الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان0%

الشيعة في الميزان مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 419

الشيعة في الميزان

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد جواد مغنية
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 137823
تحميل: 8519

توضيحات:

الشيعة في الميزان
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 137823 / تحميل: 8519
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وحقيق بمن كذلك أن تقام له الذكرى في كل عام، وتبكي له العيون دماً بدل الدموع. وأي رجل في الكون قام بما قام به الحسين. يقول النصارى: إن السيد المسيح قدم نفسه للصلب، ليخلص الشعب من الخطيئة، وأين ما فعله مما فعله الحسين ؟. عيسى قدم نفسه فقط على قول النصارى. أما الحسين فقدم نفسه، وأبناءه، حتى ولده الرضيع، وقدم إخوته وأبناء أخيه وأبناء عمه، قدمهم جميعاً للقتل، وقدم أمواله للنهب، وعياله للأسر، ليفدي دين جده.

إن الحسين معظم، حتى عند الخوارج أعداء أبيه، فإنهم يقيمون له مراسم الذكرى والحزن يوم عاشوراء في كل عام. ولو أنصف المسلمون ما عدوا طريقة الشيعة في إقامة الذكرى لسيد الشهداء. فهل كان الحسين دون جان دارك التي يقيم لها الفرنسيون الذكرى في كل عام ؟. وهل عملت جان دارك لفرنسا ما عمله الحسين لأمة جده ؟. فلقد سن لهم نهج الحرية والاستقلال، ومقاومة الظلم، ومعاندة الجور، وطلب العز، ونبذ الجور، وعدم المبالاة بالموت في سبيل الغايات السامية.

هذا، إلى ما يرجوه المسلم من الثواب يوم الحساب على الحزن والبكاء لقتل الحسين، فلقد نعاه جده لأصحابه، وبكى لقتله قبل وقوعه، وبكى معه أصحابه، وفيهم أبو بكر وعمر، فيما رواه الماوردي الشافعي في «اعلام النبوة». وقد حث أئمة أهل البيت الطاهر شيعتهم وأتباعهم على البكاء وإقامة الذكرى والعزاء لهذه الفاجعة الأليمة في كل عام، وهم نعم القدوة، وخير من اتبع، وأفضل من اقتفي أثره، وأخذت منه سنة رسول اللّه، لأنهم أحد الثقلين، وباب حطة الذي من دخله كان آمناً، ومفتاح باب مدينة العلم الذي لا يؤتى إلا منه.

ثم قال السيد الأمين قدس اللّه سره: ألف السيد علي جلال المصري كتاباً في الحسين اقتطفنا منه ما يلي:

السيد الإمام أبو عبد اللّه الحسينعليه‌السلام ابن بنت رسول اللّه، وريحانته، وابن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، ونشأة بيت النبوة، له أشرف نسب، وأكمل نفس، جمع الفضائل ومكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال من علو الهمة، ومنتهى الشجاعة، وأقصى غاية الجود، وأسرار العلم، وفصاحة اللسان، ونصرة الحق، والنهي عن المنكر، وجهاد الظلم، والتواضع عن عز، والعدل والصبر والحلم والعفاف والمروءة والورع وغيره، واختص بسلامة الفطرة، وجمال الخلقة، ورجاحة العقل، وقوة الجسم، وأضاف إلى هذه المحامد كثرة العبادة، وأفعال الخير، كالصلاة والصوم والحج والجهاد والإحسان.

٢٠١

وكان إذا أقام بالمدينة أو غيرها مفيداً بعلمه، مهذباً بكريم أخلاقه، مؤدباً ببليغ بيانه، سخياً بماله، متواضعاً للفقراء، معظماً عند الخلفاء، مواصلاً للصدقة على الأيتام والمساكين، منتصفاً للمظلومين، مشتغلاً بعبادته، مشى من المدينة على قدميه إلى مكة حاجاً خمساً وعشرين مرة. لقد كان الحسين في وقتٍ علم المهتدين، ونور الأرض، فاخبار حياته فيها هدى للمسترشدين بأنوار محاسنه، المقتفين آثار فضله، ولا شك أن الأمة تنفعها ذكرى ما أصابها من الشدائد في زمن بؤسها، كما يفيدها تذكر ما كسبته من المآثر أيام عزها، ومقتل الحسين من الحوادث العظيمة، وذكراه نافعة، وإن كان حديثه يحزن كل مسلم، ويسخط كل عاقل.

إن مصرع الحسين عظة المعتبرين، وقدوة المستبسلين ألم تر كيف اضطره نكد الدنيا إلى إيثار الموت على الحياة، وهو أعظم رجل في وقته لا نظير له في شرق الأرض وغربها. ومع التفاوت الذي بلغ أقصى ما يتصور بين فئته القليلة، وجيش ابن زياد الكبير في العدة والعدد والمدد، فقد كان ثباته ورباطة جأشه، وشجاعته تحير الألباب، لا عهد للبشر بمثلها، كما كانت دناءة أخصامه لا شبيه لها.

وما سمع منذ خلق العالم، ولن يسمع، حتى يفنى، أفظع من ضرب ابن مرجانة بقضيبه ثغر ابن بنت رسول اللّه، ورأسه بين يديه، بعد أن كان سيد الخلق يلثمه.

ومن آثار العدل الإلهي قتل عبيد اللّه بن زياد يوم عاشوراء، كما قتل الحسين يوم عاشوراء، وأن يبعث برأسه إلى علي بن الحسين، كما بعث برأس الحسين إلى ابن زياد. وهل أمهل يزيد بعد الحسين إلى ثلاث سنين، أو أقل ؟!. وأية موعظة أبلغ من أن كل من اشترك في دم الحسين اقتص اللّه منه، فقتل أو نكب ؟!.

وأية عبرة لأولي الأبصار أعظم من أن يكون قبر الحسين حرماً معظماً، وقبر يزيد بن معاوية مزبلة ؟. وتأمل عناية اللّه بالبيت النبوي الكريم يقتل أبناء الحسين، ولا يترك منهم إلا صبي مريض أشرف على الهلاك، فيبارك اللّه في أولاده فيكثر عددهم، ويعظم شأنهم. أما الذين قتلوا مع الحسين فما لهم على وجه الأرض شبيه.

