الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان0%

الشيعة في الميزان مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 419

الشيعة في الميزان

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد جواد مغنية
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 132408
تحميل: 7549

توضيحات:

الشيعة في الميزان
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 132408 / تحميل: 7549
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قال المنجم: أخبرني بوقت ميلادهم، فلما أخبره جعل يحسب، ثم قبض على يد أبي الحسن علي فقبلها، وقال: هذا واللّه الذي يملك البلاد، ثم هذا من بعده، وقبض على يد أخيه أبي علي الحسن. فاغتاظ منه أبو شجاع، وقال لأولاده اصفعوه، فقد أفرط في السخرية بنا، فصفعوه، وهو يستغيث.

ثم قال لهم المنجم: اذكروا لي هذا إذا قصدتكم، وأنتم ملوك، فضحكوا منه، واستخفوا به. ولم تمض الأيام، حتى تحققت نبوءة المنجم بكاملها، وذلك أن أبا شجاع اضطر لفقره أن يُدخل أولاده الثلاثة في الخدمة العسكرية جنوداً مرتزقة، ولكن سرعان ما ارتقوا بدهائهم ومهارتهم إلى مرتبة القواد وأمراء الجيش، وأخذوا يستميلون الناس بحسن المعاملة، ويكسبون محبة الضباط بالمال، فقويت شوكتهم، وانتشر صيتهم، ولما اطمأنوا إلى قوتهم خرجوا عن طاعة الحاكم الذي يعملون بأمره، وكان اسمه «مرداويج» واستقلوا عنه.

علي بن بويه عماد الدولة

وأول من ملك من البويهيين علي بن بويه، أكبر أولاد أبي شجاع، وكان يلقب بعماد الدولة، وكان ابتداء سلطانه في شيراز عام ٣٢١ هجري، ثم امتد إلى إيران والعراق، وغيرها من بلاد بني العباس.

قال آدم متز في الجزء الأول من «الحضارة الإسلامية» ص ٣٥ وما بعدها طبعة ثالثة:

كان سبب ارتفاع علي بن بويه سماحته وشجاعته، وسعة صدره، وحسن سياسته، فمن ذلك انه استمال الحسين بن محمد الملقب بالعميد. ولاطف قواد مرداويج، وأفضل عليهم، حتى أوجبوا طاعته، وكان ذا فضل يتسامع به الناس، فيميلون إليه، فلا عجب إذن أن يسهل عليه الانتصار، على جيش الخليفة، حتى استولى على جنوب إيران، وكان بنو بويه إلى جانب هذا يحسنون معاملة الأسرى، ويعفون عنهم، ويؤمنونهم من جميع ما يكرهون، حتى يطمئنوا إليهم، على حين كان اعداؤهم يعدون للأسرى قيوداً وبرانس ليشهروهم بها، ولقد ظفر علي بن بويه بأعداء له، معهم هذه الآلات، فعدل عن العقاب إلى العفو، وابتعد عن الطغيان. وهو الذي يرجع إليه الفضل فيما بلغه بيت بني بويه من قوة وعزة.

وقال ابن الأثير في حوادث ٣٢٢: حين استولى علي على شيراز نادى في الناس الأمان، وبث العدل. وقد ساعده الحظ في أمور، منها أن الجند طلبوا أرزاقهم منه، ولم يكن عنده ما يعطيهم، فكاد ينحل أمره، فقعد في غرفة دار الإمارة بشيراز، يفكر في أمره، وأصابه غم شديد، فبينما هو مستلقٍ على ظهره، وقد خلا للفكر والتدبير إذ رأى حية، قد خرجت من موضع في

١٢١

سقف الغرفة، ودخلت في ثقب، فخاف أن تسقط عليه، فدعا الفراشين، ففتحوا الموضع، فرأوا وراءه باباً، فدخلوه إلى غرفة أخرى، فوجدوا فيها عشرة صناديق مملوءة مالاً ومصاغاً، فانفقه في رجاله، وثبت ملكه بعد أن أشرف أمره على الانحلال.

وأراد ذات يوم أن يفصل ثياباً، فدلوه على خياط لياقوت حاكم شيراز الأسبق، فحضر الخياط خائفاً، وكان أصم، فقال له عماد الدولة: لا تخف إنما احضرناك، لتفصل لنا ثياباً، فلم يفهم ما قال، وحلف الخياط بالطلاق، والبراءة من دين الإسلام أن الصناديق التي أودعها عنده ياقوت ما فتحها، وما أخذ شيئاً منها، فتعجب عماد الدولة من ذلك، وأمره بإحضار الصناديق، فأحضرها، وكانت ثمانية صناديق، فيها مال وثياب.

وفي هامش ابن الأثير ج ٦ ص ٣٣٣ طبعة ١٣٥٣ هجري «توفي بشيراز عن سبع وخمسين سنة، ولم يكن له ولد ذكر، وكانت مدة ملكه ست عشرة سنة، وكان من خيار الملوك في زمانه، وممن حاز قصب السبق دون أقرانه».

ركن الدولة ومعز الدولة:

قال ابن الأثير: كان عماد الدولة أمير الأمراء، فلما مات صار أخوه ركن الدولة أمير الأمراء.

أما أخوهما الأصغر أحمد الملقب بمعز الدولة فقد كان أمير العراق منذ عهد أخيه علي عماد الدولة، وكان هو المستولي على الخلافة، قال السيد مير علي في «مختصر تاريخ العرب» ص ٢٦٠ طبعة سنة ١٩٣٨:

١٢٢

«لم يلبث معز الدولة أن اضطر الخليفة إلى أن يقلده السلطة، كما نقش اسمه على العملة، وذكر اسمه مقروناً باسم الخليفة في خطبة الجمعة، وكان موقفه من الخليفة كموقف تشارل مارتيل من ملوك فرنسا، إذ كان هو الحاكم الحقيقي، وكان الخليفة لا حول له، ولا قوة، مجرداً من كل سلطة، وليس له من الشؤون غير قبض المخصصات، وقدرها خمسة آلاف دينار من خزينة الدولة، وكان معز الدولة محباً للفنون والعلم. وهو الذي جعل اليوم العاشر من المحرم يوم حزن لذكرى موقعة كربلاء(١) .

