دراسات في العقيدة الإسلامية

دراسات في العقيدة الإسلامية18%

دراسات في العقيدة الإسلامية مؤلف:
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 212

دراسات في العقيدة الإسلامية
  • البداية
  • السابق
  • 212 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 69056 / تحميل: 7135
الحجم الحجم الحجم
دراسات في العقيدة الإسلامية

دراسات في العقيدة الإسلامية

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

ويقصد بصفات الأفعال تلك التي يجوز أن يوصف الباري بأضدادها وبالقدرة على أضدادها.

وصفات الذات مثل: العلم والقدرة والحياة. والسمع والبصر. والقدم. الخ.

وصفات الأفعال مثل: الإرادة. الحب. الرضى. الكراهة. البغض. السخط. الخ...

وكان العلاف يرى أن صفات الذات أولية متحدة مع الذات. في حين أنه كان يرى أن صفات الأفعال حادثة، ومن هنا فهي لا يعقل أن تقوم في ذاته، لاستحالة قيام الحادث فيما هو قديم، لأنه يستلزم أن يكون القديم محلاً للحوادث.

ب - رأيه في أفعال الإنسان:

لقد التزم العلاف - ككل معتزلي - بمبدأ حرية الإرادة في أفعال الإنسان التي تصدر عنه.

وقد نسب إليه أبو الحسن الأشعري، القول بتفصيل في هذه الأفعال، بين ما كان يدرك الإنسان كيفيته، وما لا يدرك. حيث التزم بأن ما يدرك الإنسان كيفيته من هذه الأفعال يصح إسناد خلقها إليه، دون ما لم تكن كيفيته مدركة له، حيث يجب إسناد خلقها إلى اللّه.

جاء في مقالات الإسلاميين: «إن اللّه يقدر عباده على الحركة والسكون والأصوات وسائر ما يعرفون كيفيته، فاما الأغراض التي لا يعرفون كيفيتها كالألوان والطعون والحياة والموت والعجز والقدرة فليس يجوز أن يوصف الباري بالقدرة على أن يقدرهم على شيء من ذلك.»(١)

____________________

(١) مقالات الإسلاميين للأشعري ١ / ٣٧٨.

٤١

ج - رأيه في الحركة:

يرى أبو الهذيل(١) ، ان الحركة لما لم تكن جسماً، لا يمكن أن تلمس إلا أنها لما كان لها بداية، لا بد وأن يكون لها نهاية أيضاً، ونهايتها بانتهاء الدنيا وفنائها، ولذا لا وجود للحركة في الدار الآخرة، وسوف يخيم السكون على أهلها سواء كانوا من أهل الجنة، أو من أهل النار.

د - رأيه في مصدر المعرفة:

وكان العلاف يرى(٢) - ككل معتزلي - ان مصدر المعرفة، إما الوحي، فتكون الشريعة، أو العقل الذي يدرك الإنسان به - قبل ورود الوحي - قبح الأشياء فيجتنبها، أو حسنها فيقدم عليها.

وقد عاش العلاف مائة عام على رواية، ومائة وخمسة أعوام على رواية أخرى وتوفي في مدينة سامراء سنة ٢٣٥ هجرية إذا صح أنه ولد سنة ١٣٥ هجرية.

٢ - ابراهيم بن سيار

يكنى بأبي إسحاق، ويلقب بالنظّام.

وهو ابن أخت أبي الهذيل العلاف المتقدم.

وقيل بأن الوجه في تقليبه بالنظّام، هو أنه كان ينظم الخرز في سوق البصرة ويبيعها.

____________________

(١) و(٢) الملل والنحل الشهرستاني ٣٥ - ٣٦.

٤٢

وقيل بأن الوجه في ذلك هو أنه «كان حسن الكلام في نظمه ونثره.»

وقد ولد بالبصرة حوالي سنة ١٣٥ هجرية.

ويقال بأنه أخذ الإعتزال عن خاله العلاف.

تتلمذ عليه في جملة من تتلمذ الجاحظ، وكان يقول عنه «الأوائل يقولون في كل الف سنة رجل لا نظير له، فان كان ذلك صحيحاً فهو أبو إسحاق النظّام(١) ».

بعض آراء النظّام:

أ - كان النظّام(٢) ككل معتزلي، يقول بالعدل، الاصل الثاني من أصول المعتزلة، ومن العدل ألا يصدر عن اللّه أي شر، بل مقتضى العدل ألا يصدر عنه إلا كل ما هو الأصلح للإنسان، ولذا ينفي النظّام أن تكون الشرور الموجودة في العالم، مخلوقة للّه. ويقول: ان اللّه لا يقدر أن ينقص من نعيم أهل الجنة ذرة، لأن نعيمهم صلاح لهم.

ب - من المعروف بين كثير من الكلاميين، القول بتركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ تكون محلاً للاعراض، ولكن النظام(٣) ذهب إلى رفض هذا القول وإنكار وجود الجزء الذي لا يتجزأ، وقال بأن الأجسام تنقسم إلى ما لا نهاية. ومن هنا، ذهب النظام إلى ارتكاب خطأ فاحش، حيث التزم

____________________

(١) المنية والأمل لابن المرتضى ٣٠.

(٢) راجع الفرق بين الفرق للبغدادي ١١٣ وما بعدها والتبصير في الدين للاسفراييني ٤٣ وما بعدها.

(٣) الملل والنحل للشهرستاني ١ / ٥٥ وما بعدها.

٤٣

بالطفرة، «أي أن النملة مثلاً، التي تقطع مسافة ما، تطفر بعض مقدارها إلى بعض».

ج - أنكر النظام(١) حجية القياس، كما أنكر حجية الإجماع وجوّز أن تجتمع الأمة كلها على ضلالة.

د - وافق أستاذه العلاف، في مصدر المعرفة الإنسانية، وأنه الوحي والعقل. كما وافقه في القول باستحالة دوام الحركة.

ه‍ - أنكر وجود الأعراض - عدا الحركة - ونسب إليه القول بأن كل ما يطلق عليه أنه عرض ما هو إلا جوهر أو جزء من جوهر.

و - قال بأن إعجاز القرآن لم يكن بنظمه وبيانه، بل بالصرفة.(٢) توفي سنة ٢٣١ هجرية وقيل سنة ٢٢١.

٣ - الأشاعرة

أ - مؤسس الفرقة:

مؤسس فرقة الأشاعرة، هو علي بن إسماعيل بن إسحاق.

يكنى بأبي الحسن، ويلقب بالأشعري.

ولد سنة ٢٦٠ هجرية.

وقد درج الأشعري هذا ونما، وترعرع في أروقة مدرسة المعتزلة، وتحت

____________________

(١) راجع تأويل مختلف الحديث للدينوري ٢١ وما بعدها.

(٢) الملل والنحل ١ / ٥٦ - ٥٧

٤٤

ظلال آرائهم وأفكارهم، حيث لازم الجبائي طيلة أربعين عاماً صار بعدها شيخاً ناضجاً من شيوخهم، يجادل ويناظر خصومهم، من خلال آرائه كمعتزلي تلك الآراء التي استظهرها درساً وتدريساً، وبحثاً ومذاكرة.

ب - انفصاله عن أستاذه:

بعد كل هذه الأعوام الأربعين، التي قضاها الأشعري في كنف أستاذه أبي علي الجبائي، تحت راية المعتزلة، نجده وعلى غير سابق إنذار، يتخلى عن كل القيم والمبادئ والأفكار التي عايشها، حتى غدت جزءاً من كيانه ووجوده!!!

انفصل عن أستاذه وتنكّر له، بل تنكّر لكل ما هو معتزلي، ومن هو معتزلي.

ج - سبب هذا الانفصال:

ويذكر مؤرخو الفرق أسباباً عديدة لانفصال الأشعري عن أستاذه الجبائي لا تعدو في جوهرها، عن أن تكون خلافات فكرية في بعض المسائل الإعتقادية.

