دراسات في العقيدة الإسلامية

دراسات في العقيدة الإسلامية18%

دراسات في العقيدة الإسلامية مؤلف:
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 212

دراسات في العقيدة الإسلامية
  • البداية
  • السابق
  • 212 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 71824 / تحميل: 7850
الحجم الحجم الحجم
دراسات في العقيدة الإسلامية

دراسات في العقيدة الإسلامية

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة التي طغت بها كتب العقيدة، وكتب الحديث في أبواب الأصول عند الإمامية.

ج - مع أدلة المجسمة:

ولكن مع ذلك، مع قيام الدليل العقلي والنقلي، على نفي الجسمية عنه تعالى، لا بد من استعراض أهم أدلة المجسمة، التي تمسكوا بها لإثبات الجسمية للّه سبحانه.

وقد استدلوا بالكتاب، وروايات زعموا أنها من السنة.

استدلالهم بالكتاب:

لقد وردت بعض الآيات الكريمة في كتاب اللّه، مضيفة بعض الأعضاء، كاليد والوجه وغيرهما إلى اللّه سبحانه.

وقد جمد المجسمة على ظواهر هذه الألفاظ، وتمسكوا بها كأدلة على ما ذهبوا إليه، من إثبات الجسمية للّه.

فمن ذلك:

قوله تعالى:( کُلُّ شَيْ‌ءٍ هَالِکٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) (١) .

وقوله تعالى:( إِنَّمَا نُطْعِمُکُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ ) (٢) .

وقوله تعالى:( وَ قَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) (٣) .

____________________

(١) القصص ٨٨

(٢) الإنسان ٩.

(٣) المائدة ٦٤.

١٤١

وقوله تعالى( قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَکَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (١) .

وقوله تعالى( يَوْمَ يُکْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ) (٢) .

حيث ذهبوا إلى أن من يكشف عن ساقه يوم القيامة، هو اللّه سبحانه.

استدلال المشبهة بما زعموا انه سنة:

والذي زاد في الطين بلة كما يقال، وكان داعياً إلى تمسك المشبهة بآرائهم هذه، وتصلبهم في مواقفهم، هو بعض الروايات الموجودة في عدد من كتب الحديث كالبخاري وغيره، نسبت بشكل خرافي ومضحك بعض الأعضاء للّه سبحانه.

منها : ما رواه البخاري عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: ان اللّه تعالى يوم القيامة، يمسك السموات على إصبع، والأرضين على اصبع والخلائق على اصبع، ثم يقول: أنا الملك(٣) .

ومنها : ما رواه البخاري أيضاً «يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياءاً وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً»(٤) .

ومنها : ما رواه البخاري كذلك، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله «لا يزال يلقى فيها وتقول - أي النار - هل من مزيد حتى يضع فيها رب العالمين

____________________

(١) ص ٧٦.

(٢) القلم ٤٢.

(٣) صحيح البخاري ٤ / ١٧٢.

(٤) نفس المصدر ٣ / ١٢٩.

١٤٢

قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض ثم تقول قد قد(١) بعزتك وكرمك»(٢) .

د - مناقشة وتفنيد وتوجيه:

والحقيقة، ان جميع ما استدل به المشبهة من آيات لما ذهبوا إليه، لا يمكن قبولها على ظاهرها، بالجمود على حاق الألفاظ الواردة فيها. وذلك لأمرين:

الأول : لمصادتها مع حكم العقل المتقدم باستحالة أن يكون تعالى جسماً.

الثاني : لمعارضتها - وهي من المتشابه - بنص من الآيات على أنه تعالى ليس بجسم ولا يشبه شيئاً من مخلوقاته ولا يشبهه شيء - وهي من المحكم - وذلك كقوله تعالى «ليس كمثله شيء» فلا بد من إرجاع المتشابه إلى المحكم وعرضه عليه، تمشياً مع القاعدة التي وضعها العلماء في التعامل مع المتشابه، والتي أشرنا إليها في بحوثنا التمهيدية. ولذلك، أوّل العلماء هذه الآيات كلها، بنحو يصرفها عن ظاهرها، ويجعلها موافقة مع منطق العقل، وما ورد من محكم الآيات.

أما الآيات التي ورد فيها لفظ الوجه والتي استدل بها المجسمة على أن للّه وجهاً، فلا بد من تناولها آية آية لنطلع على كيفية تأويل العلماء للفظ الوجه فيها.

____________________

(١) أي كفى كفى أو حسبي.

(٢) نفس المصدر ٤ / ١٦٩ - وصفحة ١١٧.

١٤٣

أما قوله تعالى «كل شيء هالك إلا وجهه » فقد ذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالوجه فيها الذات إذ إن «الذات هو بعض ما يراد لغة بالوجه»(١) .

ويقول الزمخشري: «والوجه يعبر به عن الجملة والذات، ومساكين مكة يقولون: أي وجه عربي كريم ينقذني من الهون»(٢) .

وعلى هذا يكون معنى الآية «كل شيء فان بائد إلا ذاته. كما يقال: هذا وجه الرأي، ووجه الطريق»(٣) .

ويقول الرازي في معنى هذه الآية «لا يبقى حياً يوم القيامة غير حقيقة اللّه أو غير ذات اللّه شيء. وهذا ما سيكون ويحصل»(٤) .

والواقع، أننا لو أردنا أن نجاري المجسمة فيما ذهبوا إليه، من أن المراد بالوجه في الآية الكريمة، ما يفهم من لفظ الوجه، وهو هذا الجزء المخصوص في الإنسان لكان معنى الآية «أنه يوم القيامة سيهلك كل ما عدا وجهه. وذلك ما لا يقول به عاقل»(٥) .

وقد ذهب ابن عباس وعطاء وأبو العالية والكلبي(٦) إلى أن معنى الآية: كل شيء هالك إلا ما أريد به وجه اللّه، فان ذلك يبقى ثوابه. وقد اختار هذا المعقول الفرّاء وأنشد:

____________________

(١) أمالي المرتضى ٣ / ٤٦.

(٢) الكشاف ٤ / ٥١.

(٣) مجمع البيان للطبرسي ٧ / ٢٦٩.

(٤) التفسير الكبير للرازي ٨ / ١٧.

(٥) نفس المصدر.

(٦) مجمع للبيان للطبرسي ٧ / ٢٧٠.

١٤٤

أستغفر اللّه ذنباً لست محصيه

رب العباد إليه الوجه والعمل

أي إليه أوجّه العمل. وعلى هذا يكون وجه اللّه ما وجّه إليه من الأعمال(١) .

وبهذا المعنى الأخير يتضح المراد بلفظ الوجه، في قوله تعالى:( إِنَّمَا نُطْعِمُکُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ ) وهو أن إطعام هؤلاء الطعام للفقراء والمساكين، إنما يكون موجهاً إليه سبحانه «لطلب رضا اللّه، خالصاً للّه، مخلصاً من الرياء وطلب الجزاء»(٢) وقس على هذا كل الآيات التي ورد فيها لفظ الوجه مضافاً إليه سبحانه.

وأما الآيات التي ورد فيها لفظ اليد، والتي استدل بها المجسمة على ان للّه يداً، فقد أوّلها العلماء بشكل واضح ومعقول.

أما قوله تعالى( وَ قَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) الآية. فقد ذكر العلماء أن للفظ اليد في لغة العرب عدة معان، منها النعمة(٣) . وهي بهذا المعنى مستعملة في ألسنة العرب كثيراً، من ذلك قول عدي بن زيد:

ولن أذكر النعمان إلا بصالح

فإن له عندي يديّاً وأنعما

وهي بهذا المعنى استعملت في الآية الكريمة.

وإنما وردت بلفظ التثنية في نفس الآية( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) لأحد أمور:

____________________

(١) نفس المصدر.

(٢) مجمع البيان للطبرسي ١٠ / ٤٠٨. وقد وردت عن أئمة أهل البيت (ع) روايات كثيرة في تفسير وجه اللّه في الآية الكريمة وأمثالها بهذا المعنى فراجع الكافي ١٤٣.

(٣) أمالي المرتضى ٣ / ٩١ - ٩٢.

١٤٥

الأول : انه «مبالغة في معنى الجود الإنعام، لأن ذلك أبلغ فيه من أن يقول: بل يده مبسوطة»(١) .

الثاني : ان «يكون الوجه في تثنية النعمة - والتي بها لفظ اليد - انه أراد نعم الدنيا ونعم الآخرة. ويمكن أن يكون تثنية النعمة، أنه أريد بهما النعم الظاهرة والباطنة»(٢) .