وفي حاشية ابن الأثير ج ٢ ص ٣١٥ طبعة ١٣٥٣ هجري «أن معز الدولة عزم على عزل الخليفة العباسي، ومبايعة محمد بن يحيى الزيدي العلوي، فمنعه الصيمري من ذلك».

وتوفي معز الدولة في ملك أخيه ركن الدولة سنة ٣٥٦، قال ابن الأثير: «وفي هذه السنة ابتدأ معز الدولة في بناء المارستان، وأرصد له أوقافاً جزيلة، وأظهر التوبة، وتصدق بأكثر أمواله، وأعتق مماليكه، ورد شيئاً كثيراً على أصحابه، وكانت إمارته ٢١ سنة و١١ شهراً ويومين، وكان حليماً كريماً عاقلاً».

أما اخوة ركن الدولة الحسن بن بويه فدامت إمارته أربعاً وأربعين سنة، وزاد عمره على السبعين، وقال آدم متز في «الحضارة الإسلامية» ج ١ ص ٣٨:

أما ركن الدولة فقد كان حليماً واسع الكرم، حسن السياسة لرعاياه وجنده،

_____________________

(١) أي جعله يوم حزن بصفة رسمية، تعطل فيه الدوائر الحكومية، وتقفل الأسواق، وإلا فإن هذا اليوم هو يوم حزن عند الشيعة قبل المعز، ومنذ اليوم الأول الذي استشهد فيه سيد الشهداء.

رؤوفاً بهم، بعيد الهمة، يتحرج من الظلم، ويمنع أصحابه منه، وقد أثنى المؤرخون على عدله وكرمه.

١٢٣

وقال ابن الأثير: كان ركن الدولة حليماً كثير البذل، بعيد الهمة، متحرجاً من الظلم، عفيفاً عن الدماء يرى حقنها واجباً إلا فيما لا بد منه، وكان يجري الأرزاق على أهل البيوتات، ويصونهم عن التبذل، وكان يقصد المساجد الجامعة، ويتعهد العلويين بالأموال الكثيرة، ويتصدق بالأموال الجليلة، ويلين جانبه للخاص والعام.رضي‌الله‌عنه وأرضاه، وكان له حسن عهد، ومودة وإقبال، توفي سنة ٣٦٦ هجري. واستخلف على ممالكه ابنه عضد الدولة.

عضد الدولة:

كان عضد الدولة يمثل السيد الحاكم تمثيلاً حقيقياً، وقد خضعت لسلطانه البلاد الممتدة من الخزر إلى كرمان وعمان، فلا بدع أن يلقب بشاهنشاه (ملك الملوك) لأول مرة في الإسلام، وقد ظل هذا اللقب لمن جاء بعده من ملوك الفرس.

وكان يعنى بمعرفة الأخبار وسرعة وصولها، شأن كل من يريد أن يحكم دولة كبيرة حكماً صحيحاً، فكان يسأل عن الأخبار الواردة، فإن تأخرت عن وقتها قامت قيامته، وكانت الأخبار تصل من شيراز إلى بغداد في سبعة أيام، أي أنها تقطع في كل يوم ما يزيد على مائة وخمسين كيلومتراً.

وقد أحكم نظام الجاسوسية، فكان يبحث عن أشراف الملوك، وينقب عن سرائرهم، وكانت أخبار الدنيا عنده، حتى لو تكلم إنسان بمصر وصل إليه الخبر، وأن رجلاً بمصر ذكره بكلمة، فاحتال، حتى جاء به، ووبخه عليها، ثم رده إلى مكانه، فكان الناس يحترزون في كلامهم وأفعالهم من نسائهم وغلمانهم.

وقد طهر السبل من اللصوص، ومحا أثر قطاع الطريق، وقد دس على اللصوص في إحدى القوافل بغلاً يحمل حلوى مسمومة، فأكلوا منها فهلكوا، وكانت هذه أعظم مكيدة، وأعاد النظام إلى صحراء جزيرة العرب، وصحراء كرمان، وكانت مخيفة، وكان سكانها يضعون الضرائب على قوافل الحج، فارتفعت، وتحقق الأمن، وأقام للحجاج السواقي في الطريق، واحتفر لهم الآبار، واستفاض الينابيع، وأدار السور على مدينة الرسول، وأمر بعمارة منازل بغداد وأسواقها.

وابتدأ بالمساجد الجامعة، وكانت في نهاية الخراب، وهدم ما كان مستهدماً بنيانها وأعادها جديدة قوية، والزم أرباب العقارات بالعمارة، فمن قصرت يده أقرضه من بيت المال (بنك التسليف للإنشاء والتعمير). وفي عهده امتلأت الخرابات بالزهر والخضر والعمارة بعد أن كانت مأوى الكلاب، ومطارح الجيف والأقذار، وجُلبت إليها الغروس من فارس وسائر البلاد.

١٢٤

وكانت الأنهار ببغداد قد دفنت مجاريها، وعفيت رسومها، فأمر بحفرها من جديد، وأقام القناطر والجسور، وعُملت عملاً محكماً، وحضّر كثيراً من أهل البادية، فزرعوا وعمروا البرية، ومع هذا لم تكن العراق مركز الدولة، بل كان مركزها في فارس، وبنى سوقاً للبزازين (تجار الأقمشة) وكان ينقل إلى بلاده ما لا يوجد فيها من الأصناف، وشيد مارستاناً كبيراً ببغداد، وأمر بإدرار الأرزاق على قوّام المساجد والمؤذنين وأئمةالصلاة، والقراء، وإقامة الجرايات لمن يأوي إليها من الغرباء والضعفاء، وتجاوزت صدقاته أهل الإسلام إلى أهل الذمة، وأذن للوزير في عمارة البيع لليهود، والأديرة للنصارى، وإعطاء الأموال لكل محتاج، وإن لم يكن مسلماً.

وكان يتصدق كل جمعة بعشرة آلاف درهم على الضعفاء والأرامل، ويصرف كل سنة ثلاثة آلاف دينار ثمن أحذية للحفاة من الحجاج، وعشرين ألف درهم كل شهر لتكفين الموتى، واستحدث ثلاثة آلاف مسجد وخان للغرباء، ولم يمر بماء جار إلا بنى عنده قرية، وكان ينفق على أهل مكة والمدينة وطرقهما ومصالحهما مائة ألف دينار كل سنة، وكان يبذل مالاً كثيراً على عمارة المصانع، وتنقية الآبار، ويعطي سكان المنازل التي في الطرقات، ليقدموا العلف لدواب المسافرين.

