دراسات في العقيدة الإسلامية

دراسات في العقيدة الإسلامية0%

دراسات في العقيدة الإسلامية مؤلف:
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 212

دراسات في العقيدة الإسلامية

مؤلف: محمد جعفر شمس الدين
تصنيف:

الصفحات: 212
المشاهدات: 65333
تحميل: 6247

توضيحات:

دراسات في العقيدة الإسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 212 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 65333 / تحميل: 6247
الحجم الحجم الحجم
دراسات في العقيدة الإسلامية

دراسات في العقيدة الإسلامية

مؤلف:
العربية

الفصل الاول في العلة الاولى للكون

٦١

٦٢

تمهيد:

«قد نجد في الماضي، والحاضر، والمستقبل، بشرية لا تعرف العلم، أو الفن، أو الفلسفة، ولكن، ليس ثمة مجتمع بلا دين».

«إن من أسباب الدين الدهشة للظواهر الطبيعية التي تفجأ الناس.

ومن هنا ولّد شعور الدهشة في تفكير الإنسان قوى تختفي وراء هذه الظواهر».

هذان القولان، الأول لول ديورانت. والثاني لبرجسون، يعبران عن حقيقة واقعة، لازمت الإنسان منذ كان له وجود على سطح هذه الأرض.

هذه الحقيقة، هي أن وجود الإنسان لم ينفك عن إحساس داخلي عنده بوجود قوة وراء هذه الظواهر الطبيعية، التي تطالعه في كل وقت.

وقد كان هذا الإحساس عنده، باعثاً له على البحث والإستقصاء، علّه يطلع على هذه القوة، وحدودها، ليروي غلته وتعطشه لمعرفتها.

وقد سار الفكر الإنساني في سبيل تحصيل تلك المعرفة، بخطوات متعثرة، يقع مرة، ويقوم أخرى، مما زاد في قلقه وحيرته، ورسم في مخيلته صوراً غامضة زادت من غموض الرؤية لديه، وجعلته يتيه في خيالات وأوهام حوّلت حياته إلى عذاب.

بقي الإنسان على وضعه هذا، يرى سراباً فما يركض نحوه، حتى يصدمه الواقع المرير. واقع الوهم والخيال، حتى شاءت السماء أن تضع حداً لقلقه وحيرته وأوهامه، فكان الإسلام وكان التصوّر السليم والمعقول، لهذه القوة، التي أخذ غموضها وخفاؤها من الإنسان كل وقته وكل استقراره. وراح علماء الإسلام ومفكروه، يحاولون تجلية هذه الحقيقة وتوضيحها، ليقربوها إلى أذهان بني الإنسان.

٦٣

٦٤

المبحث الاول : هل يمكن الاستدلال على وجود العلة الاولى

أ - مع المانعين:

وقد ذهب بعض المفكرين المسلمين، إلى القول بعدم إمكان البرهنة العقلية على وجود العلة الأولى، وكان هؤلاء فريقين.

الأول : الحشوية، وهم «الذين ذهبوا إلى أن معرفة وجود اللّه تثبت بالسمع لا بالعقل. أي أن الإيمان به لا يكفي ولا شأن للعقل فيه»(١) أو «ان الإيمان بوجوده تعالى الذي كلّف الناس التصديق به، يكفي فيه أن يتلقى من صاحب الشرع، كما يتلقى منه أحوال المعاد وغير ذلك، مما لا مدخل فيه للعقل»(٢) .

الثاني : الصوفية «وطرقهم في النظر - كما يقول ابن رشد - ليست طرقاً نظرية، وإنما يزعمون أن الإيمان باللّه وبغيره من الموجودات، شيء يلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية، وإقبالها بالفكرة على المطلوب».(٣) .

____________________

(١) و(٢) الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد ٣١ / و١٣٤.

(٣) نفس المصدر ٤٤.

٦٥

ويعبر المتصوفة عن هذه الحالة، التي تحصل معها المعرفة، بتعبيرات غامضة، كالبصيرة، والكشف، والعيان المباشر. وغير ذلك.

