وقال ابن خزيمة: لا احتج ببقية، حدثني أحمد بن الحسن الترمذي: سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: توهمت انَّ بقية لا يحدِّث المناكير إلا عن المجاهيل، فإذا هو يحدِّث المناكير عن المشاهير، فعلمتَ من أين أتى؟ قلتُ: من التدليس»(٧) .

«وقال البيهقي في الخلافيات: أجمعوا أنَّ بقية ليس بحجة»(٨) .

(وقال عبد الحق في الاحكام في غير ما حديث: بقية لا يُحتج به»(٩) .

____________________

(١) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج: ١، ص: ٤٧٥.

(٢) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج: ١، ص: ٤٧٥، وسير أعلام النبلاء للذهبي، ج: ٨، ص: ٥٢٢ وميزان الاعتدال للذهبي، ج: ١، ص: ٣٣٢، وتهذيب الكمال للمزي، ج: ٤، ص: ١٩٨.

(٣) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج: ١، ص: ٤٧٥ - ٤٧٦.

(٤) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج: ١، ص: ٤٧٦، وسير أعلام النبلاء للذهبي، ج: ٨، ص: ٥٣٠.

(٥) جمال الدين المزي، تهذيب الكمال، ج: ٤، ص: ١٩٩ (الهامش).

(٦) محمد بن أحمد الذهبي، ميزان الاعتدال، ج: ١، ص: ٣٣٢، وسير أعلام النبلاء للذهبي، ج: ٨، ص: ٥٢٣، وتهذيب الكمال للمزي، ج: ٤، ص: ١٩٩ (الهامش).

(٧) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج: ١، ص: ٤٧٦، وميزان الاعتدال للذهبي، ج: ١، ص: ٣٣٢. وتهذيب الكمال للمزي، ج: ٤، ص: ١٩٧ (الهامش).

(٨) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج: ١، ص: ٤٧٧.

(٩) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج: ١، ص: ٤٧٧، وسير أعلام النبلاء للذهبي، ج: ٨، ص: ٥٢٨.

٣٥١

وجاءَ في (ميزان الاعتدال) وغيره:

«وقال ابن القطان: بقية يدلِّس عن الضعفاء، ويستبيح ذلك، وهذا إن صحَّ مفسد لعدالته»(١) .

فقال (الذهبي) معلِّقاً على هذا القول:

«قلتُ: نعم، واللّه صحَّ هذا عنه، انَّه يفعله، وصحَّ عن الوليد بن مسلم، بل وعن جماعة كبار فعله، وهذه بلية منهم. »(٢) .

وقال (الخطيب) في (تاريخ بغداد):

«وقدم بقية بغداد، وفي حديثه مناكير إلا انَّ أكثرها عن المجاهيل»(٣) .

«وقال غير واحدٍ انَّه كان مدلِّساً، فإذا قال عن، فليس بحجة»(٤) .

«وقال أبو أيوب القيرواني: يروي عن كثير من الضعفاء والمجهولين»(٥) .

وفي (سير أعلام النبلاء): «وقال إمام الأئمة ابن خزيمة: لا أحتج ببقية»(٦) .

وفيه أيضاً: «وحاصل الأمر انَّ لبقية عن الثقات أيضاً ما يُنكر وما لا يُتابع عليه»(٧) .

«وقال أبو مسهر: بقية ليست أحاديثه نقية، فكن منها على تقية»(٨) .

____________________

(١) محمد بن أحمد الذهبي، ميزان الاعتدال، ج: ١، ص: ٣٣٩، وسير أعلام النبلاء للذهبي، ج: ٨، ص: ٥٢٨، وتهذيب الكمال للمزي، ج: ٤، ص: ٢٠٠ (الهامش)، وتهذيب التهذيب للعسقلاني، ج: ١، ص ٤٧٧.

(٢) محمد بن أحمد الذهبي، ميزان الاعتدال، ج: ١، ص: ٣٣٩.

(٣) الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج: ٧، ص: ١٢٣.

(٤) محمد بن أحمد الذهبي، ميزان الاعتدال، ج: ١، ص: ٢٣١.

(٥) جمال الدين المزي، تهذيب الكمال، ج: ٤، ص: ١٩٩، (الهامش).

(٦) شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج: ٨، ص: ٥٢٣.

(٧) شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج: ٨، ص: ٥٢٧.

(٨) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج: ١، ص: ٤٧٦، الجرح والتعديل للرازي، ج: ٢، ص: ٤٣٥، وسير أعلام النبلاء للذهبي، ج: ٨، ص: ٥٢٣، وتاريخ بغداد للبغدادي، ج: ٧، ص: ١٢٤، وتهذيب الكمال للمزي، ج: ٤، ص: ١٩٨.

