الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان14%

الشيعة في الميزان مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 419

الشيعة في الميزان
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 142546 / تحميل: 9287
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

«المسلمون يتوارثون، وإن اختلفوا في المذاهب والأصول والعقائد، كما هو المشهور، لعموم ما دل على التوريث بالنسب والسبب من الكتاب والسنة والإجماع لابتناء المواريث على الإسلام، دون الإيمان، وفي تلك الأدلة أن الإسلام هو ما عليه جماعة الناس من الفرق كلها، وبه حقنت الدماء، وجرت المناكح والمواريث. مضافاً إلى شهادة تتبع أحوال السلف من توريث المسلمين بعضهم من بعض في جميع الأعصار، مع الفتوى الظاهرة، والشهرة المعلومة. أما الغلاة والخوارج والنواصب، وغيرهم ممن علم منهم الإنكار لضرورة من ضرورات الدين فلا يرثون المسلمين قولاً واحداً».

بل قال صاحب «مصباح الفقيه» الآغا رضا الهمداني في الجزء الثالث من كتاب الطهارة ص ٤٩: من أقر بالشهادتين يعامل معاملة المسلمين من جواز المخالطة والمناكحة والتوارث، حتى ولو علم نفاقه وعدم اعتقاده.

أنكر النواصب والخوارج ضرورة دينية، وهي مودة الآل التي ثبت وجوبها بصريح القرآن، والسنة المتواترة فخرجوا بذلك عن الإسلام عند الإمامية، أما الغلاة فإن اعتقدوا أن هذا الشخص بالذات هو اللّه، وأنكروا وجود خالق سواه فهم كافرون، وإن اعترفوا بوجود خالق مثله فهم مشركون، وإن اعتقدوا بأن اللّه حل أو اتحد فيه فهم منكرون لما ثبت بضرورة الدين من أن اللّه أجل وأعظم من أن يصير بشراً يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق. وبكلمة إن الغلاة والخوارج والنواصب ليسوا عند الإمامية من الإسلام في شيء، إما لأنهم يجحدون الإسلام من الأساس، كالغلاة، وإما لأنهم ينكرون ما ثبت بضرورة الدين، كالنواصب والخوارج.

لقد وقف الإمامية موقفاً وسطاً بين هؤلاء بالنسبة إلى أهل البيت، فهم لا يعادون، ولا يغالون، بل يوالون ويودون، كما أمر اللّه والرسول، وكما قال امير المؤمنين: هلك فيّ صنفان: محب مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق، وخير الناس فيّ حالاً النمط الأوسط.

هذي عقيدة الشيعة، وهذه أقوالهم يوجبون التوارث والتزاوج، وسائر الأحكام الإسلامية بين أهل القبلة جميعاً، ولا يستثنون إلا من استثناه القرآن الكريم، والسنة النبوية، ومع ذلك نقرأ بين الحين والحين، لبعض الأقلام الجاهلة، أو المأجورة، أن الإمامية يكفرون جميع المسلمين، وأن الشيعة بعامة يغالون في أئمتهم، ويجعلونهم آلهة أو شبه آلهة.

الخوارج والنواصب:

اتفق السنة والإمامية بكلمة واحدة على أن الغلاة الذين ألهوا علياً، أو غيره ليسوا مسلمين،

١٠١

أما الذين نصبوا العداء لأهل البيت، ومنهم الخوارج الذين كفروا علياً فهم تماماً كالغلاة عند الإمامية، لا يجري عليهم حكم الإسلام.

وقال جمهور من علماء السنة: لا يكفر أحد من أهل القبلة، فقد جاء في كتاب «المواقف» وشرحه ج ٨ ص ٣٣٩ ما نصه بالحرف:

«جمهور المتكلمين والفقهاء على أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة، فإن الشيخ أبا الحسن قال في أول كتاب «مقالات الإسلاميين»: اختلف المسلمون بعد نبيهم في أشياء ضلل بعضهم بعضاً، وتبرأ بعضهم من بعض، فصاروا فرقاً متباينين إلا أن الإسلام يجمعهم ويعمهم. فهذا مذهبه، وعليه أكثر أصحابنا أي السنة».

وفي ص ٣٤٤ رد على من قال بكفر الروافض والخوارج، لأنهم قدحوا في الصحابة، وقال بكل صراحة ووضوح إن ذلك لا يستدعي كفرهم.

ونتساءل: إذا كان هذا قول أبي الحسن الأشعري، وهو إمام السنة، ومنه يأخذون عقائدهم، وهذا حكمه على الخوارج والروافض الذين قدحوا في الصحابة، فكيف ساغ لبعض شيوخ السنة الذين يزعمون أنهم على مذهب أبي الحسن الأشعري، كيف ساغ لهم أن يكفروا الشيعة لا لشيء إلا لمجرد التهمة بأنهم يسبون الصحابة ؟!

الإيمان والولاء:

قلنا إن الإيمان بمعناه الخاص لا يتحقق بمجرد النطق بالشهادتين، بل لا بد أن يضاف إليه التصديق في القلب، والعمل بالأركان من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت. وقد زاد الإمامية ركناً آخر على هذه الأركان، وهو الولاء لآل الرسول مستندين إلى ما رواه الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري عن الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال كرد علي في كتاب «خطط الشام» ج ٦ ص ٢٥١ طبعة ١٩٢٨:

«قال أبو سعيد الخدري: أمر الناس بخمس، فعملوا بأربع، وتركوا واحدة. ولما سئل عن الأربع؟ قال: الصلاة والزكاة وصوم رمضان والحج. قيل: فما الواحدة التي تركوها ؟ قال: ولاية علي بن أبي طالب. قيل له: وإنها المفروضة معهن ؟ قال: نعم هي مفروضة معهن».

وقال الإمام الصادق: الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس، والإيمان هو معرفة هذا الأمر. وقال: بني الإسلام على خمس: الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية. أي بعد الإقرار بالشهادتين، حيث لا يقبل أي عمل بدونه.

١٠٢

وبهذا يتبين أن الولاء - عند الإمامية - ركن من أركان الإيمان، لا من أركان الإسلام، فغير الموالي مسلم، ولكنه غير شيعي، وبكلمة إن الولاء عندهم من أصول المذهب، لا من أصول الدين.

وبهذه المناسبة نشير إلى أن الإمامية حين يقولون في كتب الفقه: تعطى الزكاة للمؤمن، ويصلى خلف المؤمن فإنهم يريدون به خصوص الإمامي الاثني عشري، وقد أجازوا الوقف والوصية، وإعطاء الصدقات غير الواجبة، أجازوا إعطاءها للمسلمين وغير المسلمين، الفقراء منهم والأغنياء على السواء. وقد روي عن أهل البيت جواز الصدقة على اليهودي والنصراني والمجوسي.

الأئمة الاثنا عشر:

قال الشهيد الثاني في رسالة «حقائق الإيمان»:

«إن التصديق بإمامة الاثني عشر إماماً أصل من أصول الإيمان عند الطائفة المحقة الإمامية، حتى أنه من ضرورات مذهبهم، دون غيرهم، فإنه عندهم من الفروع، ثم إنه لا ريب أنه يشرط التصديق بكونهم أئمة يهدون بالحق، وبوجوب الانقياد إليهم في أوامرهم ونواهيهم، إذ الغرض من الحكم بإمامتهم ذلك، فلو لم يتحقق التصديق بذلك لم يتحقق التصديق بكونهم أئمة معصومين مطهرين عن الرجس، كما دلت عليه الأدلة العقلية والنقلية، والتصديق بكونهم منصوصاً عليهم من اللّه تعالى ورسوله.

وإنه لا يصح خلو العصر عن إمام منهم، وإن خاتمتهم المهدي صاحب الزمان، وإنه حي إلى أن يأذن اللّه».

ويكتفي الشهيد الثاني أن يعتقد الشخص بإمامة من مضى من الأئمة إلى إمام زمانه، فمن كان في عهد أمير المؤمنين يكفيه الإيمان بإمامته وحده، ومن كان في زمن الحسن يكفيه الإيمان بإمامة الاثنين، وهكذا يعتقد الإنسان بإمامة من تقدم، وإن لم يعتقد بإمامة الباقين الذين وجدوا، وانتهت إليهم الإمامة بعد انقراض زمن السابق.

ثم قال: «اعلم أن من مشاهير الأحاديث بين السنة والشيعة أن من مات، ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهلية، ونحن بحمد اللّه نعرف إمام زماننا في كل وقت، فلم يمت أحد من الإمامية ميتة جاهلية، بخلاف غيرنا، فإنهم لو سئلوا عن إمام زمانهم لسكتوا، ولم يجدوا إلى الجواب سبيلاً.

أما قول بعضهم: إن إمامهم القرآن العزيز، فلا يلتفت إليه، لأن القرآن قد نطق بأن الإمام غيره، قال عز من قائل: «أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم» على أنه لو سلم ذلك

١٠٣

للزم اجتماع إمامين في زمان واحد، وهو باطل بالإجماع منا ومنهم، كما صرحوا به في كتب أصولهم. ذلك أنهم قالوا بأئمة الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي في وقت وجود القرآن فيلزم ما ذكرناه من اجتماع إمامين في وقت واحد».

الإمامَة بَين شَيْخ الشِّيعَة وَشَيْخ المُعتَزلة

ألف القاضي عبد الجبار شيخ المعتزلة كتاباً أسماه «المغني» بذل فيه نشاطاً بالغاً لتفنيد أقوال الإمامية في الإمامة، وأورد فيه من الشبهات ما أسعفه الفكر والخيال، وقد انطوى الكتاب على أخطاء، وتمويهات تخدع البسطاء والمغفلين، فتصدى لنقضه الشريف المرتضى في كتاب ضخم أسماه «الشافي»، وقد جاء فريداً في بابه، وصورة صادقة لمعارف المرتضى ومقدرته، أو لمعارف علماء الإمامية وعلومهم في زمنه - على الأصح -. عالج المرتضى مسألة الإمامة من جميع جهاتها، كمبدأ ديني، واجتماعي وسياسي.

وأثبت بدليل العقل والنقل الصحيح أنها ضرورة دينية، واجتماعية، وأن علياً هو الخليفة الحق المنصوص عليه بعد الرسول، وأن من عارض وعاند فقد عارض الحق والصالح العام. ذكر الشريف جميع الشبهات التي قيلت، أو يمكن أن تقال حول الإمامة، وأبطلها بمنطق العقل والحجج الدامغة، كما أشار إلى فضائل الإمام، ومثالب غيره.

ولا أغالي إذا قلت: إن كتاب الشريف هو أول كتاب شافٍ كافٍ في الدراسات الإسلامية الإمامية، بحيث لا يستغني عنه من يريد الكلام في هذا الموضوع، وبحثه بحثاً موضوعياً. وليس من شك أن العلامة الحلي قد عنى كتاب «الشافي» حين قال مقرظاً الشريف: «بكتبه استفاد الإمامية منذ زمنهرحمه‌الله إلى زماننا - بل وإلى آخر زمان - وهو أي الشريف ركنهم ومعلمهم قدس اللّه روحه، وجزاه عن أجداده خيراً».

والشيء الذي يؤسف له هذا الداء الساري في جميع كتبنا نحن الإمامية من رداءة الطباعة، وسوء الإخراج، وعدم الترتيب والتبويب. بخاصة كتاب «الشافي» فإنه على ضخامته - يبلغ ألف صفحة أو أكثر بقطع هذا الكتاب - لا يعرف له أول من آخر لولا الابتداء بالبسملة، والانتهاء بسؤال التوفيق. فقد دمج قول القاضي والشريف، حتى كأنهما حرفان متماثلان قد أدغم أحدهما بالآخر، أو خيوط من نسيج قد حيك منها ثوب واحد.

١٠٤

واليوم نشاهد نشاطاً ملحوظاً لإحياء التراث القديم، ونشره بحلة جديدة(١) وليس من شك أن حركة النشر ستشمل كتاب «الشافي» الكافي، وتخرجه إخراجاً جميلاً، ولو عرف الناشرون والقراء قيمة هذا الكتاب، وما فيه من كنوز وحقائق لاستبقوا إليه، ولم يفضلوا عليه كتاباً أي كتاب.

ومن المفيد أن نذكر أمثلة من فوائده الجمة بعبارة أوضح وأصرح، مع ما يناسب المقام من التنبيه والتعليق.

النبي والإمام:

قال القاضي في كتاب «المغني»: إن العصمة والأفضلية على الناس أجمعين من صفات النبي، فلو أعطيت للإمام لكان نبياً.