وقد ذهب بعض العلماء(٣) ، إلى تفسير اليد هنا بالقوة والقدرة. وعليه يكون المراد من تثنية لفظ اليد في الآية الكريمة «بل يداه مبسوطتان»، أن قوّتيه «بالثواب والعقاب مبسوطتان، بخلاف قول اليهود، أن يده مقبوضة عن عذابنا».

وبهذا المعنى الأخير، للفظ اليد، وهو للقوة والقدرة فسّر لفظ «يديّ» في قوله تعالى:( يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَکَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) وتكون تثنية اليد، مبالغة في القوة والقدرة.

كما فسر لفظ يدي هنا، «بتحقيق إضافة الفعل فيكون المعنى: لما تولّيت خلقه»(٤) .

وقس على هذا كل الآيات التي ورد فيها لفظ اليد مفرداً أو مثنى مضافاً إليه سبحانه.

وأما الآية التي ورد فيها لفظ الساق( يَوْمَ يُکْشَفُ عَنْ سَاقٍ ) والتي قال المجسّمة بأن الذي يكشف عن ساقه هو اللّه كما تقول هذه الآية. فليس في

____________________

(١) و(٢) مجمع البيان للطبرسي ٣ / ٢٢٠.

(٣) نفس المصدر.

(٤) مجمع البيان للطبرسي ٣ / ٢١٨.

١٤٦

السياق حتى ما يشعر بأن المقصود بذلك اللّه سبحانه، وإنما الآيات السابقة على هذه الآية واللاحقة لها، واردة كلها، في وصف حال الكفار يوم القيامة(١) .

وقد ذهب العلماء إلى القول، بأن هذا التعبير( يَوْمَ يُکْشَفُ عَنْ سَاقٍ ) أريد به بيان أن يوم القيامة، يوم الشدة والأهوال.

وإرادة الشدة والأهوال، بمثل هذا التعبير، شائع في ألسنة العرب، حيث نراهم يقولون: «قامت الحرب على ساق، يريدون شدتها. وقال جد أبي طرفة:

كشفت لكم عن ساقها

وبدا من الشر الصراح(٢)

فتأويل الآية على ما تقدم «يوم يشتد الأمر، كما يشتد ما يحتاج فيه إلى أن يكشف عن ساق».

وقد ذهب بعض العلماء، إلى أن المراد بهذه الآية «تصوير حال الإنسان العاصي التارك للصلاة في آخر عمره، وقد أذهله ما نزل به من هول الموت، أو حال هرمه وعجزه عن الصلاة حين يدعى إليها وما تتطلبه من السجود للّه. ويستدل من يرى هذا الرأي بأن سياق الآية هو «ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعةً أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون»(٣) .

____________________

(١) راجع الكشاف للزمخشري ٤ / ١٣١ وتفسير الرازي ٨ / ١٩٣ - ١٩٤.

(٢) مجمع البيان للطبرسي ١٠ / ٣٣٨ وراجع الكشاف للزمخشري ٤ / ١٣١ وتفسير الرازي ٨ / ١٩٣ - ١٩٤.

(٣) القرآن والفسلفة للدكتور محمد يوسف موسى ٧٥ نقلاً عن كتاب ملتقط جامع التأويل لأبي مسلم الأصفهاني ٩١ - ٩٢.

١٤٧

وأما ما استدل له المجسمة من روايات زعموا بأنها سنة، وجعلوها حجة على ما افتروه على اللّه، من جعل الجسمية له سبحانه، فما هي إلا أباطيل ومفتريات، على اللّه ورسوله، ولذا نجد الشهرستاني يقول وهو بصدد الحديث عن هذه الفئة الممقوتة «وزادوا - أي المجسمة - في الأخبار أكاذيب وضعوها ونسبوها إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأكثرها مقتبسة من اليهود، فان التشبيه فيهم طباع حتى قالوا: اشتكت عيناه - أي اللّه - فعادته الملائكة. وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه، وان العرش ليئط من تحته كأطيط الرّحل الحديد، وأنه ليفضل من كل جانب أربع أصابع»(١) .

إلى غير ذلك من الأكاذيب التي تزخر بها كتب الحديث، كالبخاري ومسلم وغيرهما.

دعوة إلى تطهير كتب الحديث:

ونحن لو راجعنا هذين الكتابين وغيرهما، لطالعنا بشكل واضح جلي السخف والإفتراء والدس، في غير من المواضع فيها.

فمثلاً نجد فيها، بالإسناد عن أبي هريرة إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أن بني إسرائيل كانوا «يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض، وكان موسىعليه‌السلام يغتسل وحده. فقالوا واللّه ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر (أي مفتوق). قال فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فجمع موسى بأثره يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى نظر بنو إسرائيل إلى سوأة موسى. فقالوا واللّه ما بموسى من بأس. فقام الحجر بعد، حتى نظر

____________________

(١) الملل والنحل ١ / ١٠٦.

١٤٨

إليه. فأخذ موسى ثوبه، فطفق بالحجر ضرباً، فواللّه ان بالحجر ندباً ستة أو سبعة»(١) .

ونجد فيها أيضاً عن رسول اللّه بالإسناد عن أبي هريرة أنه «جاء ملك الموت إلى موسى فقال له: أجب ربك، فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها. فرجع ملك الموت إلى اللّه تعالى فقال: إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت ففقأ عيني. فرد اللّه عينه وقال: إرجع إلى عبدي فقل الحياة تريد، فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور، فاتوارت بيدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة»(٢) .

ومن الغريب، بعد كل ذلك وغيره، أن يصر على تسمية هذه الكتب بالصحاح.

وان العلماء مدعوون اليوم، إلى تطهير هذه الكتب، مما فيها من أكاذيب وموضوعات، تنفّر الإنسان من الدين، بتصويرها له دين سخافات، وخرافات ومضحكات.

وقد ابتدأ الواعون من العلماء ومفكري المسلمين، برفع أصواتهم منادين بضرورة إجراء مثل هذا التطهير، لكتب الحديث، والتفسير أيضاً(٣) .

____________________

(١) راجع صحيح ٢ / ٣٠٨ والبخاري ١ / ٤٢ ومسند أحمد بن حنبل ٢ / ٣١٥.

(٢) صحيح مسلم ٢ / ٣٠٩ والبخاري ٢ / ١٦٣. وراجع لزيادة الإطلاع على هذه السخافات إن شئت وأمثالها مسند أحمد ٢ / ٢٢٩، ٢٧٠ - ٣١٥. وصحيح البخاري ٣ / ١٧٦ ومسلم ١ / ٢٨٣ ومسلم ٢ / ٢٣ وغيرها.

(٣) لقد صرح بذلك وحمل لواء هذه الدعوة أستاذ كبير من علماء السنة هو عبد الوارث كبير على صفحات مجلة العربي فراجع العدد ٨٦ / ١٩٦٦ صفحة ١٥٠ - ١٥١ والعدد ٨٧ / ١٩٦٦ صفحة ١٣٨ - ١٣٩ - ١٤٠.

١٤٩

ه - القول بالتجسيم ولوازمه الباطلة:

ومن الواضح، أن المجسمة، لما أثبتوا بأوهامهم، الجسمية للّه سبحانه، التزموا بكل ما تستلزمه الجسمية من لوازم باطلة، أهمها ثلاثة: جواز رؤيته سبحانه، وكونه في جهة معينة هي السماء، وجواز انتقاله من مكان إلى مكان. وقد استدلوا على كل واحد من هذه اللوازم بآيات، جمدوا على ظواهر ألفاظها، إضافة إلى بعض أحاديث ومرويات.

ونحن سوف نستعرض أدلة المجسمة في كل مورد من هذه الموارد الثلاثة على حدة لنناقشها، ونبيّن وجه بطلان تلك الإستدلالات.

أولاً: المجسمة والتزامهم بجواز رؤيته سبحانه

وقد ذهب المجسمة بما فيهم متقدمو الأشاعرة، إلى القول بجواز رؤيته سبحانه في الدنيا والآخرة وقد استدلوا لما ذهبوا إليه بآيات وبعض مرويات.

