• البداية
  • السابق
  • 339 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 28007 / تحميل: 7627
الحجم الحجم الحجم
خلاصة علم الكلام

خلاصة علم الكلام

مؤلف:
العربية

الوجدان ومن غير عناء تأويل أو تكلف، بتفسير أن من وجده اللّه تعالى ضالاً فلا يهديه الا هو سبحانه (انك لا تهدي من أحببت ولكن اللّه يهدي من يشاء) بشموله له بعنايته وتوفيقه، ذلك أن من لا تشمله العناية الالهية لا يستطيع أحد هدايته، وهو واضح.

ويمكن حملها على معنى الجعل كما هي في صيغة المضارع (تُضل) و(يضلل) وفي الالفاظ الاخرى (طبع) و(لا تزغ).

وهنا نقول : قد يراد بالجعل هنا الجعل التكويني، وقد يراد به الجعل التشريعي.

فالجعل التشريعي على نمط الدعاء القائل: (اللهم أغنني بحلالك عن حرامك) أي ما جعلته حراماً شرعاً.

فتكون (أضل) و (يضل) بمعنى جعل و يجعل تشريع الضلال.

والجعل التكويني هو جعل القوة التي يقتدر بها الانسان على فعل الضلال في تكوينه ( ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها).

فمتى فعل الانسان الضلال كان ضلاله معلولاً لقدرته المعلولة لقدرة اللّه تعالى الواردة في طولها، ويصح - كما تقدم - نسبة الفعل الى كل علة من علله التسلسلية.

وننتهي من هذا الى أن هذه الآي وأمثالها لا دلالة فيها على الجبر.

٥ - تفسير الآية وفق المعنى المشهور لمفرداتها من دون مقارنته بالمعاني الاخرى للمفردة وتعيين المناسب للمعنى الجملي للأية.

وجاء هذا في مثل الآية الكريمة (واذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها) - الاسراء ١٦ -.

ان تفسير (أمرنا) هنا بالأمر الانشائي (الطلب من العالي الى الداني) وتقدير أن المأمور به هو الفسق بقرينة (ففسقوا) لتتم دلالتها على الجبر يتنافى وما قدمنا من أن اللّه تعالى عادل حكيم يأمر بالعدل والاحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.

وقد وُجّه تفسيرها بان الأمر فيها مطلق، وتقييده بالفسق غير جائز لما تقدم.

١٨١

وعليه لا بد من تقييده بما يتناسب وعدل اللّه تعالى وحكمته، وهو أن يكون «المراد: أمرنا المترفين بأوامر الصلاح والعدل والاحسان فخالفوا أوامر الحق وفسقوا(١) .

وكما قلت، فاننا اذ رحنا نلملم معاني (أمَرَ) من مظانه في كتب اللغة والأدب سنجد أن من معاني (أَمَرَ): (كَثَّرَ) من التكثير والكثرة.

قال ابو علي القالي في أماليه : «وأنشدنا أبو زيد:

أُمُ جَوَارٍ ضَنْئُوها غيُر أَمِرْ

ضنئوها: نسلها.

وأَمِرَ المالُ وغيره يَأْمرُ أَمَرَةً وأمَراً اذا كثر، قال الشاعر:

والأثم من شر ما يصال به

والبركات لغيث نبتُهُ أَمِرُ

ويقال في مَثَلِ: (في وجه مالك تعرف أَمْرَتَه) وأَمَرَتَه، أي نماءه، وقال اللّه تعالى (واذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها) أي كثّرنا، وقال ابو عبيدة: يقال: خير المال نخلة(٢) مأبورة أو مهرة مأمورة: فالمأمورة: الكثيرة الولد، من آمرها اللّه. أي كثّرها»(٣) .

وفي مجاز القرآن لابي عبيدة: «واذا اردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها: أي اكثرنا مترفيها، وهي من قولهم: قد أَمرَ بنو فلان، أي كثروا، فخرج على تقدير قولهم: علم فلان وأعلمته أنا ذلك، قال لبيد:

كل بني حرةٍ قُصارهُم

قُلُّ وان اكثرتْ من العددِ

إن يغبطواً يهبطوا وأن أَمِروا

يوماً يصيروا للهُلْك والنفد»(٤)

______________________

(١) الرحلة المدرسية ٣٨١.