ومن أهم المسائل التي وقع الخلاف فيها بين الأشعري، وأستاذه الجبائي والتي على أثرها وقعت الفرقة، مسألة حكم العقل، بأن اللّه سبحانه، يجب عليه ألا يفعل إلا الأصلح. وهي ما يعبر عنها «بوجوب فعل الأصلح على اللّه» حيث كان الجبائي كمعتزلي يلتزم به.

وتذكر الكتب(١) ، ان مناظرة جرت بينهما حول هذه المسألة.

____________________

(١) راجع وفيات الأعيان لابن خلكان ٢ / ٢٧٧ وما بعدها وطبقات الشافعية للسبكي ٢ / ٢٥٠.

٤٥

قال الأشعري لأستاذه: ما قولك في ثلاثة: مؤمن وكافر، وصبي؟

قال الجبائي: المؤمن من أهل الدرجات، والكافر من أهل الدركات والصبي من أهل النجاة.

قال الأشعري: فإن أراد الصبي أن يرقى إلى أهل الدرجات هل يمكن؟

قال الجبائي: لا، لأنه يقال له: إن المؤمن إنما نال هذه الدرجة بالطاعة وليس لك مثلها.

قال الأشعري: فإن قال: التقصير ليس مني فلو أحييتني كنت عملت الطاعات كعمل المؤمن.

قال الجبائي: يقول له اللّه: اعلم أنك لو كنت بقيت لعصيت ولعوقبت. فراعيت مصلحتك وأمتّك قبل أن تنتهي إلى سن التكليف.

قال الأشعري: فلو قال الكافر يا رب علمت حاله كما علمت حالي فهلا راعيت مصلحتي مثله؟

وهنالك أمر آخر، خارج عن دائرة خلافه مع أستاذه، يورده مؤرخو الفرق(١) ، كسب لانفصال الأشعري، نورده نحن بدورنا (لطرافته). وهو أنه رأى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في نومه، حيث أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالرجوع إلى الكتاب والسنة!!!

د - إعلان الأشعري عن انفصاله:

يروي المؤرخون(٢) ، بأن الأشعري بعد أن جرت المناظرة التي ذكرناها

____________________

(١) راجع تبيين كذب المفتري للحافظ بن عساكر ٣٩ وما بعدها.

(٢) طبقات الشافعية للسبكي ٢ / ٢٤٦.

٤٦

آنفاً بينه وبين أستاذه الجبائي، انزوى عن الناس مدة «خمسة عشر يوماً ثم خرج إلى الجامع، وصعد المنبر وقال: معاشر الناس، إنما تغيبت عنكم هذه المدة، لأني نظرت فتكافأت عندي الأدلة، ولم يترجّح عندي شيء على شيء، فاستهديت اللّه تعالى فهداني إلى اعتقاد ما أودعته في كتبي هذه وانخلعت من جميع ما كنت اعتقد كما انخلعت من ثوبي هذا. وانخلع من ثوب كان عليه ورمى به ودفع الكتب التي ألّفها».

وفي رواية أخرى «أنه دعا الناس إلى الإجتماع في مسجد البصرة، وبعد الصلاة وقف خطيباً ثم قال: أيها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي. أنا علي بن إسماعيل بن إسحاق الأشعري، كنت أقول بخلق القرآن وان اللّه تعالى لا يُرى بالأبصار وإن أفعال الشر أنا أفعلها وأنا تائب مقلع عما كنت أقول ومتصدر للرد على المعتزلة ومخرج لفضائحهم الخ».

ه‍ - أهم آراء الأشعري:

يقول الأشعري في مقام بيان معتقده: «قولنا الذي به نقول، وديننا الذي به ندين، التمسك بكتاب اللّه، وسنة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون ولما كان عليه أحمد بن حنبل نضر اللّه وجهه، ورفع درجته وأجزل مثوبته متبعون، ولمن خالف قوله مجانبون، لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان اللّه به الحق عند ظهور الضلال، وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكّين. وان اللّه استوى على عرشه... وان له وجهاً... وان له يدين.. وان له عيناً. وان للّه علماً. ونثبت له السمع والبصر، ونقول أن كلام اللّه غير مخلوق، وان أعمال العباد مخلوقة اللّه مقدورة له، وان اللّه وفق المؤمنين

٤٧

لطاعته ولأنه هداهم كانوا مهتدين، ونؤمن بقضاء اللّه وقدره خيره وشره. ونؤمن بأن اللّه يُرى بالأبصار يوم القيامة كما يُرى القمر ليلة البدر الخ»(١) .

هذه هي عقيدة الأشعري - باختصار - كما وردت في بعض كتبه. ولكن ينبغي التنبيه على عقيدتين هامتين يلتزم بهما الأشاعرة:

الأولى : ان العقل عند الأشاعرة، لا يوجب شيئاً من المعارف ولا يقتضي تحسيناً ولا تقبيحاً، ولا يوجب على اللّه رعاية مصالح العباد، ولا لطفاً، ولا شيئاً من هذا(٢) .

الثانية : يرى الأشعري(٣) ، أن النظر لا ينتج علماً، بل جرت عادة اللّه على أن يخلق العلم بعد النظر.

وهذا الموقف عند الأشاعرة، ينطلق من إنكارهم أي ارتباط أو سببية بين الأشياء، بل ان عادة اللّه جرت، على أن يخلق بعض الأشياء عقيب بعض.(٤)

فالإحراق مثلاً، ليس مسبباً عن النار، بل عادة اللّه جرت أن يخلق الإحراق عند خلقه للنار، وهو على هذا قادر على أن يخلق إحراقاً ولا نار. كما أنه قادر على أن يخلق ناراً ولا إحراق، أي ناراً غير محرقة.

و - وجهة نظر:

ونحن، إضافة إلى أننا لا نرى - كما لا يرى كثير من الناقدين - في الأشعري، أكثر من جامع آراء حاول أن يوفق بينها من دون أن يكون عنده

____________________

(١) راجع المواقف للإيجي ٤ / ٤٠٠.

(٢) راجع الملل والنحل للشهرستاني ١ / ١٠١ وما بعدها.

(٣) و(٤) أنظر. واقف الإيجي وشرح السيد عليه ٥٤ وما بعدها.

٤٨

أي نبوغ أو ابتكار. إضافة إلى ذلك، نميل إلى عدم الإيمان بسلامة قصد الأشعري هذا فيما اتخذه من موقف من مدرسته وذلك لعدة اُمور:

الأول : أننا وان كنا نؤمن بأن يخالف التلميذ أستاذه في بعض المسائل، اما أن يخالفه في كل صغيرة وكبيرة وجزئية وكلية، فهذا شيء، وإن لم يكن مستحيلاً عقلاً، إلا أنه مستحيل عادة خاصة إذا لم يكن التلميذ ممن يملكون قدرة على الخلق والإبتكار كما هو الحال في تلميذ الجبائي.

الثاني : نحن وإن كنا نؤمن أن يخالف التلميذ أستاذه في بعض آرائه، أما أن ينقلب عليه وعلى مدرسته عدواً لدوداً، لمجرد انه يخالفه أو يخالفها في الرأي، فهو شيء مستهجن، ومخالف للروح العلمية والخلق الديني، فكم من تلميذ اختلف مع أستاذه، وكم استاذ قرع أكثر من تلميذ عنده، ومع ذلك لم نجد تلميذاً اتخذ من أستاذه هذا الموقف الذي اتخذه الأشعري.

لقد خالف أبو علي الجبائي أستاذ أستاذه العلاف في عشرات المسائل ومع ذلك نجده «لا يرى بعد الصحابة أعظم منه إلا من أخذ عنهم أبو الهذيل، كواصل وعمرو بن عبيد»(١) .

