الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان14%

الشيعة في الميزان مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 419

الشيعة في الميزان
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 142444 / تحميل: 9283
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

سلبية، ولا عن دلائل التوحيد، وشواهد الرسالة(١) .

أما الإيمان فهو التصديق بالقلب واللسان معاً، ولا يكفي احدهما دون الآخر.

معنى العصمة:

تضاربت الأقوال في تفسير العصمة، فمنهم من قال: ان المعصوم يفعل الطاعة مع عدم قدرته على المعصية، فهو مجبر على فعل الحسن، وترك القبيح، ومنهم من قال: ان للمعصوم غريزة تردعه عن المعصية، كما تردع غريزة الشجاعة عن الفرار، وغريزة الكرم عن الإمساك، وقال نصير الدين الطوسي في كتاب التجريد صفحة ٢٢٨ طبع العرفان: «المعصوم قادر على فعل المعصية، وإلا لم يستحق المدح على تركها، ولا الثواب، ولبطل الثواب والعقاب في حقه فكان خارجاً عن التكليف وذلك باطل بالاجماع والنقل»(٢) ، وقال الشيخ المفيد: «ليست العصمة مانعة من القدرة على القبيح، ولا مضطرة للمعصوم إلى الحسن، ولا ملجئة إليه»(٣) ، وعلى هذا يكون معنى العصمة عند الإمامية أن المعصوم يفعل الواجب مع قدرته على تركه، ويترك المحرم مع قدرته على فعله، ولكنه مع ذلك لم يترك واجباً، ولم يفعل محرماً.

أما جواز السهو على المعصوم فقال صاحب مجمع البيان(٤) في تفسير الآية ٦٨

_____________________

(١) الشيخ جعفر كاشف الغطاء شيخ الشيعة الإمامية، انتهت إليه رئاسة المذهب في زمانه، له كتاب: «بغية الطالب» و«رسالة العقائد الجعفرية» وغير ذلك، توفي سنة ١٢٢٨ هجرية.

(٢) نصير الدين الطوسي الحجة الكبرى لمذهب الإمامية، ومن كبار فلاسفة الإسلام توفي سنة ٦٧٢ هجرية.

(٣) كتاب «شرح عقائد الصدوق» للشيخ المفيد ص ٦١ طبعة ثانية تبريز، والمفيد شيخ مشايخ الإمامية، واستاذ الشريفين المرتضى والرضى، توفي سنة ٤١٣ هجرية.

(٤) مجمع البيان من اعظم الكتب في تفسير القرآن للشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي من كبار علماء الإمامية. توفي سنة ٥٤٨ هجرية.

٢٤١

من سورة الأنعام: «إن الإمامية لم يجيزوا السهو والنسيان على أئمتهم فيما يؤدونه عن اللّه تعالى، فأما ما سواه فقد جوزوا عليهم ان ينسوه أو يسهوا عنه ما لم يؤد ذلك إلى إخلال العقل، وكيف لا يكون كذلك! وقد جوزوا عليهم النوم والاغماء، وهما من قبيل السهو، ومن نسب غير هذا إلى الإمامية فقد ظن ظناً فاسداً، وان بعض الظن اثم».

الحسن والقبح:

اتفق الإمامية على أن الحسن والقبح أمران عقليان لا شرعيان أي أن الشرع يأمر بالشيء، لأنه حسن، وينهى عنه، لأنه قبيح، وقال الأشاعرة «السنة»: ان الحسن والقبح يستفادان من الشرع، فكل ما أمر به الشرع فهو حسن، وكل ما نهى عنه فهو قبيح، ولولا الشرع لم يكن حسن ولا قبح، ولو أمر اللّه تعالى بما نهى عنه لانقلب القبيح إلى حسن، ولو نهى عما أمر به لانقلب الحسن إلى قبيح(١) .

_____________________

(١) كتاب شرح التجريد ص ١٨٥ طبعة العرفان.

٢٤٢

لا جَبر وَلا تَفويض *

ان مسألة الجبر والتفويض لهي من أهم المسائل النظرية وأقدم المعتقدات التي وقعت محلاً لمعركة الآراء وضلت لشدة غموضها العقول والأفكار، وهي من أهم الأسباب لتشعب المذاهب وتعدد الفرق، والموجب لتكفير أمة اختها رغم الروابط الدينية التي تربطها من جهة أخرى، وقد ملأت جانباً عظيماً من كتب التأليف والتصنيف، ونالت حظاً وافراً من البحث والتدريس والجدل عند الفلاسفة والسالكين مسلكهم قبل الإسلام وبعده، فمن رجع إلى كتب الحكمة والكلام والاخلاق، وأصول الفقه يجد الأشعري المعتنق لعقيدة الجبر والمعتزلي الذي يدين بالتفويض قد أتى بالكثير من المقدمات الضرورية والنظرية التي تتألف منها البراهين القطعية بزعم المستدل، والاقيسة العقلية، والأدلة السمعية من الكتاب والسنة، ثم يكر بعد ذلك على طريقة العرف وسيرة العقلاء فيضرب الأمثال من معاملة الموالي مع عبيدهم ويؤولها حسب ما يوافق مطلوبه، هذا، وهو يحسب أنه قد أحسن صنعاً بتمحيص الحق والاهتداء بنوره، ودحض الباطل والخروج من ظلمته، وكشف الأسرار الغامضة الدقيقة بالطرق الصحيحة، والأدلة التي لم يهتد إليها أهل العقول والانظار.

والحقيقة أن ما استند إليه كل من الطائفتين لو توجهت نحوه العقول وأعطته حق الإمعان والتأمل لجعلته هباء وحكمت عليه أنه تطويل بلا طائل، وأنه أدل دليل على ارتباك المستدل وخطئه حيث عد الشبهة دليلاً، والعليل صحيحاً، وجزم ان الهدف الذي يرمي إليه والغاية التي يحاول اثباتها ان هي الا صحة عقيدته التي غرست

_____________________

* - نشر في العرفان عدد آذار سنة ١٩٣٧.

٢٤٣

بذرها في نفسه يد الوراثة، وتأصلت جذورها في أعماق قلبه بتكرار النظر وطول الممارسة لما سطر (الكرام) الكاتبون من أسلافه، وزينها له اساتذته وشيوخه ببركة تلقينهم اياه، وتقليده اياهم، وتشعبت فروعها بمعاشرة قومه، والفة صحبه الذين يقدسون هذه العقيدة، ويرونها أصلاً من أصول دينهم الذي يوجب عليهم رعايتها والتعبد بها، ويتحتم على كل واحد منهم ان يصحح عقيدته بكل طريق ولو كان فاسداً في نفس الأمر والواقع، ويبطل ما ينافيها ولو كان حقاً، فبينما هو يورد الأدلة ويكر على حجة خصمه فيعارضها بالمثل أو يطعن في صغرى قياسه أو كبراه يستشهد بالاخبار النبوية (الراد على أهل هذه الطريقة كالشاهر سيفه في سبيل اللّه، وأهلها مجوس هذه الأمة)، إلى غير ذلك.

ونظراً لضيق المقام أعرضنا عن ذكر كلماتهم وبيان مواضع الخلل فيها، على الاخص استدلالهم بالنصوص السمعية فإن المسألة عقلية وليس للسمع أقل مساس فيها، فلا يصح التمسك بظواهر الكتاب والسنة في مثلها إثباتاً أو نفياً، فإن المتعين أولاً النظر إلى حكم العقل وتشخيصه عما عداه على نحوٍ لا يقع فيه الاشتباه والريب، ثم النظر إلى اللفظ الثابت عن الحكيم، فإن كان موافقاً بظاهره لحكم العقل كان مقرراً له، والا وجب تأويله بما يوافق العقل، كما هو المعروف من دين الإسلام وضروراته، ومن هنا نعرف محل الخطأ في قول القائلين ان الأحكام العقلية ساقطة عن الاعتبار، ان المتعين حصر المدارك، والأدلة بالسمع فقط مستدلين على ذلك بحكم العقل بصحة الجبر والتفويض معاً، مع أن تنافيهما من البديهيات، فمن حكمه بصحة الأمور المتضادة يستكشف سقوطه عن الاعتبار وعدم جواز الاعتماد عليه.

والحق أن أرباب هذه العقيدة هم الساقطون عن الاعتبار لا العقل الذي يكون الإنسان به إنساناً يمتاز عن سائر الحيوانات، فإن الحكم بعدم اجتماع المتنافيين اللذين لا جامع بينهما، ولا وحدة تربطهما من المعلومات البديهية، والمرتكزات الفطرية، وبعد أن كان الجبر والتفويض متعاندين ذاتاً فكيف يمكن صدور الحكم من العقل بصحتهما معاً، وجزمه بتحقيق كل منهما، وهل هو إلا نظير القطع بالوجود والعدم في محل واحد، وهذا أمر لا مرية فيه، وإنما الكلام في أن الجبر والتفويض، هل هما ضدان لا ثالث لهما بمعنى أن الواقع لا يخلو من احدهما، فكما امتنع العقل عن الحكم بصحتهما كذلك لا يحكم ببطلان كل منهما، بل لا محيص عن الأخذ بأحدهما وطرح الآخر، إما الجبر وإما التفويض نظير الحركة والسكون، فإن ارتفاعهما عن الجسم محال

٢٤٤

كاجتماعهما، أو أن هناك واسطة في البين فلا مانع من قبل العقل بثبوت أمر ثالث، وإنما المستحيل في نظره هو الحكم بصحة الجبر والتفويض معاً لا يبطلانهما، كما هو الحال في السواد والبياض، فانهما لا يشغلان معاً حيزاً واحداً في آن واحد، ولكن لا بأس بارتفاعهما وكون المحل مشغولاً بلون ثالث، وهذه الناحية هي التي تهمنا أكثر من جهة تتعلق بهذا الموضوع.

فنقول: ان أئمة الهدىعليهم‌السلام قد كشفوا لنا عن وجه الحق واهتدينا بكلامهم إلى الحقيقة التي يستصوبها العقل، وهو حاكم بفساد الجبر والتفويض بالمعنى الذي نذكره لهاتين اللفظتين، وصحة أمر بين الأمرين. أما الجبر الذي ينفيه العقل فهو حمل العبد على الفعل والترك بالقسر والغلبة على وجه لا يكون للعبد قدرة التخليص ولا قوة الامتناع والتحصن فايجاد فعل العبد فيهم كايجاد الثمرة في الشجرة والجريان في الماء، ولازم هذا القول حذف لفظ الطاعة والعصيان والمشيئة، وكل كلمة تشعر بالاختيار أو يتوقف معناها عليه من جميع اللغات فإنه لا طاعة بإكراه ولا مشيئة مع إِلجاء، ومن ذهب هذا المذهب أراد أن يثبت للّه تعالى القدرة فأثبت له الظلم والسفه والكذب (وليس اللّه بظلام للعبيد).