ولو قدرت ولاية الحسين لكانت خيراً للأمة في حكومتها وأخلاقها وجهادها. وشتان ما بين السبط الزكي، والظالم السكير يزيد القرود والطنابير، وهل يستوي الفاسق الفاجر، والإمام العادل ؟. وأين الذهب من الرغام ؟. ولكن اقتضت الحكمة الإلهية سير الحوادث بخلاف ذلك، وإذا أراد اللّه أمراً فلا مرد له، واقتضت أيضاً أن يبقى أثر جهاد الحسين على ممر الدهور كلما أرهق الناس الظلم تذكرة لمن ندب نفسه لخدمة الأمة، فلم يحجم عن بذل حياته، متى كانت فيه مصلحة لها.

٢٠٢

الإمَام زين العَابدين

- الإمام الرابع من أئمة أهل البيت، أبو محمد، وزين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ولد بالمدينة في شهر شعبان سنة ٣٨ هجري.

- أولاده: كان له خمسة عشر ولداً، أحد عشر ذكراً، وأربع بنات، والذكور هم محمد الباقر، وأمه فاطمة بنت عمه الحسن، والحسن والحسين الأكبر، والحسين الأصغر، وزيد، وعمر، وعبد اللّه، وسليمان، وعلي، ومحمد الأصغر، أما الإناث فهن خديجة، وفاطمة، وعلية، وأم كلثوم، من أمهات شتى، وأمهاتهم جميعاً أمهات أولاد، ما عدا أم الإمام الباقر(ع)(١) .

علمه:

إن علم زين العابدين هو علم آل الرسول، وعلمهم هو علم جدهم بالذات، يتلقاه الابن عن الأب عن الجد عن جبرائيل عن اللّه عز وجل، وقد روى الشيعة والسنة عنه العلوم والأدعية والمواعظ والتفسير والحلال والحرام والمغازي وغيرها. ولم يسند حديثاً، ولا قولاً إلى صحابي أو تابعي، لأن الناس جميعاً تفتقر إلى أهل البيت في العلوم، ولا يفتقرون إلى أحد.

قال الشيخ أبو زهرة في كتاب «الإمام زيد» ص ٣١ وما بعدها طبعة أولى: «في بيت الإمام زين العابدين نشأ زيد، وتكونت ميوله، ومنازعه في الحياة، واتجاهاته. وقد كان زين العابدين فقيهاً، كما كان محدثاً، وكان له شبه بجده علي بن أبي طالب في قدرته على الإحاطة بالمسألة الفقهية من كل جوانبها،

_____________________

(١) أم الولد هي العبدة، أو السرية إذا وطأها سيدها، وحملت منه، فتصبح بحكم الحرة لا يجوز بيعها ولا هبتها.

٢٠٣

والتفريع عليها».

وكان إذا رأى الشباب الذين يطلبون العلم، أدناهم إليه وقال: مرحباً بكم، أنتم ودائع العلم، ويوشك إذ أنتم صغار قوم أن تكونوا كبار قوم آخرين. وإذا جاءه طالب علم رحب به، وقال: أنت وصية رسول اللّه. إن طالب العلم لم يضع رجله على رطب ولا يابس من الأرض إلا سبحت له الأرض إلى السابعة.

وبالتالي، فلم يختلف اثنان على أن لدى السيد السجاد العلوم المحمدية والعلوية، ولولا ضغط حكام الجور لانتشر عنه من العلوم ما تضيق به الكتب والمؤلفات.

عبادته وأخلاقه:

كان إذا حضرته الصلاة اقشعر جلده، واصفر لونه، وارتعد كالسعفة، وكان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وكانت تسقط منه كل سنة سبع ثفنات من مواضع سجوده، لكثرة صلواته، وكان يجمعها، ولما مات دفنت معه، وقد حج على ناقته عشرين حجة لم يضربها بسوط.

وكان يحسن إلى من يسيء إليه، من ذلك أن هشام بن إسماعيل كان أميراً على المدينة، وكان يتعمد الإساءة إلى الإمام وأهل بيته، ولما عزله الوليد، أمر أن يوقف للناس في الطريق العام، ليقتضوا منه، وكان لا يخاف أحداً كخوفه من الإمام السجاد، ولكن الإمام أوصى أهله وأصحابه أن لا يسيئوا إليه، وذهب إليه بنفسه، وقال له: لا بأس عليك منا، وأية حاجة تعرض لك فعلينا قضاؤها.

وكان للإمام ابن عم يؤذيه، وينال منه، فكان يأتيه ليلاً، ويعطيه الدنانير، فيقول: لكن علي بن الحسين لا يصلني بشيء، فلا جزاه اللّه خيراً، فيسمع ويغفر. فلما مات انقطعت الدنانير عنه، فعلم أنه هو الذي كان يصله. وكان يقول لمن يشتمه: إن كنتُ كما قلت، فأسأل اللّه أن يغفر لي، وإن لم أكن كما قلت فأسأل اللّه أن يغفر لك.

ولما طرد أهل المدينة بني أمية في وقعة الحرة أراد مروان بن الحكم أن يستودع أهله، فلم يؤوهم أحد، وتنكر الناس له إلا الإمام زين العابدين رحب بهم، وجعلهم من جملة عياله، وقد عال الإمام في هذه الوقعة أربعمائة امرأة. كما كان يعول بيوتاً كثيرة في المدينة لا يعرفون من أين يأتيهم رزقهم، حتى مات الإمام، فعرفوا أنه كان المعيل. وكان يخرج في الليلة الظلماء، فيحمل الجراب على ظهره، وفيه الصرر من الدنانير والدراهم، وربما حمل على ظهره الطعام والحطب، حتى يأتي

٢٠٤

باباً باباً، فيقرعه، ثم يناول من يخرج إليه، وهو متستر، ولما وضع على المغتسل نظروا إلى ظهره، وعليه مثل ركب الإبل مما كان يحمل إلى منازل الفقراء والمساكين.

وكان يشتري العبيد، وما به إليهم حاجة، وكان يأتي بهم إلى عرفات، فإذا انتهى من مناسكه أعتقهم، وأعطاهم الأموال، وكان إذا ملك عبداً في أول السنة أو في أثنائها أعتقه ليلة الفطر، وما استخدم خادماً أكثر من حول.

وتعال معي، لنقرأ المثال التالي من سيرة الإمام السجاد، لتعرف بأي الوسائل كان يتقرب إلى اللّه تعالى، ويطلب غفرانه ورضوانه، فلم يكتف بالصوم والصلاة، والحج والصدقات، والإرشاد إلى الخيرات، والعفو عمن أساء إليه، بل تقرب إليه سبحانه بالإحسان إلى المستضعفين، وأعطاء الحرية للمستعبدين.