الثالث : ان الأشعري قضى أربعين عاماً من عمره، يدافع عن مذهب الإعتزال، ويقرر براهينه، فهل كان طيلة هذه المدة يبني مذهباً يراه باطلاً أو حقاً؟ وسواء أجاب بهذا أو بذاك، فلن يكون الجواب في صالحه بحال لأنه إن كان يراه حقاً فلماذا انقلب عليه؟ وإن كان يراه باطلاً فلماذا أقام عليه ودافع عنه طيلة هذه المدة.

____________________

(١) نقل ذلك عنه ابن المرتضى في كتابه المنية والأمل ٢٨.

٤٩

الرابع : لقد ذكرت الروايات، أن الأشعري انقطع عن الناس بعد أن انفصل عن أستاذه مدة خمسة عشر يوماً فقط، ثم خرج إليهم ليباغتهم بمذهبه الجديد، ومن الواضح أن هذه المدة الوجيزة، لا تكفي لأن يكوّن الإنسان له رأياً واحداً في مسألة واحدة. فكيف يمكن تعقل كفايتها لأن يؤسس الأشعري خلالها مذهباً فكرياً؟ أو كيف تعقل كفايتها لأن يستعرض كل الآراء في كل المسائل الإعتقادية لكل المدارس الموجودة في عصره مع أدلتها المتضاربة والمتنافرة، ثم يستخلص له من بينها مذهباً؟

الخامس : لقد صرح الأشعري عندما خرج على الناس، بعد هذه المدة الوجيزة: أنه نظر فتكافأت عنده الأدلة، فماذا فعل عندها؟ يقول: إنه استهدى اللّه فهداه إلى اعتقاد ما اعتقده!! ومن الواضح أن هذا المنطق غير مقبول في المجالات العلمية. إذ أن تعيين الحل الصحيح من بين حلين أو حلول في قضية من القضايا لا يعقل أن يكون من دون حجة أو دليل. أما أن يكون بالضرب بالرمل، أو استطلاع حال النجوم وحركة الفلك، فهذا شيء مضحك وسخيف. وقد تذكرت عندما قرأت قول الأشعري: نظرت فتكافأت عندي الأدلة ولم يترجح عندي شيء على شيء فاستهديت اللّه فهداني إلى اعتقاد ما أودعته في كتبي هذه، قد تذكرت ذلك الزميل الذي كان معنا في الكلية يعيّن معنى كلمة إنجليزية في الإمتحان من بين معان متعددة في ذهنه بالإستخارة بالسبحة!!

٥٠

ز - كلمة أخيرة:

بعد عرضنا لهذه الأمور الخمسة، التي تجعلنا لا نركن إلى سلامة قصد الأشعري فيما اتخذه من موقف يبقى علينا أن نتساءل باستغراب، عن الداعي إلى مثل هذا الإخراج المسرحي المتقن، الذي أبرز به انفصاله عن استاذه ومدرسته.؟

هل أراد الأشعري من ورائه، أن يسبق الزمن، لينجو مما بدت نذره في الأفق القريب مؤذنة بأفول نجم سعود المعتزلة، وطلوع نجم نحوسهم، بعد أن ابتدأت السلطة العباسية، بالتخلي عن موقفها المؤيد لهم، وبعد أن اشتدت النقمة الشعبية عليهم، إثر مصيبة ابن حنبل، فيما يسمى بمحنة خلق القرآن، والتي نسبت إليهم؟

قد يكون في تأكيده الشديد على خروجه من بين المعتزلة، وإصراره على البراءة منهم، ووعده القاطع بإخراج فضائحهم، وإعلانه الصريح عن توبته عما كان فيه، قد يكون في كل ذلك قرينة كبيرة على أن جواب تساؤلنا إيجابي ومثبت.

أم تراه أراد أن يستبق الزمن، ليستميل الحنابلة أنفسهم، علهم يرتضون سلوكه في جملتهم، فيظلله نجم سعودهم الذي بدت بشائره في الأفق القريب، فيجني من وراء ذلك الشهد، بعد أن أذاقهم مر العلقم؟

قد يكون تمجيده لإمامهم أحمد، وتعظيمه إياه في خطبته في مسجد البصرة عندما خرج على الناس بذلك الشكل الملفت للنظر، والتي سبق أن أثبتنا قسماً منها في أوائل هذا البحث، قد يكون كل ذلك، قرينة كبيرة، تدل على أن جواب تساؤلنا هذا أيضاً إيجابي ومثبت.

٥١

ولكن الظاهر أن الحنابلة شعروا بما يرمي إليه علي بن إسماعيل هذا، فرفضوه وحقّروه، بل حقروا كل من قال بمقالته. حتى بلغ بهم الأمر أن يمنعوا المؤرخ البغدادي المعروف من أن يصعد المنبر في أحد جوامع بغداد لأنه كان ممن يميلون إلى الأشعري!!!

٤ - الامامية ومواقفهم من آراء سائر الفرق الاعتقادية

والإمامية، ممثلين في أئمتهم (ع) كانت لهم مواقف حاسمة، في شتى المسائل الاعتقادية، التي أثيرت في عصورهم المختلفة.

فقد كانوا - وهم حفظة العقيدة وحماتها - لا يألون جهداً، في الوقوف في وجه كل بدعة أو ضلالة أو رأي، يستشمون منه خطراً على تلك العقيدة وهذا الدين.

وهم مع هذا، كانت لهم مدرستهم الخاصة بهم، والتي تخرج منها مئات من العلماء في مختلف فروع العلم، بما فيها علم العقيدة.

وقد كانت لتلك المدرسة آراؤها وأفكارها الاعتقادية التي تتميز عن آراء وأفكار أية فرقة من الفرق الكلامية التي مر ذكرها.

ونحن إذا أردنا أن نقف على استقلالية المدرسة الكلامية الخاصة بالإمامية ما علينا إلا أن نستعرض - بإيجاز - بعض مواقف هذه المدرسة السامقة، إزاء سائر الفرق الكلامية المتقدمة، لنرى كيف أن هذه المدرسة كانت نسيج وحدها من حيث الأصالة والجرأة والعمق، أمام الآراء الشاذة لتلك الفرق المنافية لروح الإيمان وأصول الإسلام.

٥٢

أ - موقف الامامية من المشبهة

لقد نزّه الامامية، ذات اللّه سبحانه، وصفاته عن كل ما يشعر بالتجسيم والتشبيه. ومن هنا نراهم قد شنوا حرباً شعواء، على أولئك المشبهة، الذين تمسكوا بظاهر بعض الآيات المتشابهة، فجعلوا للّه عينين وأذنين ويدين وإرادة حادثة وغير ذلك، من الآراء التي تستلزم الجسمية والتحيز، وبالتالي الكفر.

ولعل قول الإمام عليعليه‌السلام ، يوضح موقف الإمامية من هؤلاء واضرابهم: «كذب العادلون بك، إذ شبّهوك بأصنامهم، ونحلوك نحلة المخلوقين بأوهامهم، وجزّؤوك تجزئة المجسمات بخواطرهم، وأشهد أن من ساواك بشيء من خلقك فقد عدل بك والعادل بك كافر بما نزلت به محكمات آياتك، ونطقت به شواهد حجج بيناتك(١) ». وقد بلغ موقف الأئمةعليهم‌السلام من هؤلاء المجسمة حداً، رأينا معه الإمام الصادقعليه‌السلام يأمر بمنع شخص من الدخول عليه، لأنه أخبر بأنه ممن يقول بالتجسيم.

ويقول صدر المتأهلين - من أعاظم فلاسفة الامامية بل المسلمين قاطبة - في كتابه «المبدأ والمعاد» ما معناه: ان واجب الوجود لا يوصف بأنه جنس، أو فصل، أو نوع. فما هو بالكلي، لأنه لا يصدق على الغير، ولا بالجزئي، لأن الغير لا يصدق عليه. وهو مستقل بذاته، متنزه عن جميع مخلوقاته، لا يشبه شيئاً، ولا يشبهه شيء...

