الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان19%

الشيعة في الميزان مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 419

الشيعة في الميزان
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 142450 / تحميل: 9284
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

المستعلي:

وفي عهد المستعلي وهنت الدولة الفاطمية، وقامت الحروب الداخلية والخارجية، فقد نازع المستعلي أخوه نزار على الملك، ودارت بينهما حروب وفتن، كما بدأ الصليبيون يغيرون على سواحل بلاد الشام، فاستولوا على إنطاكية وتوابعها، ثم تابعوا سيرهم، حتى وصلوا إلى بيت المقدس، ودارت بينهم وبين جيوش الفاطميين معارك حامية، ولكن الصليبيين استولوا بالنهاية على فلسطين والمدن الساحلية ببلاد الشام.

وتوفي المستعلي سنة ٤٩٥، وقام بعده ابنه الآمر بأحكام اللّه.

الآمر:

استخلف الآمر، وله من العمر ٥ سنين، وكان الوصي ومدبر شؤون البلاد الوزير الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش. ونقل صاحب «النجوم الزاهرة» في الجزء الخامس ص ١٧٠ طبعة سنة ١٩٣٥ عن الحافظ الذهبي:

إن الآمر كان رافضياً كآبائه، ولي الأمر، وهو صبي، فلما كبر قتل الأفضل وعين في الوزارة المأمون البطائحي، فظلم وأساء السيرة، فقتله الآمر وصادر أمواله، وفي أيام الآمر أخذ الصليبيون عكا سنة ٤٩٧، وأخذوا طرابلس سنة ٥٠٢، وقتلوا وسبوا، وجاءت نجدة المصريين بعد فوات الأوان، وسنة ٥١١ أخذوا تبنين، وتسلموا صور سنة ٥١٨، وأخذوا بيروت سنة ٥٠٣، وصيدا سنة ٥٠٤، ثم قصد الملك بردويل مصر ليأخذها، فهلك قبل أن يصل العريش، وهكذا تضعضع ملك الفاطميين في عهد الآمر المشؤوم الطلعة.

وفي سنة ٥٢٤ تعاهد تسعة رجال على اغتيال الآمر، وانتظروا الفرصة، حتى مر في بعض الطرق فوثبوا عليه وثبة رجل واحد، وضربوه بالسكاكين، حتى أن واحداً منهم ركب وراءه، وضربه عدة ضربات، وأدركهم الناس، وقتلوا

التسعة. (النجوم الزاهرة ج ٥).

وقام بعده ابن عمه الحافظ لدين اللّه عبد المجيد بن محمد بن المستنصر.

الحافظ:

ولي الحافظ الخلافة بعد قتل ابن عمه الآمر الذي لم يترك ولداً ذكراً، ووزر للحافظ أبو علي أحمد بن الفضل، وقويت شوكة هذا الوزير، وصار صاحب الأمر كله، قال أبو المحاسن في الجزء الخامس من النجوم الزاهرة:

١٤١

ضيق الوزير على الحافظ، وحجر عليه، ومنعه من الظهور، وأودعه في خزانة لا يدخل إليه أحد إلا بأمر الوزير، ثم أهمل الوزير خلفاء بني عبيد - أي الفاطميين - والدعاء لهم، لأنه كان سنياً كأبيه. وغير قواعد الشيعة، فأبغضه الأمراء والدعاة، لأن غالبهم كانوا من الشيعة، بل الجميع، فلما كرهه الشيعة المصريون صمموا على قتله، فكمن له جماعة، وقتلوه، وأخرجوا الحافظ، وبايعوه ثانية.

وهذا الحافظ كان كثير المرض بعلة القولنج، فعمل له شير ماه الديلمي طبل القولنج الذي كان في خزائن الفاطميين، ومن خاصته أنه إذا ضربه أحد خرج الريح من مخرجه، ولهذه الخاصية كان ينفع الطبل من القولنج، ولما ملك صلاح الدين الأيوبي كسر هذا الطبل، لا لشيء إلا لأنه من آثار الفاطميين.

ومات الحافظ سنة ٥٤٤، وخلفه ولده إسماعيل الملقب بالظافر باللّه.

الظافر:

وكان الظافر حين ولي الخلافة ابن سبع عشرة سنة وأشهر، وكانت أيامه مضطربة، لحداثة سنه، واشتغاله باللهو، فقد ترك كل شيء، وانصرف إلى شاب مثله، وهو نصر ابن وزيره عباس الصنهاجي، حتى انتهى الأمر بالخليفة أنه كان يخرج من قصره لزيارة ابن عباس في داره، واغتنم الوزير مخالطة الخليفة لولده، وأوعز إليه باغتياله ففعل. واتهم عباس الوزير الذي دبر اغتيال الخليفة، اتهم اخوة الخليفة بقتله، وقتلهم، وكان للخليفة ابن اسمه عيسى، وله من العمر خمس سنين، فبايعه الوزير، ولقبه بالفائز بنصر اللّه، وأقام نفسه وصياً عليه، وذلك سنة ٥٤٩ ومات الفائز سنة ٥٥٥، وهو ابن عشر سنين أو نحوها، وقام بعده العاضد لدين اللّه، وكان ابن ١١ سنة، وخلعه صلاح الدين الأيوبي سنة ٥٦٧، وخطب للخليفة العباسي ببغداد، وبالعاضد زالت الدولة الفاطمية التي استمرت من سنة ٢٩٦ إلى سنة ٥٦٧، وقد استعمل الأيوبي سياسة الإفناء والاستئصال مع الفاطميين.

الفاطميون والحضارة:

بلغت الحضارة في عهد الفاطميين اقصى الغايات، فبنوا المدن، واقاموا المساجد، وأنشأوا دور الكتب والجامعات، واتسعت في أيامهم التجارة، وتحسنت الزراعة، وانتشرت الآداب، وفنون الحكمة وأنواع العلوم.

قال الأستاذ عنان في «الحاكم بأمر اللّه» إن العصر الفاطمي من أسطع عصور مصر الإسلامية، إن لم يكن أسطعها جميعاً.

١٤٢

وقال المستشرق «سيديو» في تاريخ العرب العام ص ٢٤٤ طبعة ١٩٤٨:

أخذ العرب يلقون أسطع الأنوار من القاهرة لا من بغداد، حيث ازدهرت التجارة والصناعة والزراعة والآداب والفنون والعلوم في عهد الفاطميين بمصر، كما ازدهرت في عهد خلفاء بني العباس الأولين، وكانت عاصمة الفاطميين تنافس أجمل مدن آسيا، وسلك ابن يونس المصري سبيل فلكيي العراق، فكان له مرصد، ولم يقصر الفاطميون في صنع ما ينسى الناس به بغداد. ولم يلبثوا أن صار لهم مثل دخل هارون الرشيد تقريباً.

وقال المستشرق «بروكلمان» في «تاريخ الشعوب الإسلامية» ص ١٠٨ ج ٢ طبعة ٩٥٤:

إن آثار الفاطميين العظيمة مثل جامع الحاكم والجامع الأزهر الذي لا يزال مزدهراً إلى يومنا هذا كأعظم المؤسسات المدرسية في الإسلام لتشهد للهمم العالية التي ابتدعتها.

وقال السيد مير علي في «مختصر تاريخ العرب» ص ٥١٠ طبعة ١٩٣٨:

كان الفاطميون في أول عهدهم كالبطالسة الأولين يشجعون العلم، ويكرمون العلماء، فشيدوا الكليات والمكاتب العامة ودار الحكمة، وحملوا إليها مجموعات

عظيمة من الكتب في سائر العلوم والفنون والآلات الرياضية، لتكون رهن البحث والمراجعة، وعينوا لها أشهر الأساتذة، وكان التعليم فيها حراً على نفقة الدولة، كما كان الطلاب يمنحون جميع الأدوات الكتابية مجاناً، وكان الخلفاء يعقدون المناظرات في شتى فروع العلم، كالمنطق والرياضة والفقه والطب، وكان الأساتذة يتشحون بلباس خاص عرف بالخلعة، أو العباءة الجامعية - كما هي الحال اليوم - وارصدت للانفاق على تلك المؤسسات، وعلى أساتذتها، وطلابها وموظفيها املاك بلغ ايرادها السنوي ٤٣ مليون درهم، ودعي الأساتذة من آسيا والأندلس لإلقاء المحاضرات في دار الحكمة، فازدادت بهم روعة وبهاء.

١٤٣

الفاطميون والتشيع:

اتفق المؤرخون على أن الدولة الفاطمية قامت على أساس الدعوة الشيعية، وأنها قد حرصت جد الحرص على نشرها بمختلف الوسائل، وأن الفاطميين اتخذوا بناء المساجد ومعاهد العلوم سبيلاً لغزو عقائد المجتمعات «وقد وجدت العقائد الشيعية في مصر مرعى أكثر خصباً ونماء منه في شمال إفريقيا، وسرعان ما ترعرعت وعم أثرها»(١) .

فالمؤذنون ينادون على المآذن «حيّ على خير العمل» والخطباء في المساجد يفتتحون كلامهم بالصلاة على محمد المصطفى، وعلي المرتضى، وفاطمة البتول، والحسن والحسين سبطي الرسول، وحلقات الدروس في الأزهر وغيره ترتكز على مذهب الشيعة، وأحكام القضاة تصدر وفقاً لهذا المذهب.

وكتب المعز على الأماكن خير الناس بعد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وجعلوا اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، وهو يوم غدير خم يوم عيد، «وأصبح الاحتفال به في كل سنة من أهم الاحتفالات الدينية التي كانت تهتز لها جوانب القاهرة فرحاً وسروراً»(٢) .

وعن خطط المقريزي «إن شعائر الحزن يوم العاشر من المحرم كان أيام

_______________

(١) حسن إبراهيم في تاريخ الدولة الفاطمية ص ٣٧٦ طبعة ثانية.

(٢) المصدر السابق ص ٦٥٢.

١٤٤

الأخشيديين، واتسع نطاقه في أيام الفاطميين، فكانت مصر في عهدهم توقف البيع والشراء، وتعطل الأسواق، ويجتمع أهل النوح والنشيد يطوفون بالأزقة والأسواق، ويأتون إلى مشهد أم كلثوم ونفيسة، وهم نائحون باكون»(١) . وقال السيد مير علي في مختصر تاريخ العرب: «وكان من أهم عمارة القاهرة في عهد الفاطميين الحسينية، وهي بناء فسيح الأرجاء تقام فيه ذكرى. مقتل الحسين في موقعة كربلاء». وأمعن الفاطميون في إحياء هذه الشعائر وما إليها من شعائر الشيعة، حتى أصبحت جزءاً من حياة الناس.

ولولا سياسة الضغط والتنكيل التي اتبعها صلاح الدين الأيوبي مع الشيعة لكان لمذهب التشيع في مصر اليوم وبعد اليوم شأن أي شأن.

وإذا لم يكن الفاطميون على مذهب الاثني عشرية فإن هذا المذهب قد اشتد أزره، ووجد منطلقاً في عهدهم، فقد عظم نفوذه، ونشطت دعاته وعملوا على نشره وتوطيده، وأقبل الناس عليه آمنين مطمئنين على أنفسهم وأموالهم ذلك أن الاثني عشرية والإسماعيلية وإن اختلفوا من جهات فإنهم يلتقون في هذه الشعائر، بخاصة في تدريس علوم آل البيت، والتفقه بها، وحمل الناس عليها.

