دراسات في العقيدة الإسلامية

دراسات في العقيدة الإسلامية18%

دراسات في العقيدة الإسلامية مؤلف:
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 212

دراسات في العقيدة الإسلامية
  • البداية
  • السابق
  • 212 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 69057 / تحميل: 7135
الحجم الحجم الحجم
دراسات في العقيدة الإسلامية

دراسات في العقيدة الإسلامية

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

ويقصد بصفات الأفعال تلك التي يجوز أن يوصف الباري بأضدادها وبالقدرة على أضدادها.

وصفات الذات مثل: العلم والقدرة والحياة. والسمع والبصر. والقدم. الخ.

وصفات الأفعال مثل: الإرادة. الحب. الرضى. الكراهة. البغض. السخط. الخ...

وكان العلاف يرى أن صفات الذات أولية متحدة مع الذات. في حين أنه كان يرى أن صفات الأفعال حادثة، ومن هنا فهي لا يعقل أن تقوم في ذاته، لاستحالة قيام الحادث فيما هو قديم، لأنه يستلزم أن يكون القديم محلاً للحوادث.

ب - رأيه في أفعال الإنسان:

لقد التزم العلاف - ككل معتزلي - بمبدأ حرية الإرادة في أفعال الإنسان التي تصدر عنه.

وقد نسب إليه أبو الحسن الأشعري، القول بتفصيل في هذه الأفعال، بين ما كان يدرك الإنسان كيفيته، وما لا يدرك. حيث التزم بأن ما يدرك الإنسان كيفيته من هذه الأفعال يصح إسناد خلقها إليه، دون ما لم تكن كيفيته مدركة له، حيث يجب إسناد خلقها إلى اللّه.

جاء في مقالات الإسلاميين: «إن اللّه يقدر عباده على الحركة والسكون والأصوات وسائر ما يعرفون كيفيته، فاما الأغراض التي لا يعرفون كيفيتها كالألوان والطعون والحياة والموت والعجز والقدرة فليس يجوز أن يوصف الباري بالقدرة على أن يقدرهم على شيء من ذلك.»(١)

____________________

(١) مقالات الإسلاميين للأشعري ١ / ٣٧٨.

٤١

ج - رأيه في الحركة:

يرى أبو الهذيل(١) ، ان الحركة لما لم تكن جسماً، لا يمكن أن تلمس إلا أنها لما كان لها بداية، لا بد وأن يكون لها نهاية أيضاً، ونهايتها بانتهاء الدنيا وفنائها، ولذا لا وجود للحركة في الدار الآخرة، وسوف يخيم السكون على أهلها سواء كانوا من أهل الجنة، أو من أهل النار.

د - رأيه في مصدر المعرفة:

وكان العلاف يرى(٢) - ككل معتزلي - ان مصدر المعرفة، إما الوحي، فتكون الشريعة، أو العقل الذي يدرك الإنسان به - قبل ورود الوحي - قبح الأشياء فيجتنبها، أو حسنها فيقدم عليها.

وقد عاش العلاف مائة عام على رواية، ومائة وخمسة أعوام على رواية أخرى وتوفي في مدينة سامراء سنة ٢٣٥ هجرية إذا صح أنه ولد سنة ١٣٥ هجرية.

٢ - ابراهيم بن سيار

يكنى بأبي إسحاق، ويلقب بالنظّام.

وهو ابن أخت أبي الهذيل العلاف المتقدم.

وقيل بأن الوجه في تقليبه بالنظّام، هو أنه كان ينظم الخرز في سوق البصرة ويبيعها.

____________________

(١) و(٢) الملل والنحل الشهرستاني ٣٥ - ٣٦.

٤٢

وقيل بأن الوجه في ذلك هو أنه «كان حسن الكلام في نظمه ونثره.»

وقد ولد بالبصرة حوالي سنة ١٣٥ هجرية.

ويقال بأنه أخذ الإعتزال عن خاله العلاف.

تتلمذ عليه في جملة من تتلمذ الجاحظ، وكان يقول عنه «الأوائل يقولون في كل الف سنة رجل لا نظير له، فان كان ذلك صحيحاً فهو أبو إسحاق النظّام(١) ».

بعض آراء النظّام:

أ - كان النظّام(٢) ككل معتزلي، يقول بالعدل، الاصل الثاني من أصول المعتزلة، ومن العدل ألا يصدر عن اللّه أي شر، بل مقتضى العدل ألا يصدر عنه إلا كل ما هو الأصلح للإنسان، ولذا ينفي النظّام أن تكون الشرور الموجودة في العالم، مخلوقة للّه. ويقول: ان اللّه لا يقدر أن ينقص من نعيم أهل الجنة ذرة، لأن نعيمهم صلاح لهم.

ب - من المعروف بين كثير من الكلاميين، القول بتركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ تكون محلاً للاعراض، ولكن النظام(٣) ذهب إلى رفض هذا القول وإنكار وجود الجزء الذي لا يتجزأ، وقال بأن الأجسام تنقسم إلى ما لا نهاية. ومن هنا، ذهب النظام إلى ارتكاب خطأ فاحش، حيث التزم

____________________

(١) المنية والأمل لابن المرتضى ٣٠.

(٢) راجع الفرق بين الفرق للبغدادي ١١٣ وما بعدها والتبصير في الدين للاسفراييني ٤٣ وما بعدها.

(٣) الملل والنحل للشهرستاني ١ / ٥٥ وما بعدها.

٤٣

بالطفرة، «أي أن النملة مثلاً، التي تقطع مسافة ما، تطفر بعض مقدارها إلى بعض».

ج - أنكر النظام(١) حجية القياس، كما أنكر حجية الإجماع وجوّز أن تجتمع الأمة كلها على ضلالة.

د - وافق أستاذه العلاف، في مصدر المعرفة الإنسانية، وأنه الوحي والعقل. كما وافقه في القول باستحالة دوام الحركة.

ه‍ - أنكر وجود الأعراض - عدا الحركة - ونسب إليه القول بأن كل ما يطلق عليه أنه عرض ما هو إلا جوهر أو جزء من جوهر.

و - قال بأن إعجاز القرآن لم يكن بنظمه وبيانه، بل بالصرفة.(٢) توفي سنة ٢٣١ هجرية وقيل سنة ٢٢١.

٣ - الأشاعرة

أ - مؤسس الفرقة:

مؤسس فرقة الأشاعرة، هو علي بن إسماعيل بن إسحاق.

يكنى بأبي الحسن، ويلقب بالأشعري.

ولد سنة ٢٦٠ هجرية.

وقد درج الأشعري هذا ونما، وترعرع في أروقة مدرسة المعتزلة، وتحت

____________________

(١) راجع تأويل مختلف الحديث للدينوري ٢١ وما بعدها.

(٢) الملل والنحل ١ / ٥٦ - ٥٧

٤٤

ظلال آرائهم وأفكارهم، حيث لازم الجبائي طيلة أربعين عاماً صار بعدها شيخاً ناضجاً من شيوخهم، يجادل ويناظر خصومهم، من خلال آرائه كمعتزلي تلك الآراء التي استظهرها درساً وتدريساً، وبحثاً ومذاكرة.

ب - انفصاله عن أستاذه:

بعد كل هذه الأعوام الأربعين، التي قضاها الأشعري في كنف أستاذه أبي علي الجبائي، تحت راية المعتزلة، نجده وعلى غير سابق إنذار، يتخلى عن كل القيم والمبادئ والأفكار التي عايشها، حتى غدت جزءاً من كيانه ووجوده!!!

انفصل عن أستاذه وتنكّر له، بل تنكّر لكل ما هو معتزلي، ومن هو معتزلي.

ج - سبب هذا الانفصال:

ويذكر مؤرخو الفرق أسباباً عديدة لانفصال الأشعري عن أستاذه الجبائي لا تعدو في جوهرها، عن أن تكون خلافات فكرية في بعض المسائل الإعتقادية.