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ / ١٤٤.

٥٣

ب - موقف الامامية من المجبرة والمفوضة (القدرية)

وكان موقف الامامية من كلا الفريقين: المجبرة والمفوضة، واضحاً لا لبس فيه ولا غموض، حيث أعلنوا براءتهم منهما، ومما يقولون قولاً وعملاً.

أما بالقول فقد طفحت كتبهم بالروايات عن أئمتهمعليهم‌السلام الذّامة لكلا الفريقين بل المكفرة - في بعضها - لهم جميعاً.

منها: ما ورد عن الإمام الرضاعليه‌السلام «القائل بالجبر كافر. والقائل بالتفويض مشرك»(١) وما رواه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال «صنفان من أمتي ليس لهم في الآخرة نصيب: المرجئة والقدرية»(٢) .

وأما بالعمل، فقد حل الامامية هذه المشكلة العويصة، بالتزامهم تبعاً لأئمتهم (ع) بأنه لا جبر ولا تفويض، وإنما أمر بين أمرين.

وسنتناول رأي الإمامية، مقارناً مع رأي كل من المجبرة والمفوضة في هذه المشكلة في محله المناسب إن شاء اللّه.

ج - موقف الامامية من الخوارج والمرجئة

وقد خالف الإمامية الخوارج، فيما أجمعوا عليه من تكفير مرتكب الكبيرة. فحكموا بإيمانه.

____________________

(١) الإحتجاج للشيخ الطبرسي ٢٢٥.

(٢) كنز الفوائد للكراجكي ٥١.

٥٤

كما خالفوا المرجئة، حيث لم يتوقفوا في الحكم على مرتكب الكبيرة، فحكموا عليه باستحقاق العقاب.

وخالفوا بعض فرقهم في ما به يحصل الإيمان، حيث ادعت تلك الفرق بأنه يكفي في الإيمان، مجرد القول باللسان، من دون أن يكون للتصديق بالقلب أية دخالة في تحققه مطلقاً. فقال أكثر الامامية، بأن الإيمان هو التصديق بالجنان (أي القلب) والقول باللسان.

د - موقف الامامية من المعتزلة

يحلو لبعض الكتّاب المحدثين، مقلدين لبعض مؤرخي الفرق الكلامية، أن يجعلوا الامامية في آرائهم وأفكارهم، عالة على مدرسة الاعتزال.

وتبدو سخافة ذلك، إذا استعرضنا جانباً من آراء الإمامية في بعض أصول المعتزلة الخمسة، التي جعلوها - كما تقدم - أساساً لاتصاف أي إنسان بصفة الاعتزال.

١ - رأي الامامية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وقد ذهب الامامية إلى القول بوجوبهما كفائياً، بالشرع لا بالعقل، وذلك بما ورد في الأمر بهما من الآيات والروايات.

فمن الآيات قوله تعالى:( وَ لْتَکُنْ مِنْکُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ ) (١) .

____________________

(١) آل عمران ١٠٤.

٥٥

ومن الروايات، ما رواه الكليني، في فروع الكافي، عن محمد بن يحيى، عن الصادقعليه‌السلام قال: «ويل لقوم لا يدينون اللّه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(١) .

ومنها، ما رواه الكليني أيضاً بإسناده عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام «لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، أو ليستعملن عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم»(٢) .

في حين ذهبَ المعتزلة إلى وجوبهما بالعقل لا بالشرع(٣) .

بل ذهب بعض شيوخهم، إلى القول، بأنهما إنما يجبان على الآمر والناهي في صورة ما إذا استلزما دفع ضرر واقع عليهما فقط(٤) .

وقد فنّد الامامية رأي المعتزلة، في منشأ وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يقول العلامة الحلي «انهما لو وجبا عقلاً لوجبا على اللّه تعالى، فإن كل واجب عقلي يجب على كل من حصل في حقه وجه الوجوب. ولو وجبا عليه تعالى لكان إما فاعلاً لهما، فكان يلزم وقوع المعروف قطعاً، لأنه تعالى يحمل المكلفين عليه، وانتفاء المنكر قطعاً لأنه تعالى يمنع المكلفين عنه. وهذا خلاف ما هو الواقع في الخارج، وإما غير فاعل لهما فيكون مخلاً بالواجب وذلك محال لما ثبت من حكمته تعالى»(٥) .

____________________

(١) و(٢) فروع الكافي للشيخ الكليني ١ / ٣٤٣.

(٣) و(٤) انظر المواقف لنصر الدين الإيجي ٤ / ٢٧٥.

(٥) شرح التجريد للعلامة الحلي ٣٠٤.

٥٦

٢ - التوحيد بين الامامية والمعتزلة

والامامية، وإن كانوا يلتقون في أصل القول بالتوحيد مع المعتزلة، إلا أنهم يفترقون عنهم في أمور التزم بها المعتزلة، وأنكرها الامامية لأنهم رأوها منافية للتوحيد منها مثلاً ان المعتزلة التزموا «بأن الأشياء كانت قبل وجودها أشياء والجواهر والاعراض كانت في حال عدمها جواهر واعراضاً».

فما هي وظيفة اللّه عندهم إذن؟

وظيفته عندهم، أنه قد جعل لها صفة الوجود ليس إلا.

وجاء الامامية إلى هذه المقالة، ليثبتوا بأن الالتزام بها مناف للتوحيد، ومستلزم للالحاد، فقالوا: بأننا إذا التزمنا بأن هذه الاعراض والجواهر والأشياء، لها نوع من التحصل والتحقق، بقطع النظر عنه سبحانه، وان كل ما صدر عنه هو جعل صفة الوجود لها، فنحن نقول وتوافقوننا، على أن تلك الصفة المجعولة لا تخلو عن أن تكون اما جوهراً، أو عرضاً، أو شيئاً، ولا رابع لها.

فإن قلتم بأن هذه الصفة جوهر أو عرض، بطل ما التزمتم به من أن الجوهر والعرض كان لهما تحقق بقطع النظر عنه سبحانه.

وكذا إذا قلتم بأن هذه الصفة ليست جوهراً ولا عرضاً، وإنما هي شيء، فقد بطل ما التزمتم به من أن الأشياء كان لها تحقق بقطع النظر عنه سبحانه.

وإن قلتم بأن هذه الصفة ليست بشيء، فقد التزمتم بأن اللّه لم يفعل شيئاً، وهذا هو عين العجز، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.

٥٧

٣ - المنزلة بين المنزلتين بين الامامية والمعتزلة

لقد تقدم معنا، ان المعتزلة قد حكموا على مرتكب الكبيرة بأنه في منزلة وسط بين الكفر والإيمان. في حين ذهب الامامية إلى الحكم بفسقه فقط مع بقاء صفة الإيمان له.

كما حكم المعتزلة بخلوده في نار جهنم. في حين ذهب الامامية إلى عدم ذلك، بل قالوا بأنه يعاقب بمقدار جرمه واستدلوا لذلك بوجهين:(١)

الأول : «إنه يستحق الثواب الدائم بإيمانه لقوله تعالى:( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ‌ ) (٢) والإيمان أعظم أفعال الخير. فإذا استحق العقاب بالمعصية، فإما أن يقدم الثواب على العقاب، وهو باطل بالإجماع، لأن الثواب المستحق بالإيمان دائم على ما تقدم أو بالعكس وهو المراد. والجمع محال.»

الثاني : «يلزم أن يكون من عبد اللّه تعالى مدة عمره بأنواع القربات إليه، ثم عصى في آخر عمره معصية واحدة مع بقاء إيمانه، مخلداً في النار، كمن أشرك باللّه تعالى مدة عمره وذلك محال لقبحه عند العقلاء».

____________________

(١) شرح التجريد للعلامة الحلي ٣٢٨.

