البدعة

البدعة0%

البدعة مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 610

البدعة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 610
المشاهدات: 148896
تحميل: 8470

توضيحات:

البدعة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 610 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 148896 / تحميل: 8470
الحجم الحجم الحجم
البدعة

البدعة

مؤلف:
العربية

الطريق الثاني : الخلفاء الراشدون هم أئمة أهل البيت

لو سلَّمنا جدلاً صدق حديث (سنة الخلفاء الراشدين) وصحته، ولم نتمسك بما أقمناه من قرائن سابقة على ضعفه، وكونه حديثاً موضوعاً، فانّا نرفض أن يكون المقصود من (الخلفاء الراشدين) الوارد ذكرهم في الحديث هم الخلفاء الأربعة الذين تولّوا الحكم الاسلامي بعد وفاة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالترتيب ومنهم أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، وانَّما المقصود من (الخلفاء الراشدين) في الحديث - على فرض صدقه وصحته - هم أئمة أهل البيتعليهم‌السلام الذين ورد النص الشرعي الصريح بشأنهم، من خلال مجموعة من الآيات الكريمة، والاحاديث المتواترة الصحيحة، والذين عيَّنهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلفاء على الاُمة من بعده، واُمناء على وحي اللّه ورسالته.

وسوف نقتصر علي ذكر خمسة أدلة تثبت هذا المطلب، وتدل عليه:

أدلّة ومؤيدات

الدليل الاول : الامام عليعليه‌السلام يرفض المبايعة على سيرة الشيخين.

الدليل الثاني : الخلاف بين الخلفاء الأربعة يناقض الأمر باتباعهم جميعاً.

الدليل الثالث : إرادة الخلفاء الأربعة في الحديث تتنافى مَعَ إنكار العامة لوجود النص.

الدليل الرابع : حجم الحديث لا يتناسب مَعَ موقع الخلافة وأهميتها في الاسلام.

٣٦١

الدليل الخامس : أئمة أهل البيتعليهم‌السلام خلفاء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنصٍ منه.

ونحن نعتقد بأنَّ عناوين هذهِ الأدلة لوحدها كافية في صرف الحديث من الدلالة على الخلفاء الاربعة إلى حيث الانطباق على أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، ولكن لمزيد من التوضيح سوف نبسط الكلام فيها بشيء من التفصيل.

١ - الامام عليعليه‌السلام يرفض المبايعة على سيرة الشيخين

اتفق مؤرخو الاسلام قاطبةً على انَّ أمير المؤمنين علياًعليه‌السلام رفض قبول البيعة بعد مقتل (عمر)، حينما طلبَ منه عبد الرحمن بن عوف أن يبايع على كتاب اللّه وسنة نبيِّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيرة الشيخين، فأصرَّ أمير المؤمنين عليعليه‌السلام على خذف الشق الثالث، وأبى إلا أن يبايع على كتاب اللّه وسنة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لانَّه يرى انَّ سيرة الشيخين لا تمثل مصدراً من مصادر التشريع الاسلامي المقدَّس.

جاءَ في تاريخ (الطبري) وبقية تواريخ الاسلام:

«فقال عبد الرحمن: إنّي قد نظرتُ وشاورتُ، فلا تجعلُنَّ أيها الرهط على أنفسكم سبيلاً، ودعا علياً فقال: عليكَ عهد اللّه وميثاقه لتعملنَّ بكتاب اللّه وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده، قال: أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي، ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي، قال: نعم، فبايعه فقال علي: حبوته حبو دهر، ليس هذا أول يوم تظاهرتُم فيه علينا، فصبر جميل، واللّه المستعان على ما تصفون، واللّه ما ولَّيت عثمان إلا ليردَّ الامرَ اليكَ.»(١) .

ونتيجة لهذا الاصرار المتناهي من قبل أمير المؤمنينعليه‌السلام على رفض البيعة

____________________

(١) ابن جرير الطبري، تاريخ الطبري، ج: ٣، ص: ٢٩٧، وابن الاثير، الكامل في التاريخ، ج: ٣،، ص: ٧١، وابن كثير، البداية والنهاية، ج: ٧، ص: ١٦٥، والذهبي، تاريخ الاسلام، ج: ٣، ص: ٣٠٥، وفيهما: «هل أنتَ مبايعي على كتاب اللّه وسنة نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم لا، ولكن على جهدي من ذلكَ وطاقتي».

٣٦٢

بشرط قبوله بالعمل على سيرة الشيخين، والموقف الحازم الذي لم يتزعزع أمام الملك والخلافة، حدثَ انعطاف كبير في تاريخ الاُمة الاسلامية بتولية (عثمان بن عفان)، وانتهاء أمر خلافته إلى ما سجَّله التأريخ من مآسٍ وكوارث ومحن وأشجان.

فرفضُ أمير المؤمنين عليعليه‌السلام للعمل على ضوء سيرة الشيخين أدل دليل على عدم إرادة الخلفاء الاربعة من لفظة (الخلفاء الراشدين) الواردة في الحديث، لأنَّ معنى ذلك أن الشريعة الاسلامية تأمر المسلمين بالجمع بين المتناقضات، وهو أمر مستحيل.

٢ - الخلاف بين الخلفاء الأربعة يناقض الأمر باتباعهم جميعاً

حصلت خلافات حادة بين الخلفاء الأربعة المدّعى حديث (سنة الخلفاء الراشدين) لهم جميعاً، وعلى حدٍّ سواء، وكانت الدرجة التي تبلغها بعض هذهِ الخلافات درجة لا تقبل إمكانية الجمع بين الآراء، والتماس المبررات والأعذار، لانَّها تناولت قضايا دينية مصيرية تتعلق بأصل التشريع والسنة النبوية الشريفة، فلو كان الخلفاء الأربعة بمجموعهم يمثلون مصدراً من مصادر التشريع على ما يدَّعى استفادته من حديث (سنة الخلفاء الراشدين)، لما أمكننا أن نتصور وقوع الاختلاف في أمر التشريع ومتعلقاته بأبسط صوَرِهِ وأنحائه، فضلاً عن وقوعه بالدرجة التي لا تقبل الجمع والتلفيق.