والذي يبدو، أن هؤلاء الصوفية - ولو بنحو الموجبة الجزئية - عندما رأوا، أن الحواس لا يمكن أن تكون طريقاً إلا إلى معرفة ما يقع تحت منالها، واللّه مما لا يدرك بحاسة. وشككوا في قيمة العقل في مجال المعرفة، لم يبق أمامهم إلا سلوك هذا الطريق، وحصرهم معرفة اللّه بالحدس أو القلب.

وهذا بعينه، هو ما يظهر، من بعض فلاسفة القرنين السابع عشر، والثامن عشر، كبليز بسكال، وأما نويل كنط، بل ما يذهب إليه بعض أساتذة الفلسفة في هذا القرن حيث يقول، «وإذن، فلا بد من أن تكون هناك طريقة أخرى لمعرفة اللّه عن سبيل آخر، غير سبيل العقل المنطقي، وليس هذا سوى الحدس»(١) .

ب - اختيار ونقاش:

ومهما يكن من أمر، فإن ما ذهب إليه الحشوية، وأهل الحديث، من قولهم، بإمكان معرفة العلة الأولى بالسمع، مما ورد في الكتاب الكريم، والسنة الشريفة خطأ لا يمكننا المصير إليه، وذلك لاستلزامه الدور.

إذ ان ثبوت حجية الكتاب، فرع إثبات الربوبية ومتوقف عليها توقف الحكم على موضوعه. فإذا أردنا أن نثبت الربوبية بالكتاب وغيره يلزم أن يكون ثبوت كل منهما متوقفاً على الآخر، فيكون من توقف الشيء على نفسه. وهذا هو الدور.

____________________

(١) هو الأستاذ ولتر ستيس في كتابه الزمان والأزل ٣١٣.

٦٦

كما اننا لا يمكن أن نرتضي ما ذهب إليه المتصوفة، من حصر معرفة اللّه، بطريق الكشف والحدس وذلك:

أولاً : لأن فيه إهداراً لقيمة العقل، وشلاً لفاعليته وقدرته على الخلق والإبداع، وهذا ينافي الحث الذي ورد به القرآن الكريم، على تدبر الكون بجميع مناحيه، بالعقل والتفكر فيه.

ثانياً : إن هذه الطريقة - طريقة الصوفية في المعرفة - إن سلمنا وجودها «ليست عامة للناس بما هم ناس»(١) .

ثالثاً : إن هؤلاء الصوفية «بمنهجهم الذوقي هذا، يحطمون أسس المعرفة العقلية، إذ لا بد من مبادئ معينة، وأسس محددة للمعرفة، أما ان تجيء هذه المعرفة بطريق لا يدري الفرد كيف حصلت له، فهذا لا يعد طريقاً عقلياً محدداً»(٢) .

رابعاً : إن ما يتراءى من كلمات المتصوفة الغائمة التي يرددونها، ان حالة الكشف أو المعرفة عندهم، ليست كمالاً طبيعياً، بل هي كمال غير طبيعي. أي كمال إلهي، لا يمنحه اللّه لجمهور الناس، بل لخصوص سعدائهم. وإذا كانت تلك المعرفة كمالاً غير طبيعي فعلى أية جهة يمكن أن يوجد للموجود الطبيعي كمال غير طبيعي. ومعنى انه غير طبيعي، انه شذوذ عن دائرة الإنسانية العاقلة المدركة.

____________________

(١) الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد ٤٤.

(٢) النزعة العقلية في فلسفة ابن رشد لمحمد عاطف العراقي ٢١٢.

٦٧

هذا بالنسبة للحشوية والمتصوفة، ممن ضلوا الطريق الموصل إلى اللّه، وأما بالنسبة للمذاهب المادية، التي وقفت من فكرة الإيمان بالربوبية موقف المنكر الملحد، فلنا معهم مواقف غربلة وتمحيص في المحل المناسب من هذا البحث إن شاء اللّه.