(٢) الزلزلة ٧.

٥٨

٤ - رأي الامامية في الجزء الذي لا يتجزأ

لقد سبق وأشرنا(١) ، إلى أن النظّام وهو من أكبر شيوخ المعتزلة، ذهب إلى إنكار الجزء الذي لا يتجزأ حيث جره ذلك إلى القول بالطفرة.

وقد ذهب متكلمو الإمامية وفلاسفتهم إلى عكس مقالته، حيث أثبتوا الجزء الذي لا يتجزأ عندما اعتبروا أن الجسم مركب من أجزاء متناهية بالفعل. وقد استدلوا لمذهبهم هذا بوجهين(٢) :

الأول: «لو كان في الجسم أقسام بالفعل غير متناهية، لما كان مقداره متناهياً. واللازم باطل، فالملزوم مثله».

الثاني: «لو كانت الأجزاء في الجسم بالفعل غير متناهية لاستحال قطع مقداره إلا في زمان غير متناهٍ، لأنه يستحيل قطعه إلا بعد قطع نصفه، وقطع نصفه إلا بعد قطع ربعه وهكذا... لكن اللازم ظاهر البطلان فالملزوم مثله».

وأما ما ذهب إليه المعتزلة على يدي النظّام من القول بإمكان الطفرة، فقد فنّده الامامية مع شناعته، وحكموا بأنه غير نافع لهم أبداً «فإن النملة لو طفرت من الجسم بعضه، فالذي قطعت بحركتها منه إن كان متناهياً كانت نسبته إلى ما طفرته نسبة متناهي العدد إلى متناهي العدد، وهو المطلوب وإن لم يكن متناهياً عاد الإلزام بعينه فيه».

____________________

(١) راجع ص: ٥١.

(٢) راجع قواعد المرام في علم الكلام لميثم بن ميثم البحراني ص: ٥٥ - ٥٦.

٥٩

٥ - رأي الامامية في «الصرفة»

وقد ردَّ علماء الإمامية قول النظّام بالصرفة والذي سبقت منا الإشارة إليه(١) . وذلك بعدة وجوه(٢) أهمها:

أولاً : ان معنى الصّرفة المدعاة «إن كان، أن اللّه قادر على أن يقدر البشر على أن يأتوا بمثل القرآن، ولكنه تعالى صرف هذه القدرة عن جميع البشر... فهو معنى صحيح، ولكنه لا يختص بالقرآن بل هو جارٍ في جميع المعجزات.

وإن كان معناها أن الناس قادرون على أن يأتوا بمثل القرآن ولكن اللّه صرفهم عن معارضته فهو واضح البطلان. لأن كثيراً منهم تصدوا لمعارضته فلم يستطيعوا».

ثانياً : «لأن إعجاز القرآن لو كان بالصرفة لوجد في كلام العرب السابقين مثله قبل أن يتحدى النبي البشر ويطالبهم بالإتيان بمثل القرآن. ولو وجد ذلك لنقل بالتواتر، لتكثر الدواعي إلى نقله. وإذ لم يوجد، ولم ينقل، كشف ذلك عن كون القرآن بنفسه إعجازاً إلهياً، خارجاً عن طاقة البشر...».

____________________

(١) راجع صفحة / ٥٢ - من هذا الكتاب.

(٢) راجع للإطلاع على هذا الموضوع وما يدور حوله وحول سائر الأوهام حول إعجاز القرآن كتاب البيان للسيد أبو القاسم الخوئي ص ٩٥ - ١١٤.

٦٠

الفصل الاول في العلة الاولى للكون

٦١

٦٢

تمهيد:

«قد نجد في الماضي، والحاضر، والمستقبل، بشرية لا تعرف العلم، أو الفن، أو الفلسفة، ولكن، ليس ثمة مجتمع بلا دين».

«إن من أسباب الدين الدهشة للظواهر الطبيعية التي تفجأ الناس.

ومن هنا ولّد شعور الدهشة في تفكير الإنسان قوى تختفي وراء هذه الظواهر».

هذان القولان، الأول لول ديورانت. والثاني لبرجسون، يعبران عن حقيقة واقعة، لازمت الإنسان منذ كان له وجود على سطح هذه الأرض.

هذه الحقيقة، هي أن وجود الإنسان لم ينفك عن إحساس داخلي عنده بوجود قوة وراء هذه الظواهر الطبيعية، التي تطالعه في كل وقت.

وقد كان هذا الإحساس عنده، باعثاً له على البحث والإستقصاء، علّه يطلع على هذه القوة، وحدودها، ليروي غلته وتعطشه لمعرفتها.

وقد سار الفكر الإنساني في سبيل تحصيل تلك المعرفة، بخطوات متعثرة، يقع مرة، ويقوم أخرى، مما زاد في قلقه وحيرته، ورسم في مخيلته صوراً غامضة زادت من غموض الرؤية لديه، وجعلته يتيه في خيالات وأوهام حوّلت حياته إلى عذاب.

بقي الإنسان على وضعه هذا، يرى سراباً فما يركض نحوه، حتى يصدمه الواقع المرير. واقع الوهم والخيال، حتى شاءت السماء أن تضع حداً لقلقه وحيرته وأوهامه، فكان الإسلام وكان التصوّر السليم والمعقول، لهذه القوة، التي أخذ غموضها وخفاؤها من الإنسان كل وقته وكل استقراره. وراح علماء الإسلام ومفكروه، يحاولون تجلية هذه الحقيقة وتوضيحها، ليقربوها إلى أذهان بني الإنسان.

٦٣

٦٤

المبحث الاول : هل يمكن الاستدلال على وجود العلة الاولى

أ - مع المانعين:

وقد ذهب بعض المفكرين المسلمين، إلى القول بعدم إمكان البرهنة العقلية على وجود العلة الأولى، وكان هؤلاء فريقين.

الأول : الحشوية، وهم «الذين ذهبوا إلى أن معرفة وجود اللّه تثبت بالسمع لا بالعقل. أي أن الإيمان به لا يكفي ولا شأن للعقل فيه»(١) أو «ان الإيمان بوجوده تعالى الذي كلّف الناس التصديق به، يكفي فيه أن يتلقى من صاحب الشرع، كما يتلقى منه أحوال المعاد وغير ذلك، مما لا مدخل فيه للعقل»(٢) .

الثاني : الصوفية «وطرقهم في النظر - كما يقول ابن رشد - ليست طرقاً نظرية، وإنما يزعمون أن الإيمان باللّه وبغيره من الموجودات، شيء يلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية، وإقبالها بالفكرة على المطلوب».(٣) .

____________________

(١) و(٢) الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد ٣١ / و١٣٤.

(٣) نفس المصدر ٤٤.

٦٥

ويعبر المتصوفة عن هذه الحالة، التي تحصل معها المعرفة، بتعبيرات غامضة، كالبصيرة، والكشف، والعيان المباشر. وغير ذلك.

والذي يبدو، أن هؤلاء الصوفية - ولو بنحو الموجبة الجزئية - عندما رأوا، أن الحواس لا يمكن أن تكون طريقاً إلا إلى معرفة ما يقع تحت منالها، واللّه مما لا يدرك بحاسة. وشككوا في قيمة العقل في مجال المعرفة، لم يبق أمامهم إلا سلوك هذا الطريق، وحصرهم معرفة اللّه بالحدس أو القلب.

وهذا بعينه، هو ما يظهر، من بعض فلاسفة القرنين السابع عشر، والثامن عشر، كبليز بسكال، وأما نويل كنط، بل ما يذهب إليه بعض أساتذة الفلسفة في هذا القرن حيث يقول، «وإذن، فلا بد من أن تكون هناك طريقة أخرى لمعرفة اللّه عن سبيل آخر، غير سبيل العقل المنطقي، وليس هذا سوى الحدس»(١) .