ومن أهم المسائل التي وقع الخلاف فيها بين الأشعري، وأستاذه الجبائي والتي على أثرها وقعت الفرقة، مسألة حكم العقل، بأن اللّه سبحانه، يجب عليه ألا يفعل إلا الأصلح. وهي ما يعبر عنها «بوجوب فعل الأصلح على اللّه» حيث كان الجبائي كمعتزلي يلتزم به.

وتذكر الكتب(١) ، ان مناظرة جرت بينهما حول هذه المسألة.

____________________

(١) راجع وفيات الأعيان لابن خلكان ٢ / ٢٧٧ وما بعدها وطبقات الشافعية للسبكي ٢ / ٢٥٠.

٤٥

قال الأشعري لأستاذه: ما قولك في ثلاثة: مؤمن وكافر، وصبي؟

قال الجبائي: المؤمن من أهل الدرجات، والكافر من أهل الدركات والصبي من أهل النجاة.

قال الأشعري: فإن أراد الصبي أن يرقى إلى أهل الدرجات هل يمكن؟

قال الجبائي: لا، لأنه يقال له: إن المؤمن إنما نال هذه الدرجة بالطاعة وليس لك مثلها.

قال الأشعري: فإن قال: التقصير ليس مني فلو أحييتني كنت عملت الطاعات كعمل المؤمن.

قال الجبائي: يقول له اللّه: اعلم أنك لو كنت بقيت لعصيت ولعوقبت. فراعيت مصلحتك وأمتّك قبل أن تنتهي إلى سن التكليف.

قال الأشعري: فلو قال الكافر يا رب علمت حاله كما علمت حالي فهلا راعيت مصلحتي مثله؟

وهنالك أمر آخر، خارج عن دائرة خلافه مع أستاذه، يورده مؤرخو الفرق(١) ، كسب لانفصال الأشعري، نورده نحن بدورنا (لطرافته). وهو أنه رأى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في نومه، حيث أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالرجوع إلى الكتاب والسنة!!!

د - إعلان الأشعري عن انفصاله:

يروي المؤرخون(٢) ، بأن الأشعري بعد أن جرت المناظرة التي ذكرناها

____________________

(١) راجع تبيين كذب المفتري للحافظ بن عساكر ٣٩ وما بعدها.

(٢) طبقات الشافعية للسبكي ٢ / ٢٤٦.

٤٦

آنفاً بينه وبين أستاذه الجبائي، انزوى عن الناس مدة «خمسة عشر يوماً ثم خرج إلى الجامع، وصعد المنبر وقال: معاشر الناس، إنما تغيبت عنكم هذه المدة، لأني نظرت فتكافأت عندي الأدلة، ولم يترجّح عندي شيء على شيء، فاستهديت اللّه تعالى فهداني إلى اعتقاد ما أودعته في كتبي هذه وانخلعت من جميع ما كنت اعتقد كما انخلعت من ثوبي هذا. وانخلع من ثوب كان عليه ورمى به ودفع الكتب التي ألّفها».

وفي رواية أخرى «أنه دعا الناس إلى الإجتماع في مسجد البصرة، وبعد الصلاة وقف خطيباً ثم قال: أيها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي. أنا علي بن إسماعيل بن إسحاق الأشعري، كنت أقول بخلق القرآن وان اللّه تعالى لا يُرى بالأبصار وإن أفعال الشر أنا أفعلها وأنا تائب مقلع عما كنت أقول ومتصدر للرد على المعتزلة ومخرج لفضائحهم الخ».

ه‍ - أهم آراء الأشعري:

يقول الأشعري في مقام بيان معتقده: «قولنا الذي به نقول، وديننا الذي به ندين، التمسك بكتاب اللّه، وسنة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون ولما كان عليه أحمد بن حنبل نضر اللّه وجهه، ورفع درجته وأجزل مثوبته متبعون، ولمن خالف قوله مجانبون، لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان اللّه به الحق عند ظهور الضلال، وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكّين. وان اللّه استوى على عرشه... وان له وجهاً... وان له يدين.. وان له عيناً. وان للّه علماً. ونثبت له السمع والبصر، ونقول أن كلام اللّه غير مخلوق، وان أعمال العباد مخلوقة اللّه مقدورة له، وان اللّه وفق المؤمنين

٤٧

لطاعته ولأنه هداهم كانوا مهتدين، ونؤمن بقضاء اللّه وقدره خيره وشره. ونؤمن بأن اللّه يُرى بالأبصار يوم القيامة كما يُرى القمر ليلة البدر الخ»(١) .

هذه هي عقيدة الأشعري - باختصار - كما وردت في بعض كتبه. ولكن ينبغي التنبيه على عقيدتين هامتين يلتزم بهما الأشاعرة:

الأولى : ان العقل عند الأشاعرة، لا يوجب شيئاً من المعارف ولا يقتضي تحسيناً ولا تقبيحاً، ولا يوجب على اللّه رعاية مصالح العباد، ولا لطفاً، ولا شيئاً من هذا(٢) .

الثانية : يرى الأشعري(٣) ، أن النظر لا ينتج علماً، بل جرت عادة اللّه على أن يخلق العلم بعد النظر.

وهذا الموقف عند الأشاعرة، ينطلق من إنكارهم أي ارتباط أو سببية بين الأشياء، بل ان عادة اللّه جرت، على أن يخلق بعض الأشياء عقيب بعض.(٤)

فالإحراق مثلاً، ليس مسبباً عن النار، بل عادة اللّه جرت أن يخلق الإحراق عند خلقه للنار، وهو على هذا قادر على أن يخلق إحراقاً ولا نار. كما أنه قادر على أن يخلق ناراً ولا إحراق، أي ناراً غير محرقة.

و - وجهة نظر:

ونحن، إضافة إلى أننا لا نرى - كما لا يرى كثير من الناقدين - في الأشعري، أكثر من جامع آراء حاول أن يوفق بينها من دون أن يكون عنده

____________________

(١) راجع المواقف للإيجي ٤ / ٤٠٠.

(٢) راجع الملل والنحل للشهرستاني ١ / ١٠١ وما بعدها.

(٣) و(٤) أنظر. واقف الإيجي وشرح السيد عليه ٥٤ وما بعدها.

٤٨

أي نبوغ أو ابتكار. إضافة إلى ذلك، نميل إلى عدم الإيمان بسلامة قصد الأشعري هذا فيما اتخذه من موقف من مدرسته وذلك لعدة اُمور:

الأول : أننا وان كنا نؤمن بأن يخالف التلميذ أستاذه في بعض المسائل، اما أن يخالفه في كل صغيرة وكبيرة وجزئية وكلية، فهذا شيء، وإن لم يكن مستحيلاً عقلاً، إلا أنه مستحيل عادة خاصة إذا لم يكن التلميذ ممن يملكون قدرة على الخلق والإبتكار كما هو الحال في تلميذ الجبائي.

الثاني : نحن وإن كنا نؤمن أن يخالف التلميذ أستاذه في بعض آرائه، أما أن ينقلب عليه وعلى مدرسته عدواً لدوداً، لمجرد انه يخالفه أو يخالفها في الرأي، فهو شيء مستهجن، ومخالف للروح العلمية والخلق الديني، فكم من تلميذ اختلف مع أستاذه، وكم استاذ قرع أكثر من تلميذ عنده، ومع ذلك لم نجد تلميذاً اتخذ من أستاذه هذا الموقف الذي اتخذه الأشعري.

لقد خالف أبو علي الجبائي أستاذ أستاذه العلاف في عشرات المسائل ومع ذلك نجده «لا يرى بعد الصحابة أعظم منه إلا من أخذ عنهم أبو الهذيل، كواصل وعمرو بن عبيد»(١) .

