البدعة

البدعة6%

البدعة مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 610

البدعة
  • البداية
  • السابق
  • 610 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 155484 / تحميل: 9175
الحجم الحجم الحجم
البدعة

البدعة

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

ضمنته أكنانُ القلوب وغيابات الغيوب(١٤) ، وما أصغت لاستراقه مصائِخُ الاسماع(١٥) ، ومصائف الذرِّ(١٦) ومشاتي الهوام(١٧) ، ورجع الحنين من المولهات(١٨) ، وهمس الأقدام(١٩) ، ومنفسح الثمرة من ولائج غلف الاكمام(٢٠) ، ومنقمع الوحوش من غيران الجبال وأوديتها(٢١) ، ومختبأ البعوض بين سوق الأشجارِ وألحيتها(٢٢) ، ومغرزِ الأوراقِ من الأفنانِ(٢٣) ، ومحط الامشاج من مسارب الأصلاب(٢٤) ، وناشئة الغيومِ ومتلاحمها، ودرور قطر السحاب في متراكهما، وما تسفى الأعاصيرُ بذُيولها(٢٥) ، وتعفُو الأمطارُ بسيولها(٢٦) ، وعوم نبات الارض في كثبان الرمال(٢٧) ، ومستقرِّ ذواتِ الاجنحة بذرى شناخيب الجبالِ(٢٨) ، وتغريدِ ذوات المنطق في دياجيرِ الأوكارِ(٢٩) ، وما أوعبتهُ الأصدافُ(٣٠) ،

____________________

(١٣) جمع مسرق مكان مسارقة النظر أو زمانها أو البواعث عليها أو فلان يسارق فلاناً النظر أي ينتظر منه غفلة فينظر إليه. والايماض: اللمعان وهو أحق أن ينسب إلى العيون لا إلى الجفون، ونسبته إلى الجفون لانه ينبعث من بينها.

(١٤) ضمنته: حوته، والاكنان: جمع كن كل ما يستتر فيه. وغيابات الغيوب: أعماقها.

(١٥) استراق الكلام: استماعه خفية، والمصائخ: جمع مصاخ مكان الاصاخة وهو ثقبة الآذان.

(١٦) صغار النمل، ومصائفها: محل اقامتها في الصيف، وهو وما بعده عطف على ضمائر المضمرين.

(١٧) مشاتيها محل إقامتها في الشتاء.

(١٨) الحزينات، ورجع الحنين ترديده.

(١٩) الهمس: أخفى ما يكون من صوت القدم على الأرض.

(٢٠) منفسح الثمرة: مكان نموها، الولائج: جمع وليجة بمعنى البطانة: الداخلية. والغلف: جمع غلاف. والاكمام: جمع كم بالكسر وهو غطاء النوار ووعاء الطلع.

(٢١) منقمع الوحوش: موضع انقماعها أي اختفائها. والغيران: جمع غار.

(٢٢) سوق: جمع ساق أسفل الشجرة تقوم عليه فروعها. والالحية: جمع لحاء قشر الشجرة.

(٢٣) الغصون.

(٢٤) الامشاج: النطف. سميت أمشاجاً - جميع مشيج - من مشج إذا خلط، لانها مختلطة من جراثيم مختلفة كل منها يصلح لتكوين عضو من أعضاء البدن، ومسارب الاصلاب: ما يتسرب المني فيها عند نزوله أو عند تكونه.

(٢٥) سفت الريح التراب: ذرته أو حملته. والاعاصير: جمع إعصار ريح تثير السحاب أو تقوم على الأرض كالعمود.

(٢٦) تعفو: تمحو.

(٢٧) الكثبان: جمع كثيب: التل.

(٢٨) الذرى جمع ذروة: أعلى الشيء. والشناخيب: رؤوس الجبال.

(٢٩) تغريد الطائر: رفع صوته بالغناء وهو نطقه. والدياجير: جمع ديجور، وهو الظلمة.

(٣٠) أوعبته: جمعته.

٥٤١

وحضنت عليهِ أمواجُ البحارِ(١) ، وما غشيته سدفة ليلٍ(٢) أو ذرَّ عليه شارقُ نهارٍ(٣) ، وما اعتقبت عليهِ أطبقُ الدَّياجيرِ(٤) ، وسبحاتُ النورِ، وأثرِ كلِّ خطوةٍ، وحسِّ كل حرِّكةٍ ورجعِ كلّ كلمةٍ، وتحريكِ كلَّ شفةٍ، ومستقرِّ كُلِّ نسمَةٍ، ومثقالِ كلِّ ذرَّةٍ، وهماهم كل نفسِّ هامةٍ(٥) ، وما عليها من ثمرِ شجرةٍ(٦) ، أو ساقط ورقةٍ أو قرارةِ نطفةٍ(٧) أو نقاعةِ دَمٍ ومُضغةٍ(٨) ، أو ناشئةِ خلقٍ وسلالَةٍ، لم تلحقهُ في ذلك كلفةٌ، ولا اعترضتهُ في حفظ ما ابتدعهُ من خلقه عارضةٌ(٩) ، ولا اعتورتهُ في تنفيذ الامور وتدابير المخلوقين ملالةٌ ولا فترةٌ(١٠) ، بل نفذ فيهم علمهُ، وأحصاهُم عدهُ، ووسعهم عدلُهُ، وغمرهُم فضلهُ مع تقصيرِهم عن كنهِ ما هو أهلهُ.

اللَّهُمَّ أنتَ أهلُ الوصف الجميل، والتعداد الكثير(١١) ، إن تؤمَّل فخيرُ مؤمَّلٍ، وإن تُرج فأَكرَمُ مرجوٍّ، اللَّهم وقد بسطت لي فيما لا أمدحُ به غيركَ، ولا أثني به على أَحدٍ سوَاكَ، ولا أُوجِّهه إلى معادن الخيبة ومواضع الريبةِ(١٢) ، وعدلتُ بلساني عن مدائحِ الآدميين، والثناءِ على المربوبينَ المخلُوقينَ، اللَّهم ولكُلِّ مُثنٍ على من أثنى عليهِ مثوبةٌ(١٣) من جزاءٍ أو عارفةٌ من عطاءٍ، وقد رجوتك دليلاً على ذخائرِ الرحمةِ وكنوزِ المغفرةِ، اللَّهم وهذا مقامُ من أفردكَ بالتوحيد الَّذي هو لكَ ولم ير مُستحقّاً لهذه المحامدِ

____________________

(١) حضنت عليه: ربته فتولد في حضنها كالعنبر ونحوه.

(٢) سدفة ظلمة.

(٣) ذر طلع.

(٤) اعتقبت: تعاقبت وتوالت، والاطباق: الاغطية. والدياجير: الظلمات، وسبحات النور: درجاته وأطواره.

(٥) هماهم: هموم مجاز من الهمهمة ترديد الصوت في الصدر من الهم.

(٦) عليها أي على الأرض.

(٧) قرارتها: مقرها.

(٨) نقاعة عطف على نطفة. ونقاعة الدم ما ينقع منه في أجزاء البدن، والمضغة: عطف على نقاعة أي يعلم مقر جميع ذلك.

(٩) هي ما يعترض العامل فيمنعه عن عمله.

(١٠) اعتورته: تداولته وتناولته.

(١١) المبالغة في عدِّ كمالاتك إلى ما لا ينتهي.

(١٢) هم المخلوقون.

(١٣) ثواب وجزاء.

٥٤٢

والممادحِ غيرك، وبي فاقةٌ إليكَ لا يجبر مسكنتها إلا فضلُكَ، ولا ينعشُ من خلَّتها إلا منُّك وجودك(١) ، فهب لنا في هذا المقامِ رضاكَ، وأغننا عن مدِّ الأيدي إلى سواك، إنَّك على كلَّ شيء قديرٌ.

____________________

(١) الخلة بالفتح الفقر. والمن: الاحسان.

٥٤٣

الملحق الثاني : احتجاج(١) الامام الصادقعليه‌السلام مَعَ الزنديق الذي سأله عن

معرفة اللّه وصفاته ومسائل دينية اخرى

جاءَ في الاحتجاج:

ومن سؤال الزنديق الذي سأل أبا عبد اللّهعليه‌السلام عن مسائل كثيرة أن قال: كيف يعبد اللّه الخلق ولم يروه؟

قال: رأته القلوب بنور الإيمان، وأثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب وإحكام التأليف، ثم الرسل وآياتها والكتب ومحكماتها، واقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته.

قال: أليس هو قادراً أن يظهر لهم حتّى يروه فيعرفوه فيعبد على يقين؟ قال: ليس للمحال جواب.

قال: فمن أين أثبت أنبياء ورسلاً؟

قالعليه‌السلام : إنّا لما أثبتنا أنَّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيماً، لم يجز أن يشاهده خلقه، ولا أن يلامسوه، ولا أن يباشرهم ويباشروه

____________________

(١) نُقل نص الحديث عن الاحتجاج، ج: ١، ح: ٢٢٣، ص: ٢١٢ - ٢٥٠، بتحقيق الشيخ إبراهيم البهادري والشيخ محمد هادي به واشراف الشيخ جعفر السبحاني، وما ثبت في الهامش من شروح وتوضيحات يعود للنسخة المذكورة من الكتاب، وجاء في هامش الكتاب عن الرواية ما نصه:

إنّ هذه الرواية من أطول أحاديث الكتاب، ولم نجدها بتمامها في مصدر واحد، ولكنّها توجد متفرّقة في أبواب مختلفة من كتب الحديث. يقول العلامة المجلسيرحمه‌الله في بحار الأنوار ١٠ / ١٨٨ بعد نقل الحديث: «هذا الخبر وان كان مرسلاً لكن أكثر أجزائه أوردها الكليني والصدوق متفرّقة في المواضع المناسبة لها، وسياقه شاهد صدق على حقيته».

٥٤٤

ويحاجهم ويحاجوه، ثبت أن له سفراء في خلقه وعباده، يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم، وما به بقاؤهم، وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه، وثبت عند ذلك أن له معبرِّين وهم الأنبياء وصفوته من خلقه، حكماء مؤدبين بالحكمة، مبعوثين عنه، مشاركين للنّاس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب، مؤيّدين من عند الحكيم العليم، بالحكمة والدلائل والبراهين والشّواهد: من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والابرص، فلا تخلو الأرض من حجّة يكون معه علم يدل على صدق مقال الرسول ووجوب عدالته.

ثم قالعليه‌السلام - بعد ذلك -: نحن نزعم انَّ الأرض لا تخلو من حجّة، ولا تكون الحجّة إلا من عقب الأنبياء، وما بعث اللّه نبيّاً قطّ من غير نسل الأنبياء، وذلك انّ اللّه شرع لبني آدم طريقاً منيراً، وأخرج من آدم نسلاً طاهراً طيباً، أخرج منه الأنبياء والرسل، هم صفوة اللّه، وخلص الجوهر، طهروا في الأصلاب، وحفظوا في الأرحام، لم يصبهم سفاح الجاهلية، ولا شاب أنسابهم، لأنَّ اللّه عزّ وجلّ جعلهم في موضع لا يكون أعلى درجة وشرفاً منه، فمن كان خازن علم اللّه، وأمين غيبه، ومستودع سرّه، وحجّته على خلقه، وترجمانه ولسانه، لا يكون إلا بهذه الصّفة، فالحجّة لا تكون إلا من نسلهم، يقوم مقام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخلق بالعلم الذي عنده وورثه عن الرسول، إن جحده الناس سكت، وكان بقاء ما عليه الناس قليلاً مما في أيديهم من علم الرسول على اختلافٍ منهم فيه، قد أقاموا بينهم الرأي والقياس، وإنّهم إن أقرّوا به وأطاعوه وأخذوا عنه، ظهر العدل، وذهب الاختلاف والتشاجر، واستوى الأمر، وأبان الدين، وغلب على الشك اليقين، ولا يكاد أن يقر الناس به ولا يطيعوا له، أو يحفظوا له بعد فقد الرسول، وما مضى رسول ولا نبي قط إلا وقد تختلف أُمته من بعده، وإنَّما كان علّة اختلافهم خلافهم على الحجة وتركهم إيّاه.

قال: فما يصنع بالحجة إذا كان بهذه الصفة؟

٥٤٥

قالعليه‌السلام : قد يقتدى به ويخرج عنه الشيء بعد الشيء مكانه منفعة الخلق وصلاحهم، فان أحدثوا في دين اللّه شيئاً أعلمهم، وإن زادوا فيه أخبرهم، وإن نقصوا منه شيئاً أفادهم.