قال الشريف المرتضى في كتاب «الشافي»: لم يكن النبي نبياً، لأنه أفضل ومعصوم، وكفى، بل لأنه يؤدي عن اللّه بلا واسطة، أو بواسطة الروح الأمين، والإمام، وان كان معصوماً وأفضل فإنه يؤدي عن النبي، لا عن اللّه فالفرق موجود وظاهر.

الإمام والكون:

قال القاضي: إن من الإمامية من يقول: لولا الإمام لما قامت السماوات والأرضون، ولما قبل من عبدٍ عملاً.

قال الشريف: إن هذا القول لا نعرفه لأحد من الإمامية قديماً وحديثاً.

_____________________

(١) لا أرى رجلاجاً مفيداً لهذه النشرات والهجمات المتوالية على الشيعة والتشيع في أيامنا هذه إلا بنشر تراث المفيد والشريف والحلي والطوسي بحلة جديدة مع شرحها أو التعليق عليها، وأن يتفرغ أيضاً للكتابة في الموضوعات الشيعية عشرون عالماً على الأقل، لهم الكفاءات والمؤهلات للتأليف بلغة العصر وتفكيره، على أن يقفل باب الكتابة والتأليف في وجه المتطفلين والمشوهين.

١٠٥

التشيع والإلحاد:

قال القاضي: إن كثيرين ممن أظهروا التشيع وناصروه كانوا ملحدين، ومن أعدى أعداء الإسلام، غير أنهم تستروا وتسلقوا بالإسلام لغاية الكيد والطعن، إذ لو أظهروا الإلحاد لم يقبل منهم.

نطق القاضي عبد الجبار بهذه الفرية في القرن الرابع الهجري، وهو أعدى أعداء الشيعة والتشيع، قالها بقصد الكيد والتنكيل. وبعد ألف سنة أو أكثر اعتمدها أحمد أمين، وقال في فجره وضحاه: كل من أراد الكيد للإسلام كان يتستر باسم التشيع. استقى أحمد أمين وغيره آراءهم في الشيعة من أعداء الشيعة، دون أن يرجعوا إلى مصادر الشيعة، ودون أن يمحصوا ويحققوا أقوال خصومهم فوقعوا في الأخطاء الفاحشة عن قصد أو غير قصد. وإذا كانت هذي حال مؤلفات أحمد أمين ومن إليه تستقي رأيها في عقيدة الشيعة من خصوم الشيعة، وتقبل الادعاء بلا بينة فهل يجوز أن يعتمدها من يطلب الحقيقة، ويتوخى الصواب ؟

والذي ظهر لي بالتتبع، واعتقدته بالدليل أن الذي حمل عبد الجبار وغيره على هذه الفرية أنهم حين عجزوا عن رد، وإبطال ما قاله الشيعة في الإمامية لجأوا إلى هذا الكذب والاختلاق، شأنهم في ذلك شأن كل مبطل ضعيف يتذرع بالحيل، وسبل التضليل.

ومما رد به الشريف على القاضي بأنه لا يجوز بحال أن نضيف الإلحاد إلى من لم يتظاهر به، ولو جازت نسبة الإلحاد إلى أحد من رجال الشيعة لجازت نسبته إلى القاضي عبد الجبار، وإلى أبي الهذيل والجاحظ الذي اختلطت أقواله، وتضاربت مؤلفاته تضارباً يدل على شك عظيم، وإلحاد شديد، وقلة تفكير واكثراث بالدين.

وأضيف إلى قول الشريف بأن كتب الجاحظ لو كانت لعالم من الشيعة لاتخذ الخصوم منها دليلاً وذريعة إلى ضلال التشيع، وكفر الشيعة إطلاقاً، وجعلوها أعظم وأشهر من قميص عثمان.

النص على أمير المؤمنين:

قسم الشريف النص على أمير المؤمنين علي إلى قسمين: نص بالفعل والقول، ونص بالقول فقط، ثم النص الثاني قسمه إلى قسمين: نص جلي، وآخر خفي، قال:

«ورد النص بالإمامة على أمير المؤمنين بعد النبي، ودل على وجوب طاعته، ولزومها لكل مكلف، وينقسم النص عندنا في الأصل إلى قسمين: أحدهما يرجع إلى الفعل، ويدخل فيه القول، والآخر إلى القول دون الفعل.

١٠٦

فأما النص بالقول والفعل فهو ما دلت عليه أفعالهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأقواله المبينة لأمير المؤمنين من بين الأمة الدالة على استحقاقه من التعظيم والإجلال، والاختصاص بما لم يكن حاصلاً لغيره، كمؤاخاته، وإنكاحه سيدة النساء ابنته، وإنه لم يولِّ عليه أحداً من الصحابة، ولا ندبه لأمر، أو بعثه في جيش إلا كان هو الوالي عليه، والمقدم فيه، وإنه لم ينقم عليه مع طول الصحبة، وتراخي المدة شيئاً، ولا أنكر منه فعلاً، ولا استبطأه في صغير ولا كبير من الأمور، مع كثرة ما توجه منهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى جماعة من الأصحاب من العتب تصريحاً، أو تلويحاً، وقوله فيه علي مني وأنا من علي، وعلي مع الحق، والحق مع علي، واللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر، إلى غير ذلك من الأقوال والأفعال الظاهرة التي لا يخالف فيها ولي ولا عدو، وذكر جميعها يطول، وكل هذه الأفعال والأقوال تشهد باستحقاقه الإمامة، ونبهت على أنه أولى بمقام الرسول، لأنها كما دلت على التعظيم والاختصاص فقد دلت أيضاً على قوة الأسباب إلى أشرف الولايات، لأن من كان أعظم فضلاً، وأعلى في الدين مكاناً فهو أولى بالتقديم، وأقرب وسيلة إلى التعظيم، ولأن العادة فيمن يرشح لشريف الولايات، ويؤهل لعظيمها أن يصنع به، وينبه عليه ببعض ما ذكرناه.

أما النص بالقول دون الفعل فينقسم إلى قسمين: جلي، كقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله سلموا على علي بإمرة المؤمنين، وهذا خليفتي فيكم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا(١) .

وأما النص الخفي فكقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، ومن كنت مولاه فعلي مولاه. والفرق بين النص الجلي والنص

_____________________

(١) انظر تاريخ الطبري وتفسيره، والبغوي والثعلبي في تفسيره، والنسائي في خصائصه، وصاحب السيرة الحلبية (أعيان الشيعة ج ٣ قسم أول ص ١١٠).

١٠٧

الخفي أن الأول يعلم منه المعنى بالضرورة، وبدون حاجة إلى الاستدلال والمقدمات، كما لو قلت: هذا أخي. فإنه يدل على الأخوة ابتداء وبلا واسطة، والثاني يحتاج إلى الاستدلال وترتيب مقدمات، كما لو قلت: أنا وأنت كالحسنين. والحسنان أخوان فنحن أخوان.

وقال القاضي معترضاً على وجود النص: لو كان النص من النبي على علي موجوداً حقاً لعلم به جميع المسلمين بالضرورة تماماً كما علموا بنبوة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله التي لم يختص العلم بها بفريق دون فريق من المسلمين، ولا يمكن بحال أن يخفى هذا النص، ولا يظهر للناس كالشمس، لأنه تماماً كالنص على وجوب الصلاة إلى الكعبة، وصوم شهر رمضان، وما إليه من النصوص التي وجدت وعلمت بالضرورة، ولم يقع فيها شك ولا ريب، وبكلمة إن عدم علم الجميع بالنص دليل على عدمه.

وتتجلى عظمة الشريف في الجواب عن هذه الشبهة التي تشدق بها الأولون، وورث الاجترار بها المتأخرون. ويتلخص جوابه رضوان اللّه عليه بما يلي:

١ - لا نسلم أن وجود النص على الإمام يستدعي علم المسلمين جميعاً بالضرورة، فلقد نص النبي على أشياء كثيرة خفيت علينا أحكامها، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله يتوضأ في كل يوم بمرأى من المسلمين، حتى كرر الوضوء أمامهم ألوف المرات، ومع ذلك اختلف السنة والشيعة في كيفية الوضوء، ووجوب غسل الرجلين ومسحهما، فقال الأولون بالأول، والآخرون بالثاني. ولو كان خفاء النص محالاً لما وقع الخلاف. وإذا جاز أن يكون النص موجوداً على الغسل ومتواتراً مع خلاف الشيعة جاز أن يكون النص على الإمام موجوداً ومتواتراً مع خلاف السنة. وكل ما يقال في حق الشيعة من المكابرة، أو دخول الشبهة عليهم يقال ذلك في حق السنة بالنسبة إلى وجود النص على الإمام، والفرق اعتباط وتحكم.

٢ - إن أبا حنيفة لم يثبت عنده إلى ١٧ حديثاً، وإن فرقة من الخوارج أبطلت كل حديث يخالف مذهبها، ولم تسلم بأي حديث إلا عن الوجه الذي تذهب إليه. فهل يدل هذا على أن النبي لم يحدث إلا ١٧ حديثاً، أو أنه لم يحدث إلا بما يتفق مع مذهب هؤلاء الخوارج ؟

٣ - إنه لا غرض لأحد في إخفاء، أو تكذيب النص على الكعبة، وإيجاب الصوم، وما إليه لا في عهد الخلفاء الأولين، ولا في عهد الأمويين والعباسيين، لأن هذا النص لا يتصل بالسياسة والمسوس من قريب أو بعيد.

١٠٨

أما النص على علي بالخلافة فإنه إبطال صريح لرياسة من تقدم وتأخر، والحكم بظلمه وعدوانه، لذا كان راويه معرضاً للتكذيب والتعذيب، كما حدث بالفعل لأبي ذر وعمار وميثم التمار وحجر بن عدي، وعمر بن الحمق وغيرهم. إذن قياس النص على الإمام بالنص على الكعبة ونحوه قياس مع وجود الفارق، لأن دواعي الظهور متوافرة في الثاني، دون الأول، بل قد توافرت فيه دواعي الخفاء بكاملها، كحسد الإمام على عظمته ومنزلته من اللّه والرسول، والحقد عليه لما فعل، ولمن قتل على الشرك من أقارب المنكرين وأرحامهم يوم بدر وأحد والأحزاب وحنين.

ولاية علي:

قال القاضي: إن النصوص التي استدل بها الشيعة كلها خفية لا تدل صراحة على خلافة علي وإمامته، بل تحتمل التأويل والتفسير بخلاف قصدهم. من ذلك قوله تعالى: «إنما وليكم اللّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون»، حيث نزلت بعلي حين تصدق بخاتمه، وهو راكع.

ومن السنة قول النبي يوم الغدير «من كنت مولاه فعلي مولاه»، فمن الجائز أن يريد بالولي في الآية والحديث الحب والمودة دون الحكم والسلطان.

وقد ردد هذا القول شيوخ من بعد عبد الجبار تقليداً وتعصباً لأسلافهم، واتخذوا من أقوالهم حجة ودليلاً.

وقال الشريف: إن عدم ثبوت النص الجلي عند القاضي عبد الجبار وأمثاله من خصوم الشيعة لا يستدعي عدم صدوره عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا عدم ثبوته عند العلماء المنصفين، إذ المعول في ثبوت النص على نقل الثقات الذين تثبت السنة النبوية بنقلهم، وقد نقل لنا وللأجيال من لا يشك بصدقه النصوص الجلية الواضحة، كحديث أيكم يبايعني يكن أخي ووصيي وخليفتي عليكم، وقول علي أنا يا رسول اللّه، وجواب النبي له أنت أخي ووصيي وخليفتي. وذلك حين نزل قوله سبحانه وتعالى «وأنذر عشيرتك الأقربين».

أما الولاية في الآية المتقدمة فيتعين حملها على الطاعة وتدبير الشؤون بدليل أنك إذا قلت: فلان ولي هذه المرأة يفهم من قولك هذا أنه يملك العقد عليها، وإذا قلت: هؤلاء أولياء المقتول فمعناه أنهم الذين يحق لهم المطالبة بدمه، وكذلك إذا قلت: هذا ولي الرعية، وولي عهد المسلمين يفهم أنه يدير أمورهم، ويدبر شؤونهم، وحمل اللفظ على غير هذا المعنى الظاهر يحتاج إلى دليل، وهو منفي في الآية الكريمة، فيتعين تفسير الولاية بالمعنى الظاهر، وهو الحكم والسلطان.

١٠٩

أما حديث الغدير فإن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل أن يقول: من كنت مولاه إلخ.. استخرج من أمته الإقرار بفرض الطاعة له، وذلك حيث قال أولاً: ألست أولى بكم من أنفسكم، وهذا القول وإن كان مخرجه الاستفهام فإن المراد به التقرير، تماماً كقوله تعالى: «ألست بربكم» فلما أجابوه بالاعتراف رفع بيد أمير المؤمنين، وقال عطفاً على ما تقدم: «فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله».