٣٥٢

وبهذا فانَّ حديث (سنة الخلفاء الراشدين) حديث ساقط عن الاعتبار سندياً، وأقرب الظن أنَّه حديث مختلق، وليس له أصل مطلقاً، وقد نُسب إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذباً وزوراً، وقد رأينا ضعف جميع أسانيده المذكورة في أكثر الكتب إعتباراً لدى أبناء العامة، وبهذا فهو لا يمتلك أية قيمة علمية للتعويل عليه.

ب - انتهاء اسانيد الحديث جميعاً إلى راوٍ واحد

إنَّ حديث (سنة الخلفاء الراشدين) ينتهي بجميع أسانيده المتقدمة إلى رجلٍ واحد وهو (العرباض بن سارية)، فيكون من أخبار الآحاد التي يمكن أن تكون معتمدة بشكل أساسي في مجمل القضايا الشرعية، وخصوصاً القضايا العقائدية الحساسة.

ج - اشتراك مضمون الحديث مَعَ أحاديث اُخرى مقطوعة الوضع

اضافةً إلى ما تقدم من ضعف سند حديث (سنة الخفاء الراشدين)، وكونه من أخبار الآحاد، فانَّ هناك ملاحظات وإشكالات في داخل الحديث توجب الريبة في الحديث وعدم الاطمئنان والركون إليه، وانَّه قد تعرض إلى شرائط مطلقة لا يمكن قبولها على ما هي عليه، إلا إذا ضممنا إليها الأدلة المخصصة الاُخرى، ونحن نحتمل نتيجةً لهذه الملاحظات انَّ بعض فصول الحديث على أقل تقدير قد وضعت من قبل الساسة الحاكمين في العصور المتأخرة عن صدر الاسلام، وفي بداية أمر تدوين الحديث، من أجل تبرير تلاعب اُمراء الجور، وولاة السوء بشؤون المجتمع، ومقدَّرات الشعوب، وبقائهم على كرسي الحكم وسدة السلطان. هذا من جانب.

ومن جانب آخر نرى انَّ الغاية من وضع هذهِ الأحاديث كان تهدف إلى ضرب

٣٥٣

مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام التي كانت تعلن رفضها بكل قوة وصراحة لألوان الجور والاضطهاد، وتشجب حكومات الجهل والضلال، وتدعو إلى العودة إلى رسالة الدين الحنيف، وقيم الاسلام وتعاليمه، واعتماد كتاب اللّه تعالى، وسنة رسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهجاً للحكم وإدارة شؤون الحياة.

فالملاحظ أنَّ صدر الحديث يأمر المسلمين بالسمع والطاعة على نحو الاطلاق، ولأي متصدٍّ كان، ومن دون أن يفترض فيه أية صفة أو خصوصية أو كفاءة تُذكر، ومن دون أن تُبيَّن الضابطة التي تمَّ بموجبها تقدُّم هذا المتصدي إلى مركز الحكم والقرار، وتفويض اُمور العباد إليه.

بل والذي يظهر من التأمل في سياق حديث (سنة الخلفاء الراشدين)، ومن خلال النظر في أحاديث اُخرى تشترك معه في لحن الخطاب، وطريقة التعبير، انَّ المقصود من الاطاعة المذكورة في هذا الحديث تعني الاطاعة والانقياد، إلى أي حاكمٍ أو والٍ، تمكن أن يصل إلى مركز الحكم، واستطاع أن يتلبَّس بهذا العنوان، حتى وإن كان ذلك الحاكم فاسقاً فاجراً جائراً، فقد جاءَ في صدر الحديث: «اوُصيكم بتقوى اللّه والسمع والطاعة وإن كانَ عبداً حبشيّاً».

وقد تكررت نفس هذهِ اللهجة في أحاديث اُخرى مقطوعة الوضع، مما يدل على انَّ حديث (سنة الخلفاء الراشدين) يشترك معها في ذات الأهداف، وعين الغايات المقصودة.

وليسَ غريباً أن نجد مثل هذا الحديث في كتب أبناء العامة ومصادرهم الحديثية، لانّا نرى بأنَّ أوثق المصادر المعتمدة لديهم طافحة بمثل تلك الاحاديث، وقد ضمت بين دفتيها عشرات الأحاديث الموضوعة التي تشير إلى نفس المعنى الذي نتحدث عنه.