ثم قال الزنديق: من أي شيء خلق اللّه الأشياء؟ قالعليه‌السلام : من لا شيء.

فقال: كيف يجيء من لا شيء شيء؟

قالعليه‌السلام : إنَّ الأشياء لا تخلو أن تكون خلقت من شيء أو من غير شيء، فان كانت خُلقت من شيء كان معه، فإنّ ذلك الشيء قديم، والقديم لا يكون حديثاً، ولا يفنى ولا يتغير، ولا يخلو ذلك الشيء من أن يكون جوهراً واحداً ولوناً واحداً، فمن أين جاءَت هذه الألوان المختلفة، والجواهر الكثيرة الموجودة في هذا العالم من ضروب شتّى؟ ومن أين جاء الموت إن كان الشّىء الذي اُنشئت منه الأشياء حيّاً؟ ومن أين جاءت الحياة إن كان ذلك الشيء ميتاً؟ ولا يجوز أن يكون من حيّ وميت قديمين لم يزالا، لأنَّ الحي لا يجيء منه ميت وهو لم يزل حيّاً، ولا يجوز أيضاً أن يكون الميت قديماً لم يزل بما هو به من الموت، لأنَّ الميت لا قدرة له ولا بقاء.

قال: فمن أين قالوا إنَّ الأشياء أزلية؟

قالعليه‌السلام : هذه مقالة قوم جحدوا مدبِّر الأشياء، فكذَّبوا الرسل ومقالتهم، والأنبياء وما أنبأوا عنه، وسموا كتبهم أساطير، ووضعوا لأنفسهم ديناً بآرائهم واستحسانهم، إنَّ الأشياء تدل على حدوثها، من دوران الفلك بما فيه، وهي تسعة أفلاك وتحرك الأرض ومن عليها، وانقلاب الأزمنة، واختلاف الوقت، والحوادث التي تحدث في العالم من زيادة ونقصان، وموت وبلاء، واضطرار النفس إلى الإقرار بأنَّ لها صانعاً ومدبّراً، أما ترى الحلو يصير حامضاً، والعذب مرّاً، والجديد بالياً، وكلٌّ إلى تغير وفناء؟!

قال: فلم يزل صانع العالم عالماً بالأحداث التي أحدثها قبل أن يحدثها؟

٥٤٦

قالعليه‌السلام : فلم يزل يعلم فخلق ما علم.

قال: أمختلف هم أم مؤتلف؟

قالعليه‌السلام : لا يليق به الاختلاف ولا الايتلاف، إنّما يختلف المتجزي، ويأتلف المتبعض، فلا يُقال له: مؤتلف ولا مختلف.

قال: فكيف هو اللّه الواحد؟

قالعليه‌السلام : واحد في ذاته، فلا واحد كواحد، لأنَّ ما سواه من الواحد متجزي، وهو تبارك وتعالى واحد لا يتجزى، ولا يقع عليه العدّ.

قال: فلأي علّة خلق الخلق وهو غير محتاج إليهم، ولا مضطر إلى خلقهم، ولا يليق به التعبث بنا؟.

قالعليه‌السلام : خلقهم لإظهار حكمته، وإنفاذ علمه، وإمضاء تدبيره.

قال: وكيف لا يقتصر على هذه الدار فيجعلها دار ثوابه ومحتبس عقابه؟

قالعليه‌السلام : إنَّ هذه الدار دار ابتلاء، ومتجر الثواب، ومكتسب الرحمة، ملئت آفات، وطبقت شهوات، ليختبر فيها عبيده بالطاعة، فلا يكون دار عمل دار جزاء.

قال: أفمن حكمته أن جعل لنفسه عدواً، وقد كان ولا عدو له، فخلق كما زعمت «إبليس»، فسلّطه على عبيده يدعوهم إلى خلاف طاعته، ويأمرهم بمعصيته وجعل له من القوة كما زعمت، يصل بلطف الحيلة إلى قلوبهم، فيوسوس إليهم فيشككهم في ربهم، ويلبس عليهم دينهم، فيزيلهم عن معرفته، حتى أنكر قوم لمّا وسوس إليهم ربوبيته وعبدوا سواه، فَلم سلط عدوه على عبيده، وجعل له السّبيل إلى إغوائهم؟

قالعليه‌السلام : إنَّ هذا العدو الذي ذكرت لا تضره عداوته، ولا تنفعه ولايته، وعداوته لا تنقص من ملكه شيئاً، وولايته لا تزيد فيه شيئاً، وإنّما يتّقى العدو إذا كان في قوة يضر وينفع، إن همّ بملك أخذه، أو بسلطان قهره، فأمّا إبليس فعبد، خلقه ليعبده ويوحّده، وقد علم حين خلقه ما هو وإلى ما يصير إليه، فلم يزل يعبده مع ملائكته حتّى

٥٤٧

امتحنه بسجود آدم، فامتنع من ذلك حسداً، وشقاوة غلبت عليه فلعنه عند ذلك، وأخرجه عن صفوف الملائكة، وأنزله إلى الأرض ملعوناً مدحوراً فصار عدو آدم وولده بذلك السبب، وما له من السلطنة على ولده إلا الوسوسة، والدعاء إلى غير السبيل، وقد أقر مع معصيته لربّه بربوبيته.

قال: أفيصلح السّجود لغير اللّه؟

قالعليه‌السلام : لا.

قال: فكيف أمر اللّه الملائكة بالسّجود لآدم؟

فقال: إنَّ من سجد بأمر اللّه فقد سجد للّه، فكان سجوده للّه إذا كان عن أمر اللّه تعالى.

قال: فمن أين أصل الكهانة، ومن أين يخبر النّاس بما يحدث؟

قالعليه‌السلام : إنَّ الكهانة كانت في الجاهلية، في كل حين فترة من الرسل، كان الكاهن بمنزلة الحاكم يحتكمون إليه فيما يشتبه عليهم من الأمور بينهم، فيخبرهم عن أشياء تحدث، وذلك من وجوه شتّى: فراسة العين، وذكاء القلب، ووسوسة النفس، وفتنة الرّوح، مع قذف في قلبه، لأنَّ ما يحدث في الأرض من الحوادث الظاهرة: فذلك يعلم الشيطان ويؤديه إلى الكاهن، ويخبره بما يحدث في المنازل والأطراف.

وأمّا أخبار السماء، فإنَّ الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع إذ ذاك، وهي لا تحجب، ولا ترجم بالنجوم، وإنّما منعت من استراق السّمع، لئلا يقع في الأرض سبب يشاكل الوحي من خبر السماء، ويلبس على أهل الأرض ما جاءهم عن اللّه، لإثبات الحجّة، ونفي الشبهة، وكان الشيطان يسترق الكلمة الواحدة من خبر السماء بما يحدث من اللّه في خلقه، فيختطفها، ثم يهبط بها إلى الأرض، فيقذفها إلى الكاهن، فإذا قد زاد كلمات من عنده، فيخلط الحقّ بالباطل، فما أصاب الكاهن من خبر ممّا كان يخبر به، فهو ما أداه إليه شيطانه ممّا سمعه، وما أخطأ فيه، فهو من باطل ما زاد فيه، فمذ منعت

٥٤٨

الشياطين عن استراق السمع انقطعت الكهانة، واليوم إنّما تؤدي الشياطين إلى كهانها أخباراً للنّاس ممّا يتحدّثون به، وما يحدثونه، والشّياطين تؤدي إلى الشياطين ما يحدث في البعد من الحوادث من سرق، ومن قاتل قتل، ومن غائب غاب، وهم بمنزلة (أمثال) الناس أيضاً، صدوق وكذوب.

قال: فكيف صعدت الشّياطين إلى السّماء، وهم أمثال النّاس في الخلقة والكثافة وقد كانوا يبنون لسليمان بن داودعليهما‌السلام من البناء ما يعجز عنه ولد آدم؟

قالعليه‌السلام : غلظوا لسليمان كما سخروا وهم خلق رقيق، غذاؤهم النسيم، والدليل على ذلك صعودهم إلى السّماء لاستراق السمع، ولا يقدر الجسم الكثيف على الارتقاء إليها إلا بسلّم أو بسبب.

قال: فأخبرني عن السحر ما أصله، وكيف يقدر السّاحر على ما يُوصف من عجائبه، وما يفعل؟

قالعليه‌السلام : إنَّ السّحر على وجوه شتّى: وجه منها: بمنزلة الطبّ، كما أنّ الأطباء وضعوا لكل داء دواء، فكذلك علم السّحر، احتالوا لكل صحة آفة، ولكل عافية عاهة، ولكل معنى حيلة.

ونوع منه آخر: خطفة وسرعة ومخاريق وخفّة.

ونوع منه: ما يأخذ أولياء الشّياطين عنهم.

قال: فمن أين علم الشّياطين السّحر؟

قالعليه‌السلام : من حيث عرف الأطباء الطبّ، بعضه تجربة وبعضه علاج.

قال: فما تقول في الملكين: هاروت وماروت؟ وما يقول النّاس بأنّهما يعلّمان النّاس السحر؟

قالعليه‌السلام : إنّهما موضع ابتلاء وموقف فتنة، تسبيحهما: اليوم لو فعل الإنسان كذا وكذا لكان كذا، ولو يعالج بكذا وكذا لصار كذا، أصناف السّحر، فيتعلمون منهما ما

٥٤٩

يخرج عنهما، فيقولان لهم: إنَّما نحن فتنة فلا تأخذوا عنّا ما يضرّكم ولا ينفكم.

قال: أفيقدر السّاحر أن يجعل الإنسان بسحره في صورة الكلب أو الحمار أو غير ذلك؟

قالعليه‌السلام : هو أعجز من ذلك، وأضعف من أن يغيِّر خلق اللّه، إنَّ من أبطل ما ركّبه اللّه وصوره وغيَّره فهو شريك اللّه في خلقه، تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً، لو قدر السّاحر على ما وصفت لدفع عن نفسه الهرم والآفة والأمراض، ولنفي البياض عن رأسه والفقر عن ساحته، وإنَّ من أكبر السحر النميمة، يفرّق بها بين المتحابين، ويجلب العداوة على المتصافيين، ويسفك بها الدماء، ويهدم بها الدور ويكشف بها الستور، والنّمام أشرّ من وطئ الأرض بقدم، فأقرب أقاويل السحر من الصّواب أنّه بمنزلة الطب، إنَّ السّاحر عالج الرجل فامتنع من مجامعة النَّساء فجاء الطبيب فعالجه بغير ذلك العلاج، فأبرئ.

قال: فما بال ولد آدم فيهم شريف ووضيع؟ قال: الشريف المطيع، والوضيع العاصي.

قال: أليس فيهم فاضل ومفضول؟

قالعليه‌السلام : إنّما يتفاضلون بالتقوى.

قال: فتقول إنَّ ولد آدم كلّهم سواء في الأصل لا يتفاضلون إلا بالتقوى؟

قال:عليه‌السلام : نعم. إنِّي وجدت أصل الخلق التُّراب، والأب آدم والأم حواء، خلقهم إله واحد، وهم عبيده، إنَّ اللّه عزّ وجلّ اختار من ولد آدم أُناساً طهر ميلادهم، وطيَّب أبدانهم، وحفظهم في أصلاب الرجال وأرحام النِّساء، أخرج منهم الأنبياء والرسل، فهم أزكى فروع آدم، ما فعل ذلك لأمر استحقّوه من اللّه عزّ وجلّ ولكن علم اللّه منهم - حين ذرأهم - أنَّهم يطيعونه ويعبدونه ولا يشركون به شيئاً فهؤلاء بالطاعة نالوا من اللّه الكرامة والمنزلة الرفيعة عنده، وهؤلاء الذين لهم الشرف والفضل والحسب، وساير النّاس سواء، ألا من اتّقى اللّه أكرمه، ومن أطاعه أحبه، ومن أحبه لم يعذّبه بالنار!!

٥٥٠

قال: فأخبرني عن اللّه عزّ وجلّ كيف لم يخلق الخلق كلّهم مطيعين موحّدين وكان على ذلك قادراً؟

قالعليه‌السلام : لو خلقهم مطيعين لم يكن لهم ثواب، لأنَّ الطّاعة إذا ما كانت فعلهم لم تكن جنّة ولا نار، ولكن خلق خلقه فأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته، واحتج عليهم برسله، وقطع عذرهم بكتبه، ليكونوا هم الذين يطيعون ويعصون، ويستوجبون بطاعتهم له الثواب، وبمعصيتهم إيّاه العقاب.