فوجب، والحال هذه، أن يريد المعنى المتقدم الذي قررهم به، كما يقتضيه سوق الكلام، واستعمال أهل اللغة وعرفهم في خطاباتهم وأساليبهم، وإذا ثبت أنه أراد ما ذكرناه من كون أمير المؤمنين أولى بالإمامة من أنفسهم، فقد وجبت له الإمامة من فرض طاعته عليهم، ونفوذ أمره ونهيه فيهم.

دُول الشِّيعَة

أشرنا في مطاوي ما تقدم إلى أن الفتوح الإسلامية كان القصد الأول منها السيطرة، وامتداد السلطان، وإيجاد أرض للمسلمين يعيشون فيها أغنى من أرضهم، وتربة أخصب من تربتهم، وأن انتشار الإسلام يستند قبل كل شيء إلى تعاليمه ومبادئه الإنسانية، وإذا كان للدولة من تأثير فهو التمهيد والتيسير، حيث لا يعيش معتنقو الدين الجديد في قلق وخوف من أجل دينهم وعقيدتهم. اللهم إلا إذا اعتنقوا مذهب التشيع، وأعلنوا الولاء لعلي وأهل بيته، بخاصة في عهد الأمويين.

حاول الأمويون القضاء على التشيع كلية، وأراد العباسيون أن يحدوا من نموه وانتشاره بعد العجز واليأس عن استئصاله، ولكنه نما وازدهر، رغم هذه العوائق، ثم مضى الزمن، وقامت هنا وهناك دول للشيعة، منها دولة الأدارسة في المغرب ودولة العلويين في الديلم. والبويهيين في العراق وغيرها، والحمدانيين في سورية، والفاطميين في مصر، والصفويين في إيران.

وسنشير فيما يلي إلى كل واحدة من هذه الدول، وما كان لها من تأثير في انتشار التشيع، والموضوع، كما ترى، طويل عريض، يقتضي بحثاً مفصلاً. ولكنا سنكتفي بالقدر الذي يجعل القارئ على علم بمكان هذه الدول في التاريخ.

١١٠

دَولَة الأدَارسَة

كان من ظلم العباسيين، ومطاردتهم لأبناء علي أمير المؤمنين أن خرج بالمدينة الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن السبط ابن علي بن أبي طالب، وكان معه جماعة من أهل بيته، منهم إدريس، ويحيى، وسليمان بنو عبد اللّه بن الحسن، فاشتد أمر الحسين في بدء الأمر، وطرد من المدينة عامل الهادي العباسي حفيد المنصور، وبايع الناس الحسين على كتاب اللّه وسنة نبيه، وأقام وأصحابه بالمدينة أياماً يتجهزون، ثم خرجوا إلى مكة للحج، فقابله هناك جيش الحاكم العباسي يوم التروية الثامن من ذي الحجة، فقتل الحسين وجماعة من أهل بيته وأصحابه، وجمعت رؤوسهم فكانت مائة ونيفاً، وكان بينها رأس سليمان بن عبد اللّه بن الحسن المثنى، وكان مقتلهم بموضع يقال له فخ على ثلاثة أميال من مكة سنة ١٦٩ هجري، وإلى ذلك يشير دعبل في تائيته الذائعة النائحة، كما قال عبد الرحمن الشرقاوي:

أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي

نجوم سماوات بأرض فلاة

قبور بكوفان وأخرى بطيبة

وأخرى بفخ نالها صلوات

يحيى:

أما يحيى فإنه فر من الوقعة المذكورة إلى بلاد الديلم(١) ، ودعا الناس إلى بيعته فبايعوه، واشتد أمره، وقويت شوكته، فجهز له الرشيد جيشاً ضخماً بقيادة الفضل بن يحيى البرمكي، فكاتبه الفضل، وبذل له الأمان، وكل ما يختار فآثر حقن الدماء، وأجاب الفضل بعد أن أخذ اليمين المغلظة من الرشيد بخطه، وأشهد العلماء والأكابر، وحضر يحيى إلى بغداد، فأكرمه الرشيد،

_____________________

(١) تقع بلاد الديلم على شواطئ بحر قزوين، وتشمل كوكان ومازندران، وطرفاً من رشت.

وأعطاه مالاً كثيراً، ثم غدر به.

١١١

إدريس:

وأما إدريس بن عبد اللّه بن الحسن فإنه فر من وقعة فخ إلى مصر، وكان على بريدها يومئذ رجل يتشيع لآل البيت، اسمه واضح، فعلم بإدريس، فأتاه إلى الموضع الذي كان مستخفياً فيه، وعرض عليه خدماته، ولم ير شيئاً أخلص له من أن يحمله على البريد إلى المغرب، ففعل، ولحق إدريس بالمغرب الأقصى(١) فنزل بمدينة تدعى «وليلة»، وكان فيها عامل للعباسيين اسمه إسحاق بن محمد بن عبد الحميد، فأجار إدريس وأكرمه وخلع طاعة العباسيين، وانتهى الخبر إلى الرشيد بما فعله واضح في شأن إدريس، فقتله وصلبه.

واجتمعت عليه القبائل من كل وجه ومكان، وكان أول من بايعه قبيلة أوربة، وهي يومئذ من أعظم قبائل البربر بالمغرب الأقصى، وأكثرها عدداً، ثم تلتها سائر القبائل، فبايعوه ودخلوا في طاعته، وعظموه وقدموه على أنفسهم، فاستتب أمره، وتمكن سلطانه.

الغزو:

ولما تم له الأمر اتخذ جيشاً كثيفاً من وجوه البربر الأشداء، وخرج غازياً بلاد تامسنا، وبلاد تادلا، ففتح المعاقل والحصون، وكان أكثر أهل هذه البلاد على دين اليهودية والنصرانية، فأسلم جميعهم على يده.

ثم رجع إلى عاصمته «وليلة» واستراح برهة، ثم استأنف الغزو على من بقي من قبائل البربر على غير دين الإسلام، وكانوا متحصنين في المعاقل والجبال المنيعة، فلم يزل يجاهدهم، ويستنزلهم من معاقلهم، حتى دخلوا في الإسلام.

وقفل راجعاً إلى مقره ريثما استراح جيشه، ثم كرّ غازياً على تلمسان، فخرج إليه صاحبها مستأمناً ومبايعاً، فأمنه إدريس، وقبل بيعته، ودخل المدينة، وبنى فيها مسجداً متقناً، وأمر بعمل منبر نصبه فيه، وكتب عليه: «بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما أمر به الإمام إدريس بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي

_____________________

(١) المغرب الأقصى مراكش، والمغرب الأوسط الجزائر، أما تونس فتعد من إفريقيا.

١١٢

ابن أبي طالب، وذلك في صفر سنة ١٩٤» قال ابن خلدون: «واسم إدريس مخطوط في صفحة المنبر لهذا العهد».

وبلغت أخبار إدريس هارون الرشيد ببغداد، فخاف عاقبة ذلك، وأيقن أنه إذا لم يتدارك أمره الآن عجز عنه في المستقبل، وغزاه في عقر داره مع ما يعلم من فضل إدريس، ومحبة الناس لأهل البيت عموماً فدس إليه رجلاً يعرف باسم الشماخ، وزوده بالمال والسم، وأوصاه أن يتظاهر بالتشيع للعلويين، ويتقرب إلى إدريس بشتى الطرق، ثم يغتاله بالسم، ورحل الشماخ إلى إدريس مظهراً الهرب إليه فيمن هرب من جور الرشيد، فعطف عليه إدريس ورحمه، وكان الشماخ ممتلئاً من الأدب والظرف والبلاغة، فأنس به إدريس واطمأن إليه، وشكا إدريس ذات يوم من علة في أسنانه، فأعطاه الشماخ دواء مسموماً، ثم اختفى، فسقطت أسنان إدريس، ومات سنة ١٧٧ رحمة اللّه عليه، وقيل سنة ١٧٥.

وكان فاضلاً في ذاته مالكاً لشهواته، مؤثراً العدل، مقبلاً على أعمال البر(٢) .

إدريس الثاني:

مات إدريس، ولم يترك ولداً إلا حملاً من جارية بربرية، اسمها كنزة، وكان له مولى يدعى راشداً، وكان كاسمه عاقلاً أميناً، وشجاعاً كريماً، فجمع راشد رؤساء البربر، ووجوه الناس، وقال لهم: إن رأيتم أن تصبروا، حتى تضع هذه الجارية حملها، فإن كان ذكراً أحسنا تربيته، حتى يبلغ مبلغ الرجال، وبايعناه تمسكاً بدعوة آل البيت، وتبركاً بذرية الرسول، وإن كان انثى نظرتم لأنفسكم.

_____________________

(١) هذه الجملة وردت بالحرف في كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، وقال جرجي زيدان في الجزء الرابع من تاريخ التمدن الإسلامي: وتلقى الشيعة في المغرب إدريس وبايعوه. يدل هذا على أن التشيع كان في المغرب منذ وصول الإسلام إليه.

(٢) الجزء الأول من كتاب «البيان المُغرب في أخبار المَغرب» لابن عذاري المراكشي، والجزء الأول من «الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى» لأبي العباس الناصري، وكتاب «مختصر تاريخ العرب» للسيد مير علي.

١١٣

فقالوا له: ما لنا رأي إلا ما رأيت، وأنت عندنا عوض عن إدريس، حتى تلد الجارية حملها، ويكون ما أشرت، على أنها إن وضعت جارية كنت أحق الناس بهذا الأمر، لفضلك وعلملك ودينك.

وولدت الجارية ذكراً، فسماه راشد إدريس، وقام بأمره أحسن قيام، فأقرأه القرآن، حتى حفظه، وهو ابن ثماني سنوات، ثم علمه الحديث والسنة والفقه والعربية، ورواه الشعر وأمثال العرب، وعرفه أيام الناس والملوك، ودربه على ركوب الخيل والرمي بالسهام، ولم يمض له من العمر ١١ سنة إلا وقد اضطلع بما حمل، وترشح للأمر، وبايعه البربر عن طاعة منهم وإخلاص.

ولما استقام أمر المغرب لإدريس الثاني وفدت عليه الوفود من سائر البلدان، وتسامع به العرب، فأقبلوا إلى حضرته من إفريقيا والأندلس ملتفين حوله، حتى اجتمع لديه منهم ٥٠٠ فارس من قيس والأزد ومذحج وغيرهم، فأكرم وفادتهم، وأجزل صلتهم، وأدنى منزلتهم، وأسند إليهم الكثير من مناصب الدولة.

مدينة فاس:

لما كثرت الوفود على إدريس الثاني من العرب وغيرهم، وضاقت بهم مدينة «وليلة» بنى مدينة فاس، وأنشأ فيها المدارس والجوامع والأسواق، وأمر الناس بالبناء، وقال: من بنى موضعاً أو غرسه فهو له، فبنى الناس كثيراً، وغرسوا كثيراً، ووفد عليه جماعة من الفرس، فأكرمهم وأنزلهم بغيضة هناك بنوا فيها واستوطنوا.

ولما فرغ من بناء المدينة ذهب في الجمعة الأولى إلى الجامع، وصعد المنبر يخطب الناس، ورفع يديه في آخر الخطبة، وقال:

«اللهم إنك تعلم أني ما أردت ببناء هذه المدينة مباهاة ولا مفاخرة، ولا رياء، ولا سمعة، ولا مكابرة، وإنما أردت أن تعبد بها، ويتلى بها كتابك، وتقام بها حدودك، وشرائع دينك، وسنة نبيك ما بقيت الدنيا. اللهم وفق سكانها للخير، وأعنهم عليه، واكفهم مؤونة أعدائهم، وأدرر عليهم الأرزاق، واغمد عنهم سيف الفتنة والشقاق. إنك على كل شيء قدير».

فأمن الناس على دعائه، فكثرت الخيرات بالمدينة، وظهرت البركات.

ومن محاسن فاس أنها كثيرة الأشجار، يشقها نهر نصفين، وتتشعب منه جداول تجري في الدور والحمامات والشوارع والأسواق، وفي أكثر بيوتها تتفجر العيون، وتنبع الينابيع بداخلها، واتخذت فاس عاصمة الملك، وكان ابتداء بنائها سنة ١٩٣.

١١٤

الغزو:

لما فرغ إدريس من بناء مدينة فاس، واتخذها دار ملكه اتجه إلى الغزو، فذهب إلى بلاد المصامدة واستولى عليها، وأبدى إدريس من البسالة والمهارة ما حير الألباب، قال بعض من شهد معه الغزاوات، حاربنا الخوارج الصفرية من البربر، وكانوا ثلاثة أضعافنا، فلما تقارب الجمعان نزل إدريس، فتوضأ، وصلى ركعتين، ودعا اللّه، ثم تقدم للقتال. فأعجبني ما رأيت من ثباته، وقوة جأشه، فالتفت نحوي، وقال: مالي أراك تديم النظر إليّ ؟ قال: أعجبني ما أراه من قلبك، وطلاقة وجهك عند اللقاء. قال إدريس: ذاك ببركة جدنا رسول اللّه، ووراثة من أبينا علي بن أبي طالب.