ب - اختيار ونقاش:

ومهما يكن من أمر، فإن ما ذهب إليه الحشوية، وأهل الحديث، من قولهم، بإمكان معرفة العلة الأولى بالسمع، مما ورد في الكتاب الكريم، والسنة الشريفة خطأ لا يمكننا المصير إليه، وذلك لاستلزامه الدور.

إذ ان ثبوت حجية الكتاب، فرع إثبات الربوبية ومتوقف عليها توقف الحكم على موضوعه. فإذا أردنا أن نثبت الربوبية بالكتاب وغيره يلزم أن يكون ثبوت كل منهما متوقفاً على الآخر، فيكون من توقف الشيء على نفسه. وهذا هو الدور.

____________________

(١) هو الأستاذ ولتر ستيس في كتابه الزمان والأزل ٣١٣.

٦٦

كما اننا لا يمكن أن نرتضي ما ذهب إليه المتصوفة، من حصر معرفة اللّه، بطريق الكشف والحدس وذلك:

أولاً : لأن فيه إهداراً لقيمة العقل، وشلاً لفاعليته وقدرته على الخلق والإبداع، وهذا ينافي الحث الذي ورد به القرآن الكريم، على تدبر الكون بجميع مناحيه، بالعقل والتفكر فيه.

ثانياً : إن هذه الطريقة - طريقة الصوفية في المعرفة - إن سلمنا وجودها «ليست عامة للناس بما هم ناس»(١) .

ثالثاً : إن هؤلاء الصوفية «بمنهجهم الذوقي هذا، يحطمون أسس المعرفة العقلية، إذ لا بد من مبادئ معينة، وأسس محددة للمعرفة، أما ان تجيء هذه المعرفة بطريق لا يدري الفرد كيف حصلت له، فهذا لا يعد طريقاً عقلياً محدداً»(٢) .

رابعاً : إن ما يتراءى من كلمات المتصوفة الغائمة التي يرددونها، ان حالة الكشف أو المعرفة عندهم، ليست كمالاً طبيعياً، بل هي كمال غير طبيعي. أي كمال إلهي، لا يمنحه اللّه لجمهور الناس، بل لخصوص سعدائهم. وإذا كانت تلك المعرفة كمالاً غير طبيعي فعلى أية جهة يمكن أن يوجد للموجود الطبيعي كمال غير طبيعي. ومعنى انه غير طبيعي، انه شذوذ عن دائرة الإنسانية العاقلة المدركة.

____________________

(١) الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد ٤٤.

(٢) النزعة العقلية في فلسفة ابن رشد لمحمد عاطف العراقي ٢١٢.

٦٧

هذا بالنسبة للحشوية والمتصوفة، ممن ضلوا الطريق الموصل إلى اللّه، وأما بالنسبة للمذاهب المادية، التي وقفت من فكرة الإيمان بالربوبية موقف المنكر الملحد، فلنا معهم مواقف غربلة وتمحيص في المحل المناسب من هذا البحث إن شاء اللّه.

المبحث الثاني : الأدلة العقلية على وجود العلة الأولى

ونحن كدارسين للعقيدة الإسلامية، لا بد لنا من عرض البراهين والأدلة العقلية، التي أقامها متكلمو الإسلام وفلاسفته، على وجود اللّه، وذلك بعد أن انحصر طريق الإستدلال به، لبطلان طريقي الحشوية والمتصوفة السابقين. وأهم هذه الأدلة:

دليل العناية الإلهية أو «الأسباب الغائية». دليلالاختراع . دليلالحدوث . دليلالحركة . دليلالامكان والوجوب ...

أ - دليل العناية أو دليل الأسباب الغائية:

وينسب هذا الدليل عادة إلى ابن رشد الفيلسوف.

والهدف «من هذا الدليل، الوقوف على العناية بالإنسان، وخلق جميع الموجودات من أجله»(١) .

وحاصل هذا الدليل، هو اننا إذا ألقينا نظرة فاحصة على أنفسنا، وعلى ما يحيط بنا من مظاهر هذا الكون، حيوانه، ونباته، وجماده، سمائه، وأرضه، لوجدنا أنّها وجدت بشكل يتناسب تماماً مع متطلبات الإنسان،

____________________

(١) الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد ١٥٠.

٦٨

٦٩

ومقتضيات بقائه واستمراره على هذه الأرض، بل بقاء واستمرار الحياة بجميع أنواعها.

إذا ألقينا نظرة، على جميع ما يمكن الاطلاع عليه من هذا الكون، لظهرت أمام أعيننا «العناية في أعضاء البدن، وأعضاء الحيوان، أعني كونها موافقة لحياته ووجوده»(١) .

«فالشمس، مثلاً، لو كانت أعظم جرماً مما هي، أو أقرب مكاناً، لهلكت أنواع النبات والحيوانات من شدة الحر، ولو كانت أصغر جرماً أو أبعد لهلكت من شدة البرد. ولو لم يكن لها فلك مائل، لما كان هنا صيف ولا شتاء ولا ربيع ولا خريف. وهذه الأزمان ضرورية، في وجود أنواع النبات والحيوان، ولولا الحركة اليومية، لم يكن ليل ولا نهار»(٢) .

وكذا نجد العناية هذه، بأوضح صورها في سائر الأجرام والكواكب، حيث تسير وفق نظام شمسي محدد لا تعدوه. ولو فرض أن جرماً من هذه الأجرام، أو كوكباً من هذه الكواكب، قد انحرف عن خط سيره قيد شعرة أو أقل، أو توقف عن الحركة ولو لحظة، لانفرط عقد الكون بأكمله.

عندما يلاحظ أحدنا هذه العناية، ويلاحظ أن كل شيء مدرك له، إنما جعل بالشكل والمقدار الّلذين يؤدي معهما غاية معينة، تتناسب مع مقتضيات استمرار هذا الإنسان، ومتطلبات وجوده. ووضعية تترتب عليها منفعة لهذا المخلوق.

____________________

(١) الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد / ١٥٠.

(٢) تلخيص ما بعد الطبيعة لابن رشد / ١٦٠.

٧٠

عندما يلاحظ أحدنا كل ذلك يجزم «ان لذلك الشيء صانعاً صنعه ولذلك وافق شكله ووضعه وقدره تلك المنفعة، وانه لا يمكن أن تكون موافقة اجتماع تلك الأشياء لوجود المنفعة بالاتفاق»(١) أي بالمصادفة.

ويمكننا، بناءاً على ما عرضناه، أن نضع دليل العناية هذا، في صورة قياس منطقي كالتالي:

ان الكون بما فيه الإنسان ، مجعول بنحو يتناسب وضعية وشكلاً ومقداراً مع وجود الإنسان ومقتضيات بقاء الحياة واستقرارها.

وكل ما كان كذلك لا بد وأن يكون له صانع لاستحالة أن يحصل هذا التناسب والتناسق عن طريقة المصادفة.

فالكون بما فيه له صانع.

وقد جعل ابن رشد دليل العناية هذا، من أشرف الأدلة على وجود اللّه.

وجهة نظر:

والذي يبدو، ان هذا الدليل، هو ما يعبر عنه المناطقة بالدليل الإنيّ وهو الاستدلال بوجود المعلول على وجود العلة، في قبال الدليل اللمّي، وهو الاستدلال بوجود العلة على وجود المعلول، ولعله لهذا يقول ابن رشد «فان الشريعة الخاصة بالحكماء، وهي الفحص عن جميع الموجودات، اذ كان الخالق لا يعبد بعبادة أشرف من معرفة مصنوعاته التي تؤدي إلى معرفة ذاته سبحانه على الحقيقة»(٢) .

____________________

(١) الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد ١٦٤.

(٢) تفسير ما بعد الطبيعة ١ / ١٠.

