دراسات في العقيدة الإسلامية

دراسات في العقيدة الإسلامية0%

دراسات في العقيدة الإسلامية مؤلف:
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 212

دراسات في العقيدة الإسلامية

مؤلف: محمد جعفر شمس الدين
تصنيف:

الصفحات: 212
المشاهدات: 65346
تحميل: 6247

توضيحات:

دراسات في العقيدة الإسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 212 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 65346 / تحميل: 6247
الحجم الحجم الحجم
دراسات في العقيدة الإسلامية

دراسات في العقيدة الإسلامية

مؤلف:
العربية

دراسات في العقيدة الإسلامية

محمد جعفر شمس الدين

١

هذا الكتاب

نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنينعليهما‌السلام للتراث والفكر الإسلامي

بانتظار أن يوفقنا الله تعالى لتصحيح نصه وتقديمه بصورة أفضل في فرصة أخرى قريبة إنشاء الله تعالى.

٢

بِسمِ اللّه الرّحمنِ الرَّحيم

والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين

المقَدّمة

هذه «دراسات في العقيدة الإسلامية» كنت قد ألقيت جزءاً منها على طلاب السنة الأولى في كلية أصول الدين ببغداد.

تشتمل هذه الدراسات، إضافة إلى بحث تمهيدي لعلم العقيدة، على ثلاثة فصول.

تدور بحوث الأول منها، حول العلة الأولى للكون مع عرض واف للأدلة العقلية على أصل وجودها.

بينما تدور بحوث الفصل الثاني، حول مواقف بعض المذاهب المادية من العلة الأولى، مع استعراض لأهم النظريات حول أصل الحياة ومجرى الحياة.

وأما الفصل الثالث، فتدور بحوثه حول عقيدة التوحيد، حيث تناولناها من جميع جوانبها، وتطرقنا إلى البحث في الصفات الإلهية. والخلاف بين المدارس الكلامية حول وحدة الذات والصفات أو تغايرهما.

وقد حاولنا في بحوثنا هذه، أن نتجنب التعقيد والغموض اللذين يبدوان بوضوح في كتب المتكلمين القدامى. كما حاولنا أن نقتصر على أهم المسائل الكلامية، تاركين ما لم نرَ حاجة إلى بحثه تجنباً للتطويل.

هذا وأسأله سبحانه، أن يتقبل هذا العمل المتواضع، وأن ينفع به. انه ولي التوفيق وهو حسبي ونعم الوكيل.

بيروت ٢٥ / ٢ / ١٩٧٧

محمد جعفر شمس الدين

٣

مقدمة الطبعة الثانية

هذه هي الطبعة الثانية من «دراسات في العقيدة الإسلامية» تخرج إلى القراء والباحثين وفيها زيادات مهمة على الطبعة الأولى فقد أدخلت بعض التعديلات على بعض الأفكار التي كانت مجملة لتتّم الفائدة.

ولكن الشيء الأهم من ذلك أني أضفت فصلاً رابعاً كاملاً في آخر الكتاب تدور بحوثه حول «العدل».

وقد جاء في ثلاثة بحوث.

يدور البحث الأول منها حول مفهوم العدل عند فلاسفة الاخلاق.

ويدور البحث الثاني حول مفهوم العدل عند متكلمي الإسلام ومواقفهم المختلفة منه. مع أهم الأدلة العقلية على عدل اللّه سبحانه.

وأما البحث الثالث فيدور حول مسألة الآلام وموقف مختلف الفلاسفة والمدارس منها. ثم مناقشة هذه المسألة بشكل يحل معضلتها بشكل موجز ومنطقي.

وختاماً، أسأله سبحانه التوفيق والقبول والحمد له أولاً وآخراً.

بيروت في ٩ / ٢ / ١٩٧٩

محمد جعفر شمس الدين

٤

بحوث تمهيدية - ١ - الجو الذي نشأ فيه علم العقيدة

القرآن الكريم، احتوى فيما احتواه، التشبيه، والكناية، والمثل والاستعارة.