وأما التفويض الباطل فهو أن اللّه تعالى (أوجد العباد وأقدرهم على أعمالهم وفوض إليهم الاختيار فهم مستقلون بايجادها على وفق مشيئتهم وقدرتهم وليس للّه تعالى في أعمالهم صنع) وعلى هذا المسلك ينبغي أن يرضى اللّه تعالى بكل ما يفعله عبده ولا يؤاخذه بشيء مما يفعل، وقد حاول القائل به إِثبات العدل للّه فعزله عن سلسانه وشاركه في خلقه - يد اللّه مغلولة غلت ايديهم - وربما يكون لصحة هذا القول وجه، وهو أن العباد قد اجتمعت بأسرها وتجمهرت واتفقت يداً واحدة وتظاهرت على خالقها واظهرت التمرد والعصيان وطلبوا منه الاستقلال التام ففوض إليهم الأمر وأجراهم على مشيئتهم بعد أن عجز عن تطويعهم.

وإذا كان العقل حاكماً بفساد هذا الإفراط، وذاك التفريط تعين القول الفصل وهو صحة الأمر بين الأمرين، ولا نقصد منه أن فعل العبد مستند إلى قدرته وقدرة اللّه تعالى، وانهما قد تعاونا معاً على إيجاده، فإن ذلك ليس بأقل محذوراً من القول بالجبر، وهل يحسن العقاب من الباري تعالى على معصية كان هو أحد الفاعلين، وأقوى الشريكين، وإنما نعني بالأمر بين الأمرين أن اللّه تعالى أقدر الخلق على أعمالهم ومكنهم من أفعالهم، فهم يملكون الاستطاعة، لكن هو المملك، ثم أمرهم بالخير، ونهاهم عن الشر، ووعدهم بالثواب على الأول، والعقاب على الثاني، فإذا فعل العبد الخير والطاعة فيسند هذا الفعل إلى اللّه تعالى، لأن العبد فعله بالقدرة التي ملكها من

٢٤٥

خالقه، ولأنه قد رضي اللّه وأمره به، وينسب أيضاً إلى العبد لأنه قد اختار الخير مع قدرته على الشر. وأما إذا اختار فعل الشر وأتى به العبد فإنه وان فعله بالقدرة من اللّه تعالى إِلا أنه مع ذلك لا ينسب الشر إلى اللّه، بل هو مستند إلى العبد وحده وللّه الحجة عليه، حيث أنه لم يرض بفعل الشر، بل نهاه عنه، فالخير من اللّه تعالى لرضاه به وإقدار العبد عليه، حيث اقدره على الخير وللّه الحجة لو فعل العبد الشر، لعدم الرضى.

وإنما أعطاه القدرة على المعصية والشر مع عدم الرضى بهما حذراً من الالجاء، فإن المعصية إذا لم تكن مقدورة للعبد وكانت الطاعة تصدر منه رغماً عنه لما استحق مدحاً ولا ثواباً، فإن الفضل يظهر بالامتحان، فلا جبر على المعصية لأن اللّه كما اقدره عليها فقد أقدره على الطاعة وترك العصيان، ولا تفويض لأنه تعالى لم يترك الأمر إلى مشيئة العبد واختياره، حيث نهاه عن الشر وزجره عنه، هذا هو المقصود من الأمر بين الأمرين الذين عابوا الشيعة به وآخذوهم عليه، والذي يدلك على صوابه وأنه هو المتعين في نظر العقل دون سواه مضافاً إلى ما بيناه أن الإمام الرازي، وهو أحد الأقطاب المنتصرين لمذهب الجبر فإنه رغم ذكره مسألة الجبر في تفسيره ما يقرب عن عشرين مرة، وفي كل منها يقيم الأدلة والبراهين على صحة الجبر وبطلان غيره قد اعترف في أحد المقامات من حيث لا يشعر بفساد الجبر والتفويض. وصحة الأمر بين الأمرين، قال في المجلد الخامس صفحة ٣٥٥ من تفسيره (إن القول بأن العبد ليس له قدرة ولا اختيار جبر محض، والقول بأن العبد مستقل بافعاله قدر محض، وهما مذمومان والعدل أن يقال: إِن العبد يفعل الفعل ولكن بواسطة قدرة وداعية يخلقها اللّه فيه) وهذا كلام قريب مما تقوله الإمامية.

٢٤٦

الخِلاف لا يمنَع مِن الإنصَاف *

لقد اثبتت التجارب أن الأنظمة والقوانين لا يمكن أن تعيش إذا لم تستمد قوتها من إِيمان ديني أو فلسفي، وأن أي نظام لا يستقبله الشعب بالرضا والقبول لا يلبث أن يزول، وإن دعمته قوة النار والحديد. وهذه حقيقة اعترفت بها حتى الفاشية والشيوعية لأنها بديهة لا تقبل الشك والريب.

وقد راعاها الإسلام وأولاها عنايته، حيث لم يفرض أحكامه على غير المسلمين، وإنما ترك أهل الأديان وما يدينون، فما هو صحيح عندهم هو نافذ في حقهم، في نظر الإسلام، فالخمر والخنزير لا يملكهما المسلم، ويصح تملكهما، وتمليكهما لغير المسلمين، ومن أحكام الإسلام جواز أنكحة غير المسلمين، وإن لم تتوافر فيها الشرائط المعتبرة في أنكحة المسلمين.

وقد اتفقت المذاهب الإسلامية على هذا الأصل، ونطقت به كتبهم، فمن كتب السنة كتاب «البدائع والصنائع» ج ٢ ص ٣١٠ و٣١١ الطبعة الأولى، وكتاب «المغني» ج ٦ ص ٦١٣ و٦٢٧ الطبعة الثالثة: ان أنكحة غير المسلمين لها أحكام الصحة، لأنا قد أمرنا بتركهم وما يدينون، وفي المغني ج ٦ ص ٣٠٦ «مجوسي تزوج ابنته، فأولدها بنتاً، ثم مات عنهما فلهما الثلثان».

ومن كتب الشيعة الإمامية كتاب «الجواهر» باب الزواج والطلاق، وكتاب «مقابس الأنوار» أول باب الزواج: إِن ما في أيدي غير المسلمين من النكاح وغيره صحيح. وإن كان فاسداً عندنا، وان كل قوم يفرقون بين النكاح والسفاح فنكاحهم جائز، لحديث «الزموهم بما الزموا به أنفسهم».

_____________________

* - نشر في رسالة الإسلام عدد تشرين الأول سنة ٩٥٣

٢٤٧

وهذا مبدأ عام من مبادئ التشريع الإسلامي لا يختص بمذهب دون مذهب. بل أن فقهاء المسلمين قد تسامحوا أكثر من ذلك، قال صاحب المغني ج ٨ ص ١٣٢ «من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة، ومن بعدهم، واستحلال دمائهم وأموالهم واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى اللّه، ومع ذلك لم يحكم الفقهاء بكفرهم لتأولهم».

وإذا كان الفقهاء يقرون ما في أيدي غير المسلمين من أنظمة وقوانين تخالف الشريعة الإسلامية، ولا يحكمون بتكفير الخوارج الذين كفروا الصحابة، واستحلوا دماء المسلمين وأموالهم، لأن عقيدتهم تبيح ذلك لهم، فكيف يسوغ لمسلم أن يكفر طائفة تؤمن باللّه ورسوله واليوم الآخر، وتستمد أصولها وفروعها من كتاب اللّه وسنة نبيه، وتقول: من قال لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه حقن ماله ودمه، كيف يكفرها مسلم، لأنها تخالف المذهب الذي ارتضاه لنفسه، أو ورثه عن آبائه، تخالف مذهبه في بعض شرائع الزواج والطلاق، أو بعض مسائل الإرث والرضاع !

ان مذهب الخوارج يخالف جميع المذاهب الإسلامية السنة والشيعة، ومع ذلك فقد عذروهم فيما اجتهدوا فيه فأخطأوا، اذن، بالاحرى أن تعذر طائفة إسلامية إذا خالفت المذاهب الأربعة في مسألة من مسائل الرضاع أو الإرث، مستندة إلى آية أو رواية.

إن الشيعة الإمامية لم يتقيدوا بمذهب من المذاهب الأربعة، وإنما اتبعوا طريقة الأصحاب والتابعين في استخراج الأحكام من الكتاب والسنة. فكل ما ادى إليه الكتاب والسنة فهو حجة عندهم، ولو خالف جميع المذاهب، لأن قول اللّه ورسوله فوق الأقوال كافة، أي أن الفقيه الإمامي يعمل بما أدى إليه نظره وفهمه لأصول الشريعة، لا بما فهمه فقهاء السنة أو الشيعة.

٢٤٨

مِن اجتهَادات الإماميَّة *

منذ سنوات، وأنا أنشر بين حين وحين مقالات رجوت فيها شيوخ المسلمين من سنيين وشيعيين أن لا يحصر كل فريق دراسته الفقهية في مذهب آبائه وأجداده.

ولم يكن الباعث لي على تأكيد هذا الرجاء الرغبة في التقريب بين المذاهب الإسلامية فحسب، وان كنت من المتطوعين في هذي السبيل، وإنما غرضي الأول أن يرتكز درس الشريعة الإسلامية على أساس إسلامي صرف، لا مذهبي، كي لا تلون الشريعة بلون يخفي جمالها وحقيقتها، ويجنس بجنسية تقيم الحدود والسدود بين بني الإنسان، بل بين ابناء الدين الواحد.

لقد نشأت المذاهب، وتعددت بعد الإسلام ونبي الإسلام، نشأت في ظروف سياسية، لغاية دنيوية، تهدف إلى التفريق والشتات، ونشأ الإسلام في ظرفه الطبيعي، لغاية إنسانية تهدف إلى الاخاء والمساواة، فالتعصب لفقه مذهب خاص تعصب للسياسة المحترفة التي تمخضت عن ذلك المذهب.

إن الشريعة الإسلامية لم تستخرج من الوهم والخيال، بل لها أصول مقررة لا يختلف عليها مسلمان، مهما كان مذهبهما، وإنما الخلاف والجدال بين المذاهب حصل فيما يتفرع عن تلك الأصول، وما يستخرج منها، فالعلاقة بين أقوال المذاهب الإسلامية هي العلاقة بين الفرعين المنبثقين عن أصل واحد.