المبحث الثاني : الأدلة العقلية على وجود العلة الأولى

ونحن كدارسين للعقيدة الإسلامية، لا بد لنا من عرض البراهين والأدلة العقلية، التي أقامها متكلمو الإسلام وفلاسفته، على وجود اللّه، وذلك بعد أن انحصر طريق الإستدلال به، لبطلان طريقي الحشوية والمتصوفة السابقين. وأهم هذه الأدلة:

دليل العناية الإلهية أو «الأسباب الغائية». دليلالاختراع . دليلالحدوث . دليلالحركة . دليلالامكان والوجوب ...

أ - دليل العناية أو دليل الأسباب الغائية:

وينسب هذا الدليل عادة إلى ابن رشد الفيلسوف.

والهدف «من هذا الدليل، الوقوف على العناية بالإنسان، وخلق جميع الموجودات من أجله»(١) .

وحاصل هذا الدليل، هو اننا إذا ألقينا نظرة فاحصة على أنفسنا، وعلى ما يحيط بنا من مظاهر هذا الكون، حيوانه، ونباته، وجماده، سمائه، وأرضه، لوجدنا أنّها وجدت بشكل يتناسب تماماً مع متطلبات الإنسان،

____________________

(١) الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد ١٥٠.

٦٨

٦٩

ومقتضيات بقائه واستمراره على هذه الأرض، بل بقاء واستمرار الحياة بجميع أنواعها.

إذا ألقينا نظرة، على جميع ما يمكن الاطلاع عليه من هذا الكون، لظهرت أمام أعيننا «العناية في أعضاء البدن، وأعضاء الحيوان، أعني كونها موافقة لحياته ووجوده»(١) .

«فالشمس، مثلاً، لو كانت أعظم جرماً مما هي، أو أقرب مكاناً، لهلكت أنواع النبات والحيوانات من شدة الحر، ولو كانت أصغر جرماً أو أبعد لهلكت من شدة البرد. ولو لم يكن لها فلك مائل، لما كان هنا صيف ولا شتاء ولا ربيع ولا خريف. وهذه الأزمان ضرورية، في وجود أنواع النبات والحيوان، ولولا الحركة اليومية، لم يكن ليل ولا نهار»(٢) .

وكذا نجد العناية هذه، بأوضح صورها في سائر الأجرام والكواكب، حيث تسير وفق نظام شمسي محدد لا تعدوه. ولو فرض أن جرماً من هذه الأجرام، أو كوكباً من هذه الكواكب، قد انحرف عن خط سيره قيد شعرة أو أقل، أو توقف عن الحركة ولو لحظة، لانفرط عقد الكون بأكمله.

عندما يلاحظ أحدنا هذه العناية، ويلاحظ أن كل شيء مدرك له، إنما جعل بالشكل والمقدار الّلذين يؤدي معهما غاية معينة، تتناسب مع مقتضيات استمرار هذا الإنسان، ومتطلبات وجوده. ووضعية تترتب عليها منفعة لهذا المخلوق.

____________________

(١) الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد / ١٥٠.

(٢) تلخيص ما بعد الطبيعة لابن رشد / ١٦٠.

٧٠

عندما يلاحظ أحدنا كل ذلك يجزم «ان لذلك الشيء صانعاً صنعه ولذلك وافق شكله ووضعه وقدره تلك المنفعة، وانه لا يمكن أن تكون موافقة اجتماع تلك الأشياء لوجود المنفعة بالاتفاق»(١) أي بالمصادفة.

ويمكننا، بناءاً على ما عرضناه، أن نضع دليل العناية هذا، في صورة قياس منطقي كالتالي:

ان الكون بما فيه الإنسان ، مجعول بنحو يتناسب وضعية وشكلاً ومقداراً مع وجود الإنسان ومقتضيات بقاء الحياة واستقرارها.

وكل ما كان كذلك لا بد وأن يكون له صانع لاستحالة أن يحصل هذا التناسب والتناسق عن طريقة المصادفة.

فالكون بما فيه له صانع.

وقد جعل ابن رشد دليل العناية هذا، من أشرف الأدلة على وجود اللّه.