كان فيه النص، وكان فيه الظاهر. وكان فيه بالإضافة إلى كل ذلك، ما يسمى بالآيات المحكمات والآيات المتشابهات. كما نص على ذلك الكتاب العزيز نفسه( مِنْهُ آيَاتٌ مُحْکَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْکِتَابِ وَ أُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) (١) .

والمقصود بالآية المحكمة، تلك التي لا تحتمل إلا وجهاً واحداً من المعنى. والمقصود بالآية المتشابهة، تلك التي تحتمل - ابتداءاً - معنيين أو أكثر، وتتردد بين هذه المعاني.

والذي يبدو(٢) ، أن كثيراً من علماء الإسلام اتفقوا على وجوب إرجاع هذه الآيات المتشابهة، إلى المحكم من الآيات، لتُعَيّن هذه المعنى المراد من تلك، فتعود محكمة.

فقد ورد في القرآن - مثلاً - توصيف اللّه بأنه سميع بصير في قوله تعالى( لَيْسَ کَمِثْلِهِ شَيْ‌ءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) (٣) وورد فيه( الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) (٤) .

____________________

(١) آل عمران ٨.

(٢) راجع للتوسع تفسير الرازي ٢ / ١٠٨ وصفحة ٣٩٧. والميزان لمحمد حسين الطباطبائي ٣ / ٣١ وما بعدها. والكشاف للزمخشري ١ / ١٧٤ وما بعدها.

(٣) الشورى ١١.

(٤) طه ٦.

٥

كما ورد( وَ جَاءَ رَبُّکَ ) (١) ( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (٢) ( وَ لاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِکَ ) (٣) . إلى غير ذلك من الآيات المتشابهة.

موقف مسلمي العصر الأول من المتشابه:

وقد كان المسلمون في العصر الأول، يُسلّمون بهذه الآيات.

ويعتقدون بها، من دون أن يستاءلوا، أو يستفسروا عما يراد منها، أو ترمي إليه.

ثم ابتدأ - في مطلع القرن الثالث للهجرة تقريباً - بشكل واسع، عصر الترجمات، وانفتحت عقول المسلمين على تراث اليونان، في شتى حقول العلم المطروقة آنذاك، وبخاصة التراث الفلسفي.

عند ذاك، ابتدأ عصر التساؤلات.

تساؤلات، كان منطلقها ما تشابه من الآيات.

اللّه سميع؟ ما معنى ذلك؟ وكيف يكون سمعه، هل هو كسمع كل واحد منا؟

اللّه بصير؟ ما معنى ذلك؟ وكيف يكون إبصاره، هل هو كإبصار كل واحد منا؟

الرحمن على العرش استوى؟ ما معنى ذلك؟ وما هي كيفية جلوسه

____________________

(١) الفجر ٢٣.

(٢) الفتح ١٠.

(٣) المائدة ١١٧.

٦

واستوائه، هل هو كجلوسي وجلوسك؟ وما هي هيئة هذا العرش؟ هل هي كهيئة العروش المعهودة لدى الملوك والسلاطين؟ إلى غير ذلك من تساؤلات.

إلا أن عصر التساؤلات هذا، لم يؤثر على بعض العلماء، ولم يُجر كثير منهم إلى الخوض فيها. ولذا وجدنا، من توقف في شرح هذه الآيات، ووقف منها موقف المتهيب، فلم يأت فيها بتفسير أو تأويل(١) .

بل وجد من علماء الإسلام من صرح بأن مثل هذه التساؤلات بدعة لا تجوز، إذ كل بدعة ضلالة، أمثال مالك بن أنس، حيث قال عند كلامه على الآية الكريمة «الرحمن على العرش استوى» (الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)(٢) .

ويذكر الشهرستاني في الملل والنحل، أن السبب في توقف كثير من العلماء في تفسير متشابه القرآن وتأويله أمران:

الأمر الأول: «المنع الوارد في التنزيل، فقد قال اللّه تعالى في شأن القرآن منه آيات محكمات هن ام الكتاب وآخر متشابهات فاما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله» فنحن نحتَرِزُ عن الزيغ...