وسوف نستعرض بعض النماذج لصور الخلافات في اُصول التشريع والاُمور الدينية الحساسة التي وقعت بين الخلفاء الأربعة على مستويين:

المستوى الاول : الخلافات التي وقعت بين أبي بكر، وعمر، وعثمان من جهة، وبين أمير المؤمنين عليعليه‌السلام من جهة اخرى.

المستوى الثاني : الخلافات التي وقعت بين كلٍّ من أبي بكر، وعمر، وعثمان.

وهناك مستوىً ثالث للخلاف يسير بنفس الاتجاه، ويبطل دعوى انطباق

٣٦٣

حديث(سنة الخلفاء الراشدين) على (الخلفاء الأربعة) جميعاً، وهو الخلاف الواقع بين أبي بكر، وعمر، وعثمان من جهة، وبين علماء العامة ومحققيهم من جهة اُخرى في الكثير من اُمور التشريع، وهذا ما لا يسعنا الخوض فيه ضمن دراستنا هذهِ ولذا فسوف نقتصر على ذكر بعض النماذج البارزة لصورتي الخلاف الاُوليتين، ونعتقد انَّ فيهما الكفاية للدلالة على المقصود.

أ - الخلاف بين عليعليه‌السلام والخلفاء الثلاثة

وقعت بين أمير المؤمنينعليه‌السلام وبين الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه خلافات تتعلق باُصول التشريع ومبانيه، مما لا يمكن بشأنه القول بأنَّ الجميع يمثل السنة، ويحكي التشريع، وأبرز هذهِ الخلافات هي:

*ما مَّر معنا سابقاً من أنَّ أمير المؤمنين علياًعليه‌السلام قد نهى المسلمين عن إقامة صلاة (التراويح)، عندما سألوه أن ينصب لهم إماماً لأدائها، وعرَّفهم بانَّ ذلكَ خلافٌ لسنة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسيرته الثابتة، وقد قالعليه‌السلام في ذلك:

«واللّهِ لقد أمرتُ الناسَ أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة، وأعلمتهم انَّ اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي: يا أهلَ الاسلام غُيِّرت سنة عمر! ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعاً.»(١) .

فمن الواضح أنَّ رسول اللّه لو كانَ قد أمَرَ المسلمين باتّباع سنة الخلفاء الأربعة، وانّ سنة كلِّ واحدٍ منهم مرضية بالنسبة إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومجزئةَ للمسلمين، لما كان هناك داعٍ لأن يردعَ أميرُ المؤمنين عليعليه‌السلام عن سنة عمر السابقة، ويعتبرها من البدع المخالفة لسنة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

____________________

(١) الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج: ٥، ح: ٤، ص: ١٩٣.

٣٦٤

*ما ورد من أنَّ امير المؤمنين علياًعليه‌السلام قد خالف رأي عمر وعثمان في شأن متعة الحج، حيثُ قال عمر وعثمان بعدم جوازها، وشرَّعا تحريمها، وعدم جواز وصلها بالحج، وأمّا أمير المؤمنين عليعليه‌السلام فقد قال بجوازها، وجواز الجمع بينها وبين الحج، ومن ثمَّ فقد جسَّد عليعليه‌السلام هذهِ المخالفة عملياً، ليثبت أنَّ سنة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحق أن تُتَّبع.

والملاحظ أنَّ عمر هو الذي نهى عن متعة الحج باجتهاده الشخصي، وتبعه على ذلك عثمان أيضاً، ولم يكن عليعليه‌السلام يرضى ذلك، وكانَ يبيِّن للناس انّ هذا العمل خلاف السنة النبوية الثابتة، وانَّ النهي عن متعة الحج (بدعة) حدثت في الدين من بعد وفاة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وبناءً على الضوابط التي طالعناها سابقاً في بحث (البدعة) من دراستنا هذهِ، نستطيع أن نكتشف بسهولة أنَّ نهي عمر وعثمان عن متعة الحج داخل في عداد (الابتداع)، وخصوصاً إذا رأينا انَّ عمر بنفسه يصرّح بأنَّ هذا العمل كانَ موجوداً على عهد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانَّه هو الذي رأى أن ينهى عنه، مبرراً ذلك برأيه واجتهاده الشخصي، وكأنَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما شرَّع (متعة الحج) لم يكن ملتفتاً إلي هذهِ النكتة، وهذا التبرير، فاستدرك عليه عمر، وتلافى الأمر من بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !!

جاءَ في (كنز العمال) ما نصُّه:

«عن عمر قال: متعتان كانا على عهد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنهى عنهما واُعاقب عليهما: متعة النساء، ومتعة الحج»(١) .

وفيه أيضاً: «عن أبي قلافة انَّ عمر قال: متعتان كانتا على عهد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنا أنهى عنهما، وأضربُ فيهما»(٢) !!

وعن جابر قال: «تمتعنا متعة الحج، ومتعة النساء على عهد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلما

____________________

(١) علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: ١٦، ح: ٤٥٧١٥، ص: ٥١٩.

(٢) علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: ١٦، ح: ٤٥٧٢٢، ص: ٥٢١.

٣٦٥

كان عمر نهانا، فانتهينا»(١) .

وعن أبي نضرة قال: «سمعتُ عبد اللّه بن عباس، وعبد اللّه بن الزبير ذكروا المتعة في النساء والحج، فدخلتُ على جابر بن عبد اللّه، فذكرتُ له ذلك، فقال: أما انّي قد فعلتهما جميعاً على عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم نهانا عنهما عمر بن الخطاب، فلم أعد»(٢) .

وعن سعيد بن المسَّيب: «انَّ عمر بن الخطاب نهى انَّ المتعة في أشهر الحج فقال: فعلتُهما مع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنا أنهى عنهما، وذلكَ أنَّ أحدكم يأتي من اُفقٍ من الآفاق شعثاً نصباً معتمراً في أشهر الحج، وانَّما شعثه ونصبه وتلبيته في عمرته، ثم يقدم فيطوف بالبيت، ويحلّ ويلبس ويتطيَّب، ويقع على أهله إن كانوا معه، حتى إذا كان يومَ التروية أهلَّ بالحج، وخرج إلى مني يلبّي بحجة لا شعثَ فيها ولا نصب ولا تلبية إلا يوماً.