وجهة نظر:

والذي يبدو، ان هذا الدليل، هو ما يعبر عنه المناطقة بالدليل الإنيّ وهو الاستدلال بوجود المعلول على وجود العلة، في قبال الدليل اللمّي، وهو الاستدلال بوجود العلة على وجود المعلول، ولعله لهذا يقول ابن رشد «فان الشريعة الخاصة بالحكماء، وهي الفحص عن جميع الموجودات، اذ كان الخالق لا يعبد بعبادة أشرف من معرفة مصنوعاته التي تؤدي إلى معرفة ذاته سبحانه على الحقيقة»(٢) .

____________________

(١) الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد ١٦٤.

(٢) تفسير ما بعد الطبيعة ١ / ١٠.

٧١

ولكن السمة المميزة في هذا الدليل، انه لا يسلّط الشعاع على المعلول بما هو معلول فقط، بل بما هو معلول متناسق منظم، لا قصور فيه ولا تشويش، يؤدي من خلال تناسقه وتنظيمه، وعدم قصوره وعدم تشويشه، غاية معينة، ومنفعة محددة ولعله لتميزه بهذه الزيادة، خصه ابن رشد بالحكماء أو العلماء، تمييزاً لهم عن الجمهور، الذين يكتفون في مقام الاستدلال، بتسليط الشعاع على المعلول بما هو كذلك، قانعين من المعرفة، بما يبتني منها على الحس الساذج، من دون تعمق ولا تبصر.

ب - دليل الاختراع:

وينسب هذا الدليل أيضاً، إلى ابن رشد الفيلسوف، وهو عند فيلسوفنا هذا أقرب الأدلة إلى مدارك الجمهور(١) .

وملخص دليل الاختراع هو أن هذا الكون بما فيه مصنوع ومخترع، وكل مصنوع ومخترع لا بد له من صانع ومخترع. فالكون بما فيه لا بد له من صانع ومخترع.

والظاهر، أن ابن رشد، يريد بهذا الدليل الإشارة إلى الفطرة المركوزة في كل إنسان، والتي تحتم عليه الجزم، بلا بدية الاسباب للمسببات، وباستحالة وجود المعلول من دون علة تقتضي وجوده.

والذي يؤيد هذا قوله في كتابه مناهج الأدلة بأن هذا الذي ذكرناه موجود «بالقوة في جميع فطر الناس»(٢) .

____________________

(١) الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد ٤٥.

(٢) نفس المصدر ١٥١.

٧٢

بل نراه يصرح في نفس الكتاب المذكور بما أشرت إليه حيث يقول: «فاننا إذا رأينا أجساماً مادية، ثم رأيناه الحياة تحدث فيها، علمنا علم اليقين، أن هناك موجوداً أوجدها، فلكل شيء سبب ولا شيء يحدث اتفاقاً»(١) .

ولعله لهذا أيضاً - أي لرجوع دليل الاختراع إلى الفطرة - يجعله ابن رشد - كما سبق وذكرت - أقرب الأدلة إلى مدارك الجمهور. وهو الذي يعبّر عنه بدليل العوام في قبال دليل الصديقين.

ولكن لا بد من التنبيه، على أن ابن رشد، عندما يعرض هذا الدليل، يحاول أن يصوغه بأسلوب قياس منطقي، ليجعله أقرب إلى أساليب المعرفة اليقينية العقلية منه إلى أسلوب المعرفة الحسية الساذجة.

وجهة نظر:

وابن رشد، الذي ينسب إليه كل من دليلي العناية والاختراع، نراه يستشهد عند عرضه لهذين الدليلين، بآيات من القرآن الكريم.

فبالنسبة للدليل الأول، يدلل عليه بقوله تعالى:( أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً وَ الْجِبَالَ أَوْتَاداً ، وَ خَلَقْنَاکُمْ أَزْوَاجاً وَ جَعَلْنَا نَوْمَکُمْ سُبَاتاً وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً وَ جَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً وَ بَنَيْنَا فَوْقَکُمْ سَبْعاً شِدَاداً وَ جَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً وَ أَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَ نَبَاتاً وَ جَنَّاتٍ أَلْفَافاً ) (٢) .

وقوله تعالى:( تَبَارَکَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَ جَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً

____________________

(١) نفس المصدر.

(٢) النبأ ٦ - ١٦.