ونحن إذا أردنا معرفة أن هذا المذهب على حق في أسلوبه واستخراج الحكم من مصدره دون سائر المذاهب، فعلينا أن نلاحظ جميع الأقوال المتضاربة حول

_____________________

* - نشر في رسالة الإسلام عدد تشرين الأول سنة ١٩٥٢.

٢٤٩

الحكم، وندرسها بطريقة حيادية، بصرف النظر عن كل قائل وعن منزلته العلمية والدينية، ثم نحكم بما يؤدي إليه الأصل والمنطق على نحو لو اطلع عليه أجنبي لاقتنع بأنه نتيجة حتمية للأصل المقرر. وبهذا نكون من الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه.

أما من يطلع على قول مذهب من المذاهب، يؤمن به ويتعصب له، لا لشيء إلا لأنه مذهب آبائه، ويحكم على سائر المذاهب بانها بدعة وضلالة فهو مصداق الآية الكريمة: «وإذا قيل لهم اتبعوا ما انزل اللّه قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أوَلو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون».

وأي فرق بين رجل أفنى العمر في حفظ معتقدات أبيه ودرسها، لا يتجاوزها قيد أنملة، ورجل لم يقرأ، ولم يكتب، ولم يدرس شيئاً، ولكن تكونت له من بيته وبيئته عادات ومعتقدات ؟ أي فرق بين الرجلين حتى يقال: ذاك عالم، وهذا جاهل ؟!.

ليس العالم من وثق برأيه ومعتقد آبائه، وكانت له المقدرة التامة على المحاورة والمداورة، وإنما العالم من فصل الواقع عن ذاته وعاطفته، وفكر تفكيراً حراً مطلقاً، لم يتعصب لرأي على رأي، بل يقف من كل قول موقف الشك والتساؤل، وان كثر به القائلون، وآمن به الأقدمون.

إن احترام العالم يقاس باحترامه للحقيقة، فهي ضالته أينما وجدت. لقد اثبتت التجارب ان الاختصاص بعلم من العلوم يحتاج إلى ثقافة عامة، ومعرفة نظريات ومبادئ علوم شتى، فكيف يكون الإنسان متخصصاً بعلم، وهو لا يعرف عنه إلا قول عالم يخالفه فيه كثير من العلماء ؟ واستطيع التأكيد أن من الاجانب من يعرف عن الإسلام وتاريخه وشريعته ورجاله وعقائدهم ما لم يعرفه كثير من متخرجي الأزهر والنجف، وانه لغريب أن تقوم جامعتان، لهما تاريخهما وعظمتهما، احداهما في العراق، والثانية في مصر، يبحثان في موضوع واحد، ويهدفان إلى شيء احد: إلى نشر الشريعة الإسلامية، ثم لا يكون بينهما أي نوع من أنواع التعارف والتعاون.

إن في كتب الشيعة الإمامية اجتهادات لا يعرفها الخواص من علماء السنة، ولو اطلعوا عليها لقويت ثقتهم بالشيعة وتفكيرهم، وكذا الشأن بالقياس إلى كتب السنة وعلماء الشيعة، ان اطلاع كل فريق على ما عند الآخر من أقوى البواعث على تمهيد السبيل للتقريب بين الإخوة، من حيث يريدون أو لا يريدون.

وبعد هذا التمهيد الطويل الممل انتقل بالقارئ الصبور المحتسب إلى بعض الأمثلة من اجتهادات الشيعة الإمامية.

٢٥٠

شهادة أهل المذاهب والملل.

قال الشهيد الثاني في كتاب المسالك باب الشهادات(١) : «اتفق أصحابنا على أنه لا تقبل شهادة غير الشيعي الاثني عشري، وإن اتصف بالإسلام، وفيه نظر، لأن الشرط في قبول الشهادة أن لا يكون الشاهد فاسقاً، والفسق إنما يتحقق بفعل المعصية، مع العلم بكونها معصية، أما مع اعتقاد أنها طاعة، بل من أهم الطاعات، فلا يكون عاصياً، ومن خالف الحق في الاعتقاد لا يعتقد المعصية، بل يزعم أن اعتقاده من أهم الطاعات، سواء أكان اعتقاده صادراً عن نظر أم تقليد، وبهذا لا يكون ظالماً، وإنما الظالم من يعاند الحق مع علمه به، وهذا لا يتحقق في جميع أهل الملل مع قيامهم بمقتضاها بحسب اعتقادهم».

وهذا القول يتفق مع أصول الشيعة، حيث يثبتون أحكام الشريعة بحديث من خالفهم في الاعتقاد، إذا اجتنب الكذب، ففي كتاب نهج المقال للبهبهاني (ص ٥) وغيره من كتب الرجال «إِن مشايخ الإمامية يوثقون المخطئين في الاعتقاد، كما يوثقون المصيبين من غير فرق، فيقبلون حديثهم، ويسمونه الموثق».

ان هذا الاجتهاد الذي خالف فيه الشهيد الثاني علماء مذهبه اجمعين مع علمه واعترافه بوجود هذا الاجماع لهو خير شاهد على انه باستطاعة الإنسان أن يتحرر من قيود البيت والمدرسة، وتقاليد الآباء والاجداد، وعلى ان سلطان العقل النير

_____________________

(١) هذا الكتاب مجلدان كبيران جمع أبواب الفقه بكاملها، وطبع مرات عديدة في إيران بالطبع الحجري، وهو للشهيد الثاني زين الدين العاملي، استشهد سنة ٩٦٦ هجري، وله مؤلفات كثيرة، يرجع الشيعة إليها ويعتمدون عليها.

٢٥١

اقوى من كل سلطان.

بهذا الروح الكريم وهذا العقل الخصب، يجب أن تفسر الشريعة السهلة السمحة.

والعدالة التي يشترطها الشيعة في الشاهد القاضي ومرجع التقليد وامام الجماعة في الصلاة هي العدالة في الظاهر، لا في الواقع. قال الإمام الصادق: «لو لم تقبل شهادة المقترفين للذنوب لما قبلت إلا شهادة الأنبياء والأوصياء، فمن لم تره بعينك يرتكب ذنباً، ولم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة والستر، وشهادته مقبولة، وان كان في نفسه مذنباً»(١) .

شهادة أرباب الصنائع.

قال بعض الفقهاء من غير الشيعة(٢) : ان أرباب الصنائع الدنيئة لا تقبل شهادتهم، وجاء في كتاب الجواهر والمسالك وغيرهما من كتب الفقه للشيعة: ان أرباب الصنائع تقبل شهادتهم: مهما كان نوع الصنعة، لقوله تعالى: «ان أكرمكم عند اللّه أتقاكم» والصنعة لا تتنافى مع التقوى، ولا مع المروءة، خاصة لمن يتخذها مهنة دائمة، وان المجتمع في حاجة إلى الصنائع، ولو تركت لاختل النظام، وعم الضرر. أجل ان الشيعة لا يقبلون شهادة من يسأل الناس، لأن السؤال يتنافى مع المروءة وعزة النفس التي أمر بها الدين، وقال الشهيد الثاني في المسلك: الطفيلي بحكم السائل لا تقبل شهادته.

شركة الأبدان:

إذا اتفق اثنان على أن يقتسما بينهما ما يكتسبانه في أيديهما - وتسمى هذه الشركة شركة الأبدان - قال الإمامية: لا يصح ذلك بحال، من غير فرق بين أن يتفق عملهما بأن يكون كل منهما طبيباً - مثلاً - أو محامياً، وبين أن يختلف العمل بأن يكون أحدهما طبيباً، والآخر محامياً، واستدلوا على عدم الصحة

_____________________

(١) كتاب آيات الأحكام للشيخ أحمد الجزائري ص ٣٠٩ طبع سنة ١٣٣٧ هجري.

(٢) كتاب المغني لابن قدامة ج ٩ ص ١٦٩، الطبعة الثالثة.

٢٥٢

بان كل واحد مستقل بنفسه، ومنافعه تابعة لعمله، فيختص بها دون سواه، ولو اشتركا لحق الغبن باحدهما، وأخذ ما لا يستحق(١) وهذا يتفق مع مبدأ الاشتراكية القائل «من كل حسب مقدرته، ولكل حسب عمله» وبناء على قول الإمامية لا يجوز أن يعمل طبيبان في عيادة واحدة، أو محاميان في مكتب واحد، أو خياطان، أو نجاران في محل واحد، على أن تكون ايديهما جميعاً في العمل، ثم يقتسمان الأجرة بينهما خوفاً من الغبن والاستغلال.

وفي كتاب المغني لابن قدامة ج ٥ الطبعة الثالثة ص ٣ «لا بأس أن يشترك القوم بأبدانهم وبهذا قال مالك، وقال أبو حنيفة: يصح في الصناعة، ولا يصح في اكتساب المباح كالاحتشاش وقال الشافعي: شركة الأبدان كلها فاسدة، لأنها شركة على غير مال».

التكافل والتضامن:

إذا كان لخليل مبلغ من المال في ذمة سليم، وقد ضمن هذا المبلغ جميل، وتعهد بأدائه لخليل صاحب الحق قال الإمامية: لا يحق لخليل المضمون له أن يطالب بماله من شاء منهما، بل ينحصر حقه بجميل الضامن فحسب، أما سليم المضمون عنه فلا سبيل له عليه، لأن الحق الواحد لا يتعدد ولا يثبت بتمامه في ذمتين، ومتى دفع جميل المال لخليل رجع على سليم، وطالبه بما أداه(٢) وبناء على هذا القول لا يجوز أيضاً أن يستدين اثنان مالاً من آخر على أن يرجع صاحب المال بكامل ماله على أي شاء منهما. إذن التكافل والتضامن على هذا النحو فاسد عند الإمامية من أصله.

وفي كتاب المغني ج ٤ ص ٥٤٦ و٥٤٨ «الحق ثابت في ذمتهما، أي الضامن والمضمون عنه ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما. وبهذا قال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي، أي الحنفية والحنابلة أيضاً لأن الكتاب المذكور على فقههم، وعليه فالتكافل والتضامن عند السنة جائز.

_____________________

(١) الجواهر والمسالك باب الشركة.

(٢) الجواهر والمسالك وجميع كتب الفقه للإمامية، لأن هذه المسألة مجمع عليها عندهم.

