الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان0%

الشيعة في الميزان مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 419

الشيعة في الميزان

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد جواد مغنية
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 137764
تحميل: 8519

توضيحات:

الشيعة في الميزان
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 137764 / تحميل: 8519
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

سلبية، ولا عن دلائل التوحيد، وشواهد الرسالة(١) .

أما الإيمان فهو التصديق بالقلب واللسان معاً، ولا يكفي احدهما دون الآخر.

معنى العصمة:

تضاربت الأقوال في تفسير العصمة، فمنهم من قال: ان المعصوم يفعل الطاعة مع عدم قدرته على المعصية، فهو مجبر على فعل الحسن، وترك القبيح، ومنهم من قال: ان للمعصوم غريزة تردعه عن المعصية، كما تردع غريزة الشجاعة عن الفرار، وغريزة الكرم عن الإمساك، وقال نصير الدين الطوسي في كتاب التجريد صفحة ٢٢٨ طبع العرفان: «المعصوم قادر على فعل المعصية، وإلا لم يستحق المدح على تركها، ولا الثواب، ولبطل الثواب والعقاب في حقه فكان خارجاً عن التكليف وذلك باطل بالاجماع والنقل»(٢) ، وقال الشيخ المفيد: «ليست العصمة مانعة من القدرة على القبيح، ولا مضطرة للمعصوم إلى الحسن، ولا ملجئة إليه»(٣) ، وعلى هذا يكون معنى العصمة عند الإمامية أن المعصوم يفعل الواجب مع قدرته على تركه، ويترك المحرم مع قدرته على فعله، ولكنه مع ذلك لم يترك واجباً، ولم يفعل محرماً.

أما جواز السهو على المعصوم فقال صاحب مجمع البيان(٤) في تفسير الآية ٦٨

_____________________

(١) الشيخ جعفر كاشف الغطاء شيخ الشيعة الإمامية، انتهت إليه رئاسة المذهب في زمانه، له كتاب: «بغية الطالب» و«رسالة العقائد الجعفرية» وغير ذلك، توفي سنة ١٢٢٨ هجرية.

(٢) نصير الدين الطوسي الحجة الكبرى لمذهب الإمامية، ومن كبار فلاسفة الإسلام توفي سنة ٦٧٢ هجرية.

(٣) كتاب «شرح عقائد الصدوق» للشيخ المفيد ص ٦١ طبعة ثانية تبريز، والمفيد شيخ مشايخ الإمامية، واستاذ الشريفين المرتضى والرضى، توفي سنة ٤١٣ هجرية.

(٤) مجمع البيان من اعظم الكتب في تفسير القرآن للشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي من كبار علماء الإمامية. توفي سنة ٥٤٨ هجرية.

٢٤١

من سورة الأنعام: «إن الإمامية لم يجيزوا السهو والنسيان على أئمتهم فيما يؤدونه عن اللّه تعالى، فأما ما سواه فقد جوزوا عليهم ان ينسوه أو يسهوا عنه ما لم يؤد ذلك إلى إخلال العقل، وكيف لا يكون كذلك! وقد جوزوا عليهم النوم والاغماء، وهما من قبيل السهو، ومن نسب غير هذا إلى الإمامية فقد ظن ظناً فاسداً، وان بعض الظن اثم».

الحسن والقبح:

اتفق الإمامية على أن الحسن والقبح أمران عقليان لا شرعيان أي أن الشرع يأمر بالشيء، لأنه حسن، وينهى عنه، لأنه قبيح، وقال الأشاعرة «السنة»: ان الحسن والقبح يستفادان من الشرع، فكل ما أمر به الشرع فهو حسن، وكل ما نهى عنه فهو قبيح، ولولا الشرع لم يكن حسن ولا قبح، ولو أمر اللّه تعالى بما نهى عنه لانقلب القبيح إلى حسن، ولو نهى عما أمر به لانقلب الحسن إلى قبيح(١) .

_____________________

(١) كتاب شرح التجريد ص ١٨٥ طبعة العرفان.

٢٤٢

لا جَبر وَلا تَفويض *

ان مسألة الجبر والتفويض لهي من أهم المسائل النظرية وأقدم المعتقدات التي وقعت محلاً لمعركة الآراء وضلت لشدة غموضها العقول والأفكار، وهي من أهم الأسباب لتشعب المذاهب وتعدد الفرق، والموجب لتكفير أمة اختها رغم الروابط الدينية التي تربطها من جهة أخرى، وقد ملأت جانباً عظيماً من كتب التأليف والتصنيف، ونالت حظاً وافراً من البحث والتدريس والجدل عند الفلاسفة والسالكين مسلكهم قبل الإسلام وبعده، فمن رجع إلى كتب الحكمة والكلام والاخلاق، وأصول الفقه يجد الأشعري المعتنق لعقيدة الجبر والمعتزلي الذي يدين بالتفويض قد أتى بالكثير من المقدمات الضرورية والنظرية التي تتألف منها البراهين القطعية بزعم المستدل، والاقيسة العقلية، والأدلة السمعية من الكتاب والسنة، ثم يكر بعد ذلك على طريقة العرف وسيرة العقلاء فيضرب الأمثال من معاملة الموالي مع عبيدهم ويؤولها حسب ما يوافق مطلوبه، هذا، وهو يحسب أنه قد أحسن صنعاً بتمحيص الحق والاهتداء بنوره، ودحض الباطل والخروج من ظلمته، وكشف الأسرار الغامضة الدقيقة بالطرق الصحيحة، والأدلة التي لم يهتد إليها أهل العقول والانظار.

والحقيقة أن ما استند إليه كل من الطائفتين لو توجهت نحوه العقول وأعطته حق الإمعان والتأمل لجعلته هباء وحكمت عليه أنه تطويل بلا طائل، وأنه أدل دليل على ارتباك المستدل وخطئه حيث عد الشبهة دليلاً، والعليل صحيحاً، وجزم ان الهدف الذي يرمي إليه والغاية التي يحاول اثباتها ان هي الا صحة عقيدته التي غرست

_____________________

* - نشر في العرفان عدد آذار سنة ١٩٣٧.

