الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان19%

الشيعة في الميزان مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 419

الشيعة في الميزان
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 142492 / تحميل: 9286
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

هكذا تُبدي التوراة عَداءه تعالى مع بني الإنسان!

هذا والقرآن يحثّ الأُمَم على الاجتماع دون التفرّق، وعلى التعارف بعضهم مع بعضهم؛ ليتعاونوا في الحياة دون التباغض والتباعد والاختلاف:

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا... ) (1) .

( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) (2) .

الإنسان سرّ الخليقة

الإنسان - كما وصفه القرآن - صفوة الخليقة وفلذتها، وسرّها الكامن في سلسلة الوجود.

لا تجد وصفاً عن الإنسان وافياً ببيان حقيقته الذاتيّة الّتي جَبَله الله عليها - في جميع مناحيها وأبعادها المترامية - في سوى القرآن، يصفه بأجمل صفات وأفضل نُعوت، لم يَنعم بها أيّ مخلوق سواه، ومِن ثَمّ فقد حَظي بعناية الله الخاصّة، وحُبي بكرامته منذ بدء الوجود.

ولنُشِر إلى فهرسة تلكمُ الصفات والميزات، التي أهّلته لمثل هذه العناية والحِبَاء:

1 - خلقه الله بيديه: ( مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (3) .

2 - نفخ فيه من روحه: ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) (4) .

3 - أودعه أمانته: ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ) (5) .

4 - علّمه الأسماء كلّها: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا... ) (6) .

5 - أسجد له ملائكته: ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا... ) (7) .

____________________

(1) الحجرات 49: 13.

(2) الأنفال 8: 46.

(3) ص 38: 75.

(4) الحجر 15: 29، وص 38: 72، وفي سورة السجدة 32: 9: ( ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) .

(5) الأحزاب 33: 72.

(6) البقرة 2: 31.

(7) البقرة 2: 34.

٢١

6 - منحه الخلافة في الأرض: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) (1) .

7 - سخّر له ما في السّماوات والأرض جميعاً: ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ) (2) .

ومِن ثَمّ بارك نفسه في هذا الخلق الممتاز: ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (3) .

ميزات سبع حظي بها الإنسان في أصل وجوده، فكان المخلوق المفضّل الكريم، وإليك بعض التوضيح:

مِيزات الإنسان الفطريّة

امتاز الإنسان في ذات وجوده بميزات لم يحظَ بها غيره من سائر الخلق:

فقد شرّفه الله بأن خلقه بيديه: ( مَا مَنَعَكَ - خطاباً لإبليس - أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (4) والله خالق كلّ شيء، فلا بدّ أنْ تكون هناك خصوصيّة في خلق هذا الإنسان تستحقّ هذا التّنويه هي: خصوصيّة العناية الربّانيّة بهذا الكائن، وإبداعه نفخةً - من روح الله - دلالةً على هذه العناية.

قال العلاّمة الطباطبائي: نسبة خلقه إلى اليد تشريف بالاختصاص كما قال: ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) (5) وتثنية اليد كناية عن الاهتمام البالغ بخلقه وصنعه؛ ذلك أنّ الإنسان إذا اهتمّ بصُنع شيء استعمل يديه معاً عناية به (6) .

وهكذا نفخة الروح الإلهيّة فيه كناية عن جانب اختصاص هذا الإنسان - في أصل فطرته - بالملأ الأعلى، حتّى ولو كان متّخذاً - في جانب جسده - من عناصر تربطه بالأرض، فهو في ذاته عنصر سماوي قبل أن يكون أرضيّاً.

ولقد خلق الإنسان من عناصر هذه الأرض، ثُمّ من النفخة العلويّة التي فرّقت بينه

____________________

(1) البقرة 2: 30.

(2) الجاثية 45: 13.

(3) المؤمنون 23: 14.

(4) ص 38: 75.

(5) الحجر 15: 29.

(6) تفسير الميزان، ج 17، ص239.

٢٢

وبين سائر الأحياء، ومنحته خصائصه الإنسانيّة الكبرى، وأَوّلها القدرة على الارتقاء في سُلَّم المدارك العُليا الخاصّة بعالم الإنسان.

هذه النفخة هي التي تصله بالملأ الأعلى، وتجعله أهلاً للاتصال بالله، وللتلقّي عنه ولتجاوز النطاق المادّي الذي تتعامل فيه العضلات والحواسّ، إلى النطاق التجريدي الذي تتعامل فيه القلوب والعقول، والتي تمنحه ذلك السرّ الخفيّ الذي يسرب به وراء الزمان والمكان، ووراء طاقة العضلات والحواسّ، إلى ألوان من المدركات وألوان من التصوّرات غير المحدودة في بعض الأحيان (1) .

وبذلك استحقّ إيداعه أمانة الله التي هي ودائع ربّانية لها صبغة ملكوتيّة رفيعة، أُودعت هذا الإنسان دون غيره من سائر المخلوق، وتتلخّص هذه الودائع في قدرات هائلة يملكها الإنسان في جبلّته الأُولى، والتي أهّلته للاستيلاء على طاقات كامنة في طبيعة الوجود وتسخيرها حيث يشاء.

إنّها القدرة على الإرادة والتصميم، القدرة على التفكير والتدبير، القدرة على الإبداع والتكوين، القدرة على الاكتشاف والتسخير، إنّها الجرأة على حمل هذا العبء الخطير، قال سيّد قطب: إنّها الإرادة والإدراك والمحاولة وحمل التبعة، هي هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله، وهي هي مناط التكريم الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى وهو يُسجِد الملائكة لآدم، وأعلنه في قرآنه الباقي وهو يقول: ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ) (2) .

فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله، ولينهض بالأمانة التي اختارها، والتي عُرضت على السماوات والأرض والجبال فأبينَ أنْ يحملنّها وأشفقنّ منها (3) .

إنّها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم، الكبير القُوى، القويّ العزم.

ومِن ثَمّ كان ظلوماً لنفسه؛ حيث لم ينهض بأداء هذه الأمانة كما حملها، جهولاً لطاقاته هذه الهائلة المودعة في وجوده وهو بعد لا يعرفها.

____________________

(1) من إفادات سيد قطب، راجع: في ظِلال القرآن، ج 14، ص 17، المجلد 5، ص203.

(2) الإسراء 17: 70.

(3) في ظِلال القرآن، ج22، ص47، المجلد 6، ص 618.

٢٣

وهكذا علّمه الأسماء: القدرة على معرفة الأشياء بذواتها وخاصيّاتها وآثارها الطبيعيّة العاملة في تطوير الحياة، والتي وقعت رهن إرادة الإنسان ليُسخّرها في مآربه حيث يشاء، وبذلك يتقدّم العلم بحشده وجموعه في سبيل عمارة الأرض وازدهار معالمها، حيث أراده الله من هذا الإنسان ( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) (1) .

وبذلك أصبح هذا الإنسان - بهذه الميزات - خليفة الله في الأرض، (2) حيث يتصرّف فيها وِفق إرادته وطاقاته المـُودعة فيه، ويعمل في عمارة الأرض وتطوير الحياة.

وإسجاد الملائكة له في عَرْصَة الوجود، كناية عن إخضاع القوى النورانيّة برمّتها للإنسان، تعمل وِفق إرادته الخاصّة من غير ما تخلّف، في مقابلة القوى الظلمانيّة (إبليس وجنوده) تعمل في معاكسة مصالحه، إلاّ مَن عَصَمه الله من شرور الشياطين ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ) (3) .

كما وأنّ تسخير ما في السماوات وما في الأرض جميعاً، (4) كناية عن إخضاع القوى الطبيعيّة - المودعة في أجواء السماوات والأرض - لهذا الإنسان، تعمل فور إرادته بلا فتور ولا قصور، ومعنى تسخيرها له: أنّ الإنسان فُطر على إمكان تسخيرها.

فسبحانه من خالقٍ عظيم، إذ خَلَق خَلقاً بهذه العظمة والاقتدار الفائق على كلّ مخلوق!

هذه دراستنا عن الإنسان على صفحات مُشرقة من القرآن الكريم، فيا ترى أين يوجد مثل هذه العظمة والتبجيل لمخلوقٍ هو في هندامه صغير وفي طاقاته كبير، كبرياءً ملأ الآفاق!

أتزعم أنّك جسمٌ صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

فتبارك الله أحسن الخالقين بخلقه أحسن المخلوقين!

____________________

(1) هود 11: 61.

(2) راجع: البقرة 2: 30.

(3) الإسراء 17: 65.

(4) راجع: الجاثية 45: 13.

٢٤

خلقتُ الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي!