واليكَ - أيها القارئ الكريم - بعض الاحاديث التي وردت في المصادر الموثوقة والمعتبرة لدى أبناء العامة، والتي تأمر المسلمين بطاعة الولاة والحكام بشكل مطلق، أو

٣٥٤

إطاعتهم وإن كانوا فاسقين فاجرين جائرين، والسكوت عن مساوئهم وجرائمهم بحق الناس والدين:

١ - روي عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في (صحيح مسلم): «إنَّ خليلي أوصاني أن أسمعَ وأطيعَ وإن كان عبداً حبشياً مجدَّعَ الأطراف»(١) .

٢ - وروي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في (مسند أحمد): «اسمع وأطع ولو لحبشي كأنَّ رأسَه زبيبة»(٢) .

٣ - وروي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في (صحيح البخاري): «مَن رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فانَّه ليس أحدٌ يفارق الجماعة شبراً فيموت، إلا ماتَ ميتة جاهلية»(٣) .

٤ - وروي عن ابن سلام عن حذيفة بن الميان في (صحيح مسلم) قال: «قلتُ: يا رسول اللّه إنّا كنّا بشرّ، فجاءَ اللّهُ بخيرٍ فنحنُ فيه، فهل من وراء هذا الخيرِ شرّ؟ قال: نعم، قلت: هل وراءَ ذلك الشرِّ خيرٌ؟، قال: نعم، قلت: فهل وراءَ ذلك الخيرِ شرٌّ؟، قال نعم، قلت: كيف؟، قال: يكونُ بعدي أئمةٌ لا يهتدونَ بهداي، ولا يستنونَ بسنتَّي، وسيقومُ فيهم رجالٌ، فلوبهُم قلوبُ الشياطين في جثمانِ إنس، قلتُ: كيف أصنعُ يا رسولَ اللّه إنْ أدركتُ ذلك؟ قال: تَسمعُ وتطيعُ للأمير، وانٌ ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع»(٤) .

٥ - وروى عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في (صحيح مسلم) أيضاً أنه قال: «مَن كره من أميره شيئاً فليصبر عليه، فانَّه ليس أحدٌ من الناس خرج من السلطان شبراً فمات عليه، إلا ماتَ ميتةً جاهليةً»(٥) .

____________________

(١) مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي، ج: ١٢، ص: ٢٢٥.

(٢) أحمد بن حنبل، مسند أحمد بن حنبل، ج: ٣، ص: ١٧١.

(٣) البخاري، صحيح البخاري، ج: ٨، كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للامام، ح: ٢، ص: ١٠٥.

(٤) مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي، ج: ١٢، ص: ٢٣٨.

(٥) مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي، ج: ١٢، ص: ٢٤٠، وانظر: سنن الدارمي، ج: ٢، ص: ٣١٤، ح: ٢٥١٩.

٣٥٥

٦ - وروي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «.فانَّ من طاعة اللّهِ أن تطيعوني، ومن طاعتي أن تطيعوا امراءَكم، وإن صلّوا قعوداً صلّوا قعوداً»(١) !

٧ - وروي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اعبدوا اللّهَ ولا تشركوا به شيئاً، وأطيعوا مَن ولاه اللّهُ أمرِكم، ولا تُنازِعوا الأمرَ أهلَه، وإنْ كانَ عبداً أسودَ»(٢) .

٨ - وروي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أبا هريرة! لا تلعنِ الولاةَ، فانَّ اللّهَ تعالى أدخلَ جهنَّمَ اُمةً بلعنهِم ولاتَهم»(٣) .

٩ - وروي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اسمعوا وأطيعوا فانّما عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حُمِّلتُم»(٤) .

١٠ - وروي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أطع كلَّ أمير، وصلِّ خلقَ كلِّ إمام، ولا تسبنَّ أحداً من أصحابي»(٥) .

١١ - وروي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صلّوا خلفَ كلِّ بَرٍّ وفاجر، وصلّوا على كلِّ بَرٍّ وفاجر، وجاهدوا مَعَ كلِّ بَرٍّ وفاجر»(٦) .

١٢ - وروي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تسبُّوا السلطانَ فانَّه ظلُّ اللّهِ في أرضه»(٧) !

وقد جاءَ في بعض ألفاظ حديث (سنة الخلفاء الراشدين) ما نصه: «.فانّما المؤمن كالجمل الانف، حيثما انقيد انقاد»(٨) .

____________________

(١) علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: ٥، ح: ١٤٣٧٤، ص: ٧٨٢.

(٢) الطبراني، المعجم الكبير، تحقيق، حمدي عبد المجيد السلفي، ج: ١٨، رقم: ٦٢١، ص: ٢٤٨، وكنز العمال، ج: ٥، ح: ١٤٣٩٦، ص: ٧٩٠.