والأمر الثاني: «إن التأويل أمر مظنون بالإتفاق والقول في صفات الباري بالظن غير جائز. فربما أوّلنا الآية على غير مراد الباري تعالى فوقعنا في الزيغ»(٣) .

____________________

(١) راجع تفسير الطبري ١ / ٢٠ وما بعدها والطبقات لابن سعد ٥ / ١٣٩ وما بعدها.

(٢) الملل والنحل ١ / ٩٣.

(٣) ١ / ١٠٤.

٧

عصر التساؤلات وصلته بالفكر المترجم:

ومهما يكن من أمر موقف هذا البعض، من تفسير المتشابه وتأويله، فمما لا شك فيه، أن هذا الجو الفكري المحموم، والذي طغت عليه التساؤلات بلا ضوابط، ما كان ليتواجد بهذا الشكل الخطير، لو لم تتواجد في الأمة تلك الترجمات، التي يقول فيها أبو حيان التوحيدي، من أعلام القرن الرابع الهجري والذي عاصرها، أنها كانت في كثير من جوانبها، مختلة متناقضة، وغير دقيقة.

وهذا من وجهة نظرنا شيء طبيعي لأمور:

الأول: ان الترجمة لم تكن لتحصل من اللغة اليونانية الأصلية، إلى اللغة العربية مباشرة. وإنما كانت الأفكار اليونانية، تترجم أولاً إلى العبرية ثم من العبرية إلى اللغة العربية.

ولا إشكال في أن نقل فكرة عادية من لغة إلى لغة أخرى بوسائط متعددة يوجب أن تحرف عن مضمونها الأصلي. وقد تصبح فكرة جديدة لا تمت إلى الفكرة الأصلية بصلة.

فإذا كان الأمر بالنسبة إلى فكرة عادية كذلك، فكيف بفكر فلسفي يفترض فيه أن يكون على جانب كبير من الدقة والعمق.

الثاني : ان الغالبية العظمى من المترجمين، كانت من اليهود والنصارى، ونحن إذا استعرضنا أبرز هؤلاء المترجمين، تبين لنا ذلك بوضوح، فمن أبرزهم:

آل بختيشوع من السريان النسطوريين

حنين بن إسحاق «شيخ المترجمين» وأولاده من النصارى

حبيش بن الأعسم من النصارى

٨

قسطا بن لوقا من النصارى

آل ثابت من الصابئة

آل ماسرجويه من اليهود

اسطفان بن باسيلي نسطوري

ولا إشكال في أن هؤلاء، لا يرغبون في أن يصبح تراث اليونان الفلسفي والفكري بشكل عام، بين أيدي أعدائهم المسلمين الذين تحولوا - بالإسلام - في فترة وجيزة نسبياً من محكومين لهم إلى حاكمين. ولذا كان من المعقول جداً، أن يقدموا هذا التراث إليهم، وفيه عيبان:

١ - عيب التحريب، بمعنى «نقل الشيء عن موضعه وتحويله إلى غيره»(١) الذي أدخله هؤلاء على ما نقلوه من اليونانية. فيما يختص بالأخلاق وما بعد الطبيعة، حيث صبغوه بصبغتهم المسيحية (كفكرة العالم، أو الخلود أو الخطيئة) وأوّلوه بما يتفق مع أهدافهم وآرائهم.

٢ - عيب التحريب بالنقيصة، حيث (حذفوا كثيراً من غوامض هذين العلمين... وأحلوا عناصر مسيحية(٢) أو يهودية.

الثالث : إن أكثر هؤلاء المترجمين، لم يكونوا من الفلاسفة، ولذا كان من المنطقي ألا يفهموا المادة الفلسفية التي أوكلت إليهم مهمة ترجمتها، فوقعوا فيما وقعوا فيه من أخطاء وتناقضات.

وإذا كان هذا هو حال الترجمات، ترجمات مريضة، مليئة بالأخطاء

____________________

(١) البيان في تفسير القرآن للسيد أبو القاسم الخوئي ٢١٥ - الطبعة الثانية.

(٢) دي بور - تاريخ الفلسفة في الإسلام - ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريده ص ٢٠.