ولا بد، قبل الخوض في استدلال هؤلاء، من التنبيه على أن متأخري الأشاعرة، الذين نزّهوا اللّه عن الجسمة والتشبيه، قد التزموا بجواز رؤيته سبحانه في الدنيا، ووقوع رؤيته في الآخرة على نحو الجزم واليقين(١) وقد استندوا إلى نفس هذه الآيات وتلك المرويات إضافة إلى بعض الوجوه العقلية التي سوف نتعرض لأهمها وندحضها.

____________________

(١) راجع الموقف للإيجي ٨ / ١١٥ كما يراجع الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد الفيلسوف ١٨٦.

١٥٠

أما الآيات التي استدل بها هؤلاء جميعاً مجسمة وأشاعرة متأخرين عنها قوله تعالى( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (١) .

حيث قالوا بأن هذه الآية «ظاهرة في أن أصحاب الوجوه الناضرة يوم القيامة ينظرون إلى ربهم فيرونه عيانا»(٢) .

تفنيد وتوضيح:

ومن الواضح، أن الإستدلال بهذه الآية على ما ذهبوا إليه، يتوقف على أن يكون المراد بالنظر فيها بمعنى الرؤية. وذك باطل لأن النظر لا يفيد الرؤية لغة، وذلك لعدة أمور:

الأول: أن النظر «إذا علّق بالعين، أفاد طلب الرؤية. كما إذا علق بالقلب أفاد طلب المعرفة، بدلالة قولهم: نظرت إلى الهلال فلم أره. فلو أفاد النظر الرؤية لكان هذا القول ساقطاً متناقضاً»(٣) .

الثاني: أنه لو كان النظر بمعنى الرؤية، لبطل ما يقوله العرب، ما زلت أنظر إليه حتى رأيته، لأنه يستلزم جعل الشيء غاية لنفسه. فيكون معنى هذا القول ما زلت أراه حتى رأيته. ولعل الشيء، غاية لنفسه ممتنع.

الثالث: أننا «نعلم الناظر ناظراً بالضرورة، ولا نعلمه رائياً بالضرورة، بدلالة أنّا نسأله هل رأيت أم لا؟»(٤) .

____________________

(١) القيامة ٢٤ / ٢٥.

(٢) حول الرؤية للسيد عبد الحسين شرف الدين ٥٨.

(٣) مجمع البيان للطبرسي ١٠ / ٣٩٨.

(٤) مجمع البيان للطبرسي.

١٥١

وإذا لم يصح أن يكون المراد بالنظر في الآية الكريمة، الرؤية بحاسة العين، فلا بد من إرادة معنى آخر به. والمراد به هنا: الإنتظار(١) .

واستعمال النظر، وإرادة الإنتظار، شائع في لسان العرب.

قال الشاعر:

وجوه يوم بدر ناظرات

إلى الرحمن تنتظر الفلاحا

كما ورد في القرآن الكريم بهذا المعنى، على لسان بلقيس ملكة سبأ: (واني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون)(٢) .

أي منتظرة بم يرجع المرسلون. فيكون معنى الآية على هذا، أن تلك الوجوه يوم القيامة «منتظرة لثواب ربها. وروي ذلك عن مجاهد والحسن وسعيد بن جبير والضحاك وهو المروي عن عليعليه‌السلام »(٣) .

وإن أبى المجسمة واخوانهم، إلا أن يحملوا النظر في الآية على الرؤية بالعين الباصرة فيمكن أن يتم ذلك، بشرط تقدير مضاف محذوف، فتصبح الآية مع التقدير هكذا «وجوه إلى ثواب ربها ناظرة. أي هي ناظرة إلى نعيم الجنة حالاً بعد حال. روي ذلك عن جماعة من علماء المفسرين من الصحابة والتابعين لهم وغيرهم»(٤) .

____________________

(١) نفس المصدر ٣٩٧.

(٢) النمل ٣٥.

(٣) مجمع البيان للطبرسي ١٠ / ٣٩٨ وكذا الطبري (تفسير) ٢٨ / ١٠٤.

(٤) مجمع البيان ١٠ / ٣٩٨.

١٥٢

ومن الآيات التي استدل بها هؤلاء على جواز رؤيته سبحانه قوله تعالى حكاية عن موسى (رب أرني انظر إليك)(١) .

وتقريب استدلالهم بها «أن موسى (ع) سأله الرؤية، ولو كانت ممتنعة لم يصح عنه السؤال»(٢) .

تفنيد وتوضيح:

والحقيقة، أن هذا الإستدلال باطل من أساسه، لأن موسىعليه‌السلام «لم يسأل الرؤية نفسها، وإنما سألها لقومه حين قالوا له: نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة. ولذلك قالعليه‌السلام لما أخذتهم الرجفة: أتهلكنا بما فعل السفهاء منا، فأضاف ذلك إلى السفهاء»(٣) .

فإذن، إنما سألعليه‌السلام الرؤية، مع علمه باستحالتها، لترتب غرض عقلاني ومشروع على سؤاله ذاك، وهو أنه قصد «أن يفحم هؤلاء السائلين، وأن يلقمهم الحجر حين يسمعون النص من اللّه باستحالتها»(٤) .

ومن جملة الآيات التي استدل بها هؤلاء لمذهبهم، قوله تعالى في نفس الآية (قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني)(٥) .

____________________

(١) الأعراف ١٤٣.

(٢) شرح التجريد للعلامة الحلي ٢٣٠ كما يراجع الرازي ٣ / ٢٩٤.

(٣) مجمع البيان للطبرسي ٤ / ٤٧٤.

(٤) أمالي المرتضى ٤ / ١٢٣ - ١٢٤.

(٥) الأعراف ١٤٣.

١٥٣

وتقريب الإستدلال بها «أن اللّه سبحانه وتعالى علق الرؤية في سؤال موسىعليه‌السلام على استقرار الجبل. والإستقرار ممكن، لأن كل جسم سكونه ممكن، والمعلق على الممكن ممكن»(١) .

تفنيد وتوضيح:

والجواب عن هذا الإستدلال، أن الإستقرار الذي علّقت عليه الرؤية، ليس ممكناً، كما يدّعي هؤلاء، لأنه ليس مطلق الإستقرار، بل الإستقرار الخاص، وهو سكون الجبل حال حركته وتزلزله وحيث ان الحركة والسكون نقيضان، فيستحيل اجتماعهما، كان استقرار الجبل هنا محالاً، فيكون ما علّق على المحال، وهو رؤيته سبحانه محالاً أيضاً.

وأما المرويات التي استدل بها هؤلاء لما ذهبوا إليه من تجويزهم رؤيته سبحانه فعديدة.

منها : ما رواه البخاري(٢) ومسلم(٣) بسنديهما إلى أبي هريرة «قال أناس يا رسول اللّه هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارّون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول اللّه. قال: هل تضارّون في القمر ليلة البدر ليس دنه سحاب؟ قالوا: لا يا رسول اللّه. قال: فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك» الحديث.

____________________

(١) شرح التجريد للعلامة الحلي ٢٣١.

(٢) صحيح البخاري ٤ / ٩٢.

(٣) صحيح مسلم ١ / ٨٦.

١٥٤

ومنها: ما يسمى بحديث التجلّي، وقد ورد بطرق عدة(١) نقتصر منها على طريقين فقط.

الأول : محمد بن بيان عن شيخه الحسن بن كثير، عن أحمد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن أنس، قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله «يا أبا بكر إن اللّه يتجلى للخلائق عامة ويتجلى لك خاصة»(٢) .

الثاني : عن أبي داود سليمان بن عمرو، عن هشام بن حسان، عن الحسن عن عبد اللّه قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله «إذا كان يوم القيامة، يأمر اللّه عز وجل، فينصب لإبراهيم خليل اللّه منبر، وينصب لي منبر ولك يا أبا بكر منبر. فيتجلى الرب جل جلاله مرة في وجه إبراهيم ضاحكاً، ومرة في وجهي ضاحكاً، ومرة في وجهك ضاحكاً. ثم قرأ: أولى الناس بابراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذي آمنوا أبو بكر»(٣) .

نقاش وتفنيد:

ومن الواضح، حتى لو أغمضنا عن متن الحديث الذي رواه كل من البخاري ومسلم، مع ما فيه من الخرافات والسخافات، التي توجب القطع بعدم صدوره عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنما هو من الموضوعات والمفتريات عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى لو أغمضنا عن كل ذلك، فإن في ضعف سنده ما يكفي لطرحه وعدم قبوله.

____________________

(١) لقد أحصى تلك الطرق الإمام شرف الدين في كتيبه (حول الرؤية) فراجع ٨٠ وما بعدها.

