الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان14%

الشيعة في الميزان مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 419

الشيعة في الميزان
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 142555 / تحميل: 9287
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

وحقيق بمن كذلك أن تقام له الذكرى في كل عام، وتبكي له العيون دماً بدل الدموع. وأي رجل في الكون قام بما قام به الحسين. يقول النصارى: إن السيد المسيح قدم نفسه للصلب، ليخلص الشعب من الخطيئة، وأين ما فعله مما فعله الحسين ؟. عيسى قدم نفسه فقط على قول النصارى. أما الحسين فقدم نفسه، وأبناءه، حتى ولده الرضيع، وقدم إخوته وأبناء أخيه وأبناء عمه، قدمهم جميعاً للقتل، وقدم أمواله للنهب، وعياله للأسر، ليفدي دين جده.

إن الحسين معظم، حتى عند الخوارج أعداء أبيه، فإنهم يقيمون له مراسم الذكرى والحزن يوم عاشوراء في كل عام. ولو أنصف المسلمون ما عدوا طريقة الشيعة في إقامة الذكرى لسيد الشهداء. فهل كان الحسين دون جان دارك التي يقيم لها الفرنسيون الذكرى في كل عام ؟. وهل عملت جان دارك لفرنسا ما عمله الحسين لأمة جده ؟. فلقد سن لهم نهج الحرية والاستقلال، ومقاومة الظلم، ومعاندة الجور، وطلب العز، ونبذ الجور، وعدم المبالاة بالموت في سبيل الغايات السامية.

هذا، إلى ما يرجوه المسلم من الثواب يوم الحساب على الحزن والبكاء لقتل الحسين، فلقد نعاه جده لأصحابه، وبكى لقتله قبل وقوعه، وبكى معه أصحابه، وفيهم أبو بكر وعمر، فيما رواه الماوردي الشافعي في «اعلام النبوة». وقد حث أئمة أهل البيت الطاهر شيعتهم وأتباعهم على البكاء وإقامة الذكرى والعزاء لهذه الفاجعة الأليمة في كل عام، وهم نعم القدوة، وخير من اتبع، وأفضل من اقتفي أثره، وأخذت منه سنة رسول اللّه، لأنهم أحد الثقلين، وباب حطة الذي من دخله كان آمناً، ومفتاح باب مدينة العلم الذي لا يؤتى إلا منه.

ثم قال السيد الأمين قدس اللّه سره: ألف السيد علي جلال المصري كتاباً في الحسين اقتطفنا منه ما يلي:

السيد الإمام أبو عبد اللّه الحسينعليه‌السلام ابن بنت رسول اللّه، وريحانته، وابن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، ونشأة بيت النبوة، له أشرف نسب، وأكمل نفس، جمع الفضائل ومكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال من علو الهمة، ومنتهى الشجاعة، وأقصى غاية الجود، وأسرار العلم، وفصاحة اللسان، ونصرة الحق، والنهي عن المنكر، وجهاد الظلم، والتواضع عن عز، والعدل والصبر والحلم والعفاف والمروءة والورع وغيره، واختص بسلامة الفطرة، وجمال الخلقة، ورجاحة العقل، وقوة الجسم، وأضاف إلى هذه المحامد كثرة العبادة، وأفعال الخير، كالصلاة والصوم والحج والجهاد والإحسان.

٢٠١

وكان إذا أقام بالمدينة أو غيرها مفيداً بعلمه، مهذباً بكريم أخلاقه، مؤدباً ببليغ بيانه، سخياً بماله، متواضعاً للفقراء، معظماً عند الخلفاء، مواصلاً للصدقة على الأيتام والمساكين، منتصفاً للمظلومين، مشتغلاً بعبادته، مشى من المدينة على قدميه إلى مكة حاجاً خمساً وعشرين مرة. لقد كان الحسين في وقتٍ علم المهتدين، ونور الأرض، فاخبار حياته فيها هدى للمسترشدين بأنوار محاسنه، المقتفين آثار فضله، ولا شك أن الأمة تنفعها ذكرى ما أصابها من الشدائد في زمن بؤسها، كما يفيدها تذكر ما كسبته من المآثر أيام عزها، ومقتل الحسين من الحوادث العظيمة، وذكراه نافعة، وإن كان حديثه يحزن كل مسلم، ويسخط كل عاقل.

إن مصرع الحسين عظة المعتبرين، وقدوة المستبسلين ألم تر كيف اضطره نكد الدنيا إلى إيثار الموت على الحياة، وهو أعظم رجل في وقته لا نظير له في شرق الأرض وغربها. ومع التفاوت الذي بلغ أقصى ما يتصور بين فئته القليلة، وجيش ابن زياد الكبير في العدة والعدد والمدد، فقد كان ثباته ورباطة جأشه، وشجاعته تحير الألباب، لا عهد للبشر بمثلها، كما كانت دناءة أخصامه لا شبيه لها.

وما سمع منذ خلق العالم، ولن يسمع، حتى يفنى، أفظع من ضرب ابن مرجانة بقضيبه ثغر ابن بنت رسول اللّه، ورأسه بين يديه، بعد أن كان سيد الخلق يلثمه.

ومن آثار العدل الإلهي قتل عبيد اللّه بن زياد يوم عاشوراء، كما قتل الحسين يوم عاشوراء، وأن يبعث برأسه إلى علي بن الحسين، كما بعث برأس الحسين إلى ابن زياد. وهل أمهل يزيد بعد الحسين إلى ثلاث سنين، أو أقل ؟!. وأية موعظة أبلغ من أن كل من اشترك في دم الحسين اقتص اللّه منه، فقتل أو نكب ؟!.

وأية عبرة لأولي الأبصار أعظم من أن يكون قبر الحسين حرماً معظماً، وقبر يزيد بن معاوية مزبلة ؟. وتأمل عناية اللّه بالبيت النبوي الكريم يقتل أبناء الحسين، ولا يترك منهم إلا صبي مريض أشرف على الهلاك، فيبارك اللّه في أولاده فيكثر عددهم، ويعظم شأنهم. أما الذين قتلوا مع الحسين فما لهم على وجه الأرض شبيه.

ولو قدرت ولاية الحسين لكانت خيراً للأمة في حكومتها وأخلاقها وجهادها. وشتان ما بين السبط الزكي، والظالم السكير يزيد القرود والطنابير، وهل يستوي الفاسق الفاجر، والإمام العادل ؟. وأين الذهب من الرغام ؟. ولكن اقتضت الحكمة الإلهية سير الحوادث بخلاف ذلك، وإذا أراد اللّه أمراً فلا مرد له، واقتضت أيضاً أن يبقى أثر جهاد الحسين على ممر الدهور كلما أرهق الناس الظلم تذكرة لمن ندب نفسه لخدمة الأمة، فلم يحجم عن بذل حياته، متى كانت فيه مصلحة لها.

٢٠٢

الإمَام زين العَابدين

- الإمام الرابع من أئمة أهل البيت، أبو محمد، وزين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ولد بالمدينة في شهر شعبان سنة ٣٨ هجري.

- أولاده: كان له خمسة عشر ولداً، أحد عشر ذكراً، وأربع بنات، والذكور هم محمد الباقر، وأمه فاطمة بنت عمه الحسن، والحسن والحسين الأكبر، والحسين الأصغر، وزيد، وعمر، وعبد اللّه، وسليمان، وعلي، ومحمد الأصغر، أما الإناث فهن خديجة، وفاطمة، وعلية، وأم كلثوم، من أمهات شتى، وأمهاتهم جميعاً أمهات أولاد، ما عدا أم الإمام الباقر(ع)(١) .

علمه:

إن علم زين العابدين هو علم آل الرسول، وعلمهم هو علم جدهم بالذات، يتلقاه الابن عن الأب عن الجد عن جبرائيل عن اللّه عز وجل، وقد روى الشيعة والسنة عنه العلوم والأدعية والمواعظ والتفسير والحلال والحرام والمغازي وغيرها. ولم يسند حديثاً، ولا قولاً إلى صحابي أو تابعي، لأن الناس جميعاً تفتقر إلى أهل البيت في العلوم، ولا يفتقرون إلى أحد.

قال الشيخ أبو زهرة في كتاب «الإمام زيد» ص ٣١ وما بعدها طبعة أولى: «في بيت الإمام زين العابدين نشأ زيد، وتكونت ميوله، ومنازعه في الحياة، واتجاهاته. وقد كان زين العابدين فقيهاً، كما كان محدثاً، وكان له شبه بجده علي بن أبي طالب في قدرته على الإحاطة بالمسألة الفقهية من كل جوانبها،

_____________________

(١) أم الولد هي العبدة، أو السرية إذا وطأها سيدها، وحملت منه، فتصبح بحكم الحرة لا يجوز بيعها ولا هبتها.

٢٠٣

والتفريع عليها».

وكان إذا رأى الشباب الذين يطلبون العلم، أدناهم إليه وقال: مرحباً بكم، أنتم ودائع العلم، ويوشك إذ أنتم صغار قوم أن تكونوا كبار قوم آخرين. وإذا جاءه طالب علم رحب به، وقال: أنت وصية رسول اللّه. إن طالب العلم لم يضع رجله على رطب ولا يابس من الأرض إلا سبحت له الأرض إلى السابعة.

وبالتالي، فلم يختلف اثنان على أن لدى السيد السجاد العلوم المحمدية والعلوية، ولولا ضغط حكام الجور لانتشر عنه من العلوم ما تضيق به الكتب والمؤلفات.

عبادته وأخلاقه:

كان إذا حضرته الصلاة اقشعر جلده، واصفر لونه، وارتعد كالسعفة، وكان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وكانت تسقط منه كل سنة سبع ثفنات من مواضع سجوده، لكثرة صلواته، وكان يجمعها، ولما مات دفنت معه، وقد حج على ناقته عشرين حجة لم يضربها بسوط.

وكان يحسن إلى من يسيء إليه، من ذلك أن هشام بن إسماعيل كان أميراً على المدينة، وكان يتعمد الإساءة إلى الإمام وأهل بيته، ولما عزله الوليد، أمر أن يوقف للناس في الطريق العام، ليقتضوا منه، وكان لا يخاف أحداً كخوفه من الإمام السجاد، ولكن الإمام أوصى أهله وأصحابه أن لا يسيئوا إليه، وذهب إليه بنفسه، وقال له: لا بأس عليك منا، وأية حاجة تعرض لك فعلينا قضاؤها.

وكان للإمام ابن عم يؤذيه، وينال منه، فكان يأتيه ليلاً، ويعطيه الدنانير، فيقول: لكن علي بن الحسين لا يصلني بشيء، فلا جزاه اللّه خيراً، فيسمع ويغفر. فلما مات انقطعت الدنانير عنه، فعلم أنه هو الذي كان يصله. وكان يقول لمن يشتمه: إن كنتُ كما قلت، فأسأل اللّه أن يغفر لي، وإن لم أكن كما قلت فأسأل اللّه أن يغفر لك.

ولما طرد أهل المدينة بني أمية في وقعة الحرة أراد مروان بن الحكم أن يستودع أهله، فلم يؤوهم أحد، وتنكر الناس له إلا الإمام زين العابدين رحب بهم، وجعلهم من جملة عياله، وقد عال الإمام في هذه الوقعة أربعمائة امرأة. كما كان يعول بيوتاً كثيرة في المدينة لا يعرفون من أين يأتيهم رزقهم، حتى مات الإمام، فعرفوا أنه كان المعيل. وكان يخرج في الليلة الظلماء، فيحمل الجراب على ظهره، وفيه الصرر من الدنانير والدراهم، وربما حمل على ظهره الطعام والحطب، حتى يأتي

٢٠٤

باباً باباً، فيقرعه، ثم يناول من يخرج إليه، وهو متستر، ولما وضع على المغتسل نظروا إلى ظهره، وعليه مثل ركب الإبل مما كان يحمل إلى منازل الفقراء والمساكين.