الثالث : ان الأشعري قضى أربعين عاماً من عمره، يدافع عن مذهب الإعتزال، ويقرر براهينه، فهل كان طيلة هذه المدة يبني مذهباً يراه باطلاً أو حقاً؟ وسواء أجاب بهذا أو بذاك، فلن يكون الجواب في صالحه بحال لأنه إن كان يراه حقاً فلماذا انقلب عليه؟ وإن كان يراه باطلاً فلماذا أقام عليه ودافع عنه طيلة هذه المدة.

____________________

(١) نقل ذلك عنه ابن المرتضى في كتابه المنية والأمل ٢٨.

٤٩

الرابع : لقد ذكرت الروايات، أن الأشعري انقطع عن الناس بعد أن انفصل عن أستاذه مدة خمسة عشر يوماً فقط، ثم خرج إليهم ليباغتهم بمذهبه الجديد، ومن الواضح أن هذه المدة الوجيزة، لا تكفي لأن يكوّن الإنسان له رأياً واحداً في مسألة واحدة. فكيف يمكن تعقل كفايتها لأن يؤسس الأشعري خلالها مذهباً فكرياً؟ أو كيف تعقل كفايتها لأن يستعرض كل الآراء في كل المسائل الإعتقادية لكل المدارس الموجودة في عصره مع أدلتها المتضاربة والمتنافرة، ثم يستخلص له من بينها مذهباً؟

الخامس : لقد صرح الأشعري عندما خرج على الناس، بعد هذه المدة الوجيزة: أنه نظر فتكافأت عنده الأدلة، فماذا فعل عندها؟ يقول: إنه استهدى اللّه فهداه إلى اعتقاد ما اعتقده!! ومن الواضح أن هذا المنطق غير مقبول في المجالات العلمية. إذ أن تعيين الحل الصحيح من بين حلين أو حلول في قضية من القضايا لا يعقل أن يكون من دون حجة أو دليل. أما أن يكون بالضرب بالرمل، أو استطلاع حال النجوم وحركة الفلك، فهذا شيء مضحك وسخيف. وقد تذكرت عندما قرأت قول الأشعري: نظرت فتكافأت عندي الأدلة ولم يترجح عندي شيء على شيء فاستهديت اللّه فهداني إلى اعتقاد ما أودعته في كتبي هذه، قد تذكرت ذلك الزميل الذي كان معنا في الكلية يعيّن معنى كلمة إنجليزية في الإمتحان من بين معان متعددة في ذهنه بالإستخارة بالسبحة!!

٥٠

ز - كلمة أخيرة:

بعد عرضنا لهذه الأمور الخمسة، التي تجعلنا لا نركن إلى سلامة قصد الأشعري فيما اتخذه من موقف يبقى علينا أن نتساءل باستغراب، عن الداعي إلى مثل هذا الإخراج المسرحي المتقن، الذي أبرز به انفصاله عن استاذه ومدرسته.؟

هل أراد الأشعري من ورائه، أن يسبق الزمن، لينجو مما بدت نذره في الأفق القريب مؤذنة بأفول نجم سعود المعتزلة، وطلوع نجم نحوسهم، بعد أن ابتدأت السلطة العباسية، بالتخلي عن موقفها المؤيد لهم، وبعد أن اشتدت النقمة الشعبية عليهم، إثر مصيبة ابن حنبل، فيما يسمى بمحنة خلق القرآن، والتي نسبت إليهم؟

قد يكون في تأكيده الشديد على خروجه من بين المعتزلة، وإصراره على البراءة منهم، ووعده القاطع بإخراج فضائحهم، وإعلانه الصريح عن توبته عما كان فيه، قد يكون في كل ذلك قرينة كبيرة على أن جواب تساؤلنا إيجابي ومثبت.

أم تراه أراد أن يستبق الزمن، ليستميل الحنابلة أنفسهم، علهم يرتضون سلوكه في جملتهم، فيظلله نجم سعودهم الذي بدت بشائره في الأفق القريب، فيجني من وراء ذلك الشهد، بعد أن أذاقهم مر العلقم؟

قد يكون تمجيده لإمامهم أحمد، وتعظيمه إياه في خطبته في مسجد البصرة عندما خرج على الناس بذلك الشكل الملفت للنظر، والتي سبق أن أثبتنا قسماً منها في أوائل هذا البحث، قد يكون كل ذلك، قرينة كبيرة، تدل على أن جواب تساؤلنا هذا أيضاً إيجابي ومثبت.

٥١

ولكن الظاهر أن الحنابلة شعروا بما يرمي إليه علي بن إسماعيل هذا، فرفضوه وحقّروه، بل حقروا كل من قال بمقالته. حتى بلغ بهم الأمر أن يمنعوا المؤرخ البغدادي المعروف من أن يصعد المنبر في أحد جوامع بغداد لأنه كان ممن يميلون إلى الأشعري!!!

٤ - الامامية ومواقفهم من آراء سائر الفرق الاعتقادية

والإمامية، ممثلين في أئمتهم (ع) كانت لهم مواقف حاسمة، في شتى المسائل الاعتقادية، التي أثيرت في عصورهم المختلفة.

فقد كانوا - وهم حفظة العقيدة وحماتها - لا يألون جهداً، في الوقوف في وجه كل بدعة أو ضلالة أو رأي، يستشمون منه خطراً على تلك العقيدة وهذا الدين.

وهم مع هذا، كانت لهم مدرستهم الخاصة بهم، والتي تخرج منها مئات من العلماء في مختلف فروع العلم، بما فيها علم العقيدة.

وقد كانت لتلك المدرسة آراؤها وأفكارها الاعتقادية التي تتميز عن آراء وأفكار أية فرقة من الفرق الكلامية التي مر ذكرها.

ونحن إذا أردنا أن نقف على استقلالية المدرسة الكلامية الخاصة بالإمامية ما علينا إلا أن نستعرض - بإيجاز - بعض مواقف هذه المدرسة السامقة، إزاء سائر الفرق الكلامية المتقدمة، لنرى كيف أن هذه المدرسة كانت نسيج وحدها من حيث الأصالة والجرأة والعمق، أمام الآراء الشاذة لتلك الفرق المنافية لروح الإيمان وأصول الإسلام.

٥٢

أ - موقف الامامية من المشبهة

لقد نزّه الامامية، ذات اللّه سبحانه، وصفاته عن كل ما يشعر بالتجسيم والتشبيه. ومن هنا نراهم قد شنوا حرباً شعواء، على أولئك المشبهة، الذين تمسكوا بظاهر بعض الآيات المتشابهة، فجعلوا للّه عينين وأذنين ويدين وإرادة حادثة وغير ذلك، من الآراء التي تستلزم الجسمية والتحيز، وبالتالي الكفر.

ولعل قول الإمام عليعليه‌السلام ، يوضح موقف الإمامية من هؤلاء واضرابهم: «كذب العادلون بك، إذ شبّهوك بأصنامهم، ونحلوك نحلة المخلوقين بأوهامهم، وجزّؤوك تجزئة المجسمات بخواطرهم، وأشهد أن من ساواك بشيء من خلقك فقد عدل بك والعادل بك كافر بما نزلت به محكمات آياتك، ونطقت به شواهد حجج بيناتك(١) ». وقد بلغ موقف الأئمةعليهم‌السلام من هؤلاء المجسمة حداً، رأينا معه الإمام الصادقعليه‌السلام يأمر بمنع شخص من الدخول عليه، لأنه أخبر بأنه ممن يقول بالتجسيم.