ومات إدريس الثاني سنة ٢١٣ وعمره نحو ٣٦ سنة، وترك ١٢ ذكراً، وهم: محمد، وعبد اللّه، وعيسى، وإدريس، وأحمد، وجعفر، ويحيى، والقاسم، وعمر، وعلي، وداود، وحمزة(١) .

محمد بن إدريس:

واعتلى كرسي الخلافة بعد إدريس الثاني ابنه محمد، وقسم بلاد المغرب بين

_____________________

(١) كتاب «الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى» ومن طريف ما حدث لي مع هذا الكتاب أني بقيت أياماً أبحث في المكتبات وسراديبها عن مصادر لهذا الفصل، وتمنيت لو أجد كتاباً خاصاً بدول المغرب، وكدت أيأس، مع أن عيني كانت تقع في كل يوم على هذا الكتاب الفريد في بابه. ولكني لم أعبأ به، لأنه كتب عليه لفظ «الاستقصاء» بالخط الطويل العريض، وأخبار دول المغرب بالحرف الصغير، وأنا لا أقرأ كل ما على الغلاف، وإنما أكتفي بالاسم الأول، فظننته أجنبياً عن موضوعي، إلى أن رأيت بعض الكتب ينقل عنه، فأسرعت إلى شرائه، وحين قرأته وجدت فيه ضالتي، وللّه الحمد، وآمنت بأن الاسم الأول، والأكبر للكتاب يجب أن يعبر عما فيه.

١١٥

إخوته، حيث أسند إلى كل واحد من الكبار إمارة من إمارات البلاد، وأبقى الصغار في كفالته، فنجحت سياسته هذه نجاحاً باهراً، إذ ظل جميع إخوانه موالين له إلى النهاية ما عدا عيسى والقاسم اللذين تغلب عليهما محمد، وعزلهما عن الإمارة. وتوفي محمد سنة ٢٢١ بعد أن عهد بالأمر لابنه علي.

علي بن محمد:

وسار علي بسيرة أبيه وجده في العدل، وظهرت عليه دلائل الذكاء والفضل، وحسنت في أيامه حال الرعية، وكانوا في أمن ودعة إلى أن توفي سنة ٢٣٤، وعهد بالأمر لأخيه يحيى بن محمد.

يحيى بن محمد:

وامتد سلطان يحيى بن محمد، وعظمت دولته، وحسنت آثاره، واستبحر عمران فاس، وبنيت فيها الحمامات والفنادق، ودخل إليها الناس من الثغور القاصية وبُني في عهده مسجد القرويين المعروف اليوم بجامعة القرويين، وهي جامعة دينية إسلامية تضم المئات من الطلاب، كجامعة النجف في العراق، والأزهر في مصر، وجامع الزيتونة في تونس، وتوفي يحيى بن محمد سنة ٢٦٤، وخلفه ابنه المسمى باسمه.

يحيى بن يحيى:

وأساء يحيى السيرة، وكثر عبثه ولهوه، فتغير عليه أهل فاس، ففر إلى الأندلس، حيث لاقى حتفه.

ولما عزل استولى على الحكم ابن عمه علي بن عمر الذي لم تطل أيامه، إذ اضطرته ثورة الخوارج إلى الفرار.

فبايع الناس يحيى حفيد إدريس الثاني، فنجح إلى حين في نشر سلطانه، وفي سنة ٣٠٥ زحف مصالة قائد عبيد اللّه المهدي الخليفة الفاطمي الأول، زحف إلى فاس وحاصرها، فصالحه يحيى على مال يؤديه إليه، وعلى البيعة لعبد اللّه المهدي، وخرج الملك من يده (الاستقصا ج ١).

وقال السيد مير علي في «مختصر تاريخ العرب»: إن سلطان الأدارسة توزع بين الفاطميين والأمويين بالأندلس، فالقسم الشرقي من مراكش سقط في أيدي الفاطميين، والغربي في أيدي الأمويين.

وللأدارسة في المغرب أعمال جليلة، فبهم انتشر الإسلام هناك، حتى بلغ أقاصي البلاد، وازدهرت العلوم والحضارة، وتحضر أهل البوادي والجبال، فلقد أنشأوا المدن الواسعة، وبنوا

١١٦

المساجد، وأقاموا الجامعات والكليات، وعم في عهدهم العدل والأمن والرخاء، قال المستشرق «سيديو» في كتاب «تاريخ العرب العام» ص ٢٧٨ طبعة ١٩٤٨:

«ظل الأدارسة قابضين على ما ملكوه من سنة ٨٠٣ إلى سنة ٩٤٩ م مقيمين في البلاد التي هي مدينة لهم بجليل الأعمال، فأسسوا مدينة فاس التي أضحى مسجدها مقدساً لدى جميع الأهالي المجاورين، ونال شهرة عظيمة في زمن قليل، واشتملت مدينة فاس على مدارس ومكتبات تساوقت هي والحركة العلمية التي حمل لواءها بنو العباس في المشرق، وغدت مستودعاً تجارياً واسعاً بين عرب إسبانيا وعرب إفريقيا».

دَولَة العَلويّين

في سنة ٢٥٠ ظهر في طبرستان الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وبايعه الناس، واستمر في الحكم ١٩ سنة، وبضعة أشهر وقام من بعده أخوه محمد، وبقي في الولاية ١٧ عاماً وبضعة شهور.

قال السيد الأمين في الجزء الخامس والأربعين من الأعيان ص ١٤١ طبعة سنة ١٩٥٩:

كان محمد هذا إذا افتتح الخراج نظر إلى بيت المال، وما فيه من خراج السنة الماضية ففرقه في قبائل قريش، ثم في الأنصار، وأهل القرآن والفقهاء، وسائر طبقات الناس، حتى لا يبقى منه درهم.

وفي ذات يوم جلس يوزع الأموال، فقام إليه رجل.

فقال له: من أي قبيلة أنت؟

قال: من بني عبد مناف.

قال محمد: من أي عبد مناف؟

قال الرجل: من بني أمية.

قال محمد: من أي رجل منهم؟ فسكت.

قال محمد: لعلك من ولد معاوية؟

قال الرجل: نعم.

قال محمد: فمن أي ولده؟ فسكت.

١١٧

قال: لعلك من ولد يزيد؟

قال الرجل: نعم.

فنظر العلويون إليه شزراً. فصاح بهم محمد، وقال: لعلكم تظنون أن في قتله إدراكاً لثأر أبي الحسين؟ إن اللّه سبحانه قد حرم أن تطالب نفس بغير ما كسبت. ثم أن محمداً حدث جلساءه بهذا الحديث:

قال: حدثني أبي عن أبيه ان المنصور كان بمكة في سنة من السنين، فعرضت عليه جواهر كانت عند هشام بن عبد الملك، فقال: بلغني أن عند محمد بن هشام جواهر غير هذه، وكان محمد بن هشام حاجاً في تلك السنة، فانتظر المنصور، حتى اجتمع الناس في الكعبة، فأمر وزيره الربيع أن يغلق جميع الأبواب، ويوكل بها من يطمئن إليه، ويبقي باباً واحداً، يقف عليه الربيع، ولا يدع أحداً يخرج إلا من يعرفه حق المعرفة، إما شخصياً، أو بشهود.

وفعل الربيع ذلك، وكان ابن هشام في الكعبة، فعرف أنه هو المطلوب، فذعر وخاف، واضطرب أيما اضطراب، فرآه محمد بن زيد بن علي بن الحسين على تلك الحالة، وهو لا يعرفه، فسأله عن شأنه، فقال الأموي: ألي الأمان إن أخبرتك؟

قال السيد العلوي: نعم، وأنت في ذمتي، حتى أخلّصك.

فقال الأموي: أنا محمد بن هشام بن عبد الملك، فمن أنت؟

قال العلوي: أنا محمد بن زيد بن علي بن الحسين.

فازداد خوف الأموي، وقال: عند اللّه أحتسب نفسي.

قال السيد العلوي: لا بأس عليك، وسأعمل لخلاصك، على أن تعذرني في مكروه أتناولك به.

قال الأموي: أنت وذاك.

فنزع السيد العلوي رداءه، وطرحه على رأس الأموي ووجهه، وأخذ يجره من خلفه، حتى إذا وصل إلى الباب، جعل العلوي يضرب رأس الأموي، ويقول للربيع: يا أبا الفضل إن هذا الخبيث جمّال من أهل الكوفة، أكراني جماله ذهاباً وإياباً، ولكنه هرب مني، وأكرى جماله لغيري، فأعطني رجلين يحرسانه، حتى يؤدي إليّ حقي. فأعطاه الربيع شرطيين، فمضيا معه، فلما بعد عن المسجد، قال له العلوي: يا خبيث تؤدي إليَّ حقي؟

١١٨

قال الأموي: نعم يا ابن رسول اللّه. فقال للحارسين: انطلقا عنه. ثم أطلقه، فقبل الأموي رأس العلوي، وقال: بأبي أنت وأمي، اللّه أعلم حيث

يجعل رسالته، ثم أخرج جواهر ودفعها إليه، وقال: أرجو أن تشرفني بقبولها.

قال: نحن أهل بيت لا نقبل على المعروف ثمناً، وقد تركت لك أعظم من هذا، وهو دم أبي زيد الذي قتله أبوك هشام، فانصرف ووارِ شخصك.

ولا بدع إذا عفا حفيد أمير المؤمنين عن ابن قاتل أبيه، فجده من قبل صفح عن ألد أعدائه ابن العاص، وابن أرطأة، وابن الحكم، وصاحبة الجمل، وأوصى بقاتله خيراً.

ولما توفي محمد بن زيد تولى من بعده الحسن بن علي بن الحسن بن عمر بن علي ابن الحسين المعروف بالأطروش، وأقام في الحكم ١٣ سنة يدعو إلى الإسلام، فأسلم على يده خلق كثير، وذهبوا مذهب التشيع، وبنى المساجد والمعابد(١) .

وفي كتاب «الأدب في ظل بني بويه» ص ١٥ أن أهل الديلم كانوا وثنيين، مع أن بلادهم افتتحت منذ عهد عمر بن الخطاب، وقد استمروا خاضعين للحكم الإسلامي مع بقائهم على وثنيتهم، حتى حل بينهم الحسن بن علي الأطروش، فدخلوا في الإسلام، واعتنقوا مذهب التشيع على يده.

وقال المسعودي في آخر الجزء الرابع من كتابه «مروج الذهب»: أقام الأطروش في الديلم والجبل سنين، وهم جاهلية، ومنهم مجوس، فدعاهم إلى اللّه، فاستجابوا، وأسلموا إلا قليلاً منهم في مواضع من بلاد الجبل، والديلم جبال شاهقة، وقلاع وأودية، ومواضع خشنة، وقد بنى الأطروش في بلادهم المساجد.

وقتل سنة ٣٠٤ هجري، فقام بعده صهره الحسن بن القاسم العلوي، وقتل سنة ٣١٦، وبه انتهت هذه الدولة العلوية التي استمرت ٦٧ سنة، وبسببها أسلمت وتشيعت بلاد الديلم.

_______________________

(١) تاريخ الشيعة للشيخ محمد الحسين المظفر.

١١٩

دَولَة البويهيّين

من هم بنو بويه:

إن قصة بني بويه تشبه الخرافات والأساطير، وأي إنسان يقرأ أن رجلاً فقيراً لا يملك، ولا يقدر على شيء وينقل الحطب على رأسه من الجبال إلى البيوت ليحصل على الرغيف يقفز من حاله هذه إلى الملك الطويل العريض، والسيطرة على بلاد العرب والعجم، أي إنسان يقرأ هذا، ولا يراه أسطورة وخرافة؟ ولكن هذا ما حصل بالفعل لآل بويه.

كان في أوائل القرن الرابع الهجري في بلاد الديلم رجل فقير يدعى «أبو شجاع بويه» ماتت زوجته، وخلفت له ثلاثة بنين، وهم أبو الحسن علي، وأبو علي الحسن، وأبو الحسن أحمد، فاشتد حزنه، وضاقت به الأرض، فقال له أحد أصحابه يعزيه ويسليه: ارفق بنفسك، وأولادك هؤلاء المساكين، ثم أخذه مع أولاده إلى منزله، وهيأ لهم الطعام، وشغل أبا شجاع عن مصابه وآلامه.