وكان يشتري العبيد، وما به إليهم حاجة، وكان يأتي بهم إلى عرفات، فإذا انتهى من مناسكه أعتقهم، وأعطاهم الأموال، وكان إذا ملك عبداً في أول السنة أو في أثنائها أعتقه ليلة الفطر، وما استخدم خادماً أكثر من حول.

وتعال معي، لنقرأ المثال التالي من سيرة الإمام السجاد، لتعرف بأي الوسائل كان يتقرب إلى اللّه تعالى، ويطلب غفرانه ورضوانه، فلم يكتف بالصوم والصلاة، والحج والصدقات، والإرشاد إلى الخيرات، والعفو عمن أساء إليه، بل تقرب إليه سبحانه بالإحسان إلى المستضعفين، وأعطاء الحرية للمستعبدين.

كان إذا أذنب عبد من عبيده، أو أمة من إمائه، يكتب اسم المذنب ونوع الذنب، والوقت الذي حصل فيه، ولم يعاقب المذنب أو يعاتبه، حتى إذا انتهى شهر رمضان المبارك جمعهم حوله، ونشر الكتاب، وسأل كل واحد منهم عن ذنبه، فيقر ويعترف، فإذا انتهى من عملية الحساب وقف في وسطهم، وقال لهم قولوا معي:

يا علي بن الحسين إن ربك قد أحصى عليك كما أحصيت علينا، وان لديه كتاباً ينطق بالحق، كما نطق كتابك هذا، فاعف واصفح، كما تحب أن يعفو عنك المليك ويصفح، واذكر وقوفك بين يدي اللّه ذليلاً، كما نحن وقوف بين يديك.

فينوح الإمام ويبكي، ثم يعفو عنهم ويقول: اللهم إنك امرتنا بالعفو عمن ظلمنا، وقد عفونا كما أمرت، فاعفُ عنا، ثم يقبل على عبيده، ويقول: أنتم احرار لوجه اللّه، ويناجي ربه قائلاً: اللهم إني عفوت عنهم واعتقت رقابهم كما أمرت، فاعف عني وأعتق رقبتي من النار، ويأمر العبيد أن يقولوا: اللهم آمين رب العالمين، فيرفعون أصواتهم بالابتهال والدعاء لسيدهم المحسن، ثم يذهبون إلى سبيلهم بعد أن يجيزهم بما يغنيهم عما في أيدي الناس.

ولو مثلت هذه الرواية، كما هي، على مسرح عام لأحدثت ثورة في العقول، ولفعلت فعل السحر في النفوس، واتجهت بها إلى اللّه وعمل الخير، وكانت أجدى من ألف كتاب وكتاب في المواعظ والأخلاق. ولو أن الذين يهتمون بالأخلاق ومشكلات المجتمع اطلعوا عليها وعلى أمثالها من سيرة الإمام السجاد، وتنبهوا إلى ما تحويه من الأسس والقوانين لبلغوا الغاية المنشودة من أقصر الطرق وأيسرها. لقد حددت هذه الرواية حب الإنسان للّه سبحانه بأنه حب البشرية والحرية، وإن

٢٠٥

حبيب اللّه هو صديق الإنسان الذي لا يعرف التعصب، ولا العنصرية، ولا القسوة.

وبالتالي، فإن التراث الذي تركه أهل البيت للإنسانية لا نجده في جامعة، ولا في كتاب، ولا عند أمة من الأمم.

ونختم الكلام عن الإمام السجاد بما جاء في كتاب «الإمام زيد» للشيخ أبي زهرة أحد كبار شيوخ الأزهر، فمما قاله في صفحات طوال:

«زين العابدين علي بن الحسين رضي ‌الله‌ عنهما هو الابن الذكر الذي بقي من أولاد الحسين، فقد قتل أخ له في المعركة الفاجرة التي شنها يزيد وعماله على الإمام الحسين ابن الطاهرة فاطمة الزهراء.

ولم يحضر المعركة - أي لم يقاتل - لأنه كان مريضاً، وقد كان في الثالثة والعشرين من عمره، أو يزيد على ذلك، ولعل اللّه سبحانه وتعالى أبقاه من هذه السيوف الآثمة، لتبقى ذرية الحسين الصلبة في عقب علي هذا. ولقد هم عمال يزيد أن يقتلوه، ولكن اللّه كف أيديهم عنه. كما حرض بعض الفجار يزيد على قتله، ونجاه اللّه.

وكان علي بن الحسين دائم الحزن شديد البكاء، وكان رحيماً بالناس، كثير الجود والسخاء، فما علم أن على أحد ديناً، وله به مودة إلا أدى عنه دينه. دخل على محمد بن أسامة يعوده فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك ؟. قال عليّ دين. قال الإمام: وكم هو ؟. قال: خمسة عشر ألف دينار. فقال الإمام: هي عليّ.

وقد قال محمد بن إسحق: كان ناس بالمدينة يعيشون لا يدرون من أين يعيشون، ومن يعطيهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك، فعرفوا أنه هو الذي كان يأتيهم بالليل بما يأتيهم به، ولما مات وجدوا في ظهره وأكتافه أثر حمل الجراب إلى بيوت الأرامل المساكين.

وكانت صدقاته كلها ليلاً، وكان يقول: صدقة الليل تطفئ غضب الرب، وتنير القلب والقبر، وتكشف عن العبد ظلمة يوم القيامة.

ولم تكن رحمة زين العابدين بالناس، عطاء يعطى، بل كانت مع ذلك سماحة وعفواً، يعفو عن القريب وعن القعيد، وعمن ظلمه وأساء إليه. وتروى الأعاجيب عن رحمته وسماحته، منها أن جارية كانت تحمل الإبريق، وتسكب الماء ليتوضأ، فوقع على وجهه وشجه، فرفع رأسه إليها لائماً، فقالت:

٢٠٦

والكاظمين الغيظ.

قال: كتمت غيظي.

قالت: والعافين عن الناس.

قال: عفوت عنك.

قالت: واللّه يحب المحسنين.

قالت: أنت حرة لوجه اللّه.

بهذه الأخلاق السمحة الكريمة، وبالتقوى التي لا تعرف سوى اللّه اشتهر زين العابدين، فأجله الناس، وأحبوه، حتى أنه كان إذا سار في مزدحم أفسح الناس له الطريق. ويروى من عدة طرق أن هشام بن عبد الملك طاف بالبيت، فلما أراد أن يستلم الحجر لم يتمكن، وكان أهل الشام حوله، وبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن الحسين، فلما دنا من الحجر ليستلم تنحى عنه الناس إجلالاً له، وهيبة واحتراماً، فقال هشام: من هذا ؟! استنقاصاً له. وكان الفرزدق حاضراً، فأنشد الشاعر الفحل تلك القصيدة:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

والبيت يعرفه والحل والحرم

هذا ابن خير عباد اللّه كلهم

هذا التقي النقي الطاهر العلم

إذا رأته قريش قال قائلها

إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

ينمى إلى ذروة العز التي قصرت

عن نيلها عرب الإسلام والعجم

يكاد يمسكه عرفان راحته

ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

يغضي حياء، ويغضى من مهابته

فما يكلم إلا حين يبتسم

بكفه خيزران ريحها عبق

عن كف أروع في عرنينه شمم

مشتقة من رسول اللّه نبعته

طابت عناصرها والخيم والشيم

ينجاب نور الهدى من نور غرته

كالشمس ينجاب من إشراقها الغيم

حمال أثقال أقوام إذا فدحوا

حلو الشمائل تحلو عنده نعم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله

بجده أنبياء اللّه قد ختموا

من جده دان فضل الأنبياء له

وفضل أمته دانت لها الأمم

عم البرية بالإحسان فانقشعت

عنها الغواية والاملاق والظلم

كلتا يديه غياث عم نفعهما

يستوكفان ولا يعروهما العدم

٢٠٧

سهل الخليقة لا تخشى بوادره

يزينه إثنتان الحلم والكرم

لا يخلف الوعد ميمون نقيبته

رحب الفناء أريب حين يعتزم

من معشر حبهم دين وبغضهم

كفر وقربهم منجى ومعتصم

يستدفع السوء والبلوى بحبهم

ويستزاد به الإحسان والنعم

مقدم بعد ذكر اللّه ذكرهم

في كل حكم ومختوم به الكلم

إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم

أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم

لا يستطيع جواد بعد غايتهم

ولا يدانيهم قوم وإن كرموا

هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت

والأسد أسد الشرى والبأس محتدم

يأبى لهم أن يحل الذم ساحتهم

خيم كرام وأيد بالندى هضم

لا ينقص العدم بسطاً من أكفهم

سيان ذلك إن أثروا وان عدموا

أين الخلائق ليست في رقابهم

لأولية هذا أوله نعم

فليس قولك من هذا بضائره

العرب تعرف من أنكرت والعجم

من يعرف اللّه يعرف أولية ذا

فالدين من بيت هذا ناله الأمم

ثم قال فضيلة الشيخ أبي زهرة: لقد روت كتب التاريخ والسير والأدب هذه القصيدة منسوبة إلى الفرزدق الشاعر، ولم يتشكك الرواة والمؤرخون في نسبتها اليه، وأكثر كتب الأدب لم تثر عجاجة شك حولها.

- توفي بالمدينة سنة ٩٥ هجري عن ٥٧ سنة، عاش منها مع جده أمير المؤمنين سنتين، ومع عمه الحسن ١٠ سنين، ومع أبيه الحسين ٢٣، وبقي بعده ٣٤ سنة.

٢٠٨

الإمَام محمَّد البَاقِر

- هو الإمام الخامس من أئمة أهل البيت، ولد بالمدينة سنة ٥٧ هجري، وأمه فاطمة بنت الحسن بن علي بن أبي طالب، قال الإمام الصادق: كانت صِديقة لم يدرك في آل الحسن مثلها.

- ولقب بالباقر، لأنه بقر العلم بقراً، أي أظهر مخبآته وأسراره، ورث علم النبوة عن آبائه وأجداده، وكان مقصد العلماء من كل البلاد الإسلامية، سواء منهم الشيعة والسنة، وكان ممن يقصده سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة محدث مكة، وأبو حنيفة(١) .

- أولاده: كان له سبعة أولاد، الإمام الصادق، وعبد اللّه وأمهما أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وإبراهيم، وعبيد اللّه، وأمهما أم حكيم بنت أسد الثقفية، وعلي، وزينب، وأمهما أم ولد، وأم سلمة، وأمها أم ولد.

- قال الصحابي الجليل جابر بن عبد اللّه الأنصاري: قال لي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يوشك أن تبقى حياً، إلى أن تلقى ولداً لي من الحسين، يقال له محمد يبقر العلم، فإذا لقيته فأقرئه مني السلام، فبقيت حياً، حتى لقيت الإمام الباقر، كما قال رسول اللّه، فقبلت يد الإمام، وأبلغته الرسالة، فقال: وعلى رسول اللّه السلام ورحمة اللّه وبركاته.

وفي ذات يوم كان الإمام الباقر في بيته، وعنده جماعة من أصحابه، واذا بشيخ وقف على الباب، وقال: السلام عليك يا ابن رسول اللّه ورحمة اللّه وبركاته.

وبعد أن رد الإمامعليه‌السلام ، قال الشيخ: جعلني اللّه فداك يا ابن رسول

_____________________

(١) الشيخ أبو زهرة «الإمام الصادق» ص ٢٢ طبعة أولى.