ويقول صدر المتأهلين - من أعاظم فلاسفة الامامية بل المسلمين قاطبة - في كتابه «المبدأ والمعاد» ما معناه: ان واجب الوجود لا يوصف بأنه جنس، أو فصل، أو نوع. فما هو بالكلي، لأنه لا يصدق على الغير، ولا بالجزئي، لأن الغير لا يصدق عليه. وهو مستقل بذاته، متنزه عن جميع مخلوقاته، لا يشبه شيئاً، ولا يشبهه شيء...

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ / ١٤٤.

٥٣

ب - موقف الامامية من المجبرة والمفوضة (القدرية)

وكان موقف الامامية من كلا الفريقين: المجبرة والمفوضة، واضحاً لا لبس فيه ولا غموض، حيث أعلنوا براءتهم منهما، ومما يقولون قولاً وعملاً.

أما بالقول فقد طفحت كتبهم بالروايات عن أئمتهمعليهم‌السلام الذّامة لكلا الفريقين بل المكفرة - في بعضها - لهم جميعاً.

منها: ما ورد عن الإمام الرضاعليه‌السلام «القائل بالجبر كافر. والقائل بالتفويض مشرك»(١) وما رواه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال «صنفان من أمتي ليس لهم في الآخرة نصيب: المرجئة والقدرية»(٢) .

وأما بالعمل، فقد حل الامامية هذه المشكلة العويصة، بالتزامهم تبعاً لأئمتهم (ع) بأنه لا جبر ولا تفويض، وإنما أمر بين أمرين.

وسنتناول رأي الإمامية، مقارناً مع رأي كل من المجبرة والمفوضة في هذه المشكلة في محله المناسب إن شاء اللّه.

ج - موقف الامامية من الخوارج والمرجئة

وقد خالف الإمامية الخوارج، فيما أجمعوا عليه من تكفير مرتكب الكبيرة. فحكموا بإيمانه.

____________________

(١) الإحتجاج للشيخ الطبرسي ٢٢٥.

(٢) كنز الفوائد للكراجكي ٥١.

٥٤

كما خالفوا المرجئة، حيث لم يتوقفوا في الحكم على مرتكب الكبيرة، فحكموا عليه باستحقاق العقاب.

وخالفوا بعض فرقهم في ما به يحصل الإيمان، حيث ادعت تلك الفرق بأنه يكفي في الإيمان، مجرد القول باللسان، من دون أن يكون للتصديق بالقلب أية دخالة في تحققه مطلقاً. فقال أكثر الامامية، بأن الإيمان هو التصديق بالجنان (أي القلب) والقول باللسان.

د - موقف الامامية من المعتزلة

يحلو لبعض الكتّاب المحدثين، مقلدين لبعض مؤرخي الفرق الكلامية، أن يجعلوا الامامية في آرائهم وأفكارهم، عالة على مدرسة الاعتزال.

وتبدو سخافة ذلك، إذا استعرضنا جانباً من آراء الإمامية في بعض أصول المعتزلة الخمسة، التي جعلوها - كما تقدم - أساساً لاتصاف أي إنسان بصفة الاعتزال.

١ - رأي الامامية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وقد ذهب الامامية إلى القول بوجوبهما كفائياً، بالشرع لا بالعقل، وذلك بما ورد في الأمر بهما من الآيات والروايات.

فمن الآيات قوله تعالى:( وَ لْتَکُنْ مِنْکُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ ) (١) .

____________________

(١) آل عمران ١٠٤.

٥٥

ومن الروايات، ما رواه الكليني، في فروع الكافي، عن محمد بن يحيى، عن الصادقعليه‌السلام قال: «ويل لقوم لا يدينون اللّه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(١) .

ومنها، ما رواه الكليني أيضاً بإسناده عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام «لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، أو ليستعملن عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم»(٢) .

في حين ذهبَ المعتزلة إلى وجوبهما بالعقل لا بالشرع(٣) .

بل ذهب بعض شيوخهم، إلى القول، بأنهما إنما يجبان على الآمر والناهي في صورة ما إذا استلزما دفع ضرر واقع عليهما فقط(٤) .

وقد فنّد الامامية رأي المعتزلة، في منشأ وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يقول العلامة الحلي «انهما لو وجبا عقلاً لوجبا على اللّه تعالى، فإن كل واجب عقلي يجب على كل من حصل في حقه وجه الوجوب. ولو وجبا عليه تعالى لكان إما فاعلاً لهما، فكان يلزم وقوع المعروف قطعاً، لأنه تعالى يحمل المكلفين عليه، وانتفاء المنكر قطعاً لأنه تعالى يمنع المكلفين عنه. وهذا خلاف ما هو الواقع في الخارج، وإما غير فاعل لهما فيكون مخلاً بالواجب وذلك محال لما ثبت من حكمته تعالى»(٥) .

____________________

(١) و(٢) فروع الكافي للشيخ الكليني ١ / ٣٤٣.

(٣) و(٤) انظر المواقف لنصر الدين الإيجي ٤ / ٢٧٥.

(٥) شرح التجريد للعلامة الحلي ٣٠٤.

٥٦

٢ - التوحيد بين الامامية والمعتزلة

والامامية، وإن كانوا يلتقون في أصل القول بالتوحيد مع المعتزلة، إلا أنهم يفترقون عنهم في أمور التزم بها المعتزلة، وأنكرها الامامية لأنهم رأوها منافية للتوحيد منها مثلاً ان المعتزلة التزموا «بأن الأشياء كانت قبل وجودها أشياء والجواهر والاعراض كانت في حال عدمها جواهر واعراضاً».

فما هي وظيفة اللّه عندهم إذن؟

وظيفته عندهم، أنه قد جعل لها صفة الوجود ليس إلا.

وجاء الامامية إلى هذه المقالة، ليثبتوا بأن الالتزام بها مناف للتوحيد، ومستلزم للالحاد، فقالوا: بأننا إذا التزمنا بأن هذه الاعراض والجواهر والأشياء، لها نوع من التحصل والتحقق، بقطع النظر عنه سبحانه، وان كل ما صدر عنه هو جعل صفة الوجود لها، فنحن نقول وتوافقوننا، على أن تلك الصفة المجعولة لا تخلو عن أن تكون اما جوهراً، أو عرضاً، أو شيئاً، ولا رابع لها.

فإن قلتم بأن هذه الصفة جوهر أو عرض، بطل ما التزمتم به من أن الجوهر والعرض كان لهما تحقق بقطع النظر عنه سبحانه.

وكذا إذا قلتم بأن هذه الصفة ليست جوهراً ولا عرضاً، وإنما هي شيء، فقد بطل ما التزمتم به من أن الأشياء كان لها تحقق بقطع النظر عنه سبحانه.

وإن قلتم بأن هذه الصفة ليست بشيء، فقد التزمتم بأن اللّه لم يفعل شيئاً، وهذا هو عين العجز، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.

٥٧

٣ - المنزلة بين المنزلتين بين الامامية والمعتزلة

لقد تقدم معنا، ان المعتزلة قد حكموا على مرتكب الكبيرة بأنه في منزلة وسط بين الكفر والإيمان. في حين ذهب الامامية إلى الحكم بفسقه فقط مع بقاء صفة الإيمان له.

كما حكم المعتزلة بخلوده في نار جهنم. في حين ذهب الامامية إلى عدم ذلك، بل قالوا بأنه يعاقب بمقدار جرمه واستدلوا لذلك بوجهين:(١)

الأول : «إنه يستحق الثواب الدائم بإيمانه لقوله تعالى:( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ‌ ) (٢) والإيمان أعظم أفعال الخير. فإذا استحق العقاب بالمعصية، فإما أن يقدم الثواب على العقاب، وهو باطل بالإجماع، لأن الثواب المستحق بالإيمان دائم على ما تقدم أو بالعكس وهو المراد. والجمع محال.»

الثاني : «يلزم أن يكون من عبد اللّه تعالى مدة عمره بأنواع القربات إليه، ثم عصى في آخر عمره معصية واحدة مع بقاء إيمانه، مخلداً في النار، كمن أشرك باللّه تعالى مدة عمره وذلك محال لقبحه عند العقلاء».