كان إذا أذنب عبد من عبيده، أو أمة من إمائه، يكتب اسم المذنب ونوع الذنب، والوقت الذي حصل فيه، ولم يعاقب المذنب أو يعاتبه، حتى إذا انتهى شهر رمضان المبارك جمعهم حوله، ونشر الكتاب، وسأل كل واحد منهم عن ذنبه، فيقر ويعترف، فإذا انتهى من عملية الحساب وقف في وسطهم، وقال لهم قولوا معي:

يا علي بن الحسين إن ربك قد أحصى عليك كما أحصيت علينا، وان لديه كتاباً ينطق بالحق، كما نطق كتابك هذا، فاعف واصفح، كما تحب أن يعفو عنك المليك ويصفح، واذكر وقوفك بين يدي اللّه ذليلاً، كما نحن وقوف بين يديك.

فينوح الإمام ويبكي، ثم يعفو عنهم ويقول: اللهم إنك امرتنا بالعفو عمن ظلمنا، وقد عفونا كما أمرت، فاعفُ عنا، ثم يقبل على عبيده، ويقول: أنتم احرار لوجه اللّه، ويناجي ربه قائلاً: اللهم إني عفوت عنهم واعتقت رقابهم كما أمرت، فاعف عني وأعتق رقبتي من النار، ويأمر العبيد أن يقولوا: اللهم آمين رب العالمين، فيرفعون أصواتهم بالابتهال والدعاء لسيدهم المحسن، ثم يذهبون إلى سبيلهم بعد أن يجيزهم بما يغنيهم عما في أيدي الناس.

ولو مثلت هذه الرواية، كما هي، على مسرح عام لأحدثت ثورة في العقول، ولفعلت فعل السحر في النفوس، واتجهت بها إلى اللّه وعمل الخير، وكانت أجدى من ألف كتاب وكتاب في المواعظ والأخلاق. ولو أن الذين يهتمون بالأخلاق ومشكلات المجتمع اطلعوا عليها وعلى أمثالها من سيرة الإمام السجاد، وتنبهوا إلى ما تحويه من الأسس والقوانين لبلغوا الغاية المنشودة من أقصر الطرق وأيسرها. لقد حددت هذه الرواية حب الإنسان للّه سبحانه بأنه حب البشرية والحرية، وإن

٢٠٥

حبيب اللّه هو صديق الإنسان الذي لا يعرف التعصب، ولا العنصرية، ولا القسوة.

وبالتالي، فإن التراث الذي تركه أهل البيت للإنسانية لا نجده في جامعة، ولا في كتاب، ولا عند أمة من الأمم.

ونختم الكلام عن الإمام السجاد بما جاء في كتاب «الإمام زيد» للشيخ أبي زهرة أحد كبار شيوخ الأزهر، فمما قاله في صفحات طوال:

«زين العابدين علي بن الحسين رضي ‌الله‌ عنهما هو الابن الذكر الذي بقي من أولاد الحسين، فقد قتل أخ له في المعركة الفاجرة التي شنها يزيد وعماله على الإمام الحسين ابن الطاهرة فاطمة الزهراء.

ولم يحضر المعركة - أي لم يقاتل - لأنه كان مريضاً، وقد كان في الثالثة والعشرين من عمره، أو يزيد على ذلك، ولعل اللّه سبحانه وتعالى أبقاه من هذه السيوف الآثمة، لتبقى ذرية الحسين الصلبة في عقب علي هذا. ولقد هم عمال يزيد أن يقتلوه، ولكن اللّه كف أيديهم عنه. كما حرض بعض الفجار يزيد على قتله، ونجاه اللّه.

وكان علي بن الحسين دائم الحزن شديد البكاء، وكان رحيماً بالناس، كثير الجود والسخاء، فما علم أن على أحد ديناً، وله به مودة إلا أدى عنه دينه. دخل على محمد بن أسامة يعوده فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك ؟. قال عليّ دين. قال الإمام: وكم هو ؟. قال: خمسة عشر ألف دينار. فقال الإمام: هي عليّ.

وقد قال محمد بن إسحق: كان ناس بالمدينة يعيشون لا يدرون من أين يعيشون، ومن يعطيهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك، فعرفوا أنه هو الذي كان يأتيهم بالليل بما يأتيهم به، ولما مات وجدوا في ظهره وأكتافه أثر حمل الجراب إلى بيوت الأرامل المساكين.

وكانت صدقاته كلها ليلاً، وكان يقول: صدقة الليل تطفئ غضب الرب، وتنير القلب والقبر، وتكشف عن العبد ظلمة يوم القيامة.

ولم تكن رحمة زين العابدين بالناس، عطاء يعطى، بل كانت مع ذلك سماحة وعفواً، يعفو عن القريب وعن القعيد، وعمن ظلمه وأساء إليه. وتروى الأعاجيب عن رحمته وسماحته، منها أن جارية كانت تحمل الإبريق، وتسكب الماء ليتوضأ، فوقع على وجهه وشجه، فرفع رأسه إليها لائماً، فقالت:

٢٠٦

والكاظمين الغيظ.

قال: كتمت غيظي.

قالت: والعافين عن الناس.

قال: عفوت عنك.

قالت: واللّه يحب المحسنين.

قالت: أنت حرة لوجه اللّه.

بهذه الأخلاق السمحة الكريمة، وبالتقوى التي لا تعرف سوى اللّه اشتهر زين العابدين، فأجله الناس، وأحبوه، حتى أنه كان إذا سار في مزدحم أفسح الناس له الطريق. ويروى من عدة طرق أن هشام بن عبد الملك طاف بالبيت، فلما أراد أن يستلم الحجر لم يتمكن، وكان أهل الشام حوله، وبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن الحسين، فلما دنا من الحجر ليستلم تنحى عنه الناس إجلالاً له، وهيبة واحتراماً، فقال هشام: من هذا ؟! استنقاصاً له. وكان الفرزدق حاضراً، فأنشد الشاعر الفحل تلك القصيدة:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