٢٠٩

اللّه، واللّه إني لأحبكم، وأحب من يحبكم للّه لا للدنيا، وإني لأبغض عدوكم وأبرأ منه لا لشيء بيني وبينه، وإني لأحلل حلالكم، وأحرم حرامكم، وانتظر أمركم، فهل ترجو لي الخير جعلني اللّه فداك ؟

قال الإمام: أتى أبي رجل، وسأله مثل الذي سألت. فقال له: إن تمت ترد على رسول اللّه، وعلي، والحسن والحسين، ويثلج قلبك وتقر عينك، وتستقبل بالروح والريحان. وإنك معنا في السنام الأعلى.

فقال الشيخ: اللّه أكبر. أنا معكم في السنام الأعلى، وبكى فرحاً، وأخذ يد الإمام، وقبلها، ثم وضعها على عينيه، ومسح بها وجهه وصدره، ثم قام وودع وخرج، فقال الإمام: من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا.

هذا هو التحديد الصحيح لشيعة أهل البيت (ع)، يحللون حلالهم، ويحرمون حرامهم، ويحبون من يحبهم، ويبغضون عدوهم في اللّه، وللّه. أما من يحلل اليوم ما حرمه بالأمس، تبعاً لشهواته وميوله، أما من يزعم أنه من الشيعة الموالين، وفي الوقت نفسه ينصب العداء للمحبين، ويكيد لهم فليس من الإسلام ولا التشيع في شيء، بل هو عدو اللّه ورسوله وأهل بيته. قال الإمام الرضا: من عادى شيعتنا فقد عادانا، ومن والاهم فقد والانا، لأنهم خلقوا من طينتنا، من أحبهم فهو منا، ومن أبغضهم فليس منا.

ومحال أن نفهم هذا الكلام، ونعمل به ما لم نتجرد عن الأنانية وحب الذات. إن الشرط الأول للتشيع أن نحب الموالي، ونخلص له، ونضحي من أجله، لا لشيء إلا لأنه محب للرسول وآله، وإذا محصنا الشيعة على هذا الأساس لا يبقى واحد من كل مائة، بخاصة المعممين الذين أصبح التحاسد بينهم من العلامات الفارقة والمميزة لهم عن سائر الفئات والهيئات.

وبالتالي، فإن التشيع لا ينفك أبداً عن الألفة والأخوة، لأنه من أمهات الفضائل وأعظمها، كما أن التحاسد من أمهات الرذائل وأقبحها.

توفي الإمام الباقر بالمدينة سنة ١١٤، عاش مع جده الحسين ٤ سنين، ومع أبيه ٣٩، وبعده ١٨ سنة.

٢١٠

الإمَام جَعفَر الصَّادق

- هو الإمام السادس من الأئمة الأطهار، ولد بالمدينة سنة ٨٠ من الهجرة، وتوفي سنة ١٤٨، وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، وهذا معنى قول الصادق ولدني أبو بكر مرتين.

- أولاده: كان له عشرة أولاد، سبعة ذكور، وثلاث إناث، إسماعيل، وعبد اللّه، وأسماء، وتكنى بأم فروة، وأمهم فاطمة بنت الحسين بن علي بن الحسين، والإمام موسى الكاظم، ومحمد المعروف بالديباج، وإسحق، وفاطمة الكبرى، وأمهم حميدة البربرية، والعباس، وعلي، وفاطمة الصغرى، لأمهات شتى.

أقوال العلماء:

أشرت فيما تقدم من هذا الكتاب إلى علوم الصادق ومدرسته، وكثرة الرواية عنه في شتى العلوم، وأذكر هنا طرفاً من أقوال العلماء فيه، قال الشيخ أبو زهرة في كتاب الإمام الصادق:

«نشأ جعفر في مهد العلم ومعدنه، نشأ ببيت النبوة الذي توارث علمها كابراً عن كابر، وعاش في مدينة جده رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله فتغذى من ذلك الغرس الطاهر وأشرق في قلبه نور الحكمة بما درس، وما تلقى، وبما فحص ومحص.

وكان قوة فكرية في عصره، فلم يكتف بالدراسات الإسلامية وعلوم القرآن والسنة والعقيدة، بل اتجه إلى دراسة الكون وأسراره، ثم حلق بعقله الجبار في سماء الأفلاك، ومدار الشمس والقمر والنجوم، كما عنى عناية كبرى بدراسة النفس الإنسانية، وإذا كان التاريخ يقرر أن سقراط قد أنزل الفلسفة من السماء إلى الإنسان فإن الإمام الصادق قد درس السماء والأرض والإنسان وشرائع الأديان.

وكان في علم الإسلام كله الإمام الذي يرجع إليه. فهو أعلم الناس باختلاف الفقهاء، وقوله الفصل والعدل، وقد اعتبره أبو حنيفة أستاذه في الفقه.

أما صفاته النفسية والعقلية فقد علا بها على أهل الأرض، وأنّى لأهل الأرض أن يسامتوا أهل السماء ؟!. سمو في الغاية، وتجرد في الحق، ورياضة في النفس، وانصراف إلى العلم والعبادة، وابتعاد عن الدنيا ومآربها، وبصيرة تبدد الظلمات، وإخلاص لا يفوقه إخلاص، لأنه من معدنه، من شجرة النبوة، وإذا لم يكن الإخلاص في عترة النبي، وأحفاد علي سيف اللّه المسلول، وفارس

٢١١

الإسلام ففيمن يكون ؟!. فلقد توارث أحفاد علي الإخلاص خلفاً عن سلف، وفرعاً عن أصل، فكانوا يحبون للّه، ويبغضون للّه، ويعتبرون ذلك من أصول الإيمان وظواهر اليقين».

وهذا قليل من كثير مما ذكره أبو زهرة في كتاب «الإمام الصادق». وقبل الشيخ أبي زهرة قال الشهرستاني في الملل والنحل:

«هو ذو علم غزير في الدين والأدب، كامل في الحكمة، وزهد بالغ، وورع تام في الشهوات».

وقال صاحب كتاب «مطالب السؤل» فيما قال:

«أما مناقبه وصفاته فتكاد تفوت عدد الحاصر، ويحار في أنواعها فهم اليقظ الباصر، حتى أنه من كثرة علومه المفاضة على قلبه صارت الأحكام التي لا تدرك عللها، والعلوم التي تقصر الأفهام عن الإحاطة بحكمها تضاف إليه، وتروى عنه».

ولو أردنا أن نجمع الأقوال في الإمام الصادق لجاءت في مجلد ضخم.

من مناقبه:

قال أبو زهرة: «قال كثير من المفسرين في قوله تعالى: «ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً» إنها نزلت في علي بن أبي طالب، ومن المؤكد أن علياً كان من أسخى الصحابة، بل كان من أسخى العرب، وقد كان أحفاده كذلك من بعده».

جاء الإمام جعفراً فقير، فأعطاه أربعمائة درهم، فأخذها وذهب شاكراً، فرده الإمام وقال: إن خير الصدقة ما اغنت، ونحن لم نغنك، فخذ هذا الخاتم، فإني أعطيت به عشرة آلاف درهم. وكان إذا جاء الليل أخذ جراباً فيه الخبز واللحم وصرر الدراهم، فيحمله على عاتقه، ويقسمه على أهل الحاجات وهم لا يعرفونه، تماماً كما كان يفعل أجداده وآباؤه. قال صاحب «حلية الأولياء»: كان جعفر بن محمد يعطي، حتى لا يبقي لعياله شيئاً.

وكان إذا تخاصم اثنان على مال يصلح بينهما من ماله الخاص، وبعث غلاماً له في حاجة، فأبطأ، فخرج يبحث عنه، فوجده نائماً، فجلس عند رأسه، وأخذ يروّح له، حتى انتبه، فقال الإمام: لك الليل، ولنا النهار.

٢١٢

وهم المنصور بقتل الإمام أكثر من مرة، ولكنه كان حين ينظر إليه يهابه، ويتركه ويبالغ في إكرامه، غير أنه منعه من الناس، ومنع الناس أن تستفيد منه في أيامه الأخيرة.

تنبيه مهم:

وهذا التنبيه ذكره السيد الأمين في سيرة الإمام الصادق ج ٤ من الأعيان، وهو من عقيدة التشيع في الصميم، قال:

إن ما ذكرناه من مناقب كل إمام قد يختلف عما ذكرناه من مناقب الآخر، وليس معنى هذا أن المنقبة التي يتصف بها أحد الأئمة لا يتصف بها الآخر، فكلهم مشتركون في جميع المناقب والفضائل، وهم نور واحد، وطينة واحدة، وهم أكمل أهل زمانهم في كل صفة فاضلة.

ولكن لما كانت مقتضيات الزمان متفاوتة كان ظهور تلك الصفات متفاوتة أيضاً(١) - مثلاً - ظهور الشجاعة من أمير المؤمنين وولده الحسين ليس كظهورها من بقية الأئمة. ذلك أن شجاعة علي ظهرت بجهاده بين يدي الرسول الأعظم، وبمحاربته الناكثين والمارقين والقاسطين أيام خلافته، والحسين ظهرت شجاعته

_____________________

(١) يريد السيد بهذه القاعدة المتسالم اليوم عليها من أن لكل إنسان ظروفه وبيئته الخاصة، وأن حياته ترتبط بها، بحيث يستحيل أن ينزع نفسه منها بحال.

٢١٣

في وقعة كربلاء، حيث أمر بمقاومة الظالمين.

ولم تظهر آثار الشجاعة من الأئمة الباقين، لأنهم أمروا بالصبر والمداراة، والكل مشتركون في أنهم أشجع أهل زمانهم، والباقر والصادق ظهرت منهما آثار العلم أكثر من بقية الأئمة الأطهار، لعدم الخوف، حيث وجدا في آخر دولة ضعيفة وأول دولة جديدة، والكل مشتركون في أنهم أعلم أهل زمانهم.

وقد تكون آثار الكرم والسخاء، وكثرة الصدقات والعتق أظهر منها في الباقي، لسعة ذات يده، أو لكثرة الفقراء في بلدة دون الباقي، والكل مشتركون في أنهم أكرم أهل زمانهم.

وقد تكون العبادة اظهر منها في غيره، لبعض الموجبات والمقتضيات، لقلة إطلاع الناس على حاله، أو قصر مدته في هذه الحياة، أو غير ذلك، وكلهم أعبد أهل زمانه.

وقد تكون آثار الحلم في بعضهم أظهر منها في غيره، لكثرة ما ابتلي به من أنواع الأذى التي تظهر حلم الحليم، وكلهم أحلم أهل زمانهم، إلى غير ذلك من مقتضيات الأحوال.

الإمَام مُوسى الكَاظِم

- هو الإمام السابع من أئمة أهل البيت، ولد بالأبواء، وهو مكان بين مكة والمدينة في شهر صفر سنة ١٢٨ من الهجرة، واستشهد في بغداد بالسم في سجن هارون الرشيد سنة ١٨٣، ودفن في الجانب الغربي من بغداد، وتعرف اليوم المدينة التي فيها قبره الشريف بالكاظمية نسبة إليه، وأمه حميدة البربرية، وكنيته أبو إبراهيم، وأشهر ألقابه الكاظم، لكظمه الغيظ، وصبره على ظلم الظالمين.

- أولاده: له سبعة وثلاثون ولداً، ١٨ ذكراً، و١٩ أنثى، وهم الإمام علي الرضا، وإبراهيم، والعباس، والقاسم، وإسماعيل، وجعفر، وهارون، والحسن، وأحمد، ومحمد، وحمزة، وعبد اللّه، وإسحق، وعبيد اللّه، وزيد، والحسن، وسليمان، وفاطمة الكبرى، وفاطمة الصغرى، ورقية الكبرى، وحكيمة، وأم أبيها، ورقية الصغرى، وكلثم، وأم جعفر، ولبابة، وزينب، وخديجة، وعلية، وآمنة، وحسنة، وبريهة، وعائشة، وأم سلمة، وميمونة، وأم كلثوم من أمهات شتى.