(٢) في الأمالي (سكة) وتصويبها من مجاز القرآن ١/ ٣٧٣.

(٣) الامالي ١ / ١٠٣.

(٤) مجاز القرآن ١/ ٣٧١ - ٣٧٣ ، وانظر: لسان العرب - مادة: أمر.

١٨٢

فالمناسب أن تفسير عبارة (أمرنا) ب(كثّرنا)، و ذلك أن الترف من لوازم الغنى، والغنى اذا فشا وانتشر نتج عنه الطغيان (كلا إن الانسان ليطغىأن رآه استغنى) - العلق ٦ ، ٧ - ، والطغيان من بطر المعيشة الموجبة للاهلاك (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها) - القصص ٥٨ -.

وفي ضوئه: ليس في الآية موضوع البحث ما يدل على جبر أو قهر.

٦ - دراسة الموضوع من الموضوعات القرآنية بالاقتصار على جانب منه من غير الرجوع الى الجوانب الاخرى للموضوع، وذلك مثل دراسة موضوع تعليق القران مشيئة الانسان على مشيئة اللّه تعالى. كما في الآي التالية:

-(لا تقولن لشيء إنّي فاعل ذلك غداً الا أن يشاء اللّه) - الكهف ٢٣ -.

-(وما تشاؤون الا أن يشاء اللّه) - الانسان ٢٩ -.

-(وما يذكرون الا أن يشاء اللّه) - المدثر ٥٦ -.

-(وما كانوا ليؤمنوا الا أن يشاء اللّه) - الانعام ١١١ -.

فان التعليق الظاهر من هذه الآي الكريمة نجده أيضاً في آيات الاذن وآيات التوكل، مثل:

-(وما كان لنا ان نأنيكم بسلطان الا باذن اللّه وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون) - ابراهيم ١١ -

-(وليس بضارهم شيئاً الا باذن اللّه وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون) - المجادلة ١٠ -

-( واذا عزمت فتوكل على اللّه ان اللّه يحب المتوكلين) - آل عمران ١٥٩ -

-(وما كان لنفس أن تؤمن الا باذن اللّه) - يونس ١٠ -

-(وما أرسلنا من رسول الا ليطاع باذن اللّه) - النساء ٦٤ -

-(وما هم بضارين من أحد الا باذن اللّه ) - البقرة ١٠٢ -

١٨٣

فان آي المشيئة اذا نظرت في اطار أمثالها من آي الإذن وآي التوكل يبين المقصود منها بوضوح لأن القران يفسر بعضه بعضاً، وتعضد آية الأخرى.

وهى - كما تعرب عن ذلك ظواهرها - ترمي الى أن تلفت نظر الانسان الى فعله الذي يوقعه بقدرته غير مستقل عن قدرة اللّه تعالى.

فكما أن قدرته معلولة لقدرة اللّه تعالى في أصل وجودها هي أيضاً مفتقرة في استدامة وجودها واستمرار بقائها الى مدد فيضه تعالى. فلا حول ولا قوة للانسان الا من حول اللّه وبقوته.

ذلك أن الانسان لا يستطيع أن يفعل الفعل اذا تعلقت ارادة اللّه بخلافه، أو سلبته قدرة اللّه تعالى قدرته على الاتيان بالفعل.

فكل فعل يعزم الانسان على الاتيان به ينبغي له أن يضع نصب عينيه انه لا يقوى على الاتيان به الا اذا كان معه مدد الفيض الالهي واستمرارية القوة القادرة على الفعل التي خلقها اللّه تعالى فيه.

فهذا اللون من الاستثناء (الا أن يشاء اللّه)، (إلا باذن اللّه)، وكذلك الترغيب في التوكل والأمر به يشير الى أن العلل والاسباب الواردة في طول القدرة الالهية، كما هي مفتقرة اليها في أصل وجودها، هي أيضاً مفتقرة اليها في استدامة وجودها، واستمرارية بقائها.