٩

والتناقضات والتحريف، كانت مع هذه الوضعية، إضافة إلى ما أثارته في الأمة من مشاكل فلسفية كثيرة تتعلق باللّه ذاته وصفاته، والقرآن قدمه وحدوثه، والإنسان خيره وشره، وفعله من حيث كونه حراً مختاراً فيه، أو مجبوراً عليه. كل ذلك، مع ما تقتضيه طبيعة العلوم في كل زمان ومكان، من رغبة شديدة وافتتان بالجديد، وميل إلى الخوض فيه، كان سبباً إلى نوع من التطرف الفكري أدّى إلى ظهور مواقف إعتقادية شاذة، حملت في ثناياها آراء تتناقض مع أصول الإسلام، وقداسة العقيدة. ولذا كان ضرورياً، أن يهب بعض مفكري الإسلام وعلمائه، إلى التصدي لهذه المواقف، لكشف زيف تلك الآراء، وتناقضها وهدمها، متخذين من العقيدة نفسها، سلاحاً، ومن القرآن هادياً، متوخين من وراء ذلك حفظ أصول الإسلام من أن تنالها يد التشكيك والتشويه فنشأ ما يسمى بعلم العقيدة أو علم الكلام.

٢ - وجه تسمية هذا العلم بعلم الكلام

وقد ذكرت وجوه عديدة، في منشأ تسمية هذا العلم بعلم الكلام:

منها : ان المتكلمين «أرادوا مقابلة الفلاسفة، في تسميتهم فناً من فنون علمهم بالمنطق، والمنطق والكلام مترادفان.»(١) .

ومنها : أنه «كثر الكلام فيه مع المخالفين، ما لم يكثر في غيره.»(٢)

ومنها : «لأنه - كما يذكر في شوارق الإلهام - بقوة أدلته، كأنه صار هو

____________________

(١) و(٢) تعليقة في ذيل صفحة ٥٠ من تاريخ الفلسفة في الإسلام لدي بور ترجمة محمد أبو ريده.

١٠

الكلام دون ما عداه، كما يقال في الأقوى من الكلامين: هذا هو الكلام»(١) .

ومنها : أنه «يورث قدرة على الكلام في الشرعيات، كالمنطق في الفلسفيات»(٢) وهذه - كما يبدو - ما هي إلا وجوه استحسانية.

والذي أراه، وجهاً راجحاً، لتسمية هذا العلم، بعلم الكلام. ناشئ من المحور الذي كان هذا العلم يدور حوله، وهو كلام اللّه، المتمثل في القرآن الكريم. بل ان السبب في نشوء هذا العلم - أصلاً - هو الوقوف في وجه التساؤلات التي كان منطلقها - كما سبق وذكرنا - الآيات المتشابهة في كتاب اللّه.

فضلاً عن أن أوسع خلاف قام بين المتكلمين، كان يدور حول كلام اللّه وانه قديم أو حادث. فلا غرو إذن، في أن يكون الوجه لتسمية هذا العلم بهذا الامم، محورية كلام اللّه لكل المناقشات، والمخاصمات والمجادلادت التي كانت تدور بين أربابه.

وجهة نظر:

وإذا صح ما ذكرناه، من أن وجه تسمية هذا العلم بعلم الكلام، هو محورية كلام اللّه - أي القرآن - لكل المخاصمات التي كانت تدور فيه، يمكن الإدعاء بأن هذا العلم قد خطا خطواته الأولى، في العصر الأول من عصور المسلمين، وهو عصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وما تلاه.

فقد روى ابن سعد في تاريخه «عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن ابني العاص، أنهما قالا: جلسنا مجلساً في عهد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كنا به أشد اغتباطاً

____________________

(١) شوارق الإلهام لعبد الرزاق الأهيجي ص ٤.

(٢) تعليقة لمحمد أبو ريده على ترجمته لتاريخ الفلسفة في الإسلام لدي بور صفحة ٥٠.