___________________

(١) تاريخ الشيعة للشيخ المظفر.

١٤٥

الدَولَة الحَمْدَانيَّة

الحمدانيون نسبهم ومذهبهم:

من هم الحمدانيون؟ وما هو مذهبهم؟

ينتسب الحمدانيون إلى قبيلة تغلب، وكان بنو تغلب بن وائل من أعظم بطون ربيعة بن نزار، وكانوا من نصارى العرب في الجاهلية، لهم محل في الكثرة والعدد. ثم كان منهم في الإسلام ثلاثة بيوت: آل عمر بن الخطاب العدوي، وآل هارون المغمر، وال حمدان بن حمدون.

وحمدان هذا هو جد الأمراء الحمدانيين، وكان على جانب من الثراء، ورب قبيلة، تنظر إليه بقية القبائل بالتجلة والاحترام، وكان أميراً على قلعة ماردين القريبة من الموصل من قبل العباسيين، ثم أعلن الاستقلال عنهم سنة ٢٨١ هجري، وكان ذلك في خلافة المعتضد، ودارت بين حمدان والخليفة العباسي معارك كانت الغلبة فيها على حمدان.

وأنجب حمدان سبعة أولاد(١) منهم أبو الهيجاء والد ناصر الدولة وسيف الدولة، وأبو العطاف.

أما تشيع الحمدانيين فلا يختلف فيه اثنان، وقد ظهر ذلك جلياً في هجرة علماء الشيعة إليهم، كالشريف أبي ابراهيم جد بني زهرة، وفي مدح الشعراء لهم، كالسري والصنوبري وكشاجم والناشي والزاهي وغيرهم، وفي سنة ٣٥٤ هجري ضرب سيف الدولة دنانير جديدة كتب عليها «لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فاطمة الزهراء الحسن والحسين جبريلعليهم‌السلام ».

_____________________

(١) السيد محسن الأمين «أبو فراس».

١٤٦

ويأبى المستشرقون إلا أن يفسروا الأشياء على أهوائهم وبغير حقيقتها.

قال كبيرهم بركلمن في الجزء الثاني من «تاريخ الشعوب الاسلامية» ص ٨٩ طبعة ١٩٥٤ ترجمة منير بعلبكي: «إن سيف الدولة أظهر الطاعة للفاطميين عندما نشروا سلطانهم على مصر، وبالتالي اتبع المذهب الشيعي» أي إن سيف الدولة تشيع إرضاء للفاطميين مع العلم بأن سيف الدولة توفي قبل دخول الفاطميين مصر(١) .

الاثنا عشرية:

بقي أن نعرف إلى أي مذهب شيعي تنتسب اسرة الحمدانيين، إلى الزيدية أو الإسماعيلية أو الاثني عشرية؟

ويجيب عن هذا التساؤل مصطفى الشكعة في كتابه «فنون الشعر في مجتمع الحمدانيين»، ويتلخص قوله بما يلي:

إن شعر أبي فراس يكشف لنا هذا اللغز الذي ظل غامضاً، حتى الآن، والذي لم يحاول أحد من المؤرخين القدامى، ولا من المحدثين أن يدرسه، وبذلك يكون الشعر قد أسدى إلى علم التاريخ مآثر جليلة، وكشف حقيقة كان الأولى بالتاريخ أن يحتصنها.

يقول أبو فراس من قصيدته الميمية:

يا للرجال أما لله منتصف

من الطغاة أما للدين منتقم

بنو علي رعايا في ديارهم

والأمر تملكه النسوان والخدم

محلئون فأقصى شربهم وشل

عن الورود وأوفى ودهم لمم

فالأرض إلا على ملاكها سعة

والمال إلا على أربابه ديم

وبعد هذه المقدمة المشحونة بالعطف على آل البيت ينتقل الأمير الشاعر إلى هجاء العباسيين، لأنهم نالوا الخلافة بالرسول، ثم لم يراعوا حرمة آل بيته، ويعقد مقارنة بين بني علي، وبني العباس، ويقول:

لا يطغين بني العباس ملكهم

بنو علي مواليهم وإن زعموا

____________________

(١) مات سيف الدولة سنة ٣٥٦، ودخل جوهر قائد الفاطميين مصر سنة ٣٥٨

١٤٧

أتفخرون عليهم لا أبا لكم

حتى كأن رسول الله جدكم

وما توازن فيما بينكم شرف

ولا تساوت بكم في موطن قدم

ولا لكم مثلهم في المجد متصل

ولا لجدكم معشار جدهم

قام النبي بها يوم الغدير لهم

والله يشهد والأملاك والأمم

وصيرت بينهم شورى كأنهم

لا يعرفون ولاة الحف أيهم

تاللّه ما جهل الأقوام موضعها

لكنهم ستروا وجه الذي علموا

ثم ادعاها بنو العباس إرثهم

ولا لهم قَدم فيها ولا قِدم

بئس الجزاء جزيتم في بني حسن

أبوهم العلم الهادي وأمهم

لا بيعة ردعتكم عن دمائهم

ولا يمين ولا قربى ولا رحم

وهكذا يرمي بني العباس بالغدر الذي يتضاءل أمامه ما لاقوه على أيدي بني أمية:

ما نال منهم بنو حرب وإن عظمت

تلك الجرائم إلا دون نيلكم

كم غدرة لكم في الدين واضحة

وكم دم لرسول اللّه عندكم

أأنتم آله فيما ترون وفي

أظفاركم من بنيه الطاهرين دم

يا جاهداً في مساويهم يكتمها

غدر الرشيد بيحيى كيف يكتتم

وبعد هذه الحملة الشعواء على العباسيين يعطينا أبو فراس مفتاحاً لمذهبه الشيعي، حيث يذكر موسى الكاظم وعلي الرضا، وهذان الإمامان ليسا من الأئمة عند الزيدية ولا عند الإسماعيلية ، وإنما هما من أئمة الاثني عشرية. قال:

ليس الرشيد كموسى في القياس ولا

مأمونكم كالرضا إن أنصف الحكم

خلوا الفخار لعلامين إن سئلوا

يوم السؤال وعمالين إن عملوا

لا يغضبون لغير اللّه إن غضبوا

ولا يضيعون حكم اللّه إن حكموا

تبدو التلاوة من أبياتهم أبداً

ومن بيوتكم الأوتار والنغم

منكم علية أم منهم وكان لكم

شيخ المغنين إبراهيم أم لهم

ما في ديارهم للخمر معتصر

ولا بيوتهم للسوء معتصم

١٤٨

والركن والبيت والأستار منزلهم

وزمزم والصفا والحجر والحرم

صلى الإله عليهم أينما ذكروا

لأنهم للورى كهف ومعتصم

وإذا كان الشاعر قد أعطانا في هذه القصيدة إشارة عابرة إلى أنه يعتنق مذهب الاثني عشرية، فإنه ينتقل بنا إلى التصريح والتأكيد في الأبيات التالية التي عدد فيها الأئمة الاثني عشر واحداً بعد واحد:

لست أرجو النجاة من كل ما

أخشاه إلا بأحمد وعلي

وببنت الرسول فاطمة

الطهر وسبطيه والإمام علي

والتقي النقي باقر علم

اللّه فينا محمد بن علي

وابنه جعفر وموسى ومولا

نا علي أكرم به من علي

وأبي جعفر سمي رسول اللّه

ثم ابنه الزكي علي

وابنه العسكري والمظهر

حقي محمد بن علي

فبهم أرتجي بلوغ الأماني

يوم عرضي على مليك علي

في البيت الأول ذكر علياً، وفي البيت الثاني ذكر الحسن والحسين وعلي بن الحسين، وفي البيت الثالث ذكر محمداً الباقر، وفي البيت الرابع ذكر جعفر الصادق وموسى الكاظم وعلي الرضا، وفي البيت الخامس ذكر أبا جعفر، وهو محمد الجواد وعلي الهادي، وفي البيت السادس ذكر الإمام العسكري والمهدي المنتظر، له أبيات أخرى يتوسل بها ويطلب الشفاعة بمحمد وفاطمة والأئمة الاثني عشر:

شافعي أحمد النبي ومولا

ي علي والبنت والسبطان

وعلي وباقر العلم والصا

دق ثم الأمين ذو التبيان

وعلي ومحمد بن علي

وعلي والعسكري الداني

والإمام المهدي في يوم لا

ينفع إلا غفران ذي الغفران

وإذا عرفنا أن أبا فراس ربي في حجر سيف الدولة منذ كان طفلاً صغيراً، ونشأ على يديه، وتعلم تحت رعايته، وأنه قد اختار له معلماً ومربياً اثني عشريّاً، إذا عرفنا ذلك عرفنا أن سيف الدولة بخاصة، والحمدانيين بعامة كانوا يعتنقون المذهب الاثني عشري.

١٤٩

ناصر الدولة:

كان لحمدان وأولاده شأن كبير في الدولة العباسية، ثاروا على الخلافة أكثر من مرة، وسجنوا مرات، وتولوا كثيراً من المناصب الكبرى في داخل بغداد وخارجها، فحمدان نفسه كان أميراً في قلعة ماردين، وابنه الحسين تولى ديار ربيعة، ثم قم وقاشان، واحتل مصر بعد انتصاره على الطوليين، وأخوه العلاء تولى الموصل، ثم تولاها بعده أخوه أبو الهيجاء والد ناصر الدولة وسيف الدولة، وبقي والياً عليها إلى أن قتل سنة ٣١٧، وترك عليها ابنه ناصر الدولة.

وكانت الدولة العباسية في هذا الوقت تعاني النزع والانحلال بظهور سلطان المتغلبين في أطراف المملكة والثغور، فقامت في فارس دولة بني بويه، وفي مصر وسورية دولة الأخشيديين، وفي إفريقيا دولة الفاطميين، وفي إسبانيا دولة الأمويين، واستقل بنو سامان في خراسان، والقرامطة بالبحرين، وأعلن البريدي حكمه على البصرة وواسط، وزحف إلى بغداد، يحدث هذا كله، والحمدانيون ينتظرون الفرصة، ويعدون أنفسهم لما هو أهم من الولاية والإمارة، مع أن الحكم في الموصل لهم وحدهم، ولا شيء للخليفة سوى الاسم.

ولم تمض الأيام، حتى يهرب الخليفة المتقي من بغداد خوفاً من البريديين، ويلتجئ إلى ناصر الدولة في الموصل، فألف ناصر الدولة جيشاً من العاصمة، حتى نزح عنها البريدي إلى واسط، فتبعه سيف الدولة، وانتزعها منه، ولما استقرت الحال بالخليفة جعل ناصر الدولة أمير الأمراء، وأخذ ناصر في مزاولة سلطته الجديدة في بغداد، فبدأ بالعمارة، وحال دون عبث التجار والصيارفة وضرب دنانير جديدة، وهدد بإنزال العقاب على كل من لم يقلع عن الربا والغش، إلا أن إمرة الأمراء لم تطل مدتها في الحمدانيين لاضطراب الأمور في بغداد، فترك ناصر الدولة هذه الإمرة، وعاد إلى الموصل ليبسط سلطانه عليها، وعلى الديار المجاورة، وعاد سيف الدولة، ليفتح حلب، ويوطد بها ملكه.