وكان يحب العلم والعلماء، ويجري الأرزاق على الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، والمفسرين والنحاة والشعراء، والنسابين والأطباء، والحساب والمهندسين، وأفرد لأهل الاختصاص من العلماء والحكماء موضعاً يقرب من مجلسه، وأنشأ

١٢٥

مكتبة تحتوي على كل كتاب صنف إلى وقته من جميع أنواع العلوم(١) .

وقال الشيخ القمي في كتاب «الكنى والألقاب»:

كان عضد الدولة يعظم الشيخ المفيد، وقد ألف له العلماء العديد من الكتب، وقصده فحول الشعراء، ومدحوه بأحسن المدائح، منهم أبو الطيب المتنبي الذي قال فيه:

وقد رأيت ملوك الأرض قاطبة

وسرت حتى رأيت مولاها

أبا شجاع بفارس عضد الدو

لة فناخسرو وشاهنشاها

أسامياً لم تزده معرفة

وإنما لذة ذكرناها

ومن آثاره تجديد عمارة مشهد أمير المؤمنين، وكان أوصى بدفنه فيه، فدفن بجواره (ع)، وكتب على لوح قبره: «هذا قبر عضد الدولة، وتاج الملة أبي شجاع بن ركن الدولة، أحب مجاورة هذا الإمام المعصوم لطمعه في الخلاص يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، وصلاته على محمد وعترته الطاهرة».

ولد عضد الدولة سنة ٣٢٤، وتولى الملك سنة ٣٦٦، وتوفي سنة ٣٧٢ هجري. وكان عازماً على القيام بمشروعات كثيرة غير ما تقدم، فعاجلته المنية.

صمصام الدولة وشرف الدولة:

وتولى بعد عضد الدولة ولده أبو كاليجار الملقب بصمصام الدولة، ونازعه الملك أخوه شرف الدولة أبو الفوارس، ودارت بينهما حروب طاحنة دامت أربع سنوات، وفي النهاية تغلب شرف الدولة على أخيه الصمصام، وقبض عليه، وأبقاه تحت الاعتقال، واستولى على المملكة بكاملها، وفي سنة ٣٧٩ توفي شرف الدولة، وكان عمره ٢٨ سنة وخمسة شهور، وقام بعده ولده أبو نصر الملقب ببهاء الدولة.

بهاء الدولة:

ولما ولي بهاء الدولة نازعه عمه فخر الدولة بن عضد الدولة، ثم عمه صمصام

_______________________

(١) هذا الحديث عن أعمال عضد الدولة نقلناه بالحرف من كتاب «الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري» لآدم متز، تعريب الأستاذ محمد عبد الهادي أبي ريدة.

١٢٦

الدولة، ووقعت بينهما حروب دامية، وتوزعت المملكة بين الجميع، وقتل صمصام الدولة سنة ٣٨٨. ومات بهاء الدولة سنة ٤٠٣، وحمل إلى مشهد أمير المؤمنين، فدفن هناك، وكان عمره ٤٢ سنة، وبضعة شهور، ودام ملكه ٢٤ سنة، وولي بعده ولده أبو شجاع سلطان الدولة.

سلطان الدولة:

ولما ملك سلطان الدولة ولى أخاه أبا طاهر الملقب بجلال الدولة البصرة، وأخاه الثاني أبا الفوارس بلاد كرمان، وأخاه الثالث مشرف الدولة العراق، وأقام هو في شيراز.

وبعد أمد خرج عليه أخوه أبو الفوارس، وأراد انتزاع الملك منه، ولكن سلطان الدولة تغلب عليه، وعفا عنه، وأيضاً خلعه أخوه مشرف الدولة، وأزال ملكه عن العراق، وخاطبه الناس بشاهنشاه، وانضم إليه أخوه جلال الدولة، وكان ذلك سنة ٤١١، وفي سنة ٤١٣ اتفقا، وحلف كل منهما للآخر على أن تكون العراق لمشرف الدولة، وفارس لسلطان الدولة.

وفي سنة ٤١٥ مات سلطان الدولة، فتولى بعده ابنه أبو كاليجار، ودارت حروب بينه وبين عمه أبي الفوارس انتهت بالصلح ببقاء العراق بيد مشرف الدولة دون منازع، وفارس لأبي كاليجار.

وفي سنة ٤١٦ مات مشرف الدولة وتولى بعده على العراق أخوه جلال الدولة. قال ابن الأثير: كان مشرف الدولة كثير الخير، قليل الشر، عادلاً، حسن السيرة.

جلال الدولة:

قال صاحب «النجوم الزاهرة» في الجزء الخامس: كان جلال الدولة ملكاً محباً للرعية حسن السيرة، وكان يحب الصالحين، ولقي من الأتراك في سلطنته شدائد.

وقال ابن الأثير في حوادث ٤٢٩:

في هذه السنة سأل جلال الدولة القائم بأمر اللّه أن يخاطبه الناس بملك الملوك، فقال له: نستفتي بذلك الفقهاء، فأفتى بالجواز أبو الطيب الطبري، والصيمري،

وابن البيضاوي، والكرخي، وامتنع أبو الحسن الماوردي، ولقب جلال الدولة بملك الملوك، وقد جرى بين الماوردي وبين الفقهاء الذين أفتوا بالجواز نقاش وجدال، هذا، وإن الماوردي أخص الناس بجلال الدولة وأقربهم منزلة منه، ولكنه آثر دينه على هوى الملوك، ولما أفتى بالتحريم وعدم الجواز انقطع عن جلال الدولة، ولزم بيته خائفاً، وفي ذات يوم استدعاه جلال الدولة، فلبى، وهو موقن بالذبح، ولما دخل عليه أكرمه وعظمه، وقال له فيما قال: إني أعلم بأنك ما قلت وما

١٢٧

فعلت إلا لمرضاة اللّه والحق، وقد بان لي موضعك من الدين، ومكانك من العلم، وإنك أعز لدي من الجميع.

وهذا شاهد صدق على عدل جلال الدولة وإنصافه، وتواضعه للحق.