١١

من مجلس جلسناه يوماً. جئنا فإذا أناس عند حُجر رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يتراجعون في القرآن، فلما رأيناهم اعتزلناهم، ورسول اللّه خلف الحُجر يسمع كلامهم. فخرج علينا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله مغضباً يعرف الغضب في وجهه حتى وقف عليهم فقال: أي قوم، بهذا ضلّت الأمم قبلكم باختلافكم على أنبيائهم، وضربهم الكتاب بعضه ببعض، إن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض ولكن ليصدق بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه عليكم فآمنوا به... الخ(١) .

وروى ابن حجر العسقلاني، في الإصابة، قال «قدم صبيغ المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر، فضربه حتّى أدمى رأسه. ثم نفاه إلى البصرة، وأمر بعدم مخالطته»(٢) .

هذان النصان، وغيرهما، يؤيدان ما قلناه، في تحديد الفترة التي نشأ فيها هذا العلم.

ولا يكون الالتزام بذلك، مناقضاً للرأي السابق القائل، بأن هذا العلم، قد نشأ في القرن الثالث الهجري، بعد ابتداء عصر الترجمات. إذ يكون معنى نشوئه في القرن الثالث، هو أن بروزه كعلم، له قواعده، وأصوله، إنما كان في ذلك التاريخ.

والذي يؤيد هذا، ما ذكره الشهرستاني من «أن لفظ الكلام، أصبح اصطلاحاً فنياً في عهد المأمون، وكثيراً ما نصادف لفظ كلّم، بمعنى ناظر وجادل».(٣) .

____________________

(١) كتاب الطبقات الكبير لابن سعد ٤ / ١٤١.

(٢) الإصابة في تمييز الصحابة ٢ / ١٩٨.

(٢) الملل والنحل ١٨ وما بعدها.

١٢

٣ - علم الكلام والفرق بينه وبين الفلسفة

علم الكلام عبارة، عن مجموعة مباحث، وضعت بقصد الدفاع عن أصول العقيدة الإسلامية، وتثبيتها، وهدم أدلة كل من يحاول التشكيك فيها، أو النيل منها.

ولذا كان المتكلمون - أي علماء الكلام - يعتقدون - قبلاً - بوجود حقائق مقدسة، يجعلونها المقياس لصحة أية فكرة تطرح في الخارج.

ومن هنا يتضح الفرق الأساسي بين الفلسفة وبين علم الكلام. إذ إن الفيلسوف، لا يعتمد في مقام بحثه عن الحقيقة إلا البرهان العقلي، والمنطقي، من دون نظر إلى أية سوابق، أو قبليات لديه.

وبعبارة أخرى: المتكلم، هو ذلك الباحث، الذي يحاول دائماً، إخضاع البرهان المنطقي، والدليل العقلي لما يعتقد أنه حق وصواب.

والفيلسوف، وهو ذلك الباحث الذي لا يعتقد بشيء، إلا بعد أن يقوم الدليل العقلي، والبرهان المنطقي، على صحته. حتى ولو لم يكن متفقاً مع اتجاهه، أو ميله، أو رغبته.

٤ - نقد علم الكلام ومناقشته

لقد ذكرنا فيما سبق، أن علم الكلام، إنما كان السبب في تبلوره - أساساً - كعلم، هو البلبلة الفكرية العظيمة، التي كان المسلمون قد جرّوا إليها، لأسباب عديدة ابتداءاً بالترجمات الخاطئة المتناقضة للتراث الفلسفي اليوناني،

١٣

وانتهاءاً بالمندسين بين المسلمين ليقوّضوا الإسلام في نفوسهم من الداخل، بتشكيكهم فيه، وتشويههم لمعالمه. فجاء علم الكلام، ليواجه هذه البلبلة، وليحفظ بالحجة والدليل، أصول العقيدة من أن تنالها يد التشويه والتشكيك.

والمفروض في علم يكون هذا سبب تبلوره، أن يتخذ العقيدة محوراً يدور حوله، وإطاراً لا يتعداه بحال.

ومن هنا قيل: أن المتكلم يعتقد ليبحث.