وعاش مع أبيه ٢٠ سنة، وبعده ٣٥.

٢١٤

من مناقبه:

كان أجل أولاد الإمام الصادق قدراً، وأعظمهم محلاً، وأبعدهم في الناس صيتاً، ولم يُر في زمانه أسخى منه، ولا أكرم نفساً، وكان يبلغه عن الرجل أنه ينال منه، فيبعث إليه بصرة فيها ألف دينار، وكان يضرب المثل بصرر الأموال التي يتصدق بها، حتى قيل: عجباً لمن جاءته صرة موسى، فشكا الفقر !. ومر برجل فرآه كئيباً، فسأله عن السبب ؟. قال: لحقتني الديون من أجل حقل زرعته بطيخاً، وقثاء، وقرعاً، فلما استوى الزرع وقرب الخير جاء الجراد فأتى عليه، ولم يبق منه شيئاً، فذهب الزرع، وبقيت الديون. فأعطاه الإمام ما كان يأمله من زرعه، فوفى ديونه، وبقيت معه فضلة، جعل اللّه فيها البركة، كما حدث صاحب الزرع.

وكان كآبائه وأجداده يتفقد الفقراء، ويحمل إليهم في الليل الطعام والمال، وهم لا يعرفونه، وكان يقول في سجوده: اللهم قبح الذنب من عبدك، فليحسن العفو من عندك، ومن دعائه: اللهم إني أسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب.

مع علي بن يقطين:

كان علي بن يقطين مقرباً عند هارون الرشيد، يثق به، وينتدبه إلى ما أهمه من الأمور، وكان ابن يقطين يكتم التشيع والولاء لأهل البيت (ع)، ويظهر الطاعة للرشيد، وفي ذات يوم أهدى الرشيد إلى ابن يقطين ثياباً أكرمه بها، وكان في جملتها درّاعة خز سوداء من لباس الملوك مثقلة بالذهب.

فأرسل علي بن يقطين الثياب ومعها الدراعة إلى الإمام الكاظم، ومعها مبلغ من المال، ولما وصلت إلى الإمام، قبل المال والثياب، ورد الدراعة إليه على يد رسول آخر غير الذي جاء بالمال والثياب، وكتب الإمام إلى علي بن يقطين احتفظ بالدراعة، ولا تخرجها من يدك، فإن لها شأناً، فأحتفظ علي بالدراعة، وهو لا يعرف السبب.

وبعد أيام سعى بعض الواشين إلى الرشيد، وقال له: إن ابن يقطين يعتقد بإمامه موسى بن جعفر، ويحمل إليه خمس ماله في كل سنة، وقد حمل إليه الدراعة التي أكرمته بها، فاستشاط الرشيد غضباً، وأحضر علي بن يقطين، وقال له: ما فعلت بتلك الدراعة التي كسوتك بها ؟.

قال: هي عندي في سفط محتوم، وقد احتفظت بها تبركاً، لأنها منك.

٢١٥

قال الرشيد: ائت بها الساعة.

وفي الحال نادى علي بعض غلمانه، وقال له: اذهب إلى البيت، وافتح الصندوق الفلاني تجد فيه سفطاً، صفته كذا، جئني به الآن.

فلم يلبث الغلام، حتى جاء بالسفط، ووضعه بين يدي الرشيد. ففتح الرشيد السفط، ونظر إلى الدراعة كما هي، فسكن غضبه، وقال لعلي: ارددها إلى مكانها، وانصرف راشداً، فلن اصدق عليك بعدها ساعياً، وأمر له بجائزة سنية ثم أمر أن يضرب الساعي ألف سوط، فضرب ٥٠٠، ومات قبل إكمال الألف.

مع الرشيد:

وللإمام الكاظم مع هارون الرشيد أخبار كثيرة وطويلة ذكرها الشيخ الصدوق في «عيون أخبار الرضا» منها أن الرشيد قال له: كيف جوزتم للناس أن ينسبوكم إلى رسول اللّه، ويقولوا لكم: يا أبناء رسول اللّه، وأنتم بنو علي، وإنما ينسب المرء إلى أبيه، لا إلى أمه ؟!.

فقال له الإمام: لو أن النبي نشر، وخطب إليك كريمتك، هل كنت تجيبه ؟.

قال الرشيد: سبحان اللّه وكيف لا أجيبه ؟.

قال الإمام: ولكنه لا يخطب إليّ ولا أجيبه.

قال الرشيد: ولمَ ؟.

قال الإمام: لأنه ولدني، ولم يلدك.

ولو تدبر هارون الرشيد القرآن الكريم لم يسأل الإمام هذا السؤال، وينكر هذا الإنكار، فإن اللّه سبحانه قد سماهم أبناء الرسول قبل أن يسميهم بذلك أحد من الناس، حيث قال عز من قائل: «فمن حاجك فيه من بعدما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع ابناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين» وقد اتفق المسلمون بكلمة واحدة أن النبي دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين، فكان علي نفس النبي، وكانت فاطمة نساءه، وكان الحسن والحسين ابناءه. فإن كان للرشيد وغيره من اعتراض على نسبة آل البيت إلى الرسول الأعظم، فهو اعتراض ورد على اللّه، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.

٢١٦

ومنها: أن الرشيد كان ينقله من سجن إلى سجن، حتى دس إليه السم، فسجنه أولاً بالبصرة عند عيسى بن جعفر، ثم سجنه عند الفضل بن الربيع، ثم عند الفضل بن يحيى، ثم عند السندي بن شاهك الذي حصل السم على يده، وأرسل الإمام إلى الرشيد من سجنه هذه الرسالة: «يا هارون ما من يوم ضراء انقضى عني إلا انقضى عنك من السراء مثله، حتى نجتمع أنا وأنت في دار يخسر فيها المبطلون».

أجل، لقد خسر هارون وآباؤه وأبناؤه، كما خسر من قبل يزيد بن معاوية وآباؤه وذووه، وكان الفوز دنيا وآخرة لموسى بن جعفر وآبائه وأبنائه، سلام اللّه وصلواته عليهم أجمعين.

الإمَام عَلي الرّضَا

- هو الإمام الثامن من الأئمة الأطهار، ولد بالمدينة سنة ١٥٣ من الهجرة، وتوفي سنة ٢٠٢، ودفن بطوس من أرض خراسان، وأمه أم ولد، وتسمى خيزران.

وكنيته أبو الحسن، وأشهر ألقابه الرضا.

- أولاده: قال المفيد والطبرسي وابن شهرآشوب: لم يترك من الولد إلا محمد الجواد.

من مناقبه:

ما سئل عن شيء إلا أجاب عنه، وما كان أحد أعلم منه في زمانه، وكان يستخرج أجوبته من القرآن الكريم، وكان يختمه في كل ثلاثة أيام مرة، ويقول: لو أردت لختمته بأقل من ذلك، ولكني ما مررت بآية قط إلا فكرت فيها، وفي أي شيء نزلت.

ومن عادته أن لا يقطع على أحد كلامه، ولا يرد أحداً عن حاجة، وكان كثير المعروف والصدقة، بخاصة صدقة السر.

وكان المأمون مولعاً بالسماع إلى العلماء، وجدالهم ونقاشهم، فكان يجمع له العلماء والفقهاء والمتكلمين من جميع الأديان، فيسألونه، ويجيب الواحد تلو الآخر، حتى لم يبق أحد منهم إلا اعترف له بالفضل، وأقر على نفسه بالقصور، وقد جاء في أكثر من كتاب أن بعض العلماء، وهو محمد بن عيسى اليقطيني جمع من مسائل الإمام الرضا وأجوبتها ١٨ ألف مسألة، وفقد هذا الكتاب مع ألوف الكتب التي خسرتها المكتبة الاسلامية والعربية.

وفي كتب الشيعة الكثير من هذه المسائل، «منها» أن قال له: يا ابن رسول اللّه إن الناس يروون عن جدك أنه قال: خلق اللّه آدم على صورته، فما رأيك ؟.

٢١٧

قال الإمام: إنهم حذفوا أول الحديث الذي يدل على آخره، وهذا هو الحديث كاملاً: مر رسول اللّه برجلين يتسابان، ويقول أحدهما للآخر: قبح اللّه وجهك ووجهاً يشبهك. فقال النبي للساب: لا تقل هذا، فإن اللّه خلق آدم على صورته، أي على صورة من تشتمه وعليه يكون شتمك لخصمك هذا شتم لآدمعليه‌السلام .

ومنها: أنه سئل: أين كان اللّه ؟ وكيف كان ؟ وعلى أيّن شيء يعتمد ؟.

فقال: إن اللّه كيف الكيف فهو بلا كيف، وأيّن الاين فهو بلا أين، وكان اعتماده على قدرته. ومعنى جواب الإمام أن اللّه خلق الزمان وخلق الأحوال، فلا زمان له ولا حال، وغني عن كل شيء فلا يعتمد على شيءٍ غير ذاته بذاته. وسئل عن معنى إرادة اللّه فقال: هو فعله لا غير، ذلك أن يقول للشيء: كن فيكون، بلا لفظ ولا نطق بلسان، ولا همة ولا تفكر، ولا كيف كذلك ولا كمّاً.

ومنها: أنه سأل سائل عن معنى قول الإمام الصادق « لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين».

فقال الإمام: من زعم أن الله يفعل أفعالنا ، ثم يعذبنا عليها ، فقد قال بالجبر ، ومن زعم أن الله فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه - أي الأئمة - فقد قال بالتفويض ، والقائل بالجبر كافر ، والقائل بالتفويض مشرك ، أما معنى الأمر بين الأمرين فهو وجود السبيل إلى اتيان ما أمر الله به ، وترك ما نهى عنه ، أي ان الله سبحانه أقدره على فعل الشر وتركه ، كما اقدره على فعل الخير وتركه ، وأمره بهذا ونهاه عن ذاك.

ومنها: انه سئل عن الإمامة، فقال: ان اللّه لم يقبض نبيه، حتى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شيء، حيث قال عز من قائل:

«ما فرطنا في الكتاب من شيء»، وأنزل في حجة الوداع «اليوم أكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً».

والإمامة من إكمال الدين وإتمام النعمة. وقد أقام لهم علياً علماً وإماماً، ومن زعم أن النبي لم يكمل دينه - ببيان الإمام - فقد رد كتاب اللّه، ومن رد كتاب اللّه فهو كافر. ان الإمامة لا يعرف قدرها إلا اللّه، فهي اجل قدراً، وأعظم شأناً، وأعلى مكاناً من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم.

٢١٨

ان الإمامة خلافة اللّه والرسول، وزمام الدين، ونظام المسلمين، والامام يحلل ما أحل اللّه، ويحرم ما حرم اللّه، ويقيم الحدود، ويذب عن الدين، والإمام أمين اللّه في أرضه، وحجته على عباده، وخليفته في بلاده، وهو مطهر من الذنوب، مبرأ من العيوب، لا يدانيه أحد في خلقه، ولا يعادله عالم، ولا يوجد منه بديل، ولا له مثيل. فأين للناس أن تستطيع اختيار مثل هذا ؟!.

ونكتفي بهذا المقدار من أجوبته، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى «عيون اخبار الرضا» للشيخ الصدوق. أما اخبار المأمون مع الإمام، واسناد ولاية العهد اليه، ثم اغتياله بالسم فقد ذكرناها في كتاب «الشيعة والحاكمون».

الامَام محمَّد الجَوَاد

- هو الإمام التاسع، ولد بالحديثة سنة ١٩٥ هجري، وتوفي سنة ٢٢٠، وهو ابن ٢٥ سنة، عاش مع أبيه ٧ سنين، وبقي بعده ١٨ سنة، وأمه أم ولد، واسمها سكن.