والبيت يعرفه والحل والحرم

هذا ابن خير عباد اللّه كلهم

هذا التقي النقي الطاهر العلم

إذا رأته قريش قال قائلها

إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

ينمى إلى ذروة العز التي قصرت

عن نيلها عرب الإسلام والعجم

يكاد يمسكه عرفان راحته

ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

يغضي حياء، ويغضى من مهابته

فما يكلم إلا حين يبتسم

بكفه خيزران ريحها عبق

عن كف أروع في عرنينه شمم

مشتقة من رسول اللّه نبعته

طابت عناصرها والخيم والشيم

ينجاب نور الهدى من نور غرته

كالشمس ينجاب من إشراقها الغيم

حمال أثقال أقوام إذا فدحوا

حلو الشمائل تحلو عنده نعم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله

بجده أنبياء اللّه قد ختموا

من جده دان فضل الأنبياء له

وفضل أمته دانت لها الأمم

عم البرية بالإحسان فانقشعت

عنها الغواية والاملاق والظلم

كلتا يديه غياث عم نفعهما

يستوكفان ولا يعروهما العدم

٢٠٧

سهل الخليقة لا تخشى بوادره

يزينه إثنتان الحلم والكرم

لا يخلف الوعد ميمون نقيبته

رحب الفناء أريب حين يعتزم

من معشر حبهم دين وبغضهم

كفر وقربهم منجى ومعتصم

يستدفع السوء والبلوى بحبهم

ويستزاد به الإحسان والنعم

مقدم بعد ذكر اللّه ذكرهم

في كل حكم ومختوم به الكلم

إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم

أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم

لا يستطيع جواد بعد غايتهم

ولا يدانيهم قوم وإن كرموا

هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت

والأسد أسد الشرى والبأس محتدم

يأبى لهم أن يحل الذم ساحتهم

خيم كرام وأيد بالندى هضم

لا ينقص العدم بسطاً من أكفهم

سيان ذلك إن أثروا وان عدموا

أين الخلائق ليست في رقابهم

لأولية هذا أوله نعم

فليس قولك من هذا بضائره

العرب تعرف من أنكرت والعجم

من يعرف اللّه يعرف أولية ذا

فالدين من بيت هذا ناله الأمم

ثم قال فضيلة الشيخ أبي زهرة: لقد روت كتب التاريخ والسير والأدب هذه القصيدة منسوبة إلى الفرزدق الشاعر، ولم يتشكك الرواة والمؤرخون في نسبتها اليه، وأكثر كتب الأدب لم تثر عجاجة شك حولها.

- توفي بالمدينة سنة ٩٥ هجري عن ٥٧ سنة، عاش منها مع جده أمير المؤمنين سنتين، ومع عمه الحسن ١٠ سنين، ومع أبيه الحسين ٢٣، وبقي بعده ٣٤ سنة.

٢٠٨

الإمَام محمَّد البَاقِر

- هو الإمام الخامس من أئمة أهل البيت، ولد بالمدينة سنة ٥٧ هجري، وأمه فاطمة بنت الحسن بن علي بن أبي طالب، قال الإمام الصادق: كانت صِديقة لم يدرك في آل الحسن مثلها.

- ولقب بالباقر، لأنه بقر العلم بقراً، أي أظهر مخبآته وأسراره، ورث علم النبوة عن آبائه وأجداده، وكان مقصد العلماء من كل البلاد الإسلامية، سواء منهم الشيعة والسنة، وكان ممن يقصده سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة محدث مكة، وأبو حنيفة(١) .

- أولاده: كان له سبعة أولاد، الإمام الصادق، وعبد اللّه وأمهما أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وإبراهيم، وعبيد اللّه، وأمهما أم حكيم بنت أسد الثقفية، وعلي، وزينب، وأمهما أم ولد، وأم سلمة، وأمها أم ولد.

- قال الصحابي الجليل جابر بن عبد اللّه الأنصاري: قال لي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يوشك أن تبقى حياً، إلى أن تلقى ولداً لي من الحسين، يقال له محمد يبقر العلم، فإذا لقيته فأقرئه مني السلام، فبقيت حياً، حتى لقيت الإمام الباقر، كما قال رسول اللّه، فقبلت يد الإمام، وأبلغته الرسالة، فقال: وعلى رسول اللّه السلام ورحمة اللّه وبركاته.

وفي ذات يوم كان الإمام الباقر في بيته، وعنده جماعة من أصحابه، واذا بشيخ وقف على الباب، وقال: السلام عليك يا ابن رسول اللّه ورحمة اللّه وبركاته.

وبعد أن رد الإمامعليه‌السلام ، قال الشيخ: جعلني اللّه فداك يا ابن رسول

_____________________

(١) الشيخ أبو زهرة «الإمام الصادق» ص ٢٢ طبعة أولى.

٢٠٩

اللّه، واللّه إني لأحبكم، وأحب من يحبكم للّه لا للدنيا، وإني لأبغض عدوكم وأبرأ منه لا لشيء بيني وبينه، وإني لأحلل حلالكم، وأحرم حرامكم، وانتظر أمركم، فهل ترجو لي الخير جعلني اللّه فداك ؟

قال الإمام: أتى أبي رجل، وسأله مثل الذي سألت. فقال له: إن تمت ترد على رسول اللّه، وعلي، والحسن والحسين، ويثلج قلبك وتقر عينك، وتستقبل بالروح والريحان. وإنك معنا في السنام الأعلى.

فقال الشيخ: اللّه أكبر. أنا معكم في السنام الأعلى، وبكى فرحاً، وأخذ يد الإمام، وقبلها، ثم وضعها على عينيه، ومسح بها وجهه وصدره، ثم قام وودع وخرج، فقال الإمام: من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا.

هذا هو التحديد الصحيح لشيعة أهل البيت (ع)، يحللون حلالهم، ويحرمون حرامهم، ويحبون من يحبهم، ويبغضون عدوهم في اللّه، وللّه. أما من يحلل اليوم ما حرمه بالأمس، تبعاً لشهواته وميوله، أما من يزعم أنه من الشيعة الموالين، وفي الوقت نفسه ينصب العداء للمحبين، ويكيد لهم فليس من الإسلام ولا التشيع في شيء، بل هو عدو اللّه ورسوله وأهل بيته. قال الإمام الرضا: من عادى شيعتنا فقد عادانا، ومن والاهم فقد والانا، لأنهم خلقوا من طينتنا، من أحبهم فهو منا، ومن أبغضهم فليس منا.

ومحال أن نفهم هذا الكلام، ونعمل به ما لم نتجرد عن الأنانية وحب الذات. إن الشرط الأول للتشيع أن نحب الموالي، ونخلص له، ونضحي من أجله، لا لشيء إلا لأنه محب للرسول وآله، وإذا محصنا الشيعة على هذا الأساس لا يبقى واحد من كل مائة، بخاصة المعممين الذين أصبح التحاسد بينهم من العلامات الفارقة والمميزة لهم عن سائر الفئات والهيئات.