وقد اتخذ بعض الكتّاب، من هذا الأسلوب، ثغرة نفذوا منها إلى انتقاد هذا العلم، والتجريح فيه. فادعوا بأن علم الكلام، بأسلوبه البحثي الدائر حول نفس المسائل، وعلى وتيرة واحدة لا تتغير، أدّى إلى حالة من الجمود الفكري، أثرت على جميع مناحي حياة المسلمين العلمية والاجتماعية، بل غالوا في انتقادهم لهذا العلم، فعزوا إليه كل اضطراب صناعي ولغوي، وفني مني به المسلمون، وادّعوا بأن سد باب الاجتهاد عند المسلمين، إنما كان نتيجة من نتائج هذا العلم!!؟

ولا أدري، ما هو العيب في أسلوب علم الكلام، حتى ينتقد هذا العلم من جهته. إذ ليس معنى هذا الأسلوب، ان المتكلمين يعطلون العقل، وينحونه عن مجال الإبداع، والاستنباط. كيف يكون ذلك، وقد اشتهرت مدرسة من أعظم المدارس الكلامية - كما سنرى - هي مدرسة الاعتزال: بأنها كانت تعتبر النظر العقلي، من الواجبات التي يجب على كل مسلم أن يؤديها.

بل ذهب أتباع هذه المدرسة إلى أبعد من هذا، حيث اتفقوا على «أن العبد لا تحصل له صفة الإيمان، حتى يقدر على تقدير الدلالة، ويتمكن من

١٤

المناظرة والمجادلة. ومن لم يبلغ تلك الدرجة، كان كافراً»(١) .

وليس معنى اتخاذ الكلاميين العقيدة محوراً وإطاراً، التحجير على عقولهم، وقسرها على اتباع أسلوب واحد في الاستدلال، بل تركت له حرية سلوك أي طريق، وانتهاج أي أسلوب، ما دام منشداً إلى هذا المحور، وضمن ذاك الإطار.

ولذلك نرى، أنماط الاستدلال عندهم تختلف، وتتعدد، حتى بين التلميذ كبشر بن المعتمر وأستاذه كمعمر بن عباد.

ولم يبد لي، وجه الارتباط بين علم الكلام وبين الاضطراب الصناعي والفني، والاجتماعي بشكل عام، ولا كيف أن هذا العلم النظري، كان لعنة سببت للأمة كل هذه المصائب والآلام؟ ولا وجه سببيّته لسد باب الاجتهاد.

ونحن في مقام الرد على هذا النقد نقول:

أولاً : لا نسلم أن يكون علم الكلام سبباً للخمود الفكري، بل لا يعقل ذلك، لأنه يتنافى مع طبيعة هذا العلم، حيث أنه يدور كله حول المخاصمات الدينية والمجادلات المذهبية، ولا ريب أن الجدل الديني والمذهبي، من أبرز المؤثرات، التي تعمل على شحذ القرائح، وقدح زناد الفكر، ودفع الإنسان إلى بذل جهد عقلي مضاعف لكي يستنبط أساليب من الاستدلال والنظر جديدة، ليبني معتقده، وليفحم خصمه ويدحض حجته. وهذا يجعل من علم الكلام سبباً من أسباب ازدهار الفكر لا خموده.

____________________

(١) التبصير في الدين لأبي إسحاق الإسفراييني ٣٩.

١٥

وثانياً : لو سلمنا ما ادعي، من الاضطراب الصناعي، والاقتصادي، والفني، بل والجمود الفكري، الذي منيت به الأمة الإسلامية آنذاك، فلماذا نُحَمّل علم الكلام بالخصوص كل هذه الاُمور، ونحصر سببها فيه؟

والواقع، ان كل ذلك، يمكن أن نردّه - من وجهة نظرنا - إلى سبب جوهري لا ربط له بعلم الكلام من قريب أو من بعيد.

ذلك أن المسلمين بعد أن استقر الإسلام في البلاد التي فتحت، وتركزت دعائمه، انتقلوا من حياة القتال والحروب، بما فيها من انشغال عن الأخذ بالمتع والمسرات إلى حياة وادعة مطمئنة، يخيم عليها الهدوء والسلام. وانصرف المسلمون إلى التمتع بما أغدق اللّه عليهم من أموال وثروات الأمم المغلوبة. حتى غدت بغداد عاصمة الامبراطورية الإسلامية، والتي كانت آنذاك، مجمعاً لكل العناصر التي تكوّن الأمة مضرب المثل في اللهو والمجون، والتفنن في الأخذ بمباهج الحياة وملذاتها.