(٣) علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: ٥، ح ١٤٣٨٢، ص: ٧٨٥.

(٤) مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي، ج: ١٢، ص: ٢٢٦، وكنز العمال للهندي، ج: ٦، ح: ٤٧٩٦، ص: ٤٩.

(٥) الطبراني، المعجم الكبير، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، ج: ٢٠، رقم: ٣٧٠، ص: ١٧٣.

(٦) علاء الدين الهندي، كنز العمال، كنز العمال، ج: ٦، ص: ٥٤، ح: ١٤٨١٥.

(٧) علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: ٦، ح: ١٤٨٦٨، ص: ٦٦.

(٨) أحمد بن حنبل، مسند أحمد بن حنبل، ج: ٤، ح: ١٦٦٩٢، ص: ١٢٦.

٣٥٦

فالرواية تجعل المؤمن الذي يُراد له أن يكون مستخلفاً على هذهِ الأرض ووارثاً لها كالجمل الذلول، الذي لا يملكُ من أمرِه شيئاً، ولا يجد من الانصياع والانقياد بُدّاً!!

وفي اعتقادنا أنَّ هذا مؤشر آخر يؤيد ما ذكرناه من احتمال الوضع في بعض فصول الحديث على أقل تقدير، إذ إنَّ من الاستحالة بمكان أن يتفوه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا اللون من الأحاديث، التي تأمر بالسمع والطاعة لكل حاكمٍ وأمير، لأنَّ في ذلك هدماً واضحاً لدعائم الدين، وخلافاً صريحاً لجميع اُسسه ومبادئه، وتقويضاً من رأس لمرتكزاته وأركانه، فكيف يمكن أن توضع مقاليد الحكم طوعاً بيد المتجبرين الذين كافحت الأديان والرسالات السماوية في سبيل استئصالهم، وقلع وجودهم من الجذور؟ وما معنى إقامة العدل والحكم به، الذي أمرت الشريعة به بشكل صريح، وحذَّرت من مخالفته؟ وما هي فائدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وما معنى كلمة الحق عند سلطانٍ جائر؟ وما المغزى من حرمة معونة الظالمين ولو بشقِّ كلمة؟

جاءَ في (الجامع الصحيح) عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انَّه قال:

«مَن رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فان لم يستطع فبلسانه، فان لم يستطع فبقلبه وذلك أضعفُ الايمان»(١) .

وجاءَ في (التاج الجامع للاصول):

«عن طارق بن شهابرضي‌الله‌عنه ، انَّ رجلاً سأل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد وَضَع رجله في الغرز: أي الجهاد أفضل؟ قال: كلمة حقٍّ عند سلطانٍ جائر»(٢) .

وجاءَ في (كنز العمال):

«أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطانٍ جائر»(٣) .

____________________

(١) ابن مسلم، الجامع الصحيح، ج: ١، ص: ٥٠، وكنز العمال للهندي، ج: ٣، ح: ٥٥٢٤، ص: ٦٦.

(٢) منصور علي ناصيف، التاج الجامع للاصول في أحاديث الرسول، ج: ٣، ص: ٥٣، باب: الاخلاص للأمير.

(٣) علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: ٣، ح: ٥٥١١، ص: ٦٤.

٣٥٧

ومما يثير فيكَ العجب انَّ نفس هؤلاء الذين يروون أحاديث السمع والطاعة للبرِّ والفاجر، يروون أيضاً عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يناقض هذا الأمر تماماً، ويعقِّب شراح الحديث بعد ذلك بقولهم (واللّه تعالى أعلم)، ولا يكلِّفون أنفسهم برفع هذا التهافت، الذي أصبح مثاراً للجدال، وبلاءً على الأجيال!

فلننظر إلى مجموعة من هذهِ الاحاديث، لنرى انّها رويت في نفس المصادر والكتب السابقة، ونقف على التناقض الفاضح الذي وقعت فيه هذهِ الروايات:

١ - جاءَ في (التاج الجامع للاصول) عن صحيحي (النسائي) و(الترمذي):

«.وعن كعب بن عجزةرضي‌الله‌عنه قال: خرج علينا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحن تسعة، فقال: انَّه سيكون بعدي أُمراء مَن صدَّقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس منّي ولستُ منه، وليسَ بواردٍ عليَّ الحوض، ومَن لم يصدِّقهم، ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه، وهو وارد عليَّ الحوض، رواهما النسائي والترمذي. واللّه تعالى أعلى وأعلم»(١) .

٢ - وجاءَ في كلٍّ من (صحيح البخاري) و(صحيح مسلم) و(سنن ابن ماجة) و(سنن الترمذي) عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحبَّ وكره، إلا أن يؤمرَ بمعصية فلا سَمع ولا طاعة»(٢) .