قال ابن الأثير في حوادث سنة ٣٢١:

فبينما هم كذلك إذ مر رجل يصيح ويقول عن نفسه: منجم، ومفسر للمنامات، ويكتب الرقى والطلسمات.

فدعاه أبو شجاع، وقال له: رأيت في منامي كأنني أبول، فخرج من ذكري نار عظيمة استطالت وعلت، حتى كادت تبلغ السماء، ثم صارت ثلاث شعب، وتفرع عن كل شعبة عدة شعب، فاضاءت الدنيا بتلك النيران، ورأيت البلاد والعباد خاضعين لها.

فقال المنجم: هذا منام عظيم لا أفسره إلا بخلعة.

فقال له أبو شجاع: واللّه لا أملك إلا الثياب التي على جسدي، فإن اخذتها

بقيت عرياناً.

قال المنجم: فعشرة دنانير.

قال أبو شجاع: واللّه لا أملك ديناراً واحداً.

قال المنجم: اعلم أنه يكون لك ثلاثة أولاد يملكون الأرض ومن عليها، ويعلو ذكرهم في الآفاق، كما علت تلك النار، ويولد لهم ملوك بقدر ما رأيت من تلك الشعَب.

فقال أبو شجاع: أما تستحي تسخر منا؟ أنا رجل فقير، وأولادي هؤلاء فقراء مساكين، فكيف يصيرون ملوكاً؟

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الموقف التاسع:

شروطهعليه‌السلام على المأمون لقبول ولاية العهد، وهي:

((أن لا يولي أحداً، ولا يعزل أحداً، ولا ينقض رسماً، ولا يغير شيئاً مما هو قائم، ويكون في الأمر مشيراً من بعيد)) (١) ، فأجابه المأمون إلى ذلك كله!!!.

وفي ذلك تضييع لجملة من أهداف المأمون.. إذ إن:

١ ـ السلبية تعني الاتهام:

فإن من الطبيعي أن تثير سلبيته هذه الكثير من التساؤلات لدى الناس، ولسوف تكون سبباً في وضع علامات استفهام كبيرة، حول الحكم، والحكام. وكل أعمالهم وتصرفاتهم، إذ إن السلبية إنما تعني: أن نظام الحكم لا يصلح حتى للتعاون معه، بأي نحو من أنحاء التعاون، وإلا فلماذا يرفض ـ حتى ولي العهد ـ التعاون مع نظام هو ولي العهد فيه، ويأبى التأييد لأي من تصرفاته وأعماله؟!.

____________

(١) الفصول المهمة، لابن الصباغ المالكي ص ٢٤١، ونور الأبصار من ص ١٤٣، وعيون أخبار الرضا ج ١ ص ٢٠، و ج ٢ ص ١٨٣، ومواضع أخرى، ومناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٣٦٣، وعلل الشرايع ج ١، ص ٢٣٨، وإعلام الورى ص ٣٢٠، والبحار ج ٤٩ ص ٣٤ و ٣٥، وغيرها، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٩، وإرشاد المفيد ص ٣١٠، وأمالي الصدوق ص ٤٣، وأصول الكافي ص ٤٨٩، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٦٨، ٢٦٩، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥.

٣٠١

٢ ـ رفض الاعتراف بشرعية ذلك النظام:

ولقد قدمنا: أن من جملة أهداف المأمون هو أن يحصل من الإمامعليه‌السلام على اعتراف ضمني بشرعية حكمه وخلافته، كما صرح هو نفسه بذلك (وليعترف بالملك، والخلافة لنا).

والإمام.. بشروطه تلك يكون قد رفض الاعتراف بشرعية النظام القائم. بأي نحو من أنحاء الاعتراف، ولم يعد قبوله بولاية العهد يمثل اعترافا بذلك، ولا يدل على أن ذلك الحكم يمثل الحكم الإسلامي الأصيل.

هذا.. وقد عضد شروطه هذه، بسلوكه السلبي مع المأمون، والهيئة الحاكمة، طيلة فترة ولاية العهد، يضاف إلى ذلك تصريحاته المتكررة، التي تحدثنا عنها فيما سبق.

٣ ـ النظام القائم لا يمثل وجهة نظره في الحكم:

والأهم من كل ذلك: أن شروطه هذه كانت بمثابة الرفض القاطع لتحمل المسؤولية عن أي تصرف يصدر من الهيئة الحاكمة. وليس للناس ـ بعد هذا ـ أن ينظروا إلى تصرفات وأعمال المأمون وحزبه، على أنها تحظى برضى الإمامعليه‌السلام وموافقته. ولا يمكن لها ـ من ثم ـ أن تعكس وجهة نظرهعليه‌السلام في الحكم ورأيه في أساليبه، التي هي في الحقيقة وجهة نظر الإسلام الصحيح فيه. الإسلام.. الذي يعتبر الأئمةعليه‌السلام الممثلين الحقيقيين له، في سائر الظروف، ومختلف المجالات..

وانطلاقاً مما تقدم: نراهعليه‌السلام يرفض ما كان يعرضه عليه المأمون، من: كتابة بتولية أو عزل إلى أي إنسان.. ويرفض أيضاً: أن يؤم الناس في الصلاة مرتين.. إلى آخر ما سيأتي بيانه.

وفي كل مرة كان يرفض فيها مطالب المأمون هذه نراه يحتج عليه بشروطه تلك، فلا يجد المأمون الحيلة لما يريده، وتضيع الفرصة من يده، ولا بد من ملاحظة: أنه عندما أصر عليه المأمون بأن يؤم الناس في الصلاة، ورأىعليه‌السلام : أنه لا بد له من قبول ذلك ـ نلاحظ ـ: أنه اشترط عليه أن يخرج كما كان يخرج جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا كما يخرج الآخرون..

٣٠٢

ولم يكن المأمون يدرك مدى أهمية هذا الشرط، ولا عرف أهداف الإمام من وراء اشتراطه هذا، فقال له ولعله بدون اكتراث: أخرج كيف شئت.. وكانت نتيجة ذلك.. أنهعليه‌السلام قد أفهم الناس جميعاً:

أن سلوكه وأسلوبه، وحتى مفاهيمه، تختلف عن كل أساليب ومفاهيم وسلوك الآخرين. وأن خطه هو خط محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنهاجه هو منهاج عليعليه‌السلام ، ربيب الوحي، وغذي النبوة، وليس هو خط المأمون وسواه من الحكام، الذين اعتاد الناس عليهم، وعلى تصرفاتهم وأعمالهم.

ولم يعد يستطيع المأمون، أن يفهم الناس: أن الحاكم: من كان، ومهما كان، هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته. وأن كل شخصية: من ومهما كانت، وإن كانت قبل أن تصل إلى الحكم تتخذ العدل، والحرية: والمساواة، وغير ذلك شعارات لها، إلا أنها عندما تصل إلى الحكم، لا يمكن إلا أن تكون قاسية ظالمة، مستأثرة بكل شيء، ومستهترة بكل شيء، ولذا فليس من مصلحة الناس أن يتطلعوا إلى حكم أفضل مما هو قائم، حتى ولو كان ذلك هو حكم الإمامعليه‌السلام المعروف بعلمه وتقواه وفضله الخ.. فضلاً عن غيره من العلويين أو من غيرهم ـ لم يعد يستطيع أن يقول ذلك ـ لأن الواقع الخارجي قد أثبت عكس ذلك تماماً، إذ قد رأينا: كيف أن الإمامعليه‌السلام بشروطه تلك، وبسائر مواقفه من المأمون ونظام حكمه.. يضيع على المأمون هذه الفرصة، ولم تجده محاولاته فيما بعد شيئاً، بل إن كثيراً منها كان سوءا ووبالاً عليه، كما سيأتي.

٤ ـ لا مجال بعد للمأمون لتنفيذ مخططاته:

ولعل من الواضح: أن شروطه تلك قد مكنته من أن يقطع الطريق على المأمون، ولا يمكنه من استغلال الظروف لتنفيذ بقية حلقات مؤامرته، إذ لم يعد بإمكانه أن يصر على الإمام أن يقوم بأعمال تنافي وتضر بقضيته هو، وقضية العلويين، ومن ثم تؤثر على الأمة بأسرها.. وعدا عن ذلك فإن هذه الشروط، قد حفظت لهعليه‌السلام حياته في حمام سرخس، حيث كان المأمون قد حاك مؤامرته للتخلص من وزيره وولي عهده مرة واحدة، كما سيأتي بيانه.. مما يعني أن سلبيتهعليه‌السلام مع النظام كانت أمراً لابد منه، إذا أراد أن لا يعرض نفسه إلى مشاكل، وأخطار هو في غنى عنها.. والذي أمن له هذه السلبية ليس إلا شروطه تلك، التي جعلت من لعبة ولاية العهد لعبة باهتة مملة لا حياة فيها، ولا رجاء..

٣٠٣

ولعل الأهم من كل ذلك.. أنها ضيعت على المأمون الكثير من أهدافه من البيعة، التي صرح الإمامعليه‌السلام أنه كان عارفاً بها، ولم يكن له خيار في تحملها، والصبر عليها، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

وعدا عن ذلك كله أن تعاونه مع النظام إنما يعني أن يحاول تصحيح السلوك، وتلافي الأخطاء، التي كان يقع فيها الحكم، والهيئة الحاكمة. وذلك معناه أن ينقلب جهاز الحكم كله ضد الإمام، ويجد المأمون ـ من ثم ـ العذر، والفرصة لتصفيتهعليه‌السلام من أهون سبيل، فشروطه تلك أبعدت عنه الخطر ـ إلى حد ما ـ الذي كان يتهدده من قبل المأمون وأشياعه، وجعلته ـ كما قلنا ـ في منأى ومأمن من كل مؤامراتهم ومخططاتهم.

٥ ـ الإمام.. لا ينفذ إرادات الحكم:

ولعل من الأهمية بمكان.. أن نشير إلى أنهعليه‌السلام كان يريد بشروطه تلك أن يفهم المأمون: أنه ليس على استعداد لتنفيذ إرادات الحكم، والحاكم، ولا على استعداد لأن يقتنع بالتشريفات، والأمور الشكلية، فإنه.. بصفته القائد والمنقذ الحقيقي للأمة، لا يمكن أن يرضى بديلاً عن أن ينقذ الأمة، ويرتفع بها من مستواها الذي أوصلها إليه الطواغيت والظلمة، الذين جلسوا في مكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأوصيائهعليهم‌السلام ، وحكموا بغير ما أنزل الله.

إنه يريد أن يخدم الأمة، ويحقق لها مكاسب تضمن لها الحياة الفضلى، والعيش الكريم، ولا يريد أن يخدم نفسه، ويحقق مكاسب شخصيته على حساب الآخرين، ولذلك فهو لا يستطيع أن يقتنع بالسطحيات والشكليات التي لا تسمن، ولا تغني من جوع..

٦ ـ لا زهد أكثر من هذا:

إنه مضافاً إلى أن مجرد رفض الإمام كلا عرضي المأمون: الخلافة، وولاية العهد، دليل قاطع على زهده فيه. فإن هذه الشروط كان لها عظيم الفائدة، وجليل الأثر في الإظهار لكل أحد أن الإمام ليس رجل دنيا، ولا طالب جاه ومقام. وما أراده المأمون من إظهار الإمام على أنه لم يزهد بالدنيا، وإنما الدنيا هي التي زهدت فيه.. لم يكن إلا هباء اشتدت به الريح في يوم عاصف.. ولم تفلح بعد محاولات المأمون وعمله الدائب، من أجل تشويه الإمام والنيل من كرامته.

٣٠٤

ولقد قدمنا: أن الإمامعليه‌السلام قد واجه نفس المأمون بحقيقة نواياه، وأفهمه أن خداعه لن ينطلي عليه، ولن تخفى عليه مقاصده، ولذا فإن من الأفضل والأسلم له أن يكف عن كل مؤامراته ومخططاته.. وإلا فإنه إذا ما أراد إجبار الإمام على التعاون معه، فلسوف يجد أنهعليه‌السلام على استعداد لفضحه، وكشف حقيقته وواقعه أمام الملأ، وإفهام الناس السبب الذي من أجله يجهد المأمون ليزج بالإمامعليه‌السلام في مجالات لا يرغب، بل واشترط عليه أن لا يزج فيها ـ كما فعل في مناسبات عديدة ـ الأمر الذي لن يكون أبداً في صالح المأمون، ونظام حكمه..

ومن هنا رأيناهعليه‌السلام يجيب الريان عندما سأله عن سر قبوله بولاية العهد، وإظهاره الزهد بالدنيا ـ يجيبه ـ: ببيان أنه مجبر على هذا الأمر، ويذكره بالشروط هذه، التي يعني أنه قد دخل فيه دخول خارج منه، كما تقدم..