٢٤٣

بذرها في نفسه يد الوراثة، وتأصلت جذورها في أعماق قلبه بتكرار النظر وطول الممارسة لما سطر (الكرام) الكاتبون من أسلافه، وزينها له اساتذته وشيوخه ببركة تلقينهم اياه، وتقليده اياهم، وتشعبت فروعها بمعاشرة قومه، والفة صحبه الذين يقدسون هذه العقيدة، ويرونها أصلاً من أصول دينهم الذي يوجب عليهم رعايتها والتعبد بها، ويتحتم على كل واحد منهم ان يصحح عقيدته بكل طريق ولو كان فاسداً في نفس الأمر والواقع، ويبطل ما ينافيها ولو كان حقاً، فبينما هو يورد الأدلة ويكر على حجة خصمه فيعارضها بالمثل أو يطعن في صغرى قياسه أو كبراه يستشهد بالاخبار النبوية (الراد على أهل هذه الطريقة كالشاهر سيفه في سبيل اللّه، وأهلها مجوس هذه الأمة)، إلى غير ذلك.

ونظراً لضيق المقام أعرضنا عن ذكر كلماتهم وبيان مواضع الخلل فيها، على الاخص استدلالهم بالنصوص السمعية فإن المسألة عقلية وليس للسمع أقل مساس فيها، فلا يصح التمسك بظواهر الكتاب والسنة في مثلها إثباتاً أو نفياً، فإن المتعين أولاً النظر إلى حكم العقل وتشخيصه عما عداه على نحوٍ لا يقع فيه الاشتباه والريب، ثم النظر إلى اللفظ الثابت عن الحكيم، فإن كان موافقاً بظاهره لحكم العقل كان مقرراً له، والا وجب تأويله بما يوافق العقل، كما هو المعروف من دين الإسلام وضروراته، ومن هنا نعرف محل الخطأ في قول القائلين ان الأحكام العقلية ساقطة عن الاعتبار، ان المتعين حصر المدارك، والأدلة بالسمع فقط مستدلين على ذلك بحكم العقل بصحة الجبر والتفويض معاً، مع أن تنافيهما من البديهيات، فمن حكمه بصحة الأمور المتضادة يستكشف سقوطه عن الاعتبار وعدم جواز الاعتماد عليه.

والحق أن أرباب هذه العقيدة هم الساقطون عن الاعتبار لا العقل الذي يكون الإنسان به إنساناً يمتاز عن سائر الحيوانات، فإن الحكم بعدم اجتماع المتنافيين اللذين لا جامع بينهما، ولا وحدة تربطهما من المعلومات البديهية، والمرتكزات الفطرية، وبعد أن كان الجبر والتفويض متعاندين ذاتاً فكيف يمكن صدور الحكم من العقل بصحتهما معاً، وجزمه بتحقيق كل منهما، وهل هو إلا نظير القطع بالوجود والعدم في محل واحد، وهذا أمر لا مرية فيه، وإنما الكلام في أن الجبر والتفويض، هل هما ضدان لا ثالث لهما بمعنى أن الواقع لا يخلو من احدهما، فكما امتنع العقل عن الحكم بصحتهما كذلك لا يحكم ببطلان كل منهما، بل لا محيص عن الأخذ بأحدهما وطرح الآخر، إما الجبر وإما التفويض نظير الحركة والسكون، فإن ارتفاعهما عن الجسم محال

٢٤٤

كاجتماعهما، أو أن هناك واسطة في البين فلا مانع من قبل العقل بثبوت أمر ثالث، وإنما المستحيل في نظره هو الحكم بصحة الجبر والتفويض معاً لا يبطلانهما، كما هو الحال في السواد والبياض، فانهما لا يشغلان معاً حيزاً واحداً في آن واحد، ولكن لا بأس بارتفاعهما وكون المحل مشغولاً بلون ثالث، وهذه الناحية هي التي تهمنا أكثر من جهة تتعلق بهذا الموضوع.

فنقول: ان أئمة الهدىعليهم‌السلام قد كشفوا لنا عن وجه الحق واهتدينا بكلامهم إلى الحقيقة التي يستصوبها العقل، وهو حاكم بفساد الجبر والتفويض بالمعنى الذي نذكره لهاتين اللفظتين، وصحة أمر بين الأمرين. أما الجبر الذي ينفيه العقل فهو حمل العبد على الفعل والترك بالقسر والغلبة على وجه لا يكون للعبد قدرة التخليص ولا قوة الامتناع والتحصن فايجاد فعل العبد فيهم كايجاد الثمرة في الشجرة والجريان في الماء، ولازم هذا القول حذف لفظ الطاعة والعصيان والمشيئة، وكل كلمة تشعر بالاختيار أو يتوقف معناها عليه من جميع اللغات فإنه لا طاعة بإكراه ولا مشيئة مع إِلجاء، ومن ذهب هذا المذهب أراد أن يثبت للّه تعالى القدرة فأثبت له الظلم والسفه والكذب (وليس اللّه بظلام للعبيد).

وأما التفويض الباطل فهو أن اللّه تعالى (أوجد العباد وأقدرهم على أعمالهم وفوض إليهم الاختيار فهم مستقلون بايجادها على وفق مشيئتهم وقدرتهم وليس للّه تعالى في أعمالهم صنع) وعلى هذا المسلك ينبغي أن يرضى اللّه تعالى بكل ما يفعله عبده ولا يؤاخذه بشيء مما يفعل، وقد حاول القائل به إِثبات العدل للّه فعزله عن سلسانه وشاركه في خلقه - يد اللّه مغلولة غلت ايديهم - وربما يكون لصحة هذا القول وجه، وهو أن العباد قد اجتمعت بأسرها وتجمهرت واتفقت يداً واحدة وتظاهرت على خالقها واظهرت التمرد والعصيان وطلبوا منه الاستقلال التام ففوض إليهم الأمر وأجراهم على مشيئتهم بعد أن عجز عن تطويعهم.