٣ - وفي (سنن ابن ماجة): «وعن عبد اللّه بن مسعود عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: سَيلي اُموركم بعدي رجال يطفئونَ السنّة، ويعملونَ بالبدعة، ويؤخرونَ الصلاةَ عن مواقيتها، فقلتُ: يا رسولَ اللّهٌ إنادركتهم كيفَ أفعل؟ قال: تسألني يابن اُم عبدٍ كيفَ

____________________

(١) منصور علي ناصيف، التاج الجامع للاصول، ج: ٣، ص: ٥٣، باب: الاخلاص للأمير.

(٢) البخاري، صحيح البخاري، ج: ٨، كتاب الأحكام، باب: السمع والطاعة للامام، ص: ١٠٥ - ١٠٦، ح: ٣، وصحيح مسلم بشرح النووي، ج: ١٢، ص: ٣٢٦، وسنن ابن ماجة، ج: ٢، باب: الجهاد، ص: ٩٥٦، ح: ٢٨٦٤، وسنن الترمذي، ج: ٤، ح: ١٧٠٧، ص: ١٨٢.

٣٥٨

تفعل؟ لا طاعةَ لمن عصى اللّه»(١) .

٤ - وفي (كنز العمال) عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنَّه قال: «لا ينبغي لنفس مؤمنةٍ ترى مَن يعصي اللّهَ، فلا تنكر عليه»(٢) .

٥ - وفيه عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق»(٣) .

٦ - وفيه أيضاً عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سيصيب اُمتي في اخر الزمان بلاء شديد من سلطانهم، لا ينجو فيهم إلا رجل عرف دين اللّه بلسانه ويده وقلبه، فذلك الذي سبقت له السوابق»(٤) .

٧ - وفيه أيضاً عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أبا هريرة: لا تدخلنَّ على أميرٍ وإن غُلبتَ على ذلك، فلا تجاوز سنتي، ولا تخافنَّ سيفه وسوطه، أنْ تأمره بتقوى اللّه وطاعته، يا أبا هريرة! إن كنتَ وزيرَ أمير، أو مشيرَ أمير، أو داخلاً على أمير، فلا تخالفنَّ سنَّتي ولا سيرتي، فانَّ مَن خالفَ سنتي وسيرتي، جيء به يوم القيامة، تأخذه النار من كل مكان، ثم يصيرُ إلى النار»(٥) .

٨ - وفيه أيضاً عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إحذروا على دينكم ثلاثة: رجل آتاه اللّه القرآن، ورجل آتاه اللّه سلطاناً، فقال مَن أطاعني فقد أطاعَ اللّه، ومَن عصاني فقد عصى اللّه، وقد كذبَ، ولا يكون لمخلوق خشية دونَ الخالق.»(٦) .

٩ - وفي (الدر المنثور) عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انَّه قال: «إنَّ رحى الاسلام ستدور، فحيثما دار القرآن فدوروا به، يوشك السلطان والقرآن أن يقتتلا ويتفرَّقا، انَّه سيكون

____________________

(١) ابن ماجة، سنن ابن ماجة، ج: ٢، ح: ٢٨٦٥، ص: ٩٥٦، وانظر: كنز العمال، ج: ٥، ح: ١٤٤١٣، ص: ٧٩٧، ج: ٦، ح: ١٤٨٨٩، ص: ٧٠، وح: ١٤٩٠٧، ص: ٧٦.

(٢) علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: ٣، ح: ٥٦١٤، ص: ٨٥.

(٣) علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: ٦، ح: ١٤٨٧٢، ص: ٦٧، وانظر: مسند أحمد، ج: ١، ح: ١٠٩٨، ص: ١٣١.

(٤) علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: ٣، ح: ٨٤٥٠، ص: ٦٨٢.

(٥) علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: ٣، ح: ٨٤٧٣، ص: ٦٨٩.

(٦) علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: ٥، ح: ١٤٣٩٩، ص: ٧٩٢.

٣٥٩

عليكم ملوك، يحكمون لكم بحكم، ولهم بغيره، فان أطعتموهم أضلّوكم، وإن عصيتموهم قتلوكم، قالوا: يا رسولَ اللّه فكيف بنا إن أدركنا ذلك؟ قال: تكونوا كأصحاب عيسىعليه‌السلام نُشروا بالمناشير، ورُفعوا على الخشب، موت في طاعة خير من حياة في معصية»(١) .

____________________

(١) جلال الدين السيوطي، الدر المنثور، ج: ٢، ص: ٣٠١.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610