ومات جلال الدولة سنة ٤٣٥ قال ابن الأثير في حوادث هذه السنة:

«كان مولده سنة ٣٨٣ ، وملكه ببغداد ١٦ سنة و ١١ شهراً ومن علم سيرته، وضعفه، واستيلاء الجند والنواب عليه، ودوام ملكه إلى هذه الغاية علم أن اللّه على كل شيء قدير، يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، وكان يزور الصالحين، وزار مرة مشهد علي وولده الحسين (ع)، وكان يمشي حافياً قبل أن يصل إلى كل مشهد منهما نحو فرسخ، يفعل ذلك تديناً».

أبو كاليجار:

وتولى بعد جلال الدولة أبو كاليجار بن سلطان الدولة، ووقعت الحرب بينه وبين طغرلبك السلجوقي، ثم تم الصلح بينهما، واستقرت الحال، وتزوج طغرلبك ابنة أبي كاليجار، وتزوج ابن أبي كاليجار بابنة أخ طغرلبك.

وفي سنة ٤٤٦ مات أبو كاليجار، وكان عمره ٤٠ سنة وشهوراً، ودام ملكه على العراق ٤ سنوات وشهرين ونيفاً وعشرين يوماً.

الملك الرحيم:

وتولى بعد أبي كاليجار ولده أبو نصر الملقب بالملك الرحيم، ولكن لم تطل أيامه، فقد دخل طغرلبك بغداد سنة ٤٤٧ واستولى عليها، وقبض على الملك الرحيم، وسجنه في إحدى القلاع، وانتهى به ملك البويهيين الذي امتد من سنة

٣٢١ هجري إلى سنة ٤٤٧ والسبب الأول لانهيار دولتهم وزوالها على أيدي السلجوقيين شغلهم بالحروب الخارجية والداخلية، بخاصة بين أمراء البيت البويهي بعضهم مع بعض حول الملك.

هذا ملخص تاريخ ملوك بني نويه، وقد أشرنا في مطاوي الحديث عنهم إلى اهتمامهم بالعلوم والآداب، ونعطف على ما قدمناه ما جاء في كتاب «مختصر تاريخ العرب» للسيد مير علي ص ٢٦٢ طبعة ١٩٣٨:

١٢٨

«لقد شجع البويهيون الروح الأدبية في البلاد، وعضدوا مدرسة بغداد التي كان قد اضمحل شأنها في أثناء تدهور الخلافة. وحفروا الجداول وهيأوها إلى الملاحة، حتى مدينة شيراز، فأزالوا

بذلك خطر الفيضانات الدورية التي كانت تغمر المناطق، كما شيد عز الدولة مستشفى فخماً، وفتح عدة كليات في بغداد».

وجاء في كتاب «الأدب في ظل بني بويه» للغناوي ص ١٢٧ طبعة ٩٤٩: «امتاز عهد آل بويه بالخصب العلمي والأدبي بتأثيرهم الخاص، أو بتأثير وزرائهم، ذلك أنهم استوزروا أبرع الكتاب وأبرزهم، واعتمدوا عليهم في تدبير شؤون الحرب وأمور السياسة والإدارة والمال جميعاً، فلمعت اسماؤهم، وعظمت هيبتهم، وطار صيتهم في الآفاق، فقصدهم أهل العلم والأدب، فأفادوا منهم كثيراً، وأنتجوا كثيراً في ميدان الأدب والفلسفة والعلم، فكان أثرهم في الحياة الفكرية قوياً جداً ربما فاق أثر أسيادهم، أي الخلفاء العباسيين».

أما مناصرتهم لمذهب التشيع فقد ذهبوا فيه إلى أقصى حد، وكان الغالب في بغداد عاصمة الدولة مذهب التسنن قبل البويهيين، وبعدهم نما فيها مذهب التشيع، وانتشر. قال ابن الأثير في حوادث سنة ٣٥٢:

«في هذه السنة أمر معز الدولة الناس أن يغلقوا دكاكينهم في عاشر المحرم، ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء، ويظهروا النياحة على الحسين، ففعل الناس ذلك، ولم يكن للسنة قدرة على المنع منة لكثرة الشيعة، ولأن السلطان منهم. وفي ثامن عشر ذي الحجة أمر معز الدولة بإطهار الزينة بالبلد، وأشعلت النيران بمجلس الشرطة، وفتحت الأسواق ليلاً، كما يفعل في ليالي الأعياد كل ذلك فرحاً بعيد الغدير».

وقال في حوادث سنة ٣٨٩:

إن أهل السنة عملوا يوم ٢٦ من ذي الحجة زينة عظيمة، وفرحاً شديداً، وقالوا: هذا يوم دخول النبي وأبي بكر إلى الغار، فعملوا ذلك مقابل يوم الغدير. وكذلك عملوا في ١٨ المحرم مثل ما يعمل الشيعة يوم عاشوراء، وقالوا: هو يوم قتل فيه مصعب بن الزبير.

١٢٩

وما اقتصر آل بويه في خدمة التشيع على مظاهر الفرح يوم الغدير، وشعائر الحزن يوم عاشوراء، بل كانوا يبذلون جهدهم في خدمة أهل البيت بشتى الوسائل، وكانوا يحترمون علماء الشيعة بجميع طرق الاحترام من التبجيل والعناية، وبذل الأموال الكثيرة، وقد كان عضد الدولة يركب في موكبه العظيم، لزيارة الشيخ المفيد.

كما أن آل بويه أسكنوا الشيعة في المشاهد المقدسة، وخصصوا لهم الرواتب. وأقاموا الأبنية الضخمة، وعليها القباب الرفيعة لتلك الأضرحة الكريمة، حتى أن عضد الدولة أقام في المشهد العلوي هو وجنده قريباً من سنة، ليشرف على تعمير القبر الشريف بنفسه، وبنى حوله الدور والرباطات، وأجزل للعلويين العطاء، وللمجاورين، والخدمة، وأوجد القناة المعروفة بقناة آل بويه، وفعل مثل ذلك في المشهد الحسيني بكربلاء، ومن المؤرخين من اعتراف بانتشار التشيع في عهد البويهيين، وتكثر الشيعة في دولتهم(١) .

______________________

(١) تاريخ الشيعة للشيخ محمد الحسين المظفر.