____________________

(١) شرح التجريد للعلامة الحلي ٣٢٨.

(٢) الزلزلة ٧.

٥٨

٤ - رأي الامامية في الجزء الذي لا يتجزأ

لقد سبق وأشرنا(١) ، إلى أن النظّام وهو من أكبر شيوخ المعتزلة، ذهب إلى إنكار الجزء الذي لا يتجزأ حيث جره ذلك إلى القول بالطفرة.

وقد ذهب متكلمو الإمامية وفلاسفتهم إلى عكس مقالته، حيث أثبتوا الجزء الذي لا يتجزأ عندما اعتبروا أن الجسم مركب من أجزاء متناهية بالفعل. وقد استدلوا لمذهبهم هذا بوجهين(٢) :

الأول: «لو كان في الجسم أقسام بالفعل غير متناهية، لما كان مقداره متناهياً. واللازم باطل، فالملزوم مثله».

الثاني: «لو كانت الأجزاء في الجسم بالفعل غير متناهية لاستحال قطع مقداره إلا في زمان غير متناهٍ، لأنه يستحيل قطعه إلا بعد قطع نصفه، وقطع نصفه إلا بعد قطع ربعه وهكذا... لكن اللازم ظاهر البطلان فالملزوم مثله».

وأما ما ذهب إليه المعتزلة على يدي النظّام من القول بإمكان الطفرة، فقد فنّده الامامية مع شناعته، وحكموا بأنه غير نافع لهم أبداً «فإن النملة لو طفرت من الجسم بعضه، فالذي قطعت بحركتها منه إن كان متناهياً كانت نسبته إلى ما طفرته نسبة متناهي العدد إلى متناهي العدد، وهو المطلوب وإن لم يكن متناهياً عاد الإلزام بعينه فيه».

____________________

(١) راجع ص: ٥١.

(٢) راجع قواعد المرام في علم الكلام لميثم بن ميثم البحراني ص: ٥٥ - ٥٦.

٥٩

٥ - رأي الامامية في «الصرفة»

وقد ردَّ علماء الإمامية قول النظّام بالصرفة والذي سبقت منا الإشارة إليه(١) . وذلك بعدة وجوه(٢) أهمها:

أولاً : ان معنى الصّرفة المدعاة «إن كان، أن اللّه قادر على أن يقدر البشر على أن يأتوا بمثل القرآن، ولكنه تعالى صرف هذه القدرة عن جميع البشر... فهو معنى صحيح، ولكنه لا يختص بالقرآن بل هو جارٍ في جميع المعجزات.

وإن كان معناها أن الناس قادرون على أن يأتوا بمثل القرآن ولكن اللّه صرفهم عن معارضته فهو واضح البطلان. لأن كثيراً منهم تصدوا لمعارضته فلم يستطيعوا».

ثانياً : «لأن إعجاز القرآن لو كان بالصرفة لوجد في كلام العرب السابقين مثله قبل أن يتحدى النبي البشر ويطالبهم بالإتيان بمثل القرآن. ولو وجد ذلك لنقل بالتواتر، لتكثر الدواعي إلى نقله. وإذ لم يوجد، ولم ينقل، كشف ذلك عن كون القرآن بنفسه إعجازاً إلهياً، خارجاً عن طاقة البشر...».

____________________

(١) راجع صفحة / ٥٢ - من هذا الكتاب.

(٢) راجع للإطلاع على هذا الموضوع وما يدور حوله وحول سائر الأوهام حول إعجاز القرآن كتاب البيان للسيد أبو القاسم الخوئي ص ٩٥ - ١١٤.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ثمّ يضيف :( وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ) ،( وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ ) .(١)

في الحقيقة أنّ هذه الأقسام الثلاثة مرتبطة بعضها بالآخر ومكملة للآخر ، وكذلك لأنّنا كما نعلم أنّ القمر يتجلى في الليل ، ويختفي نوره في النهار لتأثير الشمس عليه ، والليل وإن كان باعثا على الهدوء والظلام وعنده سرّ عشاق الليل ، ولكن الليل المظلم يكون جميلا عند ما يدبر ويتجه العالم نحو الصبح المضيء وآخر السحر ، وطلوع الصبح المنهي الليل المظلم أصفى وأجمل من كل شيء حيث يثير في الإنسان إلى النشاط ويجعله غارقا في النور الصفاء.

هذه الأقسام الثلاثة تتناسب ضمنيا مع نور الهداية (القرآن) واستدبار الظلمات (الشرك) وعبادة (الأصنام) وطلوع بياض الصباح (التوحيد) ، ثمّ ينتهي إلى تبيان ما أقسم من أجله فيقول تعالى :( إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ ) .(٢)

إنّ الضمير في (إنّها) إمّا يرجع إلى «سقر» ، وإمّا يرجع إلى الجنود ، أو إلى مجموعة الحوادث في يوم القيامة ، وأيّا كانت فإنّ عظمتها واضحة.

ثمّ يضيف تعالى :( نَذِيراً لِلْبَشَرِ ) .(٣)

لينذر الجميع ويحذرهم من العذاب الموحش الذي ينتظر الكفّار والمذنبين وأعداء الحق.

وفي النهاية يؤكّد مضيفا أنّ هذا العذاب لا يخص جماعة دون جماعة ، بل :( لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) فهنيئا لمن يتقدم ، وتعسا وترحا لمن يتأخر.

واحتمل البعض كون التقدم إلى الجحيم والتأخر عنه ، وقيل هو تقدم النفس

__________________

(١) «أسفر» من مادة (سفر) على وزن (قفر) ويعني انجلاء الملابس وانكشاف الحجاب ، ولذا يقال للنساء المتبرجات (سافرات) وهذا التعبير يشمل تشبيها جميلا لطلوع الشمس.

(٢) «كبر» : جمع كبرى وهي كبيرة ، وقيل المراد بكون سقر إحدى الطبقات الكبيرة لجهنّم ، هذا المعنى لا يتفق مع ما أشرنا إليه من قبل وكذا مع الآيات.

(٣) «نذيرا» : حال للضمير في «أنّها» الذي يرجع إلى سقر ، وقيل هو تمييز ، ولكنه يصح فيما لو كان النذير مصدرا يأتي بمعنى (الإنذار) ، والمعنى الأوّل أوجه.

١٨١

الإنسانية وتكاملها أو تأخرها وانحطاطها ، والمعنى الأوّل والثّالث هما المناسبان ، دون الثّاني.

* * *

١٨٢

الآيات

( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) )

التّفسير

لم صرتم من أصحاب الجحيم؟

إكمالا للبحث الذي ورد حول النّار وأهلها في الآيات السابقة ، يضيف تعالى في هذه الآيات :( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) .

«رهينة» : من مادة (رهن) وهي وثيقة تعطى عادة مقابل القرض ، وكأن نفس الإنسان محبوسة حتى تؤدي وظائفها وتكاليفها ، فإن أدت ما عليها فكت وأطلقت ، وإلّا فهي باقية رهينة ومحبوسة دائما ، ونقل عن أهل اللغة أنّ أحد

١٨٣

معانيها الملازمة والمصاحبة(١) ، فيكون المعنى : الكلّ مقترنون بمعية أعمالهم سواء الصالحون أم المسيئون.

لذا يضيف مباشرة :( إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ ) .

