الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان14%

الشيعة في الميزان مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 419

الشيعة في الميزان
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 142469 / تحميل: 9284
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الشاه عباس:

استتب له الأمر سنة ٩٩٦ هجري، وكان معروفاً بأصالة الرأي، وقوة العزم، وحسن التدبير، والعدل في الرعية، وكانت البلاد الإيرانية حين تولى الملك مجزأة الأطراف، موزعة بين الأتراك والتركمان بسوء إدارة أسلافه، فاسترجعها ووحدها تحت سلطانه، وأنشأ لأول مرة في تاريخ إيران، أو الصفويين العلاقات السياسية والعلمية والعسكرية بين إيران، ودول أوروبا، كفرنسا، وانكلترا، وإيطاليا.

وما أن أخضع الثائرين والخارجين عليه، حتى حشد الأتراك على الحدود الإيرانية مائة ألف جندي، فصدهم الشاه عباس، وأرجعهم خاسرين، وقد تبين له من حربه مع الأتراك أن الجيش الإيراني ينقصه التدريب والنظام، فاستقدم الخبراء الأجانب، فنظموا له الجيش على الطرق الحربية الحديثة يومذاك، ولما اطمأن إلى جيشه زحف به على بقية الأقطار التي انتزعها الأتراك من الإمبراطورية الإيرانية، واستردها قطراً بعد قطر، حتى استرجع أذربيجان وشطوط بحر قزوين وبلاد الجراكسة والعراق والموصل وديار بكر وكردستان وما يليها، وكانت جيوشه - بعد أن دربت تدريباً حديثاً - تتغلب على جيش العدو الذي كان يبلغ - أحياناً - ضعفي عدد عساكره.

وقد اتخذ اصفهان قاعدة ملكه، ونظم أحوالها، واحسن تدبيرها، وكانت العاصمة قبله مدينة تبريز، ثم قزوين.

الشاه عباس والعمران:

لا نعرف سلطاناً كان يملك عقلاً عمرانياً، ويفكر ويعمل ليل نهار لراحة الرعية ورفاهيتها أكثر من الشاه عباس، لقد وهب هذا الشاه نفسه وخزينته، وكل ما يملك لصلاح الشعب وإصلاحه، وجعل العمل للخير العام هدفه الأول ومثله الأعلى، وآثاره القائمة إلى اليوم أصدق الشواهد. إن وجود ملك في عصر الظلمات تتسم جميع أعماله بطابع الإنسانية والمصلحة العامة لهو من خوارق العادات، ولنشرع الآن في تقديم الأمثلة:

منها: أنه استقدم العديد من الخبراء بالتجارة والصناعة، مع عائلاتهم من الأرمن وغيرهم، وبنى لهم مدينة خاصة في ضواحي أصفهان عاصمة ملكه، وأنشأ فيها الكنائس والأسواق، وأطلق لهم الحرية الدينية بكامل معانيها، وقد تعلم الإيرانيون من هؤلاء أنواعاً من الفنون والصناعات، وكانوا عاملاً قوياً في حضارة إيران، ورفع مستواها الاقتصادي.

١٦١

قال شاهين مكاريوس في «تاريخ إيران»: خطت البلاد في أيامه خطوة واسعة إلى العظمة والتقدم، فكثرت التجارة مع الإفرنج، وتردد التجار والسائحون إلى البلاد، وتوطدت العلاقات الطيبة مع دول أوربا وسلطان الهند. وشاد الصروح الفخمة، وزين المدائن، وأمر بالعدل، وترك من الآثار العظيمة ما يخلد الذكر، بخاصة في أصفهان التي ليس لها مثيل في الشرق(١) وهو أعظم سلاطين المشرق، وأشهر ملوك إيران، حتى أن الإيرانيين يطلقون عليه عباس شاه الكبير، ويظنون أن كل ما في إيران من الآثار القديمة هي من حسناته».

وقال صادق نشأت، ومصطفى حجازي في «صفحات عن إيران»: «وقد نشط الشاه عباس الكبير في إقامة علاقات سياسية مع دول أوربا مما ساعد على تبادل المعلومات الصحيحة بين إيران وأوروبا، وكان عباس الكبير يبدي روح التسامح الديني نحو غير المسلمين، وكان يهتم بترقية إيران صناعياً، وقد أحضر ثلاثمائة من الصناع الصينيين المهرة في صناعة الخزف، مع عائلاتهم، ليعلموا الصناع الإيرانيين الجودة في هذه الصناعة، ويدربوهم على إتقانها، وأخذت إيران تنتج الخزف بكميات هائلة. أما الصناعات الأخرى فإن صناعة السجاد قد بلغت في عهد الصفويين حدا من الروعة والاتقان كان أساساً لتفوقها الكبير، كذلك ارتفعت صناعة المنسوجات الحريرية ذات الخيوط الفضية والذهبية والنماذج الزخرفية البديعة».

ومنها: اهتمامه البالغ بشق الطرق وتعبيدها، وتسهيل المواصلات بالأساليب المألوفة في عهده، حتى أنه بنى ألف خان، يتسع الواحد منها لمئات المسافرين

_______________________

(١) بعد أن ننتهي من الكلام عن الصفويين ندرج فصلاً عجيباً عن هذه الآثار التي تشبه السحر والأساطير، نقلناه عن جريدة النهار البيروتية.

١٦٢

مع دوابهم وحمولتهم، وكانوا يأوون فيها دون أي مقابل، ومعلوم أن هذه الخانات كانت ضرورية لمواصلة السير والتنقل، ولولاها لاستحال على المسافرين أن يقطعوا المسافات النائية. وما زالت آثار هذه الخانات قائمة، حتى اليوم.

ومنها: عنايته بالرياضيين المعروفين في إيران «بالبهلوان» فقد خصص لهم جناحاً خاصاً في قصره، واعتبرهم من رجال بلاطه.

ومنها: تشييده المساجد والمدارس الفخمة على أحدث طراز.

ومنها: تكريمه العلماء والفقهاء بشتى أنواع التكريم والتعظيم، حتى كثرت في عهده المؤلفات في الفقه والحديث والأصول والأخلاق، وغيرها. قال السيد محسن الأمين في الجزء الثاني من «معادن الجواهر»: «كان سوق العلم في عصره بأصفهان في رواج عظيم، وكان يصدر عن رأي المحقق السيد الداماد، والشيخ بهاء الدين العاملي في خطير الأمور وحقيرها، وألف البهائي كثيراً من الكتب باسمه، كالجامع العباسي وغيره».

إلى غير ذلك من الأعمال الجليلة، هذا، وكان يرفض التفخيم والتعظيم، ويأبى أن يطلق عليه الألقاب، وأن يُدعى بغير وكيل الرعية، لأن هذا هو واقع كل حاكم، ومن حاد عن مفهوم الوكالة وحدودها فهو طاغية مستبد. وكان شديد الاتصال بالناس مهتماً بمعرفة أحوالهم، وما هم عليه من بؤس أو نعيم، وكان يلبس كل ليلة لباس الدراويش ويتنقل في الشوارع يتنسم الأخبار، ويتفقد الفقراء والمعوزين، وكان يفعل ذلك في حروبه أيضاً، ومن طريف ما حدث له أنه دخل ذات ليلة إلى جيش الأتراك حين تجمع على حدود إيران، متنكراً بغير زيه هو وبعض أعوانه، ولما رآهم بعض الضباط دعوهم إلى تناول الطعام، فلبى الشاه الدعوة، وأكل مظهراً الغبطة والسرور، ثم دعا أولئك الضباط إلى زيارة معسكر الإيرانيين، ومناولة الطعام، فقالوا: نتمنى ذلك من صميم الفؤاد، عسى أن يقع نظرنا على الشاه الذي اشتهر هذه الشهرة الكبرى، وهو بعد في مقتبل العمر، وجاء الضباط مع صاحب الدعوة إلى معسكر الإيرانيين، وما أن دخلوا المعسكر، حتى عرفوا الحقيقة، فأكرمهم الشاه وأولم لهم الولائم، ثم أعادهم إلى أماكنهم، فعظمت مكانته في نفوسهم، وظلوا يتحدثون عنه

١٦٣

بالإكبار والإجلال(١) .

الشاه عباس والتشيع:

أشرنا فيما تقدم إلى عناية الشاه بعلماء المذهب، وصدوره عن رأيهم، وكثرة تآليفهم في عهده، وكان مع كثرة حروبه ومغازيه لا يقعده شيء عن إحياء الشعائر المذهبية، وله آثار باقية، حتى اليوم في مشاهد الأئمة بالعراق وإيران، وهو الذي بنى الحضرة العلوية في النجف وصحنها بهندسة الشيخ البهائي، وحجره بالكاشي على الهيئة التي هي عليها اليوم، وقد أودع في خزانة أمير المؤمنين وحفيده الرضا التحف الثمينة، ومن آثاره النهر المعروف في النجف بنهر الشاه، وقد حفره سنة ١٠٣٢ هجري بعد أن فتح بغداد، كما أن من آثاره في النجف آباراً واسعة كثيرة، وهي تسمى اليوم «الشاه عباسات»(٢) .

ولد الشاه عباس سنة ٩٧٩، واستقل بالملك سنة ٩٩٦، وتوفي سنة ١٠٣٨.

وتولى الملك بعده أولاده وأحفاده، وليس فيهم من يستأهل الذكر سوى حفيده الشاه عباس الثاني ابن الشاه صفي، قال صاحب «تاريخ إيران»: إنه اظهر سياسة واقتداراً، وإنه عقد صلحاً مع الأتراك، فلم تحدث الحروب في أيامه، كما نمت المتاجر وتقدمت العلوم والصنائع، ورتعت البلاد في بحبوحة الأمن والراحة».

وقال السيد الأمين في «معادن الجواهر»: «كان عارفاً بتدبير شؤون الملك مكرماً العلماء، وقد أمر المولى خليل القزويني بشرح كتاب الكافي للكليني بالفارسية، والمولى محمد تقي المجلسي بشرح كتاب من لا يحضره الفقيه، وأحضر المولى محسن الكاشي، وألزمه بإقامة الجمعة والجماعة، واقتدى به».

واستمر ملك الصفوية من سنة ٩٠٥ هجري إلى سنة ١١٤٨، وهي السنة التي جلس فيها نادر شاه أفشار على أريكة السلطنة.

ومن علماء الدور الصفوي المحقق الكركي، والسيد الداماد، والشيخ حسين

_________________________

(١) كتاب «تاريخ إيران» لمكاريوس ص ١٥٣ طبعة ١٨٩٨.

(٢) معادن الجواهر للسيد الأمين ج ٢ وتاريخ الشيعة للشيخ المظفر.