والحج أفضل من العمرة، لو خلَّينا بينهم وبينَ هذا، لعانقوهنَّ تحتَ الأرائك، من أن أهل البيت ليس لهم ضرع ولا زرع، وانّما ربيعهم فيمن يطرأ عليهم»(٣) .

وجاءَ في (صحيح مسلم):

«وعن أبي موسى الاشعري انَّه كان يفتي بالمتعة، فقال له رجل: رويدكَ ببعض فتياكَ، فانك لا تدري ما أحدثَ أمير المؤمنين في النسك بعدَكَ، حتى لقيته بعد فسألته، فقال عمر: قد علمتُ أنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فَعَلَه وأصحابه، ولكنّي كرهتُ أن يظلّوا بهنَّ معرِّسين تحت الارائك، ثم يروحونَ بالحج تقطر رؤوسُهم»(٤) .

وقد كان أمير المؤمنين عليعليه‌السلام يستفرغ وسعه في الردع على هذهِ (البدعة)،

____________________

(١) علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: ١٦، ج: ٤٥٧٢٠، ص: ٥٢٠.

(٢) علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: ١٦، ح: ٤٥٧٢٤، ص: ٥٢١.

(٣) أبو نعيم الاصفهاني، حلية الاولياء وطبقات الأصفياء، ج: ٥، ص: ٢٠٥ - ٢٠٦، وانظر: علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: ٥، ح: ١٢٤٧٧، ص: ١٦٤.

(٤) مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي، ج: ٨، كتاب الحج، باب: جواز تعليق الاحرام، ص: ٢٠١، وانظر: كنز العمال، ج: ٥، ح: ١٢٤٧٨، ص: ١٦٥.

٣٦٦

ويعلن خلافه الصريح لما أحدثه عمر وعثمان، وهذا الردع يكشف لنا أيضاً عن استحالة صدور الأمر من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باتّباع سنة الخلفاء الأربعة على النحو المزعوم.

جاءَ في (صحيح البخاري):

«عن مروان بن الحكم قال: شهدت عثمانَ وعلياً رضي ‌الله‌ عنهما، وعثمان ينهى عن المتعة، وأن يُجمع بينهما، فلما رأى عليعليه‌السلام أهلَّ بهما: لبيكَ بعمرةٍ وحجة، قال: ما كنتُ لأدعَ سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقول أحد»(١) .

وفيه أيضاً:

«عن سعيد بن المسيَّب قال: اختلفَ علي وعثمان رضي ‌الله‌ عنهما وهما بعُسفان في المتعة، فقال علي: ما تريد إلى أن تنهى عن أمرٍ فعله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال: فلما رأى ذلكَ عليٌّ أهلَّ بهما جميعاً»(٢) .

ووردَ في (صحيح مسلم):

«كانَ عثمان ينهى عن المتعة، وكانَ عليٌّ يأمر بها، فقال عثمان لعلي كلمةً، ثم قال علي: لقد علمتَ أنّا تمتعنا مَعَ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال: أجل ولكنّا كنّا خائفين»(٣) !

وفيه أيضاً:

«اجتمع علي وعثمان رضي ‌الله‌ عنهما بعُسفان، فكانَ عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة، فقال عليٌّ: ما تريد إلى أمرٍ فعله رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تنهى عنه، فقال عثمان: دعنا منك، فقال: إني لا أستطيع أن أدعَكَ، فلّما أن رأى عليٌّ ذلك أهلَّ بهما جميعاً»(٤) .

وفي (سنن النسائي):

«حجَّ عليٌّ وعثمان، فلمّا كنا ببعض الطريق، نهى عثمان عن التمتع، فقال علي: إذا

____________________

(١) البخاري، صحيح البخاري، ج: ٢، ص: ١٥١، باب: التمتع والاقران.، ح: ٣.

(٢) البخاري، صحيح البخاري، ج: ٢، ح: ٩، ص: ١٥٣.

(٣) مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي، ج: ٨، ص: ٢٠٢، وانظر: كنز العمال، ج: ٥، ح: ١٢٣٨٨، ص: ١٦٨.

(٤) مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي، ج: ٨، ص: ٢٠٢، وانظر: كنز العمال، ج: ٥، ح: ١٢٤٨٦، ص: ١٦٧.

٣٦٧

رأيتموه قد ارتحل فارتحلوا، فلبّى عليٌّ وأصحابه بالعمرة، فلم ينههم عثمان، فقال عليعليه‌السلام : ألم اُخبر انكَ تنهى عن التمتع؟ قال: بلى، قال له عليعليه‌السلام : ألم تسمع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تمتع، قال: بلى»(١) .

فنرى أنَّ أمير المؤمنين علياًعليه‌السلام في هذا الحديث هو الذي يبادر بسؤال عثمان عن تحريمه لعمرة الحج، ثم ينتزع منه اعترافاً وإقراراً بوقوعهما في زمن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي ذلك أبلغ الحجج وأتم البراهين.

*ما وردَ من انَّ أمير المؤمنين علياًعليه‌السلام قد خالف رأي عمر في تحريم متعة النساء، واعتبر ذلك التحريم من (البدع) المخالفة للسنة النبوية الثابتة، وقد اعترف عمر بنفسه في كلامه السابق الذي رواه أبناء العامة عنه في كتب الحديث بأنه هو الذي بادر إلى التحريم، وانَّ متعة النساء كمتعة الحج كانت على زمن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد تقدَّمت الاشارة إلى بعض الاحاديث في النموذج السابق، وروى (القوشجي) - وهو من أئمة المتكلمين على مذهب الاشاعرة - عن عمر أيضاً انه قال:

«ثلاث كنَّ على عهدِ رسول اللّه، وأنا انهى عنهنَّ واُحرمهنَّ، واُعاقب عليهنَّ، متعة النساء، ومتعة الحج، وحيّ على خير العمل»(٢) .

فقول عمر (كنَّ على عهد رسول اللّه)، ثم قوله بعد ذلك (وأنا أنهى عنهنَّ واُحرمهنَّ، واُعاقب عليهنَّ)، تشريع إبتدائي، وإحداث أمرٍ في الدين من دون أن يكون له أصل فيه، وهو من أصدق مصاديق (الابتداع).