(٢) راجع شجرة العقول للوليد الزوزني.

(٣) نفس المصدر.

١٥٥

ذلك أن الشيخين قد روياه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بسند ورد فيه كل من سويد بن سعيد وزيد بن أسلم.

ونحن لو راجعنا كتب الجرح والتعديل، لوجدنا فيها أن الأول منهما كان كثير التدليس، منكر الحديث، ضعيفاً جداً، كذبه ابن معين وسبّه(١) .

ولوجدنا فيها، أن الثاني منهما هو أحد الضعفاء، وكان أهل المدينة يتكلمون فيه وهم به أعرف وكان لا يبالي بالمأثور من تفسير القرآن وإنما يفسره برأيه(٢) .

وأما حديث التجلّي. فحتى لو أغمضنا لما فيه من مغزى سياسي، يرمي إلى وضع كرامة من الكرامات لأبي بكر التي رأينا مثلها كثيراً في كتب الحديث لكل من عمر وعثمان بل وحتى لمعاوية كانت قد اقتضتها ظروف تاريخية معينة مرت بها الاُمة الإسلامية: حتى لو أغمضنا عما فيه من هذه الناحية فإن في ضعف سنده بكلا طريقيه اللذين ذكرناهما هنا - وكذا بقية طرقه التي لم نذكرها - ما يكفي لطرحه والإعراض عنه.

فقد ورد في الطريق الأول، محمد بن بيان. وقد كان هذا الرجل من الكذّابين الوضّاعين(٣) وورد في الطريق الأول أيضاً الحسن بن كثير، وهذا الرجل من المجاهيل(٤) .

وأما الطريق الثاني، الذي روي به هذا الحديث، فقد ورد فيه أبو داود

____________________

(١) راجع الذهبي في كتابه ميزان الإعتدال.

(٢) راجع الكامل لابن عدي.

(٣) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ٢ / ٩٧. وراجع الذهبي في ميزان الإعتدال ٣ / ٣٢.

(٤) راجع ميزان الإعتدال للذهبي ١ / ٢٤١.

١٥٦

سليمان بن عمرو، وهذا الرجل كذّاب، دجّال، وضّاع(١) .

متأخرو الأشاعرة وأدلتهم العقلية على جواز الرؤية مع نفي الجسمية:

لقد سبق وقلنا، بأن متأخري الأشاعرة مع التزامهم بنفي الجسمية عنه سبحانه، التزموا في نفس الوقت بإمكان رؤيته سبحانه في الدنيا ووقوعها في الآخرة. وقد استندوا إضافة إلى ما تقدم منا تفنيده وتوهينه من استدلال بالآيات والروايات، إلى بعض الوجوه العقلية نذكر أهمها:

الوجه الأول : اننا نرى الأجسام (الجواهر) والأعراض. وليست علة صحة رؤيتنا لها إلا أحد أمور ثلاثة. إما من جهة أنه جسم، أو لون، أو موجود. «وباطل أن يرى من قبل أنه جسم، إذ لو كان ذلك كذلك لما رئي اللون. وباطل أن يرى لمكان أنه لون، إذ لو كان ذلك كذلك لما رئي الجسم. فيبقى أن يرى الشيء من قبل أنه موجود»(٢) . وحيث ان اللّه موجود «فيصح أن يرى، من حيث تحقق علة الصحة وهي الوجود».

استدلال ونقاش:

وهذا الدليل باطل لأمرين:

الأول : ان قول المستدل «وباطل أن يرى لمكان أنه لون» غير صحيح، لأن ما يرى في الحقيقة هو اللون فقط، دون الجسم فإنه ممتنع على الرؤية، إلا من قبل اللون، ولذا ما ليس له لون لا يبصر.

١٥٧

الثاني : ان حصر المستدل، علة صحة الرؤية بالموجودية، يستلزم صحة رؤية بعض الأمور المقطوعة الوجود كالأصوات والطعوم والروائح وغير ذلك كالعلم والقدر والبخل. مع أننا لا نرى بالوجدان شيئاً من هذه الأمور.

الوجه الثاني : ما حاول الغزالي أن يستدل به على جواز الرؤية مع التزامه بنفي الجهة والجسمية عنه، وحاصل هذا الدليل «أن الإنسان يبصر ذاته في المرآة. وذاته ليست في جهة غير جهة مقابلة ولما كان يبصر ذاته، وكانت ذاته لا تحل في المرآة التي في الجهة المقابلة فيترتب على ذلك أن يبصر ذاته في غير جهة»(١) .

ولا يخفى ما في هذا الدليل من المغالطة، كشفها ابن رشد الفيلسوف حيث قال في مقام تفنيده له «إن الذي يبصر هو خيال ذاته، والخيال منه في جهة إذ كان الخيال في المرآة، والمرآة في جهة»(٢) .

تعقيب وتعليق:

ومن الغريب حقاً، أن يلتزم هؤلاء بجواز الرؤية للّه سبحانه، في نفس الوقت الذي ينفون فيه الجهة والجسمية عنه سبحانه. في حين أن من شروط إدراك البصر «أن يكون المرئي في جهة ما مخصوصة، ولذلك لا يتأتى الرؤية بأي وضع اتفق أن يكون البصر من المرئي، بل وبأوضاع محدودة، وشروط محدودة، وهذا الشروط هي حضور الضوء، والجسم الشفاف المتوسط بين البصر والمبصر، وكان المبصر ذا ألوان ضرورة»(٣) .

____________________

(١) مقاصد الفلاسفة للغزالي ٤٢.

(٢) الكشف عن مناهج الأدلة ١٨٧.

(٣) الكشف عن مناهج الأدلة ١٨٦ - ١٨٧.

١٥٨

النتيجة:

والنتيجة التي توصلنا إليها، بعد تفنيد كل استدلالات المجسمة واخوانهم هي استحالة رؤيته سبحانه، التي يحكم بها العقل مستقلاً. لأن الرؤية ملازمة للجسمية، المستحيلة بالنسبة إلى واجب الوجود بذاته.

والواقع، أننا حتى لو أغمضنا النظر عن حكم العقل هذا باستحالة رؤيته سبحانه، لإحالته الجسمية عليه فإن في النقل كفاية، في الدلالة على ذلك، آيات وروايات.

أما الآيات، فيكفينا منها قوله تعالى، وهو من المحكم «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار»(١) .

فمن الواضح، أن هذه الآية صريحة في أن اللّه سبحانه «قد تعالى على جميع الموجودات بمجموع هذين الأمرين اللذين اشتملت عليهما الآية الكريمة لأن من الأشياء ما يَرى ويُرى كالأحياء من الناس. ومنها ما يُرى ولا يَرى كالجمادات والأعراض المرئية. ومنها ما لا يَرى ولا يُرى كالأعراض التي لا ترى. فاللّه تعالى خالقها جميعها وتعالى عليها وتفرد بأن يَرى ولا يُرى»(٢) . وتمدّح بنفي الإدراك الذي هو رؤية البصر عن نفسه على وجه يرجع إلى ذاته فيجب أن يكون ثبوت الرؤية له - كما يدعي المجسمة واخوانهم - في وقت من الأوقات نقص وذم»(٣) واللّه سبحانه منزّه عن أي ذم ونقص، لأنه الكامل المطلق.

____________________

(١) الأنعام ١٠٣.

(٢) حول الرؤية للإمام شرف الدين ١٣.

(٣) أمالي المرتضى ١ / ١٦.

١٥٩

ونحن لو راجعنا سياق هذه الآية، لوجدنا أنه كله وارد في تأكيد ذلك التمدح منه تعالى لذاته حيث كان ما سبق عليها وهو ما يقرب من عشر آيات بصدد ذلك منها قوله سبحانه: (بديع السموات والأرض انّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ذلكم اللّه ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير)(١) .

وأما الروايات، فقد وردت متضافرة عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام تحيل رؤيته سبحانه، وتشن حملة لا هوادة فيها على الآراء الضالة المضلّة، التي تجيز تلك الرؤية، وتكشف زيفها وبطلانها.

منها : ما رواه الكليني(٢) في الكافي بسنده إلى الإمام الصادقعليه‌السلام قال جاء رجل إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال يا أمير المؤمنين، هل رأيت ربك حين عبدته؟ فقال: ويلك، ما كنت أعبد رباً لم أره. قال: وكيف رأيته؟ قال: لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان».