حديث قدسيّ معروف (1) خطاباً مع بني آدم، حيث كانوا هم الغاية من الخليقة، كما كانت الذات المقدّسة هي الغاية من خلقة الإنسان، فكما وأنّ الأشياء برمّتها - علواً وسفلاً - سخّرها الله لهذا الإنسان ولتكون في قبضته فتَتَجلّى فيها مقدرته الهائلة، كذلك خُلق الإنسان؛ ليكون مظهراً تامّاً لكامل قدرته تعالى في الخلق والإبداع.

ما من مخلوق - صغيراً أو كبيرً - إلاّ وهو مظهر لتجلّي جانب من سِمات الصانع الحكيم (وفي كلّ شيء له آية تدلّ على أنّه واحد) أمّا الإنسان فكان المرآة الصقيلة التي تتجلّى فيها جميع صفات الجمال والجلال.

فإذا سئلت: ما هي الغاية من خلق ما في السماوات وما في الأرض جميعاً؟

قلت - حسب وصف القرآن -: هو الإنسان ذاته مُستودَع أمانات الله وليكون خليفته في الأرض!

وإذا سئلت: ما هي الغاية من خلقة الإنسان ذاته؟

قلت: هو الله الصانع الحكيم؛ حيث الإنسان بقدرته على الخلق والإبداع أصبح مظهراً تامّاً لكامل الأسماء والصفات، فكان وجه الله الأكمل وعين الله الأتمّ.

فكان الإنسان غاية الخليقة، وكان الله الغاية من خلق الإنسان، فالله هو غاية الغايات وبذلك ورد: (كنتُ كنزاً مخفيّاً فأحببت أن أُعرف، فخلقت الخلق لكي أُعرف) (2) .

حيث الإفاضة - وهي تجلّي الذات المقدّسة - كانت بالخلق والإبداع ومظهره الأتمّ هو الإنسان.

الحفاظ على كرامة الأنبياء

يمتاز القرآن بالحفاظ على كرامة الأنبياء، بينما التوراة تحطّ من كرامتهم.

____________________

(1) راجع: علم اليقين للفيض الكاشاني، ج 1، ص 381.

(2) حديث قُدسي معروف، راجع: البحار، ج84، ص 199، وهامش عوالي اللآلئ، ج 1، ص 55، وكتاب كشف الخفاء للعجاوني، ج 2، ص 132.

٢٥

لم يأتِ ذِكر نبيّ من الأنبياء في القرآن إلاّ وقد أحاط بهم هالةً من التبجيل والإكرام، كما ونزّهَهم عن الأدناس على وجه الإطلاق.

خُذ مثلاً سورة الصافّات جاء فيها ذكر أنبياءٍ عِظام مُرفَقاً بعظيم الاحترام.

( وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (1) .

( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) وينتهي إلى قوله : ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشـَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ... ) (2) .

( وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (3) .

( وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) إلى قوله: ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (4) وهكذا كلّما يُمرّ ذِكرُ نبيّ تَصحبه لمـّة مِن الإجلال والتكريم.

وأمّا التوراة فلا تمرّ فيها بقصّةٍ من قصص الأنبياء إلاّ وملؤها الإهانة والتحقير، وربّما بلغ إلى حدّ الابتذال والتعبير ممّا لا يليق بشأن عباد الله المخلصين، هذا نوح شيخ الأنبياء تصفه التوراة: رجلاً سكّيراً مستهتراً لا يرعوي شناعةَ حال ولا فضاعة بال.

تقول عنه التوراة: إنّه بعد ما نَزل من السفينة هو ومَن معه، غرس كَرماً وصنع خمراً وشربها، حتّى إذا سكر وتعرّى داخل خبائه إذ دخل عليه ابنه الصغير حام فرأى أباه

____________________

(1) الصافات: 75 - 81.

(2) الصافات: 83 - 113.

(3) الصافات: 114 - 122.

(4) الصافات : 123 - 132.

٢٦

مكشوفاً عورته، فاستحى ورجع ليُخبر إخوته بذلك، ولمـّا صحا نوح وعَلِم بفضيع أمره دعا على ابنه هذا، ولعنه هو وذرّيته في الآخرين. فكان مِن أثر دعائه عليه أن كانت ذرّيته عبيداً لذرّية أخويه سام ويافث أبد الآبدين! (1) .

يا لها من مهزلة نسجتها ذهنيّة الحاقدين على أهل الدين، فما شأن التوراة وثَبتُ هكذا سفاسف حمقانيّة تمسّ بكرامة شيخ الأنبياء؟!

وهذا إبراهيم خليل الرحمان وأبو الأنبياء وصاحب الشريعة الحنيفة والتي أورثها الأنبياء من بعده، نَجده في التوراة رجلاً أرضيّاً يُتاجر بزوجه الحسناء (سارة) ليَفتدي بها لا لشيءٍ؛ إلاّ ليَحظى بالحياة الدنيا على غِرار سائر المـُرابين، يفعلون الفُجور للحصول على القليل من حطام الدنيا الدنيّة! (2) .

وما هي إلاّ فِرية فاضحة يُكذّبها تأريخ حياة إبراهيم (عليه السلام):

كانت سارة عندما صَحِبت زوجها إبراهيم في سفره إلى أرض مصر قد طَعنت في السنّ من السبعينيّات، وكان الدهر قد وَسَم على وجهها آثار الكُهولة والهرم، ولم يَعهد من عادة الملوك الجبابرة وأصحاب الترف والبذخ أن يطمعوا في هكذا نساء عجوزات!

كان إبراهيم عندما غادر (حاران) موطن أبيه (تارَح) قاصداً بلاد كنعان قد بلغ الخامسة والسبعين من عمره، واجتاز أرض (شكيم) ليبني هناك مَذبحاً (معبداً)، وارتحل إلى الجبل: شرقي (بيت إيل)، وهكذا تَداوم في رحلته يجوب البلاد ويبني مذابح، إلى أنْ حدث جَدْبٌ عمَّ البلاد، فانحدر إلى أرض مصر لينتجع هناك.

ولم يأتِ في التوراة مدّة هذا التَجوال والرحلات، لكن جاء فيها: أنّ سارة لمـّا وَهبت جاريتها (هاجر) لإبراهيم كان قد مضى من مغادرتهم أرض مصر عشر سنين (3) ، فحبلت هاجر وولدت إسماعيل بعد ما انقضى مِن عُمر إبراهيم ستٌ وثمانون عاماً (4) ، فكان إبراهيم عند مَقدمه مصر قد تجاوز الستّ والسبعين، وبما أنّ سارة كانت أصغر من إبراهيم

____________________

(1) سِفر التكوين، إصحاح 9/18 - 24.

(2) المصدر: 12/11 - 20.

(3) المصدر: 16/3.

(4) المصدر: 16/16.

٢٧

بعشر سنين فقد كانت عند قدومها مصر قد ناهزت الستّ والستين وهو سنّ العجائز! (1) .

إبراهيم، لم يَكذب قطّ!

جاء في أحاديث العامّة برواية أبي هريرة - وهي أشبه بالإسرائيليّات - (أنّ إبراهيم (عليه السلام) كَذَب ثلاث كِذبات: ثنتين في ذات الله: قوله: ( إِنِّي سَقِيمٌ ) (2) وقوله: ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) (3) ، والثالثة بشأن سارة: أنّها أُخته) (4)

وفي حديث الشفاعة برواية أبي هريرة أيضاً: (أنّ أهل الموقف يأتون الأنبياء واحداً بعد واحد يستشفعون منهم، حتّى يأتوا إبراهيم فيأبى معتذراً: إنّي كذبت ثلاث كذبات ولستُ هناكم) (5) .

وقد وصفت لجنة مشايخ الأزهر هذه الروايات بالصِحاح، وعارضت الأستاذ عبد الوهاب النجّار استنكاره لهذه المفتريات (6) .

قلت: وحاشا إبراهيم الخليل - الداعي إلى الحنيفيّة البيضاء - أنْ ينطق بكذب، وإنّما كُذِبَ عليه بلا ريب، والرواية عامّية الإسناد لا اعتداد بها في هكذا مجالات.

ولقد أجاد الإمام الرازي حيث قال: فلأنْ يُضاف الكَذِب إلى رواة هذا الخبر أَولى من أنْ يُضاف إلى الأنبياء، وأخذ في تأويل الموارد الثلاثة، وأضافَ قائلاً: وإذا أمكن حَمل الكلام على ظاهره من غير نسبة الكَذِب إلى الأنبياء فحينئذٍ لا يحكم بنسبة الكذب إليهم إلاّ زنديق (7) .