ومن هنا، من اتجاه المسلمين - ممثلين في عاصمتهم بغداد - إلى إشباع غرائزهم من حياة الترف واللهو والمجون، حتى غرقوا فيها إلى آذانهم، ابتدأوا نعقد شيئاً فشيئاً، الروح الطموحة والمتسامية، التي خلقها فيهم الإسلام.

وطبيعي جداً، أن إنساناً يستطيع، بما أوتي من مال جم، أن يوفر له كل ما يمكن أن يحتاجه في حياته المادية تلك، من جميع وجوهها، ألا يتعب نفسه في اختراع أو صناعة، أو فن، أو فكر، ما دام قادراً على استيراد كل احتياجاته منها، ولو من أقصى الأرض.

١٦

ولماذا يتعب نفسه في صناعة الحرير - مثلاً - ما دام باستطاعته الحصول على أجود أنواعه وأرقاها حتى من الصين؟

ولماذا يتعب نفسه في اصطياد حيوان المسك، للحصول على عطره، ما دام قادراً على جلب أرقى عطور الهند؟.

بل لماذا يتعب نفسه في تعديل الأوتار وضربها، أو دراسة الأصوات ومعرفة أصولها، وهز الأرداف وتعلم فنون الرقص، أو النحت أو الرسم؟ ما دام بإمكانه الحصول بما أوتي من ثروة - على استقدام أشهر مغني فارس ومغنياتها وراقصاتها ونحاتيها ورساميها.

يتضح من كل ذلك، أن حياة الترف والنعيم، التي كان يعيشها المسلمون في بغداد - عاصمة الخلافة - آنذاك، قد أعمتهم عن التطلعات نحو الابتكار وشلتهم عن الخلق، فآل أمرهم إلى اضطراب في شتى مناحي حياتهم المختلفة اجتماعياً واقتصادياً وفنياً وصناعياً وفكرياً...

علم الكلام ودعوى سببيته لسد باب الاجتهاد:

وأما ما ادعاه هؤلاء المنتقدون من أن علم الكلام، قد أدى إلى سد باب الاجتهاد، فيتضح عدم دقته بمجرد أن نطلع على الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذه المحنة التي أصابت الأمة في الصميم، في أواخر القرن الرابع الهجري.

وتلك الأسباب - كما يذكرها الأستاذ عبد الوهاب خلاف(١) - على نحو الإجمال هي:

____________________

(١) مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه ٣٤١ وما بعدها.

١٧

١ - «انقسام الدولة الإسلامية إلى عدة ممالك، وتناحر ملوكها ووزرائها على الحكم، مما أوجب انشغالهم عن تشجيع حركة التشريع، وانشغال العلماء تبعاً لذلك بالسياسة وشؤونها.»

٢ - «انقسام المجتهدين إلى أحزاب، لكل حزب مدرسته التشريعية وتلامذتها، مما دعا إلى تعصب كل مدرسة لمبانيها الخاصة، أصولاً وفروعاً وهدم ما عداها... وبهذا فنيت شخصية العالم في حزبيته وماتت روح استقلالهم العقلي وصار الخاصة كالعامة اتباعاً ومقلّدين.»

٣ - «انتشار المتطفلين على الفتوى والقضاء وعدم وجود ضوابط لهم، مما أدى إلى تقبل سد باب الاجتهاد في أواخر القرن الرابع. وتقييد المفتين والقضاة بأحكام الأئمة».

٤ - «شيوع الأمراض الخلقية بين العلماء والتحاسد والأنانية، فكانوا إذا طرق أحدهم باب الاجتهاد فتح على نفسه أبواب التشهير به، وحط اقرانه من قدره... فلهذا كان العالم يتقي كيد زملائه وتجريحهم بأنه مقلد وناقل، لا مجتهد ومبتكر، وبهذا ماتت روع النبوغ ولم ترفع في الفقه رؤوس.»