٧٣

وَ قَمَراً مُنِيراً ) (١) . وقوله تعالى:( الَّذِي جَعَلَ لَکُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً ) (٢) .

وبالنسبة للدليل الثاني يدلل بقوله تعالى:( أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَکُوتِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ‌ءٍ ) (٣) . وقوله تعالى:( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ‌ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ‌ ) (٤) . وقوله تعالى:( أَ فَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ کَيْفَ خُلِقَتْ ) (٥) .

وهنا، قد يحلو لبعض الدارسين، أن يفسر موقف ابن رشد هذا، على أنه يسلكه في عداد الحشوية، الذين - كما تقدم - يحصرون استدلالهم على وجود المبدأ الأول بالنقل، أي بالآيات القرآنية.

ولكن هذا الرأي، مجانب للصواب، وذلك:

أولاً : كيف يجوز أن نسلك ابن رشد في عداد الحشوية، في حين نراه يشن عليهم في كتابه (الكشف) وغيره حرباً فكرية شعواء وينتقدهم انتقاداً مراً(٦) .

ثانياً : إن ابن رشد كفيلسوف، يستحيل عليه أن يجعل مقياسه للحقيقة قبلياته الفكرية ومعتقداته، بل هو ملزم باتباع الدليل العقلي والبرهان المنطقي، في مجال غربلة الحقائق لاستخراج صحيحها من فاسدها.

____________________

(١) الفرقان ٦١.

(٢) البقرة ٢٢.

(٣) الأعراف ١٨٥.

(٤) الطارق ٦.

(٥) الغاشية ١٧.

(٦) راجع الكشف عن مناهج الأدلة ١٥٣ وما بعدها وصفحة ١٩٨ وما بعدها كما يراجع فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الإتصال ٢٤ وما بعدها.

٧٤

لذلك وغيره، لا نجد ابن رشد في إيراده لهذه الآيات، إلا أنه كان يرى فيها إرشاداً إلى حكم العقل بوجود اللّه وتنبيهاً إلى تلك الأدلة العقلية على ضرورة الإيمان به. ولهذا نجده يصرح عند إيراده مثل هذه الآيات، بما يفيد ذلك، كقوله بعد إيراده لبعض الآيات المذكورة «فهذه الآيات تتضمن التنبيه على موافقة أجزاء العالم لوجود الإنسان»(١) .

ج - دليل الحدوث:

ويمكن تقريب هذا الدليل على نحوين:

الأول: اننا إذا نظرنا إلى ما يحيط بنا في هذا الكون، وإلى أنفسنا، لوجدنا انه يتغير ويتبدل من حالة إلى أخرى، ومن شكل إلى آخر.

فالماء يتغير بفعل الحرارة إلى بخار، والبخار يتحول بفعل البرودة إلى ماء مرة أخرى.

والإنسان يكون نطفة، فيتحول إلى علقة، فإلى مضغة، فإلى عظام يكسوها لحم، فإلى شاب، فإلى رجل، فإلى كهل، ثم يموت فيتحول إلى تراب. وقس على هذا كل شيء في العالم.

فالعالم على هذا متغير، وتغيره دليل على حدوثه، لأن المتغير لا يعقل أن يتصف بالقدم، وإذا كان العالم حادثاً، يجزم العقل بمجرد إدراك حدوثه بضرورة وجود محدث له.

ويمكن أن نصوغ هذا التقريب من الدليل، في صورة قياس منطقي، مؤلف من صغرى وكبرى ونتيجة، على الشكل التالي:

____________________

(١) الكشف عن مناهج الأدلة ١٩٦.

٧٥

العالم متغير.

وكل متغير حادث.

فالعالم حادث.

الثاني : «إن ما ندركه من العالم المحسوس، هو اعراض تظهر وتختفي كل لحظة. ومحل هذه الاعراض المتغيرة، هو الجواهر الجسمية. وهذه الجواهر لا يمكن أن نعتبرها غير متغيرة، لأنها محل للمتغيرات. وإذا كانت متغيرة لا يمكن أن نعتبرها قديمة لأن القديم لا يتغير. وإذا كان كل شيء في العالم متغيراً، فهو حادث»(١) .