بل نرى أنه قد وضَع نفسه في موضع لم يكن رسول اللّه على عظمته وجلالة قدره ليضع نفسه فيه، حيث يقول اللّه عزَّ وجلَّ في شأنه:

____________________

(١) النسائي، سنن النسائي بشرح السيوطي، ج: ٥، باب: التمتع، ص: ١٥٢، وانظر: كنز العمال، ج: ٥، ح: ١٢٤٨٣، ص: ١٦٦.

(٢) عبد الحسين شرف الدين، النص والاجتهاد، ص: ٢٠٦، عن شرح التجريد للقوشجي، في أواخر بحث الامامة.

٣٦٨

( وَما يَنطِقُ عَنِ الهَوَى* إِن هُوَ إِلا وَحيٌ يُوحى ) (١) .

ويقول:( إِن أَتَّبِعُ إِلا ما يُوحى إِلَيَّ ) (٢) .

ولم يعهد منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انَّه قال (أنا أرى) في مقابل الوحي الالهي المنزل، والشريعة السماوية الحكيمة، لأنَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن سنَّ أمراً، أو تفوَّه بقولٍ، فانَّما هو مرتبط باللّه عزَّ وجلَّ، ومنتهٍ إليه، ومأخوذٍ عنه سبحانه وتعالى، ولا يمكنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحيد عن ذلك قيدَ شعرة مطلقاً، قال تعالى:

( وَلَو تَقوَّل عَلَينا بعضَ الأَقاوِيلِ* لأَخَذنا مِنهُ باليَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعنا مِنهُ الوَتينَ ) (٣) .

فنحن نرى انَّ عمر قد أثبت وجود (متعة النساء) في الشريعة الاسلامية، وانَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد سنّها لاُمته، ثم نرى بعد ذلكَ انَّه يرى خلافَ ذلك فيحرّمها ويحذفها من قائمة التشريع، ويعاقب من يزاولها، ويقيم عليها، فهل يمكن أن يحصل تناقض أكثر من هذا؟ حيث يتم إثبات جميع هذهِ الاُمور في الدين ثم يتم رفعها بعد ذلك بكلمةٍ واحدةٍ؟!

وهل يمكن أن يجتمع طرفا الاثبات والنفي هذان في أكثر الشرائع السماوية شمولية وهدفيةً واتساعاً؟!

ولذا نلاحظ أنَّ أمير المؤمنين علياًعليه‌السلام كان يصرُّ على إلغاء هذا التحريم، ويبيِّن انَّ للمسلمين في تشريع (متعة النساء) مصلحةً إسلامية كبرى، تصون المجتمعات من الفساد، والانحراف، والتحلل الخُلُقي، وأنَّ هذا الحكم حكم مستمر إلى يوم القيامة كما اُريد له أن يكون كذلك من قبل صاحب الرسالةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد روى الحكم، وابن جريح،

____________________

(١) النجم: ٣، ٤.

(٢) الاحقاف، ٩.

(٣) الحاقة: ٤٤، ٤٥، ٤٦.

٣٦٩

وغيرهما، قالوا: قال عليرضي‌الله‌عنه :

«لولا أنَّ عمررضي‌الله‌عنه نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي، وفي لفظٍ آخر: لولا ما سبق من رأي عمر بن الخطّاب: لأمرتُ بالمتعة، ثمَّ ما زنى إلا شقي»(١) .

*ما وردَ من الأخبار المقطوعة التي دلَّت على تأخّر أمير المؤمنين عليعليه‌السلام عن بيعة أبي بكر، وأنَّه لم يبايعه الا مكرهاً مجبراً، فلو أن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نصَّ على وجوب اتّباع سنة الخلفاء الأربعة على ما يُدّعى استفادته من حديث (سنة الخلفاء الراشدين)، لم يكن من الحري بأمير المؤمنين عليعليه‌السلام أن يتأخر عن الاقدام لبيعة أبي بكر، وهو الذي يُفترض أن يكون أول المجسدين لاتّباع هذا الحديث، باعتبار انَّ أبناء العامة يجعلونه من ضمن مفرداته، وأحد الخلفاء المعنيين به!!

فتأخر أمير المؤمنين عليعليه‌السلام عن بيعة أي بكر، ومبايعته أخيراً على نحو الاكراه من أجل حفظ مصلحة الاسلام العليا، دليل آخر على عدم قبوله لسنته، وبالتالي وقوع التضارب والاختلاف الذي يتنافى مَعَ إرادة سنتيهما معاً.

جاءَ في (شرح نهج البلاغة):

«ثم ينبغي للعاقل أن يفكّر في تأخّر عليعليه‌السلام عن بيعة أبي بكر ستة أشهر إلى أن ماتت فاطمة، فان كان مصيباً فأبو بكر على الخطأ في انتصابه في الخلافة، وإن كان أبو بكر

____________________

(١) انظر: جعفر مرتضى العاملي، الزواج المؤقت في الاسلام، ص: ٩٥، وقد خرَّجه عن: تفسير الطبري، ج: ٥، ص: ٩، وكذا مصنف عبد الرزاق، ج: ٧، ص: ٥٠٠، ومنتخب كنز العمال هامش المسند، ج: ٦، ص: ٤٠٥، وتفسير الرازي ط سنة ١٣٥٧، ج: ١٠، ص: ٥٠، والدر المنثور، ج: ٢، ص: ١٤٠، وشرح النهج للمعتزلي، ج:٢، ص: ٢٥٣، وتفسير النيسابوري هامش الطبري، ج: ٥، ص: ١٧، والجواهر، ج: ٣٠، ص: ١٤٤، عن نهاية ابن الاثير، والطبري، والثعلبي، والغدير، ج: ٦، ص: ٢٦٠ عن كنز العمال، ج: ٨، ص: ٢٩٤، وعن تفسير أبي حيان ج: ٣، ص: ٢١٨، وأبي داود في ناسخه، وبعض من تقدم، والبيان للامام الخوئي، ص: ٣٤٣ عن مسند أبي يعلى، ودلائل الصدق ج: ٣، ص: ١٠١، وتلخيص الشافي، ج: ٤، ص: ٣٢، والبحار ط قديم، ج: ٨، ص: ٢٨٦، والوسائل، أبواب المتعة، وكنز العرفان، ج: ٢، ص: ١٤٨، والكافي، ج: ٥، ص: ٤٤٨.