١٦٤

عبد الصمد، وولده الشيخ البهائي، والمجلسي الكبير صاحب البحار، وصدر المتألهين صاحب الأسفار، والمحقق الأردبيلي، والملا عبد اللّه اليزدي، والفيض الكاشي، وغيرهم، وقال بركلمن في الجزء الثالث من «تاريخ الشعوب الإسلامية»: «والحق أن الشاه عباس عني بالفلسفة والعلوم الطبيعية فضلاً عن الفقه، وكذلك ازدهر الشعر والموسيقى في ظل عباس أيضاً».

أصفَهان مَدينَة العجَائِب

في سنة ١٩٦١ أرسلت جريدة «النهار» البيروتية أحد محرريها إلى أصفهان، وهو الأستاذ كمال سنو، ليكتب لها عن الآثار العجيبة التي يتوارثها الإيرانيون جيلاً بعد جيل، والتي تحكي عظمة الإيرانيين بعامة، والصفويين بخاصة، فكتب مقالاً مطولاً، نشر في عدد ١٣ ايلول سنة ١٩٦١.

وبالنظر لأهمية المقال، وفائدته من الوجهة العلمية والتاريخية، وخوفاً من ضياعه، وأن يطوى مع الأيام، كما تطوى أعداد الجرائد، رأيت أن أحتفظ به لوقت الحاجة، وهذا وقتها، وأدرجته في كتابي هذا مسروراً مغتبطاً، لأن في ذلك خدمة للدين والعلم معاً. وليس من شك أن القارئ سيخرج منه، وهو على يقين بأن الصفويين قد بلغوا الذروة في المدنيّة والحضارة، وأنهم قدموا للعالم الإسلامي، وللناس أجمع أجل الخدمات وأعظمها في هذا الميدان. وقد أردنا نحن من حديثنا عمن تحدثنا عنهم من دول الشيعة أن نثبت أن الشيعة ساهموا في عمل الحضارة الإسلامية والعربية، تماماً كما ساهم غيرهم من الطوائف، وأنهم ليسوا في ذلك بأقل حظاً من سواهم، إن لم يكونوا أكثر وأوفر.

قال الأستاذ سنو:

١٦٥

في مدَينَة العجَائب وَالمسَاجد رأيتُ خَطّ الإمَام عَلي في أصفهَان

وقفت تحت قبة مسجد شاه وصفقت مرة واحدة، فإذا بالصدى يعيد التصفيق ٧ مرات.

وقفت على مئذنة منارة جمجم وهززتها، فإذا بها تهتز، ثم تهتز المئذنة المقابلة، ثم يهتز البناء كله.

طفت حول البركة الواسعة في قصر الأربعين عموداً (جهل ستون) لأرى عجائب هندسة العشرين عموداً التي تظهر في المياه في أي زاوية وقفت من زوايا البركة الواسعة.

تأملت الثقب في قبة مسجد جهارباخ، الذي تدخله الشمس في زاوية محددة لا تتغير من الشروق حتى الغروب، وإذا أمطرت الدنيا لا تتسرب نقطة ماء من الثقب إلى داخل باحة المسجد.

صعدت سلالم بناية «علي قابو» التي تبدو من الخارج طابقين، فإذا هي في داخلها سبعة طوابق، وخصص طابقها الأعلى لغرفة الموسيقى عندما كان يدخلها الموسيقيون فيعزفون ساعة أو أكثر ثم يخرجون ويقفلون الباب وراءهم، وعندما يأتي السلطان، يفتح الباب ويدخل مع نسائه فيعود صدى الموسيقى يتردد طوال الليل حتى يقفل الباب.

تجولت في السوق القديمة (البازار) التي تعتبر من أقدم الأسواق في العالم.

زرت مسجد الشيخ لطف اللّه، وكان أول مسجد بني بدون مئذنة، وخصص الطابق تحت الأرض للنساء، والطابق الأعلى للرجال.

قضيت نصف يوم بين أركان مسجد جمعة، الذي يجمع آثار عدة فتوحات فترى فيه منابر الفتح الإسلامي، ومنابر الفتح المغولي، ومنابر السلاطين الفرس.

وسمعت الحديث عن المياه الساخنة الأزلية وكيف حرم منها أهل المدينة بسبب الفضول الإنكليزي.

وسمعت قصصاً عن أركان كثيرة، في نواح عديدة، ينطق كل منها بصفحة من صفحات التاريخ.

كان ذلك في أصفهان، مدينة العجائب.

كل ما عرفته عن أصفهان قبل أن أزورها أنها مدينة صناعة السجاد. وكانت فيما مضى مهداً أدبياً، ومسرحاً حضارياً خلال فترة طويلة من الزمن. وبعد أن زرتها عرفت وجهاً آخر لها.

١٦٦

إنها مدينة السجاد، ومدينة المساجد، ومدينة العلم، ومدينة العجائب، ومدينة الإيمان، ومدينة الصناعة اليدوية، ومدينة من السماء.

وعندما تحلق الطائرة فوق سماء أصفهان، وتجول أكثر من جولة قبل أن تهبط في المطار، تتيح لك فرصة مشاهدة أروع منظر يمكن أن تطل عليه عين من الجو.

مآذن عديدة تعكس الشمس ألوانها الزاهية، وخضرة منتشرة في كل مكان، وميادين رحبة، وتربة صفراء.

وعندما تمشي في شوارعها تشعر بأنك تعيش مع ألفي سنة من التاريخ، أو ثلاثة آلاف سنة، إذ تقول أسطورة فارسية أن أصفهان بناها (تحمورش) الذي هزم ديفس وجيش العمالقة، وتفتش عن بقايا نبوخذ نصر والإسكندر.

ويروون أسماء عديدة لأصفهان: أسبانادا، سافاهان، سياهان، سياهيان، ولكن أصفهان هو الاسم الذي بقي لها من جميع ما أطلق عليها من أسماء. وقد أطلق عليها هذا الاسم سنة ٦٤٤ مع الفتح الإسلامي. ومنذ ذلك الحين بقي هذا الاسم سائداً، واحتفظت المدينة بطابعها الإسلامي وهندستها الإسلامية، وخلال ألف سنة تعاقب خلالها على حكم إيران العرب والمغول والأتراك والافغان والحكام الفارسيون ترك هؤلاء آثارهم وما يدل عليهم. ولكن الحقيقة الدائمة هي أن أصفهان مدينة الصفويين وعاصمتهم، كانت أبهى أيامها في حكم الشاه عباس الكبير الذي جعل منها عاصمة حكمه في العام ١٥٩٠. وشهدت أصفهان أياماً بيضاء كثيرة وأياماً سوداء أكثر. كانت عاصمة بعض الحكام المحليين، وكانت عاصمة إمبراطورية السلجوقيين (من أيام ملك شاه ١٠٤١ حتى أيام محمد شاه ١١١٧) ولكنها دفعت الثمن أيام فتح جنكيزخان وهولاكو.

ميدان التاريخ:

وعندما تقف في الميدان الكبير، ميدان شاه، قلب أصفهان، تشعر وكأنك مكان الشاه عباس، وفي الميدان نفسه الذي كانت تجري فيه ألعاب الفروسية والبطولة، وكان يشهد استعراض الأسرى أو تعذيب المتآمرين.

وفي أطراف الميدان، روائع الهندسة القديمة وعجائبها، فإذا التفت يميناً وقعت على أثر، وإذا التفت يساراً شمخت وأنت تتأمل مئذنة ترتفع أكثر من خمسين متراً في السماء.

١٦٧

وولد هذا الميدان مع مولد المدينة، وأروع ما قيل فيه تضمنته الشاهنامة التي نظمها الفردوسي في القرن الحادي عشر، ويبلغ طوله أكثر من نصف كيلو متر وعرضه مائة وستين متراً. وفي جنباته، بوابة السوق القديمة، ومسجد الشيخ لطف اللّه الذي أعيد ترميمه سنة ١٦١١ والمبنى المشهور باسم علي قابو، ومسجد شاه.

وفي شرفة مبنى علي قابو كان يجلس الشاه عباس الكبير وحوله ضيوفه لمشاهدة الألعاب الفروسية والرياضية والرقصات الشعبية الفارسية.

أجمل مسجد في العالم:

والحقيقة التي يعترف بها الجميع أن مسجد شاه هو أجمل مسجد في العالم، وتعتبر واجهته التي ترتفع ٤٨ متراً من أروع القطع الفنية، بألوانها الزاهية، وزخرفتها الأنيقة، وهندستها الرائعة وشكلها البديع. كما ترتفع فوقها مئذنتان إلى علو ٥٢ متراً.

وقد استغرق بناء هذا المسجد ١٨ سنة (من ١٦١٢ إلى ١٦٣٠) وجيء بالمرمر الذي استعمل في بنائه من أردستان التي تبعد مائة ميل عن أصفهان ولا يزال هذا المرمر يحتفظ بلمعانه حتى اليوم، وكأنه قطع من المرايا الصافية.

وفي المسجد ثلاث باحات للصلاة، وهناك باحة في الهواء الطلق، والباحات الثلاث الأخرى داخلية، وجميع الباحات حافلة بالنقوش البديعة، كما كتبت على الجدران الآيات القرآنية الكريمة.

والأعجوبة الهندسية في هذا المسجد تكمن تحت قبته العالية، إذ تقف تحتها فتصفق مرة واحدة، وإذا بالصدى يعيد الصوت سبع مرات.

والكثيرون يقفون تحت القبة ويصرخون «يا اللّه» فإذا بالصدى يكرر «يا اللّه سبع مرات».

أقرب مكان للإيمان:

١٦٨

أما مسجد الشيخ لطف اللّه(١) فإنه يستجلب النظر لسببين:

أولاً: لأنه مسجد بدون مئذنة.

وثانياً للون العاجي الزاهي الذي يكسو قبته، والنقوش البديعة من حوله، والخطوط الجميلة التي كتبت بها الآيات القرآنية، وقد بنى هذا الجامع الشاه عباس تكريماً للشيخ لطف اللّه، فحمل المسجد اسمه وكان هذا المسجد مخصصاً في البداية للنساء، ولكنه فيما بعد أصبح طابقين: طابق تحت الأرض للنساء وطابق فوق الأرض للرجال.

والشعور الذي ينتاب زائر مسجد الشيخ لطف اللّه هو الشعور الدافق بالإيمان، حتى أن أحد شعراء فارس قال:

«داخل مسجد الشيخ لطف اللّه شعرت بأني قريب جداً من اللّه».

وعلى الرغم من مرور ٣٥٠ سنة على بنائه فإن ألوانه وبناءه لا تزال الآن كما كانت في الماضي لم يطرأ عليها تبديل أو اهتراء، رغم حرارة الطقس في الصيف وسقوط الثلوج في الشتاء.

موسيقى في الطابق السابع:

وفي وسط ميدان شاه يقف مبنى علي قابو، المكان المفضل عند السلاطين الصفويين، وقد بناه الشاه عباس في القرن السادس عشر لينزل فيه ضيوفه من الأجانب، ثم جعله قصره يستقبل فيه السفراء والعظماء والزوار ويقيم فيه حريمه.

_____________________

(١) من علماء جبل عامل، هاجر من قرية ميس إلى خراسان في عهد الشاه عباس، فقربه ورفع من شأنه، وبنى له مدرسة وجامعاً، توفي سنة ١٠٣٣ هجري.

١٦٩

وقد زينت جدرانه بلوحات أنيقة جميلة، تعطي صورة صادقة عن فن الرسم الفارسي، ومعظمها يعكس فكرة الحب، وعندما جاء الحكم القاجاري قام بتغطية هذه الرسوم والنقوش. ولكن الحكم البهلوي أعاد النقوش إلى ما كانت عليه.

وهذا المبنى الذي يبدو من الخارج طابقين له ثلاثة مداخل، اثنان للنساء وواحد للرجال وسلمه يتألف من ١١٧ درجة، وهو في الواقع سبعة طوابق وأطراف وأغرب ما فيها الطابق السابع، الذي يبدو سقفه على هيئة آلات موسيقية مجوفة في الجدران والسقف.

وهذا الطابق كان طابق الانشراح والمرح عند الشاه عباس، وكان الموسيقيون يدخلون إلى غرفة خاصة في هذا الطابق ويعزفون الألحان التي يفضلها الشاه، ويخرجون بعد ذلك ويقفلون الباب وراءهم. وعندما يأتي الشاه عباس يفتح الباب ويجلس مع ندمائه ونسائه، فيعيد الصدى ما عزفه الموسيقيون، ويستمر الطرب والانشراح إلى أن يقفل الباب فتسكت الموسيقى.

ولا تزال هندسة غرفة الموسيقى سراً مغلقاً على الكثيرين، إذ كيف كانت تحتفظ هذه الغرفة بالأنغام ثم تعيدها ؟

مسجد عمره ألف سنة:

وفي أصفهان مسجد قديم قديم، يرجع عمره إلى ألف سنة هو مسجد جمعه. وهذا المسجد يضم عدة أقسام، بنى كل واحد منها فاتح أتاح له القدر فرصة الحكم في أصفهان. ويكاد يتميز كل قسم من هذا الجامع بالطابع الخاص الذي يملكه فنانو كل فتح، ويقول البعض إن هذا المسجد إنما هو في الواقع كتاب تاريخ. فلقد بني هذا المسجد سنة ٧٠٠ ميلادية، ويقال إنه بني في المكان نفسه الذي كان مصدر المياه الساخنة الأزلية. وقد أعيد ترميم هذا المسجد أيام حكم الخليفة العباسي المعتصم في النصف الأخير من القرن التاسع. ولحق به الدمار في العام ١٠٥٠ خلال حكم السلجوقيين وأعيد ترميمه في العام ١٠٥٧.

وترك الأتراك والعرب والمغوليون والفرس آثارهم في هذا المسجد، حتى أن هناك أثراً يعود إلى الأيام التي حكم فيها الأفغان مدينة أصفهان.

ولمسجد جمعه ثمانية أبواب، أجملها مدخل الجنوب الذي ترتفع فوقه مئذنتان وله واجهة آية في النقش الجميل والألوان الجذابة.

١٧٠

وعندما فتح المغول أصفهان أنشأوا قسماً خاصاً في المسجد كتبوا على محرابه صلاة خاصة محفورة في الخشب، كما جاؤوا بمنبر من الخشب حفر بكل إبداع، ولا يزال موجوداً حتى الآن ويعود تاريخه إلى القرن السادس عشر.

وفي مسجد جمعة جناحات مختلفة لتلقي دروس الدين، وللصلاة وفيه باحات كبيرة للصلاة.

ويوم الجمعة من كل اسبوع يغص مسجد جمعه بالمصلين، ويقدر عدد الذين يصلون فيه يوم الجمعة بأكثر من ثلاثين الف شخص.

مدرسة واعجوبة هندسية:

وهناك مكان له عدة اسماء: مدرسة جهارباخ، أو المدرسة، أو مسجد جهارباخ، أو المدرسة السلطانية. وهذا المكان آخر ما بناه الحكام الصفويون في أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر، وقد بنى المكان الشاه سلطان حسين الذي قتل في احدى غرف هذا البناء الذي يضم ١٣٤ غرفة. والذي أقيم في الأساس ليكون مدرسة لاهوتية يتخرج فيها علماء الدين، وقد انفق على بناء هذه المدرسة ومسجدها مبلغ طائل، وبنيت على أساس تحمل شتى طوارئ الطبيعة وتقلبات الجو، وجعل باب المدرسة من الفضة، وان كانت تحجب الفضة اليوم قطع خشبية.

وفي مسجد جهارباخ اعجوبة هندسية، ففي قبة المسجد فوهة يدخل منها النور في اتجاه معين منذ شروق الشمس حتى غيابها فلا يتغير. حتى ان هذه الفوهة لا يتسرب منها الماء إلى باحة المسجد اذا امطرت السماء.

وقد روى لي مرافقي خلال زيارتي لمسجد ومدرسة جهارباخ فقال:

لقد وضع الشاه سلطان حسين كل همه في بناء المسجد والمدرسة، ولم يكن يهمه من شؤون الدولة سوى انجاز هذا البناء والتفرغ لعبادة اللّه. وعندما بدأت الهجمات على إيران، كان يقول: ليأخذوا إيران وليتركوا لي أصفهان، وعندما بدأ الهجوم على أصفهان قال: ليأخذوا أصفهان وليتركوا لي هذه المدرسة والمسجد، وعندما هجموا على المدرسة لجأ إلى المسجد وقال: ليأخذوا المدرسة وليتركوا لي المسجد، ولكنه قتل في احدى غرف مدرسته، وحتى الآن لم تعرف الغرفة التي قتل فيها.

١٧١

قصر الاربعين عموداً:

والمكان العجيب الآخر هو «جهل ستون» أو قصر الأربعين عموداً، وليس في القصر سوى عشرين عموداً، أما الأعمدة العشرون الأخرى فتنعكس صورتها في بركة الماء الفسيحة التي تمتد امام الأعمدة العشرين بحيث ترى ظلها في أي زاوية تقف عندها من زوايا البركة.

وكان هذا المكان عندما أنشئ استراحة خاصة للشاه عباس، ثم جعله مجلس العرش.

أما اليوم فيستعمل دائرة للآثار ومتحفاً.

واغلى ما في المتحف وثيقة تعود إلى أيام الفتح الإسلامي الأولى، وقد وقفت أتأمل هذه الوثيقة أكثر من نصف ساعة.

إنها الوثيقة التي أرسلها الإمام علي بن أبي طالب إلى المسيحيين يؤمنهم فيها على حياتهم. ورأيت توقيع الإمام علي وبعضاً من خط يده.

وإلى جانب ذلك نسخ مخطوطة عديدة للقرآن الكريم، مع أنواع قديمة للعملة التي كانت تستعمل في سالف الزمان، ولوحات فنية رسمت منذ أكثر من ثمانمائة سنة تمثل الحروب والفتوحات.

يضاف إلى هذا الرسوم الأصلية التي وجدت في قصر الأربعين عموداً عند إنشائه، ومعظمها لوحات فنية للحسان والشباب والصيد والخمر.

المآذن الهزازة:

والاعجوبة التي لا تكاد تصدق في إيران هي «منارة جمجم»، وفيها مئذنتان، وعندما قال لي مرافقي ان هذه المآذن تهتز إذا هزها الانسان، ظننته يمزح.

وصعدت إلى المئذنة الأولى، وهززتها، فإذا بالمئذنة المقابلة تهتز أولاً، ثم تهتز المئذنة التي أقف فيها، ثم يهتز البناء كله.

وكدت لا أصدق ما جربت.

ثم صعد مرافقي إلى المئذنة وفعل ما فعلت، ورأيت اهتزاز المئذنتين والبناء. وسر هندسة هذا البناء الهزاز لا يزال مغلقاً حتى اليوم.

١٧٢

المياه الأزلية الساخنة:

ويتحدثون في أصفهان عن المياه الأزلية الساخنة فيقولون أن أصفهان كانت تنعم بالمياه الساخنة دائماً، ولم يستطع أحد أن يعرف سر هذه المياه الساخنة ومن أين تأتي وما الذي يسخنها.

حتى جاءت بعثة من العلماء الإنكليز فاستغربت مصدر المياه الساخنة وأخذت تبحث عنه، حتى وصلت إلى مكان وجدت فيه خزاناً كبيراً يصب فيه الماء، وقد حفر في الصخر، ووضعت تحته شمعة سوداء صغيرة مضاءة، طولها بضعة سنتمترات.

وأطفأ العلماء الإنكليز الشمعة وأخذوها إلى بلادهم ليحللوها، ولكنهم لم يستطيعوا إعادة إشعالها، كما أنهم لم يستطيعوا معرفة المادة التي تتألف منها.

ولا تزال قصة هذه المياه الساخنة لغزاً من الألغاز في تاريخ أصفهان(١) .

جسور قديمة.

وفي أصفهان بعد ذلك جسور قديمة ترجع إلى مئات السنين، وكلها رائعة الهندسة جميلة المنظر، وبعض الجسور أقيمت لتكون معبراً ولتكون استراحات للناس، وتضمنت هذه الجسور غرفاً يجلس فيها المتنزهون أو يقضون سحابة نهارهم، يجري الماء من تحتهم وهم يطالعون أو يمرحون.

وفي أصفهان أماكن أثرية عديدة، معظمها يرتدي الطابع الديني.

وعندما نقول الطابع الديني فلا نقصد بذلك الطابع الإسلامي وحده، إذ

_____________________

(١) إن هذه الشمعة، والمئذنة وغيرها من الأعاجيب في أصفهان التي كانت في عهد الشاه عباس هي من فكر الشيخ البهائي العاملي وعمله، فقد اهتدى إلى تحطيم الذرة واستخدمها في كثير من الاختراعات، قبل أن يهتدي إليها علماء هذا العصر.

١٧٣

أن في أصفهان عدداً كبيراً من الكنائس والمجامع لطوائف عديدة، وقد يستغرب البعض أن توجد حتى اليوم في أصفهان طائفة زارادشتية تعيش في مجتمعات صغيرة، ومركزها الرئيسي في نجف آباد وأرداستان.

طابع أصفهان الجديد:

وإلى جانب طابع أصفهان القديم هناك طابعها الجديد كمدينة صناعية، مشهورة بصناعة النسيج، وبشكل خاص السجاد الفاخر، والنقوش الفضية، وصناعة الدقة في تزيين الأواني الخزفية والزجاجية والخشبية.

وعلى الرغم من أن البناء الجديد أخذ يشق طريقه إلى أصفهان، إلا أن الكثيرين من الأثرياء لا يزالون يتبرعون لإقامة مزارات للأولياء يصرون على أن يكون بناؤها مطابقاً للبناء القديم. وأبرز بناء حديث على الطراز القديم، جامع السيدة زينب الذي بني منذ خمسة وعشرين عاماً.

والظاهرة الكبرى في أصفهان هي الدراجات.

إن الطلاب والعمال والموظفين والتجار كلهم يملكون الدراجات ويعتمدون عليها كوسيلة للتنقل، ويندر أن تجد في أصفهان شخصاً لا يملك دراجة.

السوق القديمة:

ولا تكتمل زيارة أصفهان، إذا لم يقم الزائر بجولة في السوق القديمة.

وتستطيع أن تشم رائحة التاريخ وأنت تجتاز السوق القديمة ماراً بدكاكين تبيع كل المنوعات من الزيت إلى السجاد إلى الخشب المنقوش والفضة المزخرفة والقماش المطبوع (كالأمكار) إلى الأشياء الصغيرة التي يحملها الإنسان معه تذكاراً لزيارته.

ومن خلال السوق القديمة تشاهد بنايات أثرية قديمة: سراي ساروتاغي، سراي غولشان، سراي مقصد باغ، سراي مخلص، سراي تالار، ومسجد جرشي ومسجد ذو الفقار.

وفي طريق العودة، لا بد لك من أن تحمل معك أطيب ما في أصفهان:

من السماء الذي امتازت به هذه المدينة. مدينة العجائب. مدينة المساجد.

١٧٤

عَدَد الشيعَة وَبُلدانهُم

الغرض:

ليس الغرض من هذا الفصل أن نثبت أفضلية الشيعة، أو فضلهم بكثرة عددهم، وانتشارهم في البلدان، وأكثريتهم في بعضها. لأن الكثرة لا تكشف عن الحق، والقلة لا تدل على الضلال، وقديماً قيل «إن الكرام قليل» وقال أمير المؤمنين الذي يدور الحق معه كيفما دار: «لا تزيدني كثرة الناس حولي عزة، ولا تفرقهم عني وحشة». ولو كانت الكثرة تغني عن الحق شيئاً لكانت الطوائف غير الإسلامية أفضل ديناً، وأصح عقيدة من المسلمين، وإنما الغرض الأول أن نثبت أن الشيعة كسائر الفرق والطوائف التي لها كيانها وتأثيرها بغض النظر عن أن عقيدتها صحيحة أو زائفة. وأن الذين يتجاهلون وجودها، وينظرون إليها كفئة قليلة يمكن استئصالها، كالحفناوي ومحب الدين الخطيب، ان هؤلاء بعيدون عن الواقع كل البعد، ولا يعبّرون إلا عن رغباتهم وأحلامهم. إن القضاء على الشيعة لن يكون إلا بالقضاء على جميع المسلمين، ولن يكون ذلك، حتى لا يبقى على وجه الأرض ديار.

الدين والدولة:

كانت الدول فيما مضى - شرقية كانت أم غربية - تقوم على أساس الدين، فتخول لنفسها حق التدخل في شؤون الإنسان الداخلية والخارجية، لأنها نائبة عن اللّه. ومن هنا كانت تعامل الناس على أساس أديانهم ومعتقداتهم، لا على المؤهلات العلمية والخلقية، فتحابي أبناء دينها، وتضطهد الآخرين، او تتجاهل وجودهم كرعايا ومواطنين. ومحال أن تسير مثل هذه الدول على سبيل العدل والمساواة، ويكون لها مبادئ عامة تطبقها على الجميع دون امتيازات واختصاصات إلا إذا انسلخت كلية عن الدين، أو كان من دينها عدم الفرق والتفاوت بين الأديان. وحينئذ لا تكون دينية بالمعنى المألوف المعروف بين الناس.

بل رأينا رؤساء الدول في هذا العصر يحابون أبناء ملتهم، ويرفعونهم فوق الناس والأجناس، وفي الوقت نفسه يدعون بأنهم حكام زمنيون، لا تمت دولاتهم وحكوماتهم بسبب إلى مذهب أو دين. رأينا كيف قامت قيامة الدول المسيحية في أميركا وأوربا، حين قتل مسيحي في أقصى الأرض أو أدناها، حتى ولو كان القتل لسبب مشروع. وكيف حشدت تلك الدول صحفها وإذاعاتها بالاحتجاج والضجيج. وكيف تجاهلت مذبحة العرب في فلسطين على أيدي اليهود، والدماء التي

١٧٥

أجرتها فرنسا أنهراً في الجزائر. إن مجرد وصف الدولة، أية دولة بأنها دينية معناه التحيز، وعدم التحرر، وتفضيل بعض الأديان على بعض حتى ولو لم تقم على أساس الدين، وينص دستورها على أنها دينية. أجل، قد تكون بعض الدول أكثر تسامحاً من غيرها، ولكنها لا تتخلى كلية عن المحاباة، فالامتياز موجود في الحالين، وعند الدولتين، وإن اختلف في الشدة والضعف.

عدد الشيعة:

ومن هنا كان التفاوت في عدد الشيعة والسنة قلة وكثرة حسب الدول القائمة الحاكمة ديناً ومذهباً، ففي عهد الأمويين والعباسيين كان السنة أكثر عدداً من الشيعة، وفي عهد البويهيين والفاطميين كانت الكثرة في جانب الشيعة، وفي عهد السلجوقيين والأيوبيين والعثمانيين ازداد عدد السنة، حتى أصبحوا على تعاقب الأجيال والقرون أضعاف عدد الشيعة، قال السيد محسن الأمين في الجزء الأول من أعيان الشيعة:

«ما زال التشيع يفشو ويقل، ويظهر ويختفي، ويوجد ويعدم في بلاد الإسلام على التناوب، وغيره بحسب تعاقب الدول الغاشمة وغيرها، وتشددها وتساهلها، حتى أصبح عدد الشيعة اليوم في انحاء المعمورة يناهز الخمسة والسبعين مليوناً(١) منها نحو اثنين وثلاثين مليوناً في الهند، ونحو خمسة عشر مليوناً في إيران،

_____________________

(١) قال الأستاذ حسن الأمين ابن المؤلف معلقاً على قول أبيه: كان هذا يوم تأليف الكتاب، أي منذ أكثر من ثلاثين سنة، والعدد اليوم أكثر من ذلك بكثير.

١٧٦

ونحو عشرة ملايين في روسيا وتركستان، ونحو خمسة ملايين في اليمن، ونحو مليونين ونصف في العراق، ونحو مليون ونصف في بخارى والأفغان، ونحو مليون في سوريا ومصر والحجاز، ونحو سبعة ملايين في الصين والتبت والصومال وجاوى، ونحو مليون في البانيا وتركيا، ومرادنا بشيعة الهند وسوريا خصوص الإمامية غير الإسماعيلية الآغاخانية، وبشيعة اليمن ما يعم الزيدية والاثني عشرية، وبشيعة الألبان غير البكتاشية».

وغريب حقاً أن يكون للشيعة هذا العدد بعد أن ظلوا هدفاً لاضطهاد الحكومات مئات السنين، وتعرضوا لموجات من تعصب إخوانهم السنة في كثير من البلدان والأزمان، وقد وضعنا كتاباً خاصاً «الشيعة والحاكمون» في معاملة الحكام للشيعة، ونذكر هنا مثلاً واحداً مما جاء في كتب السير والتاريخ(١) لتعصب السنة ضد الشيعة:

نقل ياقوت في معجمه أنه في سنة ٦١٧ هجري مرّ على مدينة الري فوجد أكثرها خراباً، ولما سأل بعض عقلائها عن السبب أجاب بأنه كان في المدينة ثلاث طوائف: شيعة وأحناف وشافعية، فتظاهر الأحناف والشافعية على الشيعة، وتطاولت بينهم الحروب، حتى لم يتركوا من الشيعة إلا من نجا بنفسه. ثم وقعت الحرب بين الأحناف والشافعية. فتغلب هؤلاء على أولئك. وهذا الخراب هو في ديار الشيعة والأحناف فقط.

وتدلنا هذه الحادثة على أن التعصب كان بين مذاهب السنة ضد بعضها البعض تماماً، كما كان بين السنة والشيعة، ولكن الجميع يد واحدة على العدو المشترك.

من بلدان الشيعة:

ليس لدي من المصادر لبلدان الشيعة سوى كتاب الأعيان للسيد الأمين، وتاريخ الشيعة للشيخ المظفر، وهما - كما رأيتُ - غير كافيين، ولذا جعلت العنوان «من بلدان الشيعة»:

_____________________

(١) انظر المجلد الثامن من المنتظم لابن الجوزي. وحوادث سنة ٤٠١ و٤٠٦ و٤٠٨ و٤٤٣ و٤٤٤ من الكامل لابن الأثير.

١٧٧

العراق:

قال الشيخ المظفر: إن جنوب العراق شيعة، ولئن وجد الخليط في بعض بلاده فلا يكون إلا أفراداً قلائل، ويشمل الجنوب الكوت، والعمارة، والغراف، وما سواها من بلاد دجلة، وأيضاً يشمل السماوة والديوانية والناصرية، وما سواها من بلاد الفرات.

أما البلاد الشمالية فسكانها على العموم من أهل السنة إلا أن الشيعة فيها ليسوا بالقليل.

أما البلاد الوسطى كالحلة فهي شيعة خالصة سوى أفراد معدودين في نفس القصبة، ولواء بغداد أكثريته من الشيعة، ومثله لواء ديالى، بعكس لواء الديلم، ومع هذا فالشيعة فيه غير قليل، وعليه فالعراق اليوم سبعة من ألويته شيعة، وفيها شعوب من غيرهم، وخمسة سنة، وفيها خليط من الشيعة، ولواءان مختلطان يغلب عليهما التشيع، هذا ما يعرفه المستقرئ لبلاد العراق(١) .

إيران:

وهي أسبق البلاد الإسلامية - غير العربية - إلى التشيع، فقد دخلها المذهب في عصر الحجاج سنة ٨٣ هجري كما قدمنا، وعملت على نشره وإعزازه بشتى الوسائل، وشيدت حضرات الأئمة وطلت قبابها بالذهب الإبريز، وملأت خزائنها بالثمين والنفيس من المعادن والجواهر.

الأفغان:

وكانت جزءاً من مملكة إيران في عهد الصفويين، وهي الآن من البلدان المستقلة المحايدة، قال السيد الأمين في الأعيان:

«انتشر التشيع في الأفغان في عهد الملوك الصفوية، وعينوا مدرسين ومشايخ إسلام في مدنها الهامة، مثل هرات وكابل وقندهار وغيرها، وكان الشيخ حسين

_____________________

(١) المؤلف الشيخ محمد الحسين المظفر من علماء النجف، وهو أعرف بهذه الإحصاءات من غيره، وقد ألف كتابه تاريخ الشيعة سنة ١٣٥٢ هجري، وعلى هذا يكون عدد الشيعة في العراق أكثر بكثير مما قاله السيد الأمين في أعيانه.

١٧٨

ابن عبد الصمد العاملي والد الشيخ البهائي معيناً شيخ الإسلام في هرات، والآن لا يخلو بلد من بلاد الأفغان من الشيعة، ولكن عددهم غير معلوم على التحقيق إلا أن فيهم كثرة لا يستهان بها تقدر بنحو ٤٠٠ ألف. وفيهم جماعة من أهل العلم يتعلمون في مدرسة النجف الأشرف».

أذربيجان:

ومن مدنها تبريز وخوي وسلماس وأرمية وأردبيل ومرثد، وفي كتاب مراصد الإطلاع أن فيها قلاعاً كثيرة، وخيرات واسعة، قال صاحب الأعيان:

وأهلها اليوم كلهم شيعة ما عدا بعض أهل أرمية، والظاهر أن تشيعهم من عهد الصفويين، وهي داخلة اليوم في مملكة إيران.

الآستانة:

كانت عاصمة العثمانيين الذين انقرض سلطانهم بعد الحرب العالمية الأولى، قال السيد الأمين: فيها عدد كثير من الشيعة هاجروا إليها من إيران، ومن ترك أذربيجان، وهم أهل تجارة وكد وعمل وثروة وتمسك بالدين، يقيمون العزاء لسيد الشهداء، ولا سيما في عشر المحرم، ويعملون الشبيه، ثم يخرجون في الشوارع، وكانت الدولة العثمانية تمنحهم الحرية التامة، وتحافظ عليهم، أما اليوم فيقتصرون على إقامة العزاء فقط.

البحرين والأحساء والقطيف وقطر:

إن تشيع أهل البحرين وقصباتها مثل القطيف والأحساء شائع منذ عهد الصحابة، والسر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث والياً عليها إبان بن سعيد بن العاص الأموي، وكان إبان من الموالين لعلي والمتخلفين عن بيعة أبي بكر، ثم صار عاملاً عليها عمر بن أبي سلمة، وأمه أم سلمة، زوجة رسول اللّه، وفي عهد أمير المؤمنين ولى عليها معبد بن العباس بن عبد المطلب، فغرس هؤلاء الولاة التشيع في أهل البحرين، وأول جمعة أقيمت في الإسلام بعد المدينة كانت في البحرين (أعيان الشيعة ج ١).

وقال الشيخ المظفر في «تاريخ الشيعة»: «حاول عبد الملك أن يحمل أهل البحرين على مفارقة التشيع فأبوا، وأراد أن يستعمل القوة فخاف بأسهم، فصالحهم على نزع السلاح، وأن يرفع عنهم الخراج لقاء ذلك، وداموا على التشيع لا يخشون سلطة حاكم، ولا يرهبون من التصريح به سطوة ظالم، وكان فيها كثير من العلماء والأفاضل والشعراء.

١٧٩

أما القطيف فهي شيعة خالصة، وأما الأحساء فالشيعة يشاطرون غيرهم، كما أن في قطر كثير من الشيعة(١) ولا يزال من هذه البلاد في النجف الأشرف مهاجرون، لتحصيل علم أهل البيت (ع)، وفيها اليوم جماعة من أهل الفضل، وكانت هذه البلاد ممتحنة بسلطة آل عثمان، ولما انتزعها منهم ابن سعود كانت محنتهم أشد».

ومن الخير أن نذكر بهذه المناسبة أن المرحوم السيد محسن الأمين العاملي ألف كتاباً قيماً على أثر هدم السعوديين قبور أئمة البقيع، أسماه «كشف الارتياب» استقصى فيه تاريخ الوهابيين منذ نشأتهم، حتى يومه رحمة اللّه عليه.

جبل عامل:

ويسمى جبل الجليل، وجبل الخليل، وأهله أقدم الناس في التشيع لم يسبقهم إليه إلا بعض أهل المدينة. ومن نظر إلى هذا الجبل وتاريخه نظرة تأمل وإمعان أخذته الدهشة لنشاط أهله وجهادهم في سبيل العلم والدين والحياة منذ القديم، حتى اليوم على الرغم من فقرهم، وقلة عددهم، وما توالى عليهم من الظلم والاضطهاد. رحلوا إلى إيران والعراق ومصر والشام لطلب العلم، وهاجروا إلى جميع القارات وأقصاها طلباً للعيش. ويحمل الآن المئات من شبابهم الشهادات العالية، ويتولون أعلى المناصب في الدولة، مع العلم بأن بعضهم ابن حمال، وآخر ابن ماسح أحذية، أو ابن كناس إلخ.. وليس لدي أي تعليل مقنع لذلك، وما زلت أتساءل: هل هي التربة، أو شملتهم دعوة صالحة، أو عناية من لدن حكيم خبير ؟ ومهما يكن، فإني أدع الحديث هنا للشيخ المظفر في

_____________________

(١) ترد علي بين الحين والحين رسائل من قطر يطلب أصحابها نسخاً عديدة من كل كتاب من مؤلفاتي وغيرها من كتب الشيعة، فأرسلها لهم بدون تأخير، لوفائهم وحسن معاملاتهم.

١٨٠

قوله تعالى: ( حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ ) قيد للتكذيب، و فسّروا اليقين بالموت لكونه ممّا لا شكّ فيه فالمعنى و كنّا في الدنيا نكذّب بيوم الجزاء حتّى أتانا الموت فانقطعت به الحياة الدنيا أي كنّا نكذّب به ما دامت الحياة.

و قيل: المراد به اليقين الحاصل بحقّيّة يوم الجزاء بمشاهدة آيات الآخرة و معاينة الحياة البرزخيّة حين الموت و بعده، و هو معنى حسن.

قوله تعالى: ( فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ ) تقدّم في بحث الشفاعة أنّ في الآية دلالة على أنّ هناك شافعين يشفعون فيشفّعون لكن لا تنفع هؤلاء شفاعتهم لأنّهم محرومون من نيلها.

و قد أوردنا جملة من أخبار الشفاعة في الجزء الأوّل من الكتاب.

١٨١

( سورة المدّثّر الآيات 49 - 56)

فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ( 49 ) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ ( 50 ) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ( 51 ) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفًا مُّنَشَّرَةً ( 52 ) كَلَّا بَل لَّا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ ( 53 ) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ( 54 ) فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ ( 55 ) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَىٰ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ( 56 )

( بيان‏)

في معنى الاستنتاج ممّا تقدّم من الوعيد و الوعد اُورد في صورة التعجّب من إعراضهم عن تذكرة القرآن و تنفّرهم عن الحقّ الصريح كأنّه قيل: فإذا كان كذلك فعليهم أن يجيبوا دعوة الحقّ و يتذكّروا بالتذكرة فمن العجب أنهم معرضون عن ذلك كلّا بل لا يؤمنون بالرسالة و يريد كلّ امرئ منهم أن ينزل عليه كتاب من الله. كلّا بل لا يخافون الآخرة فلا يرتدعون عن وعيد.

ثمّ يعرض عليهم التذكرة عرضاً فهم على خيرة من القبول و الردّ فإن شاؤا قبلوا و إن شاؤا ردّوا، لكن عليهم أن يعلموا أنّهم غير مستقلّين في مشيّتهم و ليسوا بمعجزين لله سبحانه فليس لهم أن يذكروا إلّا أن يشاء الله، و حكم القدر جار فيهم البتّة.

قوله تعالى: ( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) تفريع على ما تقدّم من التذكرة و الموعظة، و الاستفهام للتعجيب، و( لَهُمْ ) متعلّق بمحذوف و التقدير فما كان لهم: و( مُعْرِضِينَ ) حال من ضمير( لَهُمْ ) و( عَنِ التَّذْكِرَةِ ) متعلّق بمعرضين.

١٨٢

و المعنى: فإذا كان كذلك فأيّ شي‏ء كان - عرض - للمشركين الّذين يكذّبون بتذكرة القرآن حال كونهم معرضين عنها أي كان من الواجب عليهم أن يصدّقوا و يؤمنوا لكنّهم أعرضوا عنها و هو من العجب.

قوله تعالى: ( كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ) تشبيه لهم من حيث حالهم في الإعراض عن التذكرة، و الحمر جمع حمار، و المراد الحمر الوحشيّة و الاستنفار بمعنى النفرة و القسورة الأسد و الصائد، و قد فسّر بكلّ من المعنيين.

و المعنى: معرضين عن التذكرة كأنّهم حمر وحشيّة نفرت من أسد أو من الصائد.

قوله تعالى: ( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) المراد بالصحف المنشّرة الكتاب السماويّ المشتمل على الدعوة الحقّة.

و في الكلام إضراب عمّا ذكر من إعراضهم، و المعنى ليس إعراضهم عن التذكرة لمجرّد النفرة بل يريد كلّ امرئ منهم أن ينزّل عليه كتاب من عند الله مشتمل على ما تشتمل عليه دعوة القرآن.

و هذه النسبة إليهم كناية عن استكبارهم على الله سبحانه أنّهم إنّما يقبلون دعوته و لا يردّونها لو دعا كلّ واحد منهم بإنزال كتاب سماويّ إليه مستقلّاً و أمّا الدعوة من طريق الرّسالة فليسوا يستجيبونها و إن كانت حقّة مؤيّدة بالآيات البيّنة.

فالآية في معنى ما حكاه الله سبحانه من قولهم:( لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى‏ مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) الأنعام: 124، و في معنى قول الاُمم لرسلهم:( إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ) على ما قرّرنا من حجّتهم على نفي رسالة الرسل.

و قيل: إنّ الآية في معنى قولهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي حكاه الله في قوله:( وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) إسراء: 93.

و يدفعه أنّ مدلول الآية أن ينزل على كلّ واحد منهم صحف منشّرة غير ما ينزل على غيره لا نزول كتاب واحد من السماء على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرؤه الجميع كما هو مدلول آية الإسراء.

١٨٣

و قيل: المراد نزول كتب من السماء عليهم بأسمائهم أن آمنوا بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و قيل: المراد أن ينزل عليهم كتب من السماء بالبراءة من العذاب و إسباغ النعمة حتّى يؤمنوا و إلّا بقوا على كفرهم و قيل غير ذلك.

و هي جميعاً معان بعيدة من السياق و التعويل على ما تقدّم.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ ) ردع لهم بما يريدونه من نزول كتاب سماويّ على كلّ واحد منهم فإنّ دعوة الرسالة مؤيّدة بآيات بيّنة و حجج قاطعة لا تدع ريباً لمرتاب فالحجّة تامّة قائمة على الرسول و غيره على حدّ سواء من غير حاجة إلى أن يؤتى كلّ واحد من الناس المدعوّين صحفاً منشّرة.

على أنّ الرسالة تحتاج من طهارة الذات و صلاحيّة النفس إلى ما يفقده نفوس سائر الناس كما هو مدلول جوابه تعالى في سورة الأنعام عن قولهم:( لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى‏ مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) بقوله:( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) .

و قوله:( بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ ) إضراب عن قوله:( يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ) إلخ، و المراد أنّ اقتراحهم نزول كتاب على كلّ امرئ منهم قول ظاهريّ منهم يريدون به صرف الدعوة عن أنفسهم، و السبب الحقيقيّ لكفرهم و تكذيبهم بالدعوة أنّهم لا يخافون الآخرة، و لو خافوها لآمنوا و لم يقترحوا آية بعد قيام الحجّة بظهور الآيات البيّنات.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ) ردع ثان لاقتراحهم نزول كتاب سماويّ لكلّ امرئ منهم، و المعنى لا ننزل كتاباً كذلك إنّ القرآن تذكرة و موعظة نعظهم به لا نريد به أزيد من ذلك، و أثر ذلك ما أعدّ للمطيع و العاصي عندنا من الجزاء.

قوله تعالى: ( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) أي فمن شاء اتّعظ به فإنّما هي دعوة في ظرف الاختيار من غير إكراه.

قوله تعالى: ( وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) دفع لما يمكن أن يتوهّموه من قوله تعالى:( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) أنّ الأمر إليهم و أنّهم

١٨٤

مستقلّون في إرادتهم و ما يترتّب عليها من أفعالهم فإن لم يشاؤا الذكر و لم يذكروا غلبوه تعالى فيما أراد و أعجزوه فيما شاء من ذكرهم.

و المحصّل من الدفع أنّ حكم القدر جاء في أفعالهم كغيرها من الحوادث، و تذكّرهم إن تذكّروا و إن كان فعلاً اختياريّاً صادراً عنهم باختيارهم من غير إكراه فالمشيّة الإلهيّة متعلّقة به بما هو اختياريّ بمعنى أنّ الله تعالى يريد بإرادة تكوينيّة أن يفعل الإنسان الفعل الفلانيّ بإرادته و اختياره فالفعل اختياريّ ممكن بالنسبة إلى الإنسان و هو بعينه متعلّق الإرادة الإلهيّة ضروريّ التحقّق بالنسبة إليها و لولاها لم يتحقّق.

و قوله:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) أي أهل لأن يتّقى منه لأنّ له الولاية المطلقة على كلّ شي‏ء، و بيده سعادة الإنسان و شقاوته، و أهل لأن يغفر لمن اتّقاه لأنّه غفور رحيم.

و الجملة أعني قوله:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) صالحة لتعليل ما تقدّم من الدعوة في قوله:( إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) و هو ظاهر، و لتعليل قوله:( وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) فإنّ كونه تعالى أهل التقوى و أهل المغفرة لا يتمّ إلّا بكونه ذا إرادة نافذة فيهم سارية في أعمالهم فليسوا بمخلّين و ما يهوونه و هم معجزون لله بتمرّدهم و استكبارهم.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله تعالى:( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) و ذلك أنّهم قالوا: يا محمّد قد بلغنا أنّ الرجل من بني إسرائيل كان يذنب الذنب فيصبح و ذنبه مكتوب عند رأسه و كفّارته.

فنزل جبرئيل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قال: يسألك قومك سنّة بني إسرائيل

١٨٥

في الذنوب فإن شاؤا فعلنا ذلك بهم و أخذناهم بما كنّا نأخذ بني إسرائيل فزعموا أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كره ذلك لقومه.

أقول: و القصّة لا تلائم لحن الآية و الرواية لا تخلو من إيماء إلى ضعف القصّة.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن السدّيّ عن أبي صالح قال: قالوا: إن كان محمّد صادقاً فليصبح تحت رأس كلّ رجل منّا صحيفة فيها براءته و أمنته من النار فنزلت:( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) .

أقول: سياق الآيات و ما فيها من الردع لا يلائم القصّة.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن مجاهد( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) قال: إلى فلان بن فلان من ربّ العالمين يصبح عند رأس كلّ رجل صحيفة موضوعة يقرؤها.

أقول: ما في الرواية يقبل الانطباق على الرواية السابقة و على ما قدّمناه من معنى الآية.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن قتادة في قوله تعالى:( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) قال: قد قال قائلون من الناس لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن سرّك أن نتابعك فأتنا بكتاب خاصّة يأمرنا باتّباعك.

أقول: الرواية قابلة التطبيق لما في تفسير الآية من القول بأنّ الآية في معنى قوله تعالى:( وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ ) الآية و قد تقدّم ما فيه.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) قال: هو أهل أن يتّقى و أهل أن يغفر.

و في التوحيد، بإسناده إلى أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) قال: قال الله عزّوجلّ: أنا أهل أن اُتّقى و لا يشرك بي عبدي شيئاً و أنا أهل إن لم يشرك بي عبدي شيئاً أن اُدخله الجنّة.

١٨٦

و قال: إنّ الله تبارك و تعالى أقسم بعزّته و جلاله أن لا يعذّب أهل توحيده بالنار.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن عبدالله بن دينار قال: سمعت أباهريرة و ابن عمر و ابن عبّاس يقولون: سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قول الله:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) قال: يقول الله: أنا أهل أن اُتّقى فلا يُجعل معي شريك فإذا اتّقيت و لم يجعل معي شريك فأنا أهل أن أغفر ما سوى ذلك.

أقول: و في معناه غير واحد من الروايات عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٨٧

( سورة القيامة مكّيّة و هي أربعون آية)

( سورة القيامة الآيات 1 - 15)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ( 1 ) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ( 2 ) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ( 3 ) بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ( 4 ) بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ( 5 ) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ( 6 ) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ( 7 ) وَخَسَفَ الْقَمَرُ ( 8 ) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ( 9 ) يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ( 10 ) كَلَّا لَا وَزَرَ ( 11 ) إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ( 12 ) يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ( 13 ) بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ( 14 ) وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ ( 15 )

( بيان‏)

يطوف بيان السورة حول القيامة الكبرى فتنبئ بوقوع يوم القيامة أوّلاً ثمّ تصفه ببعض أشراطه تارة، و بإجمال ما يجري على الإنسان اُخرى، و ينبئ أنّ المساق إليه يبدأ من يوم الموت، و تختتم بالاحتجاج على القدرة على الإعادة بالقدرة على الابتداء.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ ) إقسام بيوم القيامة سواء قيل بكون( لا أُقْسِمُ ) كلمة قسم أو بكون لا زائدة أو نافية على اختلاف الأقوال.

قوله تعالى: ( وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) إقسام ثان على ما يقتضيه السياق و مشاكلة اللفظ فلا يعبأ بما قيل: أنّه نفي الأقسام و ليس بقسم، و المراد اُقسم بيوم

١٨٨

القيامة و لا اُقسم بالنفس اللوّامة.

و المراد بالنفس اللوّامة نفس المؤمن الّتي تلومه في الدنيا على المعصية و التثاقل في الطاعة و تنفعه يوم القيامة.

و قيل: المراد به النفس الإنسانيّة أعمّ من المؤمنة الصالحة و الكافرة الفاجرة فإنّها تلوم الإنسان يوم القيامة أمّا الكافرة فإنّها تلومه على كفره و فجوره، و أمّا المؤمنة فإنّها تلومه على قلّة الطاعة و عدم الاستكثار من الخير.

و قيل. المراد نفس الكافر الّتي تلومه يوم القيامة على ما قدّمت من كفر و معصية قال تعالى:( وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ) يونس: 54.

و لكلّ من الأقوال وجه.

و جواب القسم محذوف يدلّ عليه الآيات التالية، و التقدير ليبعثنّ، و إنّما حذف للدلالة على تفخيم اليوم و عظمة أمره قال تعالى:( ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ) الأعراف: 187 و قال:( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى‏ كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) طه: 15 و قال:( عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ) النبأ: 1.

قوله تعالى: ( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ) الحسبان الظنّ، و جمع العظام كناية عن الإحياء بعد الموت، و الاستفهام للتوبيخ، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( بَلى‏ قادِرِينَ عَلى‏ أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ ) أي بلى نجمعها( و قادِرِينَ ) حال من فاعل مدخول بلى المقدّر، و البنان أطراف الأصابع و قيل: الأصابع و تسوية البنان تصويرها على ما هي عليها من الصور، و المعنى بلى نجمعها و الحال أنّا قادرون على أن نصوّر بنانه على صورها الّتي هي عليها بحسب خلقنا الأوّل.

و تخصيص البنان بالذكر - لعلّه - للإشارة إلى عجيب خلقها بما لها من الصور و خصوصيّات التركيب و العدد تترتّب عليها فوائد جمّة لا تكاد تحصى من أنواع القبض و البسط و الأخذ و الردّ و سائر الحركات اللطيفة و الأعمال الدقيقة و الصنائع الظريفة الّتي يمتاز بها الإنسان من سائر الحيوان مضافاً إلى ما عليها من الهيئات و الخطوط الّتي لا يزال ينكشف للإنسان منها سرّ بعد سرّ.

١٨٩

و قيل: المراد بتسوية البنان جعل أصابع اليدين و الرجلين مستوية شيئاً واحداً من غير تفريق كخفّ البعير و حافر الحمار، و المعنى قادرين على أن نجعلها شيئاً واحداً فلا يقدر الإنسان حينئذ على ما يقدر عليه مع تعدّد الأصابع من فنون الأعمال، و الوجه المتقدّم أرجح.

قوله تعالى: ( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) قال الراغب: الفجر شقّ الشي‏ء شقّاً واسعاً. قال: و الفجور شقّ ستر الديانة يقال: فجر فجوراً فهو فاجر و جمعه فجّار و فجرة. انتهى، و أمام ظرف مكان أستعير لمستقبل الزمان، و المراد من فجوره أمامه فجوره مدى عمره و ما دام حيّاً، و ضمير( أَمامَهُ ) للإنسان.

و قوله:( لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) تعليل سادّ مسدّ معلّله و هو التكذيب بالبعث و الإحياء بعد الموت، و( بَلْ ) إضراب عن حسبانه عدم البعث و الإحياء بعد الموت.

و المعنى: أنّه لا يحسب أن لن نجمع عظامه بل يريد أن يكذّب بالبعث ليفجر مدى عمره إذ لا موجب للإيمان و التقوى لو لم يكن هناك بعث للحساب و الجزاء.

هذا ما يعطيه السياق في معنى الآية، و لهم وجوه اُخر ذكروها في معنى الآية بعيدة لا تلائم السياق أغمضنا عن ذكرها.

و ذكر الإنسان في الآية من وضع الظاهر موضع الضمير و النكتة فيه زيادة التوبيخ و المبالغة في التقريع، و قد كرّر ذلك في الآية و ما يتلوها من الآيات أربع مرّات.

قوله تعالى: ( يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ ) الظاهر أنّه بيان لقوله:( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) فيفيد التعليل و أنّ السائل في مقام التكذيب و السؤال سؤال تكذيب إذ من الواجب على من دعي إلى الإيمان و التقوى، و اُنذر بهذا النبإ العظيم مع دلالة الآيات البيّنة و قيام الحجج القاطعة أن يتّخذ حذره و يتجهّز بالإيمان و التقوى و يتهيّأ للقاء اليوم قريباً كان أو بعيداً فكلّ ما هو آت قريب لا أن يسأل متى تقوم الساعة؟ و أيّان يوم القيامة؟ فليس إلّا سؤال مكذّب مستهزئ.

قوله تعالى: ( فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَ خَسَفَ الْقَمَرُ وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ ) ذكر

١٩٠

جملة من أشراط الساعة، و بريق البصر تحيّره في إبصاره و دهشته، و خسوف القمر زوال نوره.

قوله تعالى: ( يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ) أي أين موضع الفرار، و قوله:( أَيْنَ الْمَفَرُّ ) مع ظهور السلطنة الإلهيّة له و علمه بأن لا مفرّ و لا فرار يومئذ من باب ظهور ملكاته يومئذ فقد كان في الدنيا يسأل عن المفرّ إذا وقع في شدّة أو هدّدته مهلكة و ذلك كإنكارهم الشرك يومئذ و حلفهم كذباً قال تعالى:( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَ اللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) الأنعام: 23، و قال:( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) المجادلة: 18.

قوله تعالى: ( كَلَّا لا وَزَرَ ) ردع عن طلبهم المفرّ، و الوزر الملجأ من جبل أو حصن أو غيرهما، و هو من كلامه تعالى لا من تمام كلام الإنسان.

قوله تعالى: ( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ) الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و تقديم( إِلى‏ رَبِّكَ‏ ) و هو متعلّق بقوله:( الْمُسْتَقَرُّ ) يفيد الحصر فلا مستقرّ إلى غيره فلا وزر و لا ملجأ يلتجأ إليه فيمنع عنه.

و ذلك أنّ الإنسان سائر إليه تعالى كما قال:( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) الانشقاق: 6 و قال:( إِنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الرُّجْعى‏ ) العلق: 8 و قال:( وَ أَنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الْمُنْتَهى‏ ) النجم: 42، فهو ملاقي ربّه راجع و منته إليه لا حاجب يحجبه عنه و لا مانع يمنعه منه و أمّا الحجاب الّذي يشير إليه قوله:( كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) المطفّفين: 15 فسياق الآيتين يعطي أنّ المراد به حجاب الحرمان من الكرامة لا حجاب الجهل أو الغيبة.

و يمكن أن يكون المراد بكون مستقرّه إليه رجوع أمر ما يستقرّ فيه من سعادة أو شقاوة و جنّة أو نار إلى مشيّته تعالى فمن شاء جعله في الجنّة و هم المتّقون و من شاء جعله في النار و هم المجرمون قال تعالى:( يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ ) المائدة: 40.

١٩١

و يمكن أن يراد به أنّ استقرارهم يومئذ إلى حكمه تعالى فهو النافذ فيهم لا غير قال تعالى:( كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) القصص: 88.

قوله تعالى: ( يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ ) المراد بما قدّم و أخّر ما عمله من حسنة أو سيّئة في أوّل عمره و آخره أو ما قدّمه على موته من حسنة أو سيّئة و ما أخّر من سنّة حسنة سنّها أو سنّة سيّئة فيثاب بالحسنات و يعاقب على السيّئات.

و قيل: المراد بما قدّم ما عمله من حسنة أو سيّئة فيثاب على الأوّل و يعاقب على الثاني، و بما أخّر ما تركه من حسنة أو سيّئة فيعاقب على الأوّل و يثاب على الثاني، و قيل، المراد ما قدّم من المعاصي و ما أخّر من الطاعات، و قيل، ما قدّم من طاعة الله و أخّر من حقّه فضيّعه، و قيل: ما قدّم من ماله لنفسه و ما ترك لورثته و هي وجوه ضعيفة بعيدة عن الفهم.

قوله تعالى: ( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) إضراب عن قوله،( يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ‏ ) إلخ، و البصيرة رؤية القلب و الإدراك الباطنيّ و إطلاقها على الإنسان من باب زيد عدل أو التقدير الإنسان ذو بصيرة على نفسه.

و قيل: المراد بالبصيرة الحجّة كما في قوله تعالى،( ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بَصائِرَ ) إسراء: 102 و الإنسان نفسه حجّة على نفسه يومئذ حيث يسأل عن سمعه و بصره و فؤاده و يشهد عليه سمعه و بصره و جلده و يتكلّم يداه و رجلاه، قال تعالى:( إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا ) إسراء: 36، و قال( شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ ) حم السجدة: 20. و قال،( وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ) يس: 65.

و قوله:( وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) المعاذير جمع معذرة و هي ذكر موانع تقطع عن الفعل المطلوب، و المعنى هو ذو بصيرة على نفسه و لو جادل عن نفسه و اعتذر بالمعاذير لصرف العذاب عنها.

١٩٢

و قيل: المعاذير جمع معذار و هو الستر، و المعنى و إن أرخى الستور ليخفي ما عمل فإنّ نفسه شاهدة عليه و مآل الوجهين واحد.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) قال: نفس آدم الّتي عصت فلامها الله عزّوجلّ.

أقول: و في انطباقها على الآية خفاء.

و فيه، في قوله:( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) قال: يقدّم الذنب و يؤخّر التوبة و يقول: سوف أتوب.

و فيه، في قوله:( فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ ) قال: يبرق البصر فلا يقدر أن يطرف.

و فيه، في قوله تعالى:( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) قال: يعلم ما صنع و إن اعتذر.

و في الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد قال: إنّي لأتعشّى مع أبي عبداللهعليه‌السلام و تلا هذه الآية( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) ، ثمّ قال: يا أبا حفص ما يصنع الإنسان أن يعتذر إلى الناس بخلاف ما يعلم الله منه؟ إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول: من أسرّ سريرة ألبسه الله رداها إن خيراً فخير و إن شرّاً فشرّ.

و في المجمع، و روى العيّاشيّ بإسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: ما يصنع أحدكم أن يظهر حسناً و يستر سيّئاً؟ أ ليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنّه ليس كذلك؟ و الله سبحانه يقول:( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) إنّ السريرة إذا صلحت قويت العلانية.

أقول: و رواه في اُصول الكافي، بإسناده عن فضل أبي العبّاس عنهعليه‌السلام .

و فيه، عن العيّاشيّ عن زرارة قال، سألت أباعبداللهعليه‌السلام ما حدّ المرض الّذي يفطر صاحبه؟ قال،( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) هو أعلم بما يطيق.

أقول: و رواه في الفقيه، أيضاً.

١٩٣

( سورة القيامة الآيات 16 - 40)

لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ( 16 ) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ( 17 ) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ( 18 ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ( 19 ) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ( 20 ) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ( 21 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ( 22 ) إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ( 23 ) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ( 24 ) تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ( 25 ) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ( 26 ) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ( 27 ) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ( 28 ) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ( 29 ) إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ( 30 ) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ ( 31 ) وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ( 32 ) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ ( 33 ) أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ ( 34 ) ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ ( 35 ) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ( 36 ) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ ( 37 ) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ ( 38 ) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ ( 39 ) أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ ( 40 )

( بيان‏)

تتمّة صفة يوم القيامة باعتبار حال الناس فيه و انقسامهم إلى طائفة ناضرة الوجوه مبتهجين و اُخرى باسرة الوجوه عابسين آيسين من النجاة، و الإشارة إلى أنّ هذا

١٩٤

المساق تبتدئ من حين نزول الموت ثمّ الإشارة إلى أنّ الإنسان لا يترك سدىً فالّذي خلقه أوّلاً قادر على أن يحييه ثانياً و به تختتم السورة.

قوله تعالى: ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ‏ - إلى قوله -ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) الّذي يعطيه سياق الآيات الأربع بما يحفّها من الآيات المتقدّمة و المتأخّرة الواصفة ليوم القيامة أنّها معترضة متضمّن أدباً إلهيّاً كلّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتأدّب به حينما يتلقّى ما يوحى إليه من القرآن الكريم فلا يبادر إلى قراءة ما لم يقرأ بعد و لا يحرّك به لسانه و ينصت حتّى يتمّ الوحي.

فالآيات الأربع في معنى قوله تعالى:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) طه: 114.

فالكلام في هذه الآيات يجري مجرى قول المتكلّم منّا أثناء حديثه لمخاطبه إذا بادر إلى تتميم بعض كلام المتكلّم باللفظة و اللفظتين قبل أن يلفظ بها المتكلم و ذلك يشغله عن التجرّد للإنصات فيقطع المتكلّم حديثه و يعترض و يقول لا تعجل بكلامي و أنصت لتفقه ما أقول لك ثمّ يمضي في حديثه.

فقوله:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ‏ ) الخطاب فيه للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و الضميران للقرآن الّذي يوحى إليه أو للوحي، و المعنى لا تحرّك بالوحي لسانك لتأخذه عاجلاً فتسبقنا إلى قراءة ما لم نقرأ بعد فهو كما مرّ في معنى قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) طه: 114.

و قوله:( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) القرآن ههنا مصدر كالفرقان و الرجحان، و الضميران للوحي، و المعنى لا تعجل به إذ علينا أن نجمع ما نوحيه إليك بضمّ بعض أجزائه إلى بعض و قراءته عليك فلا يفوتنا شي‏ء منه حتّى يحتاج إلى أن تسبقنا إلى قراءة ما لم نوحه بعد.

و قيل: المعنى إنّ علينا أن نجمعه في صدرك بحيث لا يذهب عليك شي‏ء من معانيه و أن نثبت قراءته في لسانك بحيث تقرأه متى شئت و لا يخلو من بعد.

و قوله:( فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏ ) أي فإذا أتممنا قراءته عليك وحياً فاتّبع

١٩٥

قراءتنا له و اقرأ بعد تمامها.

و قيل: المراد باتّباع قرآنه اتّباعه ذهناً بالإنصات و التوجّه التامّ إليه و هو معنى لا بأس به.

و قيل: المراد فاتّبع في الأوامر و النواهي قرآنه، و قيل: المراد اتّباع قراءته بالتكرار حتّى يرسخ في الذهن و هما معنيان بعيدان.

و قوله:( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) أي علينا إيضاحه عليك بعد ما كان علينا جمعه و قرآنه فثمّ للتأخير الرتبيّ لأنّ البيان مترتّب على الجمع و القراءة رتبة.

و قيل، المعنى ثمّ إنّ علينا بيانه للناس بلسانك نحفظه في ذهنك عن التغيّر و الزوال حتّى تقرأه على الناس.

و قال بعضهم في معنى هذه الآيات إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحرّك لسانه عند الوحي بما اُلقي إليه من القرآن مخافة أن ينساه فنهي عن ذلك بالآيات و اُمر بالإنصات حتّى يتمّ الوحي فضمير( لا تُحَرِّكْ بِهِ‏ ) للقرآن أو الوحي باعتبار ما قرأ عليه منه لا باعتبار ما لم يقرأ بعد.

و فيه أنّه لا يلائم سياق الآيات، تلك الملاءمة نظراً إلى ما فيها من النهي عن العجل و الأمر باتّباع قرآنه تعالى بعد ما قرأ، و كذا قوله،( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) فذلك كلّه أظهر فيما تقدّم منها في هذا المعنى.

و عن بعضهم في معنى هذه الآيات، الّذي اختاره أنّه لم يرد القرآن، و إنّما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة يدلّ على ذلك ما قبله و ما بعده، و ليس فيه شي‏ء يدلّ على أنّه القرآن و لا شي‏ء من أحكام الدنيا.

و في ذلك تقريع و توبيخ له حين لا تنفعه العجلة يقول: لا تحرّك لسانك بما تقرأه من صحيفتك الّتي فيها أعمالك يعني اقرأ كتابك و لا تعجل فإنّ هذا الّذي هو على نفسه بصيرة إذا رأى سيّئاته ضجر و استعجل فيقال له توبيخاً: لا تعجل و تثبّت لتعلم الحجّة عليك فإنّا نجمعها لك فإذا جمعناه فاتّبع ما جمع عليك بالانقياد

١٩٦

لحكمه و الاستسلام للتبعة فيه فإنّه لا يمكنك إنكاره ثمّ إنّ علينا بيانه لو أنكرت. انتهى.

و يدفعه أنّ المعترضة لا تحتاج في تمام معناها إلى دلالة ممّا قبلها و ما بعدها عليه على أنّ مشاكلة قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) في سياقه لهذه الآيات تؤيّد مشاكلتها له في المعنى.

و عن بعضهم أنّ الآيات الأربع متّصلة بما تقدّم من حديث يوم القيامة، و خطاب( لا تُحَرِّكْ‏ ) للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ضمير( بِهِ) ليوم القيامة، و المعنى لا تتفوّه بالسؤال عن وقت القيامة أصلاً و لو كنت غير مكذّب و لا مستهزئ( لِتَعْجَلَ بِهِ‏ ) أي بالعلم به( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) أي من الواجب في الحكمة أن نجمع من نجمعه فيه و نوحي شرح وصفه إليك في القرآن( فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏ ) أي إذا قرأنا ما يتعلّق به فاتّبع ذلك بالعمل بما يقتضيه من الاستعداد له( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) أي إظهار ذلك بالنفخ في الصور انتهى ملخّصاً و هو كما ترى.

و قد تقدّم في تفسير قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ ) إنّ هذا النهي عن العجل بالقرآن يؤيّد ما ورد في الروايات أنّ للقرآن نزولاً على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفعة غير نزوله تدريجاً.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) خطاب للناس و ليس من تعميم الخطاب السابق في شي‏ء لأنّ خطاب( لا تُحَرِّكْ‏ ) اعتراضيّ غير مرتبط بشي‏ء من طرفيه.

و قوله:( كَلَّا ) ردع عن قوله السابق:( يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ) و قوله:( بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ) - أي الحياة العاجلة و هي الحياة الدنيا -( وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) أي تتركون الحياة الآخرة، و ما في الكلام من الإضراب إضراب عن حسبان عدم الإحياء بعد الموت نظير الإضراب في قوله:( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) .

قوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) وصف ليوم القيامة بانقسام الوجوه فيه إلى قسمين: ناضرة و باسرة، و نضرة الوجه و اللون و الشجر و نحوها و نضارتها

١٩٧

حسنها و بهجتها.

و المعنى: نظراً إلى ما يقابله من قوله:( وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ ) إلخ وجوه يوم إذ تقوم القيامة حسنة متهلّلة ظاهرة المسرّة و البشاشة قال تعالى:( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) المطفّفين: 24، و قال:( وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً ) الدهر: 11.

و قوله:( إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) خبر بعد خبر لوجوه، و( إِلى‏ رَبِّها ) متعلّق بناظرة قدّم عليها لإفادة الحصر أو الأهمّيّة.

و المراد بالنظر إليه تعالى ليس هو النظر الحسّيّ المتعلّق بالعين الجسمانيّة المادّيّة الّتي قامت البراهين القاطعة على استحالته في حقّه تعالى بل المراد النظر القلبيّ و رؤية القلب بحقيقة الإيمان على ما يسوق إليه البرهان و يدلّ عليه الأخبار المأثورة عن أهل العصمةعليهم‌السلام و قد أوردنا شطراً منها في ذيل تفسير قوله تعالى:( قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) الأعراف: 143، و قوله تعالى:( ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) النجم: 11.

فهؤلاء قلوبهم متوجّهة إلى ربّهم لا يشغلهم عنه سبحانه شاغل من الأسباب لتقطّع الأسباب يومئذ، و لا يقفون موقفاً من مواقف اليوم و لا يقطعون مرحلة من مراحله إلّا و الرحمة الإلهيّة شاملة لهم( وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) النمل: 89 و لا يشهدون مشهداً من مشاهد الجنّة و لا يتنعّمون بشي‏ء من نعيمها إلّا و هم يشاهدون ربّهم به لأنّهم لا ينظرون إلى شي‏ء و لا يرون شيئاً إلّا من حيث إنّه آية لله سبحانه و النظر إلى الآية من حيث إنّها آية و رؤيتها نظر إلى ذي الآية و رؤية له.

و من هنا يظهر الجواب عمّا اُورد على القول بأنّ تقديم( إِلى‏ رَبِّها ) على( ناظِرَةٌ ) يفيد الحصر و الاختصاص، أنّ من الضروريّ أنّهم ينظرون إلى غيره تعالى كنعم الجنّة.

و الجواب أنّهم لمّا لم يحجبوا عن ربّهم كان نظرهم إلى كلّ ما ينظرون إليه إنّما هو بما أنّه آية، و الآية بما أنّها آية لا تحجب ذا الآية و لا تحول بينه و بين

١٩٨

الناظر إليه فالنظر إلى الآية نظر إلى ذي الآية فهؤلاء لا ينظرون في الحقيقة إلّا إلى ربّهم.

و أمّا ما اُجيب به عنه أنّ تقديم( إِلى‏ رَبِّها ) لرعاية الفواصل و لو سلّم أنّه للاختصاص فالنظر إلى غيره في جنب النظر إليه لا يعدّ نظراً، و لو سلّم فالنظر إليه تعالى في بعض الأحوال لا في جميعها.

فلا يخلو من تكلّف التقييد من غير مقيّد على أنّه أسند النظر إلى الوجوه لا إلى العيون أو الأبصار و وجوه أهل الجنّة إلى ربّهم دائماً من غير أن يواجهوا بها غيره.

قوله تعالى: ( وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ ) فسّر البسور بشدّة العبوس و الظنّ بالعلم و( فاقِرَةٌ ) صفة محذوفة الموصوف أي فعله فاقرة، و الفاقرة من فقره إذا أصاب فقار ظهره، و قيل: من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار.

و المعنى: و وجوه يومئذ شديدة العبوس تعلم أنّه يفعل بها فعلة تقصم ظهورها أو تسم اُنوفها بالنار، و احتمل أن يكون تظنّ خطاباً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما أنّه سامع و الظنّ بمعناه المعروف.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ) ردع عن حبّهم العاجلة و إيثارها على الآخرة كأنّه قيل: ارتدعوا عن ذلك فليس يدوم عليكم و سينزل عليكم الموت فتساقون إلى ربّكم و فاعل( بَلَغَتِ ) محذوف يدلّ عليه السياق كما في قوله تعالى:( فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ) الواقعة: 83 و التقدير إذا بلغت النفس التراقي.

و التراقي العظام المكتنفة للنحر عن يمين و شمال جمع ترقوة، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ قِيلَ مَنْ راقٍ‏ ) اسم فاعل من الرقى أي قال من حضره من أهله و أصدقائه من يرقيه و يشفيه؟ كلمة يأس، و قيل: المعنى قال بعض الملائكة لبعض: من يرقى بروحه من الملائكة أ ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب.؟

قوله تعالى: ( وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ ) أي و علم الإنسان المحتضر من مشاهدة هذه

١٩٩

الأحوال أنّه مفارقته للعاجلة الّتي كان يحبّها و يؤثرها على الآخرة.

قوله تعالى: ( وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ) ظاهره أنّ المراد به التفاف ساق المحتضر بساقه ببطلان الحياة السارية في أطراف البدن عند بلوغ الروح التراقي.

و قيل: المراد به التفاف شدّة أمر الآخرة بأمر الدنيا، و قيل: التفاف حال الموت بحال الحياة، و قيل: التفاف ساق الدنيا و هي شدّة كرب الموت بساق الآخرة و هي شدّة هول المطّلع.

و لا دليل من جهة اللفظ على شي‏ء من هذه المعاني نعم من الممكن أن يقال: إنّ المراد بالتفاف الساق بالساق غشيان الشدائد و تعاقبها عليه واحدة بعد اُخرى من حينه ذلك إلى يوم القيامة فينطبق على كلّ من المعاني.

قوله تعالى: ( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) المساق مصدر ميميّ بمعنى السوق، و المراد بكون السوق يومئذ إليه تعالى أنّه الرجوع إليه، و عبّر بالمساق للإشارة إلى أن لا خيرة للإنسان في هذا المسير و لا مناص له عنه فهو مسوق مسيّر من يوم موته و هو قوله:( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) حتّى يرد على ربّه يوم القيامة و هو قوله:( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ) و لو كان تقديم( إِلى‏ رَبِّكَ ) لإفادة الحصر أفاد انحصار الغاية في الرجوع إليه تعالى.

و قيل: الكلام على تقدير مضاف و تقديم( إِلى‏ رَبِّكَ ) لإفادة الحصر و التقدير إلى حكم ربّك يومئذ المساق أي يساق ليحكم الله و يقضي فيه بحكمه، أو التقدير إلى موعد ربّك و هو الجنّة و النار، و قيل: المراد برجوع المساق إليه تعالى أنّه تعالى هو السائق لا غير، و الوجه ما تقدّم.

قوله تعالى: ( فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلى‏ أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ) الضمائر راجعة إلى الإنسان المذكور في قوله:( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ ) إلخ، و المراد بالتصديق المنفيّ تصديق الدعوة الحقّة الّتي يتضمّنها القرآن الكريم، و بالتصلية المنفيّة التوجّه العباديّ إليه تعالى بالصلاة الّتي هي عمود الدين.

و التمطّي - على ما في المجمع - تمدّد البدن من الكسل و أصله أن يلوي

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419