وهكذا.. وبعد أن كانعليه‌السلام سلبياً مع النظام، وبعد رفضه لكلا عرضي المأمون، وبعد أن اشترط هذه الشروط للدخول في ولاية العهد، فليس من السهل على المأمون، ولا على أي إنسان آخر أن ينسب إليهعليه‌السلام : أنه رجل دنيا فقط، وأنه ليس زاهدا في الدنيا، وإنما هي التي زهدت فيه.

وعلى كل حال: ورغم كل محاولات المأمون تلك.. فقد استطاع الإمامعليه‌السلام ، بفضل وعيه، ويقظته، وإحكام خطته: أن يبقى القمة الشامخة للزهد، والورع، والنزاهة، والطهر، وكل الفضائل الإنسانية، وإلى الأبد.

الموقف العاشر:

موقفهعليه‌السلام في صلاتي العيد.. ففي إحداهما:

(بعث المأمون له يسأله: أن يصلي بالناس صلاة العيد، ويخطب، لتطمئن قلوب الناس، ويعرفوا فضله، وتقر قلوبهم على هذه الدولة المباركة، فبعث إليه الرضاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال:((قد علمت ما كان بيني وبينك من الشرط في دخولي في هذا الأمر، فأعفني من الصلاة بالناس، فقال المأمون: إنما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة، والجند، والشاكرية هذا الأمر، فتطمئن قلوبهم، ويقروا بما فضلك الله تعالى به..

٣٠٥

ولم يزل يراده الكلام في ذلك. فلما ألح عليه قال:يا أمير المؤمنين، إن أعفيتني من ذلك، فهو أحب إلي، وإن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكما خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام )) قال المأمون: أخرج كيف شئت..

وأمر المأمون القواد، والحجاب، والناس: أن يبكروا إلى باب أبي الحسنعليه‌السلام ، فقعد الناس لأبي الحسن في الطرقات، والسطوح: من الرجال، والنساء، والصبيان، وصار جميع القواد، والجند إلى بابهعليه‌السلام ، فوقفوا على دوابهم حتى طلعت الشمس.

فلما طلعت الشمس قام الرضاعليه‌السلام فاغتسل، وتعمم بعمامة بيضاء من قطن، وألقى طرفاً منها على صدره، وطرفاً بين كتفيه، ومس شيئاً من الطيب، وتشمر. ثم قال لجميع مواليه:((افعلوا مثل ما فعلت)) .

ثم أخذ بيده عكازة، وخرج، ونحن بين يديه، وهو حاف قد شمر سراويله إلى نصف الساق، وعليه ثياب مشمرة..

فلما قام، ومشينا بين يديه، رفع رأسه إلى السماء، وكبر أربع تكبيرات، فخيل إلينا: أن الهواء والحيطان تجاوبه، والقواد والناس على الباب، قد تزينوا، ولبسوا السلاح، وتهيئوا بأحسن هيئة..

فلما طلعنا عليهم بهذه الصورة: حفاة، قد تشمرنا. وطلع الرضا وقف وقفة على الباب، وقال:((.. الله أكبر، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، والحمد لله على ما أبلانا)) . ورفع بذلك صوته، ورفعنا أصواتنا.

فتزعزعت مرو بالبكاء، فقالها: ثلاث مرات، فلما رآه القواد والجند على تلك الصورة، وسمعوا تكبيره سقطوا كلهم من الدواب إلى الأرض، ورموا بخفافهم، وكان أحسنهم حالاً من كان معه سكين قطع بها شرابة جاجيلته ونزعها، وتحفى.. وصارت مرو ضجة واحدة، ولم يتمالك الناس من البكاء والضجة.

فكان أبو الحسن يمشي، ويقف في كل عشر خطوات وقفة يكبر الله أربع مرات: فيتخيل إلينا: أن السماء، والأرض، والحيطان تجاوبه.

وبلغ المأمون ذلك، فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين: يا أمير المؤمنين: إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل افتتن به الناس، وخفنا كلنا على دمائنا، فالرأي أن تسأله أن يرجع..

٣٠٦

فبعث المأمون إلى الإمام يقول له: إنه قد كلفه شططا، وأنه ما كان يحب أن يتعبه، ويطلب منه: أن يصلي بالناس من كان يصلي بهم..

فدعا أبو الحسن بخفه، فلبسه، ورجع.

واختلف أمر الناس في ذلك اليوم، ولم ينتظم في صلاتهم إلخ..)(١) .

ولقد قال البحري يصف هذه الحادثة والظاهر أنه يمين بن معاوية العائشي الشاعر على ما في تاج العروس:

ذكـروا بطلعتك النبي، فهللوا

لما طلعت من الصفوف وكبروا

حتى انتهيت إلى المصلى لابساً

نـور الهدى يبدو عليك فيظهر

ومـشيت مشية خاشع متواضع

لـله، ولا يـزهى، ولا يـتكبر

ولـوان مـشتاقا تكلف غير ما

في وسعه لمشى إليك المنبر(٢)

ومما يلاحظ هنا: أنه في هذه المرة أرسل إليه من يطلب منه أن يرجع. ولكننا في مرة أخرى نراه يسارع بنفسه، ويصلي بالناس، رغم تظاهره بالمرض..

وعلى كل حال.. فإننا وإن كنا قد تحدثنا في هذا الفصل، وفي فصل: ظروف البيعة وسنتحدث فيما يأتي عن بعض ما يتعلق بهذه الرواية، إلا أننا سوف نشير هنا إلى نقطتين فقط.. وهما:

١ ـ الأثر العاطفي، والقاعدة الشعبية:

فنلاحظ: أننا حتى بعد مرور اثني عشر قرنا على هذه الواقعة، لا نملك أنفسنا ونحن نقرأ وقائعها، من الانفعال والتأثر بها، فكيف إذن كانت حال أولئك الذين قدر لهم أن يشهدوا ذلك الموقف العظيم؟!.

____________

(١) قد ذكرنا بعض مصادر هذه الرواية في فصل: ظروف البيعة.. فراجع..

(٢) مناقب آل أبي طالب. لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣٧٢، ولكن هذا الشعر ينسب أيضاً للبحتري في المتوكل عندما خرج لصلاة العيد.. وانتحال الشعر، وكذلك الاستشهاد بشعر الآخرين، في المواضع المناسبة ظاهرة شائعة في تلك الفترة ومن يدري فلعل الشعر للبحتري ونسب للبحري أو لعله للبحري وانتحله أو نسب للبحتري، ولعل البحتري قد صحف وصار: البحري.. ولعل العكس.

٣٠٧

وغني عن البيان هنا: أن شأن هذه الواقعة هو شأن واقعة نيشابور، من حيث دلالتها دلالة قاطعة على كل ما كان للرضا من عظمة وتقدير في نفوس الناس وقلوبهم، وعلى مدى اتساع القاعدة الشعبية لهعليه‌السلام ..

٢ ـ لماذا يجازف المأمون بإرجاعهعليه‌السلام :

وإذا كان هدف المأمون من الإصرار على الإمام بأن يصلي بالناس هو أن يخدع الخراسانيين والجند والشاكرية، ويجعلهم يطمئنون على دولته المباركة فإنه من الواضح أيضاً أن إرجاع المأمون للإمامعليه‌السلام في مثل تلك الحالة، وذلك التجمع الهائل، وتلك الثورة العاطفية في النفوس، كان ينطوي على مجازفة ومخاطرة لم تكن لتخفى على المأمون، وأشياعه، حيث لا بد وأن يثير تصرفه هذا حنق تلك الجماهير التي كانت في قمة الهيجان العاطفي، ويؤكد كراهيتها له.. وعلى الأقل لن تكون مرتاحة لتصرفه هذا على كل حال.

وبعد هذا.. فإنه إذا كان المأمون يخشى من مجرد إقامة الإمام للصلاة.. فلا معنى لأن يلح عليه هو بقبولها.. وكذلك لا معنى لأن يخشى ذلك الهيجان العاطفي، وتلك الحالة الروحية، التي أثارها فعل الإمامعليه‌السلام وتصرفه في هذا الموقف.. فذلك إذن ما لم يكن يخافه ويخشاه.. فمن أي شيء خاف المأمون إذن؟! إنه كان يخشى ما هو أعظم وأبعد أثراً، وأشد خطراً.. إنه خشي من أن الرضا إذا ما صعد المنبر، وخطب الناس، بعد أن هيأهم نفسيا، وأثارهم عاطفيا إلى هذا الحد ـ خشي ـ أن يأتي بمتمم لكلامه الذي أورده في نيشابور:((وأنا من شروطها..)) وأنه ظهر إليهم على الهيئة التي كان يخرج عليها النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصيه عليعليه‌السلام وهو أمر جديد عليهم.. ما من شأنه أن يجعل المأمون وأشياعه لا يأمنون بعد على أنفسهم، كما ذكر الفضل بن سهل.. ولسوف يحول الإمام مرواً من معقل للعباسيين والمأمون، وعاصمة، وحصن قوي لهم ضد أعدائهم ـ من العرب وغيرهم ـ سوف يحولها إلى حصن لأعداء العباسيين والمأمون، حصن لأئمة أهل البيت. ففضل المأمون: أن يختار إرجاعهعليه‌السلام عن الصلاة، لأنه رأى أن ذلك هو أهون الشرين، وأقل الضررين..

ولقد جرب المأمون الرضا أكثر من مرة، وأصبح يعرف أنه مستعد لأن يعلن رأيه صراحة في أي موقف تؤاتيه فيه الفرصة، ويقتضي الأمر فيه ذلك. ولم ينس بعد موقفه في نيشابور، ولا ما كتبه في وثيقة العهد، ولا غير ذلك من مواقفهعليه‌السلام وتصريحاته في مختلف الأحوال والظروف..

٣٠٨

الموقف الحادي عشر:

وأخيراً.. فقد كان سلوك الإمامعليه‌السلام العام، سواء بعد عقد ولاية العهد له، أو قبلها. يمثل ضربة لكل خطط المأمون ومؤامراته، ذلك السلوك المثالي، الذي لم يتأثر بزبارج الحكم وبهارجه.. ويكفي أن نذكر هنا ما وضعه به إبراهيم بن العباس، كاتب القوم وعاملهم، حيث قال: (ما رأيت أبا الحسن جفا أحداً بكلامه قط، وما رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه. وما رد أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مد رجليه بين يدي جليس له قط. ولا اتكأ بن يدي جليس له قط، ولا شتم أحداً من مواليه ومماليكه قط، ولا رأيته تفل قط، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط، بل كان ضحكه التبسم. وكان إذا خلا، ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه، حتى البواب والسائس.

وكان قليل النوم بالليل، يحيى أكثر لياليه من أولها إلى الصبح. وكان كثير الصيام، فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول:((ذلك صوم الدهر)) . وكان كثير المعروف والصدقة في السر، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة، فمن زعم أنه رأى مثله في فضله، فلا تصدقوه..)(١) .

وهذه الصفات بلا شك قد أسهمت إسهاماً كبيراً في أن يكون الإمامعليه‌السلام هو الأرضى في الخاصة والعامة، وأن تنفذ كتبه في المشرق والمغرب، إلى غير ذلك مما تقدم..

الحكم ليس امتيازاً وإنما هو مسؤولية:

وقد اعترض عليه بعض أصحابه، عندما رآه يأكل مع خدمه وغلمانه، حتى البواب والسائس، فأجابهعليه‌السلام :((مه، إن الرب تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال..)) (٢) .

وقال له أحدهم: أنت والله خير الناس، فقال له الإمام:((لا تحلف يا هذا، خير مني من كان أتقى لله تعالى. وأطوع له، والله ما

____________

(١) كلام إبراهيم بن العباس هذا معروف ومشهور، تجده في كثير من كتب التاريخ والرواية، ولذا فلا نرى أننا بحاجة إلى تعداد مصادره.

(٢) البحار ج ٤٩ ص ١٠١، والكافي الكليني، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣٠٩

نسخت هذه الآية: ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ.. ) )) (١) .

وقال لإبراهيم العباسي إنه لا يرى أن قرابته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجعله خيراً من عبد أسود، إلا أن يكون له عمل صالح فيفضله به(٢) .

وقال رجل له: ما على وجه الأرض أشرف منك إباء. فقال:((التقوى شرفتهم، وطاعة الله أحظتهم))( ٣) .