وإذا كان العقل حاكماً بفساد هذا الإفراط، وذاك التفريط تعين القول الفصل وهو صحة الأمر بين الأمرين، ولا نقصد منه أن فعل العبد مستند إلى قدرته وقدرة اللّه تعالى، وانهما قد تعاونا معاً على إيجاده، فإن ذلك ليس بأقل محذوراً من القول بالجبر، وهل يحسن العقاب من الباري تعالى على معصية كان هو أحد الفاعلين، وأقوى الشريكين، وإنما نعني بالأمر بين الأمرين أن اللّه تعالى أقدر الخلق على أعمالهم ومكنهم من أفعالهم، فهم يملكون الاستطاعة، لكن هو المملك، ثم أمرهم بالخير، ونهاهم عن الشر، ووعدهم بالثواب على الأول، والعقاب على الثاني، فإذا فعل العبد الخير والطاعة فيسند هذا الفعل إلى اللّه تعالى، لأن العبد فعله بالقدرة التي ملكها من

٢٤٥

خالقه، ولأنه قد رضي اللّه وأمره به، وينسب أيضاً إلى العبد لأنه قد اختار الخير مع قدرته على الشر. وأما إذا اختار فعل الشر وأتى به العبد فإنه وان فعله بالقدرة من اللّه تعالى إِلا أنه مع ذلك لا ينسب الشر إلى اللّه، بل هو مستند إلى العبد وحده وللّه الحجة عليه، حيث أنه لم يرض بفعل الشر، بل نهاه عنه، فالخير من اللّه تعالى لرضاه به وإقدار العبد عليه، حيث اقدره على الخير وللّه الحجة لو فعل العبد الشر، لعدم الرضى.

وإنما أعطاه القدرة على المعصية والشر مع عدم الرضى بهما حذراً من الالجاء، فإن المعصية إذا لم تكن مقدورة للعبد وكانت الطاعة تصدر منه رغماً عنه لما استحق مدحاً ولا ثواباً، فإن الفضل يظهر بالامتحان، فلا جبر على المعصية لأن اللّه كما اقدره عليها فقد أقدره على الطاعة وترك العصيان، ولا تفويض لأنه تعالى لم يترك الأمر إلى مشيئة العبد واختياره، حيث نهاه عن الشر وزجره عنه، هذا هو المقصود من الأمر بين الأمرين الذين عابوا الشيعة به وآخذوهم عليه، والذي يدلك على صوابه وأنه هو المتعين في نظر العقل دون سواه مضافاً إلى ما بيناه أن الإمام الرازي، وهو أحد الأقطاب المنتصرين لمذهب الجبر فإنه رغم ذكره مسألة الجبر في تفسيره ما يقرب عن عشرين مرة، وفي كل منها يقيم الأدلة والبراهين على صحة الجبر وبطلان غيره قد اعترف في أحد المقامات من حيث لا يشعر بفساد الجبر والتفويض. وصحة الأمر بين الأمرين، قال في المجلد الخامس صفحة ٣٥٥ من تفسيره (إن القول بأن العبد ليس له قدرة ولا اختيار جبر محض، والقول بأن العبد مستقل بافعاله قدر محض، وهما مذمومان والعدل أن يقال: إِن العبد يفعل الفعل ولكن بواسطة قدرة وداعية يخلقها اللّه فيه) وهذا كلام قريب مما تقوله الإمامية.

٢٤٦

الخِلاف لا يمنَع مِن الإنصَاف *

لقد اثبتت التجارب أن الأنظمة والقوانين لا يمكن أن تعيش إذا لم تستمد قوتها من إِيمان ديني أو فلسفي، وأن أي نظام لا يستقبله الشعب بالرضا والقبول لا يلبث أن يزول، وإن دعمته قوة النار والحديد. وهذه حقيقة اعترفت بها حتى الفاشية والشيوعية لأنها بديهة لا تقبل الشك والريب.

وقد راعاها الإسلام وأولاها عنايته، حيث لم يفرض أحكامه على غير المسلمين، وإنما ترك أهل الأديان وما يدينون، فما هو صحيح عندهم هو نافذ في حقهم، في نظر الإسلام، فالخمر والخنزير لا يملكهما المسلم، ويصح تملكهما، وتمليكهما لغير المسلمين، ومن أحكام الإسلام جواز أنكحة غير المسلمين، وإن لم تتوافر فيها الشرائط المعتبرة في أنكحة المسلمين.

وقد اتفقت المذاهب الإسلامية على هذا الأصل، ونطقت به كتبهم، فمن كتب السنة كتاب «البدائع والصنائع» ج ٢ ص ٣١٠ و٣١١ الطبعة الأولى، وكتاب «المغني» ج ٦ ص ٦١٣ و٦٢٧ الطبعة الثالثة: ان أنكحة غير المسلمين لها أحكام الصحة، لأنا قد أمرنا بتركهم وما يدينون، وفي المغني ج ٦ ص ٣٠٦ «مجوسي تزوج ابنته، فأولدها بنتاً، ثم مات عنهما فلهما الثلثان».

ومن كتب الشيعة الإمامية كتاب «الجواهر» باب الزواج والطلاق، وكتاب «مقابس الأنوار» أول باب الزواج: إِن ما في أيدي غير المسلمين من النكاح وغيره صحيح. وإن كان فاسداً عندنا، وان كل قوم يفرقون بين النكاح والسفاح فنكاحهم جائز، لحديث «الزموهم بما الزموا به أنفسهم».

_____________________

* - نشر في رسالة الإسلام عدد تشرين الأول سنة ٩٥٣

٢٤٧

وهذا مبدأ عام من مبادئ التشريع الإسلامي لا يختص بمذهب دون مذهب. بل أن فقهاء المسلمين قد تسامحوا أكثر من ذلك، قال صاحب المغني ج ٨ ص ١٣٢ «من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة، ومن بعدهم، واستحلال دمائهم وأموالهم واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى اللّه، ومع ذلك لم يحكم الفقهاء بكفرهم لتأولهم».

وإذا كان الفقهاء يقرون ما في أيدي غير المسلمين من أنظمة وقوانين تخالف الشريعة الإسلامية، ولا يحكمون بتكفير الخوارج الذين كفروا الصحابة، واستحلوا دماء المسلمين وأموالهم، لأن عقيدتهم تبيح ذلك لهم، فكيف يسوغ لمسلم أن يكفر طائفة تؤمن باللّه ورسوله واليوم الآخر، وتستمد أصولها وفروعها من كتاب اللّه وسنة نبيه، وتقول: من قال لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه حقن ماله ودمه، كيف يكفرها مسلم، لأنها تخالف المذهب الذي ارتضاه لنفسه، أو ورثه عن آبائه، تخالف مذهبه في بعض شرائع الزواج والطلاق، أو بعض مسائل الإرث والرضاع !