ومنها : ما رواه الكليني أيضاً في الكافي(٣) ، بسنده إلى الإمام الباقرعليه‌السلام حين سأله أحد أصحابه عن الرؤية فقال له: أوهام القلوب أدقّ من أبصار العيون. أنت قد تدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها، ولا تدركها ببصرك. وأوهام القلوب لا تدركه. فكيف أبصار العيون.

____________________

(١) الأنعام ١٠١ - ١٠٣.

(٢) الجزء ١ كتاب التوحيد ٩٨.

(٣) نفس المصدر ٩٩.

١٦٠

ومنها: ما رواه الكليني(١) عن أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، «قال سألني أبو قرة المحدث، أن أدخله على أبي الحسن علي بن موسى الرضاعليه‌السلام فاستأذنته في ذلك فأذن لي، فدخل عليه، فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد. فقال أبو قرة: إننا روينا أن اللّه قسم الرؤية والكلام في نبيّين. فقسم الكلام لموسى ولمحمد الرؤية. فقال أبو الحسنعليه‌السلام : فمن المبلغ عن اللّه إلى الثقلين من الجن والإنس: «لا تدركه الأبصار» «ولا يحيطون به علماً» و«ليس كمثله شيء» أليس محمد؟ قال أبو قرة: بلى؟ قال الإمامعليه‌السلام كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنه جاء من عند اللّه، وأنه يدعوهم إلى اللّه بأمر اللّه فيقول: لا تدركه الأبصار، ولا يحيطون به علماً، وليس كمثله شيء. ثم يقول: أنا رأيته بعيني، وأحطت به علماً، وهو على صورة بشر؟ أما تستحون»؟.

ومنها: ما رواه في الكافي(٢) ، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي نجران، عن عبد اللّه بن سنان، عن الإمام الصادقعليه‌السلام في قوله «لا تدركه الأبصار»: قال: إحاطة الوهم، ألا ترى إلى قوله: (قد جاءكم بصائر من ربكم)(٣) ليس يعني بصر العيون، فمن أبصر فلنفسه ليس يعني من البصر

____________________

(١) نفس المصدر ٩٦.

(٢) نفس المصدر ٩٨.

(٣) الأنعام ١٠٤.

١٦١

بعينه، ومن عمي فعليها، ليس يعني عمى العيون، إنما عنى إحاطة الوهم كما يقال فلان بصير بالشعر، وفلان بصير بالفقه، وفلان بصير بالدراهم وفلان بصير بالثياب، اللّه أعظم من أن يرى بالعين».

ثانياً: المجسمة وكون اللّه في جهة معينة

لقد سبق وقلنا، بأن المجسمة التزموا بثلاثة أمور كانت لازمة لمقالتهم بأن اللّه جسم. وقد تكلمنا في اللازم الأول، وهو جواز رؤيته سبحانه، حيث أثبتنا استحالتها، والآن لا بد لنا من التعرض للازم الثاني من اللوازم الفاسدة وهو كون اللّه سبحانه في جهة معينة هي السماء.

وقد استدل المجسمة لقولهم هذا بعدة آيات.

منها : قوله تعالى (وهو اللّه في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم)(١) .

فهذه الآية صريحة في أن اللّه - عند المشبهة - في السموات.

ومنها : قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده)(٢) .

وهذه الآية صريحة أيضاً، في أن اللّه فوق العباد، وحيث أن عباد اللّه على الأرض، فلا بد وأن يكون من فوقهم في السماء، لأنها فوق الأرض كما هو واضح!!

____________________

(١) الأنعام ٤.

(٢) الأنعام ٦١.

١٦٢

نقاش وتفنيد وتوضيح:

والحقيقة أن المجسمة، حيث جمدوا على ظاهر الفاظ هذه الآيات، من دون تحكيم للعقل، بل ولا تدقيق في النواحي اللغوية والنحوية، التي لو حاولوا إعمالها، لما وقعوا فيما وقعوا فيه من سخف.

وان هاتين الآيتين، كغيرهما من الآيات، قد وجّهها علماء الإسلام وأزاحوا بعض ما قد يكتنفها من غموض، بحيث صارت واضحة جلية منسجمة مع بقية الآيات المحكمة في كتاب اللّه، والتي تؤكد أن اللّه سبحانه يستحيل عليه التحيز في مكان، أو الإفتقار إليه.

أما بالنسبة للآية الأولى. فإنه يتضح معناها، إذا التفتنا إلى أن فاعل «يعلم» في الآية، هو اللّه سبحانه، وان الخطاب لجميع المخلوقات العاقلة، وهي الملائكة والجن والانس. وعلى ضوء ذلك يكون معنى الآية: هو اللّه يعلم سركم وجهركم، سواء كنتم في السموات أو في الأرض ويعلم ما تكسبون.

فالآية الكريمة واردة لبيان مدى سعة حاكمية اللّه سبحانه، وان هذه الحاكمية منبسطة شاملة للكون سماواته وأرضه، وليست واردة لبيان محدودية ذات اللّه سبحانه من حيث المكان فهي على هذا، نظير قوله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله)(١) .

وإلا لو كانت الآية واردة لبيان ما ذهب إليه المجسمة، من أنه سبحانه في جهة هي السماء، فماذا يفعلون في قوله تعالى في نفس الآية «وفي الأرض» بعد قوله «هو اللّه في السماوات»؟.

____________________

(١) الزخرف ٨٤.

١٦٣

وكيف يجمعون بين كونه - كما يعتقدون في السماء - وكونه في الأرض. وكذلك ما يصنعون في قوله تعالى في الآية الأخرى «وفي الأرض إله».

والواقع، أنه لا يمكن هنا الجمع، إلا إذا قلنا، بأن الآية واردة لبيان مدى شمول علم اللّه وحاكميته. ولا إشكال في أن هذه الحاكمية وذلك العلم، شامل للسموات والأرض والكون بأجمعه.

وأما الآية الثانية التي استدل بها هؤلاء «وهو القاهر فوق عباده» فمن الواضح أن الفوقية فيها، التي تمسكوا بها، ليس المراد بها الفوقية الحسية، بل يراد بها بيان كمال قدرته سبحانه «ومثله في اللغة، أمر فلان فوق أمر فلان، أي هو أعلى أمراً، وأنفذ حكماً. ويقال: فوقه في العلم أي أعلم منه، وفوقه في الجود. أي أجود منه(١) ».

بل ورد في القرآن، ما يؤكد هذا الفهم، وذلك في قوله تعالى، حكاية عن فرعون «وإنا فوقهم قاهرون»(٢) . ومن الواضح، أن فوقية فرعون لم تكن فوقية حسية، بل كانت فوقية قوة وقدرة وبطش.

اللّه والعرش والمجسمة:

وإذا كان اللّه عند المجسمة في السماء، فلا بد له من شيء يجلس عليه، يناسب عظمته وسعة ملكه، فقالوا بأنه يجلس في السماء على عرش «يئط(٣)

____________________

(١) مجمع البيان للطبرسي ٤ / ٣١٣.

(٢) الأعراف ١٢٧.

(٣) أي يحدث صوتاً من ثقل حمله.

١٦٤

من تحته كأطيط الرحل الحديد، وإنه ليفضل من كل جانب أربع أصابع»(١)

وقد استدل المجسمة على أن للّه عرشاً يجلس عليه بآيات. أهمها قوله تعالى (الرحمن على العرش استوى)(٢) .

حيث فهموا من الإستواء في الآية ما هو المتعارف من جلوس الملوك على عروشهم.

تفنيد وإيضاح:

والواقع أنه ليس المراد بالعرش، هذا الكرسي الفخم، المرصع بالجواهر واليواقيت، المتعارف للحكام والملوك، بل المراد به عالم الخلق والأمر، وتدبير شؤون الكون وليس المراد بالإستواء الجلوس، بل المراد بالإستواء الإستيلاء على كل ذلك.

وقد ورد الإستواء بمعنى الإستيلاء في كلام العرب. من ذلك قول الشاعر:

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

قالوا: استوى فلان على العرش، يريدون ملك، وإن لم يقعد على السرير البتّة، ونحوه قولك: يد فلان مبسوطة، ويد فلان مغلولة بمعنى أنه جواد أو بخيل حتى أن من لم يبسط يده بالنوال قط أو لم تكن له يد رأساً قيل فيه يده مبسوطة لمساواته عندهم قولهم هو جواد»(٣) .

____________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ١ / ١٠٦.

(٢) طه ٦.

(٣) الكشاف للزمخشري ٢ / ٥٣٠.