قال: فالعمل الصّالح من العبد هو فعله، والعمل الشرّ من العبد هو فعله؟

قالعليه‌السلام : العمل الصالح من العبد بفعله واللّه به أمره، والعمل الشرّ من العبد بفعله واللّه عنه نهاه.

قال: أليس فعله بالآلة التي ركَّبها فيه؟

قالعليه‌السلام : نعم. ولكن بالآلة التي عمل بها الخير، قدر على الشرّ الذي نهاه عنه.

قال: فإلى العبد من الأمر شيء؟

قالعليه‌السلام : ما نهاه اللّه عنه شيء إلا وقد علم أنه يطيق تركه، ولا أمره بشيء إلا وقد علم أنه يستطيع فعله، لأنّه ليس من صفته الجور والعبث والظلم وتكليف العباد ما لا يطيقون.

قال: فمن خلقه اللّه كافراً أيستطيع الإيمان وله عليه بتركه الإيمان حجّة؟

قالعليه‌السلام : إنَّ اللّه خلق خلقه جميعاً مسلمين، أمرهم ونهاهم، والكفر اسم يلحق الفاعل حين يفعله العبد، ولم يخلق اللّه العبد حين خلقه كافراً، إنّه إنّما كفر من بعد أن بلغ وقتاً لزمته الحجّة من اللّه، فعرض عليه الحقّ فجحده، فبإنكاره الحقّ صار كافراً.

قال: أفيجور أن يقدر على العبد الشرّ، ويأمره بالخير وهو لا يستطيع الخير أن يعمله، ويعذّبه عليه؟

قالعليه‌السلام : إنَّه لا يليق بعدل اللّه ورأفته أن يقدر على العبد الشرّ ويريده منه، ثمّ

٥٥١

يأمره بما يعلم أنّه لا يستطيع أخذه، والانزاع عمّا لا يقدر على تركه، ثمّ يعذبه على تركه أمره الذي علم أنّه لا يستطيع أخذه.

قال: بماذا استحق الذين أغناهم وأوسع عليهم من رزقه الغناء والسعة، وبماذا استحق الفقير التقتير والضيق؟.

قالعليه‌السلام : اختبر الأغنياء بما أعطاهم لينظر كيف شكرهم، والفقراء بما منعهم لينظر كيف صبرهم.

ووجه آخر: انّه عجل لقوم في حياتهم، ولقوم آخر ليوم حاجتهم إليه.

ووجه آخر: فانّه علم احتمال كل قوم فأعطاهم على قدر احتمالهم، ولو كان الخلق كلّهم أغنياء لخربت الدنيا وفسد التدبير، وصار أهلها إلى الفناء، ولكن جعل بعضهم لبعض عوناً، وجعل أسباب أرزاقهم في ضروب الأعمال وأنواع الصناعات، وذلك أدوم في البقاء، وأصح في التدبير، ثم اختبر الأغنياء بالاستعطاف على الفقراء، كل ذلك لطف ورحمة من الحكيم الذي لا يُعاب تدبيره.

قال: فبما استحق الطفل الصغير ما يصيبه من الأوجاع والأمراض بلا ذنب عمله، ولا جرم سلف منه؟

قال: إنَّ المرض على وجوه شتّى: مرض بلوى، ومرض عقوبة، ومرض جعل علّة للفناء، وأنت تزعم أنَّ ذلك من أغذية رديّة، وأشربة وبية(١) ، أو علّة كانت بأُمه، وتزعم أنَّ مَن أحسن السياسة لبدنه، وأجمل النظر في أحوال نفسه، وعرف الضّار ممّا يأكل من النافع لم يمرض، وتميل في قولك إلى من يزعم أنَّه لا يكون المرض والموت إلا من المطعم والمشرب! قد مات ارسطاطاليس معلّم الأطباء، وافلاطون رئيس الحكماء، وجالينوس شاخ ودق بصره، وما دفع الموت حين نزل بساحته، ولم يألوا حفظ أنفسهم، والنظر لما يوافقها، كم من مريض قد زاده المعالج سقماً، وكم من طبيب عالم، وبصير بالأدواء

____________________

(١) من الوباء وهو المرض العامّ، ويعبّر عنه بالطاعون - مجمع البحرين.

٥٥٢

والأدوية ماهر، مات، وعاش الجاهل بالطب بعده زماناً، فلا ذاك نفعه علمه بطبّه عند انقطاع مدّته وحضور أجله، ولا هذا ضرّه الجهل بالطبّ مع بقاء المدّة وتأخر الأجل.

ثم قالعليه‌السلام : إنَّ أكثر الأطباء قالوا: إِنَّ علم الطب لم تعرفه الأنبياء، فما نصنع على قياس قولهم بعلم زعموا ليس تعرفه الأنبياء الذين كانوا حجج اللّه على خلقه، وأُمناءه في أرضه، وخزّان علمه، وورثة حكمته، والأدلاء عليه، والدّعاة إلى طاعته؟

ثم إنَّي وجدت أكثرهم يتنكب(١) في مذهبه سبل الأنبياء، ويكذّب الكتب المنزلة عليهم من اللّه تبارك وتعالى، فهذا الذي أزهدني في طلبه وحامليه.

قال: فكيف تزهد في قوم وأنت مؤدبهم وكبيرهم؟

قالعليه‌السلام : إنَّي لما رأيت الرجل الماهر في طبّه إذا سألته لم يقف على حدود نفسه، وتأليف بدنه، وتركيب أعضائه، ومجرى الأغذية في جوارحه، ومخرج نفسه، وحركة لسانه، ومستقر كلامه، ونور بصره، وانتشار ذكره، واختلاف شهواته، وانسكاب عبراته، ومجمع سمعه، وموضع عقله، ومسكن روحه، ومخرج عطسته، وهيج غمومه، وأسباب سروره، وعلّة ما حدث فيه من بكم وصمم وغير ذلك، لم يكن عندهم في ذلك أكثر من أقاويل استحسنوها، وعلل فيما بينهم جوّزوها.

قال: فأخبرني عن اللّه عزّ وجلّ أله شريك في ملكه، أو مضادّ له في تدبيره؟

قالعليه‌السلام : لا.

قال: فما هذا الفساد الموجود في هذا العالم: من سباع ضارية، وهوام مخوّفة، وخلق كثير مشوهة، ودود وبعوض وحيّات وعقارب، وزعمت أنّه لا يخلق شيئاً إلا لعلّة، لأنّه لا يعبث؟!

قالعليه‌السلام : ألست تزعم أنَّ العقارب تنفع من وجع المثانة والحصاة، ولمن يبول في الفراش، وأنَّ أفضل التزياق ما عولج من لحوم الأفاعي، فانَّ لحومها إذا أكلها المجذوم

____________________

(١) تَنَكّبَ: عدل - لسان العرب ١ / ٧٧٠.

٥٥٣

بِشبٍّ(١) نفعه، وتزعم أنَّ الدود الأحمر الذي يُصاب تحت الأرض نافع للآكلة؟ قال: نعم.

ثمَّ قالعليه‌السلام : فأمّا البعوض والبق فبعض سببه أنّه جُعل ارزاق بعض الطير، وأهان بها جباراً تمرد على اللّه وتجبر، وأنكر ربوبيته، فسلّط اللّه عليه أضعف خلقه ليريه قدرته وعظمته، وهي البعوضة فدخلت في منخره حتّى وصلت إلى دماغه فقتلته. واعلم أنا لو وقفنا على كل شيء خلقه اللّه تعالى لِمَ خلقه؟ ولأي شيء أنشأه؟ لكنّا قد ساويناه في علمه، وعلمنا كلّما يعلم واستغنينا عنه، وكنّا وهو في العلم سواء.

قال: فأخبرني هل يُعاب شيء من خلق اللّه وتدبيره؟ قالعليه‌السلام : لا.

قال: فإنَّ اللّه خلق خلقه غرلاً(٢) ، أذلك منه حكمة أو عبث؟

قالعليه‌السلام : بل حكمة منه.

قال: غيرتم خلق اللّه، وجعلتم فعلكم في قطع الغلفة أصوب ممّا خلق اللّه لها، وعبتم الأغلف واللّه خلقه، ومدحتم الختان وهو فعلكم. أم تقولون انَّ ذلك من اللّه كان خطأً غير حكمة؟!

قالعليه‌السلام : ذلك من اللّه حكمة وصواب، غير أنّه سنَّ ذلك وأوجبه على خلقه، كما أنّ المولود إذا خرج من بطن أُمّه وجدنا سرّته متصلة بسرة أُمة كذلك خلقها الحكيم فأمر العباد بقطعها، وفي تركها فساد بيِّن للمولود والأُمّ، وكذلك أظفار الإنسان أمَرَ إذا طالت أن تقلم، وكان قادراً يوم دبّر خلق الإِنسان أن يخلقها خلقة لا تطول، وكذلك الشَّعر من الشّارب والرّأس يطول فيجز، وكذلك الثيران خلقها اللّه فحولة واخصاؤها أوفق، وليس في ذلك عيب في تقدير اللّه عزّ وجلّ.

قال: ألست تقول: إنَّ اللّه تعالى قال:( أُدعُوني أَستَجِب لَكُم ) (٣) ، وقد نرى

____________________

(١) الشَّبُّ: دواء معروف، وقيل: الشب شيء يشبه الزاج - لسان العرب ١ / ٤٨٣.

(٢) الغرلة: مثل القفلة وزناً ومعنىً، وغرل غرلاً، من باب تعب: إذا لم يختن - المصباح ٢ / ١١٣.

(٣) غافر: ٦٠.

٥٥٤

المضطر يدعوه فلا يُجاب له، والمظلوم يستنصره على عدوه فلا ينصره؟

قالعليه‌السلام : ويحك! ما يدعوه أحد إلا استجاب له، أمّا الظّالم فدعاؤه مردود إلى أن يتوب إلى اللّه، وأمّا المحقّ فانّه إذا دعاه استجاب له، وصرف عنه البلاء من حيث لا يعلمه، أو ادخر له ثواباً جزيلاً ليوم حاجته إليه، وإن لم يكن الأمر الذي سأل العبد خيراً له إن أعطاه أمسك عنه، والمؤمن العارف باللّه ربّما عزّ عليهأن يدعوه فيما لا يدري أصواب ذلك أم خطأ، وقد يسأل العبد ربه إهلاك من لم تنقطع مدّته، ويسأل المطر وقتاً ولعّله أوان لا يصلح فيه المطر، لأنّه أعرف بتدبير ما خلق من خلقه، وأشباه ذلك كثيرة فافهم هذا.

قال: فأخبرني أيُّها الحكيم، ما بال السّماء لا ينزل منها إلى الأرض أحد، ولا يصعد من الأرض إليها بشر، ولا طريق إليها، ولا مسلك، فلو نظر العباد في كل دهر مرّة من يصعد إليها وينزل، لكان ذلك أثبت في الربوبيّة، وأنفى للشّك وأقوى لليقين، وأجدر أن يعلم العباد أنَّ هناك مدبّراً إليه يصعد الصاعد ومن عنده يهبط الهابط؟!

قالعليه‌السلام : إنَّ كل ما ترى في الأرض من التدبير إنَّما هو ينزل من السّماء، ومنها يظهر، أما ترى الشمس منها تطلع، وهي نور النّهار، ومنها قوام الدنيا ولو حبست حار من عليها وهلك، والقمر منها يطلع، وهو نور اللّيل، وبه يعلم عدد السنين والحساب، والشهور والأيام، ولو حبس لحار من عليها وفسد التدبير، وفي السّماء النجوم التي يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، ومن السّماء ينزل الغيث الذي فيه حياة كل شيء: من الزرع والنبات والأنعام وكل الخلق لو حبس عنهم لما عاشوا، والرِّيح لو حبست أيّاماً لفسدت الأشياء جميعاً وتغيّرت، ثمّ الغيم والرعد والبرق والصواعق، كل ذلك إنَّما هو دليل على أنَّ هناك مدبّراً يدبّر كل شيء ومن عنده ينزل، وقد كلّم اللّه موسى وناجاه، ورفع اللّه عيسى بن مريم والملائكة تنزل من عنده، غير أنّك لا تؤمن بما لم تره بعينك، وفيما تراه بعينك كفاية ان تفهم وتعقل.