ان مذهب الخوارج يخالف جميع المذاهب الإسلامية السنة والشيعة، ومع ذلك فقد عذروهم فيما اجتهدوا فيه فأخطأوا، اذن، بالاحرى أن تعذر طائفة إسلامية إذا خالفت المذاهب الأربعة في مسألة من مسائل الرضاع أو الإرث، مستندة إلى آية أو رواية.

إن الشيعة الإمامية لم يتقيدوا بمذهب من المذاهب الأربعة، وإنما اتبعوا طريقة الأصحاب والتابعين في استخراج الأحكام من الكتاب والسنة. فكل ما ادى إليه الكتاب والسنة فهو حجة عندهم، ولو خالف جميع المذاهب، لأن قول اللّه ورسوله فوق الأقوال كافة، أي أن الفقيه الإمامي يعمل بما أدى إليه نظره وفهمه لأصول الشريعة، لا بما فهمه فقهاء السنة أو الشيعة.

٢٤٨

مِن اجتهَادات الإماميَّة *

منذ سنوات، وأنا أنشر بين حين وحين مقالات رجوت فيها شيوخ المسلمين من سنيين وشيعيين أن لا يحصر كل فريق دراسته الفقهية في مذهب آبائه وأجداده.

ولم يكن الباعث لي على تأكيد هذا الرجاء الرغبة في التقريب بين المذاهب الإسلامية فحسب، وان كنت من المتطوعين في هذي السبيل، وإنما غرضي الأول أن يرتكز درس الشريعة الإسلامية على أساس إسلامي صرف، لا مذهبي، كي لا تلون الشريعة بلون يخفي جمالها وحقيقتها، ويجنس بجنسية تقيم الحدود والسدود بين بني الإنسان، بل بين ابناء الدين الواحد.

لقد نشأت المذاهب، وتعددت بعد الإسلام ونبي الإسلام، نشأت في ظروف سياسية، لغاية دنيوية، تهدف إلى التفريق والشتات، ونشأ الإسلام في ظرفه الطبيعي، لغاية إنسانية تهدف إلى الاخاء والمساواة، فالتعصب لفقه مذهب خاص تعصب للسياسة المحترفة التي تمخضت عن ذلك المذهب.

إن الشريعة الإسلامية لم تستخرج من الوهم والخيال، بل لها أصول مقررة لا يختلف عليها مسلمان، مهما كان مذهبهما، وإنما الخلاف والجدال بين المذاهب حصل فيما يتفرع عن تلك الأصول، وما يستخرج منها، فالعلاقة بين أقوال المذاهب الإسلامية هي العلاقة بين الفرعين المنبثقين عن أصل واحد.

ونحن إذا أردنا معرفة أن هذا المذهب على حق في أسلوبه واستخراج الحكم من مصدره دون سائر المذاهب، فعلينا أن نلاحظ جميع الأقوال المتضاربة حول

_____________________

* - نشر في رسالة الإسلام عدد تشرين الأول سنة ١٩٥٢.

٢٤٩

الحكم، وندرسها بطريقة حيادية، بصرف النظر عن كل قائل وعن منزلته العلمية والدينية، ثم نحكم بما يؤدي إليه الأصل والمنطق على نحو لو اطلع عليه أجنبي لاقتنع بأنه نتيجة حتمية للأصل المقرر. وبهذا نكون من الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه.

أما من يطلع على قول مذهب من المذاهب، يؤمن به ويتعصب له، لا لشيء إلا لأنه مذهب آبائه، ويحكم على سائر المذاهب بانها بدعة وضلالة فهو مصداق الآية الكريمة: «وإذا قيل لهم اتبعوا ما انزل اللّه قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أوَلو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون».

وأي فرق بين رجل أفنى العمر في حفظ معتقدات أبيه ودرسها، لا يتجاوزها قيد أنملة، ورجل لم يقرأ، ولم يكتب، ولم يدرس شيئاً، ولكن تكونت له من بيته وبيئته عادات ومعتقدات ؟ أي فرق بين الرجلين حتى يقال: ذاك عالم، وهذا جاهل ؟!.

ليس العالم من وثق برأيه ومعتقد آبائه، وكانت له المقدرة التامة على المحاورة والمداورة، وإنما العالم من فصل الواقع عن ذاته وعاطفته، وفكر تفكيراً حراً مطلقاً، لم يتعصب لرأي على رأي، بل يقف من كل قول موقف الشك والتساؤل، وان كثر به القائلون، وآمن به الأقدمون.

إن احترام العالم يقاس باحترامه للحقيقة، فهي ضالته أينما وجدت. لقد اثبتت التجارب ان الاختصاص بعلم من العلوم يحتاج إلى ثقافة عامة، ومعرفة نظريات ومبادئ علوم شتى، فكيف يكون الإنسان متخصصاً بعلم، وهو لا يعرف عنه إلا قول عالم يخالفه فيه كثير من العلماء ؟ واستطيع التأكيد أن من الاجانب من يعرف عن الإسلام وتاريخه وشريعته ورجاله وعقائدهم ما لم يعرفه كثير من متخرجي الأزهر والنجف، وانه لغريب أن تقوم جامعتان، لهما تاريخهما وعظمتهما، احداهما في العراق، والثانية في مصر، يبحثان في موضوع واحد، ويهدفان إلى شيء احد: إلى نشر الشريعة الإسلامية، ثم لا يكون بينهما أي نوع من أنواع التعارف والتعاون.

إن في كتب الشيعة الإمامية اجتهادات لا يعرفها الخواص من علماء السنة، ولو اطلعوا عليها لقويت ثقتهم بالشيعة وتفكيرهم، وكذا الشأن بالقياس إلى كتب السنة وعلماء الشيعة، ان اطلاع كل فريق على ما عند الآخر من أقوى البواعث على تمهيد السبيل للتقريب بين الإخوة، من حيث يريدون أو لا يريدون.

وبعد هذا التمهيد الطويل الممل انتقل بالقارئ الصبور المحتسب إلى بعض الأمثلة من اجتهادات الشيعة الإمامية.

٢٥٠

شهادة أهل المذاهب والملل.