ويقول الشيخ البلاغي توضيحاً لمعنى الآية (لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً الا أن يشاء الله): «لم يقيّد القرآن ارادة الانسان ولم يعلّق فعله بانواعه على مشيئة الله، بل لم يعلق الا الفعل الذي يجزم الانسان بغروره أنه سيفعله بقدرته في المستقبل مع غفلته عن كونه عرضة للموت والمرض والعوائق وتغيّر الامور.

فالقرآن يوبخ الانسان على اغتراره بما عنده في وقته من القدرة فيتوهم بغروره بقاءه في المستقبل ويجزم بانه يفعل غداً.

كأنه ليس له إله يغيّر الأمور و يقدّر عليه الموت والمرض والعوائق.

١٨٤

ويستلفته بتعليمه الراقي الى دوام الاعتراف بعجزه وأن بقاء قدرته ومتعلقات ارادته ومواضيع فعله انما هو بقدرة الإِله العظيم المتصرف في العالم وبمشيئته»(١) .

وننتهي من هذا كله - وقد ضم نماذج مختلفة من الآيات الكريمة المرتبطة بموضوع ارادة الانسان - الى أنه ليس في القرآن الكريم ما يدل على الجبر، كما أنه ليس فيه ما يدل على التفويض.

أما فكرة الكسب فهي الأخرى لا دليل عليها من القرآن الكريم لان نسبة خلق فعل الانسان الى قدرة اللّه القديمة هي عين الجبر ولا دليل عليه من القرآن الكريم كما رأينا.

ونسبة الفعل عند الاختيار الى قدرة الانسان الحادثة التي يخلقها اللّه فيه عند الاختيار لا دليل عليه من القرآن إذ لم يمر علينا شيء مما قد يشير اليه - ولو من بعيد - من النصوص القرآنية، كما أنه لا دليل عليه من العقل.

ومنه يتضح أن ما ذهب اليه الامامية تبعاً لأئمة أهل البيت من أن فعل الانسان أمر بين الجبر والتفويض، أو منزلة بينهما مأخوذ من القرآن بنظرة شمولية اعتمدت المقارنة والموازنة الى ما تضمنته مختلف الآيات في الموضوع.

أما مذهب الاستسلام فهو مذهب التوقف عن اعطاء الرأي في المسألة، وقد مر بنا بيان هذا عند الكلام على المنهج النقلي.

ولا أرى مبرراً لاتخاذ موقف الصحابة دليلاً.

وذلك لأن توقف الصحابة عن الخوض في المسائل المشكلة من قضايا العقيدة لا يرجع الى سبب ديني كما أفاده الشيخ محمود وأمثاله، وإنما الى سبب اجتماعي تاريخي وهو ان الحضارة الاسلامية كانت في ايام الرسول وعهود الخلفاء الثلاثة من الراشدين في دور التلقي.

__________________

(١) الرحلة المدرسية ٣٨١

١٨٥

ذلك ان الحضارة الاسلامية مرت منذ انبثاقها في عصر الرسالة حتى نضج الفكر الاسلامي العلمي التقنيني في العصر العباسي بثلاث مراحل أو ثلاثة أدوار:

١ - مرحلة التلقي:

وكانت في عصر الرسول والخلفاء الثلاثة من الراشدين، فقد كانت الظاهرة العامة لعلاقة المسلمين في هذه المرحلة بالحضارة الاسلامية وتفاعلهم معها صلة تلق وحفظ وتطبيق.

ومن طبيعة التلقي الذي يستلزم التطبيق أن لا يكون فيه التقنين العلمي في تأصيله وتفريعه وتحليلاته وتأويلاته لئلا تطول المسافة بين التعلم والتطبيق.

مضافاً الى انشغال الصحابة في هذه المرحلة بالغزوات والسرايا والفتوح لنشر الاسلام.