٥٥٥

قال: فلو أنَّ اللّه تعالى ردّ إِلينا من الأموات في كل مائة عام واحداً لنسأله عمّن مضى منّا، إِلى ما صاروا وكيف حالهم، وماذا لقوا بعد الموت، وأي شيء صنع بهم، ليعمل النّاس على اليقين، واضمحل الشكّ، وذهب الغل عن القلوب.

قالعليه‌السلام : إنَّ هذه مقالة من أنكر الرسل وكذّبهم، ولم يصدق بما جاءوا به من عند اللّه، إِذا أخبروا وقالوا: إِنَّ اللّه أخبر في كتابه عزّ وجلّ على لسان أنبيائه، حال من مات منّا، أفيكون أحد أصدق من اللّه قولاً ومن رسله.

وقد رجع إِلى الدنيا ممّن مات خلق كثير، منهم «أصحاب الكهف» أماتهم اللّه ثلاثمائة عام وتسعة، ثم بعثهم في زمان قوم أنكروا البعث، ليقطع حجّتهم، وليريهم قدرته، وليعلموا أنَّ البعث حقّ.

وأمات اللّه «أرمياء» النّبيعليه‌السلام الذي نظر إِلى خراب بيت المقدس وما حوله حين غزاهم بخت نصَّر(١) ، وقال:( أنّى يُحييِ هذِهِ اللّهُ بَعدَ مَوتِها فَأماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عامٍ ) (٢) ثمّ أحياه ونظر إلى أعضائه كيف تلتئم، وكيف تلبس اللّحم، وإلى مفاصله وعروقه كيف توصل، فلمّا استوى قاعداً قال:( أعلَمُ أَنَ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ ) (٣) .

وأحيا اللّه قوماً خرجوا عن أوطانهم هاربين من الطاعون لا يحصى عددهم، فأماتهم اللّه دهراً طويلاً حتّى بليت عظامهم، وتقطعت أوصالهم، وصاروا تراباً، فبعث اللّه في وقت أحبّ أن يرى خلقه قدرته نبياً يُقال له: «حزقيل»(٤) فدعاهم فاجتمعت أبدانهم، ورجعت فيها أرواحهم، وقاموا كهيئة يوم ماتوا، لا يفقدون من أعدادهم رجلاً،

____________________

(١) قال الفيروزآبادي: بخت نصَّر بالتشديد، أصله: بوخت ومعناه: إبن، ونصَّر كبقَّم: صنم، وكان وُجد عند الصنم ولم يعرف له أب فنسب إليه، خرّب القدس! القاموس ٢ / ١٤٣.

(٢) البقرة: ٢٥٩.

(٣) نفس المصدر.

(٤) حزقل أو حزقيل، كزبرج وزنبيل: إسم نبي من الأنبياءعليهما‌السلام - القاموس ٣ / ٣٥٧.

٥٥٦

فعاشوا بعد ذلك دهراً طويلاً(١) .

وإنَّ اللّه أمات قوماً خرجوا مع موسىعليه‌السلام حين توجّه إلى اللّه عزّ وجلّ فقالوا:( أرِنَا اللّهَ جَهرَةً ) (٢) فأماتهم اللّه ثمّ أحياهم.

قال: فأخبرني عمّن قال بتناسخ الأرواح، من أيّ شيء قالوا ذلك، وبأيّ حجّة قاموا على مذاهبهم؟

قالعليه‌السلام : إنَّ أصحاب التناسخ قد خلفوا وراءهم منهاج الدِّين، وزيّنوا لأنفسهم الضلالات، وأمرجوا(٣) أنفسهم في الشهوات وزعموا أنَّ السماء خاوية ما فيها شيء مما يوصف، وأنَّ مدبر هذا العالم في صورة المخلوقين، بحجّة من روى أنَّ اللّه عزّ وجلّ خلق آدم على صورته، وأنّه لا جنّة ولا النار، ولا بعث ولا نشور، والقيامة عندهم خروج الروح من قالبه وولوجه في قالب آخر، إن كان محسناً في القالب الأول أُعيد في قالب أفضل منه حسناً في أعلى درجة من الدنيا، وان كان مسيئاً أو غير عارف صار في بعض الدواب المتعبة في الدنيا، أو هوام مشوهة الخلقة وليس عليهم صوم ولا صلاة، ولا شيء من العبادة أكثر من معرفة من تجب عليهم معرفته وكل شيء من شهوات الدنيا مباح لهم: من فروج النِّساء وغير ذلك من الأخوات والبنات والخالات وذوات البعولة.

وكذلك الميتة، والخمر، والدم، فاستقبح مقالتهم كل الفرق، ولعنهم كل الأمم، فلمّا سئلوا الحجّة زاغوا وحادوا، فكذّب مقالتهم التوراة، ولعنهم الفرقان، وزعموا مع ذلك أنَّ إلههم ينتقل من قالب إلى قالب، وأنَّ الأرواح الأزلية هي التي كانت في آدم، ثمّ هلمّ جرا تجري إلى يومنا هذا في واحد بعد آخر، فإذا كان الخالق في صورة المخلوق فبما يستدل على أنَّ أحدهما خالق صاحبه؟!

وقالوا: إِنَّ الملائكة من ولد آدم كل من صار في أعلى درجة من دينهم خرج من

____________________

(١) هذه القصّة مشهورة، انظر تفسير القمي ١ / ٨٠، وتفسير العيّاشي ١ / ١٣٠.

(٢) النساء: ١٥٣.

(٣) الُمَرْجُ: الموضع ترعى فيه الدواب وإرسالها للرعي، والخلط - القاموس ١ / ٢٠٧.

٥٥٧

منزلة الامتحان والتصفية فهو ملك، فطوراً تخالهم نصارى في اشياء، وطوراً دهرية يقولون: إِنَّ الأشياء على غير الحقيقة، فقد كان يجب عليهم أن لا يأكلوا شيئاً من اللحمان، لأنَّ الدوابّ كلّها عندهم من ولد آدم حولوا من صورهم، فلا يجوز أكل لحوم القرابات.

قال: ومن زعم أنّ اللّه لم يزل ومعه طينة مؤذية، فلم يستطع التفصي منها إلا بامتزاجه بها ودخوله فيها، فمن تلك الطينة خلق الأشياء!!

قالعليه‌السلام : سبحان اللّه وتعالى!! ما أعجز إِلهاً يوصف بالقدرة، لا يستطيع التفصي من الطينة! إن كانت الطينة حيّة أزلية، فكانا إلهين قديمين فامتزجا ودبّرا العالم من أنفسهما، فان كان ذلك كذلك، فمن أين جاء الموت والفناء؟ وإن كانت الطينة ميتة فلا بقاء للميت مع الأزلي القديم، والميت لا يجيء منه حي، وهذه مقالة الديصانية(١) ، أشدّ الزنادقة قولاً وأمهنهم مثلاً، نظروا في كتب قد صنّفتها أوائلهم، وحبروها لهم بألفاظ مزخرفة من غير أصل ثابت، ولا حجّة توجب إثبات ما ادّعوا، كلّ ذلك خلافاً على اللّه وعلى رسله وتكذيباً بما جاءوا به عن اللّه تعالى.

فأمّا من زعم أنَ الأبدان ظلمة، والأرواح نور، وأنَّ النُّور لا يعمل الشر والظلمة لا تعمل الخير، فلا يجب عليهم أن يلوموا أحداً على معصية، ولا ركوب حرمة، ولا إتيان فاحشة، وإنَّ ذلك على الظلمة غير مستنكر، لأنَّ ذلك فعلها ولا له أن يدعو ربّاً، ولا يتضرع إليه، لأنَّ النور ربّ، والرّب لا يتضرع إلى نفسه ولا يستعيذ بغيره، ولا لأحد من أهل هذه المقالة أن يقول: «أحسنت» يا محسن أو «أسأت»، لأنَّ الإساءة من فعل الظلمة وذلك فعلها، والإحسان من النور، ولا يقول النور لنفسه أحسنت يا محسن،

____________________

(١) قال الشهرستاني: أصحاب ديصان، أثبتوا أصلين: نوراً وظلاماً، فالنور يفعل الخير قصداً واختياراً، والظلام يفعل الشرّ طبعاً واضطراراً، فما كان من خير ونفع وطيب وحسن فمن النور، وما كان من شرٌ وضرر ونتن وقبح فمن الظلام. وزعموا أنّ النور حيّ، عالم، قادر، حسّاس، درّاك، ومنه تكون الحركة والحياة.

والظّلام ميّت، جاهل، عاجز، جماد، موات لا فعل له ولا تمييز.

وزعموا انَّ النور جنس واحد، وكذلك الظلام جنس واحد، وأنّ إدراك النور إدراك متفق فإنّ سمعه وبصره وسائر حواسه شيء واحد فسمعه هو بصره، وبصره هو حواسه. الملل والنحل: ١ / ٢٥٠. وانظر: بحار الأنوار: ٣/٢١١.

٥٥٨

وليس هناك ثالث، فكانت الظلمة على قياس قولهم، أحكم فعلاً وأتقن تدبيراً وأعزّ أركاناً من النور، لأنَّ الأبدان محكمة، فمن صور هذا الخلق صورة واحدة على نعوت مختلفة؟

وكل شيء يرى ظاهراً من الزهر والأشجار والثمار والطيور والدواب يجب أن يكون إلهاً، ثمّ حبست النور في حبسها والدولة لها، وأمّا ما ادعوا بأنَّ العاقبة سوف تكون للنور، فدعوى، وينبغي على قياس قولهم أن لا يكون للنور فعل، لأنه اسير، وليس له سلطان، فلا فعل له ولا تدبير، وإن كان له مع الظلمة تدبير، فما هو بأسير، بل هو مطلق عزيز، فان لم يكن كذلك وكان أسير الظلمة، فانه يظهر في هذا العالم إحسان وخير من فساد وشر، فهذا يدل على أنَّ الظلمة تحسن الخير وتفعله، كما تحسن الشرّ وتفعله، فإن قالوا محال ذلك، فلا نور يثبت ولا ظلمة، وبطلت دعواهم، ورجع الأمر إلى أنَّ اللّه واحد وما سواه باطل، فهذه مقالة ماني الزنديق وأصحابه(١) .

وأمّا من قال: النّور والظلمة بينهما حكم، فلا بدّ من أن يكون أكبر الثلاثة الحكم، لأنّه لا يحتاج إلى الحاكم إلا مغلوب، أو جاهل أو مظلوم، وهذه مقالة المانوية والحكاية عنهم تطول.

قال: فما قصة ماني؟

قالعليه‌السلام : متفحص أخذ بعض المجوسية فشابها ببعض النصرانية، فأخطأ الملتين، ولم يصب مذهباً واحداً منهما، وزعم أنَّ العالم دبّر من إلهين، نور وظلمة، وأنّ النور في حصار من الظلمة على ما حكينا عنه، فكذَّبته النصارى، وقبلته المجوس.

قال: فأخبرني عن المجوس أبعث اللّه إليهم نبيّاً؟ فإنّي أجد لهم كتباً محكمة

____________________

(١) أصحاب ماني يسمون: المانويّة، وهم أصحاب ماني بن فاتك الحكيم الذي ظهر في زمان سابور بن اردشير وقتله بهرام بن هرمز بن سابور وذلك بعد عيسى بن مريمعليه‌السلام ، أحدث ديناً بين المجوسيّة والنصرانيّة. وزعم أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين، أحدهما نور والآخر ظلمة، وأنّهما أزليّان لم يزالا ولن يزالا. انظر: الملل والنحل: ١ / ٢٤٤.

٥٥٩

ومواعظ بليغة، وأمثالاً شافية، يقرّون بالثواب والعقاب، ولهم شرائع يعملون بها.

قالعليه‌السلام : ما من أُمّةإلا خلا فيها نذير، وقد بعث إليهم نبي بكتاب من عند اللّه، فأنكروه وجحدوا كتابه.

قال: ومن هو فان النّاس يزعمون أنّه خالد بن سنان؟

قالعليه‌السلام : إنَّ خالداً كان عربياً بدوياً ما كان نبياً، وإنّما ذلك شيء يقوله النّاس.

قال: أفزردشت؟

قالعليه‌السلام : إنَّ زردشت أتاهم بزمزمة، وادّعى النبوّة، فآمن منهم قوم وجحده قوم، فأخرجوه فأكلته السّباع في برية من الأرض.

قال: فأخبرني عن المجوس كانوا أقرب إلى الصواب في دهرهم، أم العرب؟

قالعليه‌السلام : العرب في الجاهلية، كانت أقرب إلى الدين الحنفي من المجوس، وذلك أنَّ المجوس كفرت بكل الأنبياء وجحدت كتبهم، وأنكرت براهينهم ولم تأخذ بشيء من سننهم وآثارهم، وإنّ كيخسرو ملك المجوس في الدهر الأول قتل ثلاثمائة نبي، وكانت المجوس لا تغتسل من الجنابة، والعرب كانت تغتسل، والإغتسال من خالص شرايع الحنيفية، وكانت المجوس لا تختتن، والعرب تختتن، وهو من سنن الأنبياء، وأنّ أوّل من فعل ذلك إبراهيم خليل اللّه، وكانت المجوس لا تغسل موتاها في الصّحارى والنواويس، والعرب تواريها في قبورها وتلحدها، وكذلك السّنة على الرسل، إنَّ أول من حفر له قبر آدم أبو البشر، واُلحد له الحد، وكانت المجوس تأتي الأمهات وتنكح البنات والاخوات، وحرمت ذلك العرب، وأنكرت المجوس بيت اللّه وسمّته بيت الشّيطان، والعرب كانت تحجّه وتعظمه، وتقول: بيت ربنا، وتقرّ بالتوراة والإنجيل، وتسأل أهل الكتاب، وتأخذ عنهم، وكانت العرب في كل الأسباب أقرب إلى الدين الحنيفي من المجوس.

قال: فانّهم احتجوا باتيان الأخوات أنّها سنة من آدم.

قالعليه‌السلام : فما حجّتهم في إِتيان البنات والأمّات، وقد حرّم ذلك آدم، وكذلك نوح

٥٦٠

وإبراهيم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء، وكل ما جاء عن اللّه عزّ وجل.

قال: فلم حرّم اللّه الخمر ولا لذّة أفضل منها؟

قالعليه‌السلام : حرّمها لأنّها أُمّ الخبائث ورأس كلِّ شر، يأتي على شاربها ساعة يسلب لبه، ولا يعرف ربه، ولا يترك معصية إلا ركبها ولا حرمة إلا انتهكها ولا رحماً ماسة(١) إلا قطعها، ولا فاحشة إلا أتاها، والسكران زمامه بيد الشّيطان، إن أمره أن يسجد للأوثان سجد، وينقاد ما قاده.

قال: فلم حرّم الدم المسفوح؟

قالعليه‌السلام : لأنّه يورث القساوة، ويسلب الفؤاد رحمته، ويعفن البدن، ويغيِّر اللّون، وأكثر ما يصيب الإنسان الجذام يكون من أكل الدم.

قال: فأكل الغدد؟ قال: يورث الجذام.

قال: فالميتة لِمَ حرّمها؟

قالعليه‌السلام : فرقاً بينها وين ما يذكّى ويذكر عليه اسم اللّه، والميتة قد جمد فيها الدم وتراجع إلى بدنها، فلحمها ثقيل غير مريء، لأنّها يؤكل لحمها بدمها.

قال: فالسّمك ميتة؟

قالعليه‌السلام : إنَّ السّمك ذكاته إخراجه حيّاً من الماء، ثم يترك حتّى يموت من ذات نفسه، وذلك أنّه ليس له دم، وكذلك الجراد.

قال: فَلِمَ حرّم الزنا؟

قالعليه‌السلام : لما فيه من الفساد، وذهاب المواريث، وانقطاع الأنساب، لا تعلم المرأة في الزنا من أحبلها، ولا المولود يعلم من أبوه، ولا أرحام موصولة، ولا قرابة معروفة.

قال: فَلِمَ حرّم اللّواط؟

قالعليه‌السلام : من أجل أنّه لو كان إتيان الغلام حلالاً لاستغنى الرجال عن النساء،

____________________

(١) يُقال: بينهم رحم ماسة، أي: قرابة قريبة - القاموس ٢ / ٢٥١.

٥٦١

وكان فيه قطع النسل، وتعطيل الفروج، وكان في إجازة ذلك فساد كثير.

قال: فَلِمَ حرّم إتيان البهيمة؟

قالعليه‌السلام : كره أن يضيع الرجل ماءَه، ويأتي غير شكله، ولو أباح ذلك لربط كل رجل أتاناً(١) يركب ظهرها، ويغشى فرجها، فيكون في ذلك فساد كثير، فأباح ظهورها، وحرّم عليهم فروجها، وخلق للرجال النِّساء، ليأنسوا بهنَّ، ويسكنوا إليهنَّ، ويكنَّ موضع شهواتهم، وأُمهات أولادهم.

قال: فما علّة الغسل من الجنابة، وإنّما أتى حلالاً وليس في الحلال تدنيس؟

قالعليه‌السلام : إنَّ الجنابة بمنزلة الحيض، وذلك أن النطفة دم لم يستحكم، ولا يكون الجماع إلا بحركة شديدة وشهوة غالبة، فإذا فرغ (الرجل) تنفس البدن، ووجد الرّجل من نفسه رائحة كريهة، فوجب الغسل لذلك، وغسل الجنابة مع ذلك أمانة ائتمن اللّه عليها عبيده ليختبرهم بها.

قال: أيُّها الحكيم! فما تقول فيمن زعم أنَّ هذا التدبير الذي يظهر في العالم تدبير النُّجوم السّبعة؟

قالعليه‌السلام : يحتاجون إلى دليل، أنَّ هذا العالم الأكبر والعالم الأصغر من تدبير النّجوم التي تسبح في الفلك، وتدور حيث دارت متعبة لا تفتر، وسائرة لا تقف.

ثم قالعليه‌السلام : وإنَّ لكل نجم منها موكل مدبّر، فهي بمنزلة العبيد المأمورين المنهيين، فلو كانت قديمة أزلية لم تتغير من حال إلى حال.

قال: فمن قال بالطبايع؟

قالعليه‌السلام : القدرية، فذلك قول من لم يملك البقاء، ولا صرف الحوادث وغيرته الأيام والليالي، لا يرد الهرم، ولا يدفع الأجل، ما يدري ما يصنع به(٢) .

____________________

(١) الأتان: الحمارة - القاموس ٤ / ١٩٤.

(٢) انظر المناقب لابن شهرآشوب ٤ / ٢٦٤.

٥٦٢

قال: فأخبرني عمّن زعم انّ الخلق لم يزل يتناسلون ويتوالدون ويذهب قرن ويجيء قرن، تفنيهم الأمراض والأعراض وصنوف الآفات، ويخبرك الآخر عن الأول، وينبئك الخلف عن السلف، والقرون عن القرون، أنّهم وجدوا الخلق على هذا الوصف بمنزلة الشجر والنبات، في كل دهر يخرج منه حكيم عليم بمصلحة النّاس، بصير بتأليف الكلام، ويصنّف كتاباً قد حبره بفطنته، وحسنه بحكمته، قد جعله حاجزاً بين النّاس، يأمرهم بالخير ويحثّهم عليه، وينهاهم عن السوء والفساد ويزجرهم عنه، لئلا يتهارشوا(١) ، ولا يقتل بعضهم بعضاً؟

قالعليه‌السلام : ويحك! إنَّ من خرج من بطن أُمه أمس، ويرحل عن الدنيا غداً، لا علم له بما كان قبله، ولا ما يكون بعده، ثمّ إِنّه لا يخلو الإنسان من أن يكون خلق نفسه أو خلقه غيره، أو لم يزل موجوداً، فما ليس بشيء لا يقدر أن يخلق شيئاً وهو ليس بشيء، وكذلك ما لم يكن فيكون شيئاً، يسأل فلا يعلم كيف كان ابتداؤه، ولو كان الإنسان أزليّاً لم تحدث فيه الحوادث، لأنّ الأزلي لا تغيّره الأيّام، ولا يأتي عليه الفناء، مع أنّا لم نجد بناءاً من غير بانٍ، ولا أثراً من غير مؤثر، ولا تأليفاً من غير مؤلف، فمن زعم أنّ أباه خلقه، قيل: فمن خلق أباه؟ ولو أنّ الأب هو الذي خلق ابنه لخلقه على شهوته، وصوَّره على محبّته، ولملك حياته، ولجاز فيه حكمه، ولكنّه إن مرض فلم ينفعه، وإن مات فعجز عن ردّه، إنّ من استطاع أن يخلق خلقاً، وينفخ فيه روحاً حتّى يمشي على رجليه سوياً، يقدر أن يدفع عنه الفساد.

قال: فما تقول في علم النّجوم؟

قالعليه‌السلام : هو علم قلَّت منافعه، وكثرت مضراته، لأنّه لا يدفع به المقدور، ولا يتّقى به المحذور، إن أخبر المنجم بالبلاء لم ينجه التحرّز من القضاء، وإن أخبر هو بخير لم

____________________

(١) هَرَشَ الدهر، إشتدَّ، والتهريش والتحريش بين الكلاب والإفساد بين النّاس - القاموس ٢ / ٢٩٣، وفي «أ» وبحار الأنوار: لئلا يتهاوشوا.

٥٦٣

يستطع تعجيله، وإن حدث به سوء لم يمكنه صرفه، والمنجم يضاد اللّه في علمه، بزعمه أنّه يردّ قضاء اللّه عن خلقه.

قال: فالرسول أفضل أم الملك المرسل إليه؟

قالعليه‌السلام : بل الرسول أفضل.

قال: فما علّة الملائكة الموكّلين بعباده، يكتبون ما عليهم ولهم، واللّه تعالى عالم السّر وما هو أخفى؟

قالعليه‌السلام : استعبدهم بذلك، وجعلهم شهوداً على خلقه، ليكون العباد لملازمتهم إياهم أشد على طاعة اللّه مواظبة، وعن معصيته أشد انقباضاً، وكم من عبد يهمّ بمعصية فذكر مكانهما فارعوى(١) وكف، فيقول ربّي يراني، وحفظتي عليّ بذلك تشهد، وإنّ اللّه برأفته ولطفه أيضاً وكّلهم بعباده، يذبّون عنهم مردة الشيطان وهوامّ الارض، وآفات كثيرة من حيث لا يرون باذن اللّه إلى أن يجيء أمر اللّه عزّ وجلّ.

قال: فخلق الخلق للرحمة أم للعذاب؟

قالعليه‌السلام : خلقهم للرحمة، وكان في علمه قبل خلقه إيّاهم، أنّ قوماً منهم يصيرون إلى عذابه بأعمالهم الردية وجحدهم به.

قال: يعذب من أنكر فاستوجب عذابه بإنكاره (من خلقه)، فبم يعذب من وحّده وعرفه؟

قال: يعذب المنكر لإلهيّته عذاب الأبد، ويعذّب المقرّ به عذاب عقوبة لمعصيته إيّاه فيما فرض عليه، ثمّ يخرج، ولا يظلم ربك أحداً.

قال: فبين الكفر والإيمان منزلة؟

قالعليه‌السلام : لا. قال: فما الايمان والكفر؟

قالعليه‌السلام : الإيمان: أن يصدِّق اللّه فيما غاب عنه من عظمة اللّه، كتصديقه بما شاهد

____________________

(١) رعا، يرعو، أي: كفّ عن الأمر، وقد ارعوى عن القبيح: إرتدع - مجمع البحرين.

٥٦٤

من ذلك وعاين، والكفر: الجحود.

قال: فما الشرك وما الشّك؟

قالعليه‌السلام : الشّرك هو أن يضمّ إِلى الواحد الذي ليس كمثله شيء آخر، والشّك: ما لم يعتقد قلبه شيئاً.

قال: أفيكون العالم جاهلاً؟

قالعليه‌السلام : عالم بما يعلم، وجاهل بما يجهل.

قال: فما السّعادة وما الشقاوة؟

قالعليه‌السلام : السّعادة: سبب خير، تمسك به السّعيد فيجرّه إلى النّجاة، والشّقاوة: سبب خذلان، تمسك به الشّقي فيجرّه إلى الهلكة، وكل بعلم اللّه.

قال: أخبرني عن السراج إِذا انطفى أين يذهب نوره؟

قالعليه‌السلام : يذهب فلا يعود.

قال: فما أنكرت أن يكون الإنسان مثل ذلك إذا مات وفارق الروح البدن لم يرجع إليه أبداً، كما لا يرجع ضوء السراج إليه أبداً إذا انطفى؟

قالعليه‌السلام : لم تصب القياس، إنَّ النّار في الأجسام كامنة، والأجسام قائمة بأعيانها كالحجر والحديد، فإذا ضرب أحدهما بالآخر سطعت من بينهما نار، يقتبس منها سراج له ضوء، فالنّار ثابتة في أجسامها والضوء ذاهب، والرّوح: جسم رقيق قد أُلبس قالباً كثيفاً، وليس بمنزلة السراج الذي ذكرت، إنَّ الذي خلق في الرحم جنيناً من ماء صافٍ، وركب فيه ضروباً مختلفة من عروق وعصب وأسنان وشعر وعظام وغير ذلك، وهو يحييه بعد موته، ويعيده بعد فنائه.

قال: فأين الرّوح؟

قالعليه‌السلام : في بطن الأرض حيث مصرع البدن إِلى وقت البعث.

قال: فمن صُلِب فأين روحه؟

٥٦٥

قالعليه‌السلام : في كف الملك الذي قبضها حتى يودعها الأرض.

قال: فاخبرني الروح غير الدم؟

قالعليه‌السلام : نعم، الرّوح على ما وصفت لك: مادتها من الدم، ومن الدم رطوبة الجسم، وصفاء اللّون، وحسن الصّوت، وكثرة الضحك، فإذا جمد الدم فارق الروح البدن.

قال: فهل يوصف بخفّة وثقل ووزن؟

قالعليه‌السلام : الروح بمنزلة الرِّيح في الزق، إذا نفخت فيه امتلأ الزق منها، فلا يزيد في وزن الزق ولوجها فيه، ولا ينقصها خروجها منه، كذلك الروح ليس لها ثقل ولا وزن.

قال: فأخبرني ما جوهر الرِّيح؟

قالعليه‌السلام : الرِّيح هواء إذا تحرّك يسمّى ريحاً، فإذا سكن يسمّى هواء وبه قوام الدنيا، ولو كفّت الرِّيح ثلاثة أيّام لفسد كلّ شيء على وجه الأرض ونتن، وذلك أنَّ الرِّيح بمنزلة المروحة، تذبّ وتدفع الفساد عن كلّ شيء وتطيّبه، فهي بمنزلة الرّوح إذا خرج عن البدن نتن البدن وتغيّر، تبارك اللّه أحسن الخالقين.

قال: أَفيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق؟

قالعليه‌السلام : بل هو باق إلى وقت ينفخ في الصور، فعند ذلك تبطل الأشياء وتفنى، فلا حس ولا محسوس، ثمّ أُعيدت الأشياء كما بدأها مدبّرها، وذلك أربعمائة سنه يسبت(١) فيها الخلق وذلك بين النفختين.

قال: وأنّى له بالبعث والبدن قد بلي، والأعضاء قد تفرّقت، فعضو ببلدة يأكلها سباعها، وعضو بأُخرى تمزقه هوامها، وعضو قد صار تراباً بني به مع الطين حائط!!

قالعليه‌السلام : إنَّ الذي أنشأه من غير شيء، وصوّره على غير مثال كان سبق إليه، قادر أن يعيده كما بدأه.

____________________

(١) سُبِتَ، بالبناء للمفعول: غشي عليه وأيضاً مات - المصباح ١ / ٣١٨.

٥٦٦

قال: أوضح لي ذلك!

قالعليه‌السلام : إنَّ الروح مقيمة في مكانها، روح المحسن في ضياء وفسحة، وروح المسيء في ضيق وظلمة، والبدن يصير تراباً كما منه خلق، وما تقذف به السّباع والهوام من أجوافها ممّا أكلته ومزّقته كل ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرة في ظلمات الأرض، ويعلم عدد الأشياء ووزنها، وإنّ تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التّراب، فإذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور، فتربو الأرض ثمّ تمخضوا مخض(١) السقاء، فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء، والزبد من اللبن إذا مخض، فيجتمع تراب كل قالب إِلى قالبه، فينتقل بإذن اللّه القادر إلى حيث الروح، فتعود الصور بإذن المصوّر كهيئتها، وتلج الرّوح فيها، فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئاً.

قال: فأخبرني عن النّاس يحشرون يوم القيامة عراة؟

قالعليه‌السلام : بل يحشرون في أكفانهم.

قال: أنّى لهم بالأكفان وقد بليت؟!

قالعليه‌السلام : إنَّ الذي أحيا أبدانهم جدّد أكفانهم.

قال: فمن مات بلا كفن؟

قالعليه‌السلام : يستر اللّه عورته بما يشاء من عنده.

قال: أفيعرضون صفوفاً؟

قالعليه‌السلام : نعم هم يؤمئذ عشرون ومائة ألف صف في عرض الأرض.

قال: أوَليس توزن الأعمال؟

قالعليه‌السلام : لا، إنَّ الأعمال ليست بأجسام، وإنّما هي صفة ما عملوا، وإنّما يحتاج إلى وزن الشيء من جهل عدد الأشياء، ولا يعرف ثقلها وخفّتها، وإنَّ الله لا يخفى عليه شيء.

____________________

(١) مخض اللبن، يمخضه: أخذ زبده - القاموس ٢ / ٣٤٣.

٥٦٧

قال: فما معنى الميزان؟

قالعليه‌السلام : العدل.

قال: فما معناه في كتابه:( فَمَن ثَقلَت مَوازِينُهُ ) (١) ؟

قالعليه‌السلام : فمن رجح عمله.

قال: فأخبرني أوليس في النّار مقنع أن يعذب خلقه بها دون الحيّات والعقارب؟

قالعليه‌السلام : إِنّما يعذب بها قوماً زعموا أنّها ليست من خلقه، إنّما شريكه الذي يخلقه، فيسلّط اللّه عليهم العقارب والحيات في النّار ليذيقهم بها وبال ما كذبوا عليه، فجحدوا أن يكون صنعه.

قال: فمن أين قالوا: إِنَّ أهل الجنّة يأتي الرجل منهم إلى ثمرة يتناولها فإذا أكلها عادت كهيئتها؟

قالعليه‌السلام : نعم، ذلك على قياس السراج يأتي القابس فيقتبس منه، فلا ينقص من ضوئه شيء، وقد امتلت الدنيا منه سراجاً.

قال: أليسوا يأكلون ويشربون، وتزعم أنّه لا يكون لهم الحاجة؟

قالعليه‌السلام : بلى، لأنَّ غذاءهم رقيق لا ثقل له، بل يخرج من أجسادهم بالعرق.

قال: فكيف تكون الحوراء في جميع ما أتاها زوجها عذراء؟

قالعليه‌السلام : لأنّها خلقت من الطِّيب لا تعتريها عاهة، ولا تخالط جسمها آفة، ولا يجري في ثقبها شيء، ولا يدنّسها حيض، فالرحم ملتزقة (ملدم)(٢) إذ ليس فيه لسوى الأحليل مجرى.

قال: فهي تلبس سبعين حلّة، ويرى زوجها مخ ساقيها من وراء حللها وبدنها؟

قالعليه‌السلام : نعم، كما يرى أحدكم الدراهم إِذا ألقيت في ماء صاف قدره قدر رمح.

____________________

(١) المؤمنون: ١٠٢.

(٢) قال الفيروزآبادي: المِلدم كمِنبر: الاحمق الثقيل اللّحم - القاموس ٤ / ١٧٥.

٥٦٨

قال: فكيف تنعم أهل الجنّة بما فيها من النعيم، وما منهم أحد إلا وقد افتقد ابنه أو أباه أو حميمه أو أُمّه، فإذا افتقدوهم في الجنّة لم يشكوا في مصيرهم إلى النّار، فما يصنع بالنعيم من يعلم أن حميمه في النّار يعذّب؟

قالعليه‌السلام : إِنَّ أهل العلم قالوا: إنّهم ينسون ذكرهم. وقال بعضهم: انتظروا قدومهم، ورجوا أن يكونوا بين الجنّة والنّار في أصحاب الأعراف. الخبر.

٥٦٩

الملحق الثالث(١) : مجلس الامام الرضاعليه‌السلام مَعَ المروزي عند المأمون في التوحيد

جاء في توحيد الصدوق:

حدّثنا أبو محمدٍ جعفر بن علي بن أحمد الفقيهرضي‌الله‌عنه ، قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن علي بن صدقة القمي، قال: حدثني أبو عمروٍ محمد بن عمر بن عبد العزيز الانصاري الكجي قال: حدثني من سمع الحسن بن محمدٍ النوفلي يقول: قدم سليمان المروزي متكلم خراسان على المأمون فأكرمه ووصله ثم قال له: إن ابن عمي علي بن موسى قدم عليَّ من الحجاز وهو يحب الكلام وأصحابه، فلا عليك أن تصير إلينا يوم التروية لمناظرته، فقال سليمان: يا أمير المؤمنين إني أكره أن أسأل مثله في مجلسك في جماعةٍ من بني هاشم فيتنقصُ عند القوم إذا كلمني، ولا يجوز الاستقصاء عليه، قال المأمون: إنما وجهت إليك لمعرفتي بقوتك وليس مرادي إلا أن تقطعه عن حجةٍ واحدةٍ فقط، فقال سليمان: حسبك يا أمير المؤمنين اجمع بيني وبينه وخلني وإيّاه وألزم، فوجه المأمون إلى الرضاعليه‌السلام فقال: إنَّه قدم علينا رجلٌ من أهل مروٍ وهو واحدُ خراسان من أصحاب الكلام، فإن خف عليك أن تتجشم المصير إلينا فعلت، فنهضعليه‌السلام للوضوء وقال لنا: تقدموني وعمران الصابئ معنا، فصرنا إلى الباب فأخذ ياسر وخالدٌ بيدي فأدخلاني على المأمون، فلما سلّمتُ قال: أين أخي أبو الحسن أبقاه اللّه، قلتُ: خلفته

____________________

(١) نقل نص الحديث عن توحيد الصدوق، بتحقيق السيد هاشم الحسيني الطهراني باب: ٦٦، ص: ٤٤١ - ٤٥٤، وما ذكر في هامش الحديث من شروحات يعود لمحقق الكتاب.

٥٧٠

يلبس ثيابه وأمرنا أن نتقدم، ثم قلت يا أمير المؤمنين إنَّ عمران مولاك معي وهو بالباب، فقال: من عمران؟ قلتُ: الصابئ الّذي أسلم على يديك، قال: فليدخل فدخل فرحب به المأمون، ثمَّ قال له: يا عمران لم تمت حتى صرت من بني هاشم، قال: الحمد للّه الذي شرّفني بكم يا أمير المؤمنين، فقال له المأمون: يا عمران هذا سليمان المروزي متكلّم خراسان، قال عمران: يا أمير المؤمنين إنّه يزعم أنه واحد خراسان في النظرِ وينكرُ البداءَ، قال: فلم لا تناظرهُ؟ قال عمران: ذلكَ إليه، فدخل الرضاعليه‌السلام فقال: في أي شيءٍ كنتم؟ قال عمران: يا ابن رسول اللّه هذا سليمان المروزي، فقال سليمان: أترضى بأبي الحسن وبقوله فيه؟ قال عمرانُ: قد رضيت بقول أبي الحسن في البداء على أن يأتيني فيه بحجةٍ أَحتجُّ بها على نظرائي من أهل النظرِ.

قال المأمون: يا أبا الحسن ما تقول فيما تشاجرا فيه؟

قالعليه‌السلام : وما أنكرت من البداءِ يا سليمانُ، واللّه عزّ وجلّ يقول:( أَوَلا يَذكُرُ الإنسانُ أنَّا خَلَقناهُ مِن قَبلُ وَلَم يَكُ شَيئاً ) (١) ويقول عزّ وجلّ:( وَهُوَ الَّذي يَبدَؤا الخَلقَ ثُمَّ يُعيدُهُ ) (٢) ويقولُ:( بَدِيعُ السَّمواتِ وَالأَرضِ ) (٣) وَيقولُ عزّ وجلّ:( يَزِيدُ في الخَلقِ ما يَشاءُ ) (٤) ويقول:( وَبَدَأَ خَلقَ الإنسانِ مِن طينٍ ) (٥) ويقول عزّ وجلّ:( وَآخَرُونَ مُرجَونَ لأَمرِ اللّهِ إمّا يُعذبُهُم وإمّا يَتُوبُ عَلَيهِم ) (٦) ويقول عزّ وجلّ:( وَما يُعَمَّرُ مِن مُعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِن عُمُره إلا في كِتابٍ ) (٧) ؟

قال سُلَيمان: هل رويت فيه شيئاً عن آبائكَ؟ قالعليه‌السلام : نعم رويت عن أبي

____________________

(١) مريم: ٦٧.

(٢) الروم: ٢٧.

(٣) البقرة: ١١٧، والانعام: ١٠١.

(٤) فاطر: ١.

(٥) السجدة: ٧.

(٦) التوبة: ١٠٦.

(٧) فاطر: ١١.

٥٧١

عبد اللّهعليه‌السلام أنه قال: «إن للّه عزّ وجلّ علمين: علماً مخزُوناً مكنوناً لا يعلمه إلا هو من ذلك يكونُ البداءُ وعلماً علمه ملائكته ورسله، فالعلماء من أهل بيت نبيه يعلمونه» قال سليمان: أحبُّ أن تنزعه لي من كتاب اللّه عزّ وجلّ.

قالعليه‌السلام : قول اللّه عزّ وجلّ لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( فَتَوَل عَنهُم فَما أَنتَ بِمَلومٍ ) (١) أراد هلاكهم ثم بدا اللّه فقال:( وَذَكِّر فَإنَّ الذِّكرى تَنفَعُ المؤمِنينَ ) (٢) ، قال سليمان: زدني جعلت فداك.

قال الرضاعليه‌السلام لقد أخبرني أبي عن آبائه أن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إن اللّه عزّ وجلّ أَوحى إلى نبيٍّ من أنبيائه: أن أخبر فلاناً الملك أني متوفيه إلى كذا وكذا، فأتاه ذلك النبي فأخبره فدعا اللّه الملك وهو على سريره حتى سقط من السرير، فقال: يا رب أجلني حتى يشب طفلي وأقضي أمري، فأوحى اللّه عز وجل إلى ذلك النبي أن ائتِ فُلاناً الملكَ فأعلمه أني قد انسيتُ في أجله، وزدت في عمره خمس عشرة سنةً، فقال ذلك النبي: يا رب إنك لتعلم أنيِّ لم أكذب قط، فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليه: إنما أنت عبدٌ مأمورٌ فأبلغه ذلك واللّهُ لا يسأل عما يفعل.

ثمَّ التفت إلى سليمان فقال: أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب، قال: أعوذُ باللّه من ذلك، وما قالتِ اليهود؟

قالعليه‌السلام : قالت: «يَدُ اللّهِ مغلولةٌ» يعنون أَن اللّه قد فرغ من الأمر فليس يحدث شيئاً، فقال اللّه عزّ وجلّ:( غُلَّت أَيديهمُ وَلُعِنوا بِما قالوا ) (٣) ولقد سمعتُ قوماً سألوا أبي موسى بن جعفرعليهما‌السلام عن البداءِ فقالَ: وما ينكر الناسُ من البداءِ وأَن يَقفَ اللّهُ قوماً يرجيهم لأمره؟

____________________

(١) الذاريات: ٥٤.

(٢) الذاريات: ٥٥.

(٣) المائدة: ٦٤.

٥٧٢

قال سليمان: ألا تخبرني عن( إِنا أَنزَلناهُ في لَيلَةِ الَقدرِ ) (١) في أي شيء اُنزلت؟

قال الرِّضاعليه‌السلام : يا سُليمان ليلةُ القدر يقدِّر اللّه عزّ وجلّ فيها ما يكون من السَّنة إلى السنة من حياةٍ، أو موتٍ، أو خيرٍ، أو شرٍّ، أو رزقٍ، فما قدَّرهُ من تلكَ الليلةٍ فهوَ من المحتوم.

قال سليمان: ألآن قد فهمتُ جعلت فداكَ، فزدني.

قالعليه‌السلام : يا سليمان إنَّ من الامورِ اُموراً موقوفةً عند اللّه تباركَ وتعالى يقدم منها ما يشاء ويؤخر ما يشاء، يا سليمانُ إنَّ علياًعليه‌السلام كان يقول: العلم علمان: فعلمٌ علَّمه اللّه ملائكتهُ ورسله، فما علمه ملائكته ورسله فانَّهُ يكون، ولا يكذِّب نفسه ولا ملائكته ولا رسله، وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه أحداً من خلقه، يقدِّم منهُ ما يشاء ويؤَخِّر منه ما يشاء، ويمحو ما يشاءُ ويثبتُ ما يشاء، قال سليمان للمأمون: يا أمير المؤمنين لا اُنكر بعد يومي هذا البداء ولا اُكذبُ به إن شاء اللّه.

فقال المأمون: يا سليمان سل أبا الحسن عما بدا لك، وعليك بحسنِ الاستماع والانصاف.

قال سليمان: يا سيدي أسألُك؟

قال الرضاعليه‌السلام : سل عما بدا لك، قال: ما تقول فيمن جعل الارادة اسماً وصفة مثل حيٍّ وسميعٍ وبصيرٍ وقديرٍ؟ قال الرِّضاعليه‌السلام : إنما قلتم حدثت الأشياءُ واختلفت لأنه شاءَ وأراد، ولم تقولوا حدثت واختلفت لأنه سميعٌ بصير، فهذا دليلٌ على أنها ليست بمثل سميع ولا بصيرٍ ولا قديرٍ.

قال سليمان: فانه لم يزل مريداً.

قالعليه‌السلام : يا سليمان فارادته غيره؟ قال نعم، قالعليه‌السلام : فقد أثبتَّ معه شيئاً غيره لم يزل، قال سليمان: ما أثبتُّ.

____________________

(١) القدر: ١.

٥٧٣

قال الرضاعليه‌السلام أهي محدثة؟ قال سليمان: لا ما هي محدثةٌ.

فصاح به المأمون وقال: يا سليمان مثله يعايا أو يكابر، عليك بالانصافِ، أما ترى من حولك من أهل النظر؟ ثم قال: كلِّمه يا أبا الحسن فإنه متكلّم خراسان، فأعاد عليه المسألة، فقالعليه‌السلام : هي محدثة يا سليمانُ فان الشيء إذا لم يكن أزلياً كان محدثاً، وإذا لم يكن محدثاً كان أزلياً.

قال سليمان: إرادته منهُ كما أنَّ سمعه منه وبصره منه وعلمه منه.

قال الرضاعليه‌السلام : فإرادته نفسه؟! قال: لا.

قالعليه‌السلام فليس المريد مثل السميع والبصير، قال سليمان: إنما أراد نفسه كما سمع نفسه وأبصر نفسه وعلم نفسه.

قال الرضاعليه‌السلام : ما معنى أراد نفسه أراد أن يكون شيئاً أو أراد أن يكون حياً أو سميعاً أو بصيراً أو قديراً؟! قال نعم.

قال الرِّضاعليه‌السلام : أفبارادته كان ذلك؟! قال سليمان: لا.

قال الرضاعليه‌السلام : فليس لقولك: أراد أن يكون حياً سميعاً بصيراً معنىً إذا لم يكن ذلك بارادته، قال سليمان: بلى قد كان ذلك بارادته، فضحك المأمون ومن حوله وضحك الرضاعليه‌السلام ، ثم قال: ارفقوا بمتكلّم خراسان، يا سليمان فقد حال عندكم عن حالةٍ وتغير عنها(١) ، وهذا مما لا يوصف اللّه عزّ وجلّ به، فانقطع.

ثم قال الرضاعليه‌السلام : يا سليمان أسالك مسألةً، قال: سل جعلت فداك.

قالعليه‌السلام : أخبرني عنك وعن أصحابك تكلّمون الناس بما يفقهون ويعرفون، أو بما لا يفقهون ولا يعرفون؟ قال: بل بما يفقهون ويعرفون.

قال الرضاعليه‌السلام : فالَّذي يعلم الناس أن المريد غير الإرادة وأن المريد قبل الارادة

____________________

(١) أي لو كان ذلك أي كونه سميعاً بصيراً قديراً بارادته لتحوّل وتغير في هذه الصفات، لأَن إرادته يمكن أن لا تتعلق بها كسائر الامور، وفي البحار وفي نسخة (و) و(ن) و(د) «عن حاله وتغير عنها».

٥٧٤

وأن الفاعل قبل المفعول وهذا يبطل قولكم: إنَّ الإرادة والمريد شيء واحد، قال: جعلت فداك ليس ذاك منه على ما يعرف الناس، ولا على ما يفقهون، قالعليه‌السلام : فأراكم ادعيتم علم ذلك بلا معرفةٍ، وقلتم: الإرادةُ كالسمع والبصر إذاً كان ذلك عندكم على ما لا يعرفُ ولا يعقل.

فلم يحر جواباً.

ثم قال الرضاعليه‌السلام : يا سليمان هل يعلم اللّه عزّ وجلّ جميع ما في الجنة والنار؟! قال سليمان: نعم.

قالعليه‌السلام : أفيكون ما علم اللّه عزّ وجلّ أنَّه يكون من ذلك؟! قال: نعم.

قالعليه‌السلام : فإذا كان حتى لا يبقى منه شيءٌ إِلا كان، أيزيدهم أو يطويه عنهم؟! قال سليمان: بل يزيدهم.

قالعليه‌السلام : فأراه في قولك: قد زادهم ما لم يكن في علمه أنه يكون(١) قال: جعلت فداك والمزيد لا غاية له(٢) .

قالعليه‌السلام : فليس يحيط علمه عندكم بما يكون فيهما إذا لم يعرف غايةُ ذلك، وإذا لم يحط علمه بما يكون فيهما لم يعلم ما يكون فيهما قبل أن يكون، تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً، قال سليمان: إنما قلتُ: لا يعلمه لأنه لا غاية لهذا لأن اللّه عزّ وجلّ وصفهما بالخلود، وكرهنا أن نجعل لهما انقطاعاً.

قال الرضاعليه‌السلام : ليس علمه بذلك بموجب لانقطاعه عنهم لأنه قد يعلم ذلك ثم يزيدهم ثم لا يقطعه عنهم وكذلك قال اللّه عزّ وجلّ في كتابه:( كلَّما نَضِجَت جُلُودُهُم

____________________

(١) قولهعليه‌السلام : «أنه يكون» مبتدء مؤخر، والضمير يرجع إلى ما لم يكن، و«في علمه» خبر له مقدم، والجملة مفعول ثان لقوله: «فأراه» أي فأراه أن ما لم يكن يكون في علمه على قولك: انه يزيدهم ما لم يكن، فعلمه المتعلق الآن بما لم يكن غير الارادة لانها لم تتعلق به بعد.

(٢) في البحار وفي نسخة (د) و(ب) «فالمزيد لا غاية له» وهذا أنسب لافادة التفريع والتعليل، كانه على زعمه قال: كما أن ارادته لا تتعلق الآن بالمزيد في الدار الآخرة لا يتعلق علمه به لان المزيد لا غاية له وغير المتناهي لا يكون معلوماً، فرد عليه بتنزيهه تعالى عن عدم العلم به وان كان غير متناه.

٥٧٥

بدَّلناهُم جُلوداً غَيرَها لِيَذوقوا العذابَ ) (١) وقال عزّ وجلّ لأهل الجنة:( عطاءً غَيرَ مَجذُوذٍ ) (٢) وقال عزّ وجلّ:( وفاكِهةٍ كَثيرةٍ* لا مَقطوعَةٍ ولا مَمنوعَةٍ ) (٣) فهو جلَّ وعزَّ يعلم ذلك ولا يقطعُ عنهم الزيادة، أَرأَيتَ ما أكَلَ أهل الجنةِ وما شربوا، أليس يُخلفُ مكانه؟! قال: بلى.

قالعليه‌السلام : أفيكون يقطع ذلك عنهم وقد أخلف مكانه؟! قال سليمان: لا.

قالعليه‌السلام : فكذلك كل ما يكون فيها(٤) إذا أخلف مكانه فليس بمقطوعٍ عنهم، قال سليمان: بل يقطعه عنهم فلا يزيدهم.

قال الرضاعليه‌السلام : إِذاً يبيد ما فيهما وهذا يا سليمان إبطالُ الخلودِ، وخلافُ الكتابِ، لأنَّ اللّه عزّ وجلّ يقولُ:( لهم ما يَشاءُونَ فيها وَلَدَينا مَزِيدٌ ) (٥) ، ويقول عزّ وجلّ:( عَطاءً غَيرَ مَجذُوذٍ ) (٦) ، ويقول عزّ وجلّ:( وَما هُم مِنها بِمُخرَجِينَ ) (٧) ، ويقول عزّ وجلّ:( خالِدينَ فيها أَبَداً ) (٨) ، ويقول عزّ وجلّ:( وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ* لا مقطُوعَةٍ وَلا مَمنوعَةٍ ) (٩) .

فَلم يحر جواباً.

ثم قال الرضاعليه‌السلام : يا سليمان ألا تخبرني عن الإرادة فعل هي أم غير فعلٍ؟ قال: بل هي فعل.

قالعليه‌السلام : فهي محدثةٌ لأنَّ الفعل كله محدثٌ، قال: ليست بفعلٍ.

____________________

(١) النساء: ٥٦.

(٢) هود: ١٠٨.

(٣) الواقعة: ٣٣.

(٤) أي فكالجنة كل ما في النار.

(٥) ق: ٣٥.

(٦) هود: ١٠٨.

(٧) الحجر: ٤٨.

(٨) في أحد عشر موضعاً من القرآن.

(٩) الواقعة: ٣٣.

٥٧٦

قالعليه‌السلام : فمعه غيره لم يزل، قال سليمان: الإرادة هي الإنشاءُ.

قالعليه‌السلام : يا سُليمان هذا الذي ادعيتموه على ضرارٍ وأَصحابه(١) من قولهم: إن كل ما خلق اللّه عزّ وجلّ في سماءٍ أو أرضٍ أو بحرٍ أو برٍّ من كلبٍ أو خنزيرٍ أو قردٍ أو إنسانٍ أو دابةٍ إرادة اللّهِ عزّ وجلّ، وَانَّ إرادة اللّهِ عزّ وجلّ تحيى وتموتُ وتذهبُ وتأكلُ وتشربُ وتنكحُ وتلد وتظلمُ وتفعلُ الفواحش وتكفُر وتُشركُ فتبرِّء منها وتعاديها وهذا حدُّها(٢) .

قال سليمان: إنها كالسمع والبصر والعلم.

قال الرضاعليه‌السلام : قد رجعت إِلى هذا ثانيةً، فأخبرني عن السمع والبصر والعلم أَمصنوعٌ؟ قال سليمان: لا.

قال الرضاعليه‌السلام : فكيف نفيتموه(٣) فمرَّةً قلتم لم يرد، ومرةً قلتم أَراد، وليست بمفعولٍ له؟! قال سليمان: إنما ذلك كقولنا مرةً عَلِمَ ومَرةً لم يعلم(٤) .

قال الرضاعليه‌السلام : ليس ذلك سواء، لأن نفي المعلوم ليس بنفي العلم، ونفي المرادِ نفي الإرادةِ أن تكون، لأنَّ الشيء إذا لم يرد لم يكن إرادةٌ، وقد يكونُ العلم ثابتاً وإن لم يكن المعلوم، بمنزلة البصر فقد يكون الانسان بصيراً وإن لم يكن المبصر، ويكون العلم ثابتاً وإن لم يكن المعلوم(٥) ، قال سليمان: إنها مصنوعةٌ.

قالعليه‌السلام : فهي محدثةٌ ليست كالسمع والبصر، لأنَّ السمع والبصرَ ليسا بمصنوعينِ، وهذهِ مصنوعةٌ، قال سليمان: إنها صفةٌ من صفاته لم تزل.

____________________

(١) هو ضرار بن عمرو، وهم من الجبريّة، لكن وافقوا المعتزلة في أشياء، واختصوا بأشياء منكرة.

(٢) أي فتبرء من الارادة بالمعنى الذي ذهب إليه ضرار وتعاديها، مع أن هذا الذي ذهبت إليه من أن الارادة هي الانشاء حد الارادة بالمعنى الذي ذهب إليه ضرار، وفي البحار بصيغة المتكلم مع الغير في الفعلين، وفي نسخة (و) و(ط) و(ج) «تفارقها» مكان «تعاديها».

(٣) في هامش نسخة (و) «فكيف نعتموه» والضمير المنصوب يرجع حينئذٍ إليه تعالى، وهذا أصح، وعلى سائر النسخ فالضمير يرجع الى الارادة وتذكيره باعتبار المعنى.

(٤) أي مرة وقع علمه على المعلوم الموجود، ومرة لم يقع علمه على المعلوم لكونه غير موجود، ومر نظير هذا في الحديث الاول من الباب الحادي عشر.

(٥) «لم يكن» في المواضع الاربعة تامة، «بمنزلة البصر» خبر لمبتدء محذوف، أي العلم بمنزلة البصر.

٥٧٧

قالعليه‌السلام : فينبغي أن يكون الإنسان لم يزل لأنَّ صفته لم تزل، قال سليمان: لا لأنَّه لم يفعلها.

قال الرضاعليه‌السلام : يا خُراساني ما أكثر غلطك، أفليس بارادته وقوله تَكَوُّنُ الأشياء؟! قال سليمان: لا.

قالعليه‌السلام : فإذا لم يكن بارادته ولا مشيئته ولا أمره ولا بالمباشرة فكيف يُكَوَّن ذلك؟! تعالى اللّه عن ذلك.

فلم يحر جواباً(١) .

ثم قال الرضاعليه‌السلام : ألا تخبرني عن قول اللّه عزّ وجلّ:( وإذا أَرَدنا أَن نُهلِكَ قَريةً أمَرنا مُترَفيها فَفَسَقوا فيها ) (٢) يعني بذلك أنه يحدثُ إرادةً؟! قال له: نعم.

قالعليه‌السلام : فإذا أحدث إرادةً كان كقولكَ إنَّ الارادة هي هو أم شيءٌ منه باطلاً، لأنه لا يكون أن يحدث نفسه ولا يتغير عن حاله، تعالى اللّه عن ذلك، قال سليمان: إنه لم يكن عنى بذلك أنه يحدثه إرادةً.

قالعليه‌السلام : فما عنى به، قال: عنى فعل الشيء.

قال الرضاعليه‌السلام : ويلك كم ترددُ هذهِ المسألة، وقد أخبرتك أن الإرادة محدثةٌ لأن فعل الشيء محدثٌ، قال: فليس لها معنىً.

قال الرضاعليه‌السلام : قد وصف نفسه عندكم حتى وصفها بالإرادة بما لا معنى له، فإذا لم يكن لها معنىً قديم ولا حديثٌ بطل قولكم: إن لم يزل مريداً. قال سليمان: إنما عنيتُ أنها فعل من اللّه لم يزل.

____________________

(١) أيضاح الكلام أنهعليه‌السلام ألزمه على كون الارادة أزلية كون الانسان مثلاً أزلياً لان صفته أي ارادته التي بها خلق الانسان أزلية، فأجاب سليمان بأنه لا يلزم ذلك لانه فعل الانسان فهو حادث ولم يفعل الارادة فهي أزلية، فردهعليه‌السلام بأن هذا غلط كسائر أغلاطك لان تكون الاشياء انما هو بارادته ولا تتخلف عن المراد بشهادة العقل والآية، فكابر سليمان فقال: لا يكون بارادته، فأفحمه بما قالعليه‌السلام . فلم يحر جواباً.

(٢) الاسراء: ١٦.

٥٧٨

قال: ألا تعلم أنّ ما لم يزل لا يكون مفعولاً، وحديثاً وقديماً في حالةٍ واحدةٍ؟

فلم يحر جواباً.

قال الرضاعليه‌السلام : لا بأس، أَتمم مسألتكَ، قال سليمان: قلت: إنَّ الإرادة صفةٌ من صفاته.

قال الرضاعليه‌السلام : كم ترددُ عليَّ أنها صفةٌ من صفاته، وصفته محدثةٌ أو لم تزل؟! قال سليمان: محدثة.

قال الرضاعليه‌السلام : اللّه أكبر، فالإرادةُ محدثةٌ وإن كانت صفةً من صفاته لم تزل.

فلم يرد شيئاً(١) .

قال الرضاعليه‌السلام : إنَّ ما لم يزل لا يكونُ مفعولاً، قال سليمان: ليس الأشياء إرادةً ولم يرد شيئاً(٢) .

قال الرضاعليه‌السلام : وسوست يا سليمان، فقد فعل وخلق ما لم يرد خلقه ولا فعله، وهذه صفةُ من لا يدري ما فعل، تعالى اللّه عن ذلك.

قال سليمان: يا سيدي قد أخبرتك أنّها كالسمع والبصر والعلم.

قال المأمون: ويلك يا سليمان كم هذا الغلط والترددّ، اقطع هذا وخذ في غيره إذ لست تقوى على هذا الردِّ، قال الرضاعليه‌السلام : دعه يا أمير المؤمنين، لا تقطع عليه مسألته فيجعلها حجة، تكلم يا سليمان، قال: قد أخبرتك أنَّها كالسمع والبصر والعلم.

قال الرضاعليه‌السلام : لا بأس، أخبرني عن معنى هذه أمعنى واحدٌ أم معانٍ مختلفةٌ؟! قال سليمان: بل معنى واحدٌ.

قال الرضاعليه‌السلام : فما معنى الإرادات كلها معنى واحدٌ؟ قال سليمان: نعم.

قال الرضاعليه‌السلام : فإن كان معناها معنىً واحداً كانت إرادةُ القيام وإرادة القعود

____________________

(١) لان العالم حادث والارادة أزلية والتخلف ممتنع، وقوله: «ان ما لم يزل - الخ» تعليل به باللازم.

(٢) أي لا أقول بقول ضرار ولا بقولكم، بل له ارادة غير متعلقة بشيء أو ليست له ارادة راساً.

٥٧٩

وإرادة الحياةِ وإرادةُ الموتِ إذا كانت إرادته واحدةً(١) لم يتقدم بعضها بعضاً، ولم يخالف بعضها بعضاً، وكانَ شيئاً واحداً(٢) ، قال سليمانُ: إن معناها مختلف.

قالعليه‌السلام فأخبرني عن المريد أهو الإرادةُ أو غيرها؟! قال سليمان: بل هو الإرادة.

قال الرضاعليه‌السلام : فالمريد عندكم يختلف إن كان هو الإرادة؟ قال: يا سيدي ليس الإرادة المريد.

قالعليه‌السلام : فالإرادةُ محدثةٌ، وإلا فمعه غيره، إفهم وزد في مسألتكَ.

قال سليمان: فانَّها اسم من أسمائه.

قال الرضاعليه‌السلام : هل سمى نفسه بذلك؟ قال سليمان: لا لم يسمِّ نفسه بذلك.

قال الرِّضاعليه‌السلام : فليس لك أن تسميه بما لم يسمِّ به نفسهُ، قال: قد وصف نفسه بأنَّه مريدٌ.

قال الرِّضاعليه‌السلام : ليس صفته نفسه أنه مريد إخباراً عن أنَّه إرادةٌ ولا إخباراً عن أنَّ الإرادة اسمٌ من أسمائه، قال سليمان: لأنَّ إرادته علمه.

قال الرِّضاعليه‌السلام : يا جاهل فإذا علم الشيء فقد أراده؟ قال سليمان: أجل.

قالعليه‌السلام : فإذا لم يرده لم يعلمه، قال سليمان: أجل.

قالعليه‌السلام : من أين قلت ذاك، وما الدليل على أن إرادته علمه؟ وقد يعلم ما لا يريدهُ أبداً، وذلك قوله عزّ وجلّ:( وَلَئِن شِئنا لَنَذهبنَّ بِالَّذي أَوحَينا إلَيكَ ) (٣) ، فهو يعلمُ كيف يذهبُ به وهو لا يذهب به أبداً، قال سليمان: لأنه قد فرغَ من الأمر فليس يزيد فيه شيئاً.

____________________

(١) هذه الجملة تأكيد للشرط بلفظ آخر وقعت بين اسم كانت وخبرها: وفي نسخة (ط) و(ن) «إذا كانت ارادة واحدة» وفي نسخة (و) «إذ كانت ارادته واحدة» وفي البحار: «فان كان معناها معنى واحداً كانت ارادة القيام ارادة القعود، وارادة الحياة ارادة الموت، إذ كانت ارادته واحدة لم يتقدم بعضها بعضاً - الخ» وهذا أحسن.

(٢) أي كان المراد شيئاً واحداً، وفي نسخة (و) و(ط) و(ن) «وكانت شيئاً واحداً».

(٣) الاسراء: ٨٦.

٥٨٠

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610