٣٧٠

مصيباً فعليٌّ على الخطأ في تأخره عن البيعة وحضور المسجد»(١) .

ولا نظن انَّه يخفى على القارئ الكريم حلُّ هذهِ المعادلة، أو أنَّه يرتاب في وضوح نتيجتها!

ووردت أيضاً الوثائق التاريخية لتؤكّد عدم رغبة أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في بيعة عمر وعثمان، وانَّهعليه‌السلام قد هُدِّد بالقتل إن لم يبايع عثمان، فقد جاءَ في شرح نهج البلاغة:

«روى البلاذري في كتابه عن ابن الكلبي، عن أبيه، عن أبي مخنف في إسنادٍ له: أنَّ عليّاًعليه‌السلام لما بايع عبدُ الرحمن عثمانَ كانَ قائماً، فقال له عبد الرحمن، بايع والا ضربتُ عنقَكَ، ولم يكن مَعَ أحدٍ سيف غيره، فخرج علي مغضباً، فلحقه أصحاب الشورى، فقال له: بايع والا جاهدناكَ، فأقبل معهم يمشي حتى بايع عثمان»(٢) .

وفيه أيضاً عن تاريخ الطبري:

«انَّ الناس لما بايعوا عثمان تلكّأ عليعليه‌السلام ، فقال عثمان:( فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّما يَنكُثُ عَلى نَفسِهِ وَمَن أَوفى بِما عاهَدَ عَلَيهُ اللّهَ فَسَيُؤتيهِ أَجراً عظِيماً ) (٣) ، فرجع عليٌّعليه‌السلام حتى بايعه وهو يقول: خدعة وأيُّ خُدعةٍ»(٤) .

وهذا يدل أيضاً على عدم إرتضاء أمير المؤمنين عليعليه‌السلام لسيرة وسنة عثمان، فلا يمكن جعل السنتين في عرضٍ واحد.

*ما ورد على لسان أمير المؤمنينعليه‌السلام من الاحتجاج في مسألة الخلافة على كلٍّ من أبي بكر وعمر وعثمان، وكونه أحق بالخلافة وولاية أمر المسلمين منهم جميعاً، وانَّه انَّما سكتَ عن حقِّه لوحدة كلمة الأمة، وحقناً لدماء المسلمين، وخوفاً من وقوع الفتنة بينهم.

____________________

(١) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج: ٢، ص: ٢٤.

(٢) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج: ١٢، ص: ٢٦٥.

(٣) الفتح: ١٠.

(٤) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج: ١٢، ص: ٢٦٥، وانظر: تاريخ الطبري، ج: ٥، ص: ٤١.

٣٧١

وكان أمير المؤمنين عليعليه‌السلام يُعرب عن عدم ارتياحه ورضاه، وعن ألمه العميق لما صارت إليه هذه الاُمة من تياهٍ وضياع، ولما حصل فيها من تصدّع وانشقاق. ومن ذلك قولهعليه‌السلام عند سماعه بنبأ الشورى التي نصَّ عليها عمر قبل وفاته:

«بايع الناس لأبي بكر وأنا واللّهِ أولى بالأمرِ منه، وأحقّ به منه، فسمعتُ وأطعتُ مخافة أن يرجع الناسُ كفّاراً يضربُ بعضهم رقابَ بعضٍ بالسيف، ثمَّ بايعَ الناسُ عمر وأنا واللّهِ أولى بالامرِ منه، وأحقّ به منه، فسمعتُ وأطعت مخافةَ أن يرجع الناس كفّاراً يضربُ بعضهم رقابَ بعضٍ بالسيف، ثمَّ أنتم تريدون أن تبايعوا عثمانَ، إذاً أسمعُ واطيع، إنَّ عمر جعلني في خمسة نفر أنا سادسهم، لا يعرف لي فضلاً عليهم في الصلاح، ولا يعرفونه لي، كلّنا فيه شرع سواء، وأيم اللّه، لو أشاء أن أتكلَّم ثمَّ لا يستطيع عربيُّهم ولا عجميهم ولا المعاهد منهم ولا المشرك ردَّ خصلةٍ منه لفعلت.»(١) .

ومنها قولهعليه‌السلام في بيان خلفيات موقفه، وأهداف سكوتهعليه‌السلام :

«فأمسكتُ يدي حتى رأيتُ راجعةَ الناس قد رجعت عن الاسلام، يدعونَ إلى محق دين محمدٍ، فخشيتُ إن لم أنصر الاسلامَ وأهلَه أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوتِ ولايتكم التي انَّما هي متاع أيامٍ قلائل»(٢) .

وقوله عندما انتهت إليه أنباء السقيفة:

«ما قالت الأنصار؟ قالوا: قالت: منّا أمير ومنكم أمير، قالعليه‌السلام : فهلاّ احتججتُم عليهم بأنَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصّى بأن يُحسن إلى محسنهم، ويُتجاوز عن مسيئهم؟ قالوا: وما في هذا من الحجة عليهم؟ قالعليه‌السلام : لو كانت الامامة فيهم لم تكن الوصيةُ بهم، ثم قالعليه‌السلام : فماذا قالت قريش؟ قالوا: احتجَّت بأنَّها شجرة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالعليه‌السلام :

____________________

(١) انظر الحديث بتمامه في كنز العمال، ج: ٥، ص: ٧٢٤ - ٧٢٦، ح: ١٤٢٤٣.

(٢) نهج البلاغة: الكتاب / ٦٢.

٣٧٢

احتجّوا بالشجرة، وأضاعوا الثمرة»(١) .

وحسبُكَ ما في الخطبة الشقشقية من لوم وتقريع، حيث يقول أمير المؤمنينعليه‌السلام في جوانب منها:

«أما واللّه، لقد تقمَّصها فلان، وانَّه ليعلم أنَّ محلي منها محلَّ القطب من الرَّحا، ينحدرُ عنّي السيلُ، ولا يرقى اليَّ الطير، فسدلتُ دونَها ثوباً، وطويتُ عنها كشحاً، وطفقتُ أرتئي بينَ أن أصولَ بيدٍ جذّاء، أو أصبرَ على طخيةٍ عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيبُ فيها الصغير، ويكدحُ فيها مؤمن حتى يلقى ربَّه!