١٦٥

ثالثاً - المجسّمة وانتقال اللّه من مكان إلى مكان

واللازم الثالث، من لوازم جسمية اللّه، التي اعتقد هؤلاء بها، جواز انتقاله سبحانه من مكان إلى مكان، وتجويز السكون والحركة عليه. وقد استدلوا على ذلك بآيات وبعض مرويات.

فمن جملة الآيات التي استدلوا بها قوله تعالى: (وجاء ربك والملك صفاً صفاً)(١) .

ومن جملة المرويات التي استدلوا بها، ما رواه البخاري عن أبي هريرة عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال «يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له»(٢) .

ويروى(٣) بمناسبة حديث النزول هذا، عن ابن تيمية، وهو من الحنابلة - السلفيين، أنه قام على منبر الجامع الأموي بدمشق خطيباً، فقال، فيما قال: ان اللّه ينزل إلى السماء كنزولي هذا. ونزل درجة من درجات المنبر.

تفنيد وتوضيح:

وما استدل به المجسمة على مدّعاهم من جواز انتقاله سبحانه من مكان إلى مكان، غير دال أبداً.

____________________

(١) الفجر ٢٣.

(٢) البخاري ٤ / ٦٨ وصحيح مسلم ١ / ٢٨٣ ومسند أحمد ٢ / ٢٥٨.

(٣) رحلة ابن بطوطة ١ / ٥٧.

١٦٦

اما قوله تعالى: (وجاء ربك والملك صفاً صف)وأمثالها من الآيات التي ورد فيها لفظ جاء، وأتى واشتقاقاتهما، فإنه مبني على تقدير مضاف محذوف هو أمر، أو بأس، أو عذاب وعلى هذا يكون المعنى: وجاء أمر ربك، أو بأس ربك، أو عذاب ربك.

وقد ورد ذلك صريحاً في القرآن، في قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك)(١) .

وأما الرواية التي استدلوا بها على مدّعاهم، والتي تقول بأن اللّه ينزل كل ليلة إلىالسماء الدنيا فيكفي في ردها، واسقاطها عن الإعتبار، مخالفتها لحكم العقل باستحالة الحركة ويكون على اللّه سبحانه، باعتبار وجوب وجوده المقتضي لاتصافه بالقدم، وهذان الأمران حادثان، ويستحيل أن يكون القديم محلاً للحوادث.

هذا إضافة لمعارضتها بما هو حجة من الروايات الواردة عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام والتي تشنع على القائلين بهذه المقالة، وتكذّب القائلين بها. بل لعله يستشم من بعض هذه الروايات، أنها ناظرة إلى هذه الرواية وأمثالها ونافية نفياً قاطعاً لما ورد فيها. ومن هذه الروايات، ما رواه الكليني ثقة الإسلام(٢) بسند ينتهي إلى الإمام موسى بن جعفر الصادقعليه‌السلام حيث قال عندما ذكر عنده قوم يزعمون أن اللّه تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا: «ان اللّه لا ينزل ولا يحتاج أن ينزل، إنما نظره (أي علمه) في القرب والبعد سواء لم يبعد منه قريب ولم يقرب منه بعيد لا إله إلا هو العزيز الحكيم. أما قول الواصفين: انه ينزل تبارك وتعالى، فإنما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص

____________________

(١) النحل ٣٣.

(٢) الكافي ١ / ١٢٥.

١٦٧

أو زيادة. وكل متحرك محتاج إلى من يحركه أو يتحرك به. فمن ظن باللّه الظنون هلك. فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على حد تحدونه بنقص أو زيادة أو تحريك أو زوال أو استنزال أو نهوض أو قعود».

ولو أغمضنا عن هذا كله، فهذه الرواية التي استدلوا بها، ترجع جميع طرقها المروية بها، إلى أبي هريرة، وهو من عرف الواعون من علماء الإسلام، مدى قدرته على خلق الأحاديث، وافترائها على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) بل أحس بذلك معاصروه فأغلظوا له القول(٢) .

الخلاصة:

ومن كل ما تقدم، يتبين أن الحق ما عليه الامامية والمعتزلة، من القول بالتجريد، يعضدهم في موقفهم هذا، حكم العقل باستحالة أن يكون اللّه سبحانه جسماً، مؤيداً بالنقل من الكتاب العزيز والسنة الشريفة، وبهذا ينهدم الأساس، الذي بنى عليه المجسمة وإخوانهم من الاشاعرة، مقالاتهم الفاسدة، والتي كانت لازمة لعقيدتهم بالتجسيم، وهي جواز رؤيته سبحانه، وكونه في جهة معينة، وتجويز الحركة والانتقال والسكون عليه.

____________________

(١) لقد كفانا مؤونة بيان ذلك كل من العلمين الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين في كتابه القيم (أبو هريرة) والأستاذ محمود أبو ريه في كتابيه (أبو هريرة شيخ المضيرة) و(أضواء على السنة المحمدية) فراجع هذه الكتب فإنها جديرة بالإهتمام.

(٢) راجع للإطلاع على ذلك صحيح مسلم ٢ / ٢١٧ وشرح نهج البلاغة المجلد الأول ٣٥٩ وما بعدها وفجر الإسلام لأحمد أمين ٢٥٩ وآداب العرب لمصطفى صادق الرافعي ١ / ٢٨٢.

١٦٨

٢ - الصفات الثبوتية

وقد قسّمها العلماء إلى قسمين: صفات ذات. وصفات أفعال.

يقول الشيخ المفيد، من كبار متقدمي الامامية «صفات اللّه على ضربين، أحدهما منسوب إلى الذات، فيقال عنها أنها صفات للذات. وثانيهما منسوب إلى الافعال، فتكون صفة لها»(١) .

أ - معنى صفات الذات:

ويراد بصفات الذات، تلك التي لا يتصف اللّه بأضدادها، ولا يجوز أن يخلو عنها، كالعلم والقدرة والحياة. فلا يوصف سبحانه بالجهل، أو العجز، أو الموت. كما لا يجوز أن يخلو عن هذه الصفات أبداً. يقول الشيخ المفيد: «فصفات الذات له تعالى، هي وصفه بأنه حي، عالم، قادر. ألا ترى أنه لم يزل مستحقاً لهذه الصفات، ولا يزال. فلا يوصف بالموت، ولا بالعجز، ولا بالجهل. كما لا يوصف بخلوه عن الحياة والعلم والقدرة، لأن هذه الصفات ثابتة له»(٢) .

ب - معنى صفات الأفعال:

أما صفات الأفعال، فيراد بها، تلك التي يصح أن يتصف اللّه بأضدادها كما يجوز أن يخلو عنها، كالخالق والرازق والمحيي والمميت والمبدئ وغيرها. فيجوز أن يتصف بأنه «غير خالق اليوم، ولا رازق لزيد، ولا محيي للميت

____________________

(١) و(٢) تصحيح إعتقادات الصدوق للشيخ المفيد ١١ وما بعدها.

١٦٩

الفلاني، ولا مبدئ لشيء في هذه الحالة»(١) .

وصفات الأفعال، لما لم تكن جارية على الذات، بلحاظ نفس الذات، بل بلحاظ وجود الأفعال، فإنها على هذا لا يصح أن توصف الذات بها قبل وجودها. فهي إذن حادثة بحدوث تلك الأفعال. وعلى هذا «فقبل خلقه الخلق، لا يوصف بأنه خالق، وقبل إماتته الخلق، لا يقال عنه مميت»(٢) وهكذا.

وقد تقدم منا القول، في بحوثنا التمهيدية، أن لبعض شيوخ المعتزلة كلاماً في صفات الذات وصفات الأفعال قريباً من هذا الذي يقوله الامامية.

وصفات اللّه الثبوتية سواء كانت صفات ذات، أو صفات أفعال، مذكورة مع أدلتها في كتب الكلام المطولة، ولا أجد داعياً ملحاً للخوض في تعدادها وشرحها. ولكن لا بد من التكلم باختصار على صفة من أهم صفات الذات، هي صفة العلم، حيث وقع في حدودها الخلاف بين علماء الكلام والفلاسفة.

ج - الدليل على كون اللّه عالماً:

والدليل على كون اللّه سبحانه عالماً، هو اننا إذا نظرنا إلى هذا الكون المتراحب، لوجدنا مظاهر التناسق والحكمة والإبداع في كل صغيرة منه وكبيرة.