- قال المفيد: كان له أربعة أولاد: ذكران، وهما الإمام علي الهادي، وموسى، وبنتان، وهما فاطمة، وامامة، وكنيته ابو جعفر، ولقبه الجواد.

مع المأمون:

قال الشيخ المفيد في كتاب «الارشاد»:

كان المأمون قد شغف بالإمام ابي جعفر محمد الجواد لما رأى من فضله مع صغر سنه، وبلوغه في العلم والحكمة، والأدب وكمال العقل ما لم يساوه فيه أحد من أهل زمانه، فزوجه ابنته أم الفضل وحملها معه إلى المدينة، وكان متوفراً على إكرامه وتعظيمه، واجلال قدره.

وانكر العباسيون على المأمون عزمه على تزويج الإمام من ابنته، وقالوا له: ننشدك اللّه ان لا تقيم على هذا الأمر الذي عزمت عليه، فنحن نخشى أن يخرج منا امر قد ملكناه، وقد عرفت ما بيننا وبين ابناء آل أبي طالب.

فقال لهم المأمون: أما الذي بينكم وبينهم فأنتم السبب فيه، ولو انصفتم القوم لكانوا أولى منكم، وقد اخترت محمد بن علي لتفوقه على كافة أهل الفضل والعلم مع صغر سنه، وسيظهر لكم، وتعلموا أن الرأي ما رأيت.

قالوا: انه صغير السن، ولا معرفة له ولا فقه.

٢١٩

قال المأمون: ويحكم أنا اعرف به منكم، انه من أهل بيتٍ علمهم من اللّه، ولم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا، وان شئتم فامتحنوه، حتى يتبين لكم ذلك.

قالوا له: قد رضينا، واجتمع رأيهم أن يقابلوا الإمام الجواد بقاضي القضاة يحيى بن أكثم، فأتوا به إلى مجلس المأمون، ومعه الإمام، والناس من حولهما، وسأل ابن أكثم الإمام عن محرمٍ قتل صيداً؟.

فقال له: هل قتله في حل أو حرم، عالماً كان أو جاهلاً، عمداً أو خطأ، حراً كان المحرم أو عبداً، صغيراً كان أو كبيراً، مبتدئاً بالقتل أو معيداً، من ذوات الطير كان الصيد أو من غيرها، ومن صغار الطير أو من كباره، مصراً على ما فعل أو نادماً، في الليل كان قتل الصيد أو في النهار، وفي عمرة كان ذاك أو في حج ؟

فتحير ابن أكثم، وبان عليه العجز والانقطاع، حتى عرف أهل المجلس امره.

فقال المأمون: الحمد للّه على هذه النعمة والتوفيق، ثم التفت إلى أقربائه، وقال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرون ؟!.

فقالوا له: انك أعلم بما رأيت.

قال: ان أهل هذا البيت خصوا من دون الخلق بما ترون من الفضل، وان صغر السن فيهم لا يمنعهم من الكمال، فقد دعا رسول اللّه علياً إلى الإسلام، وهو ابن عشر سنين، وقبله منه، وحكم له به، ولم يدع أحداً في هذه السن كما دعا عليّاً، وبايع الحسن والحسين، وهما دون ست سنين، ولم يبايع صبياً غيرهما. افلا تعلمون ان اللّه قد خص هؤلاء القوم، وانهم ذرية بعضهم من بعض، يجري لآخرهم ما يجري لأولهم(١) .

قالوا: صدقت.

الحاكم الموالي:

جاء رجل إلى الإمام الجواد، وقال له: جعلت فداك يا ابن رسول اللّه، ان

_____________________

(١) ان النبوة تجتمع مع صغر السن بدليل قوله تعالى: «وآتيناه الحكم صبياً» وقوله سبحانه «فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً قال اني عبد اللّه آتاني الكتاب وجعلني نبياً» إذن فاجتماع الإمامة مع صغر السن جائز اذ لو كان ذلك محالاً لكان محالاً في كل الناس انبياء كانوا أو أئمة.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٤١: -

[ المورد - (٥١) - نهيهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه عن جواب أبى سفيان في احد ]

كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نزل يوم احد بأصحابه - وهم سبعمائة - في عدوة الوادي، وجعل ظهره إلى الجبل، وكان المشركون ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دارع ومائتا فارس، ومعهم خمسة عشر امرأة وفي المسلمين مائتا دارع وفارسان.

وتعبأ الجيشان للقتال، فاستقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة، وترك أحدا

٣٦١

خلف ظهره، وجعل وراءه الرماة وهم خمسون راميا، أمر عليهم عبدالله بن جبير وقال له: انضح عنا الخيل بالنبل لا يأتونا من خلفنا، واثبتوا مكانكم، ان كانت لنا، أو كانت علينا، فانا انما نؤتى من هذا الشعب شعب أحد(١) .

وخرج طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين ينادي: يا معشر أصحاب محمد انكم تزعمون ان يعجلنا بسيوفكم إلى النار، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل أحد منكم يعجله سيفي إلى الجنة، ويعجلني سيفه إلى النار ؟

قال ابن الأثير في كامله: فبرز إليه علي بن أبي طالب فضربه فقطع رجله فسقط وانكشفت عورته، فناشده الله فتركه - لما به يخور بدمه حتى هلك - فكبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: كبش الكتيبة، وكبر المسلمون بتكبيره، وقال لعلي: ما منعك ان تجهز عليه ؟ فقال ناشدني الله والرحم فاستحييت منه. وصمد علي بعده لأصحاب اللواء يحمل عليهم فيقتلهم واحدا بعد واحد.

قال ابن الأثير وغيره: وقد كان المسلمون قتلوا أصحاب اللواء وبقي مطروحا لا يدنو منه أحد، فأخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته فاجتمعت قريش حوله، وأخذه صواب عبد لبني عبد الدار - كان من أشد الناس قوة - فقتل عليه (قال) وكان الذي قتل أصحاب اللواء علي بن أبي طالب، قاله أبو رافع.

واقتتل الناس قتالا شديدا. وأمعن حمزة وعلي وأبو دجانة في رجال من المسلمين وأبلوا بلاء حسنا، وأنزل الله نصره عليهم وكانت الهزيمة على المشركين، وهرب النساء مصعدات في الجبل، ودخل المسلمون عسكرهم ينهبون، فلما نظر بعض الرماة إلى اخوانهم ينهبون، آثروا النهب على البقاء في الشعب، ونسوا ما أمرهم به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وحضهم عليه. وحين رأى خالد بن الوليد قلة من بقي من الرماة حمل عليهم فقتلهم، وشد

____________________

(١) الشعب بالكسر ما انفرج بين الجبلين (منه قدس) (*).

٣٦٢

بمن معه على أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من خلفهم، وتبادر المنهزمون من المشركين حينئذ بنشاط مستأنف لقتال المسلمين حتى هزموهم بعد أن قتلوا سبعين من أبطالهم، فيهم أسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبدالمطلب وقاتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يومئذ قتالا شديدا، فرمى بالنبل حتى فني نبله وانكسرت سية قوسه، وانقطع وتره، وأصيب بجرح في وجنته، وآخر في جبهته وكسرت رباعيته السفلى، وشقت - بأبي هو وأمي - شفته، وعلاه ابن قمئة بالسيف.

وقاتل دونه علي، ومعه خمسة من الأنصار استشهدوا في الدفاع عنه رضي ‌الله‌ عنهم وأرضاهم، وترس أبو دجانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه، فكان يقع النبل بظهره وهو منحن عليه، وقاتل مصعب بن عمير فاستشهد، قتله ابن قمئة الليثي وهو يظنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فرجع إلى قريش يقول لهم: قتلت محمدا، فجعل الناس يقولون: قتل محمد، قتل محمد فأوغل المسلمون في الهرب على غير رشد، وكان أول من عرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كعب بن مالك، فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين ابشروا هذا رسول الله حي لم يقتل فأشار إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن أنصت(١) .

وحينئذ نهض علي بمن كان معه حتى خلصوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الشعب، فتحصن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله به، وهم يحوطونه مدافعين عنه.

قال ابن جرير وابن الأثير في تاريخيهما وسائر أهل الأخبار: فأبصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله - أي وهو في الشعب - جماعة من المشركين، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي: احمل عليهم، فحمل عليهم ففرقهم وقتل منهم، ثم أبصر جماعة أخرى، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : اكفنيهم يا علي فحمل عليهم وفرقهم وقتل منهم. فقال جبرائيل: يا رسول الله هذه المواساة، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انه مني وأنا منه. فقال

____________________

(١) مخافة أن يسمع العدو فيهجم عليه (منه قدس) (*).

٣٦٣

جبرائيل: وأنا منكما. (قالوا) وسمع صوت :

لا سيف إلا ذو الفقار

ولا فتى إلا علي(٤٨٥)

وجعل علي ينقل الماء لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في درقته من المهراس يغسل به جرح النبي فلم ينقطع الدم(١) .

ووقعت هند وصواحباتها على الشهداء يمثلن بهم، فاتخذت من آذان الرجال وآنافهم وأصابع أيديهم وأرجلهم ومذاكيرهم قلائد ومعاضد، وكانت أعطت وحشيا معاضدها وقلائدها جزاء قتلة حمزة فلاكتها فلم تسغها فلفظتها(٤٨٦) .

ثم أشرف أبو سفيان على المسلمين، فقال: أفي القوم محمد ؟ ثلاثا، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) : لا تجيبوه(٣) فقال أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا

____________________

(٤٨٥)

لا سيف الا ذو الفقار

ولا فتى الا على

راجع: فرائد السمطين للحمويني الشافعي ج ١ / ٢٥٧ ح ١٩٨، ترجمة الإمام على بن أبى طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي ج ١ / ١٤٨ ح ٢١٥، الكامل في التاريخ ج ٢ / ١٠٧، مناقب على بن أبى طالب لابن المغازلي ص ١٩٧، تذكرة الخواص للسبط بن الجوزي ص ٢٦، المناقب للخوارزمي ص ٢١٣ ط الحيدرية، السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ / ١٠٦، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ١٤ / ٢٥١ وقد نقل تصحيحه عن شيخه عبد الوهاب ابن سكينة.

(١) حتى أحرقت سيدة نساء العالمين بعد ذلك حصيرا وجعلت على الجرح من رماده فانقطع الدم، وقد شهدت الواقعةعليها‌السلام فكانت تعانقه وهو مجروح وتبكي (منه قدس).

(٤٨٦) الكامل في التاريخ ج ٢ / ١١١، الدرجات الرفيعة ص ٦٦ - ٦٩، السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ / ٩٦ - ٩٧، السيرة الحلبية ج ٢ / ٢٤٦.

(٢) كما في غزوة احد من تاريخي ابن جرير وابن الأثير وطبقات ابن سعد والسيرتين الحلبية والدحلانية وكتاب البداية والنهاية لأبي الفداء وسائر الكتب المشتملة على غزوة أحد (منه قدس).

(٣) كأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن آمنا من أبى سفيان وأصحابه أن يشدوا عليه =>

٣٦٤

محمدا ؟ قال عمر: اللهم لا وانه ليسمع كلامك(٤٨٧) .

قلت: هذا محل الشاهد من هذه الحكاية إذ آثر رأيه في جواب أبي سفيان على نهي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إياهم عن جوابه كما ترى.

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٤٦: -

[ المورد - (٥٢) -: التجسس مع النهى عنه ]

قال الله عزوجل:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ) (٤٨٨) .

وفي الصحيح عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إياكم والظن، فان الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا، ولا تناجشوا ولا تحاسد، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله اخوانا. الحديث(٤٨٩) .