هذه - بصورة مجملة - هي الأسباب التي تذكر عادة في سد باب الاجتهاد. وأنت لا ترى بينها ما يشير إلى علم الكلام، لا من حيث موضوعه ولا من حيث أسلوبه، لا من قريب ولا من بعيد. وعليه، فلماذا يُحَمّل هؤلاء المنتقدون هذا العلم ما هو براء منه؟

١٨

٥ - أضواء على أهم الفرق والمدارس الكلامية (أ - قبل عصر الترجمات)

لقد سبق وقلنا أن جواً فكرياً مبلبلاً، ظلل الأمة الإسلامية بعد أن هيأ أرضيته عصر الترجمات للتراث الفلسفي اليوناني الذي ابتدأ بشكله الواسع، مع بدايات القرن الثالث الهجري.

وقبل أن نستعرض أهم المواقف الفكرية والاعتقادية التي تولّدت عن ذاك الجو يجدر بنا أن ننبه على أن بعض الفرق - التي قد يكون لها رأي في بعض المسائل التي تثار عادة بين المتكلمين - كانت قد تكوّنت بحكم ظروف خاصة قبل عصر الترجمات المذكور. فمن المناسب الإشارة إلى أهمها بإيجاز:

١ - الخوارج

أ - نشأة الخوراج:

في معركة صفين، وبعد أن لاحت علائم هزيمة جيش معاوية أمام جيش المسلمين بقيادة علي (ع). تفتق ذهن عمرو بن العاص عن خدعة يكسب بها ما عجز عن كسبه وسيّده معاوية بحد السيف، فطلب من معاوية أن يأمر جيشه بحمل المصاحف ودعوة علي (ع) وجيشه إلى التحكيم. ففعل. وكان التحكيم وما سبقه من تحذيره(١) عليه‌السلام أصحابه منه وبيانه لهم، انه خديعة

____________________

(١) راجع ذلك كله في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.

١٩

عمرو بن العاص ومعاوية، للوصول بواسطتها إلى مآربهما. وما لحقه من خلع أبي موسى الأشعري لعليعليه‌السلام من الخلافة، وتثبيت عمرو بن العاص معاوية فيها.

وهنا خرج بعض من كان في جيش عليعليه‌السلام عن طاعته، بحجة انه حكّم الرجال في دين اللّه. في حين أنهم هم الذين أصروا على التحكيم بعد أن رفضه وحذرهم مغبته. ورفعوا شعارهم المشهور «لا حكم إلا للّه». ويقال أنهم كانوا اثني عشر ألفاً. والتجأوا بقيادة عبد اللّه بن الكواء وشبث بن ربعي إلى حروراء في ضواحي الكوفة.

ثم حصلت مجادلات ومراسلات بينهم وبين أمير المؤمنينعليه‌السلام نتج عنها رجوع ابن الكواء، مع قسم كبير منهم عما كانوا فيه. واستقر رأي الباقين على أن يتخذوا من النهروان مقراً لهم. فساروا إليها بقيادة عبد اللّه بن وهب الراسبي. وراحوا يعيثون في الأرض فساداً، فيقتلون الأبرياء، وينهبون أموال الناس. فلما فشا ظلمهم، سار إليهم أمير المؤمنينعليه‌السلام في أربعة آلاف وأبادهم في معركة النهروان المشهورة. ولم ينج منهم سوى تسعة(١) .

ب - عقيدة الخوارج:(٢)

وقد ابتدأ منطق الخوارج هؤلاء، بإعلانهم أن علياً قد أخطأ في قبوله التحكيم. ثم ترقوا في هذا المنطق، إلى أن وصل إلى حد تكفيرهعليه‌السلام . بل

____________________

(١) راجع كيفية ذلك واخبار عليعليه‌السلام قبل قتالهم أنه لن ينجو منهم عشرة في كنز العمال ٦ / ٧١.

(٢) راجع في عقيدة الخوارج هذه الملل والنحل للشهرستاني ١ / ١١٤ وما بعدها.

٢٠