وبالتالي، فإن التشيع لا ينفك أبداً عن الألفة والأخوة، لأنه من أمهات الفضائل وأعظمها، كما أن التحاسد من أمهات الرذائل وأقبحها.

توفي الإمام الباقر بالمدينة سنة ١١٤، عاش مع جده الحسين ٤ سنين، ومع أبيه ٣٩، وبعده ١٨ سنة.

٢١٠

الإمَام جَعفَر الصَّادق

- هو الإمام السادس من الأئمة الأطهار، ولد بالمدينة سنة ٨٠ من الهجرة، وتوفي سنة ١٤٨، وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، وهذا معنى قول الصادق ولدني أبو بكر مرتين.

- أولاده: كان له عشرة أولاد، سبعة ذكور، وثلاث إناث، إسماعيل، وعبد اللّه، وأسماء، وتكنى بأم فروة، وأمهم فاطمة بنت الحسين بن علي بن الحسين، والإمام موسى الكاظم، ومحمد المعروف بالديباج، وإسحق، وفاطمة الكبرى، وأمهم حميدة البربرية، والعباس، وعلي، وفاطمة الصغرى، لأمهات شتى.

أقوال العلماء:

أشرت فيما تقدم من هذا الكتاب إلى علوم الصادق ومدرسته، وكثرة الرواية عنه في شتى العلوم، وأذكر هنا طرفاً من أقوال العلماء فيه، قال الشيخ أبو زهرة في كتاب الإمام الصادق:

«نشأ جعفر في مهد العلم ومعدنه، نشأ ببيت النبوة الذي توارث علمها كابراً عن كابر، وعاش في مدينة جده رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله فتغذى من ذلك الغرس الطاهر وأشرق في قلبه نور الحكمة بما درس، وما تلقى، وبما فحص ومحص.

وكان قوة فكرية في عصره، فلم يكتف بالدراسات الإسلامية وعلوم القرآن والسنة والعقيدة، بل اتجه إلى دراسة الكون وأسراره، ثم حلق بعقله الجبار في سماء الأفلاك، ومدار الشمس والقمر والنجوم، كما عنى عناية كبرى بدراسة النفس الإنسانية، وإذا كان التاريخ يقرر أن سقراط قد أنزل الفلسفة من السماء إلى الإنسان فإن الإمام الصادق قد درس السماء والأرض والإنسان وشرائع الأديان.

وكان في علم الإسلام كله الإمام الذي يرجع إليه. فهو أعلم الناس باختلاف الفقهاء، وقوله الفصل والعدل، وقد اعتبره أبو حنيفة أستاذه في الفقه.

أما صفاته النفسية والعقلية فقد علا بها على أهل الأرض، وأنّى لأهل الأرض أن يسامتوا أهل السماء ؟!. سمو في الغاية، وتجرد في الحق، ورياضة في النفس، وانصراف إلى العلم والعبادة، وابتعاد عن الدنيا ومآربها، وبصيرة تبدد الظلمات، وإخلاص لا يفوقه إخلاص، لأنه من معدنه، من شجرة النبوة، وإذا لم يكن الإخلاص في عترة النبي، وأحفاد علي سيف اللّه المسلول، وفارس

٢١١

الإسلام ففيمن يكون ؟!. فلقد توارث أحفاد علي الإخلاص خلفاً عن سلف، وفرعاً عن أصل، فكانوا يحبون للّه، ويبغضون للّه، ويعتبرون ذلك من أصول الإيمان وظواهر اليقين».

وهذا قليل من كثير مما ذكره أبو زهرة في كتاب «الإمام الصادق». وقبل الشيخ أبي زهرة قال الشهرستاني في الملل والنحل:

«هو ذو علم غزير في الدين والأدب، كامل في الحكمة، وزهد بالغ، وورع تام في الشهوات».

وقال صاحب كتاب «مطالب السؤل» فيما قال:

«أما مناقبه وصفاته فتكاد تفوت عدد الحاصر، ويحار في أنواعها فهم اليقظ الباصر، حتى أنه من كثرة علومه المفاضة على قلبه صارت الأحكام التي لا تدرك عللها، والعلوم التي تقصر الأفهام عن الإحاطة بحكمها تضاف إليه، وتروى عنه».

ولو أردنا أن نجمع الأقوال في الإمام الصادق لجاءت في مجلد ضخم.

من مناقبه:

قال أبو زهرة: «قال كثير من المفسرين في قوله تعالى: «ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً» إنها نزلت في علي بن أبي طالب، ومن المؤكد أن علياً كان من أسخى الصحابة، بل كان من أسخى العرب، وقد كان أحفاده كذلك من بعده».

جاء الإمام جعفراً فقير، فأعطاه أربعمائة درهم، فأخذها وذهب شاكراً، فرده الإمام وقال: إن خير الصدقة ما اغنت، ونحن لم نغنك، فخذ هذا الخاتم، فإني أعطيت به عشرة آلاف درهم. وكان إذا جاء الليل أخذ جراباً فيه الخبز واللحم وصرر الدراهم، فيحمله على عاتقه، ويقسمه على أهل الحاجات وهم لا يعرفونه، تماماً كما كان يفعل أجداده وآباؤه. قال صاحب «حلية الأولياء»: كان جعفر بن محمد يعطي، حتى لا يبقي لعياله شيئاً.

وكان إذا تخاصم اثنان على مال يصلح بينهما من ماله الخاص، وبعث غلاماً له في حاجة، فأبطأ، فخرج يبحث عنه، فوجده نائماً، فجلس عند رأسه، وأخذ يروّح له، حتى انتبه، فقال الإمام: لك الليل، ولنا النهار.

٢١٢

وهم المنصور بقتل الإمام أكثر من مرة، ولكنه كان حين ينظر إليه يهابه، ويتركه ويبالغ في إكرامه، غير أنه منعه من الناس، ومنع الناس أن تستفيد منه في أيامه الأخيرة.

تنبيه مهم:

وهذا التنبيه ذكره السيد الأمين في سيرة الإمام الصادق ج ٤ من الأعيان، وهو من عقيدة التشيع في الصميم، قال:

إن ما ذكرناه من مناقب كل إمام قد يختلف عما ذكرناه من مناقب الآخر، وليس معنى هذا أن المنقبة التي يتصف بها أحد الأئمة لا يتصف بها الآخر، فكلهم مشتركون في جميع المناقب والفضائل، وهم نور واحد، وطينة واحدة، وهم أكمل أهل زمانهم في كل صفة فاضلة.