٧١

ولكن السمة المميزة في هذا الدليل، انه لا يسلّط الشعاع على المعلول بما هو معلول فقط، بل بما هو معلول متناسق منظم، لا قصور فيه ولا تشويش، يؤدي من خلال تناسقه وتنظيمه، وعدم قصوره وعدم تشويشه، غاية معينة، ومنفعة محددة ولعله لتميزه بهذه الزيادة، خصه ابن رشد بالحكماء أو العلماء، تمييزاً لهم عن الجمهور، الذين يكتفون في مقام الاستدلال، بتسليط الشعاع على المعلول بما هو كذلك، قانعين من المعرفة، بما يبتني منها على الحس الساذج، من دون تعمق ولا تبصر.

ب - دليل الاختراع:

وينسب هذا الدليل أيضاً، إلى ابن رشد الفيلسوف، وهو عند فيلسوفنا هذا أقرب الأدلة إلى مدارك الجمهور(١) .

وملخص دليل الاختراع هو أن هذا الكون بما فيه مصنوع ومخترع، وكل مصنوع ومخترع لا بد له من صانع ومخترع. فالكون بما فيه لا بد له من صانع ومخترع.

والظاهر، أن ابن رشد، يريد بهذا الدليل الإشارة إلى الفطرة المركوزة في كل إنسان، والتي تحتم عليه الجزم، بلا بدية الاسباب للمسببات، وباستحالة وجود المعلول من دون علة تقتضي وجوده.

والذي يؤيد هذا قوله في كتابه مناهج الأدلة بأن هذا الذي ذكرناه موجود «بالقوة في جميع فطر الناس»(٢) .

____________________

(١) الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد ٤٥.

(٢) نفس المصدر ١٥١.

٧٢

بل نراه يصرح في نفس الكتاب المذكور بما أشرت إليه حيث يقول: «فاننا إذا رأينا أجساماً مادية، ثم رأيناه الحياة تحدث فيها، علمنا علم اليقين، أن هناك موجوداً أوجدها، فلكل شيء سبب ولا شيء يحدث اتفاقاً»(١) .

ولعله لهذا أيضاً - أي لرجوع دليل الاختراع إلى الفطرة - يجعله ابن رشد - كما سبق وذكرت - أقرب الأدلة إلى مدارك الجمهور. وهو الذي يعبّر عنه بدليل العوام في قبال دليل الصديقين.

ولكن لا بد من التنبيه، على أن ابن رشد، عندما يعرض هذا الدليل، يحاول أن يصوغه بأسلوب قياس منطقي، ليجعله أقرب إلى أساليب المعرفة اليقينية العقلية منه إلى أسلوب المعرفة الحسية الساذجة.

وجهة نظر:

وابن رشد، الذي ينسب إليه كل من دليلي العناية والاختراع، نراه يستشهد عند عرضه لهذين الدليلين، بآيات من القرآن الكريم.

فبالنسبة للدليل الأول، يدلل عليه بقوله تعالى:( أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً وَ الْجِبَالَ أَوْتَاداً ، وَ خَلَقْنَاکُمْ أَزْوَاجاً وَ جَعَلْنَا نَوْمَکُمْ سُبَاتاً وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً وَ جَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً وَ بَنَيْنَا فَوْقَکُمْ سَبْعاً شِدَاداً وَ جَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً وَ أَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَ نَبَاتاً وَ جَنَّاتٍ أَلْفَافاً ) (٢) .

وقوله تعالى:( تَبَارَکَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَ جَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً

____________________

(١) نفس المصدر.

(٢) النبأ ٦ - ١٦.

٧٣

وَ قَمَراً مُنِيراً ) (١) . وقوله تعالى:( الَّذِي جَعَلَ لَکُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً ) (٢) .

وبالنسبة للدليل الثاني يدلل بقوله تعالى:( أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَکُوتِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ‌ءٍ ) (٣) . وقوله تعالى:( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ‌ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ‌ ) (٤) . وقوله تعالى:( أَ فَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ کَيْفَ خُلِقَتْ ) (٥) .

وهنا، قد يحلو لبعض الدارسين، أن يفسر موقف ابن رشد هذا، على أنه يسلكه في عداد الحشوية، الذين - كما تقدم - يحصرون استدلالهم على وجود المبدأ الأول بالنقل، أي بالآيات القرآنية.

ولكن هذا الرأي، مجانب للصواب، وذلك:

أولاً : كيف يجوز أن نسلك ابن رشد في عداد الحشوية، في حين نراه يشن عليهم في كتابه (الكشف) وغيره حرباً فكرية شعواء وينتقدهم انتقاداً مراً(٦) .

ثانياً : إن ابن رشد كفيلسوف، يستحيل عليه أن يجعل مقياسه للحقيقة قبلياته الفكرية ومعتقداته، بل هو ملزم باتباع الدليل العقلي والبرهان المنطقي، في مجال غربلة الحقائق لاستخراج صحيحها من فاسدها.

____________________

(١) الفرقان ٦١.

(٢) البقرة ٢٢.

(٣) الأعراف ١٨٥.

(٤) الطارق ٦.

(٥) الغاشية ١٧.

(٦) راجع الكشف عن مناهج الأدلة ١٥٣ وما بعدها وصفحة ١٩٨ وما بعدها كما يراجع فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الإتصال ٢٤ وما بعدها.

٧٤

لذلك وغيره، لا نجد ابن رشد في إيراده لهذه الآيات، إلا أنه كان يرى فيها إرشاداً إلى حكم العقل بوجود اللّه وتنبيهاً إلى تلك الأدلة العقلية على ضرورة الإيمان به. ولهذا نجده يصرح عند إيراده مثل هذه الآيات، بما يفيد ذلك، كقوله بعد إيراده لبعض الآيات المذكورة «فهذه الآيات تتضمن التنبيه على موافقة أجزاء العالم لوجود الإنسان»(١) .

ج - دليل الحدوث:

ويمكن تقريب هذا الدليل على نحوين:

الأول: اننا إذا نظرنا إلى ما يحيط بنا في هذا الكون، وإلى أنفسنا، لوجدنا انه يتغير ويتبدل من حالة إلى أخرى، ومن شكل إلى آخر.

فالماء يتغير بفعل الحرارة إلى بخار، والبخار يتحول بفعل البرودة إلى ماء مرة أخرى.

والإنسان يكون نطفة، فيتحول إلى علقة، فإلى مضغة، فإلى عظام يكسوها لحم، فإلى شاب، فإلى رجل، فإلى كهل، ثم يموت فيتحول إلى تراب. وقس على هذا كل شيء في العالم.

فالعالم على هذا متغير، وتغيره دليل على حدوثه، لأن المتغير لا يعقل أن يتصف بالقدم، وإذا كان العالم حادثاً، يجزم العقل بمجرد إدراك حدوثه بضرورة وجود محدث له.

ويمكن أن نصوغ هذا التقريب من الدليل، في صورة قياس منطقي، مؤلف من صغرى وكبرى ونتيجة، على الشكل التالي:

____________________

(١) الكشف عن مناهج الأدلة ١٩٦.

٧٥

العالم متغير.

وكل متغير حادث.

فالعالم حادث.

الثاني : «إن ما ندركه من العالم المحسوس، هو اعراض تظهر وتختفي كل لحظة. ومحل هذه الاعراض المتغيرة، هو الجواهر الجسمية. وهذه الجواهر لا يمكن أن نعتبرها غير متغيرة، لأنها محل للمتغيرات. وإذا كانت متغيرة لا يمكن أن نعتبرها قديمة لأن القديم لا يتغير. وإذا كان كل شيء في العالم متغيراً، فهو حادث»(١) .

ويمكن أن نصوغ هذا التقريب الثاني من دليل الحدوث، في صورة قياس منطقي مؤلف - أيضاً - من صغرى وكبرى ونتيجة على النحو التالي:

العالم متكون من جواهر تقوم فيها الأغراض المتغيرة.