إنّهم حطموا أغلال وسلاسل الحبس بشعاع الإيمان والعمل الصالح ويدخلون الجنّة بدون حساب.(٢)

وهناك أقوال كثيرة حول المقصود من أصحاب اليمين :

فقيل هم الذين يحملون كتبهم بيمينهم ، وقيل هم المؤمنون الذين لم يرتكبوا ذنبا أبدا ، وقيل هم الملائكة ، وقيل غير ذلك والمعنى الأوّل يطابق ظاهر الآيات القرآنية المختلفة ، وما له شواهد قرآنية ، فهم ذو وإيمان وعمل صالح ، وإذا كانت لهم ذنوب صغيرة فإنّها تمحى بالحسنات وذلك بحكم( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) (٣) .

فحينئذ تغطّي حسناتهم سيئاتهم أو يدخلون الجنّة بلا حساب ، وإذا وقفوا للحساب فسيخفف عليهم ذلك ويسهل ، كما جاء في سورة الإنشقاق آية (٧) :( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ) .

ونقل المفسّر المشهور «القرطبي» وهو من أهل السنة تفسير هذه الآية عن الإمام الباقرعليه‌السلام فقال : «نحن وشيعتنا أصحاب اليمين وكل من أبغضنا أهل البيت فهم مرتهنون».(٤)

وأورد هذا الحديث مفسّرون آخرون منهم صاحب مجمع البيان ونور

__________________

(١) لسان العرب مادة : رهن.

(٢) قال الشّيخ الطوسي في التبيان أن الاستثناء هنا هو منقطع وقال آخرون كصاحب (روح البيان) أنّه متصل ، وهذا الاختلاف يرتبط كما ذكرنا بالتفسيرات المختلفة لمعنى الرهينة ، وما يطابق ما اخترناه من التّفسير هو أن الاستثناء هنا منقطع وعلى التفسير الثّاني يكون متصلا.

(٣) سورة هود ، الآية ١١٤.

(٤) تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٦٨٧٨.

١٨٤

الثقلين والبعض الآخر أورده تذييلا لهذه الآيات.

ثمّ يضيف مبيّنا جانبا من أصحاب اليمين والجماعة المقابلة لهم :

( فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ ) (١) ( عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ) .

يستفاد من هذه الآيات أن الرابطة غير منقطعة بين أهل الجنان وأهل النّار ، فيمكنهم مشاهدة أحوال أهل النّار والتحدث معهم ، ولكن ماذا سيجيب المجرمون عن سؤال أصحاب اليمين؟ إنّهم يعترفون بأربع خطايا كبيرة كانوا قد ارتكبوها :

الاولى :( قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) .

لو كنّا مصلّين لذكّرتنا الصلاة بالله تعالى ، ونهتنا عن الفحشاء والمنكر ودعتنا إلى صراط الله المستقيم.

والأخرى :( وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ) .

وهذه الجملة وإن كانت تعطي معنى إطعام المحتاجين ، ولكن الظاهر أنه يراد بها المساعدة والإعانة الضرورية للمحتاجين عموما بما ترتفع بها حوائجهم كالمأكل والملبس والمسكن وغير ذلك.

وصرّح المفسّرون أنّ المراد بها الزكاة المفروضة ، لأنّ ترك الإنفاق المستحب لا يكون سببا في دخول النّار ، وهذه الآية تؤكّد مرّة أخرى على أنّ الزّكاة كانت قد فرضت بمكّة بصورة إجمالية ، وإن كان التشريع بجزئياتها وتعيين خصوصياتها وتمركزها في بيت المال كان في المدينة.

والثّالثة :( وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ ) .

كنّا نؤيد ما يصدر ضدّ الحقّ في مجالس الباطل. نقوم بالترويج لها ، وكنّا معهم

__________________

(١) «يتساءلون» : وهو وإن كان من باب (تفاعل) الذي يأتي عادة في الأعمال المشتركة بين اثنين أو أكثر ، ولكنه فقد هذا المعنى هنا كما في بعض الموارد الأخرى ، ولمعنى يسألون ، وتنكير الجنات هو لتبيان عظمتها و (في جنات) خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هو في جنات.

١٨٥

أين ما كانوا ، وكيف ما كانوا ، وكنّا نصدق أقوالهم ، ونضفي الصحة على ما ينكرون ويكذبون ونلتذ باستهزائهم الحقّ.

«نخوض» : من مادة (خوض) على وزن (حوض) ، وتعني في الأصل الغور والحركة في الماء ، ويطلق على الدخول والتلوث بالأمور ، والقرآن غالبا ما يستعمل هذه اللفظة في الإشتغال بالباطل والغور فيه.

(الخوض في الباطل) له معان واسعة فهو يشمل الدخول في المجالس التي تتعرض فيها آيات الله للاستهزاء أو ما تروج فيها البدع ، أو المزاح الواقح ، أو التحدث عن المحارم المرتكبة بعنوان الافتخار والتلذذ بذكرها ، وكذلك المشاركة في مجالس الغيبة والاتهام واللهو واللعب وأمثال ذلك ، ولكن المعنى الذي انصرفت إليه الآية هو الخوض في مجالس الاستهزاء بالدين والمقدسات وتضعيفها وترويج الكفر والشرك.

وأخيرا يضيف :( وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ ) .

من الواضح أنّ إنكار المعاد ويوم الحساب والجزاء يزلزل جميع القيم الإلهية والأخلاقية ، ويشجع الإنسان على ارتكاب المحارم ، ويرفع كلّ مانع هذا الطريق ، خصوصا إذا استمر إلى آخر العمر ، على كل حال فإنّ ما يستفاد من هذه الآيات أنّ الكفار هم مكلّفون بفروع الدين ، كما هم مكلّفون بالأصول ، وكذلك تشير إلى أن الأركان الاربعة ، أي الصلاة والزّكاة وترك مجالس أهل الباطل ، والإيمان بالقيامة لها الأثر البالغ في تربية وهداية الإنسان ، وبهذا لا يمكن أن يكون الجحيم مكانا للمصلين الواقعيين ، والمؤتين الزّكاة ، والتاركين الباطل والمؤمنين بالقيامة.

بالطبع فإنّ الصلاة هي عبادة الله ، ولكنّها لا تنفع إذا لم يمتلك الإنسان الإيمان به تعالى ، ولهذا فإنّ أداءها رمز للإيمان والإعتقاد بالله والتسليم لأوامره ، ويمكن القول إنّ هذه الأمور الأربعة تبدأ بالتوحيد ينتهي بالمعاد ، وتحقق العلاقة والرابطة بين الإنسان والخالق ، وكذا بين المخلوقين أنفسهم.

١٨٦

والمشهور بين المفسّرين أنّ المراد من (اليقين) هنا هو الموت ، لأنّه يعتبر أمر يقيني للمؤمن والكافر ، وإذا شك الإنسان في شيء ما فلا يستطيع أن يشك بالموت ونقرأ أيضا في الآية (٩٩) من سورة الحجر :( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) .

ولكن ذهب البعض إلى أنّ اليقين هنا يعني المعرفة الحاصلة بعد موت الإنسان وهي التي تختص بمسائل البرزخ والقيامة ، وهذا ما يتفق نوعا ما مع التّفسير الأوّل.

وفي الآية الأخيرة محل البحث إشارة إلى العاقبة السيئة لهذه الجماعة فيقول تعالى :( فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ ) .

فلا تنفعهم شفاعة الأنبياء ورسل الله والائمّة ، ولا الملائكة والصديقين والشهداء والصالحين ، ولأنّها تحتاج إلى عوامل مساعدة وهؤلاء أبادوا كل هذه العوامل ، فالشفاعة كالماء الزلال الذي تسقى به النبتة الفتية ، وبديهي إذا ماتت النبتة الفتية ، لا يكن للماء الزلال أن يحييها ، وبعبارة أخرى كما قلنا في بحث الشفاعة ، فإنّ الشفاعة من (الشفع) وتعني ضم الشيء إلى آخر ، ومعنى هذا الحديث هو أنّ المشفّع له يكون قد قطع قسطا من الطريق وهو متأخر عن الركب في مآزق المسير ، فتضم إليه شفاعة الشافع لتعينه على قطع بقية الطريق(١) .

