البدعة

البدعة6%

البدعة مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 610

البدعة
  • البداية
  • السابق
  • 610 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 155845 / تحميل: 9194
الحجم الحجم الحجم
البدعة

البدعة

مؤلف:
العربية

البدعة

الدكتور الشيخ جعفر السبحاني

١

هذا الكتاب

نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنينعليهما‌السلام للتراث والفكر الإسلامي

بانتظار أن يوفقنا الله تعالى لتصحيح نصه وتقديمه بصورة أفضل في فرصة أخرى قريبة إنشاء الله تعالى.

٢

٣

٤

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

تهدف الدراسة التي أضعها بين يدي القارئ الكريم باختصار إلى رسم صورة واقعية لمفهوم (البدعة)، من خلال دراسة مستفيضة للقيود الدخيلة في صياغة الحدّ النهائي لهذا المفهوم، ووضع الضابطة العامة التي يتم بموجبها تطبيقه على هذا المورد دون ذاك.

وتأتي الأهمية التي يحظى بها هذا البحث من خلال النظر في أمرين:

أولاً: إنَّا نجد أنَّ البحث في مفهوم (البدعة) يكاد أن يكون غائباً في الدراسات التخصصية المستقلة، والبحوث الموضوعيّة الشاملة، ولعلّ السبب في ذلك يعود إلى قوة الوضوح التي يحملها هذا المفهوم، وسعة حضوره في صفوف مفردات الثقافة الاسلامية البارزة.

وثانياً: إنِّه على الرغم من الوضوح الذي يحمله هذا المفهوم من الوجهة النظريّة، إلا أنّا نجد خللاً واضحاً في تطبيق هذا المفهوم على مصاديقه، وارتباكاً ملحوظاً في تحديد موارده، الأمر الذي جعل هذهِ النقطة بالذات تمثل مشكلة حقيقية باتت ترافق المفهوم باطّراد من خلال تلك التطبيقات العملية الخاطئة، وأصبحت بمثابة التيار الموجّه لتفتيت وحدة المسلمين، وتمزيق شملهم، وشق عصا تآلفهم وتضامنهم على مبادئ

٥

الاسلام المثلى.

ومما يؤسف له حقاً أن يقع هذا المفهوم الاسلامي الحساس ضحيةً لالوان شتى من الايهام والتمويه، ويُستغل بطريقة غير مشروعة لتحقيق منافع ذاتية ومآرب خاصة لا تعود على المسلمين إلا بالتفرق والتشتيت.

فبالنظر لأهمية دراسة هذا الموضوع من مختلف جوانبه وأبعاده، وإعطاء نظرة تفصيلية حول حدوده وشرائط تطبيقه، فقد عمدت إلى وضع هذهِ الدراسة المتواضعة بين يدي القارئ الكريم.

وانطلاقاً من كون التشريع الاسلامي تشريعاً شاملاً لمختلف جوانب الحياة وأبعادها، فإنّا نرى أنَّه قد اختزن ذاتياً الرصيد الاكبر من مقومات الحصانة والبقاء أولاً، وعناصر الديمومة والاستمرار ثانياً.

ولعلَّ من أبرز مظاهر هذهِ الحصانة هو إعلان المواجهة الشاملة مَعَ البدع والمحدثات، والسعي الحثيث نحو قلعها واجتثاثها من الجذور، والتثقيف المركّز باتجاه خلق وعي التعبّد والانقياد في نفوس المسلمين، وقطع الطريق على كلّ بادرة تحاول أن تخترق غطاء الحصانة الشرعي الذي وفّره الاسلام لمختلف مفردات الشريعة وأحكامها ومبادئها.

هذا الامر يدعونا إلى أن نتعرف إجمالاً على الخطوط الرئيسية لحصانة التشريع، والانتهاء من خلال ذلك إلى بيان خطورة ظاهرة الابتداع في الدين، ومن ثم بيان أهم الأسباب التي أدَّت إلى نشوء هذه الظاهرة في حياة المسلمين.

وهذا ما ستطالعه أيها القارئ الكريم في الباب الاول من أبواب هذه الدراسة.

وبما انَّ إعطاء الصورة النهائية لأي مفهوم لا يمكن أن تتم بمعزلٍ عن النظر إلى

٦

طبيعة الصياغات التطبيقية له، ووضع الضابطة التي تجعله شاملاً لجميع أفراده، وغير منطبق على شيء من غير أفراده، فقد خضع مفهوم (البدعة) في دراستنا الماثلة إلى نفس هذهِ المنهجية، وحاولنا أن نسير مَعَ المفهوم في معناه اللغوي، ثم الاصطلاحي، ثم نتبيَّن ما يمكن أن يفي به من مداليل، وما يُدّعى له من تقسيم، ثمَّ نترك الحكم للنصوص الاسلامية للافصاح عن المعنى الواقعي لهذا المفهوم، ونستنطقها فيما يتعلق بموارده وتطبيقاته، ونتخذ من هذهِ النصوص أساساً لوضع القيود الدخيلة في إجلاء حقيقة هذا المفهوم، وتأسيس منهجية ثابتة يتم على ضوئها تطبيق (البدعة) على مواردها الواقعية، ورفعها عمّا لا يصح إطلاقها عليه.

وهذا يتطلب في الواقع اماطة اللثام عن هوية الابتداع، وبيان قيوده وخصوصياته، وهو ما خصصنا له جوهر هذهِ الدراسة ضمن الباب الثاني الذي يشتمل على موضوعين رئيسيين وهما: (تقسيم البدعة)، و(مفهوم البدعة بين الاطّراد والانعكاس).

ولا يخفى ما للمثال من دور كبير في تجسيد الفكرة واقعياً، وتوضيح معالمها بكل ما تحمله من خصوصيات وتفاصيل، ولا سيما إذا كان لاختيار المثال مدخلية في القاء نظرة أعمق على المفهوم، ومساهمة ثانوية في تكريس ما يشتمل عليه من عناصر وقيود.

فكانت ضرورة البحث العلمي تدعو لأن ننتقي للقارئ الكريم نموذجين بارزين للابتداع في الباب الثالث من هذهِ الدراسة، ثم نعطف بعد ذلك الكلام حول حديث (سنة الخلفاء الراشدين)، ونبحثه من ناحيتي السند والمضمون، ونناقش الآراء التي أخرجت بواسطته الكثير من البدع من حيِّز الذم والانتقاد.

ثم ننتقل إلى الباب الرابع والاخير من هذهِ الدراسة فنستهل الحديث فيه

٧

باستعراض موجز لمعنى التشيع، وإبطال الرأي القائل بأنَّه بدعة حدثت في فترة متأخرة عن حياة الرسول الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من خلال دراسة مختصرة لنشأة التشيع، ومناقشة الآراء المختلفة في هذا المجال.

ثم نستعرض روائياً مجمل الدور الرسالي الذي تحمّل أعباءَه أهلُ البيتعليهم‌السلام في مواجهة البدع والمحدثات الدخيلة على الدين، وقد اقتصرنا خلال ذلك على بيان الخطوط العامة للمواجهة مَعَ البدع المتعلقة بالجوانب الاعتقادية في حياة المسلمين، لعدم إمكانية استقصاء مراحل المواجهة وحجمها ضمن هذهِ الدراسة، وتعذُّر استيفاء ذلك.

ولا يفوتني في الختام أن أتقدم بوافر الشكر وجميل الثناء إلى أخي المفضال الشيخ مصطفى قصير العاملي الذي تجشم عناء المطالعة النهائية لفصول هذهِ الدراسة، وساهم من خلال ملاحظاته السديدة ووجهات نظره البنّاءة في تنضيج مضمونها، وترشيد محتواها، فجازاه اللّه عن الاسلام وعنّا خير الجزاء.

وأعترف مسبقاً انَّ الكتابة في مثل هذا الموضوع الحساس لا تخلو من عثرة في القول أو زلة في القلم، على الرغم من أنّي قد بذلت غاية الوسع في تغطية جوانب هذا الموضوع، واستقصاء شوارده بالدراسة والتحليل، فلا ادّعي لنفسي العصمة والكمال، إذ لا عصمة إلا لمن عصم اللّه، ولا كمال إلا لِلّه وحده.

( سُبحانَكَ لا عِلمَ لَنا إلا ما عَلَّمتَنا إنَّكَ أنتَ العَليمُ الحَكيمُ )

قم المقدسة

جعفر محمد علي الباقري

٨

٩

الباب الأول: حصانة التشريع وخطورة الابتداع

الفصل الأول: عناصر ديمومة التشريع.

الفصل الثاني: مواجهة البدع.

الفصل الثالث: اسباب نشوء البدع (البدايات).

١٠

الفصل الاول : عناصر ديمومة التشريع

الخط الاول: شمولية التشريع.

الخط الثاني: سعة دائرة الحلال.

الخط الثالث: ضرورة عرض المعضلات على الكتاب والسنة.

الخط الرابع: التوقف عن الشبهات.

الخط الخامس: الرجوع في تفاصيل التشريع إلى العلماء.