لكن عمر رأى في أيام خلافته ان بالتجسس نفعا للأمة وصلاحا للدولة، فكان يعس ليلا، ويتجسس نهارا، حتى سمع هو يعس في المدينة صوت

____________________

=> إذا علموا ببقائه حيا، ولذلك نهاهم عن جوابه، وكأن عمر إذ أجابه لم يكن خائفا ولم يكن يرى لهذا الاحتياط وجها (منه قدس).

(٤٨٧) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ / ٤٧، الكامل لابن الأثير ج ٢ / ١١١، السيرة الحلبية ج ٢ / ٢٤٥.

(٤٨٨) سورة الحجرات: ١٢.

(٤٨٩) مجمع البيان ج ٩ / ١٣٧، صحيح مسلم ج ٨ / ١٠ ط العامرة، صحيح الترمذي ج ١ / ٣٥٩، صحيح البخاري ج ٣ / ٤٣١ وج ٤ / ١٢٨، مسند أحمد ج ٢ / ٢٤٥ و ٢٨٧ و ٢٦٥ و ٥١٧، الجامع الصغير ح ٢٩٠١، وصحيح الجامع الصغير ح ٢٦٧٦، أسنى المطالب ص ٩٨، الفتح الكبير ج ١ / ٤٩٠ (*).

٣٦٥

رجل يتغنى في بيته فسور عليه فوجد عنده امرأة وزقا من خمر، فقال: أي عدو الله ظننت ان الله يسترك وأنت على معصية، فقال لا تعجل يا أمير المؤمنين ان كنت اخطأت في واحدة، فقد اخطأت انت في ثلاث. قال الله تعالى:( وَلَا تَجَسَّسُوا ) فقد تجسست وقال:( وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) وقد تسورت وقال:( فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا ) وما سلمت. فقال: هل عندك من خير ان عفوت عنك ؟. قال نعم. فعفا عنه وخرج(٤٩٠) .

وعن السدي قال: خرج عمر بن الخطاب فإذا هو بضوء نار ومعه عبدالله بن مسعود واتبع الضوء حتى دخل الدار، فإذا سراج في بيت، فدخل وحده وترك ابن مسعود في الدار، فإذا شيخ جالس وبين يديه شراب وقينة تغنيه، فلم يشعر حتى هجم عليه عمر، فقال: ما رأيت منظرا أقبح من شيخ ينتظر أجله فرفع الشيخ رأسه فقال: بلى صنيعك أنت أقبح مما رأيت مني، إذ تجسست وقد نهى الله عن التجسس، ودخلت بغير إذن، فقال عمر: صدقت ثم خرج عاضا على ثوبه يبكي.

وقال: ثكلت عمر أمه، إلى أن قال: وهجر الشيخ مجلس عمر حينا، فبينا عمر بعد ذلك جالس إذ به قد جاء شبه المستخفي حتى جلس في أخريات الناس فرآه عمر فقال: علي بهذا، فقيل له: أجب فقام وهو يرى ان عمر سيسوئه بما رأى منه. فقال عمر: ادن مني فلا زال يدنيه حتى

____________________

(٤٩٠) أخرجه الخرائطي في كتاب مكارم الأخلاق وهو الحديث ٣٦٩٦ من أحاديث الكنز في ص ١٦٧ من جزئه الثاني، وأورده ابن أبى الحديد في ص ٩٦ من المجلد الثالث من شرح نهج البلاغة، وذكره الغزالي في ص ١٣٧ من كتابه إحياء العلوم (منه قدس). الغدير للأميني ج ٦ / ١٢١، الرياض النضرة ج ٢ / ٤٦ ط ١، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ١ / ٦١ وج ٣ / ٩٦ ط ١، الدر المنثور ج ٦ / ٩٣، الفتوحات الإسلامية ج ٢ / ٤٧٧ (*).

٣٦٦

أجلسه بجنبه، فقال: ادن مني اذنك فالتقم أذنه فقال له. والذي بعث محمدا بالحق ما أخبرت أحدا من الناس بما رأيت منك، ولا ابن مسعود فانه كان معي. (الحديث)(٤٩١) .

وعن الشعبي: ان عمر فقد رجلا من أصحابه، فقال لابن عوف: انطلق بنا إلى منزل فلان فننظر فأتيا منزله فوجدا بابه مفتوحا وهو جالس وامرأته تصب له في الإناء فتناوله أياه، فقال عمر لابن عوف: هذا الذي شغله عنا، فقال ابن عوف لعمر: وما يدريك ما في الإناء ؟. فقال عمر: أتخاف ان يكون هذا تجسسا ؟ قال: بل هو التجسس. قال: وما التوبة من هذا ؟. قال: لا تعلمه بما اطلعت عليه من أمره !. (الحديث)(٤٩٢) .

وعن المسور بن مخرمة، عن عبدالرحمن بن عوف: انه حرس المدينة مع عمر بن الخطاب ليلة فبينا هم يمشون شب لهم سراج في بيت فانطلقوا يؤمونه فلما دنوا منه فإذا باب مجاف - مغلق - على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط، فأخذ عمر بيد عبدالرحمن بن عوف فقال له: هذا بيت ربيعة بن أمية، وهم الآن يشربون الخمر فما ترى ؟. قال أرى انا قد أتينا ما نهى الله عنه إذ تجسسنا، فانصرف عنهم عمر وتركهم !(٤٩٣) .

____________________

(٤٩١) أخرجه أبو الشيخ في كتاب القطع والسرقة، ونقله صاحب كنز العمال في ص ١٤١ من جزئه الثاني وهو الحديث ٣٣٥٤ (منه قدس).

(٤٩٢) أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر وهو الحديث ٣٦٩٤ في ج ٢ من الكنز (منه قدس).

(٤٩٣) أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد والخرائطي في مكارم الأخلاق وهو الحديث ٣٦٩٣ من أحاديث الكنز في الجزء المتقدم ذكره. وأخرجه الحاكم أيضا وصححه في باب النهى عن التجسس من كتاب الحدود صفحة ٣٧٧ من الجزء الرابع من المستدرك =>

٣٦٧

وعن طاووس: ان عمر خرج ليلة فمر ببيت فين ناس يشربون فناداهم أفسقا ؟ أفسقا ؟ فقال بعضهم: قد نهاك الله عن هذا، فرجع عمر وتركهم !(٤٩٤) .

وعن أبي قلابة: ان عمر حدث ان أبا محجن الثقفي يشرب الخمر في بيته هو وأصحابه فانطلق عمر حتى دخل عليه، فقال أبو محجن: يا أمير المؤمنين ان هذا لا يحل لك قد نهاك الله عن التجسس، أفسأل عمر زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن الأرقم فقالا: صدق يا أمير المؤمنين فخرج عمر وتركه !(٤٩٥)

قلت: من تتبع ما جاء من الأخبار حول تجسسه رأى من نشاطه في سياسته وعزائمه المبذولة في سبيلها ما هو ماثل بأجلى المظاهر(٤٩٦) .

وكأنه (رض) كان يرى أن الحدود الشرعية تدرأ بخطأ الحاكم في طريق اثباتها، ولذلك لم يقم على واحد من هؤلاء المجرمين حدا، بل لم يؤذ منهم أحدا، وما ندري كيف رضي أن لا يكون لتجسسه أثر، إلا تمرد المجرمين في إجرامهم، بعد أن رأو هذا التسامح من أمامهم ؟ !.

____________________

=> أورده الذهبي في تلخيصه مصرحا بصحته (منه قدس). الغدير للأميني ج ٦ / ١٢٢، سنن البيهقي ج ٨ / ٣٣٤، الإصابة ج ١ / ٥٣١، الدر المنثور ج ٦ / ٩٣، السيرة الحلبية ج ٣ / ٢٩٣، الفتوحات الإسلامية ج ٢ / ٤٧٦.

(٤٩٤) (٤٩٥) هذا الحديث وحديث طاووس موجودان في ج ٢ / ١٤١ من كنز العمال (منه قدس). مجمع البيان ج ٩ / ١٣٥.

(٤٩٦) الغدير للأميني ج ٦ / ١٢١، مجمع البيان ج ٩ / ١٣٥ (*).

٣٦٨

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٤٩: -

[ المورد - (٥٣) - تشريع حد لمهور النساء ]

يجب في المهر أن يكون مما يملكه المسلم، عينا كان أم دينا، أم منفعة، وتقديره راجع إلى الزوجين فيما يتراضيان عليه، كثيرا كان أم قليلا، ما لم يخرج بسبب القلة عن المالية كحبة من طعام مثلا، نعم يستحب في جانب الكثرة أن لا يزيد على مهر السنة وهو خمسمائة درهم(٤٩٧) .

وكان عمر (رض) عزم على النهي عن الغلو في مهور النساء، تسهيلا لأمر التناكح الذي به التناسل، وبه صون الاحداث عن الحرام وأن من تزوج أحرز ثلثي دينه(٤٩٨)

فقام في بعض أيامه خطيبا في هذا المعنى، فكان مما قاله في خطابه: لا يبلغني ان امرأة تجاوز صداقها صداق زوجات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الا أرجعت ذلك منها. فقامت إليه امرأة فقالت: والله ما جعل الله ذلك لك، انه يقول:( وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ) (٤٩٩) فعدل عن حكمه قائلا: الا تعجبون من إمام أخطأ وامرأة أصابت ؟ ! ناضلت إمامكم فنضلته(٥٠٠) .

وفي رواية(١) انه قال: كل أحد أعلم من عمر، تسمعونني أقول مثل

____________________

(٤٩٧) الوسائل باب - ٢ - من أبواب المهور ح ١، جواهر الكلام ج ٣١ / ٣ و ١٤ و ١٥، الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٨ / ١٦١ ط بيروت.

(٤٩٨) مستدرك الوسائل ك النكاح باب - ١ - من أبواب مقدمات النكاح ح ٢ و ٣، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ج ٥ / ٨٦.

(٤٩٩) سورة النساء آية: ٢٠.

(٥٠٠) رواه بهذه الألفاظ كثير من حفظة السنن وسدنة الآثار، وأرسله ابن أبى الحديد في أحوال عمر ص ٩٦ من المجلد الثالث من شرح النهج - إرسال المسلمات (منه قدس). وراجع: الغدير للأميني ج ٦ / ٩٨، وشرح النهج الحديدي ج ١ / ٦١ وج ٣ / ٩٦ ط ١.

(١) ذكرها الزمخشري في تفسير: وآتيتم إحداهن قنطارا من سورة النساء في كشافه (منه قدس) (*).

٣٦٩

هذا القول فلا تنكرونه علي حتى ترد علي امرأة ليست أعلم من نسائكم ؟ !(٥٠١) .

وفي رواية أخرى(١) فقامت امرأة فقالت: يابن الخطاب الله يعطينا وأنت تمنع وتلت هذه الآية، فقال عمر: كل الناس أفقه من عمر ورجع عن حكمه(٥٠٢) .

قلت: استدلوا بهذه الواقعة وأمثالها على إنصافه واعترافه، وكم له من قضايا مع الخاصة والعامة من رجال ونساء تمثل له الإنصاف والاعتراف و كان إذا أعجبه القول أو الفعل يستفزه العجب، وربما ظهر عليه الطرب.

كما اتفق له مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد سئل عن أشياء كرهها، فيما أخرجه البخاري عن أبي موسى الأشعري إذ قال: سئل النبي عن أشياء كرهها لكونها

____________________

(٥٠١) الغدير للأميني ج ٦ / ٩٧، الكشاف للزمخشري ج ١ / ٣٥٧ وفى طبع آخر ج ١ / ٥١٤، شرح صحيح البخاري للقسطلاني ج ٨ / ٥٧.