وبما أن اللّه هو الفاعل لهذا الكون، فلا بد وأن يكون عالماً، لاستحالة

____________________

(١) و(٢) تصحيح اعتقادات الصدوق للشيخ المفيد ١١ وما بعدها.

١٧٠

أن يوجد الكون المتقن المتناسق والمحكم من غير العالم. يقول ابن رشد «ان المصنوع يدل من جهة الترتيب الذي في أجزائه أي كون صنع بعضها من أجل بعض. ومن جهة موافقة جميعها للمنفعة المقصودة بذلك المصنوع، انه لم يحدث عن صانع هو طبيعة، وإنما حدث عن صانع رتب ما قبل الغاية قبل الغاية. فيجب أن يكون عالماً به. فالإنسان إذا نظر إلى بيت وأدرك أن الأساس قد صنع من أجل الحائط، وان الحائط من أجل السقف، تبيّن أن البيت قد وجد عن عالم بصناعة البناء»(١) .

د - هل من حدود للعلم الإلهي:

وقد وقع الخلاف حول علم اللّه سبحانه، من ثلاث جهات.

الأولى : في انه سبحانه هل يعلم بعلم شامل للكليّات والجزئيات معاً، أو انه يختص بالكليات فقط؟

الثانية : في أنه هل يعلم ذاته، كما يعلم غيره. أو أن علمه يختص بالتعلق بغيره؟

الثالثة : في انه سبحانه، يعلم بالشيء قبل وجوده أو لا؟

وقد نسب إلى الفلاسفة، نفي شمول علم اللّه، حيث ذهب بعضهم إلى نفي علم اللّه بذاته، وإلى نفي علمه بالجزئيّات، كذلك نفي علمه بالشيء قبل حدوثه(٢) .

____________________

(١) الكشف عن مناهج الأدلة ١٦٠.

(٢) راجع تهافت الفلاسفة للغزالي، المسألة ١١ - ١٢ وشرح التجريد للعلامة الحلي ٢٢١ وما بعدها.

١٧١

ه‍ - اختيار استدلال:

والحق ما عليه الإمامية وكثير من المعتزلة أن علمه سبحانه، شامل عام للكليّات والجزئيّات، ولذاته وغيره. وانه يعلم بالأشياء قبل وجودها وبعده. ويمكن الاستدلال على ذلك بالعقل والكتاب والسنة.

الاستدلال بالقرآن:

فمن القرآن، يمكن الاستدلال لشمول علمه سبحانه بعدة آيات:

منها : قوله سبحانه: (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين)(١) :

ومنها : قوله تعالى: (ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين)(٢) .

الاستدلال بالسنة:

ويمكن الاستدلال من السنة بعدة روايات وردت عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام .

منها : ما رواه الكليني(٣) ، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام ، قال: سمعته يقول: كان اللّه عز وجل،

____________________

(١) يونس ٦١.

(٢) الأنعام ٥٩.

(٣) ١ / ١٠٧ وما بعدها.

١٧٢

ولا شيء غيره ولم يزل عالماً بما يكون، فعلمه به قبل كونه، كعلمه به بعد كونه».

ومنها : ما رواه الكليني(١) ، عن محمد بن يحيى، عن سعد بن عبد اللّه، عن محمد بن عيسى، عن أيوب بن نوح، أنه كتب إلى أبي الحسن الرضاعليه‌السلام يسأله عن اللّه عز وجل: أكان يعلم الأشياء قبل أن خلق الأشياء وكوّنها أو لم يعلم ذلك حتى خلقها وأراد خلقها وتكوينها فعلل ما خلق عندما خلق وما كوّن عندما كوّن؟ فوقّع بخطه: لم يزل اللّه عالماً بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء، كعلمه بالأشياء بعدما خلق الأشياء».

الاستدلال بالعقل:

ويمكن الاستدلال بحكم العقل على شمول علمه سبحانه من جهتين.

الأولى : ان ما عدا اللّه ممكن، فهو مفتقر في وجوده إليه سبحانه، وإذا كان الأمر كذلك، وكان اللّه علة لكل ممكن موجود، كان لا بد وان يعلمه، لعدم الانفكاك بين معلوليتها له، ومعلوميتها كذلك. ولا فرق في هذه الممكنات، بين أن تكون كلية أو جزئية، خارجية أو ذهنية، قبل وجودها وبعده.

الثانية : إن اللّه سبحانه حي، لأنه لو لم يكن كذلك، مع اتصاف كثير من الموجودات الممكنة بالحياة، لكان معنى ذلك، أنه أقل كمالاً من الممكنات، وهذا خلف فرض كونه واجباً، وأكمل من كل

____________________

(١) ١ / ١٠٧ وما بعدها.

١٧٣

موجود، كما أن كل حي محتاج في حياته حدوثاً وبقاءً إليه، فكيف يهب الحياة لو كان فاقداً لها. وإذا ثبت أنه حي، فان من خصائص الحي، أن يعلم ذاته، كما يعلم غيره.

و - دليل نفي علمه سبحانه بذاته:

وقد استدل الفلاسفة على ما ذهبوا إليه، من أن اللّه لا يعلم ذاته بأن العلم، لما كان إضافة قائمة بين طرفين، عالم ومعلوم، كان ذلك يستدعي ضرورة المغايرة بين هذين الطرفين. وحينئذ، إذا قيل بأنه سبحانه يعلم ذاته، فمعنى ذلك أن علمه مغاير لذاته، مع أن الواجب واحد من جميع الجهات.

نقاش:

وقد أجيب(١) عن هذا الدليل بأن الإشكال باستلزام القول، بأنه سبحانه يعلم ذاته، مغايرة علمه لذاته، إنما يتم فيما إذا أريد من المغايرة بين العالم والمعلوم، المغايرة الحقيقية، دون ما إذا أريد منها المغايرة الاعتبارية، وهنا، يكفي في المغايرة بين العالم والمعلوم، المغايرة الاعتبارية، وهي حاصلة في الذات العالمة. إذ أن فيها لحاظين، لحاظ كونها عالمة، ولحاظ كونها معلومة، وهي بأحد اللحاظين، مغايرة لها باللحاظ الآخر.

ز - دليل نفي علمه سبحانه بالجزئيات:

واما ما استدل به بعض الفلاسفة على ما ذهبوا إليه، من نفي علمه سبحانه

____________________

(١) راجع شرح التجريد للعلامة الحلي ٢٢١.

١٧٤

بالجزئيات، هو أن الجزئيات لا تستقر على حالة واحدة، بل هي دائمة التغير والتبدل. فإذا جعلناها متعلقة لعلم اللّه سبحانه، لكان لازم ذلك. تغير علمه وتبدله، بتغيرها وتبدلها، إذ تغير المعلوم، يستدعي تغير العلم، ويترتب على هذا، ان الذات الإلهية، على القول باتحاد الصفات الإلهية معها - كما سوف نبين ذلك فيما بعد - عُرضة للتغير المستمر بتغير صفة العلم فيها، وهو خلف فرض وجوبها، لأن الواجب ثابت لا يتغير.

نقاش:

والواقع، أن ما فرضه هؤلاء من تغير بتغير المعلوم، غير صحيح في حد ذاته، بل الصحيح هو أن العلم يبقى على حاله لا يتغير أبداً، وذلك لأن العلم لما كان من الصفات الحقيقية ذات الإضافة، كان المتغير هو تلك الإضافة بين العلم والمعلوم بعد تغيره.

فلو قلنا مثلاً، زيد يعلم مرض عمرو، ومرض عمرو جزئي، وهو متعلق لعلم زيد، فلو فرضنا أن مرض عمرو قد ارتفع، فغاية ما هناك أن إضافة علم زيد إلى مرض عمرو الجزئي قد انتفت وذلك لانتفاء ما كان يضاف إليه، لا لانتفاء العلم أو تبدل فيه، بل علم زيد باق على حاله كما هو واضح.

وما قلناه في العلم، يجري عيناً في غير العلم من الصفات الحقيقية ذات الإضافة، كالقدرة. فلو قلنا مثلاً، زيد يقدر على عمرو. ففي حالة انتفاء عمرو، لا تتبدل القدرة عند زيد ولا تتغير، بل هي باقية على حالها. وإنما الذي انتفى وارتفع هو الإضافة الحاصلة بين قدرة زيد وبين متعلقها وهو عمرو لانتفائه. وإذا كان المتغير هو الإضافة فقط بين الصفة الحقيقية وبين

١٧٥

متعلقها، يرتفع الإشكال إذ ان «تغير الإضافات جائز، لأنها أمور اعتبارية لا تحقق لها في الخارج»(١) .