وظل ناصر الدولة يحكم الموصل بيد من حديد في حين يوطد أخوه سيف الدولة ملكه في حلب، ويغزو بلاد الروم إلى سنة ٣٥٦، وهي السنة التي مات فيها سيف الدولة، فقبض أبو تغلب على أبيه الأمير، واعتقله(١) ودارت حروب

____________________

(١) توفي ناصر الدولة سنة ٣٥٨ كما في الجزء ال٢٢ من أعيان الشيعة.

١٥٠

وخلافات بين أبي تغلب وأخيه حمدان، وكان خلاف ابناء ناصر الدولة، وقيام بعضهم ضد بعض مدعاة لأن يتقدم عضد الدولة البويهي إلى الموصل، ويطرد أبا تغلب منها، ويستولي عليها بعد أن دامت في أيدي الحمدانيين من سنة ٢٩٣ إلى سنة ٣٦٧ التي استولى فيها عضد الدولة عليها، وكان الحمدانيون يجلون بعض الوقت عن الموصل خلال هذه المدة ثم يعودون إليها.

سيف الدولة:

كانت حلب كالريشة في مهب الريح تخضع تارة للخليفة العباسي في بغداد، وتارة للاخشيديين في مصر ودمشق، وهي إلى ذلك على حدود البيزنطيين، وكان سيف الدولة قد طلب من أخيه ناصر الدولة ولاية، فقال له: دونك الشام فلا أحد يمنعك عنها، وجهزه بألف فارس، فسار إلى حلب، ودخلها سنة ٣٣٣ بدون مقاومة، ثم سار إلى دمشق وانتزعها من الأخشيديين، ونشبت بينهما حروب كان النصر فيها أولاً حليف سيف الدولة، وأقام بدمشق مدة وجبى خراجها، ثم استردها الأخشيديون منه، وأخيراً تم الصلح بينهما، وتزوج سيف الدولة فاطمة بنت الأخشيد، وتقرر أن تكون حلب وحمص وإنطاكية لسيف الدولة، ودمشق وما وراءها، حتى مصر للأخشيديين.

«وكانت علائق الأخشيديين كصلات الحمدانيين اسمية مع خلفاء بغداد، واشتهر الأخشيديون، وهم عجم، بشحهم، واشتهر الحمدانيون العرب في مغالاتهم بالكرم، وكان الأخشيديون من أهل السنة، والحمدانيون من الشيعة، ولذلك كثر التشيع في شمال الشام على عهدهم(١) ».

وقضى سيف الدولة حياته في حروب داخلية وخارجية، فقبل أن يفتح حلب حارب البريدي في واسط، وانتزعها منه، وفي سنة ٣٢٦، غزا أرض الروم، فاستقبلوه بمائتي ألف فارس، فأعمل فيهم السيف وهزمهم، وأسر سبعين بطريقاً، وسنة ٣٢٨ كان انتصاره على الروم أعظم، حيث خرج غازياً مدينة فاليقا، وكان الروم قد بنوا حذاءها مدينة أسموها هفجيج، فلما علموا

_____________________

(١) خطط الشام لكرد علي ص ٢١٨ ج ١ طبعة ١٩٢٥

١٥١

بمسيره خربوا المدينة وهربوا، وظل سيف الدولة يتقدم في بلاد الروم - قبل فتحه حلب - حتى وطأ مواطئ لم يصل إليها أحد من المسلمين(١)

وبعد أن فتح حلب، واستقر له الأمر كانت لا تمر سنة دون غزوة أو أكثر، قال كرد علي في الجزء الأول من خطط الشام: «غزا سيف الدولة الروم أربعين غزوة، له وعليه، وقد حفظ بغزواته بيضة العرب والإسلام، ولولاه لتقدم الروم في بلاد الشام، وربما استصفوها كلها بعد أن ضعف العباسيون. وكان قد جمع من نفض الغبار الذي يجتمع عليه في غزواته شيئاً، وعمله لبنة بقدر الكف، وأوصى أن يوضع خده عليه في لحده. فنفذت وصيته».

وأما الفتن الداخلية التي واجهها أيام ملكه في حلب فهي ثورة بني كلاب سنة ٣٤٣ وبني عقيل، وبني قشير، وبني العجلان، ثم الفتنة التي قام بها رشيق النسيمي في إنطاكية سنة ٣٥٤، وفتنة مروان العقيلي بحمص، وفي سنة ٣٥٥ ثار دزبر الديلمي بإنطاكية. وهكذا كان سيف الدولة يغزو بلاد الروم، ثم يعود إلى مقره وعاصمته ليقضي على الفتن الداخلية.

وتوفي سيف الدولة سنة ٣٥٨، وقام بعده ابنه أبو المعالي الملقب بسعد الدولة، ومات سنة ٣٨١، وتولى بعده ابنه أبو الفضائل الملقب بسعيد الدولة، ومات سنة ٣٩٢، وبموته انتهت إمارة الحمدانيين التي استمرت على الموصل وحلب، وما يتبعهما من سنة ٢٩٣ إلى سنة ٣٩٢.

عظمة سيف الدولة:

تحدث الناس قديماً وحديثاً عن عظمة سيف الدولة، وتغنى بها الشعراء، وأشاد بها المؤرخون والأدباء في الشرق والغرب، ووضعوا في آثاره وأعماله الكتب والمجلدات، وخير ما قرأت في هذا الباب كتاب «سيف الدولة وعصر الحمدانيين» لسامي الكيالي، وقدم له إسماعيل أحمد أدهم، اقتطف من كلامهما القطعة التالية:

«سيف الدولة أحد أبطال التاريخ، وصاحب شخصية حافلة بالحياة والنشاط،

__________________

(١) فنون الشعر في مجتمع الحمدانيين ص ٧٥

١٥٢

وذو نواح متعددة، تتراقص على جنباتها المغامرة، والشعر والسيف والقلم، والبطولة والأدب، فهو من الشخصيات التي تثير الإعجاب، وتسترعي النظر. مر بتاريخ العرب في فترة كانت الفوضى تقتلها، فنجح في أن يلجم الفوضى، وأخرج منها نظاماً، وخلق من ضعف العرب قوة، وصمد لقوات الروم، وقاد جموع العرب يذود عن دولته بحد سيفه، وهو في هذا كله يذود عن العرب والإسلام.

قال غوستاف سيشلمبرجر: شغل سيف الدولة أذهان المؤرخين والكتاب والشعراء في القرن العاشر الميلادي، فما أن تقرأ صفحة لمؤرخ بيزنطي، أو قطعة لكاتب من كتاب ذلك العصر، أو قصيدة من قصائد شاعر من شعراء العرب أو اليونان، حتى يستهويك الوصف والحديث عنه.

لقد أقسم مؤرخ زار حلب في عصر سيف الدولة أن قصور الخلفاء في بغداد، وقصور ملوك الروم في القسطنطينية كانت أقل بهاء من قصور سيف الدولة، وأن الفنون على تباين أنواعها كانمت مضطهدة في عاصمة المسيحية، ولكنها كانت تنعم بتسامح كبير في عاصمة الحمدانيين، وكان المصورون والمثالون من الروم يهربون من قيصر إلى سيف الدولة، فيستقبلهم، ويكرمهم ويشجعهم، ويستفيد من عبقرياتهم».

وقال بروكلمن في «تاريخ الشعوب الاسلامية» ص ٩١ ج ٢: «ولئن كان سيف الدولة مديناً بما تم له من شهرة عريضة لنضاله الموفق ضد الروم في المحل الأول فليس من شك في أنه مدين بذلك في المحل الثاني لعطفه على الفنون والعلوم، ورعايته لها».

وبالتالي، فإن مدينة حلب في عهد سيف الدولة جمعت أكابر رجال ذلك العصر على اختلاف بلدانهم وتباين ثقافتهم، كالفارابي والشريف أبي إبراهيم جد بني زهرة، وابن نباتة والمتنبي والصنوبري وابن خالويه وابن جني والبكتمري والنامي وكشاجم وابن أبي الفياض وأبي الفرج العجلي، وكثيرين غيرهم من القضاة والنحويين والأدباء والشعراء والفنانين العرب وغير العرب.

الحمدانيون والتشيع:

انتشر التشيع، وارتفع شأنه في الموصل وحلب، وما إليهما في عهد الحمدانيين، واشتد بهم أزر الشيعة في العراق، قال آدم متز في «الحضارة الإسلامية»: «وكان الحمدانيون أول أسرة تدخل في أمور بغداد».

١٥٣

وقال الشيخ المظفر في «تاريخ الشيعة»:

«ارتفع شأن التشيع في سورية أيام سيف الدولة، وانتشق أهله الهواء الطلق بعد أن حبسه عنهم أرباب السلطات المتعاقبة. فكانت سورية أيام الحمدانيين مكتظة بالشيعة. وإذا دخلت المسجد الأموي الرفيع بناية، والمشيد عمارة، وتوسطته واقفاً تحت قبته، فارفع رأسك لتنظر اسم علي والحسن والحسين في باطن القبة، فأين اسم معاوية ويزيد وملوك آل مروان الذين رفعوا بناء ذلك المسجد؟!».

وقال كرد علي في المجلد السادس من خطط الشام ص ٢٥٨:

«كان أهل حلب سنة حنفية، حتى قدم الشريف أبو إبراهيم الممدوح - في عهد سيف الدولة- فصار فيها شيعة وشافعية، وأتى صلاح الدين، وخلفاؤه فيها على التشيع، كما أتى عليه في مصر، وكان المؤذن في جوامع الشهباء يؤذن بحي على خير العمل، وحاول السلجوقيون مرات القضاء على التشيع، فلم يوفقوا إلى ذلك، وكان حكم بني حمدان، وهم شيعة من جملة الأسباب الداعية إلى تأصل التشيع في الشمال، ولا يزال على حائط صحن المدفن الذي في سفح جبل جوشن بظاهر حلب ذكر الأئمة الاثني عشر، وقد خرب الآن.

ووصف ابن جبير المذاهب المتغلبة على الشام في القرن السادس، فقال: «للشيعة في هذه البلاد أمور عجيبة، وهم أكثر من السنييّن بها، وقد عموا البلاد بمذاهبهم».

وحين أراد صلاح الدين الأيوبي الاستيلاء على حلب، استنجد الوالي بأهلها، وطلب منهم العون، وأن يعبئوا أنفسهم تعبئة عامة، فاشترط عليه الشيعة إن أجابوه أن يعيد في الأذان حيّ على خير العمل في جميع المساجد، وينادي باسم الأئمة الاثني عشر أمام الجنائز، ويكبر على الميت خمس تكبيرات، ويفوض أمر

العقود والأنكحة لشيخ الشيعة أبي المكارم حمزة بن زهرة، فقبل الوالي ذلك كله.

إن الحمدانيين لم يكرهوا أحداً على التشيع، ولم يغروه بالمال والمناصب، ولم يؤلفوا الهيئات والمنظمات للدعاية، بل تركوا الناس يختارون لأنفسهم ما يشاؤون، ويعتقدون ما يريدون، فانبرى الدعاة المخلصون، وأعلنوا الحق، فآمن به من آمن، حيث لا ضغط ولا إكره، على عكس العباسيين والأمويين، وصلاح الدين.