الخط السادس: عدم جواز الاجتهاد في مقابل التشريع.

١١

١٢

تمهيد

يعتبر عنصر العمومية والشمول الذي تتميَّز به تعاليم الشريعة الاسلامية الخاتمة من أبرز العناصر والمقومات التي تمنح هذهِ الشريعة المقدّسة قابلية الديمومة والبقاء ومواكبة السلوك الانساني المتحّرك والمتغيِّر باستمرار.

فقد اُرد لهذه الشريعة أن تمتد في اُفق الحياة إلى حيث اللحظات الاخيرة، وتلبّي جميع احتياجاتها، وتستوعب مختلف أبعادها، بالرؤية الواضحة، والتكليف المشخص، والموقف العملي المحدّد، من خلال المفاهيم والاحكام المتنوعة التي عالجت جميع جوانب الوجود، ودخلت في كل تفاصيله، انطلاقاً من كون الشريعة الاسلامية هي الشريعة الخاتمة، وهي الشريعة الشاملة، قال تعالى:

( اليَومَ أكملت لَكم دِينَكُم وَأتممتُ عَليكُم نِعمتي وَرضيتُ لَكُم الإسلام دَيناً ) (١) .

وقال أيضاً:( وَأنزلنَا إِلَيكَ الكتابَ بِالحقِّ مُصدّقاً لِما بينَ يَديهِ مِن الكتابِ وَمُهيمناً عَليهِ ) (٢) .

فيترشح على أساس ذلك جوهر الأهداف التي تكمن وراء بعثة النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برسالته الخاتمة، والتي تتمثل بتنظيم حياة الانسان، وتقنين حركته، وبرمجة تصرفاته

____________________

(١) المائدة: ٣.

(٢) المائدة: ٤٨.

١٣

وتعاملاته المختلفة، مع نفسه ومع اسرته، ومع مجتمعه، ومع خالقه. بما يضمن سيره في طريق الكمال، واتجاهه نحو السعادة الأبدية، والخلود الدائم، والنعيم المقيم، الذي خُلق الانسان من أجل بلوغه وادراكه، فهو الكائن الاجتماعي الذي يأتلف مع باقي البشر من أبناء جنسه، وينصهر معهم في مختلف الرؤى والاهداف، فيشكل بذلك جزءاً فاعلاً في المجتمع الذي ينتمي إليه، ويحقق من خلال السلوك المتزن، والهدي الاسلامي الرفيع أمل الرسالة المعقود عليه، وهو الطاعة والعبادة للّه وحده، قال تعالى:

( وَما خَلَقتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلا لِيعبُدونِ ) (١) .

ولنا أن نقطع بانَّ هذا الشمول والاستيعاب يكمن في انبثاق هذه التعاليم والقوانين التشريعية من عالم الغيب والكمال المطلق، واتصالها بالقدرة الالهية المهيمنة على هذا الكون، والمدركة لجميع مصالحه ومفاسده بكل تفصيل.

كما انَّ اليد الالهية هي التي تقف وراء حفظ هذهِ التعاليم والذب عنها إلى آخر لحظة في الوجود، يقول اللّه عزَّ شأنه:

( إنّا نحنُ نُزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنّا لهُ لَحافظُونَ ) (٢) .

إذن فهناك عنصران رئيسيان يقفان وراء ديمومة وبقاء الشريعة الاسلامية المقدسة في حياة الانسان، وهما: استيعاب مساحة التطبيق، وغيبية النشوء، وهذا الأمر نجده مفقوداً في كل القوانين والانظمة والنظريات الوضعية التي حاولت معالجة مشكلة الكون والانسان، وسعت إلى رسم المسار الصحيح للبشرية، وتشخيص الوضع الأمثل لها، لأنَّها تفتقد لكلا العنصرين المتقدمين، فهي محدودة ضمن إطار المكان الذي تتحرك عليه، والزمان الذي تُطبق فيه من جانب، ومن جانب آخر نرى انَّها ناشئة من معطيات

____________________

(١) الذاريات: ٥٦.

(٢) الحجر: ٩.

١٤

العقل البشري القاصر الذي ينحصر عطاؤه في حدود ظرف الامكان، ولا يتعدى ذلك إلى حيث التمامية والكمال.

والتجربة الانسانية غنيّة بمثل هذهِ الطروحات الوضعية التي ما انفكت تتهاوى الواحدة تلو الاخرى أمام تيار الزمن المتجدد، والتطلعات الانسانية الصاعدة، فهي ما برحت تعاني من الانكفاء والتخلّف ومواكبة الواقع المتغير، وتتعرض إلى الاصلاح والترقيع والترميم على مدى الأزمنة المتعاقبة، ولكن دون جدوى، قال تعالى:

( أَفلا يَتدَبَّرونَ القُرآنَ وَلو كانَ مِن عندِ غَيرِ اللّه لَوجَدُوا فِيهِ اختلافاً كَثيراً ) (١) .

فالقوة الغيبية المطلقة إذن هي صاحبة الدور الوحيد في صياغة الرؤية الاسلامية المحددة إلى مختلف الوقائع والاحداث التي تكتنف بها الحياة، وهي التي تحدد للسوك الانساني طبيعةَ سيره وحركته ضمن مفردات هذا الكون الواسع.

وقد كان القرآن الكريم هو المجسد الأول لهذه الغاية، والملبي الامثل لذلك الغرض المرتجى والهدف المرسوم، نظراً لما اشتمل عليه من أنظمة وقوانين وأحكام تملأ جميع مساحات الواقع، وتستجيب لمختلف متطلباته واحتياجاته، فلا تبقى واقعة في الحياة تخلو من حكم، ولا يمكن أن تعترضَ الانسانَ مشكلةٌ في طريق سعادته وكماله إلا وتجد لها الحل بين طيّات الكتاب الكريم، قال تعالى:

( وَنَزَّلْنا عَليكَ الكتابَ تِبياناً لكلِّ شَيءٍ وَهدى وَرحمَةً وبُشرى لِلمُسلِمينَ ) (٢) .

وقال تعالى:( ما فَرَّطنا فِي الكِتابِ مِن شيءٍ ) (٣) .

____________________

(١) النساء: ٨٢.

(٢) النحل: ٨٩.

(٣) الانعام: ٣٨.

١٥

وجاءت الآيات الكثيرة تأمر المسلمين باتباع القرآن الكريم، واسترشاده، والاستلهام منه، كما قال تعالى:

( وَهذا كِتاب أَنزَلناهُ مُبارك فَاتَّبعوهُ وَاتَّقُوا لَعَلّكُم تُرحمُونَ ) (١) .

وقال تعالى:( اتَّبِعُوا مَا انُزِل إِليكُم مِن رَبِّكُم وَلا تَتَّبعُوا مِن دُونِهِ أَوليَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكّرونَ ) (٢) .

هذا هو الخط التشريعي الأول المتصل بالسماء، وأما الخط الثاني الذي يكمّل شوط هذه المهمة، ويتناول تفاصيلها باستيعاب، فهو عبارة عن سنة النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته الطاهرينعليهم‌السلام ، قولاً وفعلاً وتقريراً، حيث التجسيد العملي الأمثل لتلك التعاليم القرآنية، والتوضيح المتمم للخصوصيات والتفاصيل الجزئية التي انطوت عليها عموميات الكتاب الكريم، إذ انَّ من المفترض أن يتناول الكتاب الكريم اصول التشريع الاسلامي، وخطوطه العامة، دون الجزئيات والتفاصيل، فقد قال تعالى:

( وَأَنزلنَا إِليكَ الِذّكرَ لتُبيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّل إِليهِم وَلعَلَّهُم يَتفَكَّرُونَ ) (٣) .

وقد قرن اللّه تعالى في كتابه الكريم طاعة الرسول بطاعته، مقرراً أنَّ كلَّ واحدٍ من هذين المصدرين يكمّل الآخر، ويوضح معالمه، كما قال تعالى:

( قُل أَطيعُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ فإن تَوَلّوا فَإنَّ اللّهَ لا يُحبُّ الكافِرينَ ) (٤) .

وقال تعالى:( وَأَطيعُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلكُم تُرحَمُونَ ) (٥) .

وقال تعالى:( يا أيها الذينَ آمنُوا أطيعُوا اللّهَ ورسولَه ولا تَولّوا عنه وأنتُم

____________________

(١) الانعام: ١٥٥.

(٢) الاعراف: ٣.

(٣) النحل: ٤٤.

(٤) آل عمران: ٣٢.

(٥) آل عمران: ١٣٢.

١٦

تَسمعُونَ ) (١) .

وقال تعالى:( ومَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخشَ اللّهَ وَيَتَّقهِ فَأُولئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ ) (٢) .

وقال تعالى:( وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقد فَازَ فَوزاً عَظِيماً ) (٣) .

وقال تعالى:( يَا أيُّها الُّذينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأطيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم فَإن تَنازَعتُم فِي شَيءٍ فَردُّوهُ إِلى اللّهِ وَالرَّسُولِ إن كنتُم تُؤمنُونَ بِاللّهِ وَاليومِ الآخرَ ذَلكَ خير وَأَحسنُ تَأويلاً ) (٤) .