كما أن من العوامل الاخرى التي ساعدت على عدم الخوض في مثل هذه المسائل من قبل الصحابة في هذه المرحلة افتقادهم عنصر التحدي والاثارة، ففي هذه المرحلة لم يكن هناك تفاعل وصراع بين الحضارة الاسلامية والحضارات الاخرى بما يمثل ظاهرة واضحة وعامة.

٢ - مرحلة التأسيس العلمي:

وبدأت في عهد حكم الامام امير المؤمنين (ع) فكان - على سبيل المثال - ابن عباس يبذر بذور التفسير الاسلامي، وكان ابو الاسود الدؤلي بتوجيه من الامام يضع بدايات علم النحو العربي، وكان الامام في خطبه وأجوبته يرسخ قواعد العقيدة الاسلامية وينشر افكارها بلغة واسلوب عاملين بدورهما على تكوين علم التوحيد.

وكان هنا وهناك آخرون من الصحابة والتابعين يقومون بمثل هذه الاعمال التي تقوم بوظيفة وضع الاسس لاشادة بناء العلوم الاسلامية.

وفي هذه المرحلة كان الصحابة يثيرون. ويبحثون مشكلة القدر، وفي طليعتهم الامام امير المؤمنين (ع) ولانه من اهل البيت وصحابي أيضاً يأتي عطاؤه قولاً وفعلاً في

١٨٦

القدر المتيقن من الحجية.

٣ - مرحلة البناء العلمي:

وكانت هذه في العصر العباسي.

على ان الصحابة انفسهم لم يكونوا على مستوى واحد من حيث الوثاقة والمعرفة.

والوثيقة التي خلفها لنا الامام امير المؤمنين في الاعتماد على نقلة الحديث من الصحابة، ورسم فيها المنهج الذي ينبغي أن يتبع في الأخذ عنهم هي خير ما يعتمد عليه ويستند اليه ويلتزم به.

وهي:

« قال له سليم بن قيس: إني سمعت سلمان وأبا ذر والمقداد يتحدثون باشياء من تفسير القرآن والاحاديث والروايات عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم سمعتُ منك تصديق ذلك ورأيتُ في ايدي الناس اشياء كثيرة من تفسير القرآن والاحاديث والروايات عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يخالفونها فيكذب الناس متعمدين، ويفسرون القرآن بآرائهم.

فقال امير المؤمنين (ع): قد سألتَ فافهم الجواب، إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً وصدقاً وكذباً وناسخاً ومنسوخاً وعاماً وخاصاً ومحكماً ومتشابهاً وحفظاً ووهماً، وقد كذب على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته كذباً كثيراً حتى قام خطيباً فقال: (أيها الناس قد كثر عليّ الكذابة، فمن كذب عليّ متعمداً فليتبوء مقعده من النار)، وكذلك كذب عليه بعده.

إنما أتاك بالحديث أربعة ليس لهم خامس:

١ - رجل منافق يظهر الايمان متصنع بالاسلام لايتأثم ولا يتحرج أن يكذب على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله متعمداً.

ولو علم الناس أنه منافق كذاب لم يقبلوا منه ولم يصدقوه، ولكنهم قالوا: قد صحب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ورآه وسمع منه، فأخذوا منه وهم لا يعرفون حاله.

١٨٧

وقد أخبر اللّه جل وعز عن المنافقين بما أخبر ووصفهم بأحسن الهيئة فقال: (اذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وان يقولوا تسمع لقولهم).

ثم تفرقوا من بعده وبقوا واختلفوا وتقرّبوا الى أئمة الضلالة والدعاة الى النار بالزور والكذب فولوهم الأعمال والأحكام والقضاء، وحملوهم على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا.

وقد علمت ان الناس مع الملوك اتباع الدنيا، وهي غايتهم التي يطلبون الا من عصم اللّه.

فهذا أحد الاربعة.

والثاني: رجل سمع من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله شيئاً ووهم فيه ولم يحفظه على وجهه ولم يتعمد كذباً، فهو في يده يعمل به ويقول: أنا سمعته من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولو علم الناس أنه وهم لم يقبلوه.