١٣٠

دَولَة الفَاطِميّين *

الخلفاء الفاطميون، نسبهم ومذهبهم:

لمن ينتسب الخلفاء الفاطميون؟ وما هو مذهبهم؟

ينتسب هؤلاء إلى جدهم الملقب بالمهدي، أول خلفائهم ببلاد المغرب، وهو عبيد اللّه بن محمد بن جعفر بن محمد بن إسماعيل ابن الإمام جعفر الصادق.

وهم من فرقة الإسماعيلية، احدى فرق الشيعة، والإسماعيلية يوافقون الإمامية الاثني عشرية في سوق الإمامة من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى الإمام جعفر الصادق، ثم يعدلون بها عن الإمام موسى الكاظم إلى أخيه إسماعيل، ثم إلى ابنه محمد، ثم إلى ابنه جعفر، ثم إلى ابنه محمد الملقب بالحبيب، ثم إلى عبيد اللّه الملقب بالمهدي أول خلفاء الفاطميين، ثم الى ابنه العزيز، ثم ابنه الظاهر، إلى ابنه المستنصر باللّه أبي تميم خامس خلفائهم بمصر، وهنا يفترق الإسماعيلة إلى فرقتين: إحداهما تقول: إن الإمامة انتقلت من المستنصر إلى ابنه المستعلي، وأخرى تقول: إنها انتقلت إلى ابنه نزار.

الفرق بين الإسماعيلية والاثني عشرية:

تفترق الإسماعيلة عن الإمامية في جهات:

«منها»: هذا الاختلاف بينهما في عدد الأئمة، واشخاصهم بعد الإمام الصادق.

و «منها»: إغراق الإسماعيلية في تأويل آيات القرآن، وسنن النبي على موافقة أساسهم بما لا يتحمله اللفظ، ولا يشهد عليه شاهد من عقل أو نقل أو

_______________________

*- وتسمى الدولة العبيدية نسبة إلى عبيد اللّه المهدي أول خلفائهم.

١٣١

إجماع. أما الاثنا عشرية فيتركون بعض الآيات التي يشتبه معناها على العقول، كفواتح السور وما إليها، يتركونها بدون تأويل، ولا يؤولون آية أو حديثاً إلا بشروط:

١ - أن يتنافى المعنى الظاهر مع ما يقطع به العقل، أو يقوم الإجماع على خلافه.

٢ - أن يحمل اللفظ على معنى صحيح.

٣ - أن يتحمل اللفظ المعنى المؤول به، وبكلمة أن التأويل عند الاثني عشرية لا يعدو صرف اللفظ عن المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي، مع وجود القرينة.

و «منها»: أن الدعوة الإسماعيلية تغمرها أمواج من السرية والتخفي، حتى التبست عقيدتها على أكثر الباحثين، أو الكثير منهم، أما تعاليم الاثني عشرية فظاهرة لا خفاء فيها، ولا غموض، هذا، إلى أن الإسماعيلية تجاوزوا الحد في التستر واستعمال التقية دون مبرر من العقل أو النقل، «فكانوا سنّيين مع أهل السنة، وشيعيين مع الشيعة، ومسيحيين مع المسيحية»(١) . أما الاثنا عشرية فلا يستعملون التقية إلا لضرورة قاهرة، كالخوف على النفس أو المال أو العرض. وفصلنا ذلك فيما تقدم.

و «منها»: أن الإسماعيلية ينشرون تعاليم عقيدتهم، ومبادئ مذهبهم على خطوات، ولهم دعاة يتدرجون في مراتب العقيدة من المعلومات البسيطة، حتى يصلوا بالمستجيب إلى مبادئ فلسفية عميقة لا يفهمها إلا القليلون(٢) ولا درجات ومراتب عند الاثني عشرية.

وقد خلط كثير من الكتاب والمؤرخين بين الإسماعيلية، والاثني عشرية، ولم يميزوا بين الفرقتين، ونسبوا جهلاً أو افتراء الكثير من عقائد تلك إلى هذه.

ومهما يكن، فلسنا في شيء من بيان عقائد الإسماعيلية، وفلسفتهم، وإنما غرضنا الأول أن نعرّف القراء بالدولة الفاطمية، وخلفائها في المغرب ومصر، ومكانها

_______________________

(١) عارف تامر في مقدمة كتاب «عبقرية الفاطميين» للأعظمي.

(٢) المصدر السابق نفسه.

١٣٢

من التاريخ وتأثيرها في نشر التشيع.

عبيد اللّه المهدي:

كان في عهد العباسيين رجل يدعى أبو عبد اللّه الشيعي، وكان قد ولي الحسبة في بعض أعمال بغداد، وكان في أول الأمر يعتنق عقائد الاثني عشرية، واتصل بمحمد المعروف بالحبيب والد عبيد اللّه المهدي، فأقنعه بالعدول عن مذهب الاثني عشرية، واعتناق الإسماعيلية، فاعتنقها، وأخلص لها، وأصبح من أعظم دعاتها.

وذهب أبو عبد اللّه الشيعي إلى بلاد المغرب يبشر بالإسماعيلية، ويمهد لخلافة المهدي، فاتبعه بعض أهلها، وترأس عليهم رئاسة دينية، وقرر لهم مذهب الإسماعيلية، فاتبعوه وتمسكوا به، ولما اطمأن إلى طاعتهم ألف منهم جيشاً، وثار به على الحاكم، وهو ابراهيم بن الأغلب، وانتزع منه الحكم، وسلمه إلى المهدي لقمة سائغة، وذلك سنة ٢٩٦ هجري، وتلقب المهدي بأمير المؤمنين، ولم يلبث أن دوّن الدواوين، وجبى الأموال، واستقر قدمه بالبلاد.

واصطدم المهدي بدولة الأدارسة، وساهم إلى حد كبير في إزالتها، كما اصطدم مع الأمويين في الأندلس، وأزال دولة الأغالبة كلية، وخضع له المغرب الأقصى، وتونس، ودخلت القبائل بكاملها في طاعته، وبعد أن استقر له الملك، فتك بأبي عبد اللّه الشيعي، لثقة الناس به، ومكانته بين أهالي المغرب مما أثار حنق المهدي عليه.