ولكن لما كانت مقتضيات الزمان متفاوتة كان ظهور تلك الصفات متفاوتة أيضاً(١) - مثلاً - ظهور الشجاعة من أمير المؤمنين وولده الحسين ليس كظهورها من بقية الأئمة. ذلك أن شجاعة علي ظهرت بجهاده بين يدي الرسول الأعظم، وبمحاربته الناكثين والمارقين والقاسطين أيام خلافته، والحسين ظهرت شجاعته

_____________________

(١) يريد السيد بهذه القاعدة المتسالم اليوم عليها من أن لكل إنسان ظروفه وبيئته الخاصة، وأن حياته ترتبط بها، بحيث يستحيل أن ينزع نفسه منها بحال.

٢١٣

في وقعة كربلاء، حيث أمر بمقاومة الظالمين.

ولم تظهر آثار الشجاعة من الأئمة الباقين، لأنهم أمروا بالصبر والمداراة، والكل مشتركون في أنهم أشجع أهل زمانهم، والباقر والصادق ظهرت منهما آثار العلم أكثر من بقية الأئمة الأطهار، لعدم الخوف، حيث وجدا في آخر دولة ضعيفة وأول دولة جديدة، والكل مشتركون في أنهم أعلم أهل زمانهم.

وقد تكون آثار الكرم والسخاء، وكثرة الصدقات والعتق أظهر منها في الباقي، لسعة ذات يده، أو لكثرة الفقراء في بلدة دون الباقي، والكل مشتركون في أنهم أكرم أهل زمانهم.

وقد تكون العبادة اظهر منها في غيره، لبعض الموجبات والمقتضيات، لقلة إطلاع الناس على حاله، أو قصر مدته في هذه الحياة، أو غير ذلك، وكلهم أعبد أهل زمانه.

وقد تكون آثار الحلم في بعضهم أظهر منها في غيره، لكثرة ما ابتلي به من أنواع الأذى التي تظهر حلم الحليم، وكلهم أحلم أهل زمانهم، إلى غير ذلك من مقتضيات الأحوال.

الإمَام مُوسى الكَاظِم

- هو الإمام السابع من أئمة أهل البيت، ولد بالأبواء، وهو مكان بين مكة والمدينة في شهر صفر سنة ١٢٨ من الهجرة، واستشهد في بغداد بالسم في سجن هارون الرشيد سنة ١٨٣، ودفن في الجانب الغربي من بغداد، وتعرف اليوم المدينة التي فيها قبره الشريف بالكاظمية نسبة إليه، وأمه حميدة البربرية، وكنيته أبو إبراهيم، وأشهر ألقابه الكاظم، لكظمه الغيظ، وصبره على ظلم الظالمين.

- أولاده: له سبعة وثلاثون ولداً، ١٨ ذكراً، و١٩ أنثى، وهم الإمام علي الرضا، وإبراهيم، والعباس، والقاسم، وإسماعيل، وجعفر، وهارون، والحسن، وأحمد، ومحمد، وحمزة، وعبد اللّه، وإسحق، وعبيد اللّه، وزيد، والحسن، وسليمان، وفاطمة الكبرى، وفاطمة الصغرى، ورقية الكبرى، وحكيمة، وأم أبيها، ورقية الصغرى، وكلثم، وأم جعفر، ولبابة، وزينب، وخديجة، وعلية، وآمنة، وحسنة، وبريهة، وعائشة، وأم سلمة، وميمونة، وأم كلثوم من أمهات شتى.

وعاش مع أبيه ٢٠ سنة، وبعده ٣٥.

٢١٤

من مناقبه:

كان أجل أولاد الإمام الصادق قدراً، وأعظمهم محلاً، وأبعدهم في الناس صيتاً، ولم يُر في زمانه أسخى منه، ولا أكرم نفساً، وكان يبلغه عن الرجل أنه ينال منه، فيبعث إليه بصرة فيها ألف دينار، وكان يضرب المثل بصرر الأموال التي يتصدق بها، حتى قيل: عجباً لمن جاءته صرة موسى، فشكا الفقر !. ومر برجل فرآه كئيباً، فسأله عن السبب ؟. قال: لحقتني الديون من أجل حقل زرعته بطيخاً، وقثاء، وقرعاً، فلما استوى الزرع وقرب الخير جاء الجراد فأتى عليه، ولم يبق منه شيئاً، فذهب الزرع، وبقيت الديون. فأعطاه الإمام ما كان يأمله من زرعه، فوفى ديونه، وبقيت معه فضلة، جعل اللّه فيها البركة، كما حدث صاحب الزرع.

وكان كآبائه وأجداده يتفقد الفقراء، ويحمل إليهم في الليل الطعام والمال، وهم لا يعرفونه، وكان يقول في سجوده: اللهم قبح الذنب من عبدك، فليحسن العفو من عندك، ومن دعائه: اللهم إني أسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب.

مع علي بن يقطين:

كان علي بن يقطين مقرباً عند هارون الرشيد، يثق به، وينتدبه إلى ما أهمه من الأمور، وكان ابن يقطين يكتم التشيع والولاء لأهل البيت (ع)، ويظهر الطاعة للرشيد، وفي ذات يوم أهدى الرشيد إلى ابن يقطين ثياباً أكرمه بها، وكان في جملتها درّاعة خز سوداء من لباس الملوك مثقلة بالذهب.

فأرسل علي بن يقطين الثياب ومعها الدراعة إلى الإمام الكاظم، ومعها مبلغ من المال، ولما وصلت إلى الإمام، قبل المال والثياب، ورد الدراعة إليه على يد رسول آخر غير الذي جاء بالمال والثياب، وكتب الإمام إلى علي بن يقطين احتفظ بالدراعة، ولا تخرجها من يدك، فإن لها شأناً، فأحتفظ علي بالدراعة، وهو لا يعرف السبب.

وبعد أيام سعى بعض الواشين إلى الرشيد، وقال له: إن ابن يقطين يعتقد بإمامه موسى بن جعفر، ويحمل إليه خمس ماله في كل سنة، وقد حمل إليه الدراعة التي أكرمته بها، فاستشاط الرشيد غضباً، وأحضر علي بن يقطين، وقال له: ما فعلت بتلك الدراعة التي كسوتك بها ؟.

قال: هي عندي في سفط محتوم، وقد احتفظت بها تبركاً، لأنها منك.

٢١٥

قال الرشيد: ائت بها الساعة.

وفي الحال نادى علي بعض غلمانه، وقال له: اذهب إلى البيت، وافتح الصندوق الفلاني تجد فيه سفطاً، صفته كذا، جئني به الآن.

فلم يلبث الغلام، حتى جاء بالسفط، ووضعه بين يدي الرشيد. ففتح الرشيد السفط، ونظر إلى الدراعة كما هي، فسكن غضبه، وقال لعلي: ارددها إلى مكانها، وانصرف راشداً، فلن اصدق عليك بعدها ساعياً، وأمر له بجائزة سنية ثم أمر أن يضرب الساعي ألف سوط، فضرب ٥٠٠، ومات قبل إكمال الألف.

مع الرشيد:

وللإمام الكاظم مع هارون الرشيد أخبار كثيرة وطويلة ذكرها الشيخ الصدوق في «عيون أخبار الرضا» منها أن الرشيد قال له: كيف جوزتم للناس أن ينسبوكم إلى رسول اللّه، ويقولوا لكم: يا أبناء رسول اللّه، وأنتم بنو علي، وإنما ينسب المرء إلى أبيه، لا إلى أمه ؟!.

فقال له الإمام: لو أن النبي نشر، وخطب إليك كريمتك، هل كنت تجيبه ؟.

قال الرشيد: سبحان اللّه وكيف لا أجيبه ؟.

قال الإمام: ولكنه لا يخطب إليّ ولا أجيبه.

قال الرشيد: ولمَ ؟.

قال الإمام: لأنه ولدني، ولم يلدك.

ولو تدبر هارون الرشيد القرآن الكريم لم يسأل الإمام هذا السؤال، وينكر هذا الإنكار، فإن اللّه سبحانه قد سماهم أبناء الرسول قبل أن يسميهم بذلك أحد من الناس، حيث قال عز من قائل: «فمن حاجك فيه من بعدما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع ابناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين» وقد اتفق المسلمون بكلمة واحدة أن النبي دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين، فكان علي نفس النبي، وكانت فاطمة نساءه، وكان الحسن والحسين ابناءه. فإن كان للرشيد وغيره من اعتراض على نسبة آل البيت إلى الرسول الأعظم، فهو اعتراض ورد على اللّه، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.

٢١٦

ومنها: أن الرشيد كان ينقله من سجن إلى سجن، حتى دس إليه السم، فسجنه أولاً بالبصرة عند عيسى بن جعفر، ثم سجنه عند الفضل بن الربيع، ثم عند الفضل بن يحيى، ثم عند السندي بن شاهك الذي حصل السم على يده، وأرسل الإمام إلى الرشيد من سجنه هذه الرسالة: «يا هارون ما من يوم ضراء انقضى عني إلا انقضى عنك من السراء مثله، حتى نجتمع أنا وأنت في دار يخسر فيها المبطلون».

أجل، لقد خسر هارون وآباؤه وأبناؤه، كما خسر من قبل يزيد بن معاوية وآباؤه وذووه، وكان الفوز دنيا وآخرة لموسى بن جعفر وآبائه وأبنائه، سلام اللّه وصلواته عليهم أجمعين.

الإمَام عَلي الرّضَا

- هو الإمام الثامن من الأئمة الأطهار، ولد بالمدينة سنة ١٥٣ من الهجرة، وتوفي سنة ٢٠٢، ودفن بطوس من أرض خراسان، وأمه أم ولد، وتسمى خيزران.

وكنيته أبو الحسن، وأشهر ألقابه الرضا.

- أولاده: قال المفيد والطبرسي وابن شهرآشوب: لم يترك من الولد إلا محمد الجواد.

من مناقبه:

ما سئل عن شيء إلا أجاب عنه، وما كان أحد أعلم منه في زمانه، وكان يستخرج أجوبته من القرآن الكريم، وكان يختمه في كل ثلاثة أيام مرة، ويقول: لو أردت لختمته بأقل من ذلك، ولكني ما مررت بآية قط إلا فكرت فيها، وفي أي شيء نزلت.

ومن عادته أن لا يقطع على أحد كلامه، ولا يرد أحداً عن حاجة، وكان كثير المعروف والصدقة، بخاصة صدقة السر.

وكان المأمون مولعاً بالسماع إلى العلماء، وجدالهم ونقاشهم، فكان يجمع له العلماء والفقهاء والمتكلمين من جميع الأديان، فيسألونه، ويجيب الواحد تلو الآخر، حتى لم يبق أحد منهم إلا اعترف له بالفضل، وأقر على نفسه بالقصور، وقد جاء في أكثر من كتاب أن بعض العلماء، وهو محمد بن عيسى اليقطيني جمع من مسائل الإمام الرضا وأجوبتها ١٨ ألف مسألة، وفقد هذا الكتاب مع ألوف الكتب التي خسرتها المكتبة الاسلامية والعربية.

وفي كتب الشيعة الكثير من هذه المسائل، «منها» أن قال له: يا ابن رسول اللّه إن الناس يروون عن جدك أنه قال: خلق اللّه آدم على صورته، فما رأيك ؟.

٢١٧

قال الإمام: إنهم حذفوا أول الحديث الذي يدل على آخره، وهذا هو الحديث كاملاً: مر رسول اللّه برجلين يتسابان، ويقول أحدهما للآخر: قبح اللّه وجهك ووجهاً يشبهك. فقال النبي للساب: لا تقل هذا، فإن اللّه خلق آدم على صورته، أي على صورة من تشتمه وعليه يكون شتمك لخصمك هذا شتم لآدمعليه‌السلام .

ومنها: أنه سئل: أين كان اللّه ؟ وكيف كان ؟ وعلى أيّن شيء يعتمد ؟.

فقال: إن اللّه كيف الكيف فهو بلا كيف، وأيّن الاين فهو بلا أين، وكان اعتماده على قدرته. ومعنى جواب الإمام أن اللّه خلق الزمان وخلق الأحوال، فلا زمان له ولا حال، وغني عن كل شيء فلا يعتمد على شيءٍ غير ذاته بذاته. وسئل عن معنى إرادة اللّه فقال: هو فعله لا غير، ذلك أن يقول للشيء: كن فيكون، بلا لفظ ولا نطق بلسان، ولا همة ولا تفكر، ولا كيف كذلك ولا كمّاً.

ومنها: أنه سأل سائل عن معنى قول الإمام الصادق « لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين».