وقال تعالى:( قُل أَطِيعُوا اللّهَ وأَطيعُوا الرَّسولَ فإن تَولوا فَإنَّما عَليهِ مَا حُمِّلَ وَعليكُم مّا حُمِّلتُم وإن تُطيعُوهُ تهتدُوا وَما عَلى الرَّسُولِ إلا البَلاغُ المُبينُ ) (٥) .

كما تظافرت الآيات على ضرورة احترام شخصية الرسول الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتبجيله، وتوقيره، ونصرته، واتباع سيرته وسلوكه، كما في قوله تعالى:

( لقد كانَ لَكُم فِي رَسُولِ اللّهِ أُسوة حَسَنة ) (٦) .

وقوله تعالى:( الَّذِين يَتَّبعُونَ الرسُول النبِي الأُمّي الَّذي يَجدُونَهُ مَكتُوباً عِندهُم فِي التَّوراةِ والانجِيلِ يَأمُرهُم بَالمعروفِ وَينهاهُم عَن المنكِرِ ويُحلُّ لَهمُ الطيباتِ ويحرِّم عَليهِم الخبائثَ وَيَضعُ عَنهُم إصرهُم وَالاغلالَ التي كانت عَليهم فَالَّذينَ آمَنُوا بهِ وَعزَّروهُ وَنَصروهُ وَاتَّبعُوا النورَ الذي اُنزِلَ مَعُه أولئكَ هُم المُفلحونَ*قُل يَا أيُّها النَّاسُ إنّي رَسولُ اللّهِ اليكُم جَميعاً الذي لَه مُلكُ السِّمواتِ

_______________________

(١) الانفال: ٢٠.

(٢) النور: ٥٢.

(٣) الاحزاب: ٧١.

(٤) النساء: ٥٩.

(٥) النور: ٥٤.

(٦) الاحزاب: ٢١.

١٧

وَالأرض لا الهَ إلا هوَ يُحيي ويمِيتُ فآمِنوا بِاللّهِ وَرسولهِ النَّبي الأمي الِّذين يُؤمِنُ بِاللّهِ وكَلِماتِه وَاتَّبِعُوه لَعلَّكُم تَهتدُون ) (١) .

وقال تعالى مخاطباً نبيَّه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( قُل إن كُنتم تُحِبّون اللّهَ فَاتَّبعُوني يُحبِبكُمُ اللّهُ وَيَغفر لَكُم ذُنوبَكُم وَاللّهُ غَفُور رَحيم ) (٢) .

كما وَرَدَ التحذير في الكتاب الكريم عن مخالفة أوامر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والخروج عن جادة السعادة التي اختطها للبشرية بعنائه، وجهاده، وصبره على أداء الرسالة السماوية المقدسة، كما في قوله تعالى:

( لا تَجعلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَينَكم كَدُعاءِ بَعضِكم بَعضاً قَد يَعلمُ اللّهُ الَّذينَ يَتَسللُون مِنكم لِوَاذاً فَليحذَرِ الُّذينَ يُخالِفونَ أن أمرِهِ أن تُصيبَهُم فِتنَة أو يُصيبَهم عَذاب أليم ) (٣) .

وجاءت الاحاديث عن النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتؤكد على نفس هذا المعنى، وتحث المسلمين على اتباع سنته وتحذِّر من مخالفته، فقد ورد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال:

«مَن تمسكَ بسنتي في اختلاف امتي كان له أجر مائة شهيد»(٤) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال:

«كل امتي يدخلون الجنةَ إلا مَن أبى!، قالوا: يا رسولَ اللّه! ومَن يأبى؟ قال: مَن أطاعني دخل الجنة، ومَن عصاني فقد أبى»(٥) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال:

____________________

(١) الاعراف، ١٥٧ - ١٥٨.

(٢) آل عمران: ٣١.

(٣) النور: ٦٣.

(٤) أبو جعفر البرقي، المحاسن، تحقيق: مهدي الرجائي، ج: ١، باب: ثواب الأخذ بالسنّة، ح: ٧، ص: ٩٥.

(٥) البخاري، صحيح البخاري، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، ج: ٨، ص: ١٣٩.

١٨

«ستة لعنتُهم لعَنَهُم اللّه وكل نبي مجاب: المكذّب بقدر اللّه، والزائد في كتاب اللّه، والمتسلط بالجبروت يُذِلُّ مَن أعزَّ اللّه ويُعزّ مَن أذلَّ اللّه، والمستحل لحرم اللّه، والمستحل من عترتي ما حرَّم اللّه، والتارك لسنتي».

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال:

«ما أمرتكمبه فخذوه وما نهيتكم عنه فانتهوا».

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا قول إلا بعمل، ولا قول ولا عمل إلا بنية، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا باصابة السنة».

وعن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام أنَّه قال:

«إنَّ الفقيه حق الفقيه، الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، المتمسك بسنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ».

وجاءَ في (نهج البلاغة) عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنه قال:

«اقتدوا بهدي نبيكم فانَّه أفضل الهدي، واستنّوا بسنته فانها أهدى السنن».

وفي الحقيقة ان قضية اتباع سنة الرسول الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تُعد من القضايا البديهية التي يقوم عليها عود الاسلام، وترتكز على أساسها مجمل تعاليمه وأحكامه، حتى أصبح أصل اتباع سنة الرسول الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مورداً لاجماع المسلمين على الاطلاق، وان كان هناك اختلاف بينهم في طريقة الاخذ بالسنة وشروط ذلك.

ومن المقطوع به ان انكار هذا المعنى الشرعي بخصوص السنة النبوية يساوق

____________________

(١) الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين وبذيله التلخيص للحافظ الذهبي، ج: ١، ص: ٣٦.

(٢) ابن ماجة، سنن ابن ماجة، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ج: ١، باب: اتباع سنة رسول اللّه، ح: ١، ص: ٣.

(٣) محمد بن يعقوب الكليني، الاصول من الكافي، ج: ١، باب: الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب، ح: ٩، ص: ٧٠.

(٤) محمد بن يعقوب الكليني، الاصول من الكافي، ج: ١، باب: الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب، ح: ٨، ص: ٧٠.

(٥) نهج البلاغة: خ / ١١٠.

١٩

انكار الاسلام من الأساس، وعدم الايمان بأهم أولياته ومرتكزاته، لأنَّ هذا المصدر يعتبر عصب الحياة بالنسبة إلى الشريعة الاسلامية، ويشكّل القاعدة الثانية للتشريع بعد القرآن، ولولا السنة النبوية لما أمكننا أن نفهم أحكام الشريعة، ونعيَ مقاصدها الحقيقية بشكل مطلق.

وقد ورد في الاحاديث ان المخالف لسنة النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمتحدّي لها يُعد خارجاً عن دائرة الايمان باللّه، فضلاً عن المنكر لها من الأساس، فقد ورد عن أبي عبد اللّه الصادقعليه‌السلام في أمر التشديد على مخالفة السنة النبوية أنه قال:

«مَن خالف كتابَ اللّه وسنّةَ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد كفر»(١) .

وورد عنهعليه‌السلام أيضاً أنه قال:

«لو أنَّ قوماً عبدوا اللّهَ وحده لا شريك له، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحجّوا البيت، وصاموا شهر رمضان، ثم قالوا لشيء صنعه اللّه تعالى: ألا صنع خلاف الذي صنع، أو وجدوا ذلكَ في قلوبهم، لكانوا بذلك مشركين، ثم تلا قوله تعالى:( فَلا وربِّكَ لا يؤمنونَ حتى يُحكّموكَ فِيمَا شَجرَ بينهم ثُم لا يَجِدوا فِي أنفُسِهم حَرَجاً مِما قَضيتَ ويُسلِّموا تَسلِيماً ) (٢) ، ثم قال أبو عبد اللّهعليه‌السلام وعليكم بالتسليم»(٣) .

وهكذا الأمر بالنسبة إلى سنة أهل البيتعليهم‌السلام الذين أذهبَ اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فهي الامتداد الشرعي لسنة النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والسبيل المتمم للشوط الذي بدأ بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد دلَّ عليها الكتاب الكريم، ودلَّت عليها السنة النبوية الشريفة.

وفي الحقيقة ان منصب الامامة الذي يتقلده أهل البيتعليهم‌السلام منصب يتأهل له

____________________

(١) محمد بن يعقوب الكليني، الاصول من الكافي، ج: ١، باب: الاخذ بالسنة.، ح: ٦، ص: ٧٠.

(٢) النساء: ٦٥.

(٣) أبو جعفر البرقي، المحاسن، ج: ١، باب: تصديق رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ح: ٣٧١، ص: ٤٢٣.

٢٠

المعصوم عن طريق النص، ليكمل مسيرة النبوة، وشوط الرسالة، ويتحمل اعباءَها بأمانة واخلاص، ولا يصح بحكم العقل أن يترك النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امته من دون ولي وقيِّم عليها، وقد ورد النص بتعيين الولي من بعد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القرآن الكريم في عدة مواضع اتفق على شأن نزولها الفريقان وذكروها بالطرق الصحيحة المعتبرة في كتب الحديث، منها قوله تعالى:

( إنّما وَليكمُ اللّهُ وَرسولُهُ وَالذينَ آمنُوا الذِينَ يُقيمُونَ الصَّلاة وَيؤتونَ الزَّكاةَ وَهُم رَاكعونَ ) (١) .

وقوله تعالى:( أطِيعُوا اللّهَ وَأطِيعوا الرَّسولَ وَاولي الأَمر مِنكم ) (٢) .

وقوله تعالى:( إنمَا يُريدُ اللّهُ لِيُذهبَ عَنكمُ الرّجسَ أَهلَ الَبيتِ ويطهّركُم تطهيراً ) (٣) .

وأما السنة، فقد طفحت الكتب الحديثية منها بالروايات المتواترة والمستفيضة على لسان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقام تعيين الولي من بعده، والوصية الصريحة له بالخلافة،

____________________

(١) المائدة: ٥٥، انظر للاطلاع على سبب نزول الآية: (علي في الكتاب والنسة) لحين الشاكري، ج: ١، ص: ٩٥ - ١٠٣، نقلاً عن السيوطي في تفسير الدر المنثور، ج: ٢٠، ص: ٢٩٣، والرازي في تفسيره، ج: ٢، ص: ٦١٨، والزمخشري في تفسيره، ج: ١، ص: ١٥٤، والبيضاوي في تفسيره، ص:١٥٤، والنيسابوري في تفسير غرائب القرآن، ج: ٢، ص: ٨٢، وغير ذلك من المصادر.

ولمزيد من التفصيل راجع (احقاق الحق)، ج: ٢، ص: (٣٩٩ - ٤٠٨).

(٢) النساء: ٥٩، انظر (علي في الكتاب والسنة)، ج: ١، ص: ٧٩ - ٨٠، نقلاً عن (شواهد التنزيل) للحاكم الحسكاني، ج: ١، ص: ١٤٨ - ١٥٢، وغيره من المصادر.

ولمزيد من التفصيل راجع: (احقاق الحق)، ج: ٣، ص: ٤٢٤، وج: ١٤، ص: ٣٤٨ - ٣٥٠.

(٣) الاحزاب: ٣٣، انظر (علي في الكتاب والسنة)، ج: (١، ص: ٤١١ - ٤٢٤) نقلاً عن الترمذي في (الجامع الصحيح)، ج: ٥، ص: ٣٥١، ح: ٣٢٠٥ و ص: ٣٥٢، ح: ٣٢٠٦، وص: ٦٦٣، ح ٣٧٨٧، وص: ٦٩٩، ح: ٣٨٧١، وفي مسند أحمد بن حنبل، ج: ١، ص: ٣٣٠، و ج: ٤، ص: ١٠٧. والطبراني في المعجم الصغير ج: ١، ص: ٦٥ و ١٣٤، وتاريخ بغداد، ج: ٩، ص: ١٢٦، وفي فتح الباري ج: ٧، ص: ٦٠ وفي الاصابة ج: ٢ ص: ١٦٩ و ٥٠٣، و ج: ٤، ص: ٣٦٦، وغير ذلك من الكتب الحديثية المعتبرة عند ابناء العامة فضلاً عن مصادرنا المتواترة بهذا الشأن.

٢١

وبيان منزلة أهل البيتعليهم‌السلام ، وأنهم أولى الناس بالرسالة، وأجدرهم بحملها، والحث الاكيد على اتباعهم، والتمسك بسيرتهم، والسير على هداهم، وبيَّنت ان هذا الامر من تمام النعمة وكمال الدين، فقرنهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وخلَّفهم شهداء على الامة، وادلاء على الطريق، من خلال جملة كبيرة من الاحاديث التي جاءت بها كتب الفريقين، ونحن نذكر من بين هذه الاحاديث الكثيرة التي دلَّت على تعيين الولي من بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثةَ أحاديث فقط على سبيل المثال، ونشير إلى بعض مصادرها في كتب العامة:

١ - حديث الدار : روى ابن الاثير والطبري وغيرهما من المؤرخين عن عليعليه‌السلام ما مفاده: انّه لما نزل قوله تعالى:( وَأَنذِر عَشيرَتكَ الأَقربِينَ ) (١) أمَرَ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياًعليه‌السلام أن يصنع صاعاً من الطعام، ويجعل عليه رجل شاة، ويملأ عساً من لبن، ويجمع بني عبد المطلب، وهم يومئذٍ أربعونَ رجلاً، يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب.

فاجتمعوا وأكلوا وشربوا، وبعد ان انتهوا أراد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكلمهم إلا انَّ أبا لهب قاطعه، وتفرَّق القوم.

فدعاهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرةً اُخرى، وصنع لهم ما صنع في المرة الاولى، ثم تكلم وقال:

يا بني عبد المطلب اني واللّه ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني اللّه تعالى أن أدعوكم إليه، فايكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟

فاحجم القوم عنها جميعاً، - يقول عليعليه‌السلام - قلت وانّي لأحدثهم سناً، وأرمصهم

____________________

(١) الشعراء: ٢١٤.

٢٢

عيناً، واعظمهم بطناً، وأحمشهم ساقاً:

أنا يا نبي اللّه اكون وزيرك عليه.

فأخذ برقبتي ثم قال:

إنَّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا.

فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمركَ أن تسمع لابنكَ وتطيع»(١) .

٢ - حديث الثقلين : قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«اني تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي، احدهما أعظم من الآخر: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما»(٢) .

٣ - حديث الغدير : روي عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند نزول قوله تعالى:( يَا أيُّها الرَّسولُ بَلِّغ مَا اُنزِلَ إليكَ مِن ربِّكَ وإِن لم تَفعل فَمَا بَلَّغتَ رِسالتهُ واللّهُ يَعصمُك مِن الناس. ) (٣) أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ بيد عليعليه‌السلام عند غدير خم، بعد العودة من حجة الوداع قائلاً أمام حشود المسلمين الذين كانوا يرافقونه المسير:

أيها الناس ألست أولى منكم بأنفسكم؟

قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال:

____________________

(١) ابن الاثير، الكامل في التاريخ، ج: ٢ ص: ٦٢ - ٦٣، والطبري، تاريخ الطبري، ج: ٢، ص: ٦٢ - ٦٣.

انظر لمزيد من التفصيل مصادر الحديث في احقاق الحق، ج: ٣، ص: ٥٦٢، و(علي في الكتاب والسنة) للشاكري، ج: ١، ص: ٢٠٤ - ٢٠٦.

(٢) محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، سنن الترمذي، تحقيق: أحمد محمد شاكر، المجلد الخامس، ص: ٦١٢، ح: ٣٧٨٦. المتقي الهندي في كنز العمال، ج: ١، ص: ٣٨١، ح: ١٦٥٧.

وقد أخرج الحفّاظ والمحدّثون هذا الحديث بطرق كثيرة صحيحة، حتى ناهز عدد رواته من الصحابة بضعة وثلاثين صحابياً وصحابية، راجع للتفصيل مجلة (رسالة الثقلين)، العدد الرابع، ص: (١١٢ - ١١٩).

(٣) المائدة: ٦٧.

٢٣

مَن كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهمَّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، وانصر مَن نصره، واخذل مَن خذله، وأدرِ الحقَّ معه كيفما دار.»(١) .

والاحاديث في هذا المجال متواترة وكثيرة، وقد ذكرتها الكتب المختصة بهذا الشأن، وأما الاحاديث التي حدَّدت هوية أهل البيتعليهم‌السلام ، وذكرت عددهم، وشخصتهم من بين المسلمين، فهي مذكورة في مظانها أيضاً، وسنأتي على قسمٍ منها في لاحق دراستنا هذه إن شاء اللّه تعالى.

وبهذا تتظافر نظرة الاسلام إلى جميع جوانب الوجود وأبعاده، ويبقى التشريع الالهي ملازماً لحياة الانسان، ضمن دائرة الغيب، وفي اطار الاستلهام المباشر وغير المباشر من السماء، فالطريق المباشر يتمثل بسنة النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الذي اختصه اللّه تعالى بالوحي، وتميَّز بذلك دون أهل البيتعليهم‌السلام ، فقد قال تعالى بشأن نبيه الكريم:( وَمَا ينطقُ عَنِ الهَوى* إن هُوَ إلا وَحي يُوحى ) (٢) .

وقال تعالى على لسان نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إن اتَّبعُ إلا مَا يُوحى إليَّ وَمَا أنا إلا نذِير مُّبِين ) (٣) .

والطريق غير المباشر هو سنة أهل البيتعليهم‌السلام فقد جاءَ عن ابي عبد اللّه الصادقعليه‌السلام أنه قال:

____________________

(١) حديث الغدير أشهر من أن يشار بشأنه إلى مصدر معيَّن، ودونَك موسوعة (الغدير في الكتاب والسنة) للعلامة الاميني، وانظر مدارك الحديث الغفيرة من كتب أبناء العامة في (احقاق الحق)، ج: ٢، ص: ٤١٥ - ٤٦٦، وقد ذكر السيّد محسن الامين في أعيان الشيعة ان مجموع ما اُلف في موضوع الغدير من السنة والشيعة قد بلغ ستاً وعشرين مؤلفاً.

(٢) النجم: ٣ - ٤.

(٣) الاحقاف: ٩.

٢٤

«حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحديث رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قول اللّه عزَّ وجلَّ»(١) .

وورد عن سماعة أنه قال: قلت لابي الحسن موسىعليه‌السلام : أكلّ شيء في كتاب اللّه وسنة نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو تقولونَ فيه؟ قالعليه‌السلام :

«بل كلُّ شيءٍ في كتاب اللّه وسنة نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(٢) .

وعن قتيبة أنه قال: سأل رجل أبا عبد اللّهعليه‌السلام عن مسألةٍ فأجابه فيها، فقال الرجل: أرأيتَ ان كان كذا وكذا ما يكون القول فيها؟ فقالعليه‌السلام له:

«مَه، ما أجبتك فيه من شيء فهو عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لسنا من: (أرأيتَ) في شيء»(٣) .

وروي عن محمّد بن حكيم أنه قال للامام الصادقعليه‌السلام : جعلتُ فداك أتى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما يكتفون به؟ فقالعليه‌السلام :

«أتى رسول اللّه بما استغنوا به في عهده، وبما يكتفون به من بعده إلى يوم القيامة، قال: قلت:

ضاع منه شيء؟ فقالعليه‌السلام :

لا هو عند أهله»(٤) .

____________________

(١) زين الدين العاملي، منية المريد في آداب المفيد والمستفيد، ص: ١٩٤.

(٢) محمد بن يعقوب الكليني، الاصول من الكافي، ج: ١، باب: الرد إلى الكتاب والسنة، ح: ١٠، ص: ٦٢.

(٣) محمد بن يعقوب الكليني، الاصول من الكافي، ج: ١، باب: البدع والرأي والمقائيس، ح: ٢١، ص: ٥٨.

(٤) محمد باقر المجلسي، بحار الانوار، ج: ٢، باب: ٣٤، ح: ٤٩، ص: ٣٠٥.

٢٥

الخطوط الأساسية لحصانة التشريع

إنَّ ثوابت الشريعة الاسلامية التي بُنيت على أساس كون التشريع امراً توفيقياً ومستمداً من خصوص المصادر الاساسية التي تقدمت الاشارة اليها، لا تسمح مطلقاً بورود أيَّ لونٍ من ألوان التشريع من خارج هذا الاطار، لأنَّ مثل هذا التشريع الدخيل يُعد خرقاً للحصانة المنيعة التي تقف وراء سرِّ ديمومة التشريع، وبقائه واستمراره إلى حيث الشوط الاخير في هذهِ الحياة، مما يؤدّي في النتيجة إلى إحداث فجوات خطيرة، وشروخ عميقة، في هذا الغطاء الذي يؤطّر الاحكام الشرعية المقدسة، ويحيط بها، ويصونها عن نفوذ الرؤية القاصرة التي تسبب حدوث المسخ والتشويه والتحريف.

وقد ضمن المولى سبحانه وتعالى توفير هذه الحصانة لكتابه العزيز، وصيانته من التحريف والتبديل والتغيير، ومخالطة الباطل له، حيث يقول:

( إنّا نَحنُ نَزَّلنا الذِكرَ وإنَّا لَهُ لَحافظُون ) (١) .

ويقول تعالى:( وَانَّه لكِتاب عَزيز* لا يَأتيهِ البَاطلُ مِن بَينِ يَديهُ وَلا مِن خَلفهِ تَنزيل مِن حَكيمٍ حَميدٍ ) (٢) .

كما امرَ المولى سبحانه وتعالى نبيَّه الكريم أيضاً أن يشدد على هذا المعنى، ويؤكّد عليه بشأن السنة النبوية، ويعالج هذا الأمر بما يتناسب مع حجمه وخطورته من تنبيه وتأكيد وتذكير، فورد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته الطاهرينعليهم‌السلام سيل متدفق من

____________________

(١) الحجر: ٩.

(٢) فصلت: ٤١ - ٤٢.

٢٦

الاحاديث، وحشد كبير من التوصيات التي اتجهت مضامينها نحو توفير هذا الضمان، وتهيئة الأجواء الملائمة له، عبر خطوط أساسية أهمها ما يلي:

الخط الأول: شمولية التشريع

يتمثل الخط الاول من خطوط الحصانة للتشريع الالهي ببيان أنَّ الشريعة الاسلامية شريعة خاتمة لجميع الشرائع السماوية السابقة، حيث انَّ تلك الشرائع كانت شرائع مؤقتة ومحدودة ضمن الظرف الذي عاشت فيه، على الرغم من انها كانت تتفق في الخطوط الرئيسية العامة، وتشتمل على قواسم دينية مشتركة في طريق هداية البشرية نحو السعادة والفضيلة، وتسير بالانسان في رحلة تكاملية تهيؤه لاستقبال الشريعة الاسلامية الخاتمة وتعدّه لها.

وبهذا فانَّ الشريعة الاسلامية تتميز عن الشرائع السماوية السابقة بانها شريعة شاملة ومستوعبة لجميع مستجدات الواقع وضروراته واحتياجاته، وان الخطوط العامة الواردة في الكتاب العزيز، والتفاصيل المترامية المذكورة في الحديث الشريف، كافية لأن تغطّي هذه الحاجة مهما تقدَّم الزمن بالانسان وارتقى فيه، فما من واقعة تمرّ بالانسان وتطرأ في حياته المتواصلة إلا ولها حكم في الكتاب العزيز أو سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته الطاهرينعليهم‌السلام .

وبما انَّ هذه السنة مستلهمة ومستوحاة من عموميات الكتاب الكريم، فيكون الكتاب في النتيجة هو الدستور الذي يشتمل على كل تفاصيل الحياة وأحكامها ضمن اطاراته العامة وأحكامه الكلية، فلا يبقى مع هذا أيّ مجال لورود القوانين الوضعية البشرية في قبال التشريع الالهي المقدس، ما دامت الشريعة الاسلامية تغطّي كل مساحة التطبيق، وتتناول كل جزئيات الحياة.

٢٧

يقول اللّه تعالى بشأن شمولية الكتاب الكريم:

( ما فرَّطنَا فِي الكِتابِ مِن شَيءٍ ) (١) .

ويقول تعالى:( وَكل شَيءٍ فَصَّلناهُ تَفصِيلاً ) (٢) .

ويقول تعالى:( . مَا كَانَ حَديثاً يُفترَى وَلَكن تَصدِيقَ الذِي بَينَ يَديهِ وَتفصِيلَ كُل شَيءٍ وَهُدىً وَرحَمةً لِقَومٍ يُؤمنونَ ) (٣) .

ويقول تعالى:( وَنَزَّلنَا عَلَيَكَ الكِتَابَ تِبياناً لِكُلِ شَيءٍ وَهُدىً وَرحمةً وَبُشرَى لِلمُسلِمينَ ) (٤) .

وورد عن ابي عبد اللّه الصادقعليه‌السلام بهذا الصدد أنه قال:

«إنَّ اللّه عزَّ وجلَّ أنزل في القرآن تبياناً لكل شيء، حتى واللّه ما يستطيع عبد أن يقول: لو كان في القرآنِ هذا، إلا وقد أنزله اللّه فيه»(٥) .

وعنهعليه‌السلام أنه قال:

«إنَّ اللّه أنزل عليكم كتابه الصادق البار، فيه خبركم، وخبر ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وخبر السماء، وخبر الارض، فلو أتاكم مَن يخبركم بذلك لعجبتم»(٦) .

وعنهعليه‌السلام أنه قال:

«إذا حدثتكم بشيء فاسألوني عنه من كتاب اللّه، ثم قال في بعض حديثه: انَّ رسول اللّهعليه‌السلام نهى عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال، فقيل له: يا ابن رسول اللّه أين هذا من كتاب اللّه؟ قال: إنِّ اللّه عزَّ وجلَّ يقول:( لا خَيرَ فِي كَثِيرٍ مِن

____________________

(١) الانعام: ٣٨.

(٢) الاسراء: ١٢.

(٣) يوسف: ١١١.

(٤) النحل: ٨٩.

(٥) أبو جعفر البرقي، المحاسن، ج: ١: باب: أنزل اللّه في القرآن تبياناً لكل شيء، ح: ٣٥٨، ص: ٤١٦.

(٦) أبو جعفر البرقي، المحاسن: ج: ١، باب: أنزل اللّه في القرآن تبياناً لكل شيء، ح: ٣٥٩، ص: ٤١٦.

٢٨

نَّجوَاهُم إلا مَن أمَرَ بصَدقةٍ أو مَعروفٍ أو إِصلاحٍ بَينَ النَّاس ) (١) وقال: ( وَلا تُؤتُوا السُّفهاءَ أَموالكُم الَّتي جَعَلَ اللّهُ لَكُم قِياماً ) (٢) ، وقال:( لا تَسألوا عَنْ أَشياءَ إِن تُبدَ لَكمْ تَسؤكُمْ )(٤) .

وبالنظر لهذه السعة والشمولية في مفردات الكتاب العزيز نرى أنه لا يزداد مع تقدم الزمن ونموه إِلا حداثة وطراوة، وان القارئ له والمتأمل فيه يشعر وكأنَّه قد نزل في العصر الذي هو فيه، فلا تتحجم مفرداته مع سعة الحياة وكثرة تعقيداتها، ولا تتراخى تعاليمه عن مواكبة المسيرة الانسانية الحثيثة. فقد ورد عن الامام الرضاعليه‌السلام عن ابيه موسى بن جعفرعليه‌السلام قال:

«إنَّ رجلاً سأل أبا عبد اللّه الصادقعليه‌السلام : ما بال القرآن لا يزداد مع النشر والدرس إلا غضاضةً؟ فقالعليه‌السلام : إنَّ اللّه تبارك وتعالى لم يجعله لزمانٍ دونَ زمان، ولناسٍ دونَ ناس، فهو في كلِّ زمانٍ جديد، وعند كلِّ قومٍ غضّ إلى يوم القيامة»(٥) .

وعن عليعليه‌السلام أنه قال في صفة القرآن:

«لا تخلقه كثرة الرد وولوج السمع»(٦) .

وورد عن الامام الرضاعليه‌السلام في نفس المعنى أنه قال:

«لا يخلق من الأزمنة، ولا يغثّ على الألسنة، لانَّه لم يجعل لزمان دونَ زمان، بل جُعل دليل البرهان، وحجة على كلِّ اسنان، لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه،

____________________

(١) النساء: ١١٤.

(٢) النساء: ٥.

(٣) المائدة: ١٠١.

(٤) محمد بن يعقوب الكليني، الاصول من الكافي، ج: ١، باب: الرد إلى الكتاب والسنة، ح: ٥، ص: ٦٠.

(٥) محمد باقر المجلسي، بحار الانوار، ج: ٢، كتاب: العلم، باب: ٣٢، ح: ٤٤، ص: ٢٨٠.

(٦) نهج البلاغة: خ / ١٥٦.

٢٩

تنزيل من حكيم حميد»(١) .

وتتمتع السنة الشريفة الواردة عن النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته الطاهرينعليهم‌السلام بنفس ما يتمتع به الكتاب الكريم من شمولية واستيعاب، باعتبار الملازمة الثابتة بينهما، وعدم امكانية تصور وفاء احدهما بدوره دون الآخر، فالكتاب يشتمل على عموميات التشريع، والسنة تضطلع بتفصيل عموميات الكتاب الكريم، فقد قال تعالى موضحاً هذه الملازمة:

( وَأنَزلنا إِليكَ الذّكرَ لِتبَيِّنَ لِلنَّاس مَا نُزِّل إِليهِم. ) (٢) .

وجاءَ عن عبد الرحمن بن يزيد:

«أنَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى محرماً عليه ثيابه، فنهى المحرم، فقال: ائتني بآية من كتاب اللّه تنزع ثيابي، قال: فقرأ عليه:( وَمَا آتَاكمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه وَما نَهاكم عَنهُ فَانتَهوا ) (٣) »(٤) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال في خطبته عند حجة الوداع:

« يا أيها الناس واللّه ما من شيء يقربكم من الجنة، ويباعدكم من النار، إلا وقد أمرتكم به، وما من شيء يقربكم من النار، ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه.»(٥) .

وعن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام :

«انَّه أتاه رجل بمكة، فقال له: يا محمّد بن علي أنت الذي تزعم انه ليس شيء إلا

____________________

(١) محمد باقر المجلسي، بحار الانوار، ج: ٨٩، باب: فضل القرآن واعجازه، ح: ٦، ص: ١٤.

(٢) النحل: ٤٤.

(٣) الحشر: ٧.

(٤) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج: ١، ص: ٣٧.

(٥) محمد بن يعقوب الكليني، الاصول من الكافي، ج: ١، باب: الطاعة والتقوى، ح: ٢، ص: ٧٤.

٣٠

وله حدّ؟، فقال أبو جعفرعليه‌السلام : نعم أنا أقول: انه ليس شيء مما خلقَ اللّه صغيراً ولا كبيراً، إلا وقد جعل اللّه له حداً، إذا جوَّز به ذلك الحد فقد تعدّى حدَّ اللّه فيه، قال: فما حدُّ مائدتك هذه؟ قال: تذكر اسم اللّه حين توضع، وتحمد اللّهَ حين تُرفع، وتقمّ ما تحتها، قال: فما حدُّ كوزك هذا؟ قال: لا تشرب من موضع اُذنه، ولا من موضع كسره، فانه مقعد الشيطان، وإذا وضعته على فيكَ فاذكر اسم اللّه، وإذا رفعته عن فيكَ فاحمد اللّهَ، وتنفَّس فيه ثلاثة أنفاس، فإن النفس الواحدة يكره»(١) .

إلى غير ذلك من الاحاديث التي دلَّت على استيعاب سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيتهعليهم‌السلام لجميع أبعاد الحياة وشؤونها، وأنه ما من واقعة تخلو من حكمٍ شرعي خاصٍّ بها.

وفي الحقيقة انَّ أساس هذا الأمر ينشأ من كون الشريعة الاسلامية شريعة فطرية تنسجم مع واقع الفطرة الانسانية وتوجهاتها السليمة، وتلبي احتياجاتها الثابتة، وتعين المصالح والمفاسد الواقعية التي لا تتأثر بما يستجد ويتغيَّر من وقائع وأحداث.

وقد قام التشريع بتلبية هذه الحاجة عن طريق تقنين القواعد والانظمة الثابتة التي يُلزم الانسان بامتثالها مهما تغيَّرت الظروف من حوله، كوجوب الصلاة والصوم، وحرمة الخمر والزنا. وما إلى ذلك من أحكام أساسية ثابتة في الشريعة.

كما تمَّ أيضاً تشخيص المناطق المرنة في التشريع، والتي يتمكن (الولي) في نطاقها من التحرك والانتقال من حكمٍ شرعي الى، آخر حكمٍ شرعي وتشخيص الموقف الشرعي ضمن اطارات تلك الاحكام الثابتة، والعمل نحو تحقيق أهدافها العامة، من خلال الاستناد إلى العموميات والقواعد التي هيأتها الشريعة لمختلف الأحداث في ظل شروط وقيود معينة.

____________________

(١) أبو جعفر البرقي، المحاسن، ج: ١، باب التحديد، ح: ٣٨٩، ص: ٤٢٨.

٣١

ويسمى النحو الأول من التشريع ب(التشريع الالهي)، وأما النحو الثاني فيسمى ب(التشريع الولائي).

وفي الحقيقة ان (التشريع الولائي) مكمِّل ومتمم ل(التشريع الالهي)، لأنَّه يقوم بمواكبة الموارد التطبيقية ل‍(الأحكام الالهية) والمحافظة على أهداف الشريعة الثابتة، من باب تقديم الأهداف وتزاحم الملاكات، وذلك نتيجة لاختلاف الظروف والأحوال التي يمرّ بها الانسان، فتتكامل بذلك نظرة الدين إلى الحياة، ولا يبقى أي فراغ في التشريع.

ولا شك في انَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيتهعليهم‌السلام يمتلكون حق (التشريع الولائي) باعتبار أنَّ وظيفتهم الدينية تحتم ذلك وتستلزمه.

وبما انَّ الشريعة الاسلامية مستمرة ومتواصلة بالانسان إلى آخر نقطة في هذهِ الحياة، فقد أوكل النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيتهعليهم‌السلام هذهِ المهمة من بعدهم إلى العلماء، وخوّلوا أمر (التشريع الولائي) اليهم، باعتبار انهم الامناء على الدين، والحاملون لمهامه وأعبائه، والعارفون بتفاصيل التشريع، والقادرون على استنباط الاحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، بعد مرحلة الادراك الواعي للتشريع، والفهم المعمَّق لجميع أبعاده وحدوده.

وقد اشترطت النصوص الاسلامية مواصفات دقيقة وحساسة فيمن يقدَّر له أن يتصدّى لملء دائرة الفراغ، كأن يكون حافظاً لدينه، صائناً لنفسه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه(١) ، وعلى أن تكون هذه الممارسة ضمن الاطار العام للاحكام الواقعية الثابتة.

ومن الجدير بالذكر انَّ هذه المرونة في التشريع لا تعني اكثر من الانتقال من دائرة المباحات العامة إلى دائرة الالزامات (فعلاً أو تركاً)، بعد تشخيص المصلحة الاسلامية

____________________

(١) أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج: ج ٢ / ح: ٣٣٧، ص ٥١١ من حديث للامام الحسن العسكريعليه‌السلام .

٣٢

العليا المنسجمة مع الأحكام الالهية الثابتة.

يقول العلامة السيد (محمّد حسين الطباطبائيرحمه‌الله ) موضحاً هذهِ الفكرة: (فكرة الحكم الولائي):

«مثلما يستطيع أحد أفراد المجتمع الاسلامي - نتيجة للحقوق التي يحصل عليها عن طريق القانون الديني - أن يغير محيط حياته الخاصة بالشكل الذي يرغب فيه (بالطبع في ظل التقوى وشريطة مراعاة القانون)، ويستطيع أن يستخدم ماله وثروته في تحسين معيشته من مأكل وملبس ومسكن وما إلى ذلك من امور أخرى، أو غض النظر عن جزءٍ منها، ويستطيع كذلك الدفاع عن حقوقه المشروعة أمام أي اعتداء وادعاء، والمحافظة على وجوده في الحياة، أو التخلي عن الدفاع فيما إذا اقتضت المصلحة، وغض النظر عن جزءٍ من ماله وثروته، وكما يستطيع أن يبذل النشاطات لضمان حاجاته، بل والعمل ليلاً ونهاراً، أو التخلي عن عمله والقيام بعمل آخر حسب ما يراه صحيحاً، فانَّ لولي أمر المسلمين - الذي يُعيَّن طبقاً للقوانين الاسلامية، وله ولاية عامة في نطاق حكومته - الحق في القيام بما يراه مناسباً في محيط الحياة العامة، فهو يستطيع في ظل التقوى ومراعاة الاحكام الدينية الثابتة، أن يضع مثلاً قوانين خاصة بالطرق والمعابر، والدور، والاسواق، ووسائط النقل، وللبضائع، والمسافرين وعلاقات طبقات الناس ببعضها، ويستطيع كذلك أن يأمر بالدفاع في يومٍ ما أو التخلي عن الدفاع إذا كانت في ذلك مصلحة، أو توقيع معاهدات مفيدة.

إنه يستطيع اتخاذ قرارات في مجال تطوير الثقافة الخاصة بالدين أو بالحياة الرغيدة للناس، ويبذل نشاطات مكثفة في هذا المجال، كما يستطيع في يومٍ ما أن يغض النظر عن بعض، ويحض على دراسة علوم وغيرها.

وخلاصة القول: إنَّ وضع أية قوانين جديدة تعود بالفائدة على المجتمع، وتنتهي

٣٣

لصالح الاسلام والمسلمين، هو من اختصاص ولي الأمر، وليست هناك أية محدودية في وضع مثل هذه القوانين أو تطبيقها، وبديهي انَّ مثل هذه القوانين وان كانت لازمة التنفيذ كما ينص الاسلام على ذلك، ويتعين على الفقيه العمل بها وتطبيقها، فهي لازمة الاطاعة، ومع ذلك لا تعد شريعة الهية، لانَّ قيمة مثل هذهِ القوانين تتوقف - بالطبع - على الوضع الذي يتطلب تشريعها، فهي تذهب حال انتفاء المصلحة، وفي هذه الاثناء يعلن ولي الامر السابق، أو ولي الامر الجديد عن القوانين الجديدة للناس، وينسخ القوانين السابقة».

ويضيف موضحاً خصائص (الاحكام الالهية):

«وغير أنَّ الاحكام والقوانين الالهية التي تعتبر من اصول الشريعة، فهي قائمة وثابتة دائماً، ولا يحق لأيٍّ كان حتى ولي الأمر أن يغيرها تبعاً لتغير الازمان، أو يلغيها نظراً لانتفاء الحاجة لبعضها»(١) .

وقد نقل لنا التاريخ حصول موارد عديدة لهذا النوع من الاحكام في حياة النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته الطاهرينعليهم‌السلام .

ومما ورد في ذلك انَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد منعَ في ظروف خاصة إجارة الارض، ونهى المسلمين عن ذلك، فروي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال: «مَن كانت له أرض فليزرعها، فان لم يستطع أو عجز عنها فليمنحها أخاه، ولا يؤاجرها»(٢) .

فمن الواضح انَّ اجارة الارض جائزة من وجهة نظر الفقه الاسلامي، وانَّ الحكم الاولي قد دل على ذلك بشكل قاطع، إلا انَّ النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد استعمل في هذا المورد

____________________

(١) الطاهري الخرّم آبادي، بين ولاية الفقيه وحكم الشعب، ص: ٢٥ - ٢٧، عن كتاب الاسلام والحاجات الواقعية لكل عصر، للعلامة الطباطبائي، ص: ٥١ - ٥٣.

(٢) أحمد بن حنبل، مسند الامام أحمد بن حنبل، ج: ٣، ص: ٣٠٢، ح: ١٣٨٣٠، وص: ٣٠٤، ح: ١٣٨٥٧، ص: ٣٥٤ ح: ١٤٣٩٩، وفي مواضع عديدة اُخر.

٣٤

صلاحيته الخاصة، وانتقل من دائرة الجواز إلى دائرة التحريم، من أجل المحافظة على حالة التوازن الاجتماعي بين المسلمين، ولما كان يمرُّ به المهاجرون آنذاك من ألوان الفاقة والعوز.

ولعلَّ خير ما جسَّد هذا التشخيص الولائي في حياة علماء مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام ، وأظهر من خلال ذلك قوة التشريع وعظمة شوكته. هو الفتوى الشهيرة للميرزا محمّد حسن الشيرازي، المعروف بالميرزا الشيرازي المجدد الكبير (١٣١٢ هجري)، في عام ١٨٩١ م، والتي حرَّم فيها استعمال التنباك والتتن بأي نحوٍ كان، في الوقت الذي منح فيه ملك ايران (ناصر الدين شاه) امتيازاً لشركة التنباك الانجليزية، يسمح لها فيه باحتكار التنباك وبيعه لمدة (٥٠) عاماً، مما يؤدي إلى إحداث أضرار فادحة بالمزارعين والتجار وعامة الناس.

وقد أدَّت هذهِ الفتوى إلى مقاطعة شاملة من قبل الايرانيين للتدخين، واغلاق جميع محلات بيع التبغ، الأمر الذي اضطرَّ الحكومة إلى استرداد حق الامتياز(١) .

فكما لا يخفى انَّ التدخين مباح بالحكم الشرعي الاولي، إلا انَّ المرجع الديني الأعلى قد قدَّر ضرورة الحكم بحرمة استعماله بأي نحو كان، حفاظاً على كرامة المسلمين، ومصالح الاسلام العليا، وأهدافه الرفيعة السامية.

من خلال هذا كله ندرك شمولية التشريع الاسلامي لكل وقائع الحياة، وانتفاء الحاجة إلى أي تشريع آخر يضع نفسه أمام التشريع الالهي الخالد.

____________________

(١) محسن الأمين، أعيان الشيعة ج: ٤، ص: ٢١٥.

٣٥

الخط الثاني: سعة دائرة الحلال

عمدت الشريعة الاسلامية إلى توسعة المساحة التي يمكن للانسان أن يتحرك في حدودها خارج اطار الالزام الشرعي إلى أقصى حدٍّ ممكن، عن طريق اطلاق عنان المكلف في الامور التي لم تبيَّن له، ولم يرده بشأنها دليل أو بيان خاص:

قال تعالى:( وَمَا كُنّا مُعذّبِينَ حَتّى نَبعثَ رَسُولاً ) (١) .

وقال تعالى:( لا يُكلّفُ اللّهُ نَفساً إلا مَا آتَاهَا ) (٢) .

وورد في الحديث عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنَّه قال:

«الحلال ما أحلَّ اللّهُ في كتابه، والحرام ما حرَّمَ اللّه في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه»(٣) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال:

«انَّ اللّه فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدَّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرَّم أشياء فلا تقربوها، وترك أشياء عن غير نسيانٍ فلا تبحثوا عنها»(٤) .

وعن أي عبد اللّه الصادقعليه‌السلام أنه قال:

«وما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»(٥) .

وعن عبد الاعلى بن أعين قال:

«سألتُ أبا عبد اللّهعليه‌السلام عمَّن لم يعرف شيئاً هل عليه شيء؟ قال: لا»(٦) .

وعنهعليه‌السلام أنه قال:

«كل شيءٍ فيه حلال وحرام فهو لكَ حلال أبداً حتى تعرف الحرام منه بعينه

____________________

(١) الاسراء: ١٥.

(٢) الطلاق: ٧.

(٣) ابن الأثير، جامع الاصول في أحاديث الرسول، ج: ٧، ح: ٥٥٤٢، ص: ٤٥٤.

(٤) ابن الاثير جامع الاصول في أحاديث الرسول، ج: ٥، ح: ٣٠٧٠، ص: ٥٩.

(٥) أبو جعفر الصدوق، التوحيد، باب ٦٤: التعريف والبيان، ح: ٩، ص: ٤١٣.

(٦) أبو جعفر الصدوق، التوحيد، باب: ٦٤ التعريف والبيان، ح: ٨، ص: ٤١٢.

٣٦

فتدعه»(١) .

وعنهعليه‌السلام :

«إنَّ اللّه عزَّ وجلَّ احتجَّ على الناس بما آتاهم وما عرَّفهم»(٢) .

وفي الحقيقة انَّ الافعال المباحة قد تنشأ في واقع الامر من ملاكات اقتضائية، فتكون رغبة المولى سبحانه وتعالى متوجهة إلى اطلاق عنان المكلف فيها، وعدم تعامله معها على نمط التعامل مع الاحكام الالزامية.

من هنا نرى ان الشريعة الاسلامية تحافظ دائماً على توفير هذا الجو الاختياري للملكف، وتكييف العوامل الملائمة له، لكي يتوازن السلوك الانساني، ولا يتعرض إلى التخلخل والاضطراب، ويروى: أنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صنع شيئاً ترخَّص فيه، وتنزه عنه القوم، فحمد اللّه ثم قال:

«ما بالُ أَقوامٍ يرغبونَ عمَّا رُخِّصَ لي فيهُ فواللّهِ لأَنا أَعلمُهُم باللّهِ وأشدُّهُم لَه خشيَةً»(٣) .

وقد دعى الاسلام من خلال اصوله ومبانيه الثابتة إلى أن يأخذ الانسان نصيبه من الحياة الدنيا، عن طريق الممارسات المحللة، والتصرفات المشروعة، وأكّد على ضرورة أن يستوفي كلُّ عضوٍ من أعضاء الانسان حظه من الراحة والاستجمام، وأن تُعطى النفس حقَّها من الالتذاذ والتنعم بما أباحه اللّه لعباده، قال تعالى:

( قُل مَن حَرَّمَ زِينةَ اللّهِ الَّتي أَخرَجَ لِعبادِهِ وَالطيِّباتِ مِنَ الرِزقِ قُل هِي للذينَ آمَنوا فِي الحَياةِ الدُّنيَا خالِصةً يَومَ القِيامةِ. ) (٤) .

____________________

(١) الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج: ١٢، باب: عدم جواز الانفاق من الكسب الحرام، ح: ١، ص: ٥٩.

(٢) أبو جعفر الصدوق، التوحيد، باب: ٦٤، ح: ٢، ص: ٤١٠.

(٣) مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي، ج: ١٥، ص: ١٠٦.

(٤) الاعراف: ٣٢.

٣٧

وفي واقع الأمر انَّ هذه التوسعة تعبِّر عن واحدٍ من أهم المقومات الاساسية التي تساهم في إثراء حركة التكاملية نحو اللّه تعالى، واعطائها صورة متكافئة، لا تتحجم في الجانب العبادي الخاص وتذوب فيه إلى درجة الانهماك التام، ولا تنساب مع الملاذ من دون قيود وحدود، ولذا نرى انَّ الاسلام يشجب حالة الرهبنة والانعزال عن المجتمع، ويحارب ظاهرة القسوة بحق النفس الانسانية، وتحميلها المشاق والصعوبات، ويوجِّه الانسان بدلاً عن ذلك نحو السلوك المتوازن الذي يحفظ حق اللّه وحقّ النفس معاً، ولا ينأى عن الحياة الاجتماعية إلى حيث الاذكار والاوراد والعبادات الخالية من روح النفع والعطاء.

وقد ورد في هذا الشأن:

«أنَّ ثلاثة رهط جاؤوا إلى بيوت أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسألون عن عبادتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلما اُخبروا كأنَّهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر؟ فقال أحدهم: أما أنا فانّي اصلّي الليل أبداً، وقال الآخر: اني أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: اني اعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما واللّهِ إني لأخشاكم للّه وأتقاكم له، لكنّي أصوم وافطر، واصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنّتي فليس مني».

وجاء عن الامام الرضاعليه‌السلام أنه قال:

«إنَّ امرأةً سألت أبا جعفرعليه‌السلام فقالت: أصلحك اللّه اني متبتّلة، فقال لها: وما التبتّل عندكِ؟ قالت: لا اُريد التزويج أبداً، قال: ولمَ؟ قالت: ألتمس في ذلك الفضل، فقال: انصرفي فلو كان في ذلك فضل لكانت فاطمةعليها‌السلام أحق به منكِ، انه ليس أحد يسبقها إلى

____________________

(١) البخاري، صحيح البخاري، ج: ٧، كتاب النكاح، ح: ١، ص: ١١٦.

٣٨

الفضل»(١) .

إلى غير ذلك من الاحاديث التي شجبت ظاهرة الانزواء والرهبنة والانعزال عن المجتمع البشري، والتي سنأتي على شطرٍ منها في لاحق دراستنا هذه إن شاء اللّه تعالى.

ومن أجل تحقيق هذه التوسعة، وخدمة هذه الغاية، نلاحظ أنَّ الشريعة تؤكّد أيضاً على ترك الالحاح في السؤال، والتكلّف في الاستقصاء، وقد أوصت المسلمين بأن يتركوا الامور تأخذ مجاريها الطبيعية، لأنَّ نفس الانسان قد تنزع إلى البحث عن تفاصيل الاحكام وجزئياتها، وتغرق في السؤال عن ذلك من باب التنصل، أو التعجيز، أو الاختبار، أو التسامح. أو غير ذلك من الاغراض والغايات، وغالباً ما نرى أنه عندما ينكشف للانسان واقع الأمر يبدأ بمحاولة التهرّب من أدائه، والتنصل من القيام بواجب اللّه تعالى فيه، ولذا نرى أنَّ الشريعة الاسلامية من باب الرحمة بالانسان والارفاق به قد نهته عن تكلّف الامور واستقصائها، وأمرته بالاكتفاء بما يحصل عليه من الطرق الطبيعية الجارية، لأنَّ الشارع لو كان يريد الزيادة على ما هو موجود لبيَّن تلك الزيادة إلى الناس، ولو كانت هناك ضرورة لأن يرتكب الانسان سلوكاً خاصاً في حياته على نحو الالزام أو ما دون ذلك لما كان يجدر بالشريعة أن تتهاون في توضيحه وبيانه، فما سكتت عنه الشريعة ولم تتطرق له من قريب أو من بعيد فهو عفو، لا يؤمر الانسان بالتحرّي عنه، والالحاح في متابعته.

من هنا نرى أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول:

«اتركوني ما تركتكم فإذا حدثتكم فخذوا عنّي، فانما هلكَ مَن كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم»(٢) .

____________________

(١) أبو جعفر الطوسي، أمالي الشيخ الطوسي، ص: ٣٨٠.

(٢) الترمذي، سنن الترمذي، ج: ٥، كتاب العلم، باب: ١٧، ح: ٢٦٧٩، ص: ٤٥ - ٤٦.

٣٩

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال:

«إنّ اعظم المسلمين في المسلمين جرماً مَن سأل عن أمرٍ لم يُحرَّم فحُرِّم على الناس من أجل مسألته».

إنَّ كل ما تقدَّم انما هو ناشئ من كون الشريعة الاسلامية شريعة سهلة سمحاء، لا تضييق فيها على المرء ولا قهر ولا اكراه.

وقال تعالى:( يُريدُ اللّهُ بِكمُ اليُسرَ وَلا يُريدُ بِكُمُ العُسرَ ) .

وقال تعالى:( يُريدُ اللّهُ أنُ يُخففَ عَنكُم وَخُلقَ الإِنسانُ ضَعِيفاً ) .

وقال تعالى:( يَا أيُّها الذِينَ آمنوا لا تُحرِّموا طَيباتِ مَا أحلَّ اللّهُ لَكم وَلا تَعتدُوا إنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ المُعتدينَ* وَكلوا مِمَّا رَزَقكمُ اللّهُ حلالاً طَيباً وَاتقُوا اللّهَ الَّذي أَنتُم بِهِ مُؤمنونَ ) .

وقال تعالى:( الَّذينَ يَتبعُون الرَّسُول النَّبي الأُمي الَّذي يَجدُونهُ مَكتُوباً عِندَهم فِي التَّوراةِ وَالانجَيلِ يَأمرُهم بَالمَعروفِ وَينَهاهم عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيحرِّمُ عَليهِم الخبائث وَيَضعُ عَنهُم إصرَهُم وَالاغلالَ الَّتي كَانت عَليهم. ) .

وفي الحديث عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال:

«اني لم اُبعث باليهودية ولا بالنصرانية، ولكن بُعثت بالحنيفيّة المسحة».

وعن أبي جعفرعليه‌السلام عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال:

«إنَّ هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولا تكرهوا عبادة اللّه إلى عباد اللّه،

____________________

(١) أبو داود، سنن أبي داود، ج: ٤، باب: لزوم السنّة، ح،: ٤٦١٠، ص: ٢٠١.

(٢) البقرة: ١٨٥.

(٣) النساء: ٢٨.

(٤) المائدة: ٨٧ - ٨٨.

(٥) الاعراف: ١٥٧.

(٦) أحمد بن حنبل، مسند أحمد بن حنبل، ج: ٥، ح: ٢١٧٨٨، ص: ٢٦٦.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610