أمّا قوله: ( إِنّي سَقِيمٌ ) فلعلّه أراد وهن حالته الجسديّة ممّا كان يرى قومه على عَمَه الغباء، وقد أحسّ ألماً شديداً انتاب قلبه المرهف تجاه تلكمُ الجهالات العارمة.

وأمّا قوله ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذَا فَسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ ) فقولة قالها مستهزئاً بهم

____________________

(1) المصدر: 17/17.

(2) الصافّات 37: 89.

(3) الأنبياء 21: 63.

(4) صحيح ا لبخاري، ج4، ص171 و ج7، ص7: وصحيح مسلم، ج7، ص98: ومسند أحمد، ج2، ص403 - 404.

(5) جامع الترمذي، ج4، ص623 وج5، ص321.

(6) راجع: هامش قصص الأنبياء للنجّار، ص86.

(7) التفسير الكبير، ج22، ص185 وج26، ص148.

٢٨

مستخفّاً عقليّتهم الكاسدة.

والكَذِب لا يكون إلاّ لغرض التمويه، أمّا إذا كان السامعون عارفين بواقع الأمر، وأنّ إبراهيم لم يقصد الحقيقة وإنّما أراد التسفيه من عقولهم محضاً فهذا لا يُعدّ كَذِباً؛ لأنّ الكَذِب إخبار في ظاهر غير مطابق للواقع، وهذا إنشاء لمحض التسفيه والهزء بهم، والإنشاء لا يَحتمل الصدق والكَذِب فتدبّر.

وأمّا الثالثة - بشأن سارة أنّها أُخته - فحديث خُرافة يا أُمّ عمرو!

قصّة الطوفان في التوراة

جاءت قصّة الطوفان في سِفر التكوين (1) بصورة تفصيليّة، تشبه أن تكون أساطيريّة، وفيها ما ترفضه العقول وتأباه واقعيّة الحياة، فضلاً عن منافاتها لأُصول الحكمة المهيمنة على مظاهر الوجود.

جاء فيه: أنّ قوم نوح فسدوا وأفسدوا في الأرض، فغضب اللّهُ عليهم وأنذرهم على لسان نوح بعذاب الاستئصال بإرسال الطوفان العارم، فلم يعبأوا بذلك وظلّوا يعبثون ويَعثون في البلاد.

ولمـّا بلغ نوح من العمر ستمِئة سنة أمره الله بصنع الفلك (في 300 ذراع طولاً و50 ذراعاً عرضاً و30 في الارتفاع).

فجاء الطوفان، وجُعلت ينابيع الأرض تتفجّر، والسماء تمطر بغزارة أربعين صباحاً، والماء يرتفع شيئاً فشيئاً على وجه الأرض كلّها، حتّى بلغ قِمم الجبال الشامخة في كل جوانب الأرض، وارتفع على أشمخ قمّة من الجبال بخمس عشرة ذراعاً؛ وبذلك هلك الحرث والنسل، ومات كلّ ذي حياة على وجه الأرض من الدوابّ والبهائم والدبّابات والزحّافات، وحتّى الطير في السماء.

ودام الطوفان مئة وخمسين صباحاً، يحوم نوح بأهله وذويه وما حمله معه في الفلك على وجه الماء، حتّى أخذ الماء ينحطّ ويغور فاستقرّت

____________________

(1) سِفر التكوين، إصحاح 9 - 6.

٢٩

سفينته على جبل (آرارات) بأرمينيّة، فنزلوا من السفينة وعاش نوح بعد ذلك ثلاثمئة وخمسين عاماً، فكان كلّ أيّام نوح تسعمِئة وخمسين سنة، على ما جاء في الإصحاح التاسع عدد 28.

وكان الذي حمله نوح معه في السفينة - غير أهله وذويه - أزواجاً (ذكراً وأُنثى) من كلّ أنواع الحيوانات؛ لئلاّ ينقرض نسلها وتبيد من الوجود (من جميع البهائم والطيور ذكراً وأُنثى، لاستبقاء نسلها على وجه كلّ الأرض) (1) .

وهذا يعنى: أنّ جميع الأحياء هلكوا على أثر الغَرَق (فما كلّ ذي جسد كان يدبّ على الأرض من الطيور والبهائم والوحوش، وكلّ الزحّافات التي كانت تزحف على الأرض وجميع الناس، كلّ ما في أنفه نسمة روح الحياة فيما في اليابسة مات) (2) ؛ وذلك أنّ الماء غمر وجه الأرض كلّها، وطغى على أعالي الجبال الشامخة في كلّ أكناف الأرض (وتعاظمت المياه كثيراً جدّاً على الأرض، فتغطّت جميعُ الجبال الشامخة التي تحت كلّ السماء خمس عشرة ذراعاً في الارتفاع فتغطّت كلّ الجبال) (3) .

حادث الطوفان في القرآن

وحاشا القرآن أنْ يساير التوراة (المـُتداولة) في سرد أقاصيص أسطوريّة واهية، وإنّما هي الواقعيّة ينتقيها ويَنبذ الأوهام الخرافيّة والتي أحدقت بها على أثر طول العهد.

وإليك الحادث على ما جاء في سورة هود:

( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ (4) قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاّ

____________________

(1) المصدر: 7/4.

(2) المصدر: 7/21.

(3) المصدر: 7/19.

(4) كلمة أعجميّة وتطلق في كلام العرب على مفجر المياه، جاء في القاموس: التنّور كل ّمفجر الماء.

٣٠

مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ (1) وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ * قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (2) .

مواضع عِبر أغفلتها التوراة

جاءت القصّة في التوراة كسائر الأحداث التاريخيّة القديمة مشوّهةً في خِضمٍّ من خرافات بائدة، ومن غير أن تتأكّد على مواضع العِبر منها، بل وأغفلتها في الأكثر، أمّا القرآن؛ فبما أنّه كتاب هداية وعِبر نراهُ يقتطف من أحداث التأريخ عِبرها، ويَجتني من شجرة حياة الإنسان السالفة يانع ثمرها، فليتمتّع الإنسان بها في حياته الحاضرة في شغفٍ وهناء.

وقد أغفلت التوراة جانب زوجة نوح وابنه اللذَينِ شَملهما العذاب بسوء اختيارهما، إنّها عِبرةٌ كبرى، كيف يغفل الإنسان أوفر إمكانيّات الهداية والصلاح؟ وينجرف بسوء اختياره مع تيّار الضلالة والفساد، وفي النهاية الدمار والهلاك!!

ذكر السيّد ابن طاووس: أنّه كان لنوح زوجان إحداهما وفيّة وأخرى غبيّة، فركبت الصالحة مع أبنائها السفينة، وهلكت الأخرى الطالحة مع الآثمين (3) .

قال اللّه تعالى عنها وعن زوج لوط: ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (4) .

____________________

(1) قال أبو مسلم الإصبهاني: الجودي كلّ جبلٍ وأرضٍ صلبة.

(2) هود 11: 40 - 48.

(3) راجع: سعد السعود لابن طاووس، ص239، وبحار الأنوار، ج11، 342.

(4) التحريم 66: 10.

٣١

وكانت خيانَتُهما هي المـُسايرة مع الكافرين، ونبذ معالم الهداية التي كانت في متناولهما القريب.

وابن نوح يقول عنه تعالى: إنّه ليس من أهله، لا يصلح للانتساب إليه بهذا العنوان الفخيم (أهل نوح)؛ لأنّه عملٌ غير صالح، إنّه حصيلة أعماله غير الصالحة، ومن ثَمَّ فإنّه كان يعيش خارج الإطار الذي كان يعيشه نوح وأهله.

وهذا أيضاً من أعظم العِبر، كيف ينحدر الإنسان من أعلى قِمم الهداية والتوفيق لينخرط مع البائسين الحيارى لا يهتدون سبيلاً؟!

أمّا وكيف ابتغى نوح نجاة ابنه هذا وهو يعلم ما به من غَواية الضلال؟ فهذا يعود إلى حنان الأُبوّة ورحمة العُطوفة التي كان يحملها نوح (عليه السلام) لا سيّما مع ما وعده الله بنجاة أهله، فلعلّه شملته العناية الربّانيّة وأصبح من المرحومين ومِن ثَمّ جاءته الإجابة باليأس، وأنّه لا يصلح أن يكون أهلاً له وكان محتّماً عليه أن يمسي من المرجومين.

هل عمّ الطوفان وجه الأرض؟

صريح التوراة أنّ الطوفان عمّ وجه الأرض، وأهلك الحرث والنسل وحتّى الطير في السماء.