ويمكن أن نصوغ هذا التقريب الثاني من دليل الحدوث، في صورة قياس منطقي مؤلف - أيضاً - من صغرى وكبرى ونتيجة على النحو التالي:

العالم متكون من جواهر تقوم فيها الأغراض المتغيرة.

وكل ما يقوم فيه المتغير وهو الجواهر فهو متغير.

فالعالم المتكون من جواهر متغيرة واعراض متغيرة فهو متغير.

د - دليل الحركة:

ولكي نفهم هذا الدليل، لا بد لنا أولاً، من فهم مراد الفلاسفة من الحركة.

فالحركة في مفهومهم هي «كمال ما بالقوة من جهة ما هو بالقوة»(٢) .

____________________

(١) تاريخ الفلسفة في الإسلام لدي بور ترجمة محد أبو ريدة ٦٨.

(٢) تلخيص السماع الطبيعي لابن رشد ٢٢.

٧٦

أو هي، بعبارة قد تكون أوضح «خروج الشيء من القوة إلى الفعل تدريجياً»(١) .

والقوة والفعل، تعبيران، يراد بالأول منهما عالم الثبوت والإمكان، وبالثاني عالم الإثبات والتحقق والوجود.

بعد هذا يمكننا أن نقرب دليل الحركة على وجود العلة الأولى فنقول:

إن أي شيء وضعنا يدنا عليه في هذا الكون وجدناه يتحرك بعد سكون، ويسكن بعد حركة.

ومعنى هذا ان كلاً من الحركة والسكون، يوجدان في الشيء بعد أن لم يكونا فيه، فهما إذن حادثان، وكل حادث لا بد له من محدث. فالحركة تدل على وجود محرك وراءها.

وإذا كان الكون مجموعة من الأشياء، التي تعتور عليها الحركة والسكون، كان لا بد له من محرك.

وإذا صح هذا، وعرفنا بأن الحركة في مفهوم الفلاسفة، عبارة عن خروج الشيء المتحرك من القوة إلى الفعل، أي من مرحلة الإمكان إلى مرحلة التحقق والثبوت، كانت حركة الشيء عبارة عن وجوده، وبالتالي حركة الكون عبارة عن وجوده أيضاً.

وإذا كان لا بد لكل حركة من محرك، كان لا بد لحركة الكون بمعنى وجودها من محرك بمعنى موجد.

____________________

(١) فلسفتنا للسيد محمد باقر الصدر ٢١٣.

٧٧

ولا يعقل أن يكون الكون علة لحركة نفسه، لأننا بعد أن فرضنا أن حركة الكون عبارة عن خروجه من القوة إلى الفعل، فإن أية ظاهرة كونية ينطبق عليها هذا القدر، بمعنى أن يكون وجودها، بخروجها من القوة إلى الفعل، وهي في هذا الخروج محتاجة إلى من يخرجها من تلك المرحلة إلى هذه المرحلة. ونتيجة الالتزام بعلية الكون نفسه لحركته، التسلسل في العلل والمعلولات إلى ما لا نهاية.

مثلاً، لو أخذنا الظاهرة الكونية (أ)، فهي لتتحرك، لا بد من وجود شيئين فيها، شيء بالقوة، وشيء بالفعل.

وإذا كانت الحركة - كما سبق - خروجاً من القوة إلى الفعل، فهي لتتحرك، تحتاج إلى وجود محرك يخرجها من وإلى. ولنفرضه الظاهرة (ب).

وحينئذ ننقل الكلام إلى هذا المحرك. إذ ان وجود عبارة أخرى عن حركته ما بين القوة والفعل، فهو أيضاً محتاج إلى وجود محرك لنفرضه الظاهرة (ج).

وحينئذ ننقل الكلام إلى هذا المحرك الثالث، فهو في وجوده بمعنى حركته ما بين القوة والفعل، محتاج إلى محرك وهكذا دواليك، حتى تصعد بنا السلسلة إلى ما لا نهاية، في ظواهر الكون المادية. ولا تنقطع إلا بفرض محرك أقصى ما ورائي، هو فعل محض، لا تشوبه القوة بحال من الأحوال، حتى يحتاج إلى علة تخرجه منها إلى الفعل. وهو المطلوب.