٢٥٣

الشيعَة في نظَر الدكتور طهَ حُسين *

الطائفة الشيعية هي أهم الطوائف التي كثر حولها الجدال والنقاش، وتشعبت فيها أقوال الباحثين من شرقيين وغربيين قديماً وحديثاً، وقد صورها الكاتب الشهير الدكتور طه حسين بأنها حزب معارض لسياسة البغي والجور، لهذه الغاية انشئت، وعليها عملت، ولأجلها اضطهدت، وهذا ما دعاني إلى أن انقل للقراء رأي الدكتور في هذه الطائفة.

اخرج الدكتور المجلد الثاني من كتابه الكبير الفتنة الكبرى، وموضوع هذا المجلد «علي وبنوه» ابتدأه بخلافة الإمام علي، وختمه بمقتل ولده الحسين، ذكر ما قاله الرسول وأصحاب الرسول في مدح علي، وانه كان أهلاً لتلك الفضائل، ولأكثر منها، وانه على الرغم من الخطوب والمحن التي توالت عليه من كل جانب كان يمضي على الحق لا يلوي على شيء مهما تكن العاقبة. أما أخصام الإمام كعائشة ومعاوية وابن العاص وطلحة والزبير وغيرهم فقد عارضوه وخاصموه ليصرفوا الأمر عنه إلى أهوائهم وأغراضهم، وهذه الحقيقة اثبتها الدكتور بالوقائع والأرقام، وإليك هذا المثال على أسلوبه في اثبات الحقائق قال: «من الممكن أن يقال: أن معاوية اجتهد للناس فأخطأ أو أصاب، لكنه قاتل علياً على دم عثمان من جهة، وعلى أن يرد الخلافة شورى بين المسلمين من جهة أخرى، فلما استقام له السلطان نسي ما قاتل عليه، أو أعرض عما قاتل عليه» أي بعد أن أصبح معاوية دكتاتوراً لم يتتبع قتلة عثمان، وجعل الخلافة كسروية وقيصرية،

_____________________

* - نشر في العرفان تموز ١٩٥٣

٢٥٤

فنقلها إلى ولده الطاغية يزيد بالقهر عن المسلمين.

بهذا المنطق السليم حاكم الدكتور جميع القضايا التي تعرض لها في كتابه، أما النتيجة التي انتهى إليها فهي أن الذين حاربوا علياً، وكادوا له، وعارضوه فيما كان يراه من حق، هم وحدهم السبب في محنة الإسلام من ذلك العهد حتى آخر يوم، وهم وحدهم الذين أورثوا المسلمين عناء وخلافاً لم ينقضيا، ولن ينقضيا إلى أن يشاء اللّه.

وليس من غرضي التعريف بالكتاب من جميع نواحيه، ولو أردت ذلك لم أكتف بمقال أو مقالين، لأن الكتاب كبير جداً كبير بحجمه، كبير بحقائقه، كبير بما يثيره من المشاعر والأحاسيس، كبير بقدرة كاتبه على التعبير، وبراعته في الأداء، وانما غرضي أن أعرف القارئ برأي الدكتور في الشيعة، وبخاصة الشيعة أنفسهم، ليعرفوا أنهم بعيدون كل البعد عن روح عقيدتهم ومبادئهم.

ولم يخصص الدكتور طه فصلاً من كتابه للبحث عن الشيعة، وليته فعل ولكنه أشار إليهم بكلمات متفرقة في صفحات عديدة، لمناسبة ساقه إليها البحث من حيث يريد أو لا يريد وهي بمجموعها تعطينا الصورة التالية:

إن لكلمة الشيعة معنيين الأول: المعنى اللغوي، وهو الفرقة من الاتباع والانصار الذين يوافقون على الرأي والمنهج، فشيعة الرجل في اللغة هم أصحابه الذين اتبعوا رأيه، وهذا المعنى هو المقصود من قوله سبحانه «وان من شيعته لابراهيم - فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته» والشيعة بهذا المعنى كانوا موجودين في عهد الإمام بلا ريب.

الثاني: المعنى الاصطلاحي، وهو هذه الفرقة المتميزة بعقائدها وعوائدها الخاصة، والمعروفة عند الفقهاء والمتكلمين ومؤرخي الفرق، ويقصدونها عندما يطلقون كلمة الشيعة، والشيعة بهذا المعنى لم يكن لهم في عهد الإمام عين ولا أثر «وإنما كان للإمام في حياته أنصار وأتباع، وكانت كثرة المسلمين كلها أنصاراً له وأتباعاً».

ويعتقد الدكتور أن فرقة الشيعة بالمعنى الاصطلاحي المعروف إنما نشأت وتكررت وأصبحت حزباً سياسياً منظماً لعلي وبنيه بعد أن وقع الصلح بين الحسن ومعاوية، وبعد أن نكث هذا بالعهد ولم يف بما اشترطه على نفسه، تألف وفد من أشراف الكوفة برئاسة سليمان بن صرد الخزاعي، وذهبوا إلى المدينة للقاء الحسن، وطلبوا إليه أن يعيد الحرب خدعة، وأن يأذن لهم في أن يسبقوا إلى الكوفة فيعلنوا فيها خلع معاوية، ويخرجوا منها عامله، فأمرهم الحسن بالكف والانتظار إلى حين، وبهذا الوفد تكونت أول بذرة لفرقة الشيعة «وكان برنامج الحزب في أول انشائه طاعة

٢٥٥

الإمام من بني علي، والانتظار في سلم ودعة حتى يؤمروا بالحرب فيثيروها، ومضى رجال الشيعة يسجلون على معاوية وولاته ما يتجاوزون به حدود الحق والعدل».

وكانت رئاسة الفرقة للحسن، ومن بعده لأخيه الحسين «وكان الحسين كأبيه صارماً في الحق، لا يرى الرفق، ولا الهوادة. وأغرى حزبه بالاشتداد في الحق، والانكار على الأمراء الذين اسرفوا في أموال الشعب فأسرف معاوية وولاته في الشدة عليهم، حتى تجاوز كل حد، وعظم أمر الشيعة بسبب الاضطهاد، وانتشرت دعوتهم في شرق الدولة الإسلامية، وفي جنوب بلاد العرب، ومات معاوية حين مات، وكثير من الناس وعامة أهل العراق بنوع خاص يرون بغض بني أمية وحب أهل البيت ديناً» اذن كانت الشيعة في آخر عهد معاوية فرقة متميزة عن غيرها، لها عقيدتها وخصائصها.

وكان الشيعة منذ عهد معاوية إلى عهد العباسيين يثورون على الحكام الذين ساروا في حكمهم على سياسة الأرض ومن عليها ملك للسلطان، واكراه الناس على الخضوع والاعتراف بهذا الملك وتثبيته بالقتل والحبس والتشريد، ثار الشيعة وعارضوا الحاكم الذي حكم الناس بالغي واستبدل الجور بالعدل، والباطل بالحق، عارضوا الحاكم الجائر ولم يخضعوا لحكمه وجوره، فأمعن فيهم قتلاً وتعذيباً، فأمعنوا في محاربته غير مسالمين، ولا مهادنين ولا مكترثين بالموت والتعذيب في سبيل الحق، سخط الشيعة على سياسة الجور، فقتل من رجالهم من قتل كحجر بن عدي، والحسين ونسائه وأطفاله وأصحابه. ولم يكن نصيب الشيعة من الحكام بأقل من نصيبهم من المؤرخين والمحدثين، فقد أضاف هؤلاء إلى الشيعة أشياء وأشياء لا يعرفون شيئاً واحداً منها، أضافوا إليهم وافتروا عليهم إمعاناً في النيل، وغلواً في الخصومة والبغض، وارضاء للحكام، كما يفعل اليوم كثير من أرباب الصحف والمتأدبين مع الأحرار إِرضاء للمستعمر واذنابه الرجعيين والأقطاعيين.

والخلاصة أن الشيعة في نظر الدكتور طه هم فرقة انشئت وتكونت بعد الإمام علي بأعوام قليلة، وانها كانت حزباً معارضاً لسياسة الجور، والأوضاع الفاسدة، وأن هذه المعارضة كانت تظهر تارة في قالب الثورة، وحيناً باعلان السخط والتشنيع على الحاكم، وبسبب ذلك نسب إلى الشيعة ما ليس لهم به علم، وقتلوا وعذبوا، كما قتل علي والحسن والحسين.

وإذا كان مذهب التشيع يقوم على أساس الثورة على الظلم والاستبداد، فهل نحن شيعة حقاً ! وهل نحب علياً وبنيه ! ويا ليت اننا آثرنا العافية بالسكوت والانعزال، ولم نسر في ركاب الظالمين ننشد القصائد الطوال والخطب الرنانة في مديحهم والثناء عليهم.

٢٥٦

وبعد فهل نحن شيعة ! أجل، نحن من ذرية أولئك السلف الذين ذكرهم الدكتور طه حسين وأكثر منهم عداً.

الشِّيعَة في كِتَاب الحضَارة الإسلاميَّة *

في القرن الرابع الهجري

هذا الكتاب ألفه الأستاذ (آدم متز)، وانتشر باللغة الألمانية، ونقل إلى الاسبانية، والانكليزية والعربية، والمؤلف أستاذ اللغات الشرقية بجامعة بازل بسويسرة، وتعد مصادر الكتاب بالمئات عربية وغير عربية، ومن جملتها مخطوطات أربت على الأربعين، موجودة في مكاتب برلين وباريس وليدن وليبتزج ومونيخ وفيينا ولندن، وبعض هذه لم ينشر حتى الآن.

وأفرد المؤلف الفصل الخامس من المجلد الأول للكلام عن الشيعة خاصة، وقد خلط كما فعل سواه عند ذكر عقائد الشيعة بين فرقهم المتعددة المتباينة أصولاً وفروعاً إلا أنه أرجع التشيع إلى أصل صميم في العروبة، كما هو الحق وخطأ القائلين: إنه - رد فعل من جانب العقل الإيراني يخالف الإسلام - والشيء الوحيد الذي يستوقف النظر في هذا الفصل هو انتشار مذهب التشيع قبل القرن الرابع وفيه وبعده في جزيرة العرب كلها، وفلسطين وشرقي الأردن وكثير غيرها من الأقطار الإسلامية، ويشعر كلامه أنه متعجب من هذا الانتشار المدهش، ويقر أنه يجهل الأسباب الباعثة عليه ويعترف بعجزه عن تعيين مبدأ التشيع في بعض ما عدده من البلدان، وهو لا يعزيه في شرقي الأردن وفلسطين إلى الفاطميين، وإنما يكتفي بقوله (لا أدري كيف كان ذلك).