١٥٤

لقد حمل الأيوبي معه إلى مصر وسورية تياراً هائلاً من التعصب الأعمى - وكل تعصب هو أعمى - كان له أسوأ الأثر في حياة المسلمين، وما زالوا يعانون منه، حتى اليوم أما الحمدانيون فقد كانوا أصحاء في عقولهم، كما كانوا على حق في دينهم، لذا تسامحوا، وتركوا للناس حرية القول والتفكير مما جعلهم ملجأ وملاذاً للعلماء والفلاسفة والأدباء ورجال الفكر من جميع الأديان والمذاهب، حتى أن رجال الفن من الروم كانوا يهربون من مليكهم قيصر إلى سيف الدولة، حيث يجدون عنده ما لم يجدوه في بلادهم وعند أبناء دينهم ولغتهم. من هنا ترك لنا عصر الحمدانيين هذه الآثار والكنوز.

ولو افترض أن صلاح الدين الأيوبي كان على حق في تسننه، وأن الشيعة كانوا على ضلال في تشيعهم فأي مبرر له في قتلهم واستئصالهم؟ إن قوانين الدول المتحضرة تنص على أن لكل إنسان الحق في إعلان آرائه ومعتقداته، بل والترويج لها ما دام لا يتعدى على حق غيره. وهؤلاء المسلمون في كل مكان يعتقدون أن العين بالعين والسن بالسن، وقوانين دولتهم تنص على خلاف ذلك، ولكنها لا تعاقب أحداً منهم، ما دام لم يسمل عين أحد، أو يكسر سن أحد.

لقد أراد صلاح الدين الأيوبي، ومن على شاكلته أن يقضي على الشيعة والتشيع، ويأبى اللّه إلا أن يتم نور آل الرسول المنبثق عن نور اللّه بالذات.

١٥٥

الدَّولَة الصّفويَّة

من ينظر إلى الدولة الأموية وتاريخها يعلم إلى أي مدى كانت مكروهة عند الناس، ثقيلة الوطأة عليهم، وكيف قامت الفتن والثورات على عهدهم، وكثر الدعاة ضد حكمهم وسلطانهم. فإذا ما خلا الأستاذ بتلاميذه حدثهم عن استهتار الأمويين بالقبائح والمعاصي، وإذا انتقل المسافر من قطر إلى قطر بث مساوئهم ومظالمهم.

وقد ساعدت السياسة الأموية البغيضة أنصار العلويين، وأمدتهم بأبلغ الحجج وأقواها، حتى أثمرت دعوتهم، وآتت أكلها في الأقطار الإسلامية، بخاصة في إيران التي هي أقرب بلد إلى عاصمة الخلافة، وأهلها أكثر اختلاطاً بالعرب من غيرهم، ولكن الدعوة العلوية استغلها العباسيون لمصلحتهم، كما هو معروف، وكما بيناه في كتاب «الشيعة والحاكمون»، فالتشيع لآل البيت دخل إيران قبل أن يذهب الإمام الرضا إلى خراسان، ولكن العباسيين زعموا أنهم هم الآل دون غيرهم(١) وبعد ذهاب الرضا إلى خراسان عرفت الحقيقة، وظهر فيها التشيع الحق.

وقد ذكرنا فيما تقدم أن أفراداً من التابعين ذهبوا سنة ٨٣ هجري إلى قم، ونشروا التشيع بين أهلها، ومن هاتين القاعدتين: قم وخراسان انطلق التشيع إلى كثير من الربوع الإيرانية، حتى جاء الصفوين فعمها جميعاً، وتجاوز إلى ما وراء الحدود.

_______________________

(١) وهكذا زعم الأمويون من قبل، روى المسعودي في مروج الذهب أن العباسيين حين فتحوا الشام، وانتزعوها من الأمويين حلف لهم أشياخ أهل الشام وأرباب النعم والرياسة أنهم ما علموا أن لرسول اللّه قرابة ولا أهل غير بني أمية، حتى ذهب الأمويون، وجاء العباسيون.

١٥٦

الشاه إسماعيل:

هو إسماعيل بن حيدر بن جنيد بن صفي الدين الذي ينتهي نسبه إلى الإمام موسى الكاظم (ع). وهو أول ملوك الصفوية، ومؤسس دولتهم، وكان آباؤه وأجداده من العرفاء وشيوخ الصوفية، فلقبوا لذلك بلقب سلطان، وما أن أتم إسماعيل العام الرابع عشر من عمره، حتى ألف جيشاً من أتباع أبيه ومريديه، وقاده بنفسه للغزو والفتح، وكانت إيران يومذاك موزعة الأطراف بين عديد من الملوك والأمراء ورؤساء القبائل، فاستخلصها منهم الواحد تلو الآخر، ووحدها تحت سلطانه.

في سنة ٩٠٥ هجري استولى على شيروان بعد أن قتل حاكمها، وفي سنة ٩٠٦ فتح تبريز بلا مقاومة، وفي سنة ٩٠٧ توجه إلى همدان، واستولى عليها بلا كبير عناء، وفي سنة ٩٠٩ ملك كيلان، وفي سنة ٩١٢ أخذ ديار بكر، وفي سنة ٩١٤ دخلت بغداد في حكمه.

قال «رونلدس» في كتاب «عقيدة الشيعة» معرب ص ٧٧ طبعة ١٩٤٦: «مد الشاه إسماعيل سلطانه من خراسان حتى هراة، فضلاً عن ضمه المقاطعات الجنوبية إلى أملاكه، حتى إذا جاء عام ١٥٠٩ م كانت رقعة مملكته تمتد من نهر جيحون إلى خليج البصرة، ومن بلاد الأفغان إلى الفرات».

وخاف الأتراك على سلطانهم من قوة الشاه إسماعيل، فهاجمه بايزيد بجيش مؤلف من الأتراك والتركمان، ففرق الشاه شمله، وانتصر عليه. ولما خلع بايزيد، وقام مقامه ولده السطان سليم هاجم إيران بمائة وخمسين ألف جندي ومائتي مدفع، وتوغل في إيران، حتى دخل العاصمة تبريز، وكان الشاه غائباً عنها في همدان، وكان الأتراك يحاربون بالمدافع والأسلحة الحديثة، والإيرانيون يدافعون عن أنفسهم بالسلاح القديم، ولكن الأتراك اضطروا للانسحاب حين جاء الشتاء، لشدة البرد، وقلة الزاد، وانتشار الوباء في جيوشهم، وكان السلطان التركي قد قتل عشرات الألوف من الشيعة.

قال «لونكريك» في كتاب «أربعة قرون من تاريخ العراق» ص ١٧ الطبعة الثانية: «كانت بطولة القضية السنية أول حجة تذرع بها سليم لإعلان الحرب.

وقد خلد الأشهر من حكمه بالذبح المتقن لجميع الشيعة أينما وجدوا». هذا بعد أن استحصل السلطان من شيوخ السوء على فتوى باستباحة دماء الشيعة وحريمهم وأموالهم. وقال السيد الأمين في ج ١١ من «الأعيان» ترجمة الشاه اسماعيل: «قتل السلطان سليم أربعة وأربعين ألفاً، وقيل سبعين ألفاً من الشيعة في الأناضول، وفي هذا العصر استولى الاسبانيون على بلاد الأندلس، وأزالوا دولة بني الأحمر العربية، واستنجد بنو الأحمر بالسلطان التركي والد السلطان

١٥٧

سليم، فلم ينجدهم، حتى فعل بهم الاسبانيون ما فعلوا، ولكن السلطان التركي قتل الشيعة المسلمين في بلاده، وحارب السلطان الفارسي المسلم.. وهكذا كان بأس الملوك المسلمين بينهم».

الشاه إسماعيل والتشيع:

قال المستشرق الكبير «براون» المتخصص بالأدب الإيراني في كتاب «الأدب في إيران» معرب ص ٢٠ طبعة ١٩٥٤: «كان الفاطميون في مصر أكبر خصوم العباسيين من الناحية الدينية والسياسية، وكانوا يمثلون فريقاً من الفريقين العظيمين اللذين انقسم إليهما المتشيعون لعلي، فالفريق الأول هم الإسماعيلية الذين ينتسب إليهم الفاطميون، والفريق العظيم الآخر من فرق الشيعة هم الاثنا عشرية، وكان الفرس دائماً يميلون إليه، حتى اتخذوه مذهباً رسمياً لهم عند قيام الدولة الصفوية على يد الشاه عباس سنة ٩٠٨ هجري».

وأمر الشاه عباس أن يؤذن بحي على خير العمل في جميع بلاد إيران، ونقش على النقود اسم علي وآله، ونشر في الأقطار المجاورة لإيران الدعاة لمذهب التشيع، وحين دخل إلى بغداد، وذلك في ٢٥ جمادى الآخرة سنة ٩١٤، فرح الناس بقدومه، والتجأوا إلى عدله، وكانوا ينتظرونه بفارغ الصبر، وأخذوا يقدمون القرابين والذبائج إكراماً له، وفي اليوم التالي بلا فاصل توجه إلى كربلاء، وأدى مراسم الزيارة، وبات ليلته معتكفاً في الحائر، منكباً على قبر الحسين الشهيد (ع)، وأمر بصنع الصندوق المذهب للقبر الشريف، وعلق بالحضرة ١٢ قنديلاً من الذهب، وفرشها بأنواع السجاد الثمين، كما أمر بصنع صناديق أخرى للنجف الأشرف والكاظمية وسامراء بدلاً عن صناديقها القديمة.

ثم سافر إلى النجف الأشرف، وتشرف بزيارة المشهد العلوي، وقدم القناديل من الذهب والفضة، والمفروشات الثمينة، وفي هذه السنة شرع ببناء حرم الكاظميين والمسجد الكبير المعروف بمسجد الصفويين. وأمر بحفر النهر الذي كان قد حفره عطا ملك، ثم اندثر بمرور الزمن، فجدده

١٥٨

الشاه إسماعيل، ووقف ريعه على خدام المشهدين: العلوي والحسيني، هذا، إلى حبه وتعظيمه العلماء والعلويين، وإنعامه عليهم بالأموال والمناصب، والاستعانة بأهل الكفاءة والمقدرة على نشر المذهب، وإعلان أسماء الأئمة الاثني عشر على المنابر وفي المحافل، وبشتى المناسبات(١) .

ولده الشاه عباس سنة ٨٩٢، وتولى السلطنة سنة ٩٠٥، وتوفي سنة ٩٣٠ في تبريز، ودفن في مقبرة جده صفي الدين بأردبيل، ومدة ملكه ٢٤ سنة وخلفه ولده الشاه طهماسب.

الشاه طهماسب:

وما أن ملك الشاه طهماسب بعد أبيه، حتى قامت في وجهه القلاقل، والفتن الداخلية، وثار عليه أخوه القاص ميرزا، وكان له أعوان وانصار. وأعلن سليمان القانوني ابن السلطان سليم الحرب على الشاه، واستولى على أذربيجان، ودخل جيشه تبريز، ومكث فيها غير أن البرد القارص، والأمطار الشديدة جرفت قسماً من المدفعية، وأماتت الحيوانات، فاضطر الأتراك إلى الانسحاب، واتجه السلطان إلى بغداد، فاستولى عليها، وأفتى له شيوخ السوء بقتل الشيعة المارقين(٢) ، وخرج العراق من أيدي الإيرانيين سنة ٩٤١ هجري، وكانوا قد استولوا عليه سنة ٩١٤، وبنى السلطان قبر أبي حنيفة، كما زار العتبات المقدسة في الكاظمية وكربلاء

_____________________

(١) تاريخ الشيعة للمظفر، وأعيان الشيعة ج ١١ للسيد الأمين، وتاريخ إيران لمكاريوس، وتاريخ العراق بين احتلالين للغزاوي، وأربعة قرون من تاريخ العراق للونكريك، وعقيدة الشيعة لرولندس، والأدب في العراق لبراون وغير هذه الكتب.