فرأيتُ أنَّ الصبرَ على هاتا أحجى، فصبرتُ وفي العين قذىً، وفي الحلق شجاً، أرى تراثي نهباً، حتى مضى الأول لسبيله، فأدلى بها إلى فلانٍ بعدَه، ثمَّ تمثَّل بقول الأعشى:

شتان ما يومي على كورها

ويوم حيّان أحي جابر

فيا عجباً!! بينا هو يستقيلُها في حياته، إذ عَقَدها لآخر بعد وفاته.».

إلى أن يقولعليه‌السلام :

«فصبرتُ على طول المدّة، وشدة المحنة، حتى إذا مضى لسبيله، جعلها في جماعةٍ زعم أنَّي أحدهم، فيا للّه وللشورى، متى اعترضَ الريبُ فيَّ مَعَ الأول منهم، حتى صرتُ اُقرن إلى هذهِ النظائر! لكنّي أسففتُ إذ أسفُّوا، وطرتُ إذ طاروا، فصغا رجل منهم لضغنه، ومالَ الآخر لصهره، مَعَ هنٍ وهَنٍ، إلى أن قامَ ثالث القوم نافجاً حضنيه، بين نثيله ومعتلفه، وقامَ معه بنو اُمية، يخضمونَ مالَ اللّه خضمةَ الابل نبتةَ الربيع، إلى أن انتكث عليه فتلُه، وأجهزَ عليه عملُه، وكَبَت به بطنتُه!.»(٢) .

____________________

(١) نهج البلاغة: الكلام / ٦٧.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة / ٣.

٣٧٣

*ما روي عن أبي جعفر وأبي عبد اللّهعليهما‌السلام أنَّهما قالا:

«حجَّ عمر أولَ سنة حجَّ وهو خليفة، فحجَّ تلكَ السنة المهاجرون والأنصار، وكان عليعليه‌السلام قد حجَّ تلكَ السنة بالحسن والحسين وعبد اللّه بن جعفر، قال: فلمّا أحرم عبد اللّه لبس إزاراً ورداءاً ممشقين مصبوغين بطين المشق، ثم أتى فنظر إليه عمر وهو يلبّي، وعليه الازار والرداء، وهو يسير إلى جنب عليّعليه‌السلام فقال عمر مِن خلفهم: ما هذه البدعة التي في الحرم؟ فالتفتَ إليه عليعليه‌السلام فقال: يا عمر لا ينبغي لأحدٍ أن يعلّمنا السنة، فقال عمر: صَدَقتَ يا أبا الحسن، لا واللّه ما علمتُ أنَّكم هم»(١) .

فوقع الخلاف هنا في أصل السنة التي هي واحدة في حكم اللّه تعالى، وواقع الأمر، ومن الواضح انَّ التقابل بين كون العمل (بدعة) على ما زعمه عمر، وكونه سنة على ما أكّده أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، مما لا يتحقق بشأنه الجمع، ولا يمكن ان يُنتحل له أيُّ تخريج.

*ما رواه (ابن أبي الحديد) عن كتاب (شورى عوانة) عن اسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال:

«فلمّا ماتَ عمر، واُدرج في أكفانه، ثمَّ وُضِع ليُصلّى عليه، تقدَّم علي بن أبي طالب، فقامَ عند رأسه، وتقدَّم عثمان فقامَ عند رجليه، فقال عليعليه‌السلام : هكذا ينبغي أن تكون الصلاة، فقال عثمان: بل هكذا، فقال عبد الرحمن: ما اسرع ما اختلفتم، يا صهيب! صلِّ على عمر كما رضي أن تصلّي بهم المكتوبة»(٢) .

وهذا خلاف في أصل السنة أيضاً، ولا يمكن أن يقع من شخصين واجبي الاتّباع معاً.

____________________

(١) العياشي، تفسير العياشي، تحقيق: هاشم المحلاتي، ج:٢، ص٣٨، وانظر: بحار الانوار،ج:٩٦،ح٣، ص: ١٤٢.

(٢) محمد تقي التستري، قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ص: ٢١٠، عن شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.

٣٧٤

*ما رواه (ابن أبي الحديد) من انَّ عثمان قال لعليعليه‌السلام في كلام دار بينهما:

«أبو بكر وعمر خير منكَ! فقال عليعليه‌السلام : كذبتَ، وأنا خير منكَ ومنهما، عبدتُ اللّه قبلهما، وعبدتهُ بعدهما»(١) .

فكيف يمكن أن تكون سنة الخلفاء الأربعة واجبة الاتباع على حدٍّ سواء مَعَ هذا الترتيب الذي ذكره أمير المؤمنينعليه‌السلام في كلامه، ومَعَ لحن الخطاب الصادر منهعليه‌السلام !

أضف إلى كلِّ أنحاء الخلاف هذه، ما ورد في باب القضاء من هفوات خطيرة وقَعَ فيها أبو بكر وعمر وعثمان طيلة المقطع الزمني الذي مارسوا فيه الحكم، وقد تمكن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أن يتلافى ويستدرك عليهم ما أمكنه أن يتلافاه من ذلك، حتى قال عمر مقولته المشهورة: «لولا علي لهلك عمر»(٢) ، وقال: «ما عشتُ لمعضلةٍ ليسَ لها أبو الحسن»(٣) .

ب - الخلاف بينَ الخلفاء الثلاثة

يكفينا للاطلاع الاجمالي على بعض النماذج البارزة لصور الخلاف الواقعة بين كلٍّ من أبي بكر وعمر وعثمان أن نوردَ ما ذكره (طه العلواني) في كتاب (أدب الاختلاف في الاسلام) حيث يقول ما لفظه:

«فمما اختلفَ فيه الشيخان - أبو بكر وعمر رضي ‌الله‌ عنهما غير ما ذكرنا. سبي أهل الردّة، فقد كان أبو بكر يرى سبي نساء المرتدين على عكس ما يراه عمر الذي نقضَ - في

____________________

(١) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج: ٢٠، ص: ٢٥.