(١) ذكرها الرازي في تفسير الآية آخر ص ١٧٥ من الجزء الثالث من تفسيره الكبير، وله ثمة عثرة لليدين وللفم، إذ قال: وعندي ان الآية لا دلالة فيها على جواز المنالاة. إلى آخر كلامه الملتوي عن الفهم الذي أراد به تخطثه المرأة دفاعا عن عمر وقد زاد في طينته بلة من حيث لا يدرى، فليراجع الباحثون كلامه ليعجبوا من أسفافه، وفى ص ١٥٠ من تاريخ عمر بن الخطاب لأبي الفرج ابن الجوزي حديث عن عبدالله ابن مصعب وآخر عن ابن الاجدع يتضمنان خطاب عمر في نهيه عن الغلو في مهور النساء ورد المرأة عليه بما ألزمه بالرجوع عما نهى عنه معترفا بخطأه وصواب المرأة (منه قدس).

(٥٠٢) الغدير للأميني ج ٦ / ٩٨، تفسير القرطبي ج ٥ / ٩٩، تفسير النيسابوري ج ١، تفسير الخازن ج ١ / ٣٥٣، الفتوحات الإسلامية ج ٢ / ٤٧٧ وزاد فيه: حتى النساء. وهناك روايات أخرى من أراد الاطلاع عليها مع مصادرها فاليراجعها في الغدير ج ٦ / ٩٥ وما بعدها. (*)

٣٧٠

مما لا يعنى العقلاء بها، ولا هي مما بعث الأنبياء لبيانها، فلما أكثروا عليه غضب لتعنتهم في السؤال، وتكلمهم فيما لا حاجة لهم به، ثم قال للناس. سلوني، كأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله رآهم فشلوا أو خجلوا حيث أغضبوه فتبسط لهم بقوله: سلوني، رأفة بهم ورحمة، فقال رجل هو عبدالله بن حذافة: من أبي يا رسول الله ؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : أبوك حذافة، فقام آخر وهو سعد بن سالم فقال: من أبي يا رسول الله ؟. فقال: أبوك سالم مولى أبي شيبة.

وكان سبب هذا السؤال منهما طعن الناس في نسبيهما، فلما رأى عمر ما في وجه رسول الله من الغضب قال: يا رسول الله انا نتوب إلى الله عزوجل مما يوجب غضبك اه‍. وسره من رسول الله الحاق عبدالله بحذافة، والحاق سعد بسالم تصديقا لاميهما في نسبيهما.

وفي صحيح البخاري أيضا عن أنس بن مالك ان عبدالله بن حذافة سأل رسول الله فقال له: من أبي ؟. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : أبوك حذافة.

وفي صحيح مسلم: انه كان يدعى لغير أبيه، فلما سمعت أمه سؤاله هذا، قالت: ما سمعت بابن أعق منك أأمنت أن تكون أمك قارفت ما يقارف نساء الجاهلية فتفضحها على أعين الناس. فبرك عندها عمر على ركبتيه أمام رسول الله فقال معجبا بتصديق النبي لام عبدالله ابن حذافة في نسبه: رضينا بالله ربا، وبالاسلام دينا وبمحمد نبيا.(٥٠٣)

قالها طربا بسترهصلى‌الله‌عليه‌وآله على كثير من الأمهات المفارقات في الجاهلية وقد جب الإسلام ما قبله.

____________________

(٥٠٣) تجد هذا الحديث في باب من برك على ركبتيه عند الإمام أو المحدث، وتجد قبله حديث أبى موسى في أواخر كتاب العلم صفحة ١٩ من الجزء الأول من صحيح البخاري (منه قدس). صحيح مسلم. (*)

٣٧١

[ المورد - (٥٤) - استبدال الحد الشرعي بأمر آخر يختاره الحاكم ]

وذلك ان غلمة الحاطب بن بلتعة، اشتركوا في سرقة ناقة لرجل من مرينة فجي بهم إلى عمر فأقروا، فأمر عمر كثير بن الصلت ان يقطع أيديهم، فلما ولي بهم ردهم عمر إليه ثم استدعى ابن مولاهم وهو عبدالرحمن بن حاطب فقال له: أما والله لولا انكم تستعملونهم وتجيعونهم لقطعت أيديهم. وأيم الله إذ لم أفعل، لاغرمتك غرامة توجعك إلى آخر ما كان من هذه الواقعة فلتراجع في ص ٣٢ والتي بعدها من الجزء الثالث من أعلام الموقعين.

ونقلها عنه العلامة المعاصر أحمد أمين في ص ٢٨٧ من (فجر الإسلام). وأشار إليها ابن حجر العسقلاني في ترجمة عبدالرحمن بن حاطب، حيث أورده في القسم الثاني من الإصابة فقال: وله قضية مع عمر(٥٠٤) .

قلت: لعل ما فعله عمر من درء الحد عن هؤلاء الغلمة وجها، وذلك حيث لا تكون السرقة الا عن مخمصة اضطرتهم إليها بقيا على رمقهم ليكونوا ممن عناهم الله عزوجل بقوله:( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) (٥٠٥) .

لكنهم أقروا بالسرقة فثبتت عليهم ولم يدعوا الضرورة الملجئة إليها، ولو فرض انهم ادعوها، لكان على الحاكم ان يطالبهم بما يثبتها، لكنا لم نر منه سوى أنه وسعهم باشفاقه مشتدا على ابن حاطب، وما ندري من أين علم انهم كانوا يجيعونهم هذا الجوع ؟.

____________________

(٥٠٤) وقريب من هذا ما وقع منه مع المغيرة بن شعبة وذلك لما زنى المغيرة بام جميل فدرأ عنه الحد. راجع تفصيل القضية في كتاب الغدير ج ٦ / ١٣٧ - ١٤٤.

(٥٠٥) سورة البقرة آية: ١٧٣ (*).

٣٧٢

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٥٣: -

[ المورد - (٥٥) - اخذ الدية حيث لم تشرع ]

وذلك ان أبا خراش الهذلي الصحابي الشاعر، أتاه نفر من أهل اليمن قدموا عليه حجاجا، فأخذ قربته وسعى نحو الماء تحت الليل حتى استقى لهم ثم أقبل صادرا فنهشته حية قبل ان يصل إليهم، فأقبل مسرعا حتى أعطاهم الماء وقال: اطبخوا شاتكم وكلوا. ولم يعلمهم ما أصابه، فباتوا على شأنهم يأكلون حتى أصبحوا، وأصبح أبوخراش وهو في الموتى، فلم يبرحوا حتى دفنوه وقال وهو يموت في شعر له :

لقد أهلكت حية بطن واد

على الاخوان ساقا ذات فضل

فما تركت عدوا بين بصرى

إلى صنعاء يطلبه بذحل

فبلغ خبره عمر بن الخطاب فغضب غضبا شديدا وقال: لولا ان تكون سنة لأمرت ان لا يضاف يماني أبدا، ولكتبت بذلك إلى الافاق. ثم كتب إلى عامله باليمن ان يأخذ النفر الذين نزلوا على أبي خراش الهذلي فيلزمهم ديته ويؤذيهم بعد ذاك بعقوبة يمسهم بها جزاء لفعلهم ! ؟(٥٠٦) .

[ المورد -(٥٦) - اقامة حد الزنى حيث لم يثبت مقتضيه ]

وذلك فيما أخرجه ابن سعد في أحوال عمر ص ٢٠٥ من الجزء الثالث

____________________

(٥٠٦) هذه القضية أوردها ابن عبد البر في أحوال أبى خراش الهذلى من كتابه الاستيعاب وأورده الدميري في حياة الحيوان بمادة حية (منه قدس)

٣٧٣

من طبقاته(١) بسند معتبر، أن بريدا قدم على عمر فنثر كنانته، فبدرت صحيفة فأخذها فقرأها فإذا فيها :

ألا أبلغ أبا حفص رسولا

فدا لك من أخي ثقة ازاري

قلائصنا هداك الله انا

شغلنا عنكم زمن الحصار

فما قلص وجدن معقلات

قفا سلع بمختلف البحار

قلائص من بني سعد بن بكر

وأسلم أو جهينة أو غفار

يعقلهن جعدة من سليم

معيدا يبتغي سقط العذار

فقال: ادعوا لي جعدة من سليم. [ قال ] فدعوا به فجلده مائة معقولا ونهاه ان يدخل على امرأة مغيبة. انتهى بلفظ ابن سعد(٥٠٧) .

قلت: لا وجه لإقامة الحد هنا بمجرد هذه الأبيات، إذ لم يعرف قائلها ولا مرسلها، على انها لا تتضمن سوى استعداء الخليفة على جعدة بدعوى انه تجاوز الحد مع فتيات من بني سعد ابن بكر، وسلم، وجهينة، وغفار، فكان يعبث بهن فيعقلهن كما تعقل القلص، يبتغي بذلك سقط عذارهن، أي سقط الحياء والحشمة، هذا كل ما في الأبيات مما نسب إلى جعدة. وهو لو ثبت شرعا لا يوجب بمجرده إقامة الحد، نعم يوجب تربيته وتعزيره.

ولعل ما فعله الخليفة انما كان من هذا الباب. وشتان ما كان منه هنا، وما كان منه مع المغيرة بن شعبة مما ستسمعه قريبا ان شاء الله.

[ المورد - (٥٧) - درؤه الحد عن المغيرة بن شعبة ]

وذلك حيث فعل المغيرة (مع الإحصان) ما فعل مع أم جميل بنت عمرو

____________________

(١) وأخرجه ابن عساكر في تاريخه، وذكر جلده ونفيه إلى عمان (منه قدس).

(٥٠٧) الطبقات الكبرى ج ٢ / ٢٨٥ ط دار صادر. (*)

٣٧٤

امرأة من قيس في قضية هي من أشهر الوقائع التاريخية في العرب، كانت سنة ١٧ للهجرة لا يخلو منها كتاب يشتمل على حوادث تلك السنة، وقد شهد عليه بذلك كل من أبي بكرة - وهو معدود في فضلاء الصحابة وحملة الآثار النبوية - ونافع بن الحارث - وهو صحابي أيضا - وشبل بن معبد، وكانت شهادة هؤلاء الثلاثة صريحة فصيحة بأنهم رأوه يولجه فيها ايلاج الميل في المكحلة لا يكنون ولا يحتشمون، ولما جاء الرابع - وهو زياد بن سمية - ليشهد، أفهمه الخليفة رغبته في ان لا يخزي المغيرة، ثم سأله عما رآه فقال: رأيت مجلسا وسمعت نفسا حثيثا وانتهازا، ورأيته مستبطنها. فقال عمر: أرأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة ؟. فقال لا لكن رأيته رافعا رجليها فرأيت خصيتيه تتردد إلى ما بين فخذيها، ورأيت حفزا شديدا، وسمعت نفسا عاليا. فقال عمر: رأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة ؟. فقال: لا. فقال عمر: الله أكبر قم يا مغيرة إليهم فاضربهم. فقام يقيم الحدود على الثلاثة.

واليكم تفصيل هذه الواقعة بلفظ القاضي أحمد الشهير بابن خلكان في كتابه - وفيات الأعيان - إذ قال ما هذا لفظه: وأما حديث المغيرة بن شعبة والشهادة عليه، فان عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه كان قد رتب المغيرة أميرا على البصرة، وكان يخرج من دار الإمارة نصف النهار، وكان أبو بكرة يلقاه فيقول: أين يذهب الامير ؟. فيقول: في حاجة. فيقول: ان الأمير يزار ولا يزور.

[ قال ]: وكان يذهب إلى امرأة يقال لها أم جميل بنت عمرو وزوجها الحجاج بن عتيك بن الحارث بن وهب الجشمي، ثم ذكر نسبها، ثم روى عن أبا بكرة بينما هو في غرفته مع اخوته، وهم نافع، وزياد، وشبل بن معبد أولاد سمية فهم اخوة لام، وكانت أم جميل المذكورة في غرفة أخرى قبالة هذه الغرفة فضرب الريح

٣٧٥

باب غرفة أم جميل ففتحه ونظر القوم فإذا هم بالمغيرة مع المرأة على هيئة الجماع، فقال أبو بكرة: بلية قد ابتليتم بها فانظروا فنظروا حتى أثبتوا فنزل أبو بكرة فجلس حتى خرج عليه المغيرة فقال له: ان كان من أمرك ما قد علمت فاعتزلنا.