وليس في القرآن دلالةٌ ولا إشارةٌ إلى ذلك، بل على العكس أدلّ، وأنّ الطوفان إنّما عمّ المنطقة التي كان يعيشها قوم نوح ولم يتجاوزها.

جاء في سورة الأعراف: ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) إلى قوله ( فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ ) (1) .

فالذين كان يخاف عليهم عذاب يومٍ عظيم ممّن كذّبوه وكانوا قوماً عمين، كانوا هم المغرقين.

____________________

(1) الأعراف 7: 59 - 64.

٣٢

ولا دلالة فيها على غرق آخرين من أقوامٍ لو كانوا مُبعثرين عائشين في سائر أقطار الأرض ممّن لم تبلغهم دعوة نوح، ولم يكن مرسلاً إليهم.

هذا فضلاً عن سائر الحيوان من الزحّافات والدبّابات المنتشرة في وجه الأرض، وكذا الطير في الهواء، ممّا لا شأن لها ورسالات الأنبياء، ولا وجه لأنْ يعمّها العذاب، وهو عقاب على معصية لا مساس لها بغير الإنسان.

الأمر الذي يؤخذ على التوراة أشدّ الأخذ! ولا سيّما بذاك الوصف الذي وصفته: غمر الماء وجه الأرض كلها وارتفع حتّى غمر قمم الجبال الشامخات وعلاهنّ بخمس عشرة ذراعاً (سبعة أمتار)!

نقض فرضية الشمول

يقول (ولتر) - الكاتب الناقد الفرنسي (1694 - 1778 م) بصدد تسخيف أُسطورة الطوفان على ما وصفته التوراة -: كان يجب لمثل هذا التضخّم من الماء المتراكم على وجه الأرض أنْ تضمّ اثنا عشر بحراً، كلّ في سعة البحر الأطلانتي المحيط، بعضها فوق بعض ليكون الأعلى في حجم أكبر بأربع وعشرين ضعفاً، وهكذا حتّى تجتمع في مثل هذا الماء المتراكم ليغمر شامخات الجبال!

ويزيد - مستخفّاً عقليّة مسطّر هذه الأساطير وناقماً على الذين اعتنقوها باعتبارها وحياً من السماء (وحاشاه) -: يكفي بذلك معجزة خالدة لا حاجة معها إلى سائر المعاجز، حيث لا مثيل لها في خرق نواميس الكون!!.

ويقول آخر: إنّ المحاسبات العلميّة الدقيقة تُعطينا: أنّ الأبخرة المنبثّة في أجواء الأرض لو تكثّفت جميعاً وهطلت أمطاراً لما كانت تكفي لأنْ تغمر وتعلو عن وجه الأرض بأكثر من بضع سانتي مترات، فكيف بجبال شامخات؟!

يقول الدكتور (شفا): لو كانت السماء تهطل بأمطارها أربعين صباحاً - كما هو نصّ التوراة - لما كاد أنْ يغمر هضبة ما بين النهرين - على صغرها - فكيف بغمر وجه الأرض

٣٣

وأنْ يعلو قمم الجبال؟! وجبل (آرارات) يرتفع عن سطح البحر بأكثر من خمس كيلو مترات ما يكاد أن يغمره، فكيف بسائر الجبال الشامخة؟! (1) .

الطوفان ظاهرة طبيعيّة حيث أرادها الله

نعم، كان حادث الطوفان ظاهرة طبيعيّة وعلى ما وصفه القرآن ممّا لا يكاد الغمز فيه.

كان قد مرّ على حياة الأرض في أدوارها الأولى كثير من تغيّرات جوّية مفاجئة، كان وجه الأرض مسرحاً لتناوب هطول أمطار غزيرة، وسيول هائلة منحدرة من أعالي الجبال كادت تغمّ الهضاب والوديان والمناطق المنخفضة من سطح الأرض.

وكان طوفان نوح إحدى تلكم الظواهر الكونيّة حدثت بإذن الله ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) (2) ، فانحدرت سيول هائلة على سفوح الجبال، وتفجّر ينابيع الأرض المـُشبعة بالأمطار، وهكذا أحاط الماء الهائم بقوم نوح وسدّ عليهم طرق النجاة، وحتّى ابن نوح حاول اللجوء إلى أعالي المرتفعات لولا أنْ جابهته سيول هائجة لتصرعه إلى حيث مَهوى الهلاك، بل وحتّى لم يجد فرصة التريّث فيما كان ينصحه أبوه، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين.

وفي تواريخ الأُمم ما يُسجّل حدوث طوفانات هائلة جرفت بقسط من الحياة؛ ولعلّه لتراكم الفساد والشرّ في تلكم البقاع، فمِن قدماء الفرس: أنّ طوفاناً هائلاً غمّ أرض العراق إلى حدود كردستان، وهكذا رُوي عن قدماء اليونان، والهنود أثبتوا وقوع الطوفان سبع مرّات شمل شبه الجزيرة الهنديّة، ويُروى تعدّد الطوفان عن اليابان والصين والبرازيل والمكسيك وغيرهم، ويُروى عن الكلدانييّن - وهم الذين وقع طوفان نوح في بلادهم -:

أنّ المياه طغت على البلاد وجرفت بالحرث والنسل. فقد نقل عنهم (برهوشع) و

____________________

(1) راجع: ما كتبه الدكتور شجاع الدين شفا في كتابه (تولّدي ديكر)، ص 285 منتقداً قصّة الطوفان على ما وردت في الكتب الدينيّة.

(2) القمر 54: 11 و 12.

٣٤

(يوسيفوس): أنّ (زيزستروس) رأى في الحُلم بعد موت أبيه (أوتيرت) أنّ المياه ستطغى وتُغرق الناس كلّهم - ممّن كان يعيش هناك طبعاً - فأُمر بصنع سفينة يعتصم فيها هو وذووه ففعل، وقد كان هناك جبابرة طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد فعاقبهم الله بالطوفان والاستئصال.

وقد عَثر بعض الإنجليز على ألواح من الآجر نُقشت فيها هذه الرواية بالحروف المسماريّة في عصر (آشور بانيبال) من نحو (660) سنة قبل ميلاد المسيح، وأنّها منقولة من كتابة قديمة من القرن السابع عشر قبل الميلاد أو قبل ذلك، ومِن ثَمّ فهي أقدم من كتابة سِفر التكوين (يرجع تدوينه إلى عام 536 قبل الميلاد بعد الرجوع من سبي بابل).

ويروي اليونان خبراً عن الطوفان أورده (أفلاطون) وهو: أنّ كَهَنة مصر قالوا للحكيم اليوناني (سولون) أنّ السماء أرسلت طوفاناً غيّر وجه الأرض مراراً، فهلك الناس - ممّن عمروا البلاد في المنطقة - وانمحت آثارهم ولم يبق للجيل الجديد شيء من تلكمُ الآثار والمعارف.

وأورد (مانيتيون) خبر طوفان حدث بعد (هرمس) الأَوّل - الذي كان بعد (ميناس) الأَوّل -، وهو أقدم من تأريخ التوراة أيضاً (1) .

وهكذا جاء خبر الطوفان في (اُوستا) كتاب المجوس (2) .

وجاء في كتاب (تأريخ الأدب الهندي) الجزء الأوّل المختصّ بالثقافة الوثنيّة الهنديّة، للسيّد أبي نصر أحمد الحسيني البهوبالي الهندي (مخطوط) ص 42 و 43، في الباب الخامس، وعنوانه (برهمانا وأوبانبشاء):

وممّا يلفت النظر في (ساتا بانا برهمانا) قصّة الطوفان، التي بُيّنت في ضمن الضحايا، والقصّة وإنْ اختلفت من وجوه كثيرة عمّا في القرآن والتوراة، وإن لم توجد شواهد قاطعة تربط القصّة الهنديّة مع الساميّة، توجب الاهتمام..

ففي هذه القصّة البرهمانيّة يقوم (مانو) بدور نبيّ الله نوح (عليه السلام) في القرآن وفي

____________________

(1) راجع: تفسير المنار لمـُحمّد عبده، ج 12، ص 105.

(2) في ترجمتها الفرنسيّة. راجع: الميزان للطباطبائي، ح 10، ص 267.

٣٥

التوراة، و (مانو) اسم نال التقديس والاحترام في أدب الثقافة بأسره من الوثنيّين، فهو: ابن الله، ومصدر جميع الناس وجدّهم الأسطوري.