ولو علم هو انه وَهِم لرفضه ولم يعمل به.

فهذا الثاني.

والثالث: رجل سمع من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أشياء أمر بها ثم نهى عنها وهو لم يعلم النهي، أو نهى عن شيء ثم أمر به ولم يعلم الأمر، حفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ.

فلو علم الناس (وهو) أنه منسوخ لرفضه الناس ورفضه هو.

فهذا الرجل الثالث.

والرابع: رجل لم يكذب على اللّه وعلى رسوله، يبغض الكذب خوفاً من اللّه وتعظيماً لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يتوهم، ولم ينسَ، بل حفظ ما سمع فجاء به على وجهه لم يزد فيه ولم ينقص، حفظ الناسخ وعمل به والمنسوخ ورفضه.

فان أمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مثل القرآن ناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه، يكون من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله الأمر له وجهان، عام وكلام خاص مثل القرآن، وقد قال اللّه جل

١٨٨

وعز: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).

فكان يسمع قوله من لم يعرفه ومن لم يعلم ما عنى اللّه به ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويحفظ ولم يفهم.

وليس كل اصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يسأله عن الشيء ويستفهمه، كان منهم من يسأل ولا يستفهم حتى لقد كانوا يحبون أن يجيء الاعرابي أو الطاري أو الذمي فيسأل حتى يسمعوا ويفهموا.

ولقد كنتُ أنا أدخل كل يوم دخلة فيخليني معه أدور فيها معه حيثما دار، علم ذلك اصحابه أنه لم يصنع ذلك بأحد غيري، ولربما أتاني في بيتي، واذا دخلتُ عليه منازله أخلاني وأقام نساءه، فلا يبقى أحد عنده غيري.

كنتُ اذا سألتُ اجابني، واذا سكتُّ وفنيتْ مسائلي ابتدأني.

وما نزلت عليه آية في ليل ولا نهار ولا سماء ولا أرض ولا دنيا ولا آخرة ولا جنة ولا نار ولا سهل ولا جبل ولا ضياء ولا ظلمة، الا أقرأنيها وأملاها عليّ فكتبتها بيدي، وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها وخاصها وعامها، وأين نزلت وفيم نزلت الى يوم القيامة»(١) .

على أننا يجب علينا أن لا ننسى هنا قيمة العقل وقدسية التفكير في الاسلام وتأكيد القرآن الكريم على ذلك بشكل عادت معه هذه الظاهرة من سماته البارزة وشاراته الواضحة.

وهكذا دعوة تتنافى وما استنتجه الشيخ محمود من وجوب الاستسلام والتوقف.

لاننا اذا التزمنا منهج الاستسلام أسلمنا الى مخالفة القرآن الكريم في دعوته الى استعمال العقل، والى التفكر والتدبر.

والعقلانية ليست وليدة الفلسفة ولا علم الكلام وانما هي طبيعة البشر التي أقرها

__________________

(١) تحف العقول ١٣٦ - ١٣٨.

١٨٩

القران الكريم، وطبقها في استدلاله على وجود اللّه ووحدانيته وكماله المطلق وعظمته المتفردة.

ومن الطريف ان ينقل الشيخ محمود بعض آي القرآن ذات المنهج العقلي في الاستدلال ولا يلتفت الى ذلك(١) .

وعلى هذا النهج القرآني سار أهل البيت (ع)، وما أعظم ما قاله الامام أمير المؤمنين (ع) يثني على أهل البيت في التزامهم هذا المنهج القرآني القويم، قال: «عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية، لا عقل سماع ورواية ، فان رواة العلم كثير ورعاته قليل».

وما جاء من أحاديث منسوبة الى الرسول أو الصحابة تنهى عن الخوض في مثل هذه المشكلات فهي إما موضوعة ومكذوبة عليهم، أو أنها جاءت وفق متطلبات المرحلة.

الاتصاف

الاتصاف أو علاقة الصفة بالذات من المسائل الكلامية التي تثار منهجياً في موضوع الصفات الثبوتية.

فيتساءل:

ما معنى اتصاف الذات بالصفة؟

هل هناك شيئان: ذات وصفة؟!.. أو شيء واحد؟!.

وعلى تقدير أنهما شيء واحد: ما معنى وحدتهما؟!.

ومثار هذا التساؤل: هو اذا كانت الذات بسيطة بكل معنى البساطة، وواحدة بكل معنى الوحدة، فما معنى أن يقال: إتصاف الذات بالصفة؟.. أو (اللّه عالم) و (اللّه قادر).. والخ.

__________________

(١) ينظر: كتابه (التفكير الفلسفي في الاسلام) تحت عنوان: (مذهب السلف).

١٩٠

وأهم الأقوال في المسألة قولان، هما:

أ- قول الحكماء والمتكلمين غير الاشاعرة:

وفحواه: ان الصفة والذات متحدتان في الحقيقة والخارج، ومتغايرتان في الاعتبار والذهن.

وبتعبير آخر:

متحدتان مصداقاً، متغيرتان مفهوماً.

ومن هنا قالوا: الصفة عين الذات، والذات عين الصفة، ويعنون بهذا وحدتهما في المصداق.

فهو تعالى: عالم لذاته، قادر لذاته.. والخ.

وما يتصور من التغاير بين الذات والصفة، أو زيادة الصفة على الذات في مثل قولنا: (اللّه عالم) فانه في الاعتبار والذهن، لا في الحقيقة والخارج.

واستدلوا لذلك:

١ - انه تعالى واجب الوجود - كما تقدم -.

ووجوب الوجود يقتضي الاستغناء عن كل شيء.

فلا يفتقر في كونه عالماً الى صفة العلم، وكونه قادراً الى صفة القدرة، لان هذه المعاني (العلم) و(القدرة) و(الخ) مغايرة لذاته قطعاً.

ومن البديهي: أن كل محتاج الى غيره ممكن... هذا خلف.

٢ - ان صفاته تعالى صفات كمال.

فلو قلنا: هو عالم بعلم، وقادر بقدرة - كما يقول الاشعري - لزم ان يكون ناقصاً لذاته لاحتياجه الى العلم والقدرة، مستكملاً بغيره، وهو باطل بالاتفاق.

٣ - ان اللّه تعالى قديم، وصفة القديم لا بد أن تكون قديمة، لانه متى لم تكن

١٩١

قديمة يلزم منه صيرورة القديم محلاً للحوادث.

واذا ثبت قدمها، لزم منه تعدد القدماء، وهو محال، لانه يتنافى والوحدانية.

وفي توحيد الصدوق(١) : «عن الحسين بن خالد: قال: سمعت الرضا علي بن موسى (ع) يقول: لم يزل اللّه تبارك وتعالى عليماً قادراً حياً سميعاً بصيراً.

فقلت له: يا ابن رسول اللّه إن قوماً يقولون: إنه عز وجل لم يزل عالماً بعلم وقادراً بقدرة وحياً بحياة وقديماً بقدم وسميعاً بسمع وبصيراً ببصر.

فقال(ع): من قال ذلك ودان به فقد اتخذ مع اللّه آلهة اخرى، وليس من ولايتنا على شيء.

ثم قال(ع): لم يزل اللّه عز وجل عليماً قادراً حياً قديماً سميعاً بصيراً» لذاته تعالى عما يقول المشركون والمشبهون علواً كبيراً».

والامام الرضا(ع) يشير بقوله: (ليس من ولايتنا على شيء) الى ما أشير اليه في حديث أبان بن عثمان الأحمر: «قال: قلت للصادق جعفر بن محمد (ع) أخبرني عن اللّه تبارك وتعالى لم يزل سميعاً بصيراً عليماً قادراً؟

قال: نعم.

فقلت له: ان رجلاً ينتحل موالاتكم اهل البيت يقول: ان اللّه تبارك وتعالى لم يزل سميعاً بسمع وبصيراً ببصر وعليماً بعلم وقادراً بقدرة.