(٢) حسين علي الشاكري، علي في الكتاب والسنة، ج: ٢، ص: ١٤٤، عن كفاية الطالب للكنجي، والغدير، ج: ٦، ص: ٩٤، وبحار الانوار، ج: ٤٠، باب: ٩٣، ح: ٥٤، ص: ١٤٩.

(٣) محمد باقر المجلسي، بحار الانوار، ج: ٤٠، باب: ٩٣، ح: ٥٤، ص: ١٤٩، والغدير، ج: ٦، ص: ١٠٣.

ولمزيد من التفصيل راجع البحث العلمي القيم الذي جاد به يراع العلامة الاميني في موسوعة الغدير، ج: ٦، باب: نوادر الأثر في علم عمر، ص: ٨٣ - ٣٢٥، وج: ٧، ص: ٧٣ - ٢٠٠، وج: ٨، ص: ٩٧ - ٢٤١.

٣٧٥

خلافته - حكم أبي بكر في هذهِ المسألة، وردَّهنَّ إلى أهليهنَّ حرائرَ، إلا مَن ولدت لسيدها منهنَّ، ومن جملتهنَّ كانت خولة بنت جعفر الحنفية اُم محمد بن عليرضي ‌الله ‌عنهما.

كما اختلفا في قسمة الأراضي المفتوحة: فكان أبو بكر يرى قسمتَها، وكانَ عمر يرى وقفها ولم يقسِّمها.

وكذلكَ اختلفا في المفاضلة في العطاء، فكان أبو بكر يرى التسوية في الاعطيات، حين كان عمر يرى المفاضلة، وقد فاضَل بين المسلمين في اعطياتهم.

وعمر لم يستخلف على حين استخلفه أبو بكر، كما كان بينهما اختلاف في كثير من مسائل الفقه.»(١) .

فمن حق المرء بعد أن يطّلع على هذهِ النماذج من صور الخلاف التي وقعت تارةً بين أمير المؤمنين عليعليه‌السلام من جهة، وبين كلٍّ من أبي بكر وعمر وعثمان من جهة ثانية، ووقعت تارةً اُخرى بين أبي بكر وعمر وعثمان أنفسهم. أن يتساءَل من رواد حديث (سنة الخلفاء الراشدين) والمتمسكين به، انَّه هل يمكن أن يأمر النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اُمته بأن تأخذ بالسنة وبخلافها في وقتٍ واحد؟ وهل يعني ذلك إلا الجمع بين المتناقضين؟ وهل يمكن لنا أن نصدِّق بحديث يؤدي إلى وقوع الشريعة الاسلامية في مثل هذا التناقض الفاحش، وبين يدينا كلام اللّه الذي ينفي فيه الاختلاف والتفاوت عن التشريع، حيث يقول:

( أَفَلا يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ وَلَو كانَ مِن عَندِ غَيرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اختِلافاً كَثيِراً ) (٢) .

وفي مقابل كلِّ هذا نرى التناسق والاحكام في أقوال أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، على الرغم من اختلاف الظروف التي عاشوا فيها، والفواصل الزمنية الطويلة التي وقعت بين

____________________

(١) طه جابر العلواني، أدب الاختلاف في الاسلام، ص: ٥٩ - ٦٠.

(٢) النساء: ٨٢.

٣٧٦

بعضهم والبعض الآخر، فلو أرجعنا البصر فيما ورثناه من أحكام وتعاليم غفيرة صدرت عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، لما وجدنا أيَّ لونٍ من ألوان التفاوت والاختلاف في أقوالهم وآرائهم وسلوكهم، وهذا أدل دليل على عصمتهم وأهليتهم لتبليغ الرسالة وحماية الشرع المبين، والاستمرار على خطى الرسول الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبما جاءَ به من قوانين وأنظمة وأحكام.

ولا غرو في ذلك إذا ما قرنهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكتابِ اللّه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه في (حديث الثقلين) المتقدم الذكر. فلاَّنهمعليهم‌السلام عدلاء القرآن الكريم، وقد أخبر رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالدليل القطعي عن اقترانهم به، وملازمتهم له إلى حين ورود الحوض. فانّا لا نجد أيَّ اختلاف في أقوالهم وأحكامهم، ونجد انَّ كلامهم المقطوع الصدور ككلام القرآن الكريم، يصدِّق بعضه البعض الآخر، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

فان كان هناك خلفاء راشدون يجب أن يُتَّبعوا، وتُقتفى آثارُهم، ويُعمل بسنتهم، فهم أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، لانَّ سنتهم سنة واحدة، تكشف عن سنة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتنطق بها، ولا يصح بأي حال أن يرد الأمر باتباع سنة متفرقةٍ مبعثرة مختلفة، كما لاحظناه سابقاً.

قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«ألا إنَّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوحٍ من قومه، مَن ركبها نجا، ومَن تخلَّف عنها غرق»(١) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لامتي من

____________________

(١) مستدرك الحاكم، ج: ٣، كتاب معرفة الصحابة، ص: ١٥١.

٣٧٧

الاختلاف.»(١) .

فالأمر لا يتوقف إذن في إطار عدم وجود التفاوت والاختلاف في سنة أهل البيتعليهم‌السلام فحسب، وانَّما يتعدى ذلك إلى أنَّ سنتهم ترفع أيَّ اختلاف من المفترض أن تقع فيه الامة الاسلامية، وانّها تمثل المحور الذي يجب أن يلتف حوله المسلمون، ويلجأوا إليه، عند وقوع الفتن والاختلافات فيما بينهم، لأنهمعليهم‌السلام أمان الاُمة من الاختلاف، كما انَّ نجوم السماء أمان لأهل الارض من الغرق.