وخلاصة القصّة: أنّه بينما كان (مانو) يغسل يديه إذ جاءت في يده سَمكة، وممّا اندهش به (مانو) أنّ السمكة كلّمته وطلبت إنقاذها من الهلاك، ووَعَدته جزاءً عليه أنّها ستنقذه في المستقبل من خطر عظيم، والخطر العظيم المـُحدق الذي أنبأت به السمكة كان طوفاناً سيجرف جميع المخلوقات؛ وعلى ذلك حَفَظ (مانو) السمكة في (المرتبان)، فلمـّا كَبُرت السمكة أخبرت (مانو) عن السنة التي سيأتي فيها الطوفان، ثمّ أشارت عليه أن يصنع سفينة كبيرة، ويدخل فيها عند طغيان الماء، قائلةً: أنا أُنقذك من الطوفان، فمانو صنع السفينة، والسمكة كبُرت أكثر من سعة (المرتبان)؛ لذلك ألقاها (مانو) في البحر. ثمّ جاء الطوفان كما أنبأت السمكة، وحين دخل (مانو) السفينة، عامت السمكة إليه، فربط السفينة بقرن على رأس السمكة، فجرّتها إلى الجبال الشماليّة، وهنا ربط (مانو) السفينة بشجرة، وعندما تراجع الماء وخفّ بقي (مانو) بوحدته (1) .

فذلكة الكلام: إنّ فيما أنبأت به الأُمم وحدّثت به الأجيال من حوادث جوّية خطيرة، داهمت الحياة البشريّة الأُولى وكان فيها الهلاك والدمار ومنها حادث الطوفان في كرّات ومرّات، ليُشْرف بالاطمئنان على تحقّق الحادث إجماليّاً، ولو لم يكن بذلك الشكل الأساطيري المنقول، شأن سائر القصص البائدة حِيكت حولها مخاريف، الأمر الذي لا يوجب إنكارها من رأس، ولا سيّما أنّ مثل حادث الطوفان كان طبيعيّاً أنْ يهاجم حياة الإنسان، ويواجهه بالنكبات في الأيام الأُولى بكثرة، ولا يزال ينتاب وجه الأرض بعد حينٍ وآخر.

وربما كان من أعظمها وأشملها طوفان نوح، عمّ المنطقة ودمّر وأباد، هذا شيء لا مساغ لإنكاره، بعد كونه طبيعيّاً وأخبر به الصادق الأمين.

____________________

(1) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص 46 - 47.

٣٦

أمّا الزيادات التي جاءت في الأساطير القديمة ونقلتها التوراة على عِلاّتها فهذا شيءٌ نستخلص منه وننبذه، كما نبذه القرآن واستخلص الحادث صافياً جليّاً، الأمر الذي اختصّ به القرآن وكان نبأً غيبيّاً لا يعلمه أيّ إنسان ذلك الحين ( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا ) (1) .

أي لا تعلمها بهذا الخلوص والجلاء، أمّا صورتها المشوّهة فكان يتداول بها أقوام جاهلون بحقيقة الأمر.

لا شاهد على شمول الطوفان

لا شكّ أنّ شواهد الطبيعة لا تدع مَجالاً لاحتمال شمول الطوفان، ولا سيّما بذلك الارتفاع الهائل! كما لا موجب لتناول الإعجاز لمثل هذا الحدّ غير الضروري قطعيّاً.

بقي ظاهر النصّ (التعابير الواردة في القرآن الكريم) ممّا حسبه البعض ذا دلالة أو إشارة إلى ذلك، فضلاً عن قرائن أخرى:

قال الشيخ مُحمّد عبده: وأمّا مسألة عموم الطوفان في نفسها فهي موضوع نزاع بين أهل الأديان، وأهل النظر في طبقات الأرض، وموضوع خلاف بين مؤرّخي الأُمم.

أمّا أهل الكتاب وعلماء الأمّة الإسلاميّة فعلى أنّ الطوفان كان عامّاً لكلّ الأرض، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر، واحتجّوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجّرة في أعالي الجبال؛ لأنّ هذه الأشياء ممّا لا تتكّون إلاّ في البحر، فظهورها في رؤوس الجبال دليلٌ على أنّ الماء صعد إليها مرّةً من المرّات، ولن يكون ذلك حتّى يكون قد عمّ الأرض (2) .

وقال السيّد الطباطبائي: الحقّ، أنّ ظاهر القرآن الكريم - ظهوراً لا ينكر - أنّ الطوفان كان عامّاً للأرض، وأنّ من كان عليها من البشر أغرقوا جميعاً...

ومن شواهد الآيات التي استند إليها قوله تعالى - حكايةً عن نوح - ( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى

____________________

(1) هود 11: 49.

(2) تفسير المنار، ج 12، ص1 08.

٣٧

الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ) (1) وقوله: ( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) (2) وقوله: ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) (3) .

قال: ومن الشواهد من كلامه تعالى على عموم الطوفان ما ذكر في موضعين من الأمر بأنْ يَحمل من كلٍّ زوجين اثنين، (4) ومن الواضح أنّه لو كان الطوفان خاصّاً بالمنطقة - أرض العراق كما هو معروف - لم تكن حاجة إلى ذلك (5) ؛ نظراً لإمكان تداوم النسل بسائر أفراد النوع المنبّثة في أقطار الأرض حينذاك.

آثار جيولوجيّة

لكن وجود الفسايل وبقايا متحجّرة لحيوانات مائيّة وهكذا آثار الردم المـُشاهد في أعالي بعض الجبال لا يَصلح شاهداً لصعود الماء إليها؛ إذ لا يكفي لحدوث هذه الآثار ووجود هذه البقايا صعود الماء أيّاماً معدودة ولفترة قصيرة، بل ومن المحتمل القريب أنّها من بقايا رسوبيّة كانت يوماً ما تحت البحر وعلى ضفافه، غير أنّ التغيّرات الجيولوجيّة والتمعّجات الحاصلة على قشرة الأرض على أثر الزلازل وغيرها هي التي أوجبت تغيّراً في وجه الأرض، فمنها ما ارتفع بعدما كان مغموراً، أو انغمر بعد ما كان عالياً، وهكذا تعرجّات حدثت على الأرض ولا سيّما في الفترات الأُولى على أثر انخفاض حرارة سطح الأرض.

قال الشيخ محمّد عبده: إنّ وجود الأصداف والحيوانات البحريّة المتحجّرة في قُلل الجبال لا يدلّ على أنّها من أثر ذلك الطوفان؛ بل الأقرب أنّه كان من أثر تكوّن الجبال وغيرها من اليابسة في الماء. فإنّ صعود الماء إلى الجبال أيّاماً معدودة لا يكفي لحدوث ما ذكر فيها (6) .

____________________

(1) نوح 71: 26.

(2) هود 11: 43.

(3) الصافّات 37: 77.

(4) راجع: سورة هود 11: 40 والمؤمنون 23: 27.

(5) راجع: تفسير الميزان، ج 10، ص 272 و 274 ووافقه على ذلك الدكتور مُحمّد الصادقي في تفسيره الفرقان، ج 12، ص 316 - 317.

(6) تفسير المنار، ج 12، ص 108.

٣٨

( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرضِ) (1) .

أخذوا من هذه الآية دليلاً على عموم الطوفان وشموله لوجه الأرض كلّها.

قال الشيخ محمّد عبده: ليست الآية نصّاً في أنّ المراد بالأرض هذه الكُرة كلّها، فإنّ المعروف في كلام الأنبياء والأقوام وفي أخبارهم أنْ تُذكر الأَرض ويراد بها أرضهم ووطنهم، كقوله تعالى حكايةً عن خطاب فرعون لموسى وهارون: ( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ ) (2) يعني أرض مصر، وقوله: ( وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ) (3) فالمراد بها مكّة، وقوله: ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ) (4) والمراد ديار فلسطين، والشواهد على ذلك كثيرة.

قال: وظواهر الآيات تدلّ بمعونة القرائن والتقاليد المـُوروثة عن أهل الكتاب على أنّه لم يكن في الأرض كلّها في زمن نوح إلاّ قومه - (وهو في أوّليات حياة البشر) - وأنّهم هلكوا كلّهم بالطوفان، ولم يبقَ بعده فيها غير ذرّيته، وهذا يقتضي أنْ يكون الطوفان في البقعة التي كانوا فيها من الأرض سَهلها وجبالها لا في الأرض كلّها، إلاّ إذا كانت اليابسة منها في ذلك الزمن صغيرة؛ لقرب العهد بالتكوين وبوجود البشر عليها.

فإنّ علماء التكوين وطبقات الأرض (الجيولوجيّة) يقولون: إنّ الأرض كانت عند انفصالها من الشمس كرة ناريّة ملتهبة ثمّ صارت كرة مائيّة، ثُمّ ظهرت فيها اليابسة بالتدريج (5) .

وبذلك ظهر عدم دلالة الآية ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) (6) على شمول الطوفان لعامّة وجه الأرض، بعد فرض محدوديّة نطاق النسل البشري آنذاك (في عهدٍ بعيد جدّاً) وعدم الانتشار في أقطار الأرض، ولا نُسلّم بما حدّدته التوراة من التأريخ القريب ولا مستند لها.

( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)

شاهد آخر التمسوه دليلاً على عموم الطوفان.

قال تعالى: ( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ

____________________

(1) نوح 71: 26،

(2) يونس 10: 87.

(3) الإسراء 17: 76.

(4) الإسراء 17: 4.

(5) تفسير المنار، ج 12، ص 106.

(6) الصافّات 37: 77.

٣٩

ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ) (1) .

في هذه الآية موضعان يمكن الاستناد إليهما تدليلاً على شمول الطوفان:

1 - التعبير بالموج الهائل كالجبال، ممّا لا يحدث إلاّ في متّسع من خِضَمّ الماء المتراكم.

2 - محاولة ابن نوح للصعود إلى جبلٍ يَعصمه من الماء، ولكنّ نوحاً أنذره أنْ لا عاصم اليوم، ومعنى ذلك: أنّ الماء سيغطّي الجبال أيضاً ولا يَذر موضعاً يأوي إليه، وهكذا ابتلعه الموج الهائم فكان من المغرقين.

لكن لا شكّ أنّ هضبةً كبيرةً واسعةَ الأرجاء إذا ازدحمت عليها المياه، واكتنفتها السيول العارمة من كلّ جانب، وفاضت ينابيع الأرض فإنّ الماء ليجول ويصول في ساحتها، وربّما ارتفعت إلى عشرات الأمتار، وفي مثل هذا الخِضمّ من الماء الهائم - والذي في عرضة الطوفان - وهبوب رياح عاصف لابدّ أنّ تحصل أمواج عالية وعاتية تلوي على كلٍّ شيء.

ولابدّ أنّ ابن نوح كان واقفاً على مرتفع من الأرض ليرى تجوال السفينة على وجه الماء، وحينما كلّمه أبوه - وهو راكبٌ في السفينة - لمْ يعبأ بنُصح أبيه، وأنّه سوف يأوي إلى أعالي الجبال، لكنّه غافلٌ أنّ السيول الهائمة المـُنحدرة على سفوح الجبال سوف تلوي به إلى أعماق الغَرق، وبالفعل نزلت به النازلة وحال بينه وبين أبيه الموج فكان من الهالكين.

وليس في ذلك دلالة على أنّ الماء سوف يرتفع على قِمم الجبال الشامخة في كلّ مناحي الأرض.

وهكذا رجّح العلاّمة الشعراني أنّ الماء لم يرتفع في أرض الطوفان (هضبة ما بين النهرين) أكثر من عشرين أو ثلاثين متراً، ممّا لا يمكن غشيانه قُلَل جبال رفيعة كقُلّةِ آرارات من سلسلة جبال جودي (2) .

____________________

(1) هود 11: 42 و 43.

(2) معجم لغات القرآن للعلاّمة أبي الحسن الشعراني (ملحق تفسير أبي الفتوح الرازي، ج 11، ص 144).

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته، وانتصروا به ومن كانوا منطوين على محبته يرجون تجارة لن تبور في مودته، والذين هجرتهم العشائر، إذ تعلقوا بعروته، وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظل قرابته، فلا تنس لهم اللهم ما تركوا لك وفيك، وأرضهم من رضوانك وبما حاشوا عليك، وكانوا مع رسولك دعاة لك وإليك، واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه، ومن كثرت في اعزاز دينك من مظلوميهم».

وروى سلام بن أبي مطيع عن أيوب السختياني عن جعفر بن محمد عن أبيه، قال: لما طعن عمر بن الخطاب بعث إلى حلقة من أهل بدر كانوا يجلسون بين القبر والمنبر، فقال: يقول لكم عمر انشدكم الّله أكان ذلك عن رضا ؟ فتلكأ القوم، فقام علي بن أبي طالب فقال له، وددنا انّا زدنا في عمره من أعمارنا. وروى أبو نعيم الحافظ عن محمد بن حاطب عن علي بن الحسين قال: أتاني نفر من أهل العراق، فقالوا في أبي بكر وعمر وعثمان، فلما فرغوا قال لهم علي ابن الحسين: ألا تخبروني، أنتم المهاجرون الأولون الذين اخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من اللّه ورضواناً، وينصرون اللّه ورسوله أولئك هم الصادقون ؟ قالوا لا، قال: فأنتم الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ؟ قالوا لا، قال: أما أنتم فقد تبرأتم أن تكونوا من أحد هذين الفريقين، ثم قال: أشهد أنكم لستم من الذين قال اللّه عز وجل فيهم:

«والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم» اخرجوا فعل اللّه بكم(١) .

وقال الشيخ المفيد من كتاب «شرح عقائد الصدوق» ص ٦٣ طبعة ثانية «تبريز»: «الغلاة من المتظاهرين بالإسلام هم الذين نسبوا أمير المؤمنين علي بن

_____________________

(١) من مقال للشيخ محمد صالح الحائري المازندراني، وهو من كبار علماء سمنان بإيران نشره بعنوان «إلى اخواننا المسلمين» في رسالة الإسلام التي تصدر عن دار التقريب بمصر العدد الرابع من السنة الثالثة.

٢٦١

أبي طالب، والأئمة من ذريته إلى الألوهية والنبوة، ووصفوهم من الفضل في الدين والدنيا إلى ما تجاوزوا فيه الحد، وخرجوا عن القصد، فهم ضلال كفار.

يتبين من هذا أن الشيعة الإمامية لا يغالون في أئمتهم «ع»، ولا يكرهون أصحاب الرسول «ص»، فنسبة الغلو إليهم في الحب والبغض كذب وافتراء.

الشيعَة في كِتَاب الدّيمقراطيَّة *

للاستاذ خالد محمد خالد

الكاتب الكبير الاستاذ خالد محمد خالد درس في الأزهر، وحاز شهادته العالية، فهو من رجال الدين، ولكنه لا يلبس العمة، ولا يرضى عنه كثير من الشيوخ الأزهريين وغير الأزهريين أما خطيئته الكبرى عندهم فهو كتابه «من هنا نبدأ» وقد تكلمت عنه في عدد شباط سنة ١٩٥١ من مجلة العرفان الغراء وليس في الكتاب نفاق ولا رياء، ليس فيه تمجيد لملك أو أمير، ولا ثناء على إقطاعي أو رأسمالي، ليس فيه كلمة واحدة تشعر بأنه يريد أن يجلب لنفسه نفعاً، أو يدفع عنها ضراً. بل ان كتاب «من هنا نبدأ»، وكتاب «مواطنون لا رعايا»، وكتاب «الديمقراطية تمجيد للحرية والكرامة، وثورة على الاستعمار والاقطاعية والرجعية»، إن هذه الكتب الثلاثة تعبر تعبيراً صادقاً عما يجيش في صدر كل عربي مخلص، وتزيده إيماناً بحقه، وتمسكاً بآماله، وإِخلاصاً لوطنه وحباً بالموت في سبيل الحرية والاستقلال.

تكلم الأستاذ خالد عن الاستعمار والدكتاتورية والاقطاعية، واستمد كلامه عنها من شجاعته وإخلاصه، من علمه وتجرده، من أعماق نفسه، لا من التقاليد والعادات، ولا من قال ويقول، فلم يقلد أحداً في قول أو فعل، ولم يعبأ بأية قوة تعترض مشيئة الشعب، وتقف في طريق حياته وتقدمه، ولهذه الغاية استقبل القراء في البلاد العربية آراءه ودعوته إلى الحرية والتحرر من الاستعمار والإقطاعية استقبالاً عظيماً، ولو أن المؤلف اعتمد على المصادر الصحيحة، على الدرس المجرد، والتمحيص العلمي عندما تكلم عن إخوانه الشيعة في كتابه

_____________________

* - في العرفان عدد تشرين الثاني سنة ١٩٥٣.

٢٦٢

الديمقراطية كما هو شأنه في الكلام عن الإستعمار والإقطاعية لما عتب عليه أحد منهم. أما وقد نقل عنهم ما ليس لهم به علم فيحق لهم أن يعتبوا أو يدافعوا.

تكلم الأستاذ خالد في كتاب الديمقراطية عن الأنظمة التي يجب العمل بها، فدعا إلى سن قوانين تنظم مصالحنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتعتمد على العرف والمصلحة والعقل، وتتجه نحو الأغراض الدينية، وبهذا تصبغ القوانين بصبغة القومية تحفظ وحدة الأمة وترعاها، ولا تثير جدالاً ولا ضغناً، ولا يضار الدين بشيء من مبادئه وتعاليمه.

ورد على القائلين بتوحيد التشريع الإسلامي، رد عليهم بأن هذا يتنافى مع الدعوة لاتحاد إِسلامي، لأن بين السنة والشيعة خلافات عميقة في الفقه والتشريع، وضرب على هذا الخلاف العميق السحيق أمثلة من فقه الشيعة. فالمؤلف إِذن لم يكن بصدد الرد على الشيعة، ولا انتقاص مذهبهم ومنهجهم، فليس لأحد أن يتهمه بقصده وحسن نيته، ولكن للقارئ الحق في أن يسأله عن الدليل على أن الشيعة ينكرون رمي الجمار في الحج، والسعي بين الصفا والمروة، ولا يعترفون بغير القرآن.

وللقارئ الحق في أن يسأل أيضاً: لماذا ضرب المؤلف أمثلة من فقه الشيعة فقط، مع أن الخلافات بين مذاهب أئمة السنة أعمق بكثير من الخلافات بين السنة والشيعة، ففي المسألة الواحدة يفتي بعض الأئمة بأن هذا حرام، ويفتي الآخر بأنه حلال، أو يفتي بأن هذا نجس، ويفتي الآخر بطهارته، أو يفتي بصحة معاملة والآخر بفسادها، ومن البديهة أنه ليس بين الحلال والحرام، ولا بين الطهارة والنجاسة، ولا بين الصحة والفساد أية جامعة أو شبه، واللفظ لا يدل على التحريم والحل معاً، ولا على الطهارة والنجاسة، أو الصحة والفساد في دلالة واحدة.

وتجد هذه المسائل الخلافية بين المذاهب الأربعة في كل باب من أبواب الفقه، وقد شغلت الحيز الأكبر من كتب الشريعة، حتى أن ما اتفقوا عليه لا يعد شيئاً بالقياس إلى ما اختلفوا فيه، ومن هنا جاءت اجتهادات الشيعة موافقة لقول إمام من الأربعة ولم تخالفهم مجتمعين إِلا نادراً، وقد اشتهر عن نور الدين المرعشي قاضي قضاة أكبر آباد أنه بقي في منصبه أمداً طويلاً يقضي على مذهب الإمامية بما لا يخالف المذاهب الأربعة. ونقدم بعض الأمثلة للتدليل على أن بين المذاهب الأربعة من الخلاف ما لا يمكن التقريب بينها بحال.

٢٦٣

أباح مالك أكل الذئب والدب والهرة، وجميع حشرات الأرض كالفأر والذباب والدود على كراهة، وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد بالتحريم(١) وبهذا قال الشيعة.

وقال مالك: بطهارة الكلب مع قول أبي حنيفة والشافعي وابن حنبل بالنجاسة(٢) وبهذا قال الشيعة.

وقال الشافعي وأحمد لا تنعقد صلاة الجمعة إلا باربعين شخصاً، وقال أبو حنيفة تنعقد بأربعة أشخاص(٣) واختلف الشيعة، فمنهم من قال: لا تنعقد إلا بسبعة، ومنهم من قال تنعقد بخمسة أحدهم الإمام.

وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد: ان القاتل خطأ لا يرث من مال قريبه المقتول شيئاً، وقال مالك: يرث من المال دون الدية(٤) وبهذا قال أكثر الشيعة.

وقال مالك: إن الحامل إذ بلغت ستة أشهر فليس لها أن تتصرف فيما زاد عن ثلث مالها، مع قول الثلاثة بالجواز(٥) وبهذا قال الشيعة.

إلى غير ذلك من الخلافات التي وضع لها فقهاء الإسلام مجلدات عديدة لا مجلداً واحداً.

والغرض من هذه الأمثلة التدليل على أن الخلافات، كما هي واقعة بين السنة والشيعة، فهي حاصلة بين السنة بعضهم مع بعض، وبين الشيعة أيضاً بعضهم مع بعض، ولكن قد اتفقت كلمة الجميع بحمد اللّه تعالى، كي لا يكون لعدو الإسلام مغمز عليه وعلى المسلمين، اتفقت كلمتهم على أن هذه الخلافات كلها مرتبطة بالشريعة، لم يخالف واحد منها نصاً من نصوص الإسلام، وانها رحمة لهذه الأمة، وتوسعة عليها، ونفي للإكراه والحرج في الدين وهذي هي الثمرة

_____________________

(١) ميزان الشعراني. باب الأطعمة.

(٢) نفس المصدر باب الطهارة.

(٣) نفس المصدر باب صلاة الجمعة.

(٤) كتاب رحمة الأمة في اختلاف الأئمة باب الفرائض.

(٥) ميزان الشعراني باب الوصايا.

٢٦٤

الطيبة لفتح باب الاجتهاد الذي يقول به الشيعة ويؤمنون به إيمانهم بالإسلام وشريعتته.

عندما قرأت كتاب الديمقراطية كتبت لمؤلفه الأستاذ خالد كتاباً مطولاً، شرحت فيه أقوال الشيعة على حقيقتها في المسائل التي نقلها عنهم، ورجوته أن يستدرك، ويصحح النقل على أساس ما في كتبهم، كما يستدعيه المنطق السليم، ولا يعتمد على كتب غيرهم كائناً من كان مؤلفها، لأن خصوم الشيعة قد نسبوا إليهم الكثير مما لا يعرفون إمعاناً في الكيد والتنكيل، فأجابني بكتاب قال فيه:

«أما عن الشيعة فالأمر كما أدركتم فضيلتكم لم أكن معهم على موعد، ولم أقصد مناقشة تفكيرهم ومناهجهم. بل ضربتهم مثلاً لما يمكن أن يعتاق الوحدة السياسية لبلاد الشرق الأوسط المنهوب إذا نحن أصررنا على إغفال الروابط الإنسانية الشاملة، وتشبثنا بالروابط الدينية وحدها. أما الشيعة بالذات فلهم في نفسي تقدير خاص، ولا يمكن أن ننسى من أعلامهم أولئك الذين بذلوا جهداً سخياً واعياً في سبيل تحرير الفقه الإسلامي من اغلاله، وتنقيته من الرواسب والشوائب وأرجو ان نلتقي في يوم قريب».

وكان عزمي أن أقف عند هذا الحد مكتفياً بكتابي وجوابه غير أن الكثير من علماء الشيعة آلمهم قول الأستاذ خالد، وحمله بعضهم على غير واقعه ومحمله الصحيح، وظن الظنون بصاحب الكتاب، وأنه تحدى شعور الملايين من المسلمين بقصد الشقاق وتفرقة الصفوف، وبهذا الحافز حاول الرد عليه أكثر من واحد.

وفي عقيدتي أن الأستاذ خالداً لم يقصد ذم الشيعة من قوله في صفحة ١٤٨ «وهم أي الشيعة يخالفون الإسلام في كثير من نصوصه» بدليل ما نقله عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بعد هذا الكلام بلا فاصل. قال في صفحة ١٥٠ «ترك عمر بن الخطاب النصوص الدينية المقدسة من القرآن والسنة عندما دعته المصلحة لذلك، فبينما يقسم القرآن للمؤلفة قلوبهم حظاً من الزكاة، ويؤديه الرسول وأبو بكر، يأتي عمر فيقول: لا نعطي على الإسلام شيئاً، وبينما يجيز الرسول وأبو بكر بيع أمهات الأولاد، يأتي عمر فيحرم بيعهن، وبينما كان الطلاق الثلاث في مجلس واحد يقع واحداً بحكم السنة والإجماع، جاء عمر فترك السنة وحطم الإجماع».

نقل هذا في معرض المدح والثناء على اجتهاد عمر وتحرره، فهل لقائل والحال هذه أن يقول: صاحب كتاب الديمقراطية متعصب ضد الشيعة ! بعد أن ساواهم بالخليفة الثاني ! وعلى أي الأحوال فإن الشيعة مهما اجتهدوا فإنهم يتعبدون بكل ما ثبت من نصوص الإسلام، ويحرمون

٢٦٥

الاجتهاد ضد النص، فهم متحررون من التقاليد ومن كل قيد ما عدا القيد الذي يفرضه الدين والعقل.

رغب إلي بعض إخواني الفضلاء الذين احترم علمهم وآراءهم أن أعود إلى الموضوع على أن أنشر أقوال الشيعة فتوى ودليلاً لكل مسألة نقلها صاحب كتاب الديمقراطية عنهم، فأجبت راجياً أن تجد كلمتي هذه عندهم الرضا والقبول، كما أرجو أن تعطي المؤلف الفاضل صورة صادقة واضحة عن جهل وتعصب الذين اعتمد عليهم في بعض ما نقله عن الشيعة، وكيف أنهم يضللون رجلاً بريئاً كالاستاذ خالد.

نقل الأستاذ في صفحة ١٤٨ من كتاب الديمقراطية أن «الشيعة لا يعترفون بغير القرآن، بل ان لبعض طوائفهم قرآناً غير قرآننا، وهم لا يعترفون بالسنة واحاديث الرسول التي يرويها وينقلها أئمة أهل السنة».

لا أدري إذا كان أحد من الشيعة يعرف هذه الطائفة التي لها قرآن غير قرآننا، أما أنا فلا أعرف عنها شيئاً، ولم أسمع بها من قبل، ولا أريد أن أتعرف إليها أبداً، إن كان لها وجود، لأني أعتقد أنا، ويعتقد كل شيعي معي أن من لا يؤمن بهذا القرآن الذي بين أيدينا فهو كافر ليس من الإسلام في شيء، لا هو مسلم سني، ولا مسلم شيعي، كما إني لا أعرف أحداً من الشيعة يعترف بالقرآن دون السنة وأحاديث الرسول. إن الشيعة يعتقدون بأن القرآن والسنة شيء واحد من حيث وجوب العمل والاتباع، وإن من أنكر سنة الرسول فقد أنكر القرآن نفسه، لقوله تعالى «ما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا» وهذه كتبهم في الفقه وأصوله، والحديث ورجاله، وهي تعد بالمئات تعلن بصراحة أن أدلة الشريعة الإسلامية، ومصادر أحكامها أربعة: الكتاب، والسنة، والاجماع، والعقل.

ميراث البنت

وقال في الصفحة نفسها «والشيعة يجعلون المال كله لذي الغرض» يشير إلى مسألة ما إذا توفي إِنسان، وله بنت أو أكثر، وليس له ولد ذكر، وله أخ، أو كانت له أخت أو أخوات، وليس له أخ ذكر، وله عم فإن أهل السنة يشاركون أخا الميت مع ابنته في الميراث، ويشاركون عمه مع أخته، والشيعة يقولون أن التركة بكاملها للبنت أو البنات، وليس لأخ الميت شيء، وإذا لم يكن له أولاد، وكان له أخت أو أخوات، فالمال كله للأخت أو للأخوات، ولا شيء للعم، لأن من كان بينه وبين الميت درجة واحدة فهو بميراثه أولى ممن كان بينه وبينه درجتان أو أكثر، والمذاهب الأربعة تعترف بهذه القاعدة، قاعدة الأقرب فالأقرب في مسألة العصبة، لأنهم قالوا: أن عصبة

٢٦٦

الأقرب كالأخ تمنع الأبعد كالعم. وآية أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه من المؤمنين والمهاجرين كما دلت على أن القريب أولى من الغريب في الميراث، فقد دلت أيضاً على أن الأقرب أولى ممن هو دونه في القرابة، وليس من شك في أن البنت أقرب إلى الميت من أخيه، كما أن أخته أقرب إليه من عمه.

وآية «للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيباً مفروضاً» دلت على التساوي بين الذكور والاناث في استحقاق الإرث ومراتبه وكما أن بين الإبن والأب درجة واحدة فبين الأب والبنت درجة واحدة أيضاً، لأن كلاً منهما يصدق عليه لفظ الوالد عرفاً ولغة وشرعاً، قال تعالى «فاستفتهم ألربك البنات، ولهم البنون - وفي آية أخرى - ما كان للّه أن يتخذ ولداً» فإذا كان الإبن يحجب عمه لأنه ولد، فالبنت تحجبه أيضاً لأنها ولد.

ومن هنا يتبين أن قوله تعالى «إن امرؤ هلك وليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك، وهو يرثها إن لم يكن ولد» يتبين أن الأخ والأخت لا يرثان شيئاً إِلا مع عدم وجود الإبن والبنت، لأن كلاً منهما ولد حقيقة.

وقيل: أن اختصاص البنت الواحدة أو البنات بالميراث كله يتعارض مع نص الآية ١١ من سورة النساء «فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك، وإن كانت واحدة فلها النصف، ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد» فاللّه سبحانه فرض للبنت الواحدة النصف مع عدم الإبن، وللبنتين فما فوق الثلثين، والشيعة يعطون البنت الواحدة جميع التركة، وكذلك البنات.

والحقيقة أن هذه الآية لا تصلح للاعتراض على الشيعة، لأنها لا تدل على أن ما زاد على الثلثين لا يرد على البنتين، وما زاد على النصف لا يرد على البنت ويؤيد هذا أمور:

١ - ما قاله أبو حنيفة وابن حنبل: إِذا خلف الميت بنتاً أو بناتاً، وليس معهن أحد من أصحاب الفروض والعصبات، فالمال كله للبنت، النصف بالفرض، والباقي بالرد. وكذلك للبنتين الثلثان بالفرض، والباقي بالرد، فإذا كانت الآية لا تدل على نفي الرد على أصحاب الفرض في هذه الصورة كذلك لا تدل على النفي في غيرها، لأن الدلالة الواحدة لا تتجزأ.

٢٦٧

وقال مالك والشافعي يعطى الزائد عن الفرض لبيت المال(١) .

وقال صاحب كتاب المغني البنت أولى من بيت المال، لقوله تعالى «أولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه» وبهذه الآية عينها استدل الشيعة على أولوية الأقرب.

٢ - إذا ترك أباً وبنتاً فقد اتفقت كلمة المذاهب السنية كلها(٢) على أن السدس للأب بالفرض، والنصف للبنت كذلك والفاضل يرد على الأب وحده فيأخذ هو النصف، والبنت النصف، مع أن اللّه سبحانه قال «ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إِن كان له ولد» فكما أن هذا الفرض في هذه الآية لا ينفي أن يكون للأب ما زاد على السدس، كذلك الفرض في قوله تعالى «فلهن ثلثا ما ترك، ولها النصف» لا ينفي أن يكون للبنات ما زاد على الثلثين، وللبنت ما زاد على النصف، خاصة، وإن فرض البنات والأبوين وارد في آية واحدة، وسياق واحد.

والشيعة ترد الفاضل على البنت والأب معاً، ولا ترده على الأب وحده، فيعطون الربع للأب وثلاثة أرباع للبنت.

٣ - قال أبو حنيفة وابن حنبل: إِن للأم المال كله في بعض الحالات، تأخذ

_____________________

(١) كتاب المغني ج ٦ صفحة ٢٠١ الطبعة الثالثة، وميزان الشعراني باب الفرائض.

(٢) كتاب المغني ج ٦ صفحة ١٧٧ الطبعة الثالثة.

٢٦٨

الثلث بالفرض والثلثين بالرد(١) مع أن فرضها في القرآن السدس أو الثلث «فإن لم يكن له ولد، وورثه أبواه فلأمه الثلث، فإن كان له إخوة فلأمه السدس».

٤ - قال اللّه عز وجل «واستشهدوا شاهدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان» نصت هذه الآية الكريمة على أن الدين يثبت بشاهدين، وبشهادة رجل وامرأتين، مع أن بعض المذاهب الأربعة أثبته بشاهد ويمين، بل قال مالك: يثبت بشهادة امرأتين ويمين(٢) فكما أن هذه لا تدل على أن الدين لا يثبت بشاهد ويمين، كذلك آية الميراث لا تدل على أنه لا يرد على البنت والبنات، والأخت والأخوات. فالشيعة يوجبون رد ما زاد عن فرض البنت على البنت، وما زاد عن فرض الأخت على الأخت، لأن البنت أقرب من الميت من أخيه، وأخته أقرب إليه من عمه، والأقربون أولى، والشيعة لا يثقون بحديث طاوس «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولي عصبة ذكر» ولو وثقوا به لقالوا بمقالة أهل السنة، كما أن أهل السنة لولا ثقتهم بهذا الحديث لقالوا بمقالة الشيعة.

وقال صاحب كتاب الديمقراطية في صفحة ١٤٩ «ومنهم أي من الشيعة من ينكر معظم أركان الحج، فرمي الجمار عندهم ضلالة، والسعي بين الصفا والمروة عبث»

يحج في كل عشرات الألوف من الشيعة إلى بيت اللّه الحرام، ويطوفون مع إخوانهم السنة بين الصفا والمروة كتفