الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان14%

الشيعة في الميزان مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 419

الشيعة في الميزان
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 142491 / تحميل: 9286
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

هكذا تُبدي التوراة عَداءه تعالى مع بني الإنسان!

هذا والقرآن يحثّ الأُمَم على الاجتماع دون التفرّق، وعلى التعارف بعضهم مع بعضهم؛ ليتعاونوا في الحياة دون التباغض والتباعد والاختلاف:

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا... ) (1) .

( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) (2) .

الإنسان سرّ الخليقة

الإنسان - كما وصفه القرآن - صفوة الخليقة وفلذتها، وسرّها الكامن في سلسلة الوجود.

لا تجد وصفاً عن الإنسان وافياً ببيان حقيقته الذاتيّة الّتي جَبَله الله عليها - في جميع مناحيها وأبعادها المترامية - في سوى القرآن، يصفه بأجمل صفات وأفضل نُعوت، لم يَنعم بها أيّ مخلوق سواه، ومِن ثَمّ فقد حَظي بعناية الله الخاصّة، وحُبي بكرامته منذ بدء الوجود.

ولنُشِر إلى فهرسة تلكمُ الصفات والميزات، التي أهّلته لمثل هذه العناية والحِبَاء:

1 - خلقه الله بيديه: ( مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (3) .

2 - نفخ فيه من روحه: ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) (4) .

3 - أودعه أمانته: ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ) (5) .

4 - علّمه الأسماء كلّها: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا... ) (6) .

5 - أسجد له ملائكته: ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا... ) (7) .

____________________

(1) الحجرات 49: 13.

(2) الأنفال 8: 46.

(3) ص 38: 75.

(4) الحجر 15: 29، وص 38: 72، وفي سورة السجدة 32: 9: ( ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) .

(5) الأحزاب 33: 72.

(6) البقرة 2: 31.

(7) البقرة 2: 34.

٢١

6 - منحه الخلافة في الأرض: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) (1) .

7 - سخّر له ما في السّماوات والأرض جميعاً: ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ) (2) .

ومِن ثَمّ بارك نفسه في هذا الخلق الممتاز: ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (3) .

ميزات سبع حظي بها الإنسان في أصل وجوده، فكان المخلوق المفضّل الكريم، وإليك بعض التوضيح:

مِيزات الإنسان الفطريّة

امتاز الإنسان في ذات وجوده بميزات لم يحظَ بها غيره من سائر الخلق:

فقد شرّفه الله بأن خلقه بيديه: ( مَا مَنَعَكَ - خطاباً لإبليس - أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (4) والله خالق كلّ شيء، فلا بدّ أنْ تكون هناك خصوصيّة في خلق هذا الإنسان تستحقّ هذا التّنويه هي: خصوصيّة العناية الربّانيّة بهذا الكائن، وإبداعه نفخةً - من روح الله - دلالةً على هذه العناية.

قال العلاّمة الطباطبائي: نسبة خلقه إلى اليد تشريف بالاختصاص كما قال: ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) (5) وتثنية اليد كناية عن الاهتمام البالغ بخلقه وصنعه؛ ذلك أنّ الإنسان إذا اهتمّ بصُنع شيء استعمل يديه معاً عناية به (6) .

وهكذا نفخة الروح الإلهيّة فيه كناية عن جانب اختصاص هذا الإنسان - في أصل فطرته - بالملأ الأعلى، حتّى ولو كان متّخذاً - في جانب جسده - من عناصر تربطه بالأرض، فهو في ذاته عنصر سماوي قبل أن يكون أرضيّاً.

ولقد خلق الإنسان من عناصر هذه الأرض، ثُمّ من النفخة العلويّة التي فرّقت بينه

____________________

(1) البقرة 2: 30.

(2) الجاثية 45: 13.

(3) المؤمنون 23: 14.

(4) ص 38: 75.

(5) الحجر 15: 29.

(6) تفسير الميزان، ج 17، ص239.

٢٢

وبين سائر الأحياء، ومنحته خصائصه الإنسانيّة الكبرى، وأَوّلها القدرة على الارتقاء في سُلَّم المدارك العُليا الخاصّة بعالم الإنسان.

هذه النفخة هي التي تصله بالملأ الأعلى، وتجعله أهلاً للاتصال بالله، وللتلقّي عنه ولتجاوز النطاق المادّي الذي تتعامل فيه العضلات والحواسّ، إلى النطاق التجريدي الذي تتعامل فيه القلوب والعقول، والتي تمنحه ذلك السرّ الخفيّ الذي يسرب به وراء الزمان والمكان، ووراء طاقة العضلات والحواسّ، إلى ألوان من المدركات وألوان من التصوّرات غير المحدودة في بعض الأحيان (1) .

وبذلك استحقّ إيداعه أمانة الله التي هي ودائع ربّانية لها صبغة ملكوتيّة رفيعة، أُودعت هذا الإنسان دون غيره من سائر المخلوق، وتتلخّص هذه الودائع في قدرات هائلة يملكها الإنسان في جبلّته الأُولى، والتي أهّلته للاستيلاء على طاقات كامنة في طبيعة الوجود وتسخيرها حيث يشاء.

إنّها القدرة على الإرادة والتصميم، القدرة على التفكير والتدبير، القدرة على الإبداع والتكوين، القدرة على الاكتشاف والتسخير، إنّها الجرأة على حمل هذا العبء الخطير، قال سيّد قطب: إنّها الإرادة والإدراك والمحاولة وحمل التبعة، هي هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله، وهي هي مناط التكريم الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى وهو يُسجِد الملائكة لآدم، وأعلنه في قرآنه الباقي وهو يقول: ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ) (2) .

فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله، ولينهض بالأمانة التي اختارها، والتي عُرضت على السماوات والأرض والجبال فأبينَ أنْ يحملنّها وأشفقنّ منها (3) .

إنّها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم، الكبير القُوى، القويّ العزم.

ومِن ثَمّ كان ظلوماً لنفسه؛ حيث لم ينهض بأداء هذه الأمانة كما حملها، جهولاً لطاقاته هذه الهائلة المودعة في وجوده وهو بعد لا يعرفها.

____________________

(1) من إفادات سيد قطب، راجع: في ظِلال القرآن، ج 14، ص 17، المجلد 5، ص203.

(2) الإسراء 17: 70.

(3) في ظِلال القرآن، ج22، ص47، المجلد 6، ص 618.

٢٣

وهكذا علّمه الأسماء: القدرة على معرفة الأشياء بذواتها وخاصيّاتها وآثارها الطبيعيّة العاملة في تطوير الحياة، والتي وقعت رهن إرادة الإنسان ليُسخّرها في مآربه حيث يشاء، وبذلك يتقدّم العلم بحشده وجموعه في سبيل عمارة الأرض وازدهار معالمها، حيث أراده الله من هذا الإنسان ( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) (1) .

وبذلك أصبح هذا الإنسان - بهذه الميزات - خليفة الله في الأرض، (2) حيث يتصرّف فيها وِفق إرادته وطاقاته المـُودعة فيه، ويعمل في عمارة الأرض وتطوير الحياة.

وإسجاد الملائكة له في عَرْصَة الوجود، كناية عن إخضاع القوى النورانيّة برمّتها للإنسان، تعمل وِفق إرادته الخاصّة من غير ما تخلّف، في مقابلة القوى الظلمانيّة (إبليس وجنوده) تعمل في معاكسة مصالحه، إلاّ مَن عَصَمه الله من شرور الشياطين ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ) (3) .

كما وأنّ تسخير ما في السماوات وما في الأرض جميعاً، (4) كناية عن إخضاع القوى الطبيعيّة - المودعة في أجواء السماوات والأرض - لهذا الإنسان، تعمل فور إرادته بلا فتور ولا قصور، ومعنى تسخيرها له: أنّ الإنسان فُطر على إمكان تسخيرها.

فسبحانه من خالقٍ عظيم، إذ خَلَق خَلقاً بهذه العظمة والاقتدار الفائق على كلّ مخلوق!

هذه دراستنا عن الإنسان على صفحات مُشرقة من القرآن الكريم، فيا ترى أين يوجد مثل هذه العظمة والتبجيل لمخلوقٍ هو في هندامه صغير وفي طاقاته كبير، كبرياءً ملأ الآفاق!

أتزعم أنّك جسمٌ صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

فتبارك الله أحسن الخالقين بخلقه أحسن المخلوقين!

____________________

(1) هود 11: 61.

(2) راجع: البقرة 2: 30.

(3) الإسراء 17: 65.

(4) راجع: الجاثية 45: 13.

٢٤

خلقتُ الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي!

حديث قدسيّ معروف (1) خطاباً مع بني آدم، حيث كانوا هم الغاية من الخليقة، كما كانت الذات المقدّسة هي الغاية من خلقة الإنسان، فكما وأنّ الأشياء برمّتها - علواً وسفلاً - سخّرها الله لهذا الإنسان ولتكون في قبضته فتَتَجلّى فيها مقدرته الهائلة، كذلك خُلق الإنسان؛ ليكون مظهراً تامّاً لكامل قدرته تعالى في الخلق والإبداع.

ما من مخلوق - صغيراً أو كبيرً - إلاّ وهو مظهر لتجلّي جانب من سِمات الصانع الحكيم (وفي كلّ شيء له آية تدلّ على أنّه واحد) أمّا الإنسان فكان المرآة الصقيلة التي تتجلّى فيها جميع صفات الجمال والجلال.

فإذا سئلت: ما هي الغاية من خلق ما في السماوات وما في الأرض جميعاً؟

قلت - حسب وصف القرآن -: هو الإنسان ذاته مُستودَع أمانات الله وليكون خليفته في الأرض!

وإذا سئلت: ما هي الغاية من خلقة الإنسان ذاته؟

قلت: هو الله الصانع الحكيم؛ حيث الإنسان بقدرته على الخلق والإبداع أصبح مظهراً تامّاً لكامل الأسماء والصفات، فكان وجه الله الأكمل وعين الله الأتمّ.

فكان الإنسان غاية الخليقة، وكان الله الغاية من خلق الإنسان، فالله هو غاية الغايات وبذلك ورد: (كنتُ كنزاً مخفيّاً فأحببت أن أُعرف، فخلقت الخلق لكي أُعرف) (2) .

حيث الإفاضة - وهي تجلّي الذات المقدّسة - كانت بالخلق والإبداع ومظهره الأتمّ هو الإنسان.

الحفاظ على كرامة الأنبياء

يمتاز القرآن بالحفاظ على كرامة الأنبياء، بينما التوراة تحطّ من كرامتهم.

____________________

(1) راجع: علم اليقين للفيض الكاشاني، ج 1، ص 381.

(2) حديث قُدسي معروف، راجع: البحار، ج84، ص 199، وهامش عوالي اللآلئ، ج 1، ص 55، وكتاب كشف الخفاء للعجاوني، ج 2، ص 132.

٢٥

لم يأتِ ذِكر نبيّ من الأنبياء في القرآن إلاّ وقد أحاط بهم هالةً من التبجيل والإكرام، كما ونزّهَهم عن الأدناس على وجه الإطلاق.

خُذ مثلاً سورة الصافّات جاء فيها ذكر أنبياءٍ عِظام مُرفَقاً بعظيم الاحترام.

( وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (1) .

( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) وينتهي إلى قوله : ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشـَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ... ) (2) .

( وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (3) .

( وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) إلى قوله: ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (4) وهكذا كلّما يُمرّ ذِكرُ نبيّ تَصحبه لمـّة مِن الإجلال والتكريم.

وأمّا التوراة فلا تمرّ فيها بقصّةٍ من قصص الأنبياء إلاّ وملؤها الإهانة والتحقير، وربّما بلغ إلى حدّ الابتذال والتعبير ممّا لا يليق بشأن عباد الله المخلصين، هذا نوح شيخ الأنبياء تصفه التوراة: رجلاً سكّيراً مستهتراً لا يرعوي شناعةَ حال ولا فضاعة بال.

تقول عنه التوراة: إنّه بعد ما نَزل من السفينة هو ومَن معه، غرس كَرماً وصنع خمراً وشربها، حتّى إذا سكر وتعرّى داخل خبائه إذ دخل عليه ابنه الصغير حام فرأى أباه

____________________

(1) الصافات: 75 - 81.

(2) الصافات: 83 - 113.

(3) الصافات: 114 - 122.

(4) الصافات : 123 - 132.

٢٦

مكشوفاً عورته، فاستحى ورجع ليُخبر إخوته بذلك، ولمـّا صحا نوح وعَلِم بفضيع أمره دعا على ابنه هذا، ولعنه هو وذرّيته في الآخرين. فكان مِن أثر دعائه عليه أن كانت ذرّيته عبيداً لذرّية أخويه سام ويافث أبد الآبدين! (1) .

يا لها من مهزلة نسجتها ذهنيّة الحاقدين على أهل الدين، فما شأن التوراة وثَبتُ هكذا سفاسف حمقانيّة تمسّ بكرامة شيخ الأنبياء؟!

وهذا إبراهيم خليل الرحمان وأبو الأنبياء وصاحب الشريعة الحنيفة والتي أورثها الأنبياء من بعده، نَجده في التوراة رجلاً أرضيّاً يُتاجر بزوجه الحسناء (سارة) ليَفتدي بها لا لشيءٍ؛ إلاّ ليَحظى بالحياة الدنيا على غِرار سائر المـُرابين، يفعلون الفُجور للحصول على القليل من حطام الدنيا الدنيّة! (2) .

وما هي إلاّ فِرية فاضحة يُكذّبها تأريخ حياة إبراهيم (عليه السلام):

كانت سارة عندما صَحِبت زوجها إبراهيم في سفره إلى أرض مصر قد طَعنت في السنّ من السبعينيّات، وكان الدهر قد وَسَم على وجهها آثار الكُهولة والهرم، ولم يَعهد من عادة الملوك الجبابرة وأصحاب الترف والبذخ أن يطمعوا في هكذا نساء عجوزات!

كان إبراهيم عندما غادر (حاران) موطن أبيه (تارَح) قاصداً بلاد كنعان قد بلغ الخامسة والسبعين من عمره، واجتاز أرض (شكيم) ليبني هناك مَذبحاً (معبداً)، وارتحل إلى الجبل: شرقي (بيت إيل)، وهكذا تَداوم في رحلته يجوب البلاد ويبني مذابح، إلى أنْ حدث جَدْبٌ عمَّ البلاد، فانحدر إلى أرض مصر لينتجع هناك.

ولم يأتِ في التوراة مدّة هذا التَجوال والرحلات، لكن جاء فيها: أنّ سارة لمـّا وَهبت جاريتها (هاجر) لإبراهيم كان قد مضى من مغادرتهم أرض مصر عشر سنين (3) ، فحبلت هاجر وولدت إسماعيل بعد ما انقضى مِن عُمر إبراهيم ستٌ وثمانون عاماً (4) ، فكان إبراهيم عند مَقدمه مصر قد تجاوز الستّ والسبعين، وبما أنّ سارة كانت أصغر من إبراهيم

____________________

(1) سِفر التكوين، إصحاح 9/18 - 24.

(2) المصدر: 12/11 - 20.

(3) المصدر: 16/3.

(4) المصدر: 16/16.

٢٧

بعشر سنين فقد كانت عند قدومها مصر قد ناهزت الستّ والستين وهو سنّ العجائز! (1) .

إبراهيم، لم يَكذب قطّ!

جاء في أحاديث العامّة برواية أبي هريرة - وهي أشبه بالإسرائيليّات - (أنّ إبراهيم (عليه السلام) كَذَب ثلاث كِذبات: ثنتين في ذات الله: قوله: ( إِنِّي سَقِيمٌ ) (2) وقوله: ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) (3) ، والثالثة بشأن سارة: أنّها أُخته) (4)

وفي حديث الشفاعة برواية أبي هريرة أيضاً: (أنّ أهل الموقف يأتون الأنبياء واحداً بعد واحد يستشفعون منهم، حتّى يأتوا إبراهيم فيأبى معتذراً: إنّي كذبت ثلاث كذبات ولستُ هناكم) (5) .

وقد وصفت لجنة مشايخ الأزهر هذه الروايات بالصِحاح، وعارضت الأستاذ عبد الوهاب النجّار استنكاره لهذه المفتريات (6) .

قلت: وحاشا إبراهيم الخليل - الداعي إلى الحنيفيّة البيضاء - أنْ ينطق بكذب، وإنّما كُذِبَ عليه بلا ريب، والرواية عامّية الإسناد لا اعتداد بها في هكذا مجالات.

ولقد أجاد الإمام الرازي حيث قال: فلأنْ يُضاف الكَذِب إلى رواة هذا الخبر أَولى من أنْ يُضاف إلى الأنبياء، وأخذ في تأويل الموارد الثلاثة، وأضافَ قائلاً: وإذا أمكن حَمل الكلام على ظاهره من غير نسبة الكَذِب إلى الأنبياء فحينئذٍ لا يحكم بنسبة الكذب إليهم إلاّ زنديق (7) .

أمّا قوله: ( إِنّي سَقِيمٌ ) فلعلّه أراد وهن حالته الجسديّة ممّا كان يرى قومه على عَمَه الغباء، وقد أحسّ ألماً شديداً انتاب قلبه المرهف تجاه تلكمُ الجهالات العارمة.

وأمّا قوله ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذَا فَسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ ) فقولة قالها مستهزئاً بهم

____________________

(1) المصدر: 17/17.

(2) الصافّات 37: 89.

(3) الأنبياء 21: 63.

(4) صحيح ا لبخاري، ج4، ص171 و ج7، ص7: وصحيح مسلم، ج7، ص98: ومسند أحمد، ج2، ص403 - 404.

(5) جامع الترمذي، ج4، ص623 وج5، ص321.

(6) راجع: هامش قصص الأنبياء للنجّار، ص86.

(7) التفسير الكبير، ج22، ص185 وج26، ص148.

٢٨

مستخفّاً عقليّتهم الكاسدة.

والكَذِب لا يكون إلاّ لغرض التمويه، أمّا إذا كان السامعون عارفين بواقع الأمر، وأنّ إبراهيم لم يقصد الحقيقة وإنّما أراد التسفيه من عقولهم محضاً فهذا لا يُعدّ كَذِباً؛ لأنّ الكَذِب إخبار في ظاهر غير مطابق للواقع، وهذا إنشاء لمحض التسفيه والهزء بهم، والإنشاء لا يَحتمل الصدق والكَذِب فتدبّر.

وأمّا الثالثة - بشأن سارة أنّها أُخته - فحديث خُرافة يا أُمّ عمرو!

قصّة الطوفان في التوراة

جاءت قصّة الطوفان في سِفر التكوين (1) بصورة تفصيليّة، تشبه أن تكون أساطيريّة، وفيها ما ترفضه العقول وتأباه واقعيّة الحياة، فضلاً عن منافاتها لأُصول الحكمة المهيمنة على مظاهر الوجود.

جاء فيه: أنّ قوم نوح فسدوا وأفسدوا في الأرض، فغضب اللّهُ عليهم وأنذرهم على لسان نوح بعذاب الاستئصال بإرسال الطوفان العارم، فلم يعبأوا بذلك وظلّوا يعبثون ويَعثون في البلاد.

ولمـّا بلغ نوح من العمر ستمِئة سنة أمره الله بصنع الفلك (في 300 ذراع طولاً و50 ذراعاً عرضاً و30 في الارتفاع).

فجاء الطوفان، وجُعلت ينابيع الأرض تتفجّر، والسماء تمطر بغزارة أربعين صباحاً، والماء يرتفع شيئاً فشيئاً على وجه الأرض كلّها، حتّى بلغ قِمم الجبال الشامخة في كل جوانب الأرض، وارتفع على أشمخ قمّة من الجبال بخمس عشرة ذراعاً؛ وبذلك هلك الحرث والنسل، ومات كلّ ذي حياة على وجه الأرض من الدوابّ والبهائم والدبّابات والزحّافات، وحتّى الطير في السماء.

ودام الطوفان مئة وخمسين صباحاً، يحوم نوح بأهله وذويه وما حمله معه في الفلك على وجه الماء، حتّى أخذ الماء ينحطّ ويغور فاستقرّت

____________________

(1) سِفر التكوين، إصحاح 9 - 6.

٢٩

سفينته على جبل (آرارات) بأرمينيّة، فنزلوا من السفينة وعاش نوح بعد ذلك ثلاثمئة وخمسين عاماً، فكان كلّ أيّام نوح تسعمِئة وخمسين سنة، على ما جاء في الإصحاح التاسع عدد 28.

وكان الذي حمله نوح معه في السفينة - غير أهله وذويه - أزواجاً (ذكراً وأُنثى) من كلّ أنواع الحيوانات؛ لئلاّ ينقرض نسلها وتبيد من الوجود (من جميع البهائم والطيور ذكراً وأُنثى، لاستبقاء نسلها على وجه كلّ الأرض) (1) .

وهذا يعنى: أنّ جميع الأحياء هلكوا على أثر الغَرَق (فما كلّ ذي جسد كان يدبّ على الأرض من الطيور والبهائم والوحوش، وكلّ الزحّافات التي كانت تزحف على الأرض وجميع الناس، كلّ ما في أنفه نسمة روح الحياة فيما في اليابسة مات) (2) ؛ وذلك أنّ الماء غمر وجه الأرض كلّها، وطغى على أعالي الجبال الشامخة في كلّ أكناف الأرض (وتعاظمت المياه كثيراً جدّاً على الأرض، فتغطّت جميعُ الجبال الشامخة التي تحت كلّ السماء خمس عشرة ذراعاً في الارتفاع فتغطّت كلّ الجبال) (3) .

حادث الطوفان في القرآن

وحاشا القرآن أنْ يساير التوراة (المـُتداولة) في سرد أقاصيص أسطوريّة واهية، وإنّما هي الواقعيّة ينتقيها ويَنبذ الأوهام الخرافيّة والتي أحدقت بها على أثر طول العهد.

وإليك الحادث على ما جاء في سورة هود:

( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ (4) قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاّ

____________________

(1) المصدر: 7/4.

(2) المصدر: 7/21.

(3) المصدر: 7/19.

(4) كلمة أعجميّة وتطلق في كلام العرب على مفجر المياه، جاء في القاموس: التنّور كل ّمفجر الماء.

٣٠

مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ (1) وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ * قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (2) .

مواضع عِبر أغفلتها التوراة

جاءت القصّة في التوراة كسائر الأحداث التاريخيّة القديمة مشوّهةً في خِضمٍّ من خرافات بائدة، ومن غير أن تتأكّد على مواضع العِبر منها، بل وأغفلتها في الأكثر، أمّا القرآن؛ فبما أنّه كتاب هداية وعِبر نراهُ يقتطف من أحداث التأريخ عِبرها، ويَجتني من شجرة حياة الإنسان السالفة يانع ثمرها، فليتمتّع الإنسان بها في حياته الحاضرة في شغفٍ وهناء.

وقد أغفلت التوراة جانب زوجة نوح وابنه اللذَينِ شَملهما العذاب بسوء اختيارهما، إنّها عِبرةٌ كبرى، كيف يغفل الإنسان أوفر إمكانيّات الهداية والصلاح؟ وينجرف بسوء اختياره مع تيّار الضلالة والفساد، وفي النهاية الدمار والهلاك!!

ذكر السيّد ابن طاووس: أنّه كان لنوح زوجان إحداهما وفيّة وأخرى غبيّة، فركبت الصالحة مع أبنائها السفينة، وهلكت الأخرى الطالحة مع الآثمين (3) .

قال اللّه تعالى عنها وعن زوج لوط: ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (4) .

____________________

(1) قال أبو مسلم الإصبهاني: الجودي كلّ جبلٍ وأرضٍ صلبة.

(2) هود 11: 40 - 48.

(3) راجع: سعد السعود لابن طاووس، ص239، وبحار الأنوار، ج11، 342.

(4) التحريم 66: 10.

٣١

وكانت خيانَتُهما هي المـُسايرة مع الكافرين، ونبذ معالم الهداية التي كانت في متناولهما القريب.

وابن نوح يقول عنه تعالى: إنّه ليس من أهله، لا يصلح للانتساب إليه بهذا العنوان الفخيم (أهل نوح)؛ لأنّه عملٌ غير صالح، إنّه حصيلة أعماله غير الصالحة، ومن ثَمَّ فإنّه كان يعيش خارج الإطار الذي كان يعيشه نوح وأهله.

وهذا أيضاً من أعظم العِبر، كيف ينحدر الإنسان من أعلى قِمم الهداية والتوفيق لينخرط مع البائسين الحيارى لا يهتدون سبيلاً؟!

أمّا وكيف ابتغى نوح نجاة ابنه هذا وهو يعلم ما به من غَواية الضلال؟ فهذا يعود إلى حنان الأُبوّة ورحمة العُطوفة التي كان يحملها نوح (عليه السلام) لا سيّما مع ما وعده الله بنجاة أهله، فلعلّه شملته العناية الربّانيّة وأصبح من المرحومين ومِن ثَمّ جاءته الإجابة باليأس، وأنّه لا يصلح أن يكون أهلاً له وكان محتّماً عليه أن يمسي من المرجومين.

هل عمّ الطوفان وجه الأرض؟

صريح التوراة أنّ الطوفان عمّ وجه الأرض، وأهلك الحرث والنسل وحتّى الطير في السماء.

وليس في القرآن دلالةٌ ولا إشارةٌ إلى ذلك، بل على العكس أدلّ، وأنّ الطوفان إنّما عمّ المنطقة التي كان يعيشها قوم نوح ولم يتجاوزها.

جاء في سورة الأعراف: ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) إلى قوله ( فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ ) (1) .

فالذين كان يخاف عليهم عذاب يومٍ عظيم ممّن كذّبوه وكانوا قوماً عمين، كانوا هم المغرقين.

____________________

(1) الأعراف 7: 59 - 64.

٣٢

ولا دلالة فيها على غرق آخرين من أقوامٍ لو كانوا مُبعثرين عائشين في سائر أقطار الأرض ممّن لم تبلغهم دعوة نوح، ولم يكن مرسلاً إليهم.

هذا فضلاً عن سائر الحيوان من الزحّافات والدبّابات المنتشرة في وجه الأرض، وكذا الطير في الهواء، ممّا لا شأن لها ورسالات الأنبياء، ولا وجه لأنْ يعمّها العذاب، وهو عقاب على معصية لا مساس لها بغير الإنسان.

الأمر الذي يؤخذ على التوراة أشدّ الأخذ! ولا سيّما بذاك الوصف الذي وصفته: غمر الماء وجه الأرض كلها وارتفع حتّى غمر قمم الجبال الشامخات وعلاهنّ بخمس عشرة ذراعاً (سبعة أمتار)!

نقض فرضية الشمول

يقول (ولتر) - الكاتب الناقد الفرنسي (1694 - 1778 م) بصدد تسخيف أُسطورة الطوفان على ما وصفته التوراة -: كان يجب لمثل هذا التضخّم من الماء المتراكم على وجه الأرض أنْ تضمّ اثنا عشر بحراً، كلّ في سعة البحر الأطلانتي المحيط، بعضها فوق بعض ليكون الأعلى في حجم أكبر بأربع وعشرين ضعفاً، وهكذا حتّى تجتمع في مثل هذا الماء المتراكم ليغمر شامخات الجبال!

ويزيد - مستخفّاً عقليّة مسطّر هذه الأساطير وناقماً على الذين اعتنقوها باعتبارها وحياً من السماء (وحاشاه) -: يكفي بذلك معجزة خالدة لا حاجة معها إلى سائر المعاجز، حيث لا مثيل لها في خرق نواميس الكون!!.

ويقول آخر: إنّ المحاسبات العلميّة الدقيقة تُعطينا: أنّ الأبخرة المنبثّة في أجواء الأرض لو تكثّفت جميعاً وهطلت أمطاراً لما كانت تكفي لأنْ تغمر وتعلو عن وجه الأرض بأكثر من بضع سانتي مترات، فكيف بجبال شامخات؟!

يقول الدكتور (شفا): لو كانت السماء تهطل بأمطارها أربعين صباحاً - كما هو نصّ التوراة - لما كاد أنْ يغمر هضبة ما بين النهرين - على صغرها - فكيف بغمر وجه الأرض

٣٣

وأنْ يعلو قمم الجبال؟! وجبل (آرارات) يرتفع عن سطح البحر بأكثر من خمس كيلو مترات ما يكاد أن يغمره، فكيف بسائر الجبال الشامخة؟! (1) .

الطوفان ظاهرة طبيعيّة حيث أرادها الله

نعم، كان حادث الطوفان ظاهرة طبيعيّة وعلى ما وصفه القرآن ممّا لا يكاد الغمز فيه.

كان قد مرّ على حياة الأرض في أدوارها الأولى كثير من تغيّرات جوّية مفاجئة، كان وجه الأرض مسرحاً لتناوب هطول أمطار غزيرة، وسيول هائلة منحدرة من أعالي الجبال كادت تغمّ الهضاب والوديان والمناطق المنخفضة من سطح الأرض.

وكان طوفان نوح إحدى تلكم الظواهر الكونيّة حدثت بإذن الله ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) (2) ، فانحدرت سيول هائلة على سفوح الجبال، وتفجّر ينابيع الأرض المـُشبعة بالأمطار، وهكذا أحاط الماء الهائم بقوم نوح وسدّ عليهم طرق النجاة، وحتّى ابن نوح حاول اللجوء إلى أعالي المرتفعات لولا أنْ جابهته سيول هائجة لتصرعه إلى حيث مَهوى الهلاك، بل وحتّى لم يجد فرصة التريّث فيما كان ينصحه أبوه، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين.

وفي تواريخ الأُمم ما يُسجّل حدوث طوفانات هائلة جرفت بقسط من الحياة؛ ولعلّه لتراكم الفساد والشرّ في تلكم البقاع، فمِن قدماء الفرس: أنّ طوفاناً هائلاً غمّ أرض العراق إلى حدود كردستان، وهكذا رُوي عن قدماء اليونان، والهنود أثبتوا وقوع الطوفان سبع مرّات شمل شبه الجزيرة الهنديّة، ويُروى تعدّد الطوفان عن اليابان والصين والبرازيل والمكسيك وغيرهم، ويُروى عن الكلدانييّن - وهم الذين وقع طوفان نوح في بلادهم -:

أنّ المياه طغت على البلاد وجرفت بالحرث والنسل. فقد نقل عنهم (برهوشع) و

____________________

(1) راجع: ما كتبه الدكتور شجاع الدين شفا في كتابه (تولّدي ديكر)، ص 285 منتقداً قصّة الطوفان على ما وردت في الكتب الدينيّة.

(2) القمر 54: 11 و 12.

٣٤

(يوسيفوس): أنّ (زيزستروس) رأى في الحُلم بعد موت أبيه (أوتيرت) أنّ المياه ستطغى وتُغرق الناس كلّهم - ممّن كان يعيش هناك طبعاً - فأُمر بصنع سفينة يعتصم فيها هو وذووه ففعل، وقد كان هناك جبابرة طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد فعاقبهم الله بالطوفان والاستئصال.

وقد عَثر بعض الإنجليز على ألواح من الآجر نُقشت فيها هذه الرواية بالحروف المسماريّة في عصر (آشور بانيبال) من نحو (660) سنة قبل ميلاد المسيح، وأنّها منقولة من كتابة قديمة من القرن السابع عشر قبل الميلاد أو قبل ذلك، ومِن ثَمّ فهي أقدم من كتابة سِفر التكوين (يرجع تدوينه إلى عام 536 قبل الميلاد بعد الرجوع من سبي بابل).

ويروي اليونان خبراً عن الطوفان أورده (أفلاطون) وهو: أنّ كَهَنة مصر قالوا للحكيم اليوناني (سولون) أنّ السماء أرسلت طوفاناً غيّر وجه الأرض مراراً، فهلك الناس - ممّن عمروا البلاد في المنطقة - وانمحت آثارهم ولم يبق للجيل الجديد شيء من تلكمُ الآثار والمعارف.

وأورد (مانيتيون) خبر طوفان حدث بعد (هرمس) الأَوّل - الذي كان بعد (ميناس) الأَوّل -، وهو أقدم من تأريخ التوراة أيضاً (1) .

وهكذا جاء خبر الطوفان في (اُوستا) كتاب المجوس (2) .

وجاء في كتاب (تأريخ الأدب الهندي) الجزء الأوّل المختصّ بالثقافة الوثنيّة الهنديّة، للسيّد أبي نصر أحمد الحسيني البهوبالي الهندي (مخطوط) ص 42 و 43، في الباب الخامس، وعنوانه (برهمانا وأوبانبشاء):

وممّا يلفت النظر في (ساتا بانا برهمانا) قصّة الطوفان، التي بُيّنت في ضمن الضحايا، والقصّة وإنْ اختلفت من وجوه كثيرة عمّا في القرآن والتوراة، وإن لم توجد شواهد قاطعة تربط القصّة الهنديّة مع الساميّة، توجب الاهتمام..

ففي هذه القصّة البرهمانيّة يقوم (مانو) بدور نبيّ الله نوح (عليه السلام) في القرآن وفي

____________________

(1) راجع: تفسير المنار لمـُحمّد عبده، ج 12، ص 105.

(2) في ترجمتها الفرنسيّة. راجع: الميزان للطباطبائي، ح 10، ص 267.

٣٥

التوراة، و (مانو) اسم نال التقديس والاحترام في أدب الثقافة بأسره من الوثنيّين، فهو: ابن الله، ومصدر جميع الناس وجدّهم الأسطوري.

وخلاصة القصّة: أنّه بينما كان (مانو) يغسل يديه إذ جاءت في يده سَمكة، وممّا اندهش به (مانو) أنّ السمكة كلّمته وطلبت إنقاذها من الهلاك، ووَعَدته جزاءً عليه أنّها ستنقذه في المستقبل من خطر عظيم، والخطر العظيم المـُحدق الذي أنبأت به السمكة كان طوفاناً سيجرف جميع المخلوقات؛ وعلى ذلك حَفَظ (مانو) السمكة في (المرتبان)، فلمـّا كَبُرت السمكة أخبرت (مانو) عن السنة التي سيأتي فيها الطوفان، ثمّ أشارت عليه أن يصنع سفينة كبيرة، ويدخل فيها عند طغيان الماء، قائلةً: أنا أُنقذك من الطوفان، فمانو صنع السفينة، والسمكة كبُرت أكثر من سعة (المرتبان)؛ لذلك ألقاها (مانو) في البحر. ثمّ جاء الطوفان كما أنبأت السمكة، وحين دخل (مانو) السفينة، عامت السمكة إليه، فربط السفينة بقرن على رأس السمكة، فجرّتها إلى الجبال الشماليّة، وهنا ربط (مانو) السفينة بشجرة، وعندما تراجع الماء وخفّ بقي (مانو) بوحدته (1) .

فذلكة الكلام: إنّ فيما أنبأت به الأُمم وحدّثت به الأجيال من حوادث جوّية خطيرة، داهمت الحياة البشريّة الأُولى وكان فيها الهلاك والدمار ومنها حادث الطوفان في كرّات ومرّات، ليُشْرف بالاطمئنان على تحقّق الحادث إجماليّاً، ولو لم يكن بذلك الشكل الأساطيري المنقول، شأن سائر القصص البائدة حِيكت حولها مخاريف، الأمر الذي لا يوجب إنكارها من رأس، ولا سيّما أنّ مثل حادث الطوفان كان طبيعيّاً أنْ يهاجم حياة الإنسان، ويواجهه بالنكبات في الأيام الأُولى بكثرة، ولا يزال ينتاب وجه الأرض بعد حينٍ وآخر.

وربما كان من أعظمها وأشملها طوفان نوح، عمّ المنطقة ودمّر وأباد، هذا شيء لا مساغ لإنكاره، بعد كونه طبيعيّاً وأخبر به الصادق الأمين.

____________________

(1) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص 46 - 47.

٣٦

أمّا الزيادات التي جاءت في الأساطير القديمة ونقلتها التوراة على عِلاّتها فهذا شيءٌ نستخلص منه وننبذه، كما نبذه القرآن واستخلص الحادث صافياً جليّاً، الأمر الذي اختصّ به القرآن وكان نبأً غيبيّاً لا يعلمه أيّ إنسان ذلك الحين ( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا ) (1) .

أي لا تعلمها بهذا الخلوص والجلاء، أمّا صورتها المشوّهة فكان يتداول بها أقوام جاهلون بحقيقة الأمر.

لا شاهد على شمول الطوفان

لا شكّ أنّ شواهد الطبيعة لا تدع مَجالاً لاحتمال شمول الطوفان، ولا سيّما بذلك الارتفاع الهائل! كما لا موجب لتناول الإعجاز لمثل هذا الحدّ غير الضروري قطعيّاً.

بقي ظاهر النصّ (التعابير الواردة في القرآن الكريم) ممّا حسبه البعض ذا دلالة أو إشارة إلى ذلك، فضلاً عن قرائن أخرى:

قال الشيخ مُحمّد عبده: وأمّا مسألة عموم الطوفان في نفسها فهي موضوع نزاع بين أهل الأديان، وأهل النظر في طبقات الأرض، وموضوع خلاف بين مؤرّخي الأُمم.

أمّا أهل الكتاب وعلماء الأمّة الإسلاميّة فعلى أنّ الطوفان كان عامّاً لكلّ الأرض، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر، واحتجّوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجّرة في أعالي الجبال؛ لأنّ هذه الأشياء ممّا لا تتكّون إلاّ في البحر، فظهورها في رؤوس الجبال دليلٌ على أنّ الماء صعد إليها مرّةً من المرّات، ولن يكون ذلك حتّى يكون قد عمّ الأرض (2) .

وقال السيّد الطباطبائي: الحقّ، أنّ ظاهر القرآن الكريم - ظهوراً لا ينكر - أنّ الطوفان كان عامّاً للأرض، وأنّ من كان عليها من البشر أغرقوا جميعاً...

ومن شواهد الآيات التي استند إليها قوله تعالى - حكايةً عن نوح - ( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى

____________________

(1) هود 11: 49.

(2) تفسير المنار، ج 12، ص1 08.

٣٧

الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ) (1) وقوله: ( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) (2) وقوله: ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) (3) .

قال: ومن الشواهد من كلامه تعالى على عموم الطوفان ما ذكر في موضعين من الأمر بأنْ يَحمل من كلٍّ زوجين اثنين، (4) ومن الواضح أنّه لو كان الطوفان خاصّاً بالمنطقة - أرض العراق كما هو معروف - لم تكن حاجة إلى ذلك (5) ؛ نظراً لإمكان تداوم النسل بسائر أفراد النوع المنبّثة في أقطار الأرض حينذاك.

آثار جيولوجيّة

لكن وجود الفسايل وبقايا متحجّرة لحيوانات مائيّة وهكذا آثار الردم المـُشاهد في أعالي بعض الجبال لا يَصلح شاهداً لصعود الماء إليها؛ إذ لا يكفي لحدوث هذه الآثار ووجود هذه البقايا صعود الماء أيّاماً معدودة ولفترة قصيرة، بل ومن المحتمل القريب أنّها من بقايا رسوبيّة كانت يوماً ما تحت البحر وعلى ضفافه، غير أنّ التغيّرات الجيولوجيّة والتمعّجات الحاصلة على قشرة الأرض على أثر الزلازل وغيرها هي التي أوجبت تغيّراً في وجه الأرض، فمنها ما ارتفع بعدما كان مغموراً، أو انغمر بعد ما كان عالياً، وهكذا تعرجّات حدثت على الأرض ولا سيّما في الفترات الأُولى على أثر انخفاض حرارة سطح الأرض.

قال الشيخ محمّد عبده: إنّ وجود الأصداف والحيوانات البحريّة المتحجّرة في قُلل الجبال لا يدلّ على أنّها من أثر ذلك الطوفان؛ بل الأقرب أنّه كان من أثر تكوّن الجبال وغيرها من اليابسة في الماء. فإنّ صعود الماء إلى الجبال أيّاماً معدودة لا يكفي لحدوث ما ذكر فيها (6) .

____________________

(1) نوح 71: 26.

(2) هود 11: 43.

(3) الصافّات 37: 77.

(4) راجع: سورة هود 11: 40 والمؤمنون 23: 27.

(5) راجع: تفسير الميزان، ج 10، ص 272 و 274 ووافقه على ذلك الدكتور مُحمّد الصادقي في تفسيره الفرقان، ج 12، ص 316 - 317.

(6) تفسير المنار، ج 12، ص 108.

٣٨

( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرضِ) (1) .

أخذوا من هذه الآية دليلاً على عموم الطوفان وشموله لوجه الأرض كلّها.

قال الشيخ محمّد عبده: ليست الآية نصّاً في أنّ المراد بالأرض هذه الكُرة كلّها، فإنّ المعروف في كلام الأنبياء والأقوام وفي أخبارهم أنْ تُذكر الأَرض ويراد بها أرضهم ووطنهم، كقوله تعالى حكايةً عن خطاب فرعون لموسى وهارون: ( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ ) (2) يعني أرض مصر، وقوله: ( وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ) (3) فالمراد بها مكّة، وقوله: ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ) (4) والمراد ديار فلسطين، والشواهد على ذلك كثيرة.

قال: وظواهر الآيات تدلّ بمعونة القرائن والتقاليد المـُوروثة عن أهل الكتاب على أنّه لم يكن في الأرض كلّها في زمن نوح إلاّ قومه - (وهو في أوّليات حياة البشر) - وأنّهم هلكوا كلّهم بالطوفان، ولم يبقَ بعده فيها غير ذرّيته، وهذا يقتضي أنْ يكون الطوفان في البقعة التي كانوا فيها من الأرض سَهلها وجبالها لا في الأرض كلّها، إلاّ إذا كانت اليابسة منها في ذلك الزمن صغيرة؛ لقرب العهد بالتكوين وبوجود البشر عليها.

فإنّ علماء التكوين وطبقات الأرض (الجيولوجيّة) يقولون: إنّ الأرض كانت عند انفصالها من الشمس كرة ناريّة ملتهبة ثمّ صارت كرة مائيّة، ثُمّ ظهرت فيها اليابسة بالتدريج (5) .

وبذلك ظهر عدم دلالة الآية ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) (6) على شمول الطوفان لعامّة وجه الأرض، بعد فرض محدوديّة نطاق النسل البشري آنذاك (في عهدٍ بعيد جدّاً) وعدم الانتشار في أقطار الأرض، ولا نُسلّم بما حدّدته التوراة من التأريخ القريب ولا مستند لها.

( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)

شاهد آخر التمسوه دليلاً على عموم الطوفان.

قال تعالى: ( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ

____________________

(1) نوح 71: 26،

(2) يونس 10: 87.

(3) الإسراء 17: 76.

(4) الإسراء 17: 4.

(5) تفسير المنار، ج 12، ص 106.

(6) الصافّات 37: 77.

٣٩

ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ) (1) .

في هذه الآية موضعان يمكن الاستناد إليهما تدليلاً على شمول الطوفان:

1 - التعبير بالموج الهائل كالجبال، ممّا لا يحدث إلاّ في متّسع من خِضَمّ الماء المتراكم.

2 - محاولة ابن نوح للصعود إلى جبلٍ يَعصمه من الماء، ولكنّ نوحاً أنذره أنْ لا عاصم اليوم، ومعنى ذلك: أنّ الماء سيغطّي الجبال أيضاً ولا يَذر موضعاً يأوي إليه، وهكذا ابتلعه الموج الهائم فكان من المغرقين.

لكن لا شكّ أنّ هضبةً كبيرةً واسعةَ الأرجاء إذا ازدحمت عليها المياه، واكتنفتها السيول العارمة من كلّ جانب، وفاضت ينابيع الأرض فإنّ الماء ليجول ويصول في ساحتها، وربّما ارتفعت إلى عشرات الأمتار، وفي مثل هذا الخِضمّ من الماء الهائم - والذي في عرضة الطوفان - وهبوب رياح عاصف لابدّ أنّ تحصل أمواج عالية وعاتية تلوي على كلٍّ شيء.

ولابدّ أنّ ابن نوح كان واقفاً على مرتفع من الأرض ليرى تجوال السفينة على وجه الماء، وحينما كلّمه أبوه - وهو راكبٌ في السفينة - لمْ يعبأ بنُصح أبيه، وأنّه سوف يأوي إلى أعالي الجبال، لكنّه غافلٌ أنّ السيول الهائمة المـُنحدرة على سفوح الجبال سوف تلوي به إلى أعماق الغَرق، وبالفعل نزلت به النازلة وحال بينه وبين أبيه الموج فكان من الهالكين.

وليس في ذلك دلالة على أنّ الماء سوف يرتفع على قِمم الجبال الشامخة في كلّ مناحي الأرض.

وهكذا رجّح العلاّمة الشعراني أنّ الماء لم يرتفع في أرض الطوفان (هضبة ما بين النهرين) أكثر من عشرين أو ثلاثين متراً، ممّا لا يمكن غشيانه قُلَل جبال رفيعة كقُلّةِ آرارات من سلسلة جبال جودي (2) .

____________________

(1) هود 11: 42 و 43.

(2) معجم لغات القرآن للعلاّمة أبي الحسن الشعراني (ملحق تفسير أبي الفتوح الرازي، ج 11، ص 144).

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

تاريخ الشيعة، ولما نقله السيد الأمين عن مجالس المؤمنين، وللدكتور فيليب حتي في كتابه «لبنان في التاريخ»، قال الأمين في الجزء الأول من الأعيان:

«جاء في مجالس المؤمنين أن تجلي أنوار الرحمة الإلهية شامل لأهل جبل عامل، ونور المحبة من نواحي إيمانهم ظاهر، ولا توجد قرية من قراه لم يخرج منها جماعة من الفقهاء والفضلاء الإمامية، وجميع أهله من الخواص والعوام، والوضيع والرفيع يجدون في تعليم وتعلم المسائل الاعتقادية، والأحكام الفرعية على طبق مذهب الإمامية، وفي التقوى والمروءة والفقر والقناعة، يقتدون بطريقة مولاهم المرضية، ومع تسلط الغير عليهم لهم همة في نشر مذهبهم».

أما الشيخ المظفر فقد خص العامليين بعديد من الصفحات نقتطف منها ما يلي:

«جد العامليون في تحصيل علم أهل البيت (ع)، حتى بالهجرة إلى إيران والعراق، فتخرج منهم علماء استفاد الشيعة بمؤلفاتهم إلى اليوم، وطبقوا البلاد شهرة وصيتاً. وقال الشيخ الحر صاحب أمل الآمل: «سمعت من بعض مشائخنا أنه اجتمع في جنازة في قرية من قرى جبل عامل سبعون مجتهداً في عصر الشهيد الثاني وما قاربه. وهذا في ذاك العصر، أما بعده، حتى اليوم فقد انجبت جبل عامل أفاضل وعلماء يعسر استقصاؤهم، ويوجد فيهم اليوم مراجع للتقليد، وفيهم من له الميزة في الدفاع عن مذهب آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ».

وقال الدكتور حتي في «لبنان في التاريخ» ص ٤٩٨ طبعة ١٩٥٩(١) :

«إن حجباً كثيفة تحجب عنا حياة الشيعة في لبنان، ولكن من وراء هذه الحجب تبرز أمامنا ناحية مشرقة، لها مغزاها البعيد(٢) وتدل على أن هذه الجالية لم تقطع أسباب العلم، بل احتفظت به على صعيد عالٍ عند منصرم القرن السادس عشر، عندما جعل الشاه إسماعيل مؤسس الدولة الصفوية في إيران دين الدولة الرسمي المذهب الشيعي، وجد أنه من العسير أن يوفر للناس أئمة يعلمونهم حقيقة المعتقد، ويرسخون مبادئه في نفوسهم. ووجد أيضاً أن الكتب غير متوافرة، فعمد إلى ملء الفراغ باستحضار علماء الشيعة من لبنان - أي من جبل

_____________________

(١) طبع الكتاب بالإنكليزية، وترجم إلى العربية.

(٢) المغزى البعيد هو الذي تساءلنا عنه فيما تقدم.

١٨١

عامل - وقد غادر لبنان جمهور من أولئك العلماء، وذهبوا إلى إيران بدعوة أو بغير دعوة، وقد كان من جملة من ذهب حسين العاملي الذي غادر جبل عامل عندما قتل الأتراك أستاذه زين الدين الذي أصبح يعرف بين قومه بالشهيد الثاني.

وكان الشهيد الأول شمس الدين العاملي الذي قتل في دمشق سنة ١٣٨٤ م بموجب فتويين أصدرهما القاضي المالكي، والقاضي الشافعي، وكان حسين قد أخذ معه ابنه الأصغر بهاء الدين العاملي - الشيخ البهائي - وقد فاق أباه علماً وشهرة، فإنه كان فقيهاً وفيلسوفاً وعالماً في الرياضيات، وقد رفع إلى رتبة شيخ الإسلام حيث كان من ألمع الشخصيات في بلاط الشاه عباس».

بعلبك:

قال السيد الأمين: لا يعلم مبدأ التشيع في بعلبك، وكان يغلب عليها التسنن، وفي أيام الحرافشة غلب التشيع على أهلها.

وقال الشيخ المظفر: هي اليوم مع سائر قراها وضواحيها تعد من بلاد الشيعة الشهيرة بالتشيع، وشيعتها تناهز الشيعة في جبل عامل كثرة(١) غير أنها لا تضاهيها في المعارف الدينية، فإنه لا يزال في النجف الأشرف من العامليين المهاجرين لطلب العلم ما يناهز الثمانين طالباً. ولا يوجد من البلاد البعلبكية أكثر من اثنين أو ثلاثة».

جبل لبنان:

ويحده شمالاً طرابلس، وجنوباً جبل عامل، وغرباً بيروت والبحر، وشرقاً بعلبك والبقاع، ويدخل فيه كسروان وضواحي بيروت، وهي برج البراجنة، وبرج حمود، والغبيري، والشياح، ويربو عدد الشيعة في بيروت وضواحيها وكسروان على ١٥٠ ألفاً، أما عددهم في مجموع لبنان فلا يقل عن نصف مليون، ولشيعة جبل لبنان نائبان في البرلمان ولشيعة بيروت نائب واحد.

_____________________

(١) شيعة جبل عامل ثلاثة أضعاف شيعة بعلبك من حيث العدد، والآن يمثل شيعة بعلبك في البرلمان أربعة نواب، ويمثل شيعة جبل عامل أحد عشر نائباً.

١٨٢

تبت:

قال السيد الأمين: فيها عدد كبير من الشيعة، وفيهم علماء يتعلمون العلوم الدينية في الهند وفي النجف الأشرف، ورأيت بعض حجاجهم بدمشق، فسألتهم عن حال الشيعة عندهم، فقالوا: إن عددهم يزيد آناً فآناً.

حمص:

ومنها الشاعر الشهير ديك الجن، وكان شيعياً، توفي سنة ٢٣٥ هجري، ويدل هذا على أن التشيع دخلها منذ زمن وقال السيد الأمين: وفي عصرنا هذا تشيع جماعة كثيرون منهم لأنفسهم بأنفسهم، ويوجد حوالي حمص عدة قرى، أهلها شيعة إمامية، منها الغور، والدلبوز، وتل الأغر، وغيرها.

حلب:

قال السيد الأمين: دخلها التشيع قبل عهد الحمدانيين، وانتشر وقوي على عهدهم، ثم توالى حكام الجور على حلب، واشتد ضغطهم وفتكهم بالشيعة، وأغروا بالشيعة السفلة من السنة، حتى فعلوا من المخازي والقبائح ما تسود له وجه الإنسانية، ويخجل القلم عن نقله. وكان ابتداء الضغط أوائل القرن السادس، واشتد في القرن السابع، وتناهى في القرن العاشر، حتى لم يعد أحد يجهر بالتشيع خوفاً على دمه وعرضه، وماله، ولم يزال يوجد في حلب عدة بيوت معلومة يقذفهم بعض الناس بالرفض والتشيع، ويوجد في جهات حلب قرى، أهلها شيعة من قديم الزمان إلى اليوم، وهي الفوعة، ونبل، والنغاولة، وكفريا.

الكويت وعمان ومسقط:

للشيعة بالكويت كلمة مسموعة، وتأثير بالغ، ولهم قاضٍ شرعي خاص بهم يختاره المرجع في النجف الأشرف، وتعينه الحكومة بناء على اختياره، ولهم العديد من الحسينيات، ويقصدهم أهل العلم من العراق وجبل عامل، أما عمان ومسقط ودبي فقال الشيخ المظفر: إن فيها الكثير من الشيعة، ولهم الحرية المذهبية الكاملة، ولا يزال بين ظهرانيهم أفراد من أبناء العلم للإرشاد وتعليم الأحكام، ويفد عليهم كثير من رجال الدين، وأرباب المنابر الحسينية.

١٨٣

الحجاز:

يوجد شيعة في مكة المكرمة، والمدينة المنورة، حتى الآن، ومن القبائل الشيعية في الحجاز بنو جهم، وبنو علي، وبعض بني عوف، كما يوجد في رساتيقها كالعوالي.

اليمن:

أسلم أهل اليمن في أيام الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى يد علي أمير المؤمنين، وبني أول مسجد في اليمن باسمه، وقال ابن عباس للحسين (ع) حين أراد الخروج إلى العراق: اذهب إلى اليمن، فإن لأبيك بها شيعة، وقال الإمام يمدح قبيلة همدان اليمنية:

ولو كنت بواباً على باب جنة

لقلت لهمدان ادخلي بسلام

وخرج من العلويين أكثر من واحد في اليمن، وفيها كثير من الاثني عشرية، وأكثر أهلها من الزيود.

روسيا والصين:

قال الشيخ المظفر: يبلغ عدد الشيعة في الصين ١١ مليوناً، وفي روسيا ١٠ ملايين.

الهند:

يرجع الفضل في انتشار التشيع في بلاد الهند إلى الصفويين، وعن بعض المستشرقين أنه لولا الأقدار التي جنت على الصفويين لكانت السلطة في الهند اليوم بيد الشيعة. قال الشيخ المظفر: ليس في الهند بلد إلا وفيه ناس من الشيعة، وهناك بلاد تختص بهم، وأخرى هم الأكثرية فيها، وهذه أسماء بعض تلك البلاد: لكنهور، وهي المرجع الوحيد للاثني عشرية، ولهم فيها مدارس وكليات وجامعات، وجانبور، وأمروها، وبنتا، وإله باد، ومظفر بور، ولاهور، وبنجاب، وبنارس، وفيض آباد، وسهارن بور، وغيرها كثير.

١٨٤

طرابلس وبنو عمار:

بنو عمار شيعة، وأصلهم من المغرب، جاءوا منها إلى مصر مع الفاطميين، وتولوا الإمارة والقضاء في طرابلس الشام من قِبَل الحاكم الفاطمي، وبقيت بأيديهم نحواً من ٨٠ سنة، حتى انتزعها منهم الصليبيون سنة ٥٠٢ هجري، وكان أهلها في ذلك العصر شيعة اثني عشرية، قال المستشرق آدم متز في الجزء الأول من «الحضارة الإسلامية »: «وإذا كان ناصر خسرو قد وجد أهل طرابلس في عام ٤٢٨ هجري شيعة فقد جاء ذلك من أن بني عمار كانوا هناك على مذهب التشيع».

أما المؤسس لإمارة بني عمار في طرابلس فهو أبو طالب أمين الدولة بن عمار أعلن نفسه حاكماً على المدينة حين توفي الحاكم الفاطمي، وأنشأ مكتبة تحوي مائة ألف مجلد، واستمال طلاب العلم إلى عاصمته، فكان عمله هذا شبيهاً بما قام به سيف الدولة في حلب، وكان من جملة من قصد مكتبته أبو العلاء المعري، وهكذا بلغت طرابلس أثناء حكم بني عمار الذروة في الشهرة العلمية، وفي الازدهار الاقتصادي.

ومن علماء الشيعة الطرابلسيين القاضي الشيخ عبد العزيز بن البراج، تلميذ السيد المرتضى والشيخ الطوسي، وله مؤلفات جليلة، منها المهذب، والموجز والكامل والجواهر وعماد المحتاج. ثم انعدم التشيع من طرابلس، بسبب الضغط والاضطهاد، ويوجد في نواحيها اليوم بعض القرى الشيعية(١) .

أندنوسيا:

وفيها اليوم عدة ملايين من الشيعة الاثني عشرية، ويكاتبون ويستفتون علماء العراق وإيران وجبل عامل، وفي العام الماضي طلبوا من المرجع في النجف الأشرف عالماً يعلمهم الدين وأحكامه، فاختار لهم بعض الفضلاء، وهو

_____________________

(١) أعيان الشيعة ج ٢٢، والكنى والألقاب للقمي، ولبنان في التاريخ لفيليب حتي، والكامل لابن الأثير ج ٨، والنجوم الزاهرة ج ٧، والحضارة الإسلامية لآدم متز.

١٨٥

اليوم يقيم بين ظهرانيهم، وفقه اللّه وأخذ بيده، وفي سنة ١٩٥٦ زارني أحدهم، وحدثني مفصلاً عن حياتهم ومحافظتهم على الشعائر المذهبية، وبخاصة إقامة العزاء لسيد الشهداء.

بلدان أخرى:

وهناك بلدان أخرى غير هذه لم يذكرها صاحب الأعيان، وصاحب تاريخ الشيعة، رغم أنهما بحثا وتتبعا المصادر العربية والأجنبية. ذلك أن الطرق الفنية للإحصاء لم تتهيأ لهما، ولا لغيرهما، حتى الآن ولا مستند لهما إلا الكتب الموضوعة منذ القديم في أحوال الأقاليم، أو السماع من عابر. وبديهة أن تلك الكتب لا تتضمن الأخبار عن جميع البلدان وعدد السكان، وأديانها ومذاهبها.

أما الأخذ بقول قائل والسماع من عابر فلا يغني عن الحق فإن الذين يعرفون عدد السكان في بلدهم أقل من القليل - إن صح التعبير - فأنا الآن أقيم في بيروت منذ ١٥ سنة، ولا أعرف عدد سكانها على التحقيق، وسكنت قبلها بقرية صغيرة ١٠ سنوات. وبقيت طوال هذه المدة أجهل عدد أهلها إلا على سبيل التقريب.

ولقد قرأت الكثير عن الجزائر، وما رأيت ولا سمعت من أحد أن فيها شيعة، حتى أخبرني من لا أشك بصدقه أن في جبالها، وسائر جبال البربر قبائل من الشيعة، وأنه اجتمع بأحدهم، وتوطدت الصداقة والعلاقة بينه وبينه. وأخبره عن أحوالهم وعاداتهم. وأيضاً أخبرني أكثر من واحد أنه يوجد في السودان شيعة، وفي سنة ١٩٦٢ مر ببيروت حجاج من السودانيين، ورأيتهم يبحثون في مكاتبها التجارية عن الكتب الشيعية، فساعدتهم وأهديتهم بعضها، فسروا وشكروا.

وفي آخر الجزء الأول من أعيان الشيعة نقلاً عن كتاب حاضر العالم الإسلامي ودائرة المعارف الإسلامية أن بلداً في إفريقيا يدعى هرار كان تابعاً لمصر سنة ١٨٧٥، ثم تبع الحبشة سنة ١٨٨٧ جميع أهله شيعة، ويبلغ عددهم ٥٠ ألفاً، وغير بعيد أن يكون هؤلاء من الإسماعيلية المنحرفة، لا من الشيعة الإمامية، قال أبو زهرة في كتاب الإمام الصادق ص ٥٤٩:

١٨٦

«انتشر الشيعة في وسط إفريقيا في البلاد الإسلامية، كنجيريا، وبلاد الصومال، وبلاد السنغال، وغيرها من البلاد الإفريقية، وأكثر هؤلاء من الإسماعيلية المنحرفة، وليسوا من الاثني عشرية، ولا من طائفة الإسماعيلية المعتدلة، كالبهرة الذين يقيمون بالهند وباكستان»(١) .

وبالتالي، فإن التشيع قد عم وانتشر في أكثر البلدان الإسلامية، وكانت لهم الغلبة في الكثرة والعدد على سائر الفرق، أو ليسوا بأقل من غيرهم، ثم انحسر التشيع في كثير من الأقاليم بسبب ضغط الحكام ومقاومتهم، وتعصب إخوانهم السنة. ورغم ذلك كله فإنهم اليوم منتشرون في طول الأرض وعرضها، ويعدون من الفرق الكبرى، وقد ظهر ذلك مما تقدم، مع العلم بأن ما ذكرت من بلدانهم إنما هو الأظهر والأشهر، أما استيعاب الأقاليم كاملة، وإحصاء العدد حقيقة فما وجدت إليهما سبيلاً، ولن أجده، حتى مع الحرص والاجتهاد.

ونختم هذا الفصل بتلخيص موجز لما ذكره الشيخ أبو زهرة في آخر كتاب «الإمام الصادق» بعنوان «نمو المذهب الجعفري ومرونته»، قال:

لقد نما هذا المذهب وانتشر لأسباب:

١ - إن باب الاجتهاد مفتوح عند الشيعة، وهذا يفتح باب الدراسة لكل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، والنفسية.

٢ - كثرة الأقوال في المذهب - أي في المسائل الفقهية النظرية - واتساع الصدر للاختلاف ما دام كل مجتهد يلتزم المنهاج المسنون، ويطلب الغاية التي يتغياها من يريد محص الشرع الإسلامي خالطاً غير مشوب بأية شائبة من هوى.

٣ - إن المذهب الجعفري قد انتشر في أقاليم مختلفة الألوان من الصين إلى بحر الظلمات، حيث أوروبا وما حولها، وتفريق الأقاليم التي تتباين عاداتهم وتفكيرهم وبيئاتهم الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية. إن هذا يجعل المذهب كالنهر الجاري في الأرضين المختلفة الألوان، يحمل في سيره ألوانها واشكالها من غير أن تتغير في الجملة عذوبته.

_____________________

(١) زارني اليوم ٦ / ٤ / ٦٤ رجلان من كينيا أحدهما اسمه أصغر علي محمد جعفر، والثاني اسمه حسين حبيب، وقال لي الأول، وهو يتقن العربية: إن في كينيا ودار السلام وأوغندا عشرين ألف نسمة من الجعفريين، وإنهم يقلدون في أمور دينهم المرجع في النجف الأشرف، ويعملون برسالته، وإن لهم لجنة تجمعهم وتعمل على بث التعاليم الجعفرية واسمها لجنة الاتحاد القومية الوطنية، ومقرها آروشيا في طنجنيقا.

١٨٧

٤ - كثرة علماء المذهب الذين يتصدون للبحث والدراسة وعلاج المشاكل المختلفة، وقد آتى اللّه ذلك المذهب من هؤلاء العلماء عدداً وفيراً عكفواً على دراسته، وعلاج المشاكل على مقتضاه.

هذه حقيقة نطق بها الشيخ أبو زهرة، وفي الكتاب أمثلة كثيرة لعلمه وإنصافه، كما أن فيه موارد للنقد والنظر. أشرت إلى بعضها فيما تقدم من هذا الكتاب، وفي كتاب المجالس الحسينية، وإني لاعترف له وللشيخ شلتوت رئيس الأزهر والشيخ المدني عميد كلية الفقه بمزايا حميدة على كثير من شيوخ الأزهر، أمثال الحفناوي صاحب كتاب «أبو سفيان» ومحب الدين الخطيب منفذ «الخطوط العريضة» وغيره من الذين كفروا الشيعة، إطلاقاً، وتحدثوا عنهم بروح الدس والعداء، حتى جعلونا نغض الطرف عن كل خطيئة إلا التكفير والخروج عن دين الإسلام.

إن مواقف الخطيب من الشيعة، ومن إليه لا يمت إلى العلم والدين بسبب، أما موقف الشيخ أبي زهرة فهو موقف مذهبي يشوبه - كما هو المعتاد - شيء من التعصب الذي يباعد بين الأخوين، إلا أنه لا يبلغ مرحلة التكفير، والحمد للّه. هذا، إلى أن الشيخ أبا زهرة لم يرض في كتابه جماعة من السنة، كما أنه لم يرض الكثير من الشيعة.

في سنة ١٩٦١ اجتمعت بالشيخ أبي زهرة في دمشق، حيث اشتركنا معاً في مهرجان الغزالي، فقال لي فيما قال: حين ألفت كتاب «الإمام الصادق» كنت على علم اليقين بأنه سيغضب السنة والشيعة معاً، لأني لم أقل ما يريد أولئك، ولا كل ما يريد هؤلاء.

فقلت له: نحن نرحب بكل نقد من أية جهة أتى، على شريطة أن يكون بدافع الإخلاص، متحرراً من رواسب الماضي ومخلفاته. ولا أخفي القارئ أني شعرت بالتقدير لشخصه، رغم أني لا أوافقه على كثير من آرائه، وكنت - قبل أن نلتقي - انتقدته في بعض مؤلفاته، ورددت عليه بمقال مطول ومفصل، وكان حين يقدمني لمعارفه يقول: هذا الذي رد علي وانتقدني.

وبالختام يكفي أن نتذكر ما كتبته الأقلام المأجورة عن الشيعة والتشيع لنكبر ونقدر الشيخ ابا زهرة في كتابه «الإمام الصادق».

١٨٨

النَبيّ وَالزهرَاء وَالأئِمَّة الاثنَا عَشَر محَمَّد المصْطفى

- أبوه: عبد اللّه، وجده لأبيه عبد المطلب، وأمه آمنة، وجده لأمه وهب.

- أعمامه تسعة: الحارث، والزبير، وأبو طالب، واسمه عبد مناف، وحمزة، والغيداق، وضرار، والمقوّم، وأبو لهب واسمه عبد العزى، والعباس، وجميع أعمامه إخوة لأبيه من جهة الأب فقط، ما عدا أبا طالب فإنه أخ لأبيه من جهة الأب والأم.

- عماته ست: أميمة، وأم حكيم، وبرة، وعاتكة، وصفية، وأروى.

- ليس لآمنة بنت وهب أخ أو أخت ليكون للنبي خالاً أو خالة، ولم تلد آمنة غيره، ليكون هو عماً أو خالاً لغيره.

- أبناء عمه: لم يعقب من أعمامه التسعة إلا أربعة: الحارث، وأبو طالب، والعباس، وأبو لهب، وأبناء أبي طالب أربعة: طالب، وعقيل، وجعفر، وعلي، وأبناء الحارث خمسة: أبو سفيان، والمغيرة، ونوفل، وربيعة، وعبد شمس، وقد سماه النبي عبد اللّه، وأبناء العباس تسعة: عبد اللّه وعبيد اللّه والفضل وقثم، ومعبد، وعبد الرحمن، وتميم، وكثير، والحارث. وأبناء أبي لهب أربعة: عتيبة، ومعتب، وعتبة، وعقبة، وأمهم أم جميل أخت أبي سفيان، فالمجموع ٢٢ من الذكور.

- ويلتقي نسب النبي مع نسب أبي سفيان عدوّه الألد في عبد مناف، فإنه جد لجد النبي، وفي الوقت نفسه جد لجد أبي سفيان. فالنبي هو محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. وأبو سفيان هو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.

- ولد النبي بعد وفاة أبيه بالمدينة، وكانت ولادته يوم الجمعة عند طلوع الشمس في السابع

١٨٩

عشر من ربيع الأول، عام الفيل وأيام ملك الفرس أنو شروان(١) .

- عاش ثلاثاً وستين سنة، منها ٦ سنوات مع أمه، و ٨ مع جده عبد المطلب، و٤٢ مع عمه أبي طالب، منها ١٧ في بيته، وحوالي ٢٥ في بيت خديجة زوجته الأولى، وبقي بعد عمه في مكة ٣ سنوات، وفي المدينة ١٠ سنوات.

- بعث في اليوم السابع والعشرين من رجب، وله من العمر ٤٠ سنة.

- زوجاته: اختاره اللّه، وعنده تسع: عائشة، وحفصة، وام سلمة، وام حبيبة، وزينب بنت جحش، وميمونة، وصفية، وجويرية، وسودة، وكان قد تزوج زينب بنت خزيمة الهلالية، وماتت قبله، وأول زوجاته وسيدتهن السيدة خديجة، تزوجها، وهو ابن ٢٥ سنة، وهي بنت ٤٠، ولم يتزوج غيرها، حتى ماتت، وبقي بعدها سنة بدون نساء، وتزوج غير من ذكرنا، وحصل الفراق بينه وبينهن قبل الدخول، هذا، وكان عنده من السراري غير الزوجات مارية القبطية أم ولده إبراهيم، وميمونة بنت سعد، وأميمة، وريحانة بنت زيد من بني النضير.

- أولاده: جاءه ثلاثة ذكور، وأربع إناث، والذكور هم القاسم، وعبد اللّه من السيدة خديجة، وإبراهيم من مارية القبطية، وماتوا أطفالاً. والإناث زينب، وأم كلثوم، ورقية، وفاطمة، أسلمن وتزوجن، ثم توفين في حياته ما عدا الزهراء سيدة النساء.

غزواته:

كان النبي يبعث إلى أرض العدو بالسرية من ثلاثين فارساً، أو ستين، أو أكثر أو أقل، لتستطلع حال المشركين، وتأتيه بالأخبار، فتذهب السرية لغايتها، وربما حدث بينها وبين العدو مناوشات، وقد تعود دون أن يحدث شيء. وكان يعبئ المسلمين للحرب بقيادته - أحياناً - وبقيادة بعض الأصحاب - حيناً - ويبقى هو في المدينة، كما حدث في غزوة مؤتة، وقد يعود الجيش بدون قتال، أو تقع الحرب بينه وبين المشركين، حسب الظروف والمقتضيات.

_____________________

(١) المشهور عند السّنة أنه ولد في ١٢ ربيع الأول، ووافقهم بعض علماء الشيعة، والمشهور عند الشيعة أنه ولد في ١٧ منه، ووافقهم بعض علماء السّنة.

١٩٠

وجميع غزواته ٦٢، منها ٣٦ لم يخرج النبي معها، و٢٦ كان معها، والغزوات التي حدث فيها قتال بقيادته تسع: بدر، وأحد، والخندق، وبنو قريضة، والمصطلق، وخيبر، وفتح مكة، وحنين، والطائف.

كتاباته إلى الملوك:

كتب النبي إلى ملوك زمانه يدعوهم إلى الإسلام، ولما وصل كتابه إلى النجاشي ملك الحبشة وضعه على عينيه، ونزل عن سريره تواضعاً، وأسلم.

أما قيصر ملك الروم فأيقن بالحق. واعتقد أن محمداً رسول من عند اللّه، وأراد أن يسلم، فخاف قومه، وآثر الملك.

أما كسرى ملك الفرس فمزق الكتاب، وطرد رسول النبي، فتمزق ملكه، وطرد منه.

وأما المقوقس ملك القبط في مصر فكتب إلى النبي جواباً قال فيه: قد أكرمت رسولك، وأهديت إليك جاريتين، لهما مكان عظيم في القبط، وكسوة وبغلة تركبها، ولم يسلم، والجاريتان هما مارية القبطية، تزوجها النبي، وولدت له إبراهيم، والثانية سيرين، وهبها النبي لشاعره حسان بن ثابت.

وممن كتب له الحارث الغساني، وكان في سورية تابعاً لملك الروم، فأراد أن يجيّش الجيوش، ويحارب النبي، فنهاه سيده قيصر.

وكتب النبي إلى هوذة صاحب اليمامة، فاشترط لإسلامه أن يجعل له النبي شيئاً، فرفض وبقي هوذة على الكفر.

وكتب إلى جيفر وعبد ابني الجلندي، وهما أميرا عمان في اليمن، فأسلما.

وكتب إلى المنذر العبدي بالبحرين، فأسلم وحسن إسلامه.

اخباره بالغيب:

تواتر الأحاديث من طرق السنة والشيعة أن النبي أخبر عن أشياء تحدث بعده، فحدثت بكاملها على ما قال، منها اخباره عن عائشة وكلاب الحوأب، ومنها أن الفئة الباغية تقتل عماراً برئاسة معاوية، ومنها اخباره بقتل الحسين وحجر بن عدي، ومنها اخباره أن ابن عباس يفقد

١٩١

بصره في كبره، وكذلك زيد بن أرقم، ومنها قوله سيكون في هذه الأمة الوليد(١) وهو شر لامتي من فرعون لقومه، وقوله إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً اتخذوا دين اللّه دغلاً، وعباد اللّه خولاً، ومال اللّه دولاً، ومنها أخباره بأن الإرضة أكلت ما كان في الصحيفة التي كتبتها قريش ضد بني هاشم، وعلقتها بالكعبة، ومنها أن العرب ينتصرون على الفرس، ومنها قوله لعلي ستخضب هذه من هذه، إلى غير ذلك.

من أخلاقه:

كان يجلس على الأرض، وينام عليها، ويخصف النعل، ويرقع الثوب بيده، ويحلب الشاة، ويعقل البعير، ويطحن مع الخادم، وكان يعصب الحجر على بطنه من الجوع ويأكل ما يجد، ويلبس ما يجد، ويركب ما أمكنه من فرس، أو بعير، أو بغلة، أو حمار، ويردف خلفه، وربما ركبه عارياً بلا سرج، ويمشي راجلاً، ويجالس الفقراء، ويؤاكل المساكين، وكان لا يثبت بصره في وجه أحد، يغضب لربه، ولا يغضب لنفسه، وكان أكثر الناس تبسماً، وربما ضحك من غير قهقهة، ولم يكن شيء أبغض إليه من الكذب إلى غير ذلك من الفضائل، وكريم الشمائل.

وفاته:

اختاره اللّه إليه يوم الإثنين ٢٨ صفر سنة ١١ هجري، وتولى غسله وتجهيزه أخوه ووصيه علي أمير المؤمنين.

_____________________

(١) فكان الوليد بن يزيد.

١٩٢

الزَّهرَاء

- هي فاطمة بنت محمد سيدة نساء العالمين، وأمها خديجة بنت خويلد أم المؤمنين.

- ولدت بمكة يوم الجمعة ٢٠ جمادى الآخرة بعد النبوة بخمس سنين.

- وهي أصغر بنات الرسول، وأحبهن إليه، وانقطع نسله إلا منها.

- صفاتها: كانت كأبيها في خُلقه وخلقه، ومن هنا قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها أغضبني (صحيح البخاري، وصحيح مسلم). وقال: إن اللّه يرضى لرضاها، ويغضب لغضبها (المستدرك للحاكم، والإصابة لابن حجر). ونقلت الماء في القربة، حتى أثرت في صدرها، وطحنت بالرحى، حتى تورمت يداها، وكنست البيت، حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر، حتى اسودت ملابسها.

- زوّجها النبي علياً على خمسمائة درهم، وولدت له الحسن والحسين، وزينت وأم كلثوم.

توفيت في ٣ جمادى الآخرة سنة ١١ هجري، فعاشت بعد أبيها ٩٥ يوماً، وغسلها وجهزها أمير المؤمنين، وأعانته على غسلها أسماء بنت عميس، وصلى هو عليها، والحسن والحسين، وسلمان وأبو ذر وعمار والمقداد وعقيل، والزبير وبريدة، ونفر من بني هاشم، ودفنها الإمام سراً في جوف الليل بوصية منها.

١٩٣

أمِيرُ المؤمنِين

- أبوه أبو طالب كفيل النبي ومربيه وحاميه(١) وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وكانت من رسول اللّه بمنزلة الأم، لأنه ربي في حجرها، وهو ابن ثماني سنين، وكانت من سابقات المؤمنات إلى الإيمان، وهاجرت مع رسول اللّه إلى المدينة، وكفنها النبي عند موتها بقميصه ليدرأ به عنها هوام الأرض، وتوسد في قبرها لتأمن من ضغطة القبر، ولقنها حجتها.

- ولد بمكة في البيت الحرام يوم الجمعة ١٣ رجب بعد عام الفيل بثلاثين سنة، ولم يولد قط في بيت اللّه مولود سواه، لا قبله ولا بعده، وهذه فضيلة خصه بها اللّه إجلالاً لمحله ومنزلته، وإعلاء لقدره.

- حضر حروب النبي بكاملها ما عدا غزوة تبوك التي لم يلقَ المسلمون فيها كيداً، وقد استخلفه النبي على المدينة، وقال له: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.

- أزواجه وأولاده: تزوج فاطمة الزهراء، وولدت له الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم.

وتزوج بعدها بنساء كثيرات، منهن:

١ - إمامة بنت أبي العاص، وأمها زينب بنت رسول اللّه، وولدت له محمداً الأوسط، قتل في كربلاء.

٢ - خولة الحنفية، وولدت له محمداً الأكبر المعروف بابن الحنفية.

٣ - أم حبيبة بنت ربيعة ولدت له عمر ورقية.

٤ - أم البنين الكلابية، ولدت له العباس وجعفراً وعبد اللّه وعثمان، قتلوا

_____________________

(١) تكلمنا عنه وعن إسلامه في كتاب «مع بطلة كربلاء».

١٩٤

في كربلاء.

٥ - ليلى الدارمية، ولدت محمداً الأصغر المكنى بأبي بكر، وعبد اللّه، قتلا في كربلاء.

٦ - أسماء بنت عميس، ولدت له يحيى وعوناً.

٧ - أم مسعود الثقفية، ولدت أم الحسن ورملة.

وتزوج غير هؤلاء، ورزق منهن بناتاً، وهن: نفيسة، وأم هاني، ورقية الصغرى، وأم الكرام، وجمانة، وأمامة، وأم سلمة، وميمونة، وخديجة، وفاطمة.

ومجموع أولاده ٢٧، منهم ١٤ ذكراً، والباقي إناث. وكان عنده يوم استشهاده اثنتان وعشرون، منهن ٤ زوجات، و١٨ أمهات أولاد.

بعض خصائصه:

١ - السابق إلى الإسلام.

٢ - ولد في الكعبة.

٣ - تربى منذ صغره في حجر رسول اللّه.

٤ - مؤاخاته مع النبي.

٥ - إن النبي حمله، حتى طرح الأصنام من الكعبة.

٦ - إن ذرية رسول اللّه منه.

٧ - إن النبي تفل في عينيه يوم خيبر، ودعا له بأن لا يصيبه حر ولا قر.

٨ - إن حبه إيمان، وبغضه نفاق.

٩ - إن النبي باهل النصارى به وبزوجته وأولاده دون سائر الأصحاب.

١٠ - بلغ سورة براءة عن النبي.

١١ - إن النبي خصه يوم الغدير بالولاية.

١٢ - إنه القائل سلوني قبل أن تفقدوني.

١٩٥

١٣ - خاصف النعل.

١٤ - إن النبي خصه بتغسيله وتجهيزه والصلاة عليه.

١٥ - إن الناس جميعاً من أرباب الأديان وغيرهم ينظرون إليه كأعظم رجل عرفه التاريخ.

١٦ - إن له كتاباً، وهو نهج البلاغة، دون غيره من الأصحاب، إلى غير ذلك مما أتينا على شيء منه في كتاب «علي والقرآن» وكتاب «أهل البيت».

استشهاده:

قبض ليلة الجمعة، لتسع بقين من شهر رمضان المبارك سنة ٤٠ هجري قتيلاً بسيف عبد الرحمن بن ملجم. وكان سنه يوم استشهد ٦٣ سنة، قضى مع رسول اللّه ٣٣، منها ١٠ قبل النبوة، و١٣ في مكة قبل الهجرة، و١٠ في المدينة بعد الهجرة، وعاش بعد النبي ٣٠ سنة إلا خمسة أشهر، وأياماً، ومدة خلافته خمس سنين، وثلاثة أشهر، وسبع ليال، وتولى غسله وتجهيزه الحسن والحسين، وحملاه إلى النجف، ودفناه هناك ليلاً، وعميا موضع قبره بأمر منه، فلم يزل مخفياً، حتى دل عليه الإمام الصادق في الدولة العباسية(١) .

_____________________

(١) كتاب أعلام الورى للطبرسي صاحب مجمع البيان.

١٩٦

الإمَام الحَسَن

- هو السبط الأول لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والامام الثاني من أئمة أهل البيت، ورابع أصحاب الكساء، وأحد ريحانتي النبي، وسيدي شباب أهل الجنة.

- ولد بالمدينة ليلة النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة، وجاءت به أمه الزهراء إلى أبيها رسول اللّه، فسماه حسناً، وهو أول من سمي بهذا الاسم.

زوجاته:

منهن خولة بنت الغزارية، وأم إسحق بنت طلحة، وأم بشر الأنصارية، وجعدة بنت الأشعث التي سقته السم، وغيرها.

وروى الرواة أن الامام الحسن كان كثير الزواج، وليس هذا بغريب، فقد عدّ أهل السِير لجده المصطفى أكثر من عشرين امرأة، واستشهد أبوه أمير المؤمنين، وعنده ٢٢، ولكن الغريب أن تحاك حول زواجه الروايات التي لا أساس لها ولا أصل. لا لشيء إلا للنيل من مقامه الشريف، من ذلك أنه كان إذا رأى جمعاً من النسوة يقول لهن: من منكن تأخذ ابن بنت رسول اللّه ؟ فيجبنه بصوت واحد: كلنا مطلقات ابن بنت رسول اللّه.

وأي عاقل يصدق مثل هذا على الإمام الزكي الذي له عقل جده محمد المصطفى، وأبيه علي المرتضى ؟! أي عاقل يصدق أن الإمام الحسن كان يقف على قارعة الطريق، وينادي معلناً عن نفسه ورغبته في الزواج والنكاح ؟ وأغرب من كل ذلك جواب النسوة كلنا مطلقات ابن بنت رسول اللّه. متى تزوج بهذه الكثرة الكثيرة ؟! ومتى طلقهن ؟! وكيف اجتمع مطلقاته كلهن في مجلس واحد ؟! وكيف خفين عليه، ولم يعرف حتى ولا واحدة منهن، وبالأمس كن في بيته، وعلى فراشه ؟! حقاً إن واضع هذه الاكذوبة قد بلغ الغاية من الجهل والرعونة، وأجهل منه من يصدق أمثال هذه الأكاذيب.

- أولاده: كان له ١٥ ولداً ما بين ذكر وأنثى، وهم: زيد، وأم الحسن، وأم الحسين، وأمهم أم بشير الأنصارية، والحسن، وأمه خولة الفزارية، وعمر، والقاسم، وعبد اللّه، وأمهم أم ولد، والحسين الملقب بالأثرم، وطلحة، وفاطمة، وأمهم أم إسحق بنت طلحة، وأم عبد اللّه، وأم سلمة، ورقية لأمهات شتى، ولم يعقب منهم غير الحسن وزيد.

١٩٧

- بويع بالخلافة سنة ٤١ هجري، وله من العمر ٣٧ سنة، وأقام في خلافته ستة أشهر، وثلاثة أيام، حيث وقع الصلح بينه وبين معاوية خوفاً على نفسه، بعد أن تبين له أن جماعة من رؤساء أصحابه كتبوا سراً إلى معاوية، وضمنوا له أن يسلموه إليه عند دنو العسكرين.

- وفاته: توفي سنة ٥٠ هجري، وسبب وفاته أن معاوية دس له سماً على يد زوجته جعدة بنت الأشعث، وضمن لها إن قتلته بالسم مائة ألف درهم، وتزويجها من ولده يزيد، فأجابته، ومرض الإمام أربعين يوماً، وانتقل بعدها إلى رضوان ربه. فوفى معاوية لها بالمال، ولم يزوجها من يزيد، وقال لها: أخشى أن تصنعي بابني ما صنعت بابن رسول اللّه(١) ، وكان عمره الشريف حين استشهد ٤٧ سنة، أمضى منها ٧ سنين وأشهراً مع جده المصطفى، و٣٧ مع أبيه المرتضى، وبقي بعده مع أخيه الحسين الشهيد عشراً.

قال الإمام الصادق: إن الأشعث بن قيس شرك في دم أمير المؤمنين، وابنته جعدة سمت الحسن، وابنه محمد شرك في دم الحسين.

وجاء في كتاب «الخوارج والشيعة» للمستشرق فلهوزن نقلاً عن المستشرق دوزي ص ١٢ طبعة ١٩٥٨ أن الأشعث قد ظل في قلبه مشركاً قديماً، فأراد الانتقام من الإسلام بخيانة الإمام علي. ولم يكن لدى الأشعث في هذا الباب من الدوافع أقل مما كان لغيره من أهل الردة - لأن الأشعث كان ممن ارتد عن

_____________________

(١) ابن عبد البر في الاستيعاب، وابن الجوزي في تذكرة الخواص، وابن سعد في الطبقات، وغيره.

١٩٨

الإسلام بعد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

وخطب الإمام الحسن صبيحة الليلة التي قبض فيها أبوه أمير المؤمنين، وقال بعد الحمد للّه، والثناء عليه، والصلاة على جده محمد:

لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون، ولم يدركه الآخرون، لقد كان يجاهد مع رسول اللّه، فيقيه بنفسه، وكان رسول اللّه يوجهه برأيه، فيكتنفه جبرائيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، فلا يرجع، حتى يفتح اللّه على يديه.

ولقد توفي في هذه الليلة التي عرج فيها عيسى بن مريم، وفيها قبض يوشع بن نون، وما خلف صفراء ولا بيضاء إلا ٧٠٠ درهم فضلت عن عطائه - راتبه من بيت المال - أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله.

ثم قال الإمام الحسن: أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن الداعي إلى اللّه بإذنه، أنا ابن السراج المنير، أنا ابن من أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، أنا من أهل بيت فرض اللّه تعالى مودتهم وطاعتهم في كتابه، فقال: «قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له حسناً» فالحسنة مودتنا أهل البيت.

_____________________

(١) وهذا الأشعث المرتد يروي عنه البخاري ومسلم، ويعدان حديثه من الصحاح.

١٩٩

الإمَام الحُسَين

- السبط الثاني لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والإمام الثالث من أئمة أهل البيت، وخامس أصحاب العباء، وأحد ريحانتي رسول اللّه، وسيدي شباب أهل الجنة.

- ولد في ١٥ شعبان سنة أربع من الهجرة، وسماه جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله حسيناً، وبينه وبين أخيه مقدار الحمل فقط.

- زوجاته وأولاده: كان له من الأولاد ستة ذكور، وثلاث بنات: علي الأكبر شهيد كربلاء، وأمه ليلى بنت أبي مرة الثقفي، وعلي الأوسط، وعلي الأصغر زين العابدين، وأمه شاهزنان بنت كسرى، ومحمد وجعفر مات في حياة أبيه، وأمه قضاعية، وعبد اللّه الرضيع ذبح في حجر أبيه، وسكينة، وأمها وأم عبد اللّه الرضيع الرباب بنت امرئ القيس، وفاطمة، وأمها أم إسحق التميمية، وزينب، ونسل الإمام الحسين من الإمام زين العابدين.

- قتل في عاشر المحرم سنة ٦١ هجري، وكان عمره الشريف ٥٦ سنة وأشهراً، عاش منها مع جده رسول اللّه ست سنين، ومع أبيه ٣٦، ومع أخيه الحسن ٤٦ وبقي بعد أخيه الحسن ١٠ سنين.

من هو الحسين:

قال السيد محسن الأمين في الجزء الرابع من «أعيان الشيعة»:

«هو أشرف الناس أباً وأماً، وجداً وجدة، وعماً وعمة وخالاً وخالة، جده رسول اللّه سيد النبيين، وأبوه علي أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، وأمه فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، وأخوه الحسن المجتبى، وعمه جعفر الطيار مع ملائكة السماء، وعم أبيه حمزة سيد الشهداء، وجدته خديجة بنت خويلد أول نساء الأمة إسلاماً، وعمته أم هاني، وخاله إبراهيم ابن رسول اللّه، وخالته زينت بنت رسول اللّه.

وقد جاهد لأسمى المقاصد، وأنبل الغايات، وقام بما لم يقم بمثله أحد قبله، ولا بعده، فبذل نفسه وماله وآله، لإحياء الدين، وفضح المنافقين، واختار المنية على الدنية، وميتة العز على حياة الذل، ومصارع الكرام على طاعة اللئام، وأظهر من إباء الضيم وعزة النفس، والشجاعة والبسالة، والصبر والثبات ما بهر العقول، وحير الألباب.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419