(قال) وذهب المغيرة ليصلي بالناس الظهر ومضى أبو بكرة. فقال أبو بكرة: لا والله لا تصل بنا وقد فعلت ما فعلت. فقال الناس: دعوه فليصل فانه الأمير واكتبوا بذلك إلى عمررضي‌الله‌عنه ، فكتبوا إليه فأمرهم ان يقدموا عليه جميعا، المغيرة والشهود، فلما قدموا عليه جلس عمررضي‌الله‌عنه ، فدعا بالشهود والمغيرة، فتقدم أبو بكرة فقال له: رأيته بين فخذيها ؟ قال: نعم والله لكأني انظر إلى تشريم جدري بفخذيها، فقال له المغيرة ألطف النظر ؟

فقال أبو بكرة: لم آل ان اثبت ما يخزيك الله به.

فقال عمررضي‌الله‌عنه : لا والله حتى تشهد لقد رأيته يلج فيه ايلاج المرود في المكحلة.

فقال: نعم أشهد على ذلك.

فقال: اذهب مغيرة ذهب ربعك. ثم دعا نافعا فقال له: على م تشهد ؟

قال على مثل ما شهد أبو بكرة.

قال: لا حتى تشهد انه ولج فيها ولوج الميل في المكحلة.

قال: نعم حتى بلغ قذذة

فقال له عمررضي‌الله‌عنه : اذهب مغيرة قد ذهب نصفك.

ثم دعا الثالث فقال له: على م تشهد ؟

فقال: على مثل شهادة صاحبي فقال له عمر اذهب مغيرة فقد ذهب ثلاثة أرباعك.

ثم كتب إلى زياد وكان غائبا وقدم فلما رآه جلس له في المسجد واجتمع عنده رؤس المهاجرين والأنصار، فلما رآه مقبلا قال: الي أرى رجلا لا يخزي الله على لسانه رجلا من المهاجرين، ثم ان عمررضي‌الله‌عنه رفع رأسه إليه فقال ما عندك يا سلح الحبارى ؟ فقيل ان المغيرة قام إلى زياد. فقال: لا مخبأ لعطر بعد عروس.

٣٧٦

فقال له المغيرة: يا زياد اذكر الله تعالى واذكر موقف يوم القيامة فان الله تعالى وكتابه ورسوله وأمير المؤمنين قد حقنوا دمي الا ان تتجاوز إلى ما لم تر مما رأيت فلا يحملنك سوء منظر رأيته على أن تتجاوز إلى ما لم تر فوالله لو كنت بين بطني وبطنها ما رأيت أن يسلك ذكري فيها.

قال: فدمعت عينا زياد واحمر وجهه وقال: يا أمير المؤمنين أما ان أحق ما حقق القوم فليس عندي، ولكن رأيت مجلسا وسمعت نفسا حيثيا وانتهازا ورأيته مستبطنها.

فقال له عمررضي‌الله‌عنه : رأيته يدخله ويولجه كالميل في المكحلة

فقال: لا.

وقيل قال زياد: رأيته رافعا رجليها فرأيت خصيتيه تردد ما بين فخذيها ورأيت حفزا شديدا وسمعت نفسا عاليا.

فقال عمررضي‌الله‌عنه . رأيته يدخله ويولجه كالميل في المكحلة.

فقال لا، فقال عمر: الله اكبر قم يا مغيرة إليهم فاضربهم فقال إلى أبي بكرة فضربه ثمانين وضرب الباقين، وأعجبه قول زياد ودرأ الحد عن المغيرة.

فقال أبو بكرة بعد أن ضرب: أشهد أن المغيرة فعل كذا وكذا.

فهم عمر ان يضربه حدا ثانيا، فقال له على بن أبي طالب: ان ضربته فارجم صاحبك فتركه واستناب عمر أبا بكرة فقال: انما تستتبني لتقبل شهادتي. فقال: أجل. فقال: لا أشهد بين اثنين ما بقيت في الدنيا، فلما ضربوا الحد قال المغيرة: الله أكبر الحمد لله الذي أخزاكم. فقال عمررضي‌الله‌عنه : اخزى الله مكانا رأوك فيه.

(قال) وذكر عمر بن شيبة في كتاب أخبار البصرة ان أبا بكرة لما جلد أمرت أمه بشاة فذبحت وجعل جلدها على ظهره. فكان يقال: ما كان ذاك الا من ضرب شديد.

(قال) وحكى عبدالرحمن بن أبي بكرة: ان أباه حلف لا يكلم زيادا ما

٣٧٧

عاش، فلما مات أبو بكرة كان قد أوصى ان لا يصلى عليه الا أبوبرزة الاسلمي وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله آخى بينهما، وبلغ ذلك زيادا فخرج إلى الكوفة، وحفظ المغيرة بن شعبة ذلك لزياد وشكره. ثم ان أم جميل وافت عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه بالموسم والمغيرة هناك، فقال له عمر: أتعرف هذه المرأة يا مغيرة ؟ فقال: نعم هذه أم كلثوم بنت على. فقال عمر: أتتجاهل علي والله ما أظن أبا بكرة كذب فيما شهد عليك، وما رايتك الا خفت أن أرمي بحجارة من السماء.

(قال) ذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في أول باب عدد الشهور في كتابه المهذب: وشهد على المغيرة ثلاثة أبو بكرة، ونافع، وشبل بن معبد.

(قال) وقال زياد: رأيت استأ تنبو ونفسا يعلو ورجلين كأنهما اذنا حمار ولا أدري ما وراء ذلك فجلد عمر الثلاثة ولم يحد المغيرة.

(قال) قلت: وقد تكلم الفقهاء على قول عليرضي‌الله‌عنه لعمر: ان ضربته فارجم صاحبك. فقال أبو نصر بن الصباغ: يريد ان هذا القول ان كان شهادة أخرى فقد تم العدد، وان كان هو الأولى فقد جلدته عليه والله أعلم. انتهت هذه المأساة وما إليها بلفظ القاضي ابن خلكان عينا فراجعه في ترجمة يزيد بن زياد الحميري من الجزء الثاني من وفيات الأعيان المنتشرة(٥٠٨) .

وأخرج الحاكم هذه القضية في ترجمة المغيرة ص ٤٤٩ والتي بعدها من الجزء الثالث من صحيحه المستدرك، وأوردها الذهبي في تلخيص المستدرك أيضا، وأشار إليها مترجمو كل من المغيرة، وأبي بكرة، ونافع، وشبل بن

____________________

(٥٠٨) وفيات الأعيان ج ٢ / ٤٥٥ (*).

٣٧٨

معبد، ومن أرخ حوادث سنة ١٧ للهجرة من أهل الأخبار(٥٠٩) .

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٥٩: -

[ المورد - (٥٨) - تشدده على جبلة بن الايهم ]

وذلك انه وفد عليه في خمسمائة من فرسان عك وجفنة، تخب بهم مطهماتهم العربية، وعليهم الوشي المنسوج بالذهب والفضة، وفي - مقدمتهم جبلة وعلى رأسه تاجه وفيه قرط جدته مارية فاسلموا جميعا، وفرح المسلمون بهم وبمن وراءهم من أتباعهم فرحا شديدا، وحضر جبلة بأصحابه الموسم من عامهم ذاك مع الخليفة، فبينا جبلة يطوف بالبيت إذ وطأ ازاره رجل من فزارة فحله فلطمه جبلة، فاستعدى الفزاري عمر، فأمر عمر جبلة أن يقيده من نفسه أو يرضيه، وضيق عليه في ذلك حتى بلغ اليأس، فلما جنه الليل خرج بأصحابه فأتوا القسطنطينية فتنصروا جميعا مرغمين، وقد نالهم ثمة من الخطوة بهرقل ومن العز والابهة فوق ما يتمنون(٥١٠) وكان جبلة مع هذا كله يبكي أسفا على ما فاته من دين الإسلام.

وهو القائل :

____________________

(٥٠٩) الأغاني لأبي الفرج الاصبهاني ج ١٤ / ١٤٦، الغدير للأميني ج ٦ / ١٣٧ - ١٤٤ و ٢٧٤، فتوح البلدان للبلاذري ص ٣٥٢، تاريخ الطبري ج ٤ / ٢٠٧، الكامل لابن الأثير ج ٢ / ٣٧٨، البداية والنهاية لابن كثير ج ٧ / ٨١، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ٣ / ١٦١ ط ١ وج ١٢ / ٢٣١ - ٢٣٩ ط بتحقيق أبو الفضل، عمدة القاري ج ٦ / ٢٤٠، سنن البيهقي ج ٨ / ٢٣٥.

(٥١٠) كما فصله ابن عبد ربه الأندلسي حيث ذكر وفود جبلة على عمر في كتابه - الجمانة - في الوفود صفحة ١٨٧ من الجزء الأول من عقده الفريد. وتجد أيضا في صفحة ٦٢ من الجزء الأول من كتاب الدروس العربية للمدارس الثانوية المطبوع في مطبعة الكشاف ببيروت نقلا عن الأغاني لأبي الفرج الاصفهانى (منه قدس). وكذلك تغريبه: ربيعة بن أمية بن خلف إلى خيبر ثم دخل أرض الروم وارتد. راجع: الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ / ٢٨٢ (*).

٣٧٩

تنصرت الاشراف من أجل لطمة

وما كان فيها لو صبرت لها ضرر

تكنفني منها لجاج ونخوة

وبعت لها العين الصحيحة بالعور

فياليت أمي لم تلدني وليتني

رجعت إلى القوم الذي قال لي عمر

ويا ليتني ارعى المخاض بقفرة

وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر

قلت: ليت الخليفة لم يحرج هذا الأمير العربي وقومه ولو ببذل كل ما لديه من الوسائل إلى رضا الفزاري من حيث لا يدري ذلك الأمير أو من حيث يدري، وهيهات أن يفعل عمر ذلك. انه أراد أن يقود جبلة في أول بادرة تبدر منه ببرة(١) الصغار، فيجدع أنف عزه، وهذه سيرته مع كل عزيزي الجانب منيعي الحوزة كما يعلمه متتبعو سيرته من أولي الألباب.

وقد مر عليك تشدده على خالد وهو من أخواله. وشتان بين يوميه، يومه مع صاحبه المغيرة إذ درأ عنه حد الزنى محصنا كما سمعته آنفا، ويومه مع خالد إذ أصر على رجمه ولولا أبو بكر لرجم، كما سمعته أيضا، فان قوة شكيمة خالد واعتداده بنفسه أوجبا شدة وطأة عمر عليه، كما ان شمم جبلة وعزة نفسه أوجبا ذلك عليه أيضا، بخلاف المغيرة فانه كان - مع دهائه ومكره وحيله - أطوع لعمر من ظله، وأذل من نعله، ولذلك استبقاه مع فجوره.

وكانت سياسته تقتضي إرهاب الرعية بالتشدد على من كان عزيزا كجبلة وخالد، وربما أرهبهم بالوقيعة بذوي رحمه كما فعله بابنه أبي شحمة وبأم فروة أخت أبي بكر وبمن لا فائدة له به ممن لا يكون في عير السياسة ولا في نفيرها، كما فعله بجعدة السلمي، وضبيع التميمي، ونصر بن حجاج، وابن

____________________

(١) البرة حلقة من صفر أو نحوه توضع في أنف الجمل الشرود، فيربط بها حبل يقاد به ذلك الجمل (منه قدس) (*).

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419