قال الشهيد الثاني في كتاب المسالك باب الشهادات(١) : «اتفق أصحابنا على أنه لا تقبل شهادة غير الشيعي الاثني عشري، وإن اتصف بالإسلام، وفيه نظر، لأن الشرط في قبول الشهادة أن لا يكون الشاهد فاسقاً، والفسق إنما يتحقق بفعل المعصية، مع العلم بكونها معصية، أما مع اعتقاد أنها طاعة، بل من أهم الطاعات، فلا يكون عاصياً، ومن خالف الحق في الاعتقاد لا يعتقد المعصية، بل يزعم أن اعتقاده من أهم الطاعات، سواء أكان اعتقاده صادراً عن نظر أم تقليد، وبهذا لا يكون ظالماً، وإنما الظالم من يعاند الحق مع علمه به، وهذا لا يتحقق في جميع أهل الملل مع قيامهم بمقتضاها بحسب اعتقادهم».

وهذا القول يتفق مع أصول الشيعة، حيث يثبتون أحكام الشريعة بحديث من خالفهم في الاعتقاد، إذا اجتنب الكذب، ففي كتاب نهج المقال للبهبهاني (ص ٥) وغيره من كتب الرجال «إِن مشايخ الإمامية يوثقون المخطئين في الاعتقاد، كما يوثقون المصيبين من غير فرق، فيقبلون حديثهم، ويسمونه الموثق».

ان هذا الاجتهاد الذي خالف فيه الشهيد الثاني علماء مذهبه اجمعين مع علمه واعترافه بوجود هذا الاجماع لهو خير شاهد على انه باستطاعة الإنسان أن يتحرر من قيود البيت والمدرسة، وتقاليد الآباء والاجداد، وعلى ان سلطان العقل النير

_____________________

(١) هذا الكتاب مجلدان كبيران جمع أبواب الفقه بكاملها، وطبع مرات عديدة في إيران بالطبع الحجري، وهو للشهيد الثاني زين الدين العاملي، استشهد سنة ٩٦٦ هجري، وله مؤلفات كثيرة، يرجع الشيعة إليها ويعتمدون عليها.

٢٥١

اقوى من كل سلطان.

بهذا الروح الكريم وهذا العقل الخصب، يجب أن تفسر الشريعة السهلة السمحة.

والعدالة التي يشترطها الشيعة في الشاهد القاضي ومرجع التقليد وامام الجماعة في الصلاة هي العدالة في الظاهر، لا في الواقع. قال الإمام الصادق: «لو لم تقبل شهادة المقترفين للذنوب لما قبلت إلا شهادة الأنبياء والأوصياء، فمن لم تره بعينك يرتكب ذنباً، ولم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة والستر، وشهادته مقبولة، وان كان في نفسه مذنباً»(١) .

شهادة أرباب الصنائع.

قال بعض الفقهاء من غير الشيعة(٢) : ان أرباب الصنائع الدنيئة لا تقبل شهادتهم، وجاء في كتاب الجواهر والمسالك وغيرهما من كتب الفقه للشيعة: ان أرباب الصنائع تقبل شهادتهم: مهما كان نوع الصنعة، لقوله تعالى: «ان أكرمكم عند اللّه أتقاكم» والصنعة لا تتنافى مع التقوى، ولا مع المروءة، خاصة لمن يتخذها مهنة دائمة، وان المجتمع في حاجة إلى الصنائع، ولو تركت لاختل النظام، وعم الضرر. أجل ان الشيعة لا يقبلون شهادة من يسأل الناس، لأن السؤال يتنافى مع المروءة وعزة النفس التي أمر بها الدين، وقال الشهيد الثاني في المسلك: الطفيلي بحكم السائل لا تقبل شهادته.

شركة الأبدان:

إذا اتفق اثنان على أن يقتسما بينهما ما يكتسبانه في أيديهما - وتسمى هذه الشركة شركة الأبدان - قال الإمامية: لا يصح ذلك بحال، من غير فرق بين أن يتفق عملهما بأن يكون كل منهما طبيباً - مثلاً - أو محامياً، وبين أن يختلف العمل بأن يكون أحدهما طبيباً، والآخر محامياً، واستدلوا على عدم الصحة

_____________________

(١) كتاب آيات الأحكام للشيخ أحمد الجزائري ص ٣٠٩ طبع سنة ١٣٣٧ هجري.

(٢) كتاب المغني لابن قدامة ج ٩ ص ١٦٩، الطبعة الثالثة.

٢٥٢

بان كل واحد مستقل بنفسه، ومنافعه تابعة لعمله، فيختص بها دون سواه، ولو اشتركا لحق الغبن باحدهما، وأخذ ما لا يستحق(١) وهذا يتفق مع مبدأ الاشتراكية القائل «من كل حسب مقدرته، ولكل حسب عمله» وبناء على قول الإمامية لا يجوز أن يعمل طبيبان في عيادة واحدة، أو محاميان في مكتب واحد، أو خياطان، أو نجاران في محل واحد، على أن تكون ايديهما جميعاً في العمل، ثم يقتسمان الأجرة بينهما خوفاً من الغبن والاستغلال.

وفي كتاب المغني لابن قدامة ج ٥ الطبعة الثالثة ص ٣ «لا بأس أن يشترك القوم بأبدانهم وبهذا قال مالك، وقال أبو حنيفة: يصح في الصناعة، ولا يصح في اكتساب المباح كالاحتشاش وقال الشافعي: شركة الأبدان كلها فاسدة، لأنها شركة على غير مال».

التكافل والتضامن:

إذا كان لخليل مبلغ من المال في ذمة سليم، وقد ضمن هذا المبلغ جميل، وتعهد بأدائه لخليل صاحب الحق قال الإمامية: لا يحق لخليل المضمون له أن يطالب بماله من شاء منهما، بل ينحصر حقه بجميل الضامن فحسب، أما سليم المضمون عنه فلا سبيل له عليه، لأن الحق الواحد لا يتعدد ولا يثبت بتمامه في ذمتين، ومتى دفع جميل المال لخليل رجع على سليم، وطالبه بما أداه(٢) وبناء على هذا القول لا يجوز أيضاً أن يستدين اثنان مالاً من آخر على أن يرجع صاحب المال بكامل ماله على أي شاء منهما. إذن التكافل والتضامن على هذا النحو فاسد عند الإمامية من أصله.

وفي كتاب المغني ج ٤ ص ٥٤٦ و٥٤٨ «الحق ثابت في ذمتهما، أي الضامن والمضمون عنه ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما. وبهذا قال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي، أي الحنفية والحنابلة أيضاً لأن الكتاب المذكور على فقههم، وعليه فالتكافل والتضامن عند السنة جائز.

_____________________

(١) الجواهر والمسالك باب الشركة.

(٢) الجواهر والمسالك وجميع كتب الفقه للإمامية، لأن هذه المسألة مجمع عليها عندهم.

٢٥٣

الشيعَة في نظَر الدكتور طهَ حُسين *

الطائفة الشيعية هي أهم الطوائف التي كثر حولها الجدال والنقاش، وتشعبت فيها أقوال الباحثين من شرقيين وغربيين قديماً وحديثاً، وقد صورها الكاتب الشهير الدكتور طه حسين بأنها حزب معارض لسياسة البغي والجور، لهذه الغاية انشئت، وعليها عملت، ولأجلها اضطهدت، وهذا ما دعاني إلى أن انقل للقراء رأي الدكتور في هذه الطائفة.

اخرج الدكتور المجلد الثاني من كتابه الكبير الفتنة الكبرى، وموضوع هذا المجلد «علي وبنوه» ابتدأه بخلافة الإمام علي، وختمه بمقتل ولده الحسين، ذكر ما قاله الرسول وأصحاب الرسول في مدح علي، وانه كان أهلاً لتلك الفضائل، ولأكثر منها، وانه على الرغم من الخطوب والمحن التي توالت عليه من كل جانب كان يمضي على الحق لا يلوي على شيء مهما تكن العاقبة. أما أخصام الإمام كعائشة ومعاوية وابن العاص وطلحة والزبير وغيرهم فقد عارضوه وخاصموه ليصرفوا الأمر عنه إلى أهوائهم وأغراضهم، وهذه الحقيقة اثبتها الدكتور بالوقائع والأرقام، وإليك هذا المثال على أسلوبه في اثبات الحقائق قال: «من الممكن أن يقال: أن معاوية اجتهد للناس فأخطأ أو أصاب، لكنه قاتل علياً على دم عثمان من جهة، وعلى أن يرد الخلافة شورى بين المسلمين من جهة أخرى، فلما استقام له السلطان نسي ما قاتل عليه، أو أعرض عما قاتل عليه» أي بعد أن أصبح معاوية دكتاتوراً لم يتتبع قتلة عثمان، وجعل الخلافة كسروية وقيصرية،

_____________________

* - نشر في العرفان تموز ١٩٥٣

٢٥٤

فنقلها إلى ولده الطاغية يزيد بالقهر عن المسلمين.

بهذا المنطق السليم حاكم الدكتور جميع القضايا التي تعرض لها في كتابه، أما النتيجة التي انتهى إليها فهي أن الذين حاربوا علياً، وكادوا له، وعارضوه فيما كان يراه من حق، هم وحدهم السبب في محنة الإسلام من ذلك العهد حتى آخر يوم، وهم وحدهم الذين أورثوا المسلمين عناء وخلافاً لم ينقضيا، ولن ينقضيا إلى أن يشاء اللّه.

وليس من غرضي التعريف بالكتاب من جميع نواحيه، ولو أردت ذلك لم أكتف بمقال أو مقالين، لأن الكتاب كبير جداً كبير بحجمه، كبير بحقائقه، كبير بما يثيره من المشاعر والأحاسيس، كبير بقدرة كاتبه على التعبير، وبراعته في الأداء، وانما غرضي أن أعرف القارئ برأي الدكتور في الشيعة، وبخاصة الشيعة أنفسهم، ليعرفوا أنهم بعيدون كل البعد عن روح عقيدتهم ومبادئهم.

ولم يخصص الدكتور طه فصلاً من كتابه للبحث عن الشيعة، وليته فعل ولكنه أشار إليهم بكلمات متفرقة في صفحات عديدة، لمناسبة ساقه إليها البحث من حيث يريد أو لا يريد وهي بمجموعها تعطينا الصورة التالية:

إن لكلمة الشيعة معنيين الأول: المعنى اللغوي، وهو الفرقة من الاتباع والانصار الذين يوافقون على الرأي والمنهج، فشيعة الرجل في اللغة هم أصحابه الذين اتبعوا رأيه، وهذا المعنى هو المقصود من قوله سبحانه «وان من شيعته لابراهيم - فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته» والشيعة بهذا المعنى كانوا موجودين في عهد الإمام بلا ريب.

الثاني: المعنى الاصطلاحي، وهو هذه الفرقة المتميزة بعقائدها وعوائدها الخاصة، والمعروفة عند الفقهاء والمتكلمين ومؤرخي الفرق، ويقصدونها عندما يطلقون كلمة الشيعة، والشيعة بهذا المعنى لم يكن لهم في عهد الإمام عين ولا أثر «وإنما كان للإمام في حياته أنصار وأتباع، وكانت كثرة المسلمين كلها أنصاراً له وأتباعاً».

ويعتقد الدكتور أن فرقة الشيعة بالمعنى الاصطلاحي المعروف إنما نشأت وتكررت وأصبحت حزباً سياسياً منظماً لعلي وبنيه بعد أن وقع الصلح بين الحسن ومعاوية، وبعد أن نكث هذا بالعهد ولم يف بما اشترطه على نفسه، تألف وفد من أشراف الكوفة برئاسة سليمان بن صرد الخزاعي، وذهبوا إلى المدينة للقاء الحسن، وطلبوا إليه أن يعيد الحرب خدعة، وأن يأذن لهم في أن يسبقوا إلى الكوفة فيعلنوا فيها خلع معاوية، ويخرجوا منها عامله، فأمرهم الحسن بالكف والانتظار إلى حين، وبهذا الوفد تكونت أول بذرة لفرقة الشيعة «وكان برنامج الحزب في أول انشائه طاعة

٢٥٥

الإمام من بني علي، والانتظار في سلم ودعة حتى يؤمروا بالحرب فيثيروها، ومضى رجال الشيعة يسجلون على معاوية وولاته ما يتجاوزون به حدود الحق والعدل».

وكانت رئاسة الفرقة للحسن، ومن بعده لأخيه الحسين «وكان الحسين كأبيه صارماً في الحق، لا يرى الرفق، ولا الهوادة. وأغرى حزبه بالاشتداد في الحق، والانكار على الأمراء الذين اسرفوا في أموال الشعب فأسرف معاوية وولاته في الشدة عليهم، حتى تجاوز كل حد، وعظم أمر الشيعة بسبب الاضطهاد، وانتشرت دعوتهم في شرق الدولة الإسلامية، وفي جنوب بلاد العرب، ومات معاوية حين مات، وكثير من الناس وعامة أهل العراق بنوع خاص يرون بغض بني أمية وحب أهل البيت ديناً» اذن كانت الشيعة في آخر عهد معاوية فرقة متميزة عن غيرها، لها عقيدتها وخصائصها.

وكان الشيعة منذ عهد معاوية إلى عهد العباسيين يثورون على الحكام الذين ساروا في حكمهم على سياسة الأرض ومن عليها ملك للسلطان، واكراه الناس على الخضوع والاعتراف بهذا الملك وتثبيته بالقتل والحبس والتشريد، ثار الشيعة وعارضوا الحاكم الذي حكم الناس بالغي واستبدل الجور بالعدل، والباطل بالحق، عارضوا الحاكم الجائر ولم يخضعوا لحكمه وجوره، فأمعن فيهم قتلاً وتعذيباً، فأمعنوا في محاربته غير مسالمين، ولا مهادنين ولا مكترثين بالموت والتعذيب في سبيل الحق، سخط الشيعة على سياسة الجور، فقتل من رجالهم من قتل كحجر بن عدي، والحسين ونسائه وأطفاله وأصحابه. ولم يكن نصيب الشيعة من الحكام بأقل من نصيبهم من المؤرخين والمحدثين، فقد أضاف هؤلاء إلى الشيعة أشياء وأشياء لا يعرفون شيئاً واحداً منها، أضافوا إليهم وافتروا عليهم إمعاناً في النيل، وغلواً في الخصومة والبغض، وارضاء للحكام، كما يفعل اليوم كثير من أرباب الصحف والمتأدبين مع الأحرار إِرضاء للمستعمر واذنابه الرجعيين والأقطاعيين.

والخلاصة أن الشيعة في نظر الدكتور طه هم فرقة انشئت وتكونت بعد الإمام علي بأعوام قليلة، وانها كانت حزباً معارضاً لسياسة الجور، والأوضاع الفاسدة، وأن هذه المعارضة كانت تظهر تارة في قالب الثورة، وحيناً باعلان السخط والتشنيع على الحاكم، وبسبب ذلك نسب إلى الشيعة ما ليس لهم به علم، وقتلوا وعذبوا، كما قتل علي والحسن والحسين.

وإذا كان مذهب التشيع يقوم على أساس الثورة على الظلم والاستبداد، فهل نحن شيعة حقاً ! وهل نحب علياً وبنيه ! ويا ليت اننا آثرنا العافية بالسكوت والانعزال، ولم نسر في ركاب الظالمين ننشد القصائد الطوال والخطب الرنانة في مديحهم والثناء عليهم.

٢٥٦

وبعد فهل نحن شيعة ! أجل، نحن من ذرية أولئك السلف الذين ذكرهم الدكتور طه حسين وأكثر منهم عداً.

الشِّيعَة في كِتَاب الحضَارة الإسلاميَّة *

في القرن الرابع الهجري

هذا الكتاب ألفه الأستاذ (آدم متز)، وانتشر باللغة الألمانية، ونقل إلى الاسبانية، والانكليزية والعربية، والمؤلف أستاذ اللغات الشرقية بجامعة بازل بسويسرة، وتعد مصادر الكتاب بالمئات عربية وغير عربية، ومن جملتها مخطوطات أربت على الأربعين، موجودة في مكاتب برلين وباريس وليدن وليبتزج ومونيخ وفيينا ولندن، وبعض هذه لم ينشر حتى الآن.

وأفرد المؤلف الفصل الخامس من المجلد الأول للكلام عن الشيعة خاصة، وقد خلط كما فعل سواه عند ذكر عقائد الشيعة بين فرقهم المتعددة المتباينة أصولاً وفروعاً إلا أنه أرجع التشيع إلى أصل صميم في العروبة، كما هو الحق وخطأ القائلين: إنه - رد فعل من جانب العقل الإيراني يخالف الإسلام - والشيء الوحيد الذي يستوقف النظر في هذا الفصل هو انتشار مذهب التشيع قبل القرن الرابع وفيه وبعده في جزيرة العرب كلها، وفلسطين وشرقي الأردن وكثير غيرها من الأقطار الإسلامية، ويشعر كلامه أنه متعجب من هذا الانتشار المدهش، ويقر أنه يجهل الأسباب الباعثة عليه ويعترف بعجزه عن تعيين مبدأ التشيع في بعض ما عدده من البلدان، وهو لا يعزيه في شرقي الأردن وفلسطين إلى الفاطميين، وإنما يكتفي بقوله (لا أدري كيف كان ذلك).

وقد رأينا من الخير لقراء العرفان أن نقتطف لهم من الكتاب العبارات الآتية، ولعل بعض العارفين يجردون أقلامهم لاظهار هذه الجهة الهامة، ويرشدوننا

_____________________

* - نشر في العرفان شباط ١٩٤٦

٢٥٧

إلى مبدأ التشيع في تلك البلاد وسبب انتشاره فيها ثم يذكرون الباعث على انقراضه وزواله منها حتى لم يبق في بعضها شيعي واحد بل أهلها أصبحوا أشد الناس بغضاً للشيعة وتعصباً عليهم.

قال المؤلف: «أبانت لنا مباحث فلهوزن بصورة أدنى إلى الصواب أن مذهب التشيع ليس كما يعتقد البعض رد فعل من جانب العقل الإيراني يخالف الإسلام، ومما يؤيد أبحاثه التوزيع الجغرافي للشيعة في القرن العشرين، وقد ألمع الخوارزمي إلى أن العراق هو الموطن الأول للتشيع وكانت الكوفة وبها قبر الإمام علي (ع) أكبر مركز للشيعة، وفي غضون القرن الرابع امتد مذهب الشيعة إلى البصرة، وأصبحت شيعية بعد أن كانت عثمانية، في القرن الخامس الهجري كان في البصرة ما لا يقل عن ثلاثة عشر مكاناً يتصل بذكرى علي، وكان يقدسها الشيعة، وكان أهل طبرية ونصف نابلس وقدس وأكثر عمان شيعة، ولا أدري كيف كان ذلك، ورغم قيام الدولة الفاطمية نلاحظ أن حزب الشيعة لم يتقدم إلا قليلاً، وإذا كان ناصر خسرو قد وجد أهل طرابلس عام ٤٢٨ هجري شيعة فقد جاء ذلك من بني عمار كانوا هناك على مذهب التشيع، وكانت جزيرة العرب شيعة كلها عدا المدن الكبرى مثل مكة وتهامة وصنعاء وقرح، وكان للشيعة غلبة كلها عدا المدن أيضاً مثل عمان وهجر وصعدة، وفي بلاد خوزستان التي تلي العراق كان نصف الأهواز وهي القصبة على مذهب الشيعة. أما في فارس فكان الشيعة كثيرين على السواحل التي تتصل بالعراق وخصوصاً بالقرب من المتشيعين. أما في جميع المشرق فكانت الغلبة لأهل السنة إلا أهل قم، وكانت أصفهان تخالف قم كل المخالفة، ففي عام ٣٤٥ وقعت بينهما فتنة كبيرة نشأت عن اختلاف المذاهب، وفي أواخر القرن الرابع الهجري لم يكن قد تم لمذهب الشيعة افتتاح البلاد التي يملكها اليوم، ولكنه كان سائراً في أحسن طريق يوصله إلى ذلك، بل كان الاضطهاد مما يساعد هذا المذهب على الانتشار».

من أين جاء مذهب التشيع ومتى ابتدأ في نابلس وطبرية وغيرهما من البلدان التي ليس فيها اليوم شيعي واحد ؟ وما هي الأسباب الباعثة على انقراضه وزواله من تلك الأماكن، وأي فرقة من فرق الشيعة، كان تستوطنها ؟

٢٥٨

الغلاة في نظَر الإماميَّة *

الغلاة أصناف: منهم السبئية أتباع عبد اللّه بن سبأ، وهو أول من أظهر الغلو، قال هؤلاء: حل في علي جزء إِلهي واتحد بجسده، وبه يعلم الغيب، وأتى في الغمام، والرعد صوته، والبرق تبسمه، وينتقل هذا الجزء الإلهي بنوع من التناسخ من إِمام الى إِمام.

ومنهم الخطابية أتباع أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي، قالوا: إن جعفر الصادق هو إِله زمانه، قال الشهرستاني: قد بالغ الصادق في التبري من أبي الخطاب واللعن عليه.

ومنهم المفوضة قالوا: ان اللّه خلق الأئمة، ثم اعتزل تاركاً لهم خلق العالم، وتدبير شؤونه.

ومن الغلاة من يدين بثالوث مكوّن من الأب وهو علي، والابن وهو محمد، وروح القدس وهو سلمان الفارسي. ومن الطريف قول بعضهم: أن يوم الأحد معناه علي، ويوم الاثنين الحسن والحسين.

وقد ذكر الشهرستاني في كتاب الملل والنحل فرقاً عدة للغلاة(١) ، ولكن هذه الفرق كلها ترجع إلى أن الأئمة آلهة أو أشباه آلهة أو أنصاف آلهة، وعلى أي الأحوال فإِن للغلاة دينهم الخاص، وهو لا يمت إلى الإسلام بصلة، وما زال كثير من الكتاب ينسب جهلاً أو تنكيلاً عقيدة الغلاة إلى جميع فرق الشيعة حتى الإمامية مع ان الإمامية قد استدلوا في كتب العقائد والأصول على كفر الغلاة ووجوب

_____________________

* - نشر في رسالة الإسلام تشرين الأول ١٩٥٤.

٢٥٩

(١) وهؤلاء الفرق بائدة لا وجود لها الآن إلا في بطون الكتب.

البراءة منهم، ومن كل ما فيه شائبة الغلو. ومن أدلتهم على نفي المغالاة الآية ٧٧ / المائدة «قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق، ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل، وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل» والآية ١٥ / الزخرف: «وجعلوا من عباده جزءاً ان الإنسان لكفور مبين» وقول الإمام علي: (هلك فيّ اثنان مبغض قال، ومحب وغال) وقول جعفر الصادق: (وما نحن إلا عبيد الذي خلقنا واصطفانا، واللّه ما لنا على اللّه حجة، ولا معنا من اللّه براءة، وإنا لميتون وموقوفون ومسؤولون، من أحب الغلاة فقد أبغضنا، ومن أبغضهم فقد أحبنا، الغلاة كفار والمفوضة مشركون، لعن اللّه الغلاة، ألا كانوا نصارى ألا كانوا قدرية ! ألا كانوا مرجئة ! ألا كانوا حرورية(١) أي خوارج، فالإمامية يعتقدون أن الخوارج الذين حاربوا علياً هم أفضل من الغلاة الذين ألهوه وألهوا أبناءه).

وأجمع علماء الإمامية على نجاسة الغلاة، وعدم جواز تغسيل ودفن موتاهم، وعلى تحريم اعطائهم الزكاة، وعلى أنه لا يحل للغالي أن يتزوج المسلمة، ولا للمسلم أن يتزوج الغالية مع أن الإمامية أجازوا الزواج بالكتابية، وأجمعوا أيضاً على أن المسلمين يتوارثون وان اختلفوا بالمذاهب والأصول والعقائد. قالوا: يرث المحق من المسلمين من مبطلهم، ومبطلهم من محقهم ومبطلهم إلا الغلاة يرث منهم المسلمون وهم لا يرثون من المسلمين(٢) .

أما عقيدة الإمامية بالصحابة، فيدل عليها قول إمامهم الرابع زين العابدين علي بن الحسينعليه‌السلام في الصحيفة السجادية من دعاء له في الصلاة على اتباع الرسل. قال:

«اللهم وأصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا الصحبة، والذين ابلوا البلاء الحسن في نصره وكانفوه واسرعوا إلى وفادته وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له حيث اسمعهم حجة رسالاته وفارقوا الأزواج والأولاد في اظهار كلمته،

_____________________

(١) كتاب بحار الأنوار للعلامة المجلسي المجلد الثالث صفحة ٥١ و٥٢ طبعة ١٣٠١ هجرية.

(٢) تجد هذه الفتاوى في باب الطهارة وباب الزكاة وباب الزواج وباب الارث من كتاب الجواهر وكتاب المسالك وكتاب العروة الوثقى وكتاب وسيلة النجاة الكبرى للسيد أبي الحسن الأصفهاني وغيرها من كتب الفقه للشيعة الإمامية.

٢٦٠