وما نريد أن نشير إليه ونؤكد عليه هنا، هو أنهعليه‌السلام يريد بذلك أن يفهم الملأ: أن الحكم لا يعطي للشخص ـ من كان، ومهما كان ـ امتيازاً، ولا يجعل له من الحقوق ما ليس لغيره، وإنما الامتياز ـ فقط ـ بالتقوى والفضائل الأخلاقية.. وكل شخص حتى الحاكم سوف يلقى جزاء أعماله: إن خيراً فخير، وإن شرا فشر، وعليه فما يراه الناس من سلوك الحكام، ليس هو السلوك الذي يريده الله، وتحكم به النواميس الأخلاقية، والإنسانية. والامتيازات التي يجعلونها لأنفسهم، ويستبيحون بها ما ليس من حقهم لا يقرها شرع، ولا يحكم بها قانون..

وبكلمة مختصرة: إن الإمامعليه‌السلام يرى: أن الحكم ليس امتيازاً، وإنما هو مسؤولية.

وعلى كل حال.. فإن سلوك الإمامعليه‌السلام ، لخير دليل على ما كان يتمتع به من المزايا الأخلاقية، والفضائل النفسية.. ويكفي أنه لم يظهر منهعليه‌السلام طيلة الفترة التي عاشها في الحكم إلا ما ازداد به فضلاً بينهم، ومحلاً في نفوسهم، على حد تعبير أبي الصلت. وعلى حد تعبير شخص آخر: أقام بينهم لا يشركهم في مأثم من مآثم الحكم.. بل لقد كان لوجوده أثر كبير في تصحيح جملة من الأخطاء والانحرافات التي اعتادها الحكام آنئذٍ.. حتى لقد استطاع أن يؤثر على نفس المأمون، ويمنعه من الشراب والغناء، طيلة الفترة التي عاشها معه، إلى آخر ما هنالك، مما لسنا هنا في صدد تتبعه واستقصائه.

____________

(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

(٢) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٧.

(٣) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦. ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣١٠

وفي نهاية المطاف نقول:

وحسبنا هنا ما ذكرنا من الأمثلة، التي نحسب أنها تكفي لأن تلقي ضوءاً كاشفاً على الخطة التي اتبعها الإمامعليه‌السلام في مواجهة خطط المأمون ومؤامراته.. تلك الخطة التي كانت تكفي لأن لا تبقى الصورة التي أرادها المأمون في أذهان الناس، ولا مبرر للشكوك لأن تبقى تراود نفوسهم.

ولقد نجحت تلك الخطة نجاحا أذهل المأمون، وأعوانه، وجعلهم يتصرفون بلا روية، ويقعون بالمتناقضات.. حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك. حسبما صرح به المأمون نفسه. وكانت النتيجة أن دبر فيه المأمون بما يحسم عنه مواد بلائه، كما وعد حميد بن مهران، وجماعة من العباسيين.

القسم الرابع

من خلال الأحداث

١ ـ مع بعض خطط المأمون..

٢ ـ كاد المريب أن يقول خذوني.

٣ ـ ما يقال حول وفاة الإمام..

٤ ـ دعبل والمأمون.

٥ ـ كلمة ختامية.

مع بعض خطط المأمون

التوجيهات الراضية غير مقبولة:

كل ما تقدم يلقي لنا ضوءاً على بعض نوايا المأمون مع الإمامعليه‌السلام ، وعلى كثير من الأحداث التي اكتنفت ذلك الحدث التاريخي الهام.

وإننا حتى لو سلمنا جدلاً، وغضضنا النظر عن كل تلك الأسئلة، وعلامات الاستفهام التي يمكن استخلاصها مما تقدم.. فإننا لا نستطيع ـ مع ذلك ـ أن نعتبر البيعة صادرة عن حسن نية، وسلامة طوية.

٣١١

ولا أن نقبل بالتوجيهات الراضية عن تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وبعدها تجاه الإمام، الذي كان يكبر المأمون بـ (٢٢‍) سنة، والذي كان مجبراً على قبول هذا الأمر، ومهددا بالقتل إن لم يقبل. ولم يتركه وشأنه ما دام أنه لا يريد أن يتقلد هذا الشرف الذي تتهافت النفوس عليه، وتزهق الأرواح من أجله.

نعم.. إننا لا نستطيع أن نسلم بذلك، ونحن نرى منه تلك التصرفات والمواقف المشبوهة، بل والمفضوحة تجاه الإمامعليه‌السلام ، والتي لا تبقي مجالاً للشك في حقيقة نواياه وأهدافه من كل ما أقدم وما كان عاقداً العزم على الإقدام عليه..

وهذا الفصل معقود للحديث عن بعض تلك التصرفات، ومن أجل بيان تلك الخطط.

المأمون يفضح نفسه:

وقد تعجب إذا قلنا لك: إن المأمون نفسه يصرح ببعض خططه، التي كانت تصرفاته تدور في فلكها، ويعلن بعض الدوافع، ويبوح ببعض النوايا تجاه الإمام، وبالنسبة لقضية ولاية العهد فإليك ما أجاب به حميد بن مهران، وجمعاً من العباسيين، عندما عاتبوه ولاموه على ما أقدم عليه، من البيعة للرضاعليه‌السلام يقول المأمون:

(.. قد كان هذا الرجل مستتراً عنا، يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المفتونون به بأنه ليس مما ادعى في قليل ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه.

وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال: أن ينفتق علينا منه ما لا نسده، ويأتي علينا ما لا نطيقه..

والآن.. فإذ قد فعلنا به ما فعلنا، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا. وأشرفنا من الهلاك بالتنويه باسمه على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره. ولكننا نحتاج إلى أن نضع منه قليلاً، قليلاً، حتى نصوره عند الرعية بصورة من لا يستحق هذا الأمر، ثم ندبر فيه بما يحسم عنا مواد بلائه..).

ثم طلب منه حميد بن مهران: أن يسمح له بمجادلة الإمامعليه‌السلام ، ليفحمه، وينزله منزلته، ويبين للناس قصوره، وعجزه، فقال المأمون: (لا شيء أحب إلي من هذا).

٣١٢

ثم كانت النتيجة عكس ما كان يتوقعه المأمون والعباسيون، وأشياعهم وباءوا كلهم بالفشل الذريع، والخيبة القاتلة(١) .

والذي يعنينا الحديث عنه هنا:

هو قوله: وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال.. إلى آخر ما نقلناه عنه آنفاً، فإنها أوضحت أن المأمون الذي كان يخشى الإمام خشية شديدة، كان يخطط أولاً إلى أخذ زمام المبادرة من الإمام، وتحاشي الاصطدام معه ثم كان يخطط بعد ذلك إلى الوضع منهعليه‌السلام قليلاً قليلاً إلى آخر ما تقدم..

ولا يرد: أن كلام المأمون مع حميد بن مهران ظاهره: أنه لم يكن يريد في بادئ الأمر الحط من الإمامعليه‌السلام ، وإنما بدا له ذلك حين قوي مركز الإمامعليه‌السلام ، واستحكم أمره.. لا يرد ذلك..

لأن كلامه هذا لا ينفي أنه كان يريد من أول الأمر ذلك. بل هو يؤكد ذلك. لأنه يصرح فيه: أنه إنما قدم على ما أقدم عليه، عندما رأى افتتان الناس بهعليه‌السلام ، فأراد أن يعمل عملا يفقد الإمامعليه‌السلام مركزه، ويقضي على كل نشاطاته، ويذهب بماله من القدرة والنفوذ نهائياً، وإلى الأبد.

ولقد تحدثنا فيما سبق عن بعض تصرفاته التي تدور في فلك خطط تلك مثل: فرضه للرقابة على الإمامعليه‌السلام ، والتضييق عليه، فلا يصل إليه إلا من أحب، وعزله عن شيعته ومواليه، وأيضاً تفريقه الناس عنه، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وكذلك قضية صلاة العيد، وغير ذلك ما تقدم.

____________

(١) راجع: شرح ميمية أبي فراس ص ١٩٦، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٧٠، والبحار ج ٤٩ ص ١٨٣، ومسند الإمام الرضا ج ٢ ص ٩٦.

٣١٣

نزيد هنا بعض الأمور الأخرى، التي وإن كان قد سبق الحديث عن بعضها، ولكنه كان حديثا من زاوية أخرى، ومن أجل استفادة أمور غير الأمور التي نحاول استفادتها منها هنا. وذلك أمر طبيعي، ولا يكون تكراراً ما دام أن الواقعة الواحدة قد يكون لها دلالات متعددة، وإفادات مختلفة.. ولذا فإننا نقول:

لماذا على البصرة فالأهواز:

إن من جملة الأمور التي كانت من جملة خطط المأمون للتأثير على مكانة الإمامعليه‌السلام وحتى على معنوياته النفسية.. الطريق الذي أمر رجاء ابن أبي الضحاك(١) قرابة الفضل بن سهل، والذي كان من قواد المأمون، وولاته ـ أمره ـ بسلوكه، عندما أرسله ليأتي بالإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو مهما كلفه الأمر..

فقد أمره: أن يجعل طريقه بالإمام (على البصرة، والأهواز، ففارس. وحذره كثيراً من المرور على طريق الكوفة، والجبل، وقم)(٢) .

____________

(١) وذكر أبو الفرج، والمفيد: أن المرسل هو الجلودي، ولكن الصحيح هو الذي ذكرناه.. إذ من الخطأ أن يرسله المأمون لإحضار الرضاعليه‌السلام ، لأن ذلك يضر بقضيته، ويفسد عليه ما كان دبره، لأنه موجب لسوء ظن الرضاعليه‌السلام ، والعلويين، وسائر الناس، وتنبههم مبكرا لحقيقة الأمر، وواقع القضية.

وذلك لأن الجلودي هو الذي أمره الرشيد: أن يغير على دور آل أبي طالب، ويسلب نساءهم إلخ ما تقدم.. كما أنه كان عدواً متجاهراً للإمامعليه‌السلام ، وقد سجنه المأمون بسبب معارضته للبيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد! ولعل سر خطأهم هو أن الجلودي كان والياً على المدينة من قبل المأمون، حين استقدام المأمون للإمام إلى مرو، حسبما جاء في كتاب: الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٣٥.

(٢) تهذيب التهذيب ج ٧ ص ٣٨٧، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٧٦، وينابيع المودة ص ٣٨٤، والخرائج والجرائح طبعة حجرية ص ٢٣٦. وإثبات الوصية ص ٢٠٥.

وإعلام الورى ص ٣٢٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩، ١٨٠، والكافي ج ١ ص ٤٨٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٤٠ والبحار ج ٤٩ ص ٩١، ٩٢ ١١٨ و ١٣٤، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٥، وغير ذلك كثير.

٣١٤

بل لقد ورد: أن المأمون قد كتب إلى الرضا نفسه، يقول له: (لا تأخذ على طريق الجبل وقم. وخذ على طريق البصرة، فالأهواز، ففارس..)(١) .

وسر ذلك واضح، فإن أهل الكوفة، وقم، كانوا معروفين بالتشيع للعلويين(٢) وأهل البيت، ومرور الإمام عليه‌السلام من هذين البلدين، وخصوصاً الكوفة، التي كانت تعتبر من المراكز الحساسة جداً في الدولة.. سوف يكون من نتيجته: أن يستقبله أهلها بما يليق بشأنه: من الإجلال، والإعزاز والتكريم.

____________

(١) أصول الكافي ج ١ ص ٤٨٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩ و ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٤، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٧٣، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٤.

(٢) تشيع أهل الكوفة وقم أشهر من أن يحتاج إلى بيان، أو إقامة برهان.. لكننا نورد ـ مع ذلك ـ بعض الشواهد، تبصرة للقارئ، فنقول: أما الكوفة: فقد تقدم قول محمد بن علي العباسي أنها وسوادها شيعة علي وولده.. وفي الطبري، وابن الأثير، وغيرهما تجد قول عبد الله بن علي للمنصور، عندما استشاره في أمر محمد بن عبد الله بن الحسن: (.. ارتحل الساعة حتى تأتي الكوفة، فاجثم على أكتافهم، فإنهم شيعة أهل هذا البيت، وأنصاره الخ)، وفي قضية وفاة السيد الحميري، التي ذكرها المرزباني في كتابه أخبار السيد الحميري دلالة واضحة على تشيع الكوفيين، وانحراف البصريين..