وهذه الآية تؤكّد مرّة أخرى مسألة الشفاعة وتنوع وتعدد الشفعاء عند الله ، وهي جواب قاطع لمن ينكر الشفاعة ، وكذلك توكّد على أنّ للشفاعة شروطا وأنّها لا تعني إعطاء الضوء الأخضر لارتكاب الذنوب ، بل هي عامل مساعد لتربية الإنسان وإيصاله على الأقل إلى مرحلة تكون له القابلية على التشفع ، بحيث لا تنقطع وشائج العلاقة بينه وبين الله تعالى والأولياء.

* * *

__________________

(١) التّفسير الأمثل ، المجلد الأوّل ، ذيل الآية (٤٨) من سورة البقرة.

١٨٧

ملاحظة :

شفعاء يوم القيامة :

نستفيد من هذه الآيات والآيات القرآنية الأخرى أنّ الشفعاء كثيرون في يوم القيامة (مع اختلاف دائرة شفاعتهم) ويستفاد من مجموع الرّوايات الكثيرة والمنقولة من الخاصّة والعامّة أنّ الشفعاء يشفعون للمذنبين لمن فيه مؤهلات الشفاعة :

١ ـ الشفيع الأوّل هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كما نقرأ في حديث حيث قال : «أنا أوّل شافع في الجنّة»(١) .

٢ ـ الأنبياء من شفعاء يوم القيامة ، كما ورد في حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «يشفع الأنبياء في كلّ من يشهد أن لا إله إلّا الله مخلصا فيخرجونهم منها»(٢) .

٣ ـ الملائكة من شفعاء يوم المحشر ، كما نقل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «يؤذن للملائكة والنّبيين والشّهداء أن يشفعوا»(٣) .

٤ ، ٥ ـ الأئمّة المعصومين وشيعتهم كما قال في ذلك أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث قال : «لنا شفاعة ولأهل مودتنا شفاعة»(٤)

٦ ، ٧ ـ العلماء والشّهداء كما ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «يشفع يوم القيامة الأنبياء ثمّ العلماء ثمّ الشّهداء»(٥) .

وورد في حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يشفع الشّهيد في سبعين إنسانا

__________________

(١) صحيح مسلم ، ج ٢ ، ص ١٣٠.

(٢) مسند أحمد ، ج ٣ ، ص ١٢.

(٣) مسند أحمد ، ج ٥ ، ص ٤٣.

(٤) الخصال للصدوقرحمه‌الله ، ص ٦٢٤.

(٥) سنن ابن ماجة ، ج ٢ ، ص ١٤٤٣.

١٨٨

من أهل بيته»(١) .

وفي حديث آخر نقله المجلسي في بحار الأنوار : «إنّ شفاعتهم تقبل في سبعين ألف نفر»(٢) .

ولا منافاة بين الرّوايتين إذ أنّ عدد السبعين والسبعين ألف هي من أعداد الكثرة.

٨ ـ القرآن كذلك من الشفعاء في يوم القيامة كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : «واعلموا أنّه (القرآن) شافع مشفع»(٣) .

٩ ـ من مات على الإسلام فقد ورد عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا بلغ الرجل التسعين غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر وشفّع في أهله»(٤) .

١٠ ـ العبادة : كما جاء في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الصّيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة»(٥) .

١١ ـ ورد في بعض الرّوايات أنّ العمل الصالح كأداء الأمانة يكون شافعا في يوم القيامة.(٦)

١٢ ـ والطريف هو ما يستفاد من بعض الرّوايات من أنّ الله تعالى أيضا يكون شافعا للمذنبين في يوم القيامة ، كما ورد في الحديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يشفع النّبيون والملائكة والمؤمنون فيقول الجبار بقيت شفاعتي»(٧) .

والرّوايات كثيرة في هذه الباب وما ذكرناه هو جانب منها.(٨)

__________________

(١) سنن أبي داود ، ج ٢ ، ص ١٥.

(٢) بحار الأنوار ، ج ١٠٠ ، ص ١٤.

(٣) نهج البلاغة الخطبة ، ١٧٦.

(٤) مسند أحمد ، ج ٢ ، ص ٨٩.

(٥) مسند أحمد ، ج ٢ ، ص ١٧٤.

(٦) مناقب ابن شهر آشوب ، ج ٢ ، ص ١٤.

(٧) صحيح البخاري ، ج ٩ ، ص ١٤٩.

(٨) للاستيضاح يمكن مراجعة كتاب مفاهيم القرآن ، ج ٤ ، ص ٢٨٨ ـ ٣١١.

١٨٩

ونكرر أنّ للشفاعة شروطا لا يمكن بدونها التشفع وهذا ما جاء في الآيات التي بحثناها والتي تشير بصراحة الى عدم تأثير شفاعة الشفعاء في المجرمين ، فالمهم أن تكون هناك قابلية للتشفع ، لأنّ فاعلية الفاعل لوحدها ليست كافية (أوردنا شرحا مفصلا في هذا الباب في المجلد الأوّل في بحث الشفاعة)

* * *

١٩٠

الآيات

( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣)كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦) )

التّفسير

يفرّون من الحق كما تفرّ الحمر من الأسد :

تتابع هذه الآيات ما ورد في الآيات السابقة من البحث حول مصير المجرمين وأهل النّار ، وتعكس أوضح تصوير في خوف هذه الجماعة المعاندة ورعبها من سماع حديث الحقّ والحقيقة.

فيقول الله تعالى أوّلا :( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) (١) لم يفرّون من دواء

__________________

(١) «ما» مبتدأ و (لهم) خبر و (معرضين) حال الضمير لهم (وعن التذكرة) جار ومجرور ومتعلق بالمعرضين ، وقيل تقديم (عن التذكرة) على (معرضين) دلالة على الحصر أي أنّهم أعرضوا عن التذكرة المفيدة فقط ، على كل حال فإنّ المراد من التذكرة هنا كلّ ما هو نافع ومفيد وعلى رأسها القرآن المجيد.

١٩١

القرآن الشافي؟ لم يطعنون في صدر الطبيب الحريص عليهم؟ حقّا إنّه مثير( كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ) .

«حمر» : جمع (حمار) والمراد هنا الحمار الوحشي ، بقرينة فرارهم من قبضة الأسد والصياد ، وبعبارة أخرى أنّ هذه الكلمة ذات مفهوم عام يشمل الحمار الوحشي والأهلي.

«قسورة» : من مادة (قسر) أي القهر والغلبة ، وهي أحد أسماء الأسد ، وقيل هو السهم ، وقيل الصيد ، ولكن المعنى الأوّل أنسب.

والمشهور أنّ الحمار الوحشي يخاف جدّا من الأسد ، حتى أنّه عند ما يسمع صوته يستولي عليه الرعب فيركض إلى كلّ الجهات كالمجنون ، خصوصا إذا ما حمل الأسد على فصيل منها ، فإنّها تتفرق في كل الجهات بحيث يعجب الناظر من رؤيتها.

وهذا الحيوان وحشي ويخاف من كل شيء ، فكيف به إذا رأى الأسد المفترس؟!

على كل حال فإنّ هذه الآية تعبير بالغ عن خوف المشركين وفرارهم من الآيات القرآنية المربية للروح ، فشبههم بالحمار الوحشي لأنّهم عديمو العقل والشعور ، وكذلك لتوحشّهم من كل شيء ، في حين أنّه ليس مقابلهم سوى التذكرة.

( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) (١) ، وذلك لتكبّرهم وغرورهم الفارغ بحيث يتوقعون من الله تعالى أن ينزل على كلّ واحد منهم كتابا.