ح - دليل نفي علمه تعالى بالأشياء قبل وجودها:

وحاصل ما استدل به النافون لعلمه بالأشياء قبل وجودها، هو أنه لو تعلق علمه بها كذلك، لوجب وجودها، لأن علمه سبحانه علة وجود الأشياء. ولما كان كل شيء عداه ممكناً، فيلزم على هذا انقلاب الممكن إلى واجب. وإلا لزم من عدم وجودها انقلاب علمه إلى جهل. وهو نقص ينزّه عنه الكامل المطلق.

نقاش:

والحق، هو ما اخترناه سابقاً ودلّلنا عليه، من أن علمه سبحانه يتعلق بالأشياء قبل وجودها، من دون أن يلزم ما ادعاه هؤلاء من محذور، وهو انقلاب الممكن واجباً. إذ اننا وان التزمنا بأن الأشياء تصبح واجبة لتعلق علمه سبحانه بها قبل وجودها، إلا أنها بهذا لا تخرج عن الامكان الذاتي. لأن معنى وجوبها حينئذ، هو وجوبها بالغير، أي وجوبها بوجود علتها وهو علمه سبحانه - وكل ممكن بعد وجود علته، يصبح واجباً بتلك العلة. لا أنها تصبح - كما توهم هؤلاء - واجبة بالذات(٢) .

____________________

(١) نفس المصدر ٢٢٢.

(٢) راجع في هذا الدليل وجوابه شرح التجريد للعلامة الحلي ٢٢٣.

١٧٦

ثانياً - وحدة الذات والصفات

لقد سبق منا القول بأن المتكلمين قسموا صفات اللّه إلى قسمين، صفات ذات، وصفات أفعال. وحيث ان صفات الأفعال - وقد يعبّر عنها بالصفات الإضافية - هي تلك التي لا تتصف الذات إلا بها من خلال الأفعال الصادرة عنها، فهي إذن على هذا حادثة، لأنها تابعة لما تتعلق به من الأفعال الحادثة، وعليه، يستحيل أن تتحد مع الذات الإلهية، لاستحالة اتحاد الحادث بالقديم، والممكن بالواجب(١) .

وبهذا يتضح أنها ليست مورداً للخلاف المعروف بين المتكلمين، في ان صفاته تعالى عين ذاته أو انها غيرها وزائدة عليها؟ بل الكل متفقون، على انها غير الذات. ولا يضر ذلك في وحدانيته سبحانه، ولا في واحديته. يقول صدر المتألهين «ولا يخل بوحدانيته، كونها - أي الصفات الإضافية أو صفات الافعال - زائدة عليه، فإن الواجب تعالى ليس علوّه ومجده بهذه الصفات وإنما علوّه بذاته التي تنشأ عنها هذه الصفات»(٢) .

كما ان الصفات السلبية، حيث انها ترجع في حقيقتها إلى الصفات الثبوتية، فلا داعي للبحث فيها من هذه الناحية.

وعلى ضوء ما ذكرنا يتضح، ان النزاع بين المتكلمين في عينية الذات والصفات، واتحادها معها أو زيادة الصفات على الذات، منحصر في خصوص صفات الذات الثبوتية دون الصفات السلبية أو صفات الافعال.

____________________

(١) راجع الملل والنحل للشهرستاني ١ / ٣٦ وما بعدها.

(٢) المبدأ والمعاد لصدر الدين الشيرازي.

١٧٧

معنى وحدة الذات والصفات:

ومعنى وحدة الذات والصفات، هو اننا لو أخذنا الصفات الذاتية، كالعلم والقدرة والحياة، فاننا لن نجد شيئين، ذاتاً وعلماً، أو ذاتاً وقدرة، أو ذاتاً وحياة. وبالتالي، لن نجد شيئين، ذاتاً وصفة مغايرة لها زائدة عليها، ولعل عبارة الفارابي تصوّر هذا المعنى أدقّ تصوير حيث يقول «وجود كله. وجوب كله. علم كله. قدرة كله. حياة كله. وليس شيء منه علماً، وشيء منه قدرة، وشيء منها حياة».

أ - الإمامية ورأيهم في المسألة:

وقد ذهب الامامية قاطبة(١) ، إلى القول بعينية الذات والصفات.

كما ذهب إلى نفس القول بعض المعتزلة.

ب - رأي بقية متكلمي المسلمين:

وأما بقية متكلمي المسلمين، فقد ذهبوا إلى خلاف هذا الرأي على أقوال منها:

قول ذهب إليه الأشعري وأتباعه وبقية أهل الحديث(٢) ، هو ان صفاته تعالى مغايرة لذاته وزائدة عليها. فهو عند هؤلاء عالم بعلم مغاير لذاته، قادرة بقدرة مغايرة لذاته، وقس على ذلك بقية الصفات.

____________________

(١) راجع شرح تجريد الإعتقاد للعلامة الحلي ٢٢٩ وكتاب «المبدأ والمعاد» لصدر المتألهين. وكشف الحق ونهج الصدق للعلامة الحلي.

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ / ٩٤ - ٩٥ كما يراجع الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد الفيلسوف ١٦٥ وما بعدها.

١٧٨

وقول ذهب إليه بعض شيوخ المعتزلة، هو أن صفاته تعالى مغايرة لذاته أطلقوا عليها أنها أحوال، فكون اللّه عالماً عند هؤلاء حال هي صفة وراء كونه ذاتاً، وينسب هذا القول إلى أبي هاشم عبد السلام بن أبي محمد بن عبد الوهاب الجبائي(١) . وقد ذهب هذا إلى أن هذه الأحوال صفات لا يقول فيها أنها موجودة ولا معدومة ولا أنها قديمة ولا محدثة ولا معلومة ولا مجهولة(٢) .

ج - اختيار واستدلال:

ونحن نختار ما عليه الإمامية وبعض المعتزلة، من القول بأن صفاته تعالى عين ذاته، متحدة معها مستدلين بحكم العقل، وبما ورد من النقل.

الاستدلال بالعقل:

ويمكن الإستدلال بالعقل على ما اخترناه من جهات:

الأولى: ان هذه الصفات، لو كانت زائدة على الذات، فهي إما قديمة أو حادثة، وكلا الأمرين يستلزم محذوراً. وذلك، لأنها لو كانت قديمة لكان معنى ذلك تعدد القدماء بتعدد الصفات. وتعدد القدماء مستحيل، إذ لا قديم إلا اللّه. وهي لو كانت حادثة للزم قيام الحادث بالقديم، والقديم يستحيل أن يكون محلاً للحوادث، إضافة إلى أن الذات تحتاج في إثبات هذه الصفات لها إلى علة، والحاجة فقر ينزّه عنه الغني المطلق.

____________________

(١) نفس المصدر ٨٢.

(٢) الفرق بين الفرق للبغدادي ١١٧.

١٧٩

الثانية : «أنها لو كانت زائدة على ذاته يلزم من ذلك أن يكون كماله بأمر زائد عليه، فيلزم كونه ناقصاً بحسب ذاته، كاملاً بغير ذاته»(١) .

الثالثة : «أنها لو لم تكن كذلك يلزم التكثر في ذاته تعالى، لأجل كثرة صفاته الموجبة لكثرة المقتضي. مع أنه أحديّ الذات بسيط الحقيقة»(٢) .

الاستدلال بالنقل:

وأما النقل، فيمكن الإستدلال منه بروايات كثيرة، وردت عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام .

منها : ما رواه الكليني(٣) عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن خالد، عن صفوان بن يحيى، عن ابن مسكان، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه الصادقعليه‌السلام يقول: «لم يزل اللّه عز وجل ربنا والعلم ذاته ولا معلوم، والسمع ذاته ولا مسموع. والقدرة ذاته ولا مقدور. فلما أحدث الأشياء وكان المعلوم (أي وجد) وقع العلم منه على المعلوم، والسمع على المسموع، والقدرة على المقدور».

ومنها : ما رواه الكليني أيضاً(٤) بسند عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنه قال عندما سئل عن كون اللّه سبحانه سميعاً بصيراً «وهو

____________________

(١) المبدأ والمعاد لصدر المتألهين الشيرازي.

(٢) المبدأ والمعاد لصدر المتألهين الشيرازي.

(٣) الكافي ١ / ١٠٧.

(٤) نفس المصدر ١٠٩.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212