فغضب (ع)، ثم قال: من قال ذلك ودان به فهو مشرك، وليس من ولايتنا على شيء، ان اللّه تبارك وتعالى ذات علامة سميعة بصيرة قادرة»(٢) .

وعرف قولهم هذا بانه قول المعتزلة.

__________________

(١) ص ١٤٠.

(٢)م ن ١٤٤.

١٩٢

واليه ذهب أيضاً كل من الامامية والزيدية والاباضية.

ب - قول الاشاعرة:

وهو : ان صفاته تعالى معان أزلية قائمة بذات اللّه تعالى.

قال أبو الحسن الاشعري: «الباري تعالى عالم بعلم، قادر بقدرة، حي بحياة.... وهذه الصفات أزلية قائمة بذاته تعالى»(١) .

وقالوا:

لا يقال: هي هو.

ولا: هي غيره.

ولا: لا هو.

ولا: لا غيره.

بمعنى انه لا يصح أن يقال:

الصفة هي الذات، ولا لا هي الذات.

ولا هي غير الذات، ولا لا هي غير الذات.

واستدلوا لذلك:

١ - ان مفهوم كونه عالماً هو عين ذاته - كما يقول الآخرون - يلزم منه حمل الشيء على نفسه، وهو باطل.

واذا بطل كون الصفة عين الذات ثبت انها معنى زائد على الذات.

٢ - لو كان العلم عين الذات، والقدرة عين الذات - كما يقول الآخرون - يلزم

__________________

(١) الملل والنحل ١ / ٩٥.

١٩٣

منه ان يكون مفهوم العلم ومفهوم القدرة واحداً، وهو ضروري البطلان.

وبثبوت بطلانه تثبت صحة رأينا.

والموازنة بين القولين تسلمنا الى التالي:

١ - تقدير الاشاعرة بان الصفة ليست هي الذات ولا هي غير الذات أمر لا يعقل ولا يتصور ذهنياً.

وما لايتصور لا يمكن الحكم عليه، لأنه لا بد من أن يُسبق التصديق بالتصور.

٢ - ان دليل الاشاعرة الأول لا يفيد - كما يقول الايجي(١) - إلا زيادة هذا المفهوم على مفهوم الذات.

وأما زيادة ما صدق عليه هذا المفهوم على حقيقة الذات فلا. نعم. لو تُصورا بحقيقتهما وأمكن حمل أحدهما دون الآخر حصل المطلوب.

ولكن انّى ذلك؟.

٣ - ان الدليل الثاني للاشعرية ينسق على دليلهم الأول تقريراً وايراداً.

٤ - رد الايجي دليل الحكماء الأول بقوله : «ان العالمية عندنا ليست أمراً وراء قيام العلم به، فيحكم عليه بانها واجبة»(٢)

وهو - كما ترى - لم يزد فيه إلا ترديد المدّعي.

٥ - ورد الايجي دليل الحكماء الثاني بقوله : «ان اردتم باستكماله بالغير ثبوت صفة الكمال فهو جائز عندنا، وهو المتنازع فيه، وان اردتم غيره فصوروه وبينوا لزومه»(٣) .

__________________

(١) انظر : المواقف ٢٨٠.

(٢) المواقف ٢٨٠.

(٣) م. ن.

١٩٤

وهو كسابقه لا يعدو كونه ترديداً للمدّعي.

٦ - وأورد السيد الطباطبائي على قول الاشاعرة بما قرره من «أن هذه الصفات - وهي على ما عدّوها : الحياة والقدرة والعلم والسمع والبصر والارادة والكلام - إما أن تكون معلولة أو غير معلولة لشيء.

فان لم تكن معلولة لشيء، وكانت موجودة في نفسها واجبة في ذاتها، كانت هناك واجبات ثمان، وهي الذات والصفات السبع.

وأدلة وحدانية الواجب تبطله.

وان كانت معلولة، فاما ان تكون معلولة لغير الذات المتصفة بها، أو معلولة لها.

وعلى الأول : كانت واجبة بالغير، وينتهي وجوبها بالغير الى واجب بالذات غير الواجب بالذات الموصوف بها.

وأدلة وحدانية الواجب تبطله كالشق السابق. على أن فيه حاجة الواجب الوجود لذاته في اتصافه بصفات كماله الى غيره، وهو محال.

وعلى الثاني : يلزم كون الذات المفيضة لها متقدمة عليها بالعلية، وهي فاقدة لما تعطيه من الكمال، وهو محال.

على أن فيه فقدان الواجب في ذاته صفات الكمال، وقد تقدم أنه صرف الوجود الذي لا يشذ عنه وجود ولا كمال وجودي.. هذا خلف»(١)

ويحاول الشهرستاني أن يربط بين قول الاشاعرة وما قاله نسطور الحكيم من «أن اللّه تعالى واحد ذو أقانيم ثلاثة : الوجود والعلم والحياة، وهذه الأقانيم ليست زائدة على الذات ولا هي هو»(١) .

والخلاصة :

__________________

(١) بداية الحكمة ٢٢٦.

(٢) الملل والنحل ١ / ٢٢٤.

١٩٥

اننا لا بد لنا بعد هذا من القول بان الصفات عين الذات، لئلا نقع فيما يتنافى وأصل التوحيد.

ونعني بعينية الصفة نفي الاثنينية بمعنى أنه لا يوجد في عالم الماصدق موصوف وصفة، وانما الموجود ذاته فقط.

كما نعني بها نفي الغيرية بمعنى أن الصفة ليست غير الموصوف لأن الغيرية تستلزم الاثنينية، تعالى اللّه عن ذلك وتقدس.

والمعنى المذكور مستفاد من قول الامام امير المؤمنين (ع) : «أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الاخلاص له، وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة انها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف انه غير الصفة، فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله».

وعن محمد بن عرفة قال : قلت للرضا (ع) : خلق اللّه الأشياء بالقدرة أم بغير القدرة ؟

فقال : لا يجوز ان يكون خلق الأشياء بالقدرة، لأنك اذا قلت : خلق الأشياء بالقدرة، فكأنك قد جعلت القدرة شيئاً غيره، وجعلتها آلة له بها خلق الأشياء، وهذا شرك.

واذا قلت : خلق الأشياء بقدرة، فإنما تصفه أنه جعلها باقتدار عليها وقدرة.

ولكن ليس هو بضعيف ولا عاجز ولا محتاج الى غيره، بل هو قادر بذاته لا بالقدرة»(١) .

وعلق عليه الشيخ الصدوق بقوله : «اذا قلنا : ان اللّه لم يزل قادراً، فانما نريد بذلك نفي العجز عنه، ولا نريد اثبات شيء معه، لأنه عز وجل لم يزل واحداً لا شيء معه»(٢) .

__________________

(١) توحيد الصدوق ١٣٠.

(٢) م. ن.

١٩٦

وقد لا نستطيع أن نعبر عن المعنى الذي ينبغي أن يقال هنا بوضوح تام، وذلك لضيق نطاق الألفاظ الموضوعة سواء في اللغة أو في الاصطلاح عن استيعاب وأداء المعنى المراد.

وما أروع ما جاء في هذا عن الامام أمير المؤمنين (ع)، قال : «الحمد للّه الواحد الأحد الصمد، المتفرد، الذي لا من شيء كان، ولا من شيء خلق ما كان، قدرة بان بها عن الأشياء، وبانت الأشياء منه، فليست له صفة تنال، ولا حدّ يضرب له الأمثال، كلَّ دون صفاته تعبير اللغات، وضل هناك تصاريف الصفات، وحار في ملكوته عميقات مذاهب التفكير»(١) .

__________________

(١) توحيد الصدوق ٤١ - ٤٢.

١٩٧

١٩٨

١٩٩

الصفات السلبية

ويبحث فيها عن :

١ - نفي التجسيم.

٢ - نفي الاتحاد.

٣ - نفي الحلول.

٤ - نفي الرؤية.

وهناك سُلوب اخرى تندرج في العناوين المذكورة، ولذا أعرضت عن أن أعنونها بعنوان مستقل.

٢٠٠