ويشير أمير المؤمنين عليعليه‌السلام إلى أنَّ أهل البيتعليهم‌السلام لا يخالفون الحق، ولا يختلفون فيه بشكل مطلق، وأنَّهم عقلوا الدين عقل وعاية، لا عقل رواية، حيث يقولعليه‌السلام :

«هم عيش العلم، وموت الجهل، يخبركم حلمهم عن علمهم، وظاهرهم عن باطنهم، وصمتُهم عن حكم منطقهم، لا يخالفون الحقَّ، ولا يختلفونَ فيه، وهم دعائم الاسلام، وولائج الاعتصام، بهم عادَ الحقُّ إلى نصابه، وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانهُ عن منبته، عقلوا الدين عقلَ وعايةٍ ورعايةٍ، لا عقلَ سماع ورواية، فانَّ رواة العلم كثير، ورعاتهَ قليل»(٢) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في موضع آخر انَّه قال:

«لو اختصم إليَّ رجلان فقضيت بينهما، ثمَّ مكثا أحوالاً كثيرة، ثم أتياني في ذلك الأمر، لقضيت بينهما قضاءً واحداً، لأنَّ القضاء لا يحول ولا يزول أبداً»(٣) .

ولا نكاد نجد أنفسنا بحاجة إلي أن نطيل التأمل في هذهِ النقطة بعد أن ندرك بأنَّ كل ما يقوله أئمة أهل البيتعليهم‌السلام فانما هو مستقىً من معين علم النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومأخوذ

____________________

(١) مستدرك الحاكم، ج: ٣، كتاب معرفد الصحابة، ص: ١٤٩.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة / ٢٣٩.

(٣) محمد بن النعمان المفيد، أمالي الشيخ المفيد، ج: ٣، ص: ٢٨٧، وبحار الانوار، ج: ٢، باب: ٣٢، ح: ١٣ ص: ١٧٢.

٣٧٨

من بحور معرفته.

يقول سيد الأئمة عليعليه‌السلام :

«علَّمني رسول اللّه ألف باب من العلم، فَفُتح لي من كلِّ بابٍ ألفُ باب»(١) .

ويقول رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشأن عليعليه‌السلام :

«أنا مدينة العلم، وعلي بابُها»(٢) .

ويقول الامام الصادقعليه‌السلام :

«حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحديث رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قول اللّه عزَّ وجلَّ»(٣) .

وقد مرَّ معنا انَّ سماعة سأل الامام موسى الكاظمعليه‌السلام قائلاً: أكل شيءٍ في كتابِ اللّه وسنة نبيِّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو تقولونَ فيه؟ فقالعليه‌السلام :

«بل كلّ شيءٍ في كتاب اللّه وسنة نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(٤) .

٣ - إرادة الخلفاء الأربعة في الحديث تتنافى مع إنكار العامة لوجود النص

بنى جمهور العامة ثقافتهم الاسلامية بما تحمله من خصوصيات وأبعاد على أساس القول بعدم وجود النص الشرعي من قبل رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الخليفة من بعده، وأشادوا كلَّ معتقداتهم وأفكارهم ورؤاهم على هذا الأساس.

____________________

(١) حسين علي الشاكري، علي في الكتاب والسنة، عن فتح الملك العلي للسيد أحمد المغربي، ص: ١٩، والاربعين للهروي، ص: ٤٧ (مخطوط)، وينابيع المودة للقندوزي، ص: ٧٢.

(٢) حديث متواتر اتفق على روايته الفريقان، وللتفصيل راجع: إحقاق الحق، ج: ٥، ص: ٤٦٩ - ٥٠١، وج: ١٦، ص: ٢٧٧ - ٢٩٧، وج: ٢١، ص: ٤١٥ - ٤٢٨.

(٣) زين الدين العاملي، منية المريد في آداب المفيد والمستفيد، ص: ١٩٤.

(٤) محمد بن يعقوب الكليني، الاصول من الكافي٧ ج: ١، باب: الرد إلى الكتاب والسنة، ح: ١٠، ص: ٦٢.

٣٧٩

وعند القول بأنَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عيَّن أربعة خلفاء من بعدهِ، وهم أبو بكر وعمر وعثمان، وعليعليه‌السلام ، أو يزيدون على ذلك كما في بعض التفاسير، وانَّهم هم المقصودون بلفظة (الخلفاء الراشدين)، وانَّ سنتهم يجب أن تُتبع، ويُعض عليها بالنواجذ، فانَّ هذا يعني وجود النص على أمر الخلافة الاسلامية بعد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، خصوصاً معَ ملاحظة ما يرتبونه من آثار عملية شاملة لجميع الاحكام وخصوصيات التشريع على تسليمهم لهذا الحديث، وتوجيههم لمختلف التشريعات الصادرة عن عمر وأبي بكر وعثمان عن طريق التشبث به، والتمسك بمؤداه، وهذا يعني وجود النص على الخلافة، الأمر الذي يرفضه جمهور العامة رفضاً قاطعاً.

وبعبارة اُخرى اننا مع قول العامة بعدم وجود النص على الخلافة الاسلامّية بعد الرسول، وتسليمهم لصحة هذا الحديث بين أمرين:

الأول: أن يقال بانَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جعل الأمر مبهماً وغامضاً، ولم يوضّح مقصوده من (الخلفاء الراشدين) من بعده في هذا الحديث، فهذا ما لا فائدة فيه، وانَّ ذكره وعدم ذكره على حدٍّ سواء، ولا معنى لأن يوصي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتمسك بسنة أشخاص مجهولين للاُمة، وغير معروفين من قبلها، وانَّ هذا مما يُنَّزه عنه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويُجلّ عن الوقوع في مثله.

ولو أنّ الأمر كان غامضاً ومبهماً لكان من الحري بمن يستمع إلى هذا الحديث أن يسأل عن المراد ب‍(الخلفاء الراشدين)، ويطلب من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يشخصهم ويحددهم بوضوح، والا فما فائدة ما استمع إليه من حديث، وما هو الأثر المترتب عليه.

وفي أحسن التقادير يُقال بانَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أوكل أمر تعيين هؤلاء إلى الامة من بعده، وترك عليها أمر تشخيصهم وانتخابهم، وهذا بفرض التسليم له - على أنّا لا نراه صحيحاً - معارَض أيضاً بنص أبي بكر على عمر من بعده، ووصيته عليه، والتي كانت بمحض إرادته الخاصة، ومنقوض أيضاً بجعل عمر أمر الخلافة من بعده موكولاً إلى

٣٨٠