فقال الإمام: من زعم أن الله يفعل أفعالنا ، ثم يعذبنا عليها ، فقد قال بالجبر ، ومن زعم أن الله فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه - أي الأئمة - فقد قال بالتفويض ، والقائل بالجبر كافر ، والقائل بالتفويض مشرك ، أما معنى الأمر بين الأمرين فهو وجود السبيل إلى اتيان ما أمر الله به ، وترك ما نهى عنه ، أي ان الله سبحانه أقدره على فعل الشر وتركه ، كما اقدره على فعل الخير وتركه ، وأمره بهذا ونهاه عن ذاك.

ومنها: انه سئل عن الإمامة، فقال: ان اللّه لم يقبض نبيه، حتى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شيء، حيث قال عز من قائل:

«ما فرطنا في الكتاب من شيء»، وأنزل في حجة الوداع «اليوم أكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً».

والإمامة من إكمال الدين وإتمام النعمة. وقد أقام لهم علياً علماً وإماماً، ومن زعم أن النبي لم يكمل دينه - ببيان الإمام - فقد رد كتاب اللّه، ومن رد كتاب اللّه فهو كافر. ان الإمامة لا يعرف قدرها إلا اللّه، فهي اجل قدراً، وأعظم شأناً، وأعلى مكاناً من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم.

٢١٨

ان الإمامة خلافة اللّه والرسول، وزمام الدين، ونظام المسلمين، والامام يحلل ما أحل اللّه، ويحرم ما حرم اللّه، ويقيم الحدود، ويذب عن الدين، والإمام أمين اللّه في أرضه، وحجته على عباده، وخليفته في بلاده، وهو مطهر من الذنوب، مبرأ من العيوب، لا يدانيه أحد في خلقه، ولا يعادله عالم، ولا يوجد منه بديل، ولا له مثيل. فأين للناس أن تستطيع اختيار مثل هذا ؟!.

ونكتفي بهذا المقدار من أجوبته، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى «عيون اخبار الرضا» للشيخ الصدوق. أما اخبار المأمون مع الإمام، واسناد ولاية العهد اليه، ثم اغتياله بالسم فقد ذكرناها في كتاب «الشيعة والحاكمون».

الامَام محمَّد الجَوَاد

- هو الإمام التاسع، ولد بالحديثة سنة ١٩٥ هجري، وتوفي سنة ٢٢٠، وهو ابن ٢٥ سنة، عاش مع أبيه ٧ سنين، وبقي بعده ١٨ سنة، وأمه أم ولد، واسمها سكن.

- قال المفيد: كان له أربعة أولاد: ذكران، وهما الإمام علي الهادي، وموسى، وبنتان، وهما فاطمة، وامامة، وكنيته ابو جعفر، ولقبه الجواد.

مع المأمون:

قال الشيخ المفيد في كتاب «الارشاد»:

كان المأمون قد شغف بالإمام ابي جعفر محمد الجواد لما رأى من فضله مع صغر سنه، وبلوغه في العلم والحكمة، والأدب وكمال العقل ما لم يساوه فيه أحد من أهل زمانه، فزوجه ابنته أم الفضل وحملها معه إلى المدينة، وكان متوفراً على إكرامه وتعظيمه، واجلال قدره.

وانكر العباسيون على المأمون عزمه على تزويج الإمام من ابنته، وقالوا له: ننشدك اللّه ان لا تقيم على هذا الأمر الذي عزمت عليه، فنحن نخشى أن يخرج منا امر قد ملكناه، وقد عرفت ما بيننا وبين ابناء آل أبي طالب.

فقال لهم المأمون: أما الذي بينكم وبينهم فأنتم السبب فيه، ولو انصفتم القوم لكانوا أولى منكم، وقد اخترت محمد بن علي لتفوقه على كافة أهل الفضل والعلم مع صغر سنه، وسيظهر لكم، وتعلموا أن الرأي ما رأيت.

قالوا: انه صغير السن، ولا معرفة له ولا فقه.

٢١٩

قال المأمون: ويحكم أنا اعرف به منكم، انه من أهل بيتٍ علمهم من اللّه، ولم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا، وان شئتم فامتحنوه، حتى يتبين لكم ذلك.

قالوا له: قد رضينا، واجتمع رأيهم أن يقابلوا الإمام الجواد بقاضي القضاة يحيى بن أكثم، فأتوا به إلى مجلس المأمون، ومعه الإمام، والناس من حولهما، وسأل ابن أكثم الإمام عن محرمٍ قتل صيداً؟.

فقال له: هل قتله في حل أو حرم، عالماً كان أو جاهلاً، عمداً أو خطأ، حراً كان المحرم أو عبداً، صغيراً كان أو كبيراً، مبتدئاً بالقتل أو معيداً، من ذوات الطير كان الصيد أو من غيرها، ومن صغار الطير أو من كباره، مصراً على ما فعل أو نادماً، في الليل كان قتل الصيد أو في النهار، وفي عمرة كان ذاك أو في حج ؟

فتحير ابن أكثم، وبان عليه العجز والانقطاع، حتى عرف أهل المجلس امره.

فقال المأمون: الحمد للّه على هذه النعمة والتوفيق، ثم التفت إلى أقربائه، وقال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرون ؟!.

فقالوا له: انك أعلم بما رأيت.

قال: ان أهل هذا البيت خصوا من دون الخلق بما ترون من الفضل، وان صغر السن فيهم لا يمنعهم من الكمال، فقد دعا رسول اللّه علياً إلى الإسلام، وهو ابن عشر سنين، وقبله منه، وحكم له به، ولم يدع أحداً في هذه السن كما دعا عليّاً، وبايع الحسن والحسين، وهما دون ست سنين، ولم يبايع صبياً غيرهما. افلا تعلمون ان اللّه قد خص هؤلاء القوم، وانهم ذرية بعضهم من بعض، يجري لآخرهم ما يجري لأولهم(١) .

قالوا: صدقت.

الحاكم الموالي:

جاء رجل إلى الإمام الجواد، وقال له: جعلت فداك يا ابن رسول اللّه، ان

_____________________

(١) ان النبوة تجتمع مع صغر السن بدليل قوله تعالى: «وآتيناه الحكم صبياً» وقوله سبحانه «فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً قال اني عبد اللّه آتاني الكتاب وجعلني نبياً» إذن فاجتماع الإمامة مع صغر السن جائز اذ لو كان ذلك محالاً لكان محالاً في كل الناس انبياء كانوا أو أئمة.

٢٢٠