ه‍ - دليل الإمكان والوجوب:

ولا بد لنا، قبل أن نذكر هذا الدليل ملخصاً، من أن نلم، ولو إلمامة مختصرة، بمعنى كل من الممكن، والواجب عند الفلاسفة والمتكلمين.

٧٨

معنى الممكن : فالممكن عندهم هو «ما كانت ماهيته قابلة للوجود والعدم» أو هو بعبارة أوضح، ما تكون ماهيته في مرتبة وسط بين نقطتي الوجود والعدم.

معنى الواجب : وأما الواجب، فهو ما استحال انفكاك الوجود عنه، أو انفكاكه عن الوجود، لأن ماهيته الوجود نفسه، وهو العلة الأولى، التي يفتقر كل وجود إليها، في حين أن وجودها بذاته، من دون حاجة إلى أية علة.

وحاصل دليل الوجوب والإمكان هذا، على ضوء ما ذكرناه من معنى الممكن والواجب هو (أن الأمور التي تدخل في الوجود) لا تخلو بالقسمة العقلية من أن تكون إما واجبة، أو ممكنة.

ونحن، إذا نظرنا إلى العالم ككل، ونعني به كل ما عدا اللّه، لأدركنا استحالة أن يكون واجباً. لأنه حادث، يدل على حدوثه تغيره من حال إلى حال، ومن صفة إلى أخرى، والواجب ثابت لا يتغير.

ومعنى كونه حادثاً، أنه وجد بعد أن لم يكن.

وإذا كان العالم حادثاً - بكل مظاهره - ويستحيل أن يكون واجباً لذلك، تعين أن يكون قبل وجوده وتحققه ممكناً، وإلا لو كان ممتنعاً لما وجد. وقد عرفنا أن الممكن، هو ما يستوي فيه طرفاً الوجود والعدم.

وإذا كان الوجود والعدم متساويين بالنسبة إلى العالم قبل ترجح وجوده، وعرفنا استحالة ترجح أحد المتساويين على الآخر إلا بمرجح، جزم العقل بضرورة وجود مرجح رجح جانب الوجود في العالم على جانب العدم، «وإلا

٧٩

لبقي هذا العالم الممكن على حاله الاُولى من العدم»(١) .

وقد يتوهم متوهم، أن العالم الممكن حسب الفرض، يكون نفسه علة هذا الترجيح من دون حاجة إلى فرض مرجح خارج عنه، لكفة وجوده على عدمه.

ولكن هذا التوهم، يزول بمجرد الالتفات إلى أن العلة، ليصح أن تكون علة، لا بد من تقدمها على معلومها ذاتاً ورتبة.

ومع فرض أن العلة هي نفس المعلول، يلزم أن يكون الشيء متقدماً على نفسه وهو محال، هذاأولاً .

وثانياً : «ليس وجوده عن ذاته بأولى من عدمه»(٢) .

بعد أن اتضحت ضرورة وجود مرجح لكفة الوجود في العالم على كفة العدم، لا بد من أن ننقل الكلام إلى هذا المرجح، فهو بالقسمة العقلية، لا يخلو عن إحدى حالتين، إذ إنه إما واجب، أو ممكن.

فإن كان واجباً، فقد ثبت المطلوب، وهو واجب الوجود. وإن كان ممكناً، لا بد له بدوره، من علة رجحت كفة الوجود فيه على كفة العدم. وذلك لان الموجود الممكن، كما سبق بيانه، لا بد له من علة تتقدم عليه. فإن كانت العلة ممكنة، وجب أن يوجد لها علة، وهكذا إلى غير نهاية، وذلك معناه التسلسل في العلل والمعلولات، والتسلسل باطل. فلا بد لقطع سلسلة العلل هذه، من فرض علة، يكون الوجود ضرورياً لها، بل تكون محض الوجود ونفس الوجود، وهي، واجب الوجود لذاته.

____________________

(١) الإقتصاد في الإعتقاد للغزالي ١٤.

(٢) الإشارات والتنبيهات لابن سينا ٤٤٩.

٨٠