وقد رأينا من الخير لقراء العرفان أن نقتطف لهم من الكتاب العبارات الآتية، ولعل بعض العارفين يجردون أقلامهم لاظهار هذه الجهة الهامة، ويرشدوننا

_____________________

* - نشر في العرفان شباط ١٩٤٦

٢٥٧

إلى مبدأ التشيع في تلك البلاد وسبب انتشاره فيها ثم يذكرون الباعث على انقراضه وزواله منها حتى لم يبق في بعضها شيعي واحد بل أهلها أصبحوا أشد الناس بغضاً للشيعة وتعصباً عليهم.

قال المؤلف: «أبانت لنا مباحث فلهوزن بصورة أدنى إلى الصواب أن مذهب التشيع ليس كما يعتقد البعض رد فعل من جانب العقل الإيراني يخالف الإسلام، ومما يؤيد أبحاثه التوزيع الجغرافي للشيعة في القرن العشرين، وقد ألمع الخوارزمي إلى أن العراق هو الموطن الأول للتشيع وكانت الكوفة وبها قبر الإمام علي (ع) أكبر مركز للشيعة، وفي غضون القرن الرابع امتد مذهب الشيعة إلى البصرة، وأصبحت شيعية بعد أن كانت عثمانية، في القرن الخامس الهجري كان في البصرة ما لا يقل عن ثلاثة عشر مكاناً يتصل بذكرى علي، وكان يقدسها الشيعة، وكان أهل طبرية ونصف نابلس وقدس وأكثر عمان شيعة، ولا أدري كيف كان ذلك، ورغم قيام الدولة الفاطمية نلاحظ أن حزب الشيعة لم يتقدم إلا قليلاً، وإذا كان ناصر خسرو قد وجد أهل طرابلس عام ٤٢٨ هجري شيعة فقد جاء ذلك من بني عمار كانوا هناك على مذهب التشيع، وكانت جزيرة العرب شيعة كلها عدا المدن الكبرى مثل مكة وتهامة وصنعاء وقرح، وكان للشيعة غلبة كلها عدا المدن أيضاً مثل عمان وهجر وصعدة، وفي بلاد خوزستان التي تلي العراق كان نصف الأهواز وهي القصبة على مذهب الشيعة. أما في فارس فكان الشيعة كثيرين على السواحل التي تتصل بالعراق وخصوصاً بالقرب من المتشيعين. أما في جميع المشرق فكانت الغلبة لأهل السنة إلا أهل قم، وكانت أصفهان تخالف قم كل المخالفة، ففي عام ٣٤٥ وقعت بينهما فتنة كبيرة نشأت عن اختلاف المذاهب، وفي أواخر القرن الرابع الهجري لم يكن قد تم لمذهب الشيعة افتتاح البلاد التي يملكها اليوم، ولكنه كان سائراً في أحسن طريق يوصله إلى ذلك، بل كان الاضطهاد مما يساعد هذا المذهب على الانتشار».

من أين جاء مذهب التشيع ومتى ابتدأ في نابلس وطبرية وغيرهما من البلدان التي ليس فيها اليوم شيعي واحد ؟ وما هي الأسباب الباعثة على انقراضه وزواله من تلك الأماكن، وأي فرقة من فرق الشيعة، كان تستوطنها ؟

٢٥٨

الغلاة في نظَر الإماميَّة *

الغلاة أصناف: منهم السبئية أتباع عبد اللّه بن سبأ، وهو أول من أظهر الغلو، قال هؤلاء: حل في علي جزء إِلهي واتحد بجسده، وبه يعلم الغيب، وأتى في الغمام، والرعد صوته، والبرق تبسمه، وينتقل هذا الجزء الإلهي بنوع من التناسخ من إِمام الى إِمام.

ومنهم الخطابية أتباع أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي، قالوا: إن جعفر الصادق هو إِله زمانه، قال الشهرستاني: قد بالغ الصادق في التبري من أبي الخطاب واللعن عليه.

ومنهم المفوضة قالوا: ان اللّه خلق الأئمة، ثم اعتزل تاركاً لهم خلق العالم، وتدبير شؤونه.

ومن الغلاة من يدين بثالوث مكوّن من الأب وهو علي، والابن وهو محمد، وروح القدس وهو سلمان الفارسي. ومن الطريف قول بعضهم: أن يوم الأحد معناه علي، ويوم الاثنين الحسن والحسين.

وقد ذكر الشهرستاني في كتاب الملل والنحل فرقاً عدة للغلاة(١) ، ولكن هذه الفرق كلها ترجع إلى أن الأئمة آلهة أو أشباه آلهة أو أنصاف آلهة، وعلى أي الأحوال فإِن للغلاة دينهم الخاص، وهو لا يمت إلى الإسلام بصلة، وما زال كثير من الكتاب ينسب جهلاً أو تنكيلاً عقيدة الغلاة إلى جميع فرق الشيعة حتى الإمامية مع ان الإمامية قد استدلوا في كتب العقائد والأصول على كفر الغلاة ووجوب

_____________________

* - نشر في رسالة الإسلام تشرين الأول ١٩٥٤.

٢٥٩

(١) وهؤلاء الفرق بائدة لا وجود لها الآن إلا في بطون الكتب.

البراءة منهم، ومن كل ما فيه شائبة الغلو. ومن أدلتهم على نفي المغالاة الآية ٧٧ / المائدة «قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق، ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل، وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل» والآية ١٥ / الزخرف: «وجعلوا من عباده جزءاً ان الإنسان لكفور مبين» وقول الإمام علي: (هلك فيّ اثنان مبغض قال، ومحب وغال) وقول جعفر الصادق: (وما نحن إلا عبيد الذي خلقنا واصطفانا، واللّه ما لنا على اللّه حجة، ولا معنا من اللّه براءة، وإنا لميتون وموقوفون ومسؤولون، من أحب الغلاة فقد أبغضنا، ومن أبغضهم فقد أحبنا، الغلاة كفار والمفوضة مشركون، لعن اللّه الغلاة، ألا كانوا نصارى ألا كانوا قدرية ! ألا كانوا مرجئة ! ألا كانوا حرورية(١) أي خوارج، فالإمامية يعتقدون أن الخوارج الذين حاربوا علياً هم أفضل من الغلاة الذين ألهوه وألهوا أبناءه).

وأجمع علماء الإمامية على نجاسة الغلاة، وعدم جواز تغسيل ودفن موتاهم، وعلى تحريم اعطائهم الزكاة، وعلى أنه لا يحل للغالي أن يتزوج المسلمة، ولا للمسلم أن يتزوج الغالية مع أن الإمامية أجازوا الزواج بالكتابية، وأجمعوا أيضاً على أن المسلمين يتوارثون وان اختلفوا بالمذاهب والأصول والعقائد. قالوا: يرث المحق من المسلمين من مبطلهم، ومبطلهم من محقهم ومبطلهم إلا الغلاة يرث منهم المسلمون وهم لا يرثون من المسلمين(٢) .

أما عقيدة الإمامية بالصحابة، فيدل عليها قول إمامهم الرابع زين العابدين علي بن الحسينعليه‌السلام في الصحيفة السجادية من دعاء له في الصلاة على اتباع الرسل. قال:

«اللهم وأصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا الصحبة، والذين ابلوا البلاء الحسن في نصره وكانفوه واسرعوا إلى وفادته وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له حيث اسمعهم حجة رسالاته وفارقوا الأزواج والأولاد في اظهار كلمته،

_____________________

(١) كتاب بحار الأنوار للعلامة المجلسي المجلد الثالث صفحة ٥١ و٥٢ طبعة ١٣٠١ هجرية.

(٢) تجد هذه الفتاوى في باب الطهارة وباب الزكاة وباب الزواج وباب الارث من كتاب الجواهر وكتاب المسالك وكتاب العروة الوثقى وكتاب وسيلة النجاة الكبرى للسيد أبي الحسن الأصفهاني وغيرها من كتب الفقه للشيعة الإمامية.

٢٦٠

وكانت قرطبة ، عاصمة المسلمين آنذاك ، مركز مهماً للعلم والفن والتجارة في اوروبا وكانت تفوق اكبر العواصم الاوروبية ».

اسبانيا في ظل الحكم الاوروبي

يقول عالم فرنسا المعروف :

« عندما كانت الاندلس ( اسبانيا ) تحت حكم المسلمين ، بلغت ذروة تحضّرها ، إلّا ان تلك الاندلس نفسها اتجهت نحو السقوط والانحدار بعد حكم المسلمين ومجىء الحكم المسيحي الاوروبي ، وعلىٰ حدّ اعتراف كبار علماء اوروبا لم تشاهد دولة بلغت تلك المدارج من الرقي بهذه السرعة في ظل حكم المسلمين ، كما انه لم يشاهد مثلها في سرعة السقوط والتدني خلال حكم النصارىٰ الذين دمروا كل شيء وقوضوا كل الاُمور حتى عدد السكان بسبب كثرة القتل الذي قاموا به.

لقد اضطربت احوال الاندلس بمجىء الاوروبيين في جميع المجالات من الزراعة والتجارة الىٰ العلم والادب ، فالاندلس لم تكن متحضرة قبل حكم المسلمين لها ، لكنها وصلت الىٰ اعلىٰ درجات التحضّر والعمران في فترة الحكم الاسلامي ، ولكنها تراجعت حضارياً بشدة مع انتهاء فترة حكم المسلمين وتسلط الاوروبيين والنصارىٰ عليها.

فعندما سقطت ( غرناطة ) آخر عاصمة للمسلمين هناك بيد النصارىٰ ، ذهب جميع ذلك التساهل الديني الذي كان العرب يعاملونهم به ، وعلىٰ الرغم

٢٦١

من المعاهدات التي كانت بينهم(1) عاملوهم بأشد درجة من القسوة والظلم ، وبعد قرن علىٰ ذلك قرروا اخراج المسلمين من البلاد بشكل تام ، لقد كان المسلمون متفوقون عليهم في جميع العلوم حتىٰ تحت ظل حكمهم ـ النصارىٰ ـ للحد الذي شكىٰ الاسبان ذلك الىٰ حكومتهم من ان المسلمين لم يتركوا لهم مجالاً للقيام بعمل محترم ومرموق ، والحقيقة ان النصارىٰ لم يكونوا جديرين للقيام باي عمل ، حتىٰ لا يحتاجوا المسلمين في انجازه.

خلاصة القول :

انه وبعد حكم المسلمين اغلقت المعامل التي كانوا قد شيدوها بأيديهم ، واختلت امور الزراعة ، فصارت الاراضي التي احياها المسلمون الى موات ، مما اثر ذلك علىٰ العمران المدني ، لذلك نشاهد تدني في امور المدن ايضاً ، ففي اشبيلية التي كان فيها علىٰ حكم المسلمين الف وستمائة مصنع وكان يعمل في تلك المصانع اكثر من مائة وثلاثين الف عامل ، تقلص العدد في طل حكم النصارىٰ الىٰ ثلاثمائة مصنع فقط !

وفي طليلة وحدها كان هناك خمسين مصنع للنسيج والاقمشة في فترة حكم المسلمين ، بقيت منها ثلاثة عشر فقط بعدهم ، اما المصانع التي كانت مخصصة لانتاج الاقمشة الحريرية والتي كان يعمل فيها اكثر من اربعين الف عامل ، فقد اغلقت جميعها ، هذا الامر ادىٰ الى خراب مدن مشهورة كانت

________________

(1) لمزيد الاطلاع حول نص تلك المعاهدات : راجع ، تاريخ العالم الحديث الاسلام ، تاليف الدكتور لوثروب ستودارد ( الاميركي ).

٢٦٢

عامرة في فترة حكم المسلمين مثل ، قرطبة ، وسقوبية وبورغوس.

وقد وصل الامر الىٰ الاوروبيين لرادوا ان ينشئوا في بداية القرن الثامن عشر مصنعاً في سقوبية ، ولأنه لم يكن قد بقي هناك واحداً من الصناعيين المسلمين اضطروا لأن يأتوا بالصناعيين والعمال من هولندا. وبشكل عام لقد سقطت الاندلس في الفقر والحرمان والتخلف علىٰ يد النصارىٰ بعد ان كانت القمة الحضارية في اوروبا والعالم في فترة حكم المسلمين.

نماذج مضحكة من جهل الاوروبيين

سيادة العقيد : من اجل ان تتعرفوا اكثر علىٰ هؤلاء الذين ترونهم افضل منكم ، سأنقل لكم نماذج عن جهلهم ومستوىٰ انحطاطهم الفكري في الماضي ، لكي تعرفوا مدىٰ تخلفهم عندما كان للمسلمين مجد وعظمة علمية في الدنيا :

1 ـ مسكين فلتن الامريكي ، لقد صنع زورقاً بخارياً سرعته ما يقرب من خمسة عشر كيلو متراً في الساعة وقام بتجربته في احد الانهار في امريكا ، المتفرجون الامريكيون الذين كانوا يشاهدون حركة الزورق من علىٰ ساحل النهر ، تصوروا ان هذا الزورق ما هو الّا عفريت والدخان الذي يتصاعد من مدخنة غرفة المحرك انفاس ذلك العفريت !!

2 ـ وفي السويد كانوا يقومون بشنق الشيوخ والعجائز والمرضىٰ الذين يصعب علاجهم ، ولا زالت هناك بعض اعواد المشانق بأسماء بعض الاسر ...!

3 ـ وفي بريطانيا والىٰ قرون متأخرة كان هناك قانون يجيز للمرأة ان

٢٦٣

يكون لها اكثر من زوج !

4 ـ نقل بعض المثقفين الفرنسيين الىٰ ملك فرنسا ، ان المسلمين في الاندلس يرصون ارض شوارعهم وازقتهم بأحجار ظريفة ويبالغون في الحفاظ علىٰ نظافتها ، في حين ان شوارع وازقة بلادنا غير مرصوصة بالحجارة والخنازير سائبة فيها علىٰ الدوام مما يزيد في اوساخها ، وبعد ان استمع ملك فرنسا الىٰ كلام هؤلاء ، امر برسم خرائط عن شوارع وازقة مدن الاندلس ، وبعد ذلك ترص شوارع وازقة مدن فرنسا علىٰ غرارها ، كما امر بمنع خروج الخنازير الىٰ الشوارع والازقة.

وما ان سمع الشعب الفرنسي بقرارات الملك ، حتىٰ قامت هناك انتفاضة عامة سميت بالحركة المسيحية في باريس ، واعتبر الباريسيون ان منع حرية الخنازير أمر يخالف التعاليم النصرانية ، وقد وصل الامر الىٰ حدّ اضطر فيه ملك فرنسا لأن يمنح الخنازير حرية التجوال في الشوارع والازقة ، بل ومن اجل جبران ما امر به في السابق ، امر بأن يتعلق في رقبة كل واحد منها جرس خاص ، دلالة علىٰ قدسيتها(1) ، وبالنهاية كانت هذه الاجراس هي السبب في موت ملك فرنسا.

ففي أحد الايام حيث كان الملك ممتطياً جواده ، فاجئته مجموعة من تلك الخنازير بأجراسها ، فارتهب الجواد من صوت اجراسها وقفز من مكانه ،

________________

(1) يشاهد اليوم في الغرب اهتمام بالغ بالكلاب والقطط حتىٰ انهم يعدونها كأحد افراد الاسرة ...!

وحول مكانة الكلاب عند الغربيين راجع :

صحيفة اطلاعات ( بالفارسية ) العدد 9271 بتاريخ 13 / 3 / 1957. مقال بقلم الدكتور زهيري.

٢٦٤

فوقع الملك من علىٰ ظهره وكان في ذلك موته.

5 ـ يقول الدكتور غوستاف لوبون : « كان الجمود والتحجر يسود الاندلس بعد حكم المسلمين لحد ، اقترح مجموعة من المثقفين الاوروبيين علىٰ حكامهم ضرورة تنظيف الشوارع والازقة من القاذورات من اجل نظافة العابرين ، ولمجرد هذا الاقتراح تشكلت هيئة طبية اوروبية وخالفته ، وكان تعليمهم : هو ان آباءنا كانوا عقلاء وكانوا راضون عن مثل هذا الوضع ولابد لنا نحن اتباع نهج اسلافنا في ذلك وان اخراج القاذورات من الشوارع والازقة وتنظيفها بعد عملاً لا تعرف نتائجه ؟! »

فطير وشراب

الدكتور : هل صحيح ان الشعوب الاوروبية كانت علىٰ هذا المستوىٰ من الانحطاط حتىٰ القرن الثامن عشر ؟!

الشيخ : حضرة الدكتور ! لا يقتصر الامر علىٰ الماضي بل في عصر الذرة الذي ينظر فيه شعبنا اليهم بقداسة ، هناك خرافات شائعة بينهم تجعل كل انسان عاقل في حيرة من امره.

ولقد تأصلت هذه الخرافات في عقول كبار سياسييهم وعلماءهم ، بحيث انهم ينفذونها ويلتزمون بها دون اي تحفظ او انتباه ، واليكم بعضها :

أ ـ واحدة من تلك الخرافات التي شارك فيها العديد من الشخصيات في اوروبا وامريكا ، شعائر تسمىٰ « الفطير المقدّس » وهو انهم يحضرون في اليوم الذي يقولون فيه بصلب عيسىٰ ، فطائر يعدونها من دقيق جيد ، ويأخذونها الىٰ

٢٦٥

البابا أو كبير القساوسة ، فياتي البابا أو كبير القساوسة بذلك الفطير ومعه زجاجة شراب الىٰ الكنيسة وقد امتلأت لكبار الشخصيات والناس العاديين وهم مصطفّون ومستعدون ، فيضع كبير القساوسة من ذلك الشراب في كأس من الفضة ، والفطائر في منديل نظيف ، وبعد ان يعبر من امام المصطفين ، يقف ووجهه نحو الشرق مقابل الجميع ويقرأ من الاية 48 الىٰ الآية 58 من الانجيل(1) علىٰ الشراب والفطير الذي بيديه ـ في شعائر خرافية للغاية ـ ثم يسجد علىٰ ذلك الفطير ويخاطبه وهو ساجد : انت يا عيسىٰ رب السماوات والارضين ، انت الذي تجسمت في بطن مريم ، انت ابن الله الذي ولدت قبل جميع العوالم ، وأنت الذي تنجو ببركته من ايدي الشياطين ، وانت الذي تجلس علىٰ يمين الاب في السماوات ! نسألك أن تغفر لنا وأن تغفر لاُمّتك التي دفعت دمك ثمناً لخلاصها !

وبعد ذلك يرفع رأسه من السجود ويمسك بالشراب والفطير أمام الحاضرين فيسجد الجميع امامهما ، لانهم يعتقدون ان ذلك الفطير وبعد ان قرأ عليه القس الاكبر تلك الآيات تحول الىٰ جسم المسيح. وبعد ان يتم الجميع سجودهم ، يمسك القس الاكبر بكأس الخمرة ويخاطب الحاضرين قائلاً : لقد امسك عيسىٰ قبل موته كأس الخمرة واعطاه للحواريين ـ والعياذ بالله ـ وقال لهم اشربوه فهذا دمي ، وبعد ذلك الخطاب يقوم القس ومن بعده الحاضرين بالسجود امام ذلك الكأس الذي يعتقدون بأنه دم عيسىٰ ، ثمّ يقوم القس الاكبر بتقطيع الفطائر بحيث تكون الواحدة بمقدار حبّة الحمص أو أصغر ، ثم يقف هو وبيده قطع الفطير ويمسك قس آخر بكأس الشراب فيأتي المصطفون واحد

________________

(1) الباب السادس من انجيل يوحنا ، ص 155 ، طبع لندن 1901 م.

٢٦٦

بعد واحد اليه يضع في فمهم قطعة من الفطير يبلعونها دون ان تنالها اسنانهم ، لأنها من جسم عيسىٰ ! ثم الىٰ القس الآخر فيشربون من كأس الخمرة دون ان يمسونه ، ويعتدون انهم وبعد ان أكلوا الفطير وشربوا الخمرة اصبحوا جميعاً ابناء الله.

هنا يعجب الاصدقاء من ذلك الكلام الذي رواه لهم الشيخ.

الاصفهاني يشتري النار !

ب ـ ومن الخرافات الاُخرىٰ السائدة حتىٰ اليوم في الدول الغربية ، قصة بيع الجنة وتفصيل ذلك هو ان المسيحيين يؤمنون بأن عيسىٰ قتل لكي يخلّص بدمه اتباعه من الذنوب والعذاب عند ابيه !!! ( الله ) ، ولذلك فان عيسىٰ يستطيع ان يغفر للمذنبين شخصياً

وهذه العقيدة الوهمية اصبحت وسيلة بيد القساوسة لأخذ الاموال من الناس ، فالمسيحي المذنب يأتي الىٰ القس ويعترف بذنبه فيغفر له القس ذنوبه بأعتباره ممثلاً للمسيح ثم يدفع للقس مبلغاً من المال ازاء شراء قطعة ارض في الجنة.

يقال ان أحد الاصفهانيين اطلع علىٰ هذا الأمر في روما ، فذهب الىٰ القس الأكبر وبعد ان اعترف بمجموعة من الذنوب طلب من القس ان يبيعه جميع جهنم ، ومهما أراد القس الاكبر بنصيحته من ان جهنم مركز العذاب في الآخرة ، ويستطيع هو ان يشتري قطعة ارض من جنة مقابل المبلغ الذي يدفعه ، إلّا ان الاصفهاني اصرّ علىٰ شراء جميع جهنم ، وفي النهاية باعه القس

٢٦٧

الأكبر جميع جهنم ازاء مبلغ زهيد ، فطلب الاصفهاني من القس سنداً للملكية ، فكتب له القس الاكبر كتاباً بذلك ووقعه ، فأخذ الاصفهاني الوثيقة ودخل الىٰ اكبر كنيسة ، هناك وخاطب المسيحيين قائلاً ، لاتذهبوا بعد اليوم الىٰ البابا لشراء أرض في الجنة ، لأن شراء الجنة كان خوفاً من جهنم والآن ارحتكم من ذلك ، فقد اشتريت جميع جهنم من البابا وهذه وثيقة الملكية موقعة من قبل البابا نفسه ، وسيضطر الله الىٰ ادخالكم الجنة لأنه لم يبق لديه مكان آخر.

وبعد ان رأىٰ النصارىٰ وثيقة الملكية بيد الاصفهاني موقعة من قبل البابا ، ايقنوا من صحة الامر ، فكانوا يذنبون دون خوف ودون مراجعة للقساوسة من اجل الاعتراف أو شراء الجنة ، وبعد فترة من الزمن شاهد القساوسة عدم مراجعة احد للاعتراف أو شراء الجنة ، وفهموا ان سبب ذلك هو حيلة الاصفهاني التي دبرها ضدهم ، فأضطروا لأن يذهبوا اليه ويعيدوا سند ملكية جهنم اليهم مقابل مبلغ طائل من المال ، وبهذا الشكل عادوا من جديد الىٰ بيع الجنة وغفران الذنوب !

وهنا ينفجر الاصدقاء ضاحكين.

ج ـ ومن أعمال الاوروبيين غير المنطقية معاملتهم للكلاب ، فمن الغريب ان يعجب المؤرخون الاوروبيون الىٰ وضع اجراس في اعناق الخنازير في فرنسا ـ كما تحدثنا عن ذلك سابقا ـ ويعتبرونه دليل علىٰ انحطاط وتوحش الشعوب الاوروبية السابقة ، في حين انهم لم يعتبروا وضع علامة دفع الضرائب في رقبة الكلاب واعداد سيارات ومطاعم وغرف نوم خاصة لها دليلاً علىٰ التوحش والانحطاط الفكري.

٢٦٨

اصدقائي الاعزاء !

هذه والعشرات من امثالها من الخرافات والوهم الذي يسود صميم اوروبا واميركا ويشيع بين رجالها وعلمائها وشعوبها التي ترفع راية الحضارة المعاصرة ، وللاسف الشديد فان بعض افراد شعوبنا الاسلامية والشرقية ومن خلال مشاهدتها لتطور الغرب الصناعي تتصور ان كل ما يقومون به اكبر دليل علىٰ الحضارة والمدنية لمجرد انه صادر من قبلهم !!!

٢٦٩

التقدم العلمي عند المسلمين

حسن ، الطالب الجامعي : كلامك قيّم وهو وثيقة فخر لنا نحن المسلمون ، ولكن يجب ان لا ننسىٰ ان العالم الاوروبي اصبح قدوة للبشرية في جميع العلوم والفنون ، وبالتقدم الذي احرزوه في هذا المجال ، لهم حق كثير علىٰ عاتق العالم ، واعترافاً بالجميل ، يجب ان نقدمهم ( نحن وجميع الشعوب الاخرىٰ ) علىٰ انفسنا.

استمع الشيخ الىٰ كلام حسن ثم تنهّد وقال : بني حسن ، كلما سمعت مثل هذا الكلام يصدر عن اخواني المسلمين وهم يرون انفسهم في مرتبة دون تلك الشعوب الاوروبية المغرورة ويرونهم معلموهم في كل شيء ، اتأثر كثيراً ، بني ، كلامك حول اوروبا وتعليمها للمسلمين ، شبيه بأن تأتي مجموعة من السارقين ، فيسرقون كل ما تملك من اموال ، ثم يعطونك جزءاً يسيراً جداً منها ـ لأغراض في انفسهم ـ فتشكرهم وتنظر اليهم كأولياء نعمتك وتكون ممتناً لهم علىٰ الدوام ، في حين انها اموالك التي سرقوها منك وهي اتعابك واتعاب آباءك السابقين !!

اصدقائي الاعزاء !

يجب ان نقول وللأسف الشديد : آه من جهل وعدم ومعرفة بعض المسلمين ، آه لكل هذا الشقاء وهذه التعاسة !

٢٧٠

اصدقائي ، معلموا البشرية هم المسلمون وليسوا الاوروبيون ! وهم مدانون لنا في العلم ، لا ان نكون نحن الممتنين لهم ! ولقب « الاستاذ » جدير بنا ، لا الاوروبيون والشعوب الغربية ! ومنجزاتهم العلمية التي ادت الىٰ جميع هذا الصناعات والاكتشافات ، مصدرها نحن ! علماء الغرب يعترفون : « المسلمون اساتذتنا »

الدكتور : ايها الشيخ لقد ادعيت امراً كبيراً ، لا اتصوّر انك تقوىٰ علىٰ اثباته !

الشيخ : سعادة الدكتور ! هناك العديد من حقائق الوجود لم تكونوا تتصورونها من قبل ، ومن أجل ان لا يكون كلامي اعتباطاً ، سأنقل لكم في البداية أقوال بعض علماء اوروبا في هذا الصدد ، ثم سأثبت لكم ـ بحول الله وقوته ـ ان الاوروبيين كانوا تلامذة المسلمين في كل واحدة من العلوم وانهم اخذوها منا ، حسب اعتراف علماءهم الكبار.

واليكم نصوص من تلك الاعترافات :

1 ـ يقول العالم الفرنسي المعروف ، ليبري(1) :

« لو لم يظهر الاسلام والمسلمين في التاريخ لتأخّرت النهضة العلمية الاوروبية قرون عديدة ».

2 ـ ويقول الكاتب الانجليزي الكبير ، برناردشو(2) :

________________

(1) Libre

(2) Birnazd Shaw

٢٧١

« تقدم وتطور العلم والفلسفة ، في جميع انحاء العالم هو من عمل المسلمين ».

3 ـ ويقول الفيلسوف المعروف ، ديكارت(1) مؤسس الفلسفة الحديثة :

« جوب الفرنسي ، الذي يهدُ من اشهر علماء اوروبا ، اخذ العلم في الاندلس من المسلمين ».

4 ـ ويقول الدكتور غوستاف لوبون ، حول « روسن مارتن » الذي لم يبخل منزلة المسلمين وخدماتهم في مجال العلم : « مستبعد أن يتجاهل شخص مثل روسن مارتن خدمات المسلمين وحقهم العلمي علينا نحن الشعوب الاوروبية ».

5 ـ ويقول ارنست رينان(2) الفيلسوف الفرنسي المعروف :

« ان كل ما يمتكله البرت الكبير كان قد أخذه عن العالم المسلم ابن سينا ، كما ان القديس ثوماس اخذ فلسفته عن الفيلسوف المسلم ابن رشد الاندلسي أيضاً ».

6 ـ ويقول المؤرخ الفرنسي المعروف ، السيد سديو(3) :

« التقدم والتطور الحضاري الاوروبي المعاصر سببه العلوم التي نشرها المسلمون في شتىٰ انحاء العالم من شرقها الىٰ غربها ، ولابد من الاعتراف بهذه الحقيقة وهي ان المسلمين اساتذة شعوب اوروبا الأوّلين ».

________________

(1) Discartes

(2). E. Renan

(3) Mr. sidilot

٢٧٢

7 ـ ويقول العالم الانجليزي المعروف ، بوغولد :

« كانت الجامعات الاسلامية في بغداد والاندلسي تستقبل الطلبة الاجانب من اليهود والنصارى ، وكانت تدفع تكاليف الدراسة من خزانة الحكومة ، كما كانت تحترمهم كثيراً ، ولقد استفاد مئات الشبان الاوروبيين من هذه الحرية والمساعدة الاسلامية وكانوا يدرسون مختلف العلوم والمعارف في تلك المراكز العلمية ».

8 ـ ويقول بوغيزجيفاي :

« لقد أوجد المسلمون مراكز الثقافة رسمياً في القرون الوسطىٰ ، وأسّسوا الجامعات ، وكان كل اوروبي يدخل الجامعات الاسلامية ، يفتخر بين اقرانه ويكون مرفوع الرأس في عشيرته واسرته ، وكانوا يعتبرونه عظيماً وعالماً ».

9 ـ ويقول القس الفرنسي المعروف ، راموزار سيلوستر :

« في ذلك العصر الذي سطع فيه شعاع الاسلام من بغداد ( في الشرق ) وغرناطة ( في الغرب ) ، كان الاوروبيون يغطون في سبات عميق ، وبعده فترة طويلة ظهرت مجموعة صغيرة منهم اتجهت نحن المراكز العلمية الاسلامية وبدأوا يحتلون جامعات الاندلس ( دولة المسلمين في اوروبا ) ».

10 ـ ويقول المؤرخ الاميركي ، درابر :

« كانت للمسلمين باع طويلة في جميع العلوم القديمة منها والحديثة ، وكانت لهم مهارة خاصة في الميكانيك والديناميك والايذوستاتيك ، وفي مسائل علم الفيزياء ، وعلم الكيمياء في مباحث التقطير والتصعيد والتذويب

٢٧٣

والتصفية ، وكانت الجامعات الاسلامية تدرس جميع العلوم من الفيزياء والكيمياء والهيئة ، حتىٰ الزراعة والاسعافات واخلاق الفلاسفة الكبار ، ولم تشاهد جامعة مثل الجامعات الاسلامية فيها ستة آلاف طالب ».

11 ـ ويقول المؤرخ الفرنسي الشهير « سديلو » في كتاب « تاريخ العرب » :

«كان المسلمون في القرون الوسطىٰ ، القمّة في الفسلفة ومختلف الفنون ، واين ما وطئت اقدامهم ارضاً نشروا فيها العلم ، حتىٰ وصلت علومهم الىٰ اوروبا وادت الىٰ النهضة العلمية الاوروبية »(1) .

12 ـ ويقول « جوزيف ماك كاب » :

« لا يوجد في التاريخ شعب وقدم يهتم بالعلم والمعرفة للحد الذي سيطر حب العلم والفن علىٰ جميع طبقاته ، إلّا المسلمين »(2) .

13 ـ ويقول « رنبورت » :

لا بدّ من الاعتراف ان العلوم الطبيعية والفلكية والفلسفة والرياضيات التي احيت اوروبا في القرن العاشر ، كانت مأخوذة من القرآن ، بل اوروبا مدينة بكامل نهضتها للاسلام »(3) .

14 ـ ويقول جورجي زيدان :

________________

(1) روح الدين الاسلامي.

(2) عظمة المسلمين في اسبانيا.

(3) نو دانش ، سنة 1985 ( بالفارسية ).

٢٧٤

« اينما حكم الاسلام ، تقدم العلم والادب بسرعة »(1) .

15 ـ وفي مكان آخر يقول المؤرخ الاميركي « درابر » ، استاذ جامعة نيويورك :

« اذا اردنا كتابة آثار نهضة المسلمين العلمية ، سنخرج من اطار كتاب ـ نزاع العلم والدين ـ ولكن يكفي ان نعلم ان المسلمين تقدّموا وترقّوا كثيراً في العلوم القديمة التي كانت موجودة قبلهم ، كما انّهم أوجدوا علوماً جديدة لم تكن في السابق ، واكتشفوا وسائل عديدة في الكيمياء وغيرها من العلوم ، ولهذا اعتبروهم مؤسسوا علم الكيمياء.

وفي ذلك العصر كانت الجامعات الاسلامية مفتوحة بوجه عامة المسلمين وعلماء اوروبا ، وكان الامراء والسلاطين يتجهون نحو الدول والبلدان الاسلامية للعلاج »(2) .

16 ـ ويقول « دالامبر » في كتابه « الهيئة » : « لم تكن خدمات المسلمين تقتصر في ابحاثهم واكتشافاتهم وتقدمهم العلمي فقط ، بل انهم نفخوا في العلم روحاً خاصة ، ونشروه في ارجاء العالم من خلال الكتب التي الّفوها والجامعات التي اسسوها ، وبهذا الشكل احسنوا الىٰ العالم واوروبا ، حيث يمكن القول ان المسلمين كانوا اساتذة الاوروبيين في العلوم والفنون علىٰ مدىٰ قرون »(3) .

________________

(1) تاريخ الحضارة اسلامية.

(2) روح الدين الاسلامي.

(3) العالم الاسلامي.

٢٧٥

17 ـ ويقول كريستوف كولومبس(1) مكتشف القارة الاميركية :

« لقد استفدت في الوصول الىٰ هدفي السامي وهو كشف طريق الهند من كتاب العالم ابن رشد الاندلسي ، حتىٰ استطعت في النهاية ان اكتشف جزيرة امريكا ».

18 ـ ويقول أي. دي. همبلت ، أحد كبار علماء اوروبا :

« يجب ان نعتبر المسلمين هم المؤسسون الحقيقيّون للعلوم الطبيعية »(2) .

اصدقائي الاعزاء !

هذه نماذج من اعترافات كبار علماء اوروبا في تقدم المسلمين في مختلف العلوم ، وكونهم اساتذة اوروبا وسائر الشعوب في العالم.

وبعد ذلك سأبدأ بحثي حول التطور العلمي للمسلمين في مجالات العلوم الحديثة ، وسأورد لكم في ذلك ادلة قاطعة :

________________

(1) Christopher Columbes

(2) صورة الاسلام.

٢٧٦

تقدم المسلمين في مجال الطب

يقول المستشرق الفرنسي الكبير الدكتور غوستاف لوبون والذي يحمل شهادة دكتوراه في الطب والطبيعيات والاجتماع : « الطب أيضاً مثل الهيئة والرياضيات والكيمياء من العلوم التي كانت للمسلمين اكتشافات ودراسات فيها ، وقد توصلوا الىٰ نتائج مهمة فيه ، وكتب الطب العربية لم تفقد مثل سائر تصانيفهم لأنها ترجمت الىٰ اللاتينية.

ومن اشهر اطباء المسلمين محمد بن زكرياء الرازي الذي يعد من علماء الكيمياء أيضاً ، كان الرازي يعلم الطب في بغداد لفترة خمسين سنة ، وقد كتب مصنفات عديدة في التاريخ والكيمياء والطب ، وله مؤلفات في الحمىٰ البثورية ، مثل الحصبة وامثالها ، ويعد كتابه « علاج الاطفال » اول كتاب في هذا المجال ، ففيه معالجات حديثة مثل استخدام الماء البارد في تخفيض درجة الحرارة ( الحمىٰ ) والذي لا يزال يستخدم في الطب الاوروبي الحديث ، واستخدم الكحول للجروح والحجامة للسكتة وأمثالها.

واشهر كتاب للرازي في الطب هو « الكبير » ، وهو يحتوي على جميع المسائل الطبية وله كتاب آخر في الطب يسمى « المنصورية » والذي كتبه باسم الخليفة المنصور ، ويتضمن عشرة أبواب :

الأوّل : في التشريح ( الفسيولوجيا ).

الثاني : في الامزجة.

٢٧٧

الثالث : في الاغذية والادوية.

الرابع : في الحفاظ علىٰ الصحة.

الخامس : في الأدوية التي تزيّن الجسم.

السادس : في لوازم حفظ الصحة خلال السفر.

السابع : في الجراحة.

الثامن : في السموم.

التاسع : في امراض الكلية.

العاشر : في انواع الحمّىٰ.

وأغلب كتب الرازي مترجمة الىٰ اللاتينية ومطبوعة أكثر من مرّة ، خاصة انها طبعت في فينيسيا ( البندقية )(1) سنة 1509 ميلادية ، وفي باريس سنة 1528 ، وكتابه حول الحصبة طبع مرتان باللاتينية سنة 1745 ميلادية.

وبقيت كتب الرازي في الطب تدرس لفترة طويلة في الكليات الطبية الاوروبية ، وفي لوفين(2) كانت كتب الرازي وكتب ابن سينا في الطب تدرس حتىٰ القرن السابع عشر ( اي الىٰ ما قبل ثلاثة قرون ).

ومن علماء المسلمين الآخرين في الطب « علي بن العباس » الذي كتب العديد من المصنفات في هذا المجال وانتقد فيها عبارات هيبوكرات

________________

(1) Vines

2 ـ Lovin

٢٧٨

وجالينوس واوري باز وبول دوجين ، واثبت خطأهم.

ومن اشهر علماء المسلمين في هذا المجال هو الشيخ الرئيس ابو علي بن سينا ، الذي استمرت آراءه ومصنفاته الطبية علىٰ قوتها لفترة طويلة جداً ، بحيث سميّ « ملك الاطباء » ، وقد ترجمت كتب ابن سينا الىٰ جميع لغات العالم ، وكانت تعد الاساس والمبنىٰ في الطب علىٰ مدىٰ ستة قرون خاصة في جامعات فرنسا وايطاليا التي اعتمدتها كمنهاج دراسية ، وقد اعيد طبعها في القرن الثامن عشر ( قبل قرنين ) مرتان ، ولم يمض علىٰ حذفها من مناهج الجامعات الفرنسية والايطالية اكثر من خمسين سنة فقط.

ومن اطباء المسلمين « ابو مروان عبد الملك بن زهرة » من علماء القرن الثاني عشر في اشبيلية ، ورغم ان شهرته ليست بمستوىٰ سائر اطباء المسلمين ، إلّا ان له كمانة رفيعة في الطب ، وقد قام باصلاحات عديدة في العلاج ، واثبت ان للطبيعة تأثير بالغ في جميع افعال واعمال الجسم ، وبشكل عام كان يرىٰ امكانية دفع الامراض دون الحاجة الىٰ دواء ، واستطاع ابن زهرة خلافاً لما كان سائداً في ذلك العصر ، الجمع بين الجراحة والعلاج وخواص الأدوية وله اُسس وأحكام صائبة لا يمكن الشك فيها حول الكسر والخلع الذي يحدث في العظام.

أمّا الطبيب المسلم الآخر ، فهو « ابن رشد » الذي ولد سنة 1126 في قرطبة ، وتوفي في سنة 1188 م ، ورغم مؤلفاته في الطب الّا ان شهرته كانت في الفلسفة ، ولابن رشد شرح علىٰ الكتاب ابن سينا في الطب ، وله مؤلفات في الترياق والسمّيّات وأقسام الحمّىٰ والامراض الاُخرىٰ ، وقد طبعت كتبه

٢٧٩

الطبية في اوروبا عدة مرّات بعد ان ترجمت الىٰ اللاتينية(1) .

يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« لقد ترجمت كتب ابن سينا في الطب الىٰ جميع لغات العالم ، وبقيت الاساس والمبنىٰ في الطب علىٰ مدىٰ ستمائة سنة »(2) .

ويقول جورجي زيدان :

« الطب الاسلامي ، هو خلاصة ذلك العلم عند الشعوب المتحضرة آنذاك حتىٰ زمن ظهور الاسلام ، وقد قام المسلمون بجمع الطب الايراني واليوناني والكلداني والهندي واضافوا عليه اشياء كثيرة وانتقدوه في الكثير من الاشياء »(3) .

تغيير المناخ في الطب الاسلامي

يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« كان الاطباء المسلمون مطلعين علىٰ فوائد المناخ بشكل تام ، للحد الذي يوصي ابن رشد في شرحه لكتاب ابن سينا في الطب ، بتغيير الجو ( المناخ ) لعلاج المصاب بالسلّ ، فيقول : في فصل الشتاء تعد ارض الحجاز والحبشة مفيدة لعلاج هذا المرض ، كما ان اطباء اوروبا يرسلون المصابين بهذا

________________

(1) حضارة الاسلام والعرب.

(2) المصدر نفسه.

(3) تاريخ الحضارة الاسلامية.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419