ورأى المهدي أن يبني حاضرة في مكان متوسط يتخذها حصناً يعتصم به عند الحاجة، ويوجه منه هجماته إلى الخارجين عليه، فبنى مدينة أسماها المهدية تقع على بعد ستين ميلاً جنوبي القيروان، يحيط بها البحر من ثلاث جهات، وبعد أن انتهى من بنائها أنشأ مدينة أخرى بجوارها أسماها زويلة، نسبة إلى أحدى قبائل بلاد المغرب، ومات سنة ٣٢٢، وقام بالأمر بعده ابنه أبو القاسم محمد الملقب بالقائم بأمر اللّه.

القائم بأمر اللّه:

وما آلت الخلافة إلى القائم بأمر اللّه، حتى اندلعت نار الثورة في أجزاء المملكة، وانحاز بعض الزعماء إلى عبد الرحمن الناصر الأموي بالأندلس، وثار على القائم خارجي يدعى أبا يزيد عرف بعدائه للإسماعيلية، وقد اجتمعت عليه سائر الخوارج، وقويت به شوكته، وأخذ عليهم البيعة لنفسه على قتال الإسماعيلية، واستباحة الغنائم والسبي. وحاصر أبو يزيد المهدية عاصمة الخلافة، وعظم البلاء على أهلها، حتى أكلوا الدواب والميتة، وخرج أهلها مهاجرين إلى مصر وطرابلس وبلاد

١٣٣

الروم، وكانت أصحاب أبي يزيد يأخذون من يخرج من المدينة، ويشقون بطنه طلباً للذهب، وكان الغوغاء تتوافد على أبي يزيد من كل ناحية ينهبون ويقتلون، حتى افنوا ما كان في أفريقيا(١) ، ولما لم يبق ما ينهب تركوه في قلة استطاع القائم بأمر اللّه أن يتغلب عليها.

مات القائم سنة ٣٣٣ ، وتولى بعده ولده إسماعيل الملقب بالمنصور.

المنصور:

وكان المنصور من أهل الشجاعة والفصاحة والتدبير، فعمل على تقوية جيوشه عدة وعدداً، وطارد الخارجي أبا يزيد الذي أوشك أن يودي بدولة الفاطميين من قبل، وأوقع الهزيمة بجيشه، حتى انتهت فتنته بالقبض عليه، ومات متأثراً بجراحه، وساءت حال البلاد من جراء هذه الثورة، وأثرت في موارد الدولة، فشرع المنصور بالعمل على انعاش البلاد، وإعادتها إلى ما كانت عليه، وأنشأ أسطولاً كبيراً، وأسس مدينة المنصورية، واتخذها عاصمة لدولته.

مات المنصور سنة ٣٤١، وآلت الخلافة إلى ولده المعز لدين اللّه.

المعز:

كان المعز لدين اللّه مثقفاً، ومولعاً بالعلوم والآداب، كما عرف بحسن التدبير، واحكام الأمور، لذا دانت له قبائل البربر، وأطاعته على ما بينها من اختلاف، وقد رأى بعد أن استتب الأمن في ربوع المغرب، واطمأنت به الحال أن يعد العدة لغزو مصر، لثروتها وموقعها الجغرافي الذي يمهد السبيل لامتداد النفوذ

_____________________

(١) ابن الأثير، حوادث سنة ٣٣٣

١٣٤

والسيطرة على كثير من الأقطار، بخاصة الشام والحجاز، وكان هذان القطران خاضعين للأخشيديين حكام مصر في ذلك الحين.

وفي سنة ٣٥٦ أمر المعز بإنشاء الطرق، وحفر الآبار في طريق مصر، وأقام المنازل على رأس كل مرحلة، ولما وصلته الأخبار بوفاة كافور سنة ٣٥٧ أخذ في إعداد الجيش والمال، وبعث إلى دعاته في مصر يعلمهم بعزمه، ليمهدوا سبل الغزو، وعهد إلى قائده جوهر الصقلي بقيادة الحملة، فسار جوهر بجيشه سنة ٣٥٨، حتى وصل برقة، فقدم له صاحبها الطاعة، ثم مضى إلى الإسكندرية، فدخلها من غير مقاومة.

ولما وردت أخبار جوهر إلى الفسطاط تألف وفد من الأكابر، وفاوضه في تسليم المدينة، وانتهت المفاوضة بكتاب الأمان، ولكن فئة من الجنود المصريين الذين كانوا في خدمة كافور لم يرضوا عن عقد الصلح، وأعلنوا الحرب، ودار القتال بينهم وبين جيش جوهر، فقتل منهم عدد كبير، وطلب الباقون منهم الأمان من جديد، فأجابهم جوهر، وأعاد الأمان.

وهكذا زال سلطان الأخشيديين والعباسيين عن مصر، وأصبحت هذه البلاد ولاية تابعة للدولة الفاطمية التي امتدت من المحيط الاطلسي غرباً إلى البحر الأحمر شرقاً، ونافست الدولة الفاطمية الشيعية بغداد حاضرة الدولة العباسية السنية المتداعية، وكان لتلك المنافسة أبعد الأثر في الحضارة الإسلامية. (تاريخ الدولة الفاطمية لحسن إبراهيم ص ١٤٧ طبعه سنة ١٩٥٨).

الجامع الأزهر ومذهب التشيع:

وفي سنة ٣٥٨ وضع جوهر أساس مدينة القاهرة التي لا تزال إلى اليوم، وبعد إكمالها اتخذها عاصمة للدولة الجديدة. ورأى جوهر أن لا يفاجئ السنيين في مساجدهم بشعائر المذهب الشيعي، خشية أن يثير حفيظتهم، فبنى الجامع الأزهر، وعقدت فيه حلقات الدرس، وكانت تركز اهتمامها على نشر المذهب الشيعي بين الناس.

ومنع جوهر من لبس السواد شعار العباسيين، وزاد في الخطبة: «اللهم صل على محمد المصطفى، وعلى علي المرتضي، وفاطمة البتول، والحسن والحسين

سبطي الرسول» كما أمر أن يؤذن في جميع المساجد بحي على خير العمل، واستمرت شعائر التشيع، والتدريس في الأزهر على المذهب الشيعي، حتى جاء صلاح الدين الأيوبي، فقضى على الخلافة الفاطمية، ومذهب التشيع، وكل ما يمت إليه بصلة، وقد ذكرنا ذلك في كتاب «الشيعة والحاكمون».