وكل ما يقوم فيه المتغير وهو الجواهر فهو متغير.

فالعالم المتكون من جواهر متغيرة واعراض متغيرة فهو متغير.

د - دليل الحركة:

ولكي نفهم هذا الدليل، لا بد لنا أولاً، من فهم مراد الفلاسفة من الحركة.

فالحركة في مفهومهم هي «كمال ما بالقوة من جهة ما هو بالقوة»(٢) .

____________________

(١) تاريخ الفلسفة في الإسلام لدي بور ترجمة محد أبو ريدة ٦٨.

(٢) تلخيص السماع الطبيعي لابن رشد ٢٢.

٧٦

أو هي، بعبارة قد تكون أوضح «خروج الشيء من القوة إلى الفعل تدريجياً»(١) .

والقوة والفعل، تعبيران، يراد بالأول منهما عالم الثبوت والإمكان، وبالثاني عالم الإثبات والتحقق والوجود.

بعد هذا يمكننا أن نقرب دليل الحركة على وجود العلة الأولى فنقول:

إن أي شيء وضعنا يدنا عليه في هذا الكون وجدناه يتحرك بعد سكون، ويسكن بعد حركة.

ومعنى هذا ان كلاً من الحركة والسكون، يوجدان في الشيء بعد أن لم يكونا فيه، فهما إذن حادثان، وكل حادث لا بد له من محدث. فالحركة تدل على وجود محرك وراءها.

وإذا كان الكون مجموعة من الأشياء، التي تعتور عليها الحركة والسكون، كان لا بد له من محرك.

وإذا صح هذا، وعرفنا بأن الحركة في مفهوم الفلاسفة، عبارة عن خروج الشيء المتحرك من القوة إلى الفعل، أي من مرحلة الإمكان إلى مرحلة التحقق والثبوت، كانت حركة الشيء عبارة عن وجوده، وبالتالي حركة الكون عبارة عن وجوده أيضاً.

وإذا كان لا بد لكل حركة من محرك، كان لا بد لحركة الكون بمعنى وجودها من محرك بمعنى موجد.

____________________

(١) فلسفتنا للسيد محمد باقر الصدر ٢١٣.

٧٧

ولا يعقل أن يكون الكون علة لحركة نفسه، لأننا بعد أن فرضنا أن حركة الكون عبارة عن خروجه من القوة إلى الفعل، فإن أية ظاهرة كونية ينطبق عليها هذا القدر، بمعنى أن يكون وجودها، بخروجها من القوة إلى الفعل، وهي في هذا الخروج محتاجة إلى من يخرجها من تلك المرحلة إلى هذه المرحلة. ونتيجة الالتزام بعلية الكون نفسه لحركته، التسلسل في العلل والمعلولات إلى ما لا نهاية.

مثلاً، لو أخذنا الظاهرة الكونية (أ)، فهي لتتحرك، لا بد من وجود شيئين فيها، شيء بالقوة، وشيء بالفعل.

وإذا كانت الحركة - كما سبق - خروجاً من القوة إلى الفعل، فهي لتتحرك، تحتاج إلى وجود محرك يخرجها من وإلى. ولنفرضه الظاهرة (ب).

وحينئذ ننقل الكلام إلى هذا المحرك. إذ ان وجود عبارة أخرى عن حركته ما بين القوة والفعل، فهو أيضاً محتاج إلى وجود محرك لنفرضه الظاهرة (ج).

وحينئذ ننقل الكلام إلى هذا المحرك الثالث، فهو في وجوده بمعنى حركته ما بين القوة والفعل، محتاج إلى محرك وهكذا دواليك، حتى تصعد بنا السلسلة إلى ما لا نهاية، في ظواهر الكون المادية. ولا تنقطع إلا بفرض محرك أقصى ما ورائي، هو فعل محض، لا تشوبه القوة بحال من الأحوال، حتى يحتاج إلى علة تخرجه منها إلى الفعل. وهو المطلوب.

ه‍ - دليل الإمكان والوجوب:

ولا بد لنا، قبل أن نذكر هذا الدليل ملخصاً، من أن نلم، ولو إلمامة مختصرة، بمعنى كل من الممكن، والواجب عند الفلاسفة والمتكلمين.

٧٨

معنى الممكن : فالممكن عندهم هو «ما كانت ماهيته قابلة للوجود والعدم» أو هو بعبارة أوضح، ما تكون ماهيته في مرتبة وسط بين نقطتي الوجود والعدم.

معنى الواجب : وأما الواجب، فهو ما استحال انفكاك الوجود عنه، أو انفكاكه عن الوجود، لأن ماهيته الوجود نفسه، وهو العلة الأولى، التي يفتقر كل وجود إليها، في حين أن وجودها بذاته، من دون حاجة إلى أية علة.

وحاصل دليل الوجوب والإمكان هذا، على ضوء ما ذكرناه من معنى الممكن والواجب هو (أن الأمور التي تدخل في الوجود) لا تخلو بالقسمة العقلية من أن تكون إما واجبة، أو ممكنة.

ونحن، إذا نظرنا إلى العالم ككل، ونعني به كل ما عدا اللّه، لأدركنا استحالة أن يكون واجباً. لأنه حادث، يدل على حدوثه تغيره من حال إلى حال، ومن صفة إلى أخرى، والواجب ثابت لا يتغير.

ومعنى كونه حادثاً، أنه وجد بعد أن لم يكن.

وإذا كان العالم حادثاً - بكل مظاهره - ويستحيل أن يكون واجباً لذلك، تعين أن يكون قبل وجوده وتحققه ممكناً، وإلا لو كان ممتنعاً لما وجد. وقد عرفنا أن الممكن، هو ما يستوي فيه طرفاً الوجود والعدم.

وإذا كان الوجود والعدم متساويين بالنسبة إلى العالم قبل ترجح وجوده، وعرفنا استحالة ترجح أحد المتساويين على الآخر إلا بمرجح، جزم العقل بضرورة وجود مرجح رجح جانب الوجود في العالم على جانب العدم، «وإلا

٧٩

لبقي هذا العالم الممكن على حاله الاُولى من العدم»(١) .

وقد يتوهم متوهم، أن العالم الممكن حسب الفرض، يكون نفسه علة هذا الترجيح من دون حاجة إلى فرض مرجح خارج عنه، لكفة وجوده على عدمه.

ولكن هذا التوهم، يزول بمجرد الالتفات إلى أن العلة، ليصح أن تكون علة، لا بد من تقدمها على معلومها ذاتاً ورتبة.

ومع فرض أن العلة هي نفس المعلول، يلزم أن يكون الشيء متقدماً على نفسه وهو محال، هذاأولاً .

وثانياً : «ليس وجوده عن ذاته بأولى من عدمه»(٢) .

بعد أن اتضحت ضرورة وجود مرجح لكفة الوجود في العالم على كفة العدم، لا بد من أن ننقل الكلام إلى هذا المرجح، فهو بالقسمة العقلية، لا يخلو عن إحدى حالتين، إذ إنه إما واجب، أو ممكن.

فإن كان واجباً، فقد ثبت المطلوب، وهو واجب الوجود. وإن كان ممكناً، لا بد له بدوره، من علة رجحت كفة الوجود فيه على كفة العدم. وذلك لان الموجود الممكن، كما سبق بيانه، لا بد له من علة تتقدم عليه. فإن كانت العلة ممكنة، وجب أن يوجد لها علة، وهكذا إلى غير نهاية، وذلك معناه التسلسل في العلل والمعلولات، والتسلسل باطل. فلا بد لقطع سلسلة العلل هذه، من فرض علة، يكون الوجود ضرورياً لها، بل تكون محض الوجود ونفس الوجود، وهي، واجب الوجود لذاته.

____________________

(١) الإقتصاد في الإعتقاد للغزالي ١٤.

(٢) الإشارات والتنبيهات لابن سينا ٤٤٩.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212