(٢) لونكريك في «أربعة قرون من تاريخ العراق» ص ٢١ طبعة ثانية.

١٥٩

والنجف(١) .

وتدلنا هذه الحوادث، وما إليها أن الدولة الإيرانية، والدولة التركية كانتا أقوى دول الشرق على الإطلاق، وأن غيرهما من الدول والإمارات كانت تتذبذب بين الإمبراطوريتين، فتارة تؤثر طاعة هذه، وأخرى تلك، حسب الظروف والمناسبات.

الشاه طهماسب والتشيع:

وترسم الشاه طهماسب خطى أبيه الشاه إسماعيل في تأييد المذهب، وقد بالغ في إكرام العلماء وأهل الدين، حتى جعل أمر المملكة بيد عالم العصر المحقق الثاني الشيخ علي عبد العال، وقال له فيما قال: أنت أولى مني بالملك، لأنك نائب الإمام حقاً، وأنا عامل منفذ، وكتب إلى جميع الولاة، وأرباب المناصب بإطاعة الشيخ، والعمل بأوامره وتعاليمه، فكان الشيخ يطبق الشرع الشريف، ويقيم الحدود، كما عين الأئمة للصلاة، والمدرسين في المدارس، والوعاظ لبث المذهب ونشره.

ومن آثار الشاه طهماسب ترميم الحائر الحسيني، واصلاحه، وتوسيع الصحن، وتجديد المنارة المعروفة بمنارة العبد.

ولد هذا الشاه سنة ٩١٩ هجري، وملك سنة ٩٣٠، ومات سنة ٩٨٤، وكانت مدة ملكه ٥٤ سنة.

وكان له أولاد كثر، تنازعوا الملك بعده، وتغلب أحدهم على اخوته، وهو إسماعيل الثاني، وبقي في الحكم سنة واحدة وبضعة أشهر، وقام بعده أخوه محمد خدابنده، وكان أعمى، ضعيف الرأي، وقد اضطرب أمر المملكة على عهده، وقامت ثورات وفتن، وانشق عليه ولده عباس، واستقل بالحكم.

______________________

(١) عن كتاب تحفة العالم إن السلطان التركي حين توجه إلى النجف الأشرف، ورأى القبة العلوية من مسافة أربعة فراسخ ترجل عن فرسه، ولما سئل عن السبب قال: اهتزت أعضائي لمرأى القبة، فقيل له: إنك لا تستطيع المشي، فتفأل بالقرآنِ الكريم، فخرجت هذه الآية: «فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى»، فاضطر إلى السير على الأقدام.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

وأنسجة الاتصال فيتفاهم معها على البذة الجثمانية التي سيكون عليها هذا الكائن ، وفيبدأ العظم في التفاهم مع الدم والكلس والمعادن والأخلاط والبروتينات والشحوم وبقية الغدد على انجاز الهيكل العظمي بشكل يتفق مع الخريطة الهندسية التي أطلعه عليها هورمون النمو ، وكأن هذا الهورمون هو المهندس الذي يصمم الخريطة وبقية الأعضاء هم العمال والمقاولون والبناؤون والعتالون والنقالون الذين يبنون هذه البناية الإنسانية الفريدة ، وهكذا يقوم الهيكل العظمي بشكل متزن من كل جهاته ويساهم معه غضروف الاتصال ، وأنسجه الاتصال في كل البدن.

وأما الحاث الذي ينبه الثدي على إفراز اللبن(1) فهو يطلع غدد الثدي وخلاياها على الطريقة السحرية الغامضة التي يمكن بواسطتها قلب محصول الدم في الخلايا إلى حليب يناسب الطفل من كل جانب ، كما أن نفس الحليب يزداد تركيز المواد فيه مع الزمن بحيث يناسب الولد مع تقدم نموه واشتداد عضلاته ، وقوة مفاصله ، وتدرج تكوينه.

وأما الحاث الثالث فهو الذي يتصل الدرقية(2) وهو يعلم الدرق كيفية اصطياد اليود من الدم ، وتركيب هورمونات الدرق منه مثل التيرونين والتيروكسين ، والتيروكسين بدوره يفعل كما ذكرنا على مستويين : الأول هو تثبيط مفرز الغدة النخامية ، والثاني على مستوى

__________________

(1) يسمى اختصاراً L.T.H.

(2) الغدد التي تترابط بشكل مباشر مع النخامة هي الدرق وتقع في أسفل ومتتصف العنق ولا تظهر إلا في الاحوال المرضية ، وغدة الكظر وهي مثل القبعة المثلثة فوق رأس الكلية ، وغدة المبيض وتقع في أسفل البطن والخصية والثدي ، واجهزة النمو بشكل عام ، والهورمونات الستة اختصاراً هي A.C.T.H لقشر الكظر أو مغذي الكظر و T.S.H مغذي الدرق ، و L.T.H مغذي الثدي ، و G.H النمو ، و F.S.H لجريب دو غراف ، و I.C.S.H لخلايا المبيض والخصية.

٢٤١

الجسم ، فهو يؤثر في كل الأجهزة على الإطلاق عدا الدماغ لأنه مركز القيادة ، والطحال لأنه المقبرة الموحشة المنعزلة ، والخصية والرحم لأنهما من اختصاص الغدة النخامية.

وهذا الهورمون أصح ما يقال عنه إنه هورمون الفعالية والنشاط فهو يدفع النشاط والحيوية في كل مسارب البدن ، فالقلب يضرب ، والتوتر يرتفع ، والفعالية تزداد ، والعرق يتصبب ، والصوت يعلو ، والحرارة تتدفق في أرجاء البدن ، والنمو يزداد ، ومنعكسات الجهاز العصبي تزداد ، والكلية تعمل ، ويزداد ادرار البول ، والعضلات تشتد ، والسكاكر تحرق ، والشحوم تذاب في البدن ، والفيتامينات تتكون مثل الفيتامين A من الكاروتين إنها الفعالية والنشاط في كل مستويات البدن. إنها حرارة العمل ، ونشاط الانتاج ، ووهج الحيوية ، ولكن إذا زاد الأمر أو نقص انقلب الأمر بشكل مريع ، وهو ما يعرف بقصور الغدة الدرقية ونشاط الغدة الدرقية ، ففي الأول يسيطر الكسل والخمول على كل فعاليات البدن ، فإذا تحرك نقل المريض نفسه ببطء ، وإذا تكلم كان صوته خشناً خافتاً وكأنه ينبعث من كهف ، وأما وجهه ففيه تعابير البلادة ، وأما قلبه ففيه بطء الحياة ، وهكذا يعم الكسل وينتشر الخمول!! وإذا اشتد نشاط هذه الغدة تدفق العرق من الجسم فلا تصافح المريض إلا ويده رطبة من التعرق ، وتفيض الحرارة على الجسم فيشعر المريض وكأنه في أتون ويتضايق من الحر. ويميل إلى حب البرد ، وإذا تكلم ارتفع صوته واشتد غضبه وحدثت لديه الانفعالات بسرعة وبشدة ، وإذا مد يديه أصابهما الرجفان ، وهكذا تنتشر السرعة ، ويعم الاضطراب العصبي وكأن الحالة الأولى هي القطار البطىء والثانية هي القطار الأهوج السريع!!!

وأما الحاث الرابع فهو الرسول الموقر إلى مملكة الكظر حيث يقابل

٢٤٢

عناصر الدولة في الحدود الأولى ، وهي القشر في الكظر ، وهناك تشرح الخطة التي يجب أن يقوم بها الكظر ، حيث يبدأ بإفراز الهورمونات من ثلاث مناطق ، وبعدد يبلغ الثلاثين هورموناً ، وهي تقوم بثلاث وظائف حيوية : الأولى على مستوى السكاكر ، والثانية على مستوى معادن البدن ، والثالثة في الوظائف الجنسية ، ولذا تسمى هذه الهورمونات : بالقشرية السكرية ، والمعدنية ، والجنسية. وهي تفرز من مناطق اختصاص من منطقة قشر الكظر.

وهذه الهورمونات الثلاثون تقوم بجملة عجيبة في البدن فتعدل الشوارد المعدنية فيه ، وتحسن وظائف أجهزته ، وتحافظ على اتزان أخلاطه ، وتسير أموره ، وتضبط موازينه فيما يزيد على سبعين وظيفة لسنا بصددها الآن ، هذا مع العلم بأن كل الكظر بما فيه القشر واللب لا يتجاوز وزنه سبعة غرامات فقط.

وأما الرسولان الأخيران فهما يرسلان إلى مراكز الجنس ومستودعات الذخيرة الإنسانية ، وهي الخصية والمبيض ، وهناك تشرح الخطة المفصلة لانضاج البيضة الإنسانية وإعدادها للالقاح ، كما يهىء الحيوان المنوي بما يلزمه في الرحلة التي يقطعها عبر الرحم والأخلاط والمفرزات والطرق المتعرجة ، والمسارب الملتوية ، والأحماض والسوائل ، فهو يزود بذنب طويل يساعده على الحركة اللولبية ، كما يفهم كيف يجب أن يمشي وأي الطرق يختار ، وما هي السرعة التي يجب أن يسير بها ، والطريقة التي يسرع بها ، وأنسب ما تكون الحركة اللولبية ، كما يغطى رأسه من الأمام بخوذة مصفحة حتى لا يتأثر بالصدمات والرضوض والضربات ، وهي القلنسوة الامامية ، وحتى يلج بها جدار البيضة التي تنتظره. ثم يزود بعد ذلك بالأدعية أن يحفظه الله في رحلته الميمونة الخطرة!! فكيف علمت وعلمت هذه الهورمونات ، أهو عامل الصدقة؟ أم هو

٢٤٣

قوة النطفة بذاتها ، أم هي القوة المدبرة اللطيفة الحكيمة والعقل المنظم الدافع الذي يبعث الحياة ، ويهب الحكمة ، ويمنح الرحمة ، ويعطي الهداية للكائنات( قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات ايتوني بكتاب من قبل هذا أن أثارة من علم إن كنتم صادقين ) سورة الأحقاف( أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون ) سورة الطور

هذا ما كان من أخبار الفص الأمامي للغدة النخامية ، وأما الفص المتوسط فيفرز حاثاً يتعلق بالجلد حيث يوفد هذا السفير إلى تلك الأصقاع النائية الشاسعة التي تغطي الوجود الانساني كله من مفرق رأسه إلى قدمه ، ولا تنفتح عنه إلا في الفوهات مثل الفم والانف والاحليل والمستقيم ، والجلد في هذه الفوهات يستدير ويفصل بطريقة ملائمة جداً ، ويأتي هذا السفير إلى تلك الاصقاع فيخبرهم بالخطر الذي يتعرض له الجلد من الضياء والحرارة والأعداء الخارجيين ، لذا فان أنسب تلوين يأخذه هو من طبيعة الأرض ولون الأرض التي يعيش عليها ، كما أن المناطق التي تتعرض بكثرة للنور يجب أن لا تبقى بيضاء والا احترقت خاصة في المناطق التي تزداد فيها أشعة الشمس مثل المناطق الاستوائية ولذا يتلون الجلد باللون الأسود ويحدث العكس في المناطق الباردة والمناطق القليلة الشمس.