١٣٥

توجه المعز إلى مصر:

ولما أيقن المعز أن دعائم ملكه توطدت في مصر والشام سار إليها من إفريقيا بأهله وأمواله في ركب هائل، فوصل الإسكندرية سنة ٣٦٢، فخف أكابر المصريين إلى لقائه وتحيته، وانتقل منها إلى القاهرة عاصمته الجديدة، واستقرت الخلافة الفاطمية بمصر، وامتد سلطانها من أواسط المغرب إلى شمال الشام، ولكن لم يمض إلا القليل حتى زحف القرامطة إلى الشام، وانتزعوها من يد نائب الخليفة الفاطمي، ثم توجهوا إلى مصر بقيادة زعيمهم الحسن الأصم، والتقت جيوش المعز بالغزاة على مقربة من بلبيس في أواخر سنة ٣٦٣، وأوقعت بهم هزيمة فادحة.

ومات المعز سنة ٣٦٥ بيد أنه لم يغادر هذه الحياة، حتى كانت الخلافة الفاطمية تبسط سلطانها وإمامتها على المغرب ومصر والشام، حتى حلب والحرمين. وقال ابن الأثير: «كان المعز عالماً فاضلاً، جواداً شجاعاً، جارياً على منهاج أبيه من حسن السيرة، وإنصاف الرعية». (الحاكم بأمر اللّه لمحمد عبد اللّه عنان ص ٧٩ طبعة ثانية).

وخلف المعز ولده أبو منصور نزار الملقب بالعزيز باللّه.

العزيز باللّه:

وفي أوائل عهد العزيز استولى القرامطة على الشام، وزحفوا على مصر مرة أخرى، فسار إليهم العزيز بنفسه، وقاتلهم قتالاً شديداً، وهزمهم. وعني العزيز عناية خاصة بالشام وشؤونها، واختار لولايتها غلامه بنجوتكين التركي، وبعد أن نظم أمورها أمره بالمسير إلى حلب، فسار إليها، وأميرها يومئذ أبو الفضل بن حمدان حفيد سيف الدولة، وكان بنو حمدان حيثما رأوا توغل

الفاطميين في الشام تحالفوا مع باسيل الثاني إمبراطور قسطنطينية، ولما زحف الجيش الفاطمي إلى حلب أمدهم باسيل بالجيوش ونشبت معركة بين الجيشين هزم فيها البيزنطيون، واُسر قائدهم، وعندها سار باسيل بنفسه في جيش تقدره الرواة بمائة الف، لزم الفاطميون خطة الدفاع.

وفي عهد العزيز اشتدت حركة الإنشاء والتعمير، فأنشئت وجددت في أيامه صروح ومنشآت عديدة، منها قصر الذهب بالقاهرة، وجامع القرافة، وجامع القاهره الذي أتمه ولده الحاكم، وبستان سردوس، وقصور عين شمس، ودار الصناعة، وقنطرة الخليج. (الحاكم بأمر اللّه لعنان).

١٣٦

وعني العزيز كأبيه المعز بنشر المذهب الشيعي، وحتّم على القضاء أن يصدروا أحكامهم وفق هذا المذهب، كما قصر المناصب الهامة على الشيعيين، وأصبح لزاماً على الموظفين السنّيين الذين تقلدوا بعض المناصب الصغيرة أن يسيروا طبقاً لأحكام المذهب الإسماعيلي(١) .

وكان العزير جواداً ومدبراً، فقد أذن لصاحب بيت المال أن يقدم القروض للموظفين الصغار من مال العزيز الخاص على أن لا يطالب من عجز عن الوفاء ولا يعاقب من يستطيع الوفاء ولا يفعل. وفي عهده اتسع نطاق الدعوة الفاطمية اتساعاً عظيماً، ودعي للخليفة الفاطمي في الموصل واليمن. وانكمشت الدعوة العباسية في حدود ضيقة، وتضاءل سلطانها الروحي، كما تضاءل سلطانها السياسي.

الحاكم بأمر اللّه:

حين بويع الحاكم بالخلافة كان له من العمر ١١ سنة. فتولى الوصاية عليه مربيه وأستاذه برجوان الخادم، وبعد أن أتم الخامسة عشرة من عمره استقل بالحكم، وقتل برجوان، لأنه كان يضايقه ويسيء معاملته حين الوصاية عليه.

______________________

(١) مصر في عصر الدولة الفاطمية لسرور نقلاً عن اتعاظ الحنفاء للمقريزي ص ١٩٧

١٣٧

وقسم الدكتور حسن إبراهيم في كتاب «تاريخ الدولة الفاطمية» أدوار خلافة الحاكم إلى أربعة:

١ - من سنة ٣٨٦ إلى سنة ٣٩٠ ، وكان في هذه المدة لا يملك من أمر السلطان شيئاً لصغره.

٢ - من سنة ٣٩٠ إلى سنة ٣٩٥ ، وفيها كان للحاكم على حداثة سنه سلطة كبيرة، أظهر فيها تعصباً شديداً للمذهب الفاطمي.

٣ - من سنة ٣٩٦ إلى سنة ٤٠١ ، وفي هذه المدة، ترك سياسة التعصب، وتبع سياسة التسامح مع جميع الطوائف.

٤ - من سنة ٤٠١ إلى سنة ٤١١ ، ظهرت سياسته في هذه الفترة بمظهر القلق والتذبذب، ورغم ذلك، فقد ساعدت سياسته على إقرار الأمن، وقضت على الفوضى التي كانت سائدة في أوائل عهده، وأنشأ الحاكم دار الحكمة التي كان يشتغل بها كثير من القراء والفقهاء والمنجمين والنحاة واللغويين، وألحق بها مكتبة، أطلق عليها اسم دار العلم، حوت كثيراً من أمهات الكتب ونفائسها.

وقال عنان في كتاب «الحاكم بأمر اللّه» ص ١٠٣ طبعة ثانية:

«كان الحاكم بأمر اللّه حاكماً حقيقياً، يقبض على السلطة بيديه القويتين، ويشرف بنفسه على مصاير هذه الدولة العظيمة، ويبدي في تدبير شؤونها نشاطاً مدهشاً، فيباشر الأمور في معظم الأحيان بنفسه، ويتولى النظر والتدبير مع وزرائه، وهكذا كان الأمير اليافع يؤثر العمل المضني على مجالي اللهو واللعب التي يغمر تيارها من كان في سنه، وفي مركزه وظروفه.

وقد لزم الحاكم هذا النشاط المضني طوال حياته، وكان ذا بنية قوية متينة، مبسوط الجسم، مهيب الطلعة، له عينان كبيرتان سوداوان، تمازجهما زرقة، ونظرات حادة مروعة، كنظرات الأسد، لا يستطيع الإنسان صبراً عليها، وله صوت قوي مرعب، يحمل الروع إلى سامعيه، ويقول الإنطاكي: ولكن كان جماعة يقصدونه لأمور تضطرهم إلى ذلك، فإذا أشرف عليهم سقطوا

١٣٨

وجلاً منه، وفحموا عن خطابه»(١) .

وقتل الحاكم سنة ٤١١، وتولى بعده الخلافة ابنه أبو هاشم الملقب بالظاهر، واختلف في سبب قتله، فمن قائل: إن أخته ست الملك دبرت اغتياله، ومن قائل: إنه خرج في بعض الليالي كعادته راكباً حماراً، ولم يعد. ويعتقد الدروز أن الحاكم اختفى، وأنه سيعود إذا زالت المفاسد المنتشرة في العالم، فهو الإمام المنتظر عند هذه الطائفة. (تاريخ الدولة القاطمية لحسن إبراهيم حسن ص ١٦٨ طبعة ثانية).

وبالتالي، فقد كان عصر الحاكم مليئاً بالأعمال والمآثر الجليلة فقد جدد الأزهر، وأجرى عليه وعلى دار الحكمة الأوقاف الجزيلة، وأنشأ جامعاً في القاهرة، وآخر بالاسكندرية، وأحصى المساجد، ورتب للمؤذنين والأئمة الأرزاق، وأغدق العطايا والمنح للعلماء والأساتذة.

وفي سنة ٤٠٤ أعتق كل ما يملك من الرقيق، وكانوا جمعاً غفيراً، ووهبهم الأموال والأملاك ليعتاشوا بها، وكان نصير العلم والآداب، فقد أخرج كل ما في القصر من خزائن الكتب، ووضعها في متناول العلماء والطلاب، لينتفعوا بها، وكان يعقد في قصره مجالس للعلماء يتدارسون ويتناقشون في حضرته، ويجزل لهم الجوائز والصلات، ونال العلماء الكبار وأهل الاختصاص لديه حظوة كبيرة، وألف له أبو الحسن الفلكي معجماً ضخماً في الفلك يعرف بالزيج الكبير، كما استدعى المهندس الشهير ابن الهيثم، لما بلغه من براعته وتفننه، وعهد إليه بفحص أحوال النيل، وما يمكن أن يعمل للانتفاع بمائه.

وكان يميل إلى تخفيف الضرائب عن كاهل الشعب، وحدد الأسعار، وضرب كثيراً من الباعة، وشهر بهم لمخالفتهم التعريفة الرسمية، وأصلح المكاييل والموازين وضبطها، وأجمع المؤرخون على تقشفه وزهده في المظاهر العامة في حياته، واحتقاره للرسوم والألقاب والمواكب الفخمة التي امتاز بها الخلفاء

______________________

(١) وأكثر أهل التاريخ يصورون الحاكم كشخصية عجيبة مدهشة، تغرق في المتناقضات، فهو فوضوي ومنظم، وكريم وبخيل، وشجاع وجبان، وعاقل ومجنون، وسفاك للدماء ورحيم، ومحلل للحرام، ومحرم للحلال، وصاعد ونازل ومشرق ومغرب. كل ذلك وما إليه يعرض له في لحظات وثوانٍ، انظر الجزء الرابع من النجوم الزاهرة لأبي المحاسن، والحاكم بأمر اللّه لعنان.

١٣٩

الفاطميون، إلى غير ذلك.

الظاهر:

في سنة ٤١١ هجري خلف الظاهر لإعزاز دين اللّه أباه، وكان في السادسة عشرة من عمره، ودانت له ممالك أبيه كلها الشام والثغور وإفريقيا، وقامت عمته ست الملك بالوصاية عليه في الفترة الأولى من حكمه، فأظهرت كفاءة في تدبير المملكة وسياسة الناس.

وكان الظاهر عاقلاً سمحاً ذا دين وعفة وحلم مع تواضع، وعدل في الرعية، ومن ثم استقام له الأمر مدة من الزمن، وقد استطاع أن يكسب عطف أهل الذمة ومحبتهم، حيث تمتعوا في عهده بالحرية الدينية، ووجه عنايته إلى شؤون الدولة وتحسين الزراعة، وأصدر قانوناً منع فيه من ذبح البقر، وذلك على أثر وباء أصاب الحيوانات التي تستخدم في فلاحة الأرض.

ومات الظاهر بمرض الاستسقاء سنة ٤٢٧، وقام بعده ابنه أبو تميم الذي تلقب بالمستنصر. (النجوم الزاهرة ج ٤).

المستنصر:

جاء في أول الجزء الخامس من كتاب «النجوم الزاهرة» ما يلي:

ولي المستنصر باللّه الخلافة بعد أبيه سنة ٤٢٧، وكان عمره سبع سنين وسبعة وعشرين يوماً، وبقي في الخلافة ستين سنة وأربعة أشهر. وهو الذي خطب له بإمرة المؤمنين على منابر العراق سنة ٤٥١، ولا نعلم أحداً في الإسلام لا خليفة ولا سلطاناً طالت مدته في الحكم مثل المستنصر.

وحدث في أيامه بمصر الغلاء الذي ما عرف مثله منذ زمان يوسف، ودام سبع سنين، حتى بلغ ثمن الرغيف الواحد خمسين ديناراً، وقيل: إنه كان يموت بمصر كل يوم عشرة آلاف نفس، ثم عدمت الأقوات كلية، فأكل الناس الكلاب والقطط، ثم أكل بعضهم بعضاً، وقد دون المؤرخون عن هذه المجاعة قصصاً مروعة.

وخرجت بعض البلاد عن سلطان الفاطميين في عهد المستنصر، فقد زالت

سلطتهم من بلاد المغرب الأقصى سنة ٤٧٥، وخلع أمير مكة والمدينة طاعتهم سنة ٤٦٢.

ومات المستنصر سنة ٤٨٧، وقام بعده ابنه أحمد المستعلي باللّه.

١٤٠