ولأجل ذلك نرى المأمون يستقبل وفدا من أهل الكوفة في منتهى الغلظة والجفاء، فراجع مروج الذهب ج ٣ ص ٤٢١. وفي البداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣: أن المنصور قد اعترف بأن لإبراهيم بن عبد الله بن الحسن في الكوفة مئة ألف سيف مغمدة، وأعرب عن مخاوفه من تشيع أهل الكوفة للعلويين، وولائهم لهم.. بل إننا لا نستبعد أن يكون بناء المنصور لبغداد هو من أجل أن يبتعد عن الكوفة، وأهلها، ويأمن على نفسه، قال البلاذري في فتوح البلدان ص ٤٠٥: (أخذ المنصور أهل الكوفة بحفر خندقها. وألزم كل امرئ للنفقة عليه أربعين درهما. وكان ذاما لهم. لميلهم إلى الطالبيين، وإرجافهم بالسلطان..) وقد تقدم أنه عندما ذهب إليهم العباس بن موسى، أخو الإمام الرضاعليه‌السلام يدعوهم للبيعة، لم يجبه إلا البعض منهم، وقال له آخرون: (إن كنت تدعو للمأمون، ثم من بعده لأخيك، فلا حاجة لنا في دعوتك. وإن كنت تدعو إلى أخيك، أو بعض أهل بيتك، أو إلى نفسك أجبناك..).

وعلى كل حال.. فقد كانت الكوفة مصدرا لثورات كثيرة على الأمويين والعباسيين على حد سواء، تلك الثورات التي كانت كلها تقريباً بقيادة علوي، أو داعية إلى علوي..

ولم ينس المأمون بعد ثورة أبي السرايا التي كادت تغير الموازين، وتقلب مجريات الأحداث.. إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه. =

٣١٥

= وأما تشيع القميين، فذلك أعرف وأشهر. وقضيتهم مع جبة دعبل التي أهداه إياه الإمام لا يكاد يجهلها أحد. وعندما طلب المأمون من الريان أن يحدث بفضائل عليعليه‌السلام ، وأجاب بأنه لا يحسن شيئاً، قال المأمون: (سبحان الله! ما أجد أحداً يعينني على هذا الأمر لقد هممت أن أجعل أهل قم شعاري ودثاري).

ولعل تشيع أهل قم هذا هو الذي دفع بالمأمون لأن يوجه إليهم عامله علي بن هشام، لينكل بهم، ويحاربهم حتى يهزمهم، ويدخل البلد، ويهدم سورها، ويجعل على أهلها مبلغ سبعة ملايين درهم، بدلا من مليونين، وهو ما لم يكن يدفعه أي بلد آخر يضاهي بلدهم في عدد السكان وغير ذلك من المميزات، فكيف بالسبعة.. ومع أنه كان قد خفض الخراج عن السواد، وبعد البلدان الأخرى، فلما سمعوا بذلك طالبوا بتخفيض الخراج عنهم أيضاً، ففعل ذلك.. وكان تخفيضه عنهم بزيادة المليونين إلى سبعة، كما قلنا.. راجع في تفصيل ذلك: الطبري ج ١١ ص ١٠٩٣، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٢١٢، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٥٥، والنجوم الزاهرة ج ٢ ص، ١٩٠ وتاريخ التمدن الإسلامي مجلد ١ جزء ٢ ص ٣٣٧، وفتوح البلدان للبلاذري ص ٤٤٠، وتجارب الأمم ج ٦ ص ٤٦٠.

٣١٦

ولا شك أن الإمامعليه‌السلام سوف يستطيع أن يستقطب المزيد من الناس، ويؤثر عليهم بما حباه الله من الفضائل والكمالات الأخلاقية، وبما آتاه الله من العلم والحكمة، والورع والتقوى، الذي سار ذكره في الآفاق، حتى لا يكاد يجهله أحد.. وإذا كان أهل نيشابور، بل وحتى أهل مرو، معقل العباسيين والمأمون، قد كان منهم تجاه الإمام ما لا يجهله أحد. حتى إنهم كانوا بين صارخ، وباك ومتمرغ في التراب إلخ.. وحتى لقد خاف المأمون وأشياعه على دمائهم ـ إذا كان هؤلاء هكذا ـ فكيف ترى سوف تكون حالة أهل الكوفة وقم، معقلي العلويين، والمحبين لأهل البيت، والمتفانين فيهم، لو أنهم رأوا الإمامعليه‌السلام بينهم، وبالقرب منهم..

يقول الراوندي في ذلك: (إن المأمون أمر رجاء بن أبي الضحاك: أن لا يمر بالإمام عن طريق الكوفة، لئلا يفتتن به أهلها..)(١) !.

والمأمون لا يريد أن يفتتن الناس بالإمام، وإنما الذي يريده هو عكس ذلك تماماً.. إنه يريد أن يضع من الإمام لا أن يرفع.

أما أهل البصرة: فعثمانية، يدينون بالكف، ويقولون: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل.. بل لقد كانت البصرة معقلاً مهما للعباسيين، الذين حرق دورهم زيد النار، ابن الإمام الكاظمعليه‌السلام ، كما قدمنا، ولهذا نلاحظ: أن دور البصريين في التشيع لم يكن يضارع دور غيرهم، لا روائياً، ولا كلامياً..

وأما ما ربما يحتمله البعض: من أن المأمون كان يأمل أن يخرج من البصرة، أو غيرها من يخلصه من الإمامعليه‌السلام نهائياً.. فلا أرى أنه يتفق مع أهداف وأغراض المأمون، التي كان يرمي إليها من وراء لعبته تلك..

____________

(١) الخرائج والجرائح، طبعة حجرية ص ٢٣٦.

٣١٧

الإمام يرفض كل مشاركة تعرض عليه:

إنه برغم شروط الإمام على المأمون، والتي أشرنا إليها فيما سبق، فإننا نرى المأمون كل مدة يحاول أن يجري اختبارا للإمام، ليعرف حقيقة نواياه، وأنه هل أصبح له طمع بالخلافة، وطموح لها(١) ، ليعجل عليه بما يحسم عنه مواد بلائه.. أم لا. فكان يأتي كل مدة إليه، يطلب منه أن يولي فلانا، أو أن يعزل فلاناً، أو أن يصلي بالناس.. بل لقد طلب منه بعد مقتل الفضل أن يساعده في إدارة شؤون الخلافة(٢) بحجة أنه يعجز وحده أن يقوم بأعباء الحكم. ويدير دفة السلطان!

هذا.. إن لم نقل: أنه كان يريد من وراء ذلك: أن يجعل ذلك ذريعة للقضاء على الإمام، بحجة أنه نقض الشرط، وليكون بذلك قد قضى على العلويين جميعاً، وإلى الأبد.

أو على الأقل كان يريد بذلك: أن يوجد للإمام أعداء في الأوساط ذات القوة والنفوذ..

وأياً ما كانت نوايا المأمون وأهدافه، فإن الإمامعليه‌السلام كان يرفض ذلك كله بكل عزم وإصرار، ويذكره بالشروط تلك، ويقول له:((إن وفيت لي وفيت لك)) . وهذا تهديد صريح له من الإمامعليه‌السلام . ولا نعجب كثيراً ـ بعد أن اتضحت لنا نوايا المأمون وأهدافه ـ إذا رأينا المأمون يتحمل هذا التهديد، بل ويخضع له، ويقول: (بل أفي لك)!.

وهكذا.. فقد كان الإمامعليه‌السلام يضيع على المأمون ما كان يحسب أنه فرصة مؤاتية له، ولا يمكنه من معرفة ما يريد معرفته، ولا من تنفيذ ما يريد تنفيذه.

____________

(١) وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد رأينا الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، يسأل ابن عباس عن عليعليه‌السلام : إن كان لا يزال يطمح إلى الخلافة، ويأمل فيها.. أم لا!.

(٢) الكافي ج ٨ ص ١٥١، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٨ و ٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٤ و ١٦٦ و ١٦٧ والبحار ج ٤٩ ص ١٤٤ و ١٥٥ و ١٧١، وغير ذلك.

٣١٨

الاختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام :

كما أنه كان كل مدة يقوم بعملية اختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام ، ولمدى ما يتمتع به من تأييد في الأوساط الشعبية، ليعرف إن كان أصبحعليه‌السلام يشكل خطراً حقيقياً، ليعجل بالقضاء عليه أم لا.. فكان كل مدة يكلفه بأن يؤم الناس بالصلاة للعيد. أو ما شاكل.. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى ما يعتمر قلب المأمون من الخوف والخشية منهعليه‌السلام . (راجع: السبب الثالث من فصل البيعة، والموقف العاشر في فصل: خطة الإمامعليه‌السلام ).

سؤال.. وجوابه:

ولعلك تقول: إذا كان المأمون يخشى الإمامعليه‌السلام إلى هذا الحد، لما يعلمه من نفوذه ومكانته، فلماذا لا يتخلص منه بذلك الأسلوب التقليدي الذي انتهجه أسلافه من الأمويين، والعباسيين، وتبعهم عليه هو فيما بعد، وكذلك من أتى بعده.. وذلك بأن يدس إليه شربة من السم، وهو في المدينة، من دون أن يحتاج إلى اشخاصه إلى مرو، والبيعة له بولاية العهد، وتزويجه ابنته، إلى غير ذلك من الأمور التي من شأنها أن تعزز من مركز الإمام، وترفع من شأنه، وتوجه إليه الأنظار والقلوب، حتى يضطر في نهاية الأمر لأن يعود إلى ما جرت عليه عادة أسلافه، وأتباعه..

ولكن الجواب على هذا قد اتضح مما قدمناه، فإن المأمون لم يكن يريد في بادئ الأمر موت الإمام، ولا كان يستطيع أن يفعل ذلك.

ولو أن ذلك كان قد حدث لوقع المأمون في ورطة، لها أول وليس لها آخر، حيث إنه كان بأمس الحاجة إلى حياة الإمامعليه‌السلام ، وذلك لما قدمناه من الأسباب والظروف التي كانت تحتم على المأمون أن يلعب لعبته تلك، التي وإن كانت تنطوي على مخاطرة جريئة، إلا أنه كان ـ كما قدمنا ـ قد رسم الخطة، وأحكم التدبير للتخلص من الإمامعليه‌السلام بمجرد أن يحقق مآربه، وأهدافه، بالطريقة التي لا تثير شك أحد، ولا توجب تهمة أحد، وقد حدث ذلك بالفعل، كما سيمر علينا..

وأما كتمه لفضائل الإمامعليه‌السلام :

ومن جملة الأمور التي كانت تدور في فلك خطة المأمون، التي لخصها بأنه يريد الوضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ محاولاته كتم فضائل الإمامعليه‌السلام ومزاياه عن الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلاً..

٣١٩

وقد تقدم: أنه عندما سأل رجاء بن أبي الضحاك، الذي تولى إشخاص الرضاعليه‌السلام من المدينة إلى مرو، عن حال الرضاعليه‌السلام في الطريق، فأخبره عما شاهده من عبادتهعليه‌السلام ، وزهده وتقواه، وما ظهر له من الدلائل والبراهين، قال له المأمون: (.. بلى يا ابن أبي الضحاك، هذا خير أهل الأرض، وأعلمهم، وأعبدهم، فلا تخبر أحداً بما شهدت منه، لئلا يظهر فضله إلا على لساني..)!.

وهكذا: فإن المأمون وإن استطاع أن يمرر الكثير، إلا أنه لم يكن يجد بداً في كثير من الأحيان من أن يظهر على حقيقته وواقعه. وهذا هو أحد تلك المواقف التي مرت وسيمر معنا بعضها، والتي اضطر فيها المأمون لأن يكشف عن وجهه الحقيقي،.. وإن كان قد حاول ـ مع ذلك ـ أن يتستر بما لا يسمن ولا يغني من جوع.

ولا أعتقد أن المأمون كان يجهل: أن ما يأتي به لم يكن لينطلي كله على أعين الناس، بل كان يعلم ذلك حق العلم، ولكن كما يقولون: (الغريق يتشبث بالطحلب).

ولكن.. بالرغم من محاولات المأمون تلك.. فإننا نرى أن فضائل الإمام ومزاياه كانت كالعرف الطيب، لم تزل تظهر، وتنتشر وتذاع.. بل ولعل محاولات المأمون تلك التي كانت ترمي للحط من الإمام وإسقاطه، قد أسهمت كثيراً وساعدت على إظهار فضائله، وشيوعها، كما سيتضح.

الشائعات الكاذبة!

وكان بالإضافة إلى ما تقدم يحاول ترويج شائعات كاذبة، من شأنها أن تنفر الناس من العلويين عامة، ومن الإمامعليه‌السلام ، وسائر الأئمةعليهم‌السلام خاصة.

فهذا أبو الصلت يسأل الإمامعليه‌السلام فيقول: (يا ابن رسول الله، ما شيء يحكيه الناس عنكم؟!.

قالعليه‌السلام :((ما هو؟!.

قال: يقولون: إنكم تدعون: أن الناس لكم عبيد!.

قالعليه‌السلام :يا عبد السلام، إذا كان الناس كلهم عبيدنا ـ على ما حكوه ـ فممن نبيعهم)) ؟! إلخ(١) .

____________

(١) مسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٥، والبحار ج ٤٩ ص ١٧٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٨٤.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419