إن تتظيم الصباغ الذي بلون الجلد يعود إلى هذا الهورمون الحاث حيث يتفاهم مع خلايا قاعدة الجلد على افراز صباغ خاص يسمى بالميلانين ، وهذا الصباغ يلون الجلد باللون المناسب حسب الحرارة ووهج الضياء الخارجي ، ولنا أن نتساءل أمام هذه الحقيقة : ما ذنب الزنجي الاسود حتى تسقط حقوقه ، وتداس كرامته ، ويحرم من التعليم ، ويسام الخسف والهوان والضيم والذل ، ويسلط عليه الفقر والجهل

٢٤٤

والمرض ، ويطارد كالكلب ، بل يكتب على المطاعم ممنوع دخول الكلاب والسود!! ما ذنبه إذا كان كل صباغ الميلانين هذا الذي يتوزع في جلده يساوي غراماً واحداً فقط ، ولكن هل تساوي هذه الحضارة المزيفة غراماً واحداً من الخلق والإنسانية؟!!

وآخر الأقسام الثلاثة من النخامة هو الفص الخلفي ، ويسمى بالفص العصبي ، لأن له اتصالات عصبية مباشرة مع مراكز الدماغ العليا أكثر من الفص الأمامي والمتوسط ، وكما ذكرنا سابقاً فهناك مراكز تقع فوق النخامة وتحت السرير البصري ، وهذه المناطق هي مناطق التنظيم والقياده العليا التي تنصّب الملوك ، وتعين الأمراء ، وترسل الرسل ، وتهيمن على الجميع!! إن هذه المنطقة ترسل أليافاً عصبية تسيطر بها على فعالية الغدة النخامية حتى تتناسق في العمل مع بقية أعضاء الجسم عن طريق الدماغ ، وهذه الألياف تنحدر إلى الغدة وتتوزع في الفصوص الثلاثة ، وأكثرها في الفص الخلفي ، ويبلغ عدد الألياف وسطياً في كل فص (50) ألف ليف عصبي ، فهي شبكة اتصالات هاتفية مكونة من أكثر من (100000) مائة ألف خط للتفاهم وتنسيق الجهود.

هذا الفص يفرز ثلاثة هرمونات ، وهذه الهورمونات تقوم بثلاثة أدوار هي تقليص عضلة الرحم ، وتقبيض الأوعية الدموية ، والدور الثالث عبارة عن عملية مضادة للإدرار في الكلية. فأما الهورمون الأول فهو الذي ينظم تقلص الرحم في ساحة الخلاص وبشكل تدريجي ونتساءل لماذا يبدأ هذا الهورمون عمله وفي هذه اللحظة بالذات؟ لقد وجد من أسرار التنظيم العجيبة أن هناك تضاداً ما بين إفراز هذا الهورمون من غدة النخامة ، وما بين الهورمونات التي تفرزها المشيمة المتعلقة بأرجل هي أقوى من مائة (100) أخطبوط إلى جدار الرحم ، وهي هورمونات البروجسترون والأستروجين ، ولقد لوحظ ان هذه

٢٤٥

الهورمونات تنخفض كلياً وبسرعة في لحظة ما ، وكأن هذا اللجام للغدة النخامية قد أفلت وكأن تعلق المشيمة بجدار الرحم قد تزعزع من الأساس فيبدأ هذا الهورمون باقناع الرحم أن يتقلص لدفع الجنين إلى الخارج بشكل منظم تدريجي بعد أن حواه تسعة أشهر كاملة ( حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهراً ) ونتساءل مرة أخرى ما الذي دعا الى هبوط مستوى هورمونات المشيمة من الدم كلياً دفعة واحدة وبسرعة؟ هل لأن المشيمة شاخت ، أو ماذا؟ لا أحد يدري وقيل في هذا تعليلات مختلفة ولكن أصدق ما يقال هو قدرة الله المنسقة للكون والحيان والانسان(1) .

وييدأ الرحم في التقلص ، ويبدأ صراخ الأم وتمر بمراحل مختلفة من الالم يشتد فيها تدريجياً حتى يصل الألم إلى درجة لا تستطيع الام أن تخرج معه صوتها ، نقف هنا لنلفت نظر القارئ إلى نقطة عجيبة وهي : إن تفلص الرحم المنظم المشتد تدريحياً هو الذي يخرج الجنين إلى الحياة لأن نقص التقلص يفضي إلى ما يعرف بعطالة الرحم حيث يمتنع الرحم عن التقلص ويبقى الجنين في الداخل ينتظر ساعة الخلاص ، وهنا يعمد الاطباء إلى ما يعرف بتحريض المخاض عن طريق حقن مواد ودوائية في الوريد ، وإذا اشتد تقلص الرحم حدث ما يعرف باشتداد تقلص الرحم ، وفرط مقوية الرحم التي قد تصل إلى درجة تكزز الرحم حيث تتوالى التقلصات بدون فواصل راحة وكأنها هستريا تشنجية في عضلة الرحم ، ويصل الامر في آخره إلى أن تنقبض الرحم مرة واحدة فلا ترتخي ، وهذا معناه الهلاك المبين للجنين ، لا تشنج الرحم

__________________

(1) لا يعني هذا ان بقية الآليات والتفاعلات في الجسم إذا جاء العلماء وفسروها فان معناها ان قدرة الله لا تتدخل فيها ، بل إن نفس الدماغ الذي يفسر بواسطته العالم مشاكل العلم هو من هبات الله التي لا تحصى.

٢٤٦

وانقباضه بهذا الشكل يعني انقطاع ورود الدم إلى الجنين عبر المشيمة ، ويبدأ الجنين في التالم ويرسل صيحات النجدة وإشارات الاستغاثة ، ولكن كيف سنعرف أنه في حالة محنة وكرب؟ إنه يرسل صرخات النجدة من خلال أثمن ما يملك وهو دقات القلب(1) ، وهكذا يعرف الطبيب وضع الجنين تماماً من خلال سماع دقات قلب الجنين ، وتكون إشارات الاستغاثة تماماً كالإشارات الخضراء والصفراء والحمراء. فالقلب أولاً يسرع ثم يبطؤ ، ثم تخف ضرباته ويضيع انتظامه ، وكأن الحالة الأولى الانفعال السريع ثم التراخي ثم الاقتراب من سكرة الموت وضياع الوعي ، فما أعقل قلب هذا الجنين الذي يرسل هذه الإشارات المعبرة!! ان سماع هذه الدقات يعني للطبيب أن يتدخل بسرعة لانقاذ حياة هذا الذي يغرق في الموت كل لحظة.

إن هذا الهورمون هو الذي ينظم تقلصات الرحم كحد السيف فلا تزيد ولا تنقص وكل شي بمقدار ، حتى يسهل خروج الجنين إلى الحياة ولكن إذا خرج سالماً هل انتهت القضية؟ إن المحنة تبقى للأم فجدار الرحم مثقوب بآلاف الثقوب من أوعية الدم التي كانت تغذي المشيمة وها هي قد انفتحت دفعة واحدة فيا للهول الهائل!! إن هذا يعني موت الأم في دقائق لأن النزيف سيقتلها ولن ينقذها شيء في هذه اللحظة إلا القدرة الحكيمة اللطيفة التي رتبت الأمور!!

يا أيها الهورمون الذكي لقد كنت تشبه الذي يلعب الأستغماية فأنت تبرز وجهك للرحم فيخاف وينكمش ثم تختفي فيرتخي الرحم ويبش ،

__________________

(1) دقات قلب الجنين ضعف دقات قلب الرجل الكهل أي 120 ـ 140 ضربة في الدقيقة الواحد وهي تشبه دقات الساعة ، وقد ترتفع في حالات تألم الجنين إلى 160 ـ 180 ـ 200 واكثر في الدقيقة الواحدة.

٢٤٧

وهكذا تتوالى التقلصات ، فالآن جاء دورك أيها الهورمون الذكي إجعل الرحم ينقبض دفعة واحدة ، ولفترة طويلة(1) ، لقد جاء دور الانقباض الآن!! ألا تعجب أيها القارىء ما بين خطورة الانقباض قبل قليل وفائدته الآن!! ان انقباض الرحم قبل قليل معناه موت الجنين ، وعدم انقباض الرحم الآن يعني موت الام ، نفس العمل يميت ويحيي ، فتباركت اللهم الذي جعلت من الموت حياة ومن الحياة موتاً( إن الله فالق الحب والنوى ، يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنّى تؤفكون ، فالق الاصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم. وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون. وهو الذي انشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصّلنا الآيات لقوم يفقهون ) سورة الانعام ، هذا هو عمل هذا الهورمون الذكي العاقل فهو هورمون ساعة الخلاص ، وهو هورمون النجدة ، وهو هورمون التخفيف والمواساة للأم.

وأما الهورمون الثاني من الفص الخلفي للنخامة فهو يتعلق بالعروق الدموية المرنة ، فهو يخنقها أو يرخيها. وأما كيف يتم هذا التقلص أو الارتخاء ، وبالتالي يرتفع ضغط الدم أو ينزل ، فان السبب فيه يرجع إلى أن هذا الهورمون له علاقة وصحبة قديمة مع عناصر مهمة في جدار العرق الدموي وخاصة الشرايين ، فالشريان يتكون جداره من ثلاث طبقات ، وتحوي الطبقة المتوسطة أليافاً عضلية مرنة ، فإذا تقلصت هذه الألياف العضلية أدى ذلك إلى صغر لمعة الوعاء الدموي وبالتالي اشتد

__________________

(1) يسمى هذا الفعل عند المولدين بالارقاء الحي ، وسماها بينار تشكل كرة الامان لأن الشعور بها يبعث الى الاطمئنان على حياة الأم ، وعدم تشكلها يعني النزف كافواه القرب

٢٤٨

ضغط الدم ، والعكس بالعكس ، إن هذا الهورمون الجوال لا يهمه من كل ما يحيط به إلا هذه المنطقة فقط فيأوي اليها ويفهمها أن ترتخي وتتقلص بما يناسب حالة البدن بشكل عام من الداخل أو الخارج. وأما كيف يتم التفاهم بين هذا الهورمون وبين الألياف العضلية اللاارادية أو ما تسمى بالألياف الملس فتقوم بما املاه عليها اقتناعها؟ فذلك سر من الاسرار!

وأما الهورمون العاشر والأخير من سلسلة هورمونات الغدة النخامية ، أو الهورمون الثالث من هورمونات الفص الخلفي من النخامة ، فيختص بالكلية فهو معجب بها ولا يحب غيرها ، ولذا فهو يأوي اليها ليقوم ببعض المهام التي تعتبر في منتهى الخطورة بالنسبة للجسم ، إن هذا الهورمون يقع تأثيره بعمل معين وفي منطقة معينة ، فأما العمل المعين فهو الامتصاص وكأنه ذلك الحيوان الاسطوري الذي لا يكف عن شرب السوائل ليل نهار ، وأما مكان عمله فهذا يحتاج لشرح بسيط.

لقد وجد أن الكلية تتكون من مليون كبة!! وما هي الكبة؟ أهي كبة شعر؟!؟ لا إنها كبة من شعريات دموية فالشريان الكلوي يتفرع حتى يصل إلى درجة عظيمة من الدقة والصغر وهنا يلتف على نفسه حتى يكون كبة ، ولكن من وعاء دموي صغير هو أرفع من الشعرة ، وهذه الكبة يحيط بها غشاء هو أشبه بالقربة التي تتلقى السوائل التي ترشح من هذه الكبة ، ومن هذه القربة يمتد أنبوب متعرج ثم يشكل عروة صغيرة(1) ، ثم يتعرج مرة أخرى حتى يلتقي بأمثاله ، مكوّناً أنبوباً كبيراً ، وهكذا تجتمع الأنابيب فتكوّن أنبوباً أكبر ، وهكذا حتى تصب فيما يسمى بالكؤوس الكلوية ، وهي تشبه الخلجان البحرية ، ثم

__________________

(1) تسمى هذه العروة بعروة هانلة.

٢٤٩

يلقى البول المتكون الراشح في الحويضة ثم يمر إلى الحالب فالمثانة فالاحليل ، ثم إلى الخارج نهائياً ، ان الأنبوب القريب من الكبة تمتص منه معظم السوائل المرتشحة وهي ما تقارب 85% ، والمنطقة التي تقع بعد عروة هائلة تسمى بالأنبوب البعيد وهنا يمتص قرابة 14% من السائل الراشح ، والامتصاص هنا يخضع لهورمون الغدة النخامية ، ولذا سمي بالهورمون المضاد للأدرار ، ويتم الامتصاص هنا بشكل فاعل أي أن الامتصاص هنا يتعلق بكمية هذا الهورمون في الدم ، وبكمية الشوارد المعدنية والسوائل التي توجد في البدن ، ولكن الشيء المهم هو أن هذا الهورمون هو الذي يمسك هذه القناة فيصرف سوائلها ، بينما تعتبر المنطقة القريبة من الكبة منطقة منفعلة يتم الامتصاص فيها بشكل آلي وبدون تدخل أحد ، فهي قناة عامة لا يد لأحد فيها ، وحتى نتفهم خطورة هذا العمل الذي يقوم به الهورمون فيجب أن نعلم أن كمية الدم المارة في الدقيقة الواحدة هي (1300) سم 3 أي أن الكلية تقوم بتصفية (1800) ليترة من الدم يومياً فأي مصفاة عجيبة هذه!! وهذه المصفاة تصفي من الدم عشرات العناصر من المعادن والسموم والنفايات ، والمخلفات والمواد التي تعتبر حصيلة استقلابات البدن ، ولذا يعتبر فحص البول مهماً جداً لكشف الكثير من الأمراض التي تختص بجهاز البول وببقية الأجهزة.

إن الدم الذي يمر يرشح منه في تلك القربة السحرية ـ وتسمى بمحفظة بومان ـ مقدار يبلغ (127) سم 3 في الدقيقة أي ما يعادل (183) ليتر من البول يومياً فكيف يمتص ثانية؟ إن امتصاصه يتم عن طريق الأنابيب القريبة ، ثم الأنابيب البعيدة ، بواسطة هورمون النخامة المسمى بالهورمون المضاد للإدرار ، وهكذا يمتص ( 5 و 181 ) ليتراً ويطرح (5 و 1) ليتراً يومياً وهو البول العادي الذي يطرحه كل واحد منا ، وهكذا يمتص (1100) غرام من ملح الطعام و (410) غرام من ثاني فحمات الصوديوم و (150) غرام

٢٥٠

من سكر العنب وهذا يعني أن سوائل البدن التي تتراكم ما بين الخلايا وتقدر بـ (11) ليتر تترشح وتمتص (16) مرة في اليوم الواحد ، أي ان أخلاط البدن الداخلية تنقى وتصفى من الكدر والسموم والبقايا والنفايات والمواد الضارة ، والزائدة ، والتي لا لزوم لها ، ومحاصيل الاستقلاب ، كلها تنظفها الكلية من الجسد (16) مرة في اليوم ، فأي عناية وأي نظافة وأي تصفية عجيبة هذه!!

وإذا وقعت الواقعة وفقد هذا الهورمون من البدن فماذا يحدث؟ بول دائم ليلاً نهاراً! إن المريض يبول ويبول بدون توقف(1) ، وحتى يعوض عما يبول يشرب ويشرب ويشرب الماء ، وهكذا فان المريض لا يبقى له شغل إلا أن يكون بجانب حنفية الماء ودورة المياه ، وإذا لم يفعل هذا تجفف جسمه ومات في مدى أيام قليلة ، وكل هذا بسبب فقد هذا الهورمون الذي يسيطر على إدرار البول في الجسم وبتأثير يبلغ ملغرامات بسيطة قليلة

إنه الاتزان المحكم ، والدقة الرائعة ، والحكمة المهيمنة ، والإرادة المدبرة ، فلا شيء يقوم بالفوضى أو على الفوضى ، ولا شيء يوجد من تلقاء نفسه بل تقوم السنن والنواميس والقوانين المطردة الدقيقة الرائعة المتزنة( وخلق كل شيء فقدره تقديراً ) سورة الفرقان.

وهكذا رأينا في الغدة النخامية التي تزن نصف غرام ويبلغ طولها 1 سم وعرضها ( 1 ـ 5 و 1 ) سم وارتفاعها نصف سنتمتر ، أي أن حجمها يبلغ (1) سم 3 ، وجدنا فيها ثلاثة فصوص ، يوجد في الفص الأمامي

__________________

(1) يسمى هذا المرض بالبيلة التفهة أي التي لا طعم لها لكثرة احتوائها على الماء ، ولا تتصور أيها القارىء كم يشرب ويبول هذا المريض يومياً فلقد ذكر أن أحد المصابين بال في يوم واحد (43) ليتراً من البول أي قرابة ثلثي وزنه!!

٢٥١

وحده خمسة أنواع من الخلايا ، وتفرز هذه الغدة (10) عشرة هورمونات ، وتتصل بالدماغ بأكثر من (100) ألف خط هاتفي ( ليف عصبي!! ) وتسيطر على الدرق وقشر الكظر والخصية والمبيض والثدي وأجهزة النمو ، أي العظام والمفاصل والعضلات والغضاريف ، وعلى العروق الدموية والكلية وعضلة الرحم. وهي بهذه السيطرة والهيمنة تعدل أخلاط البدن ، وتصحح مزاجه ، وتضبط سوائله ، وتصرف فائضه ، وتقوّم ميزانيته ، وتعدل أحماضه وقلوياته ، وتوازن شوارده ، وتحكم تفاعلاته ، فكيف تم هذا المزيان الرائع؟ وكيف ركبت هذه الآليات المعقدة؟ وكيف وزنت الأمور وأقيمت بالقسطاس المستقيم؟( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزّله إلا بقدر معلوم ) سورة الحجر.

والان الى بحث شيق آخر من أبحاث الروعة والعظمة في هندسة وبناء الانسان.

وزارات الجسم

مكن أن يشبه الجسم إلى حد بعيد بالأمة والدولة ، فالخلايا هي أفراد الشعب العامل ، وتجمع الخلايا في عمل واحد يشبه المديريات والمؤسسات ، والاختصاصات في الجسم تشبه الوزارات إلى حد ما ، فالجهاز العصبي المركزي هو بمثابة السلطة الحاكمة المهيمنة ، المخلصة ، العاقلة ، العالمة ، والجسم كله يمثل الشعب المتفاني في الطاعة وتقديم الولاء.

وأما جهاز الدوران فهو يجمع بين خاصية نقل الغذاء والاكسجين إلى الأنسجة العطشى الجائعة وإرجاع بقايا الاحتراق ونفايات الغذاء ، فهذا الجهاز يعبّد الطرق ، ويشق الممرات ويحس الوصل ، ولذا فهو أشبه بوزارة المواصلات.

٢٥٢

وأما الجهاز الهضمي فهو ينقل إلى الأمعاء النشويات والبروتينات والدسم والماء والأملاح المعدنية والفيتامينات ويلقي الفضلات والقمامة التي لا يحتاجها البدن ، ولذا فإن هذا الجهاز أشبه بوزارة التموين في الجسم.

وأما الغدد العرقية فهي أشبه بوزارة السياحة والاصطياف لأنها تبرد الجسم وتخفف من حرارته.

وأما الجلد واللحف(1) والأظافر والاشعار فهي تمثل الانسان من الخارج ، فهي أشبه بوزارة الخارجية!!

وأما جهاز التنفس فهو يأتي بالغازات الضرورية للبدن مثل الاكسجين ويطرح غاز الفحم وهكذا يتصفى الدم من الكدر ، ولذا فهو اشبه بوزارة الاقتصاد لأنه يستورد ويصدر.

أما العضلات والمفاصل والعظام فهي أشبه بوزارة الدفاع أو الحربية والجيش لأنها تدافع عن الانسان كما تقوم بالهجوم إذا لزم الأمر.

وأما الكبد فهو مركز الجمارك العام لأن كل ما يرد إلى البدن من الطريق الهضمي يمر فيه حيث يبعد المشتبه به ، ويدخل المرغوب فيه ، كما يعدل الشيء المشكوك به ويرسل معه مراقباً حتى يلقيه خارج الحدود عن طريق الكلية ، وهو ما يعرف بالازدواج الكبريتي أو الغلو كوروني ، لأن هاتين المادتين تترافقان مع المادة التي ستطرح إلى الكلية.

وأما الطحال فهو المقبرة الموحشة للكريات الحمر لأن الكرية لا تعيش أكثر من شهرين وسطياً حيث تنقل إلى الطحال وتواري مثواها الأخير وطريقة الدفن في الطحال عجيبة فهي اشبه ما تكون بطريقة الدفن

__________________

(1) يقصد باللحف الأغشية الخارجية التي تغطي الفوهات الخارجية مثل العين حيث تغطيها الملتحمة ، والفم من الداخل الغشاء المخاطي وهكذا.

٢٥٣

عند المسلمين حيث يدفن الجثمان ويرجع بالتابون خلافاً لطريقة الآخرين الذين يدفنون الجثمان والتابوت جميعاً ، ومظهره هنا العودة بذرة الحديد مرة أخرى حتى يتستفيد منها الجسم في بناء كريات حمر جديدة!!

وأما النخاع الموجود في باطن العظام وأماكن أخرى متنائرة في الجسم فهي أشبه ما تكون بوزارة الصناعة لأنها تصنع الكريات الحمر والبيض والصفيحات ، وعناصر أخرى كثيرة.

وأما الجهاز البولي فهو أشبه بوزارة الداخلية لأنها تطرح العناصر المشتبة خارج الحدود ، وتحافظ على نظام البدن الداخلي حتى يتزن ولا يتقلب ، كما تنظم السوائل الداخلة والخارجة حتى لا يحصل العبث بالنظام الداخلي ولذا فهي مصفاة البدن الكبيرة والمحافظة على الاتزان الداخلي.

وأما الحواس فهي امتدادات وزارة الخارجية ، أي الجلد.

وأما اللسان وأعضاء التصويت فهي وزارة الإعلام التي تذيع الاخبار وتبث الأحاديث ، وتنقل الأفكار والمفاهيم ، والإذاعة هي مراكز التصويت المتجمعة في الحبال الصوتية والحنجرة وغضاريفها ، واللسان وعضلاته ، والجمجمة وحفرها ، والشفة ومقدم الفم.