وهذا نظير ما جاء في الآية (٩٣) من سورة الإسراء :( وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى

__________________

(١) «صحف» : جمع صحيفة ، وهي الورقة التي لها وجهان ، وتطلق كذلك على الرسالة والكتاب.

١٩٢

تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) .

وكذا في الآية (١٢٤) من سورة الأنعام حيث يقول :( قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) .

وعلى هذا فإنّ كلّا منهم يتنظر أن يكون نبيّا من اولي العزم! وينزل عليه كتابا خاصّا من الله بأسمائهم ، ومع كل هذا فليس هناك من ضمان في أن يؤمنوا بعد كل ذلك.

وجاء في بعض الرّوايات أنّ أبا جهل وجماعة من قريش قالوا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا نؤمن بك حتى تأتينا بصحف من السماء عليها فلان ابن فلان من ربّ العالمين ، ويأتي الأمر علنا باتباعك والإيمان بك.(١)

ولذا يضيف في الآية الأخرى :( كَلَّا ) ليس كما يقولون ويزعمون ، فإنّ طلب نزول مثل لهذا الكتاب وغيره هي من الحجج الواهية ، والحقيقة( بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ ) .

إذا كانوا يخافون الآخرة فما كانوا يتذرعون بكل هذه الذرائع ، ما كانوا ليكذبوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما كانوا ليستهزئوا بآيات الله تعالى ، ولا بعدد ملائكته ، ومن هنا يتّضح أثر الإيمان بالمعاد في التقوى والطهارة من المعاصي والذنوب الكبيرة ، والحقّ يقال إن الإيمان بعالم البعث والجزاء وعذاب القيامة يهب للإنسان شخصية جديدة يمكنه أن يغير إنسانا متكبرا ومغرورا وظالما إلى إنسان مؤمن متواضع ومتق عادل.

ثمّ يؤكّد القرآن على أنّ ما يفكرون به فيما يخصّ القرآن هو تفكّر خاطئ :( كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) .

إنّ القرآن الكريم قد أوضح الطريق ، ودعانا إلى التبصر فيه ، وأنار لنا السبيل

__________________

(١) تفسير القرطبي ، والمراغي ، وتفاسير اخرى.

١٩٣

ليرى الإنسان موضع أقدامه ، وفي الوقت نفسه لا يمكن ذلك إلّا بتوفيق من الله وبمشيئته تعالى ، وما يذكرون إلّا ما يشاء الله.

ولهذا الآية عدّة تفاسير :

إحداها : كما ذكرناه سابقا ، وهو أن الإنسان لا يمكنه الحصول على طريق الهداية إلّا بالتوسل بالله تعالى وطلب الموفقية منه.

وطبيعي أن هذا الإمداد والتوفيق الإلهي لا يتمّ إلّا بوجود أرضية مساعدة لنزوله.

والتّفسير الآخر : ما جاء في الآية السابقة :( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) يمكن أن يوجد وهما وأنّ كل شيء مرتبط بإرادة الإنسان نفسه ، وأنّ إرادته مستقلة في كل الأحوال ، وتقول هذه الآية رافعة بذلك هذا الاشتباه ، إنّ الإنسان مرتبط بالمشيئة الإلهية ، وإن هذه الآية مختارا حرّا وهذه المشيئة هي الحاكمة على كل هذا العالم الموجود ، وبعبارة اخرى : إنّ هذا الاختبار والحرية والمعطاة للإنسان في بمشيئته تعالى وإرادته ، ويمكن سلبها أنّى شاء.

وأمّا التّفسير الثّالث فإنّه يقول : إنّهم لا يمكنهم الإيمان إلّا أن يشاء الله ذلك ويجبرهم ، ونعلم أنّ الله لا يجبر أحدا على الإيمان أو الكفر ، والتّفسير الأوّل والثّاني أنسب وأفضل.

وفي النهاية يقول :( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) .

فهو أهل لأن يخافوا من عقابه وأن يتقوا في اتّخاذهم شريكا له تعالى شأنه ، وأن يأملوا مغفرته ، وفي الحقيقة ، أنّ هذه الآية إشارة إلى الخوف والرجاء والعذاب والمغفرة الإلهية ، وهي تعليل لما جاء في الآية السابقة ، لذا نقرأ

في حديث ورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : «قال الله : أنا أهل

١٩٤

أن اتقى ولا يشرك بي عبدي شيئا وأنا أهل إن لم يشرك بي شيئا أن ادخله الجنّة»(١) .

وبالرغم من أنّ المفسّرين ـ كما رأينا ـ قد أخذوا التقوى هنا بمعناها المفعولي ، وقالوا إنّ الله تعالى أهل لأن يتّقى من الشرك والمعصية ، ولكن هناك احتمالا آخر ، وهو أنّ تؤخذ بمعناها الفاعلي ، أي أن الله أهل للتقوى من كلّ أنواع الظلم والقبح ومن كل ما يخاف الحكمة ، وما عند العباد من التقوى هو قبس ضعيف من ما عند الله ، وإنّ كان التعبير بالتقوى بمعناه الفاعلي والذي يقصد به الله تعالى قليل الاستعمال ، على كل حال فإنّ الآية قد بدأت بالإنذار والتكليف ، وانتهت بالدعوة إلى التقوى والوعد بالمغفرة.

ونتعرض هنا بالدعاء إليه خاضعين متضرعين تعالى :

ربّنا! اجعلنا من أهل التقوى والمغفرة.

اللهم! إن لم تشملنا ألطافك فإنّنا لا نصل إلى مرادنا ، فامنن علينا بعنايتك.

اللهم! أعنّا على طريق مليء بالمنعطفات والهموم والمصائد الشيطانية الصعبة ، وأعنا على الشيطان المتهيئ لإغوائنا ، فبغير عونك لا يمكننا المسير في هذا الطريق.

آمين يا ربّ العالمين.

نهاية سورة المدّثّر

* * *

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٠٥.

١٩٥
١٩٦

سورة

القيامة

مكيّة

وعدد آياتها أربعون آية

١٩٧
١٩٨

«سورة القيامة»

محتوى السورة :

كما هو واضح من اسم السورة فإنّ مباحثها تدور حول مسائل ترتبط بالمعاد ويوم القيامة إلّا بعض الآيات التي تتحدث حول القرآن والمكذبين ، وأمّا الآيات المرتبطة بيوم القيامة فإنّها تجتمع في أربعة محاور :

١ ـ المسائل المرتبطة بأشراط الساعة.

٢ ـ المسائل المتعلقة بأحوال الصالحين والطالحين في ذلك اليوم.

٣ ـ المسائل المتعلقة باللحظات العسيرة للموت والانتقال إلى العالم الآخر.

٤ ـ الأبحاث المتعلقة بالهدف من خلق الإنسان ورابطة ذلك بمسألة المعاد.

فضيلة السورة :

في حديث روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأ سورة القيامة شهدت أنا وجبرائيل له يوم القيامة أنّه كا مؤمنا بيوم القيامة ، وجاء ووجهه مسفر على وجوه الخلائق يوم القيامة»(١) .

ونقرأ في حديث ورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام قال : «من أدمن قراءة( لا أُقْسِمُ ) وكان يعمل بها ، بعثها الله يوم القيامة معه في قبره ، في أحسن صورة

__________________

(١) مجمع البيان ، ١٠ ـ ، ص ٣٩٣.

١٩٩

تبشّره وتضحك في وجهه ، حتى يجوز الصراط والميزان»(١) .

والجدير بالملاحظة أنّ ما كنّا نستفيد منه في القرائن التي في فضائل تلاوة السور القرآنية قد صرّح بها الإمام هنا في هذه الرّواية حيث يقول : «من أدمن قراءة لا اقسم وكان يعمل بها» ولذا فإنّ كل ذلك هو مقدمة لتطبيق المضمون.

* * *

__________________

(١) المصدر السّابق.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212