وبقي أن نتساءل : أين تقع وزارة الأوقاف بين هذه الوزارات؟ والجواب أنه لا حاجة لمكان تحدد فيه لأن الجسم وغدده وأخلاطه ودمه ولمفه وعروقه وأعصابه وشعره وجلده كله يمشي وفق الناموس الذي رسمه له الخالق العظيم ، فكل خلاياه وأنسجته وأعضاءه وأجهزته انما هي في حالة عبادة واستسلام وإسلام لله رب العالمين ، فليس هناك من مكان يخصص لعبادة الله والتفرغ له وأماكن أخرى تخصص لعبادات أخرى( أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ) الكل يعبد ويسبح الله والكل يصلي لله وفق اختصاصه ، فالدم يصلي في جريانه ، والرئة تصلي

٢٥٤

في تنفسها ، والقلب يصلي في نبضاته ووالعصب يصلي في سريانه( كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون ) سورة النور.

ونقف هنا لنلفت نظرالقارىء ولنحرك وجدان الطبيب والعالم ، إن الانسان سخر له الكون وهو يتصرف فيه كما يشاء ، وتتخصص طوائف البشر في الصناعات والحرف تعالج عللها وتكتشف أسرارها ، وتسخر سننها ، ولكن أخطر الاختصاصات هو الذي ينصب على نفس الانسان ، فالانسان يختص بدراسة كل الكون ، والطبيب يختص بمفتاح هذا كله وهو الانسان ، فماذا أثمرت هذه الدراسة؟

إن كاتب هذه السطور درس الطب سبع سنوات طويلة مليئة من عمره فلم يسمع كلمة الله من أحد من الذين يختصون بالدراسات الطبية العميقة سواء على مستوى الطب الطبيعي أو على مستوى الطب المرضي(1) ، إلا ان تذكر الكلمة عرضاً وبسرعة ، أو أن يفتتح الكتاب بجملة( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، ثم تقرأ ، وتقرأ مئات الصفحات حتى تفرغ من الكتاب فلا تشعر بلمسة إيمان ، أو نبضة روح من المؤلف أو المترجم أو الناقل ، آيات تمر ، ومعجزات تسطر ومع هذا لا يتحرك وجدان ، ولا تستيقظ( وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ) وحقاً إن الآية بالذات لا فائدة منها إلا للمتفكر والمتأمل والمتدبر( وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) ، وتقرأ كتاباً لمؤلف آخر فتراه يعرض الآية القرآنية مبتورة وبمنتهى السرعة ، ثم اننا لفظنا الآية القرآنية والاصح أن يقال آية قرآنية لأن كتابين كبيرين من كتب الطب ليس فيهما الا نصف آية من القرآن وبشكل مبتور ، فيا أيها

__________________

(1) نستثني من هذا الكلام بعض الاساتذة ولكن كما هو معروف في اطلاق القواعد ان الحكم للاغلبية وليس للاقلية فضلاً عن أفراد معدودين على رؤوس الأصابع.

٢٥٥

القارىء بالله عليك ما فائدة الآيات إذا لم توصل إلى الإيمان ، وهل يكفي أن نقول ان الماء فيه سر الحياة وفيه خواص عجيبة ومدهشة ثم نأتي لنستشهد بالقرآن فنقول :( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) وباقي الآية؟! فلتبلغ!! ان تتمة الآية هو المقصود من سوق الآية فالماء وغيره آية تشده البصيرة وتقود إلى الايمان ، ولذلك كانت الآية القرآنية كما يلي :( وجعلنا من الماء كل شيء حي افلا يؤمنون ) سورة الأنبياء.

وطالما سار الأمر في هذا البحث ، فلنسمع شهادة التاريخ وشهادة العلماء لا لندعم به إيماننا ، ولكن لنحاكم أولئك الذين لا يصدقون إلا بما يقوله أصحاب الاسماء الرنانة ، والشهادات العريضة ، ونسوا ان الانسان مهما بلغ علمه ، وارتفعت خبرته فانه لا يحيط بالوجود ، ولا ينفذ إلى خزائن الأسرار ، لأنه مركب من نقص ، وضعف وقصور ، وهوى ،( يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا ) سورة النساء.

لنذكر أولاً احصائية قام بها العالم دينرت(1) عن كبار العلماء والفالسفة في القرون الاربعة الاخيرة ، وكان عددهم (290) عالماً ، فوجد ما يلي : (28) منهم لم يصلوا إلى عقيدة ما ، (242) أعلنوا إيمانهم على رؤوس الاشهاد و (20) لم يكونوا يبالون بالوجهة الدينية ، وهذا يعني أن 92% أظهروا إيمانهم أمام الناس ، وهذا ما يثبت الفكرة التي طرحناها لامتنا وهي ان العلم والطب هما من جملة محاريب الإيمان ، ولنسمع إلى اقوال بعض العلماء في هذا الصدد :

1 ـ الطبيب المشهور باستور : ( الإيمان لا يمنع أي ارتقاء كان ،

__________________

(1) نقلاً عن كتاب روح الدين الإسلامي ، عفيف عبد الفتاح طبارة ص 82 [ معظم الفقرات ].

٢٥٦

لأن كل ترق ، يبين ويسجل الاتساق البادي في مخلوقات الله ، ولو كنت علمت أكثر مما أعلم اليوم ، لكان ايماني بالله أشد وأعمق مما هو عليه الآن ).

2 ـ الدكتور ( وتز ) عميد كلية الطب في باريس ، وعضو اكاديمية العلوم ، وكيميائي : ( اذا أحسست في حين من الأحيان أن عقيدتي بالله قد تزعزعت وجهت وجهي الى أكاديمية العلوم لتثبيتها )

3 ـ باسكال : ( صنفان فقط من الناس يجوز أن نسميهم عقلاء : الذين يعرفون الله ، والذين يجدّون في البحث عنه لأنهم لا يعرفونه ).

4 ـ اينشتاين : ( إن الإيمان هو أقوى وأنبل نتائج البحوث العلمية ) ، ( ان الايمان بلا علم ليمشي مشية الأعرج ، وان العلم بلا إيمان ليتلمس تلمس الأعمى )

5 ـ ادمون هربرت ، جيولوجي ذائع الصيت ، ومدرس بجامعة السوربون : ( العلم لا يمكن أن يؤدي الى الكفر ، ولا الى المادية ، ولا يفضي إلى التشكيك ).

6 ـ فابر : العلامة المؤرخ الطبيعي : ( كل عهد له أهواء جنونية ، واني اعتبر الكفر بالله من الأهواء الجنونية وهو مرض العهد الحالي وأيسر عندي أن ينزعوا جلدي من أن ينزعوا مني العقيدة بالله ).

7 ـ ألبرت ماكوب ونشستر : أستاذ الاحياء بجامعة بايلور وعميد أكاديمية العلوم بفلوريدا سابقاً : ( ان اشتغالي بالعلوم قد دعم إيماني بالله حتى صار أشد قوة وأمتن أساساً مما كان عليه من قبل ، ليس من

٢٥٧

شك ان العلوم تزيد الانسان تبصراً بقدرة الله وجلاله ، وكلما اكتشف الانسان جديداً في دائرة بحثه ودراسته ازداد إيماناً بالله )

8 ـ اسحق نيوتن : ( ان هذا التفرع في الكائنات وما فيها من ترتيب أجزائها ومقوماتها وتناسبها مع غيرها ومع الزمان والمكان لا يمكن أن تصدر إلا من حكيم عليم ).

ـ * ـ

٢٥٨

الطعام والتغذية

يقول الخالق الرازق :( فلينظر الانسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صباً ، ثم شققنا الأرض شقاً ، فأنبتنا فيها حباً ، وعنباً وقضباً ، وزيتوناً ونخلاً ، وحدائق غلبا ، وفاكهة وأبا ، متاعاً لكم ولأنعامكم ) سورة عبس

ـ 1 ـ

كيف يستطيع الإنسان أن يتغذى بكل هذه الأنواع ، من الأطعمة ، من الماء الى الخبز الى اللحم إلى الفاكهة الى الخضراوات ، كيف تهضم امعاؤه كل هذه الأصناف المتباينة من الأغذية؟ كيف تهضم المشوي والمقلي والمسلوق؟ كيف تهضم المطبوخ والنيء؟ كيف تتقبل وبنفس الوقت المالح والحامض والحلو والمر؟ ثم كيف تتحول هذه الأغذية الى طاقة تحرك البدن ، ومواد ترميم ، وخامات تصنيع جديدة؟

ـ 2 ـ

ثم لننظر في الأسنان والشفاه والفم وكيف ركب بشكل مدهش لتقبل الطعام ، فالأسنان منها القواطع والثنايا الأمامية لتقطيع الطعام ، ومنها الأنياب لتمزيق اللحم والأشياء القاسية ، والأضراس في كل جانب

٢٥٩

لطحن وجرش المأكولات ، بحيث ان اللقمة تنقلب إلىعجينة عندما تصل إلى المري والمعدة.

ثم لننظر في الغدد اللعابية وهي ثلاثة أزواج : تحت الفك ، وتحت اللسان ، والغدة النكفية في كل جانب ، وهذه الغدد تفرز المصل والمخاط والخمائر الخاصة بهضم النشويات وتبلل الطعام وتبلل الحلق ويصل إفرازها اليومي إلى قرابة اللتر ، والخميرة التي تهضم النشا يبقى تأثيرها حتى الساعة والنصف ولولاها لتأخر امتصاص النشويات وكلنا يعرف عسر الهضم عند المسنين وذلك لنقص إفراز هذه الخميرة من غدد اللعاب ، كما تذيب مفرزات الغدد المواد فنشعر بطعمها وهكذا نشعر بطعم المواد ومذاقها ، كما تشترك في تزليق المواد الصلبة فيسهل بلعها ، وفي تليين الغذاء فيسهل مضغه ، كما تقوم هذه المفرزات بتعديل المواد الداخلة الى الفم فيما إذا كانت ضارة أو حارة أو باردة وهكذا نشرب الشاي الساخن الذي لا يتحمله إلا الفم بهذه الدرجة وبفضل الغدد اللعابية ، كما تقوم الغدد اللعابية بجرف الخلايا المتوسفة وبقايا الأغذية والجراثيم ، وهكذا تفعل هذه الغدد كما تفعل أمانة العاصمة في تنظيف هذه الأماكن وتطهيرها ، كما تعتبر مشعراً في العطش فعندما تنقص السوائل في البدن يشعر الإنسان بجفاف حلقه فيشرب الماء ، ونرى الخطباء الذي يتكلمون الساعات الطويلة ، والمتحدث والمتكلم العادي فكيف يمكن لكل واحد فيهم من متابعة حديثه وتزييت لسانه؟!! إنه اللعاب الذي يرطب جوف الفم ولولاه لما استطعنا متابعة الحديث ، وكلنا يشعر بذلك عندما يجف حلقه كيف يصعب عليه الكلام.

فكيف اجتمعت كل هذه الوظائف في هذا اللعاب العجيب فهو المنظف والمطهر والمعدل والمرطب والمزلق والملين والحامي ، والمبلل ، والمذوق ، والمحلل ، والمشعر ، وجرس الانذار في الفم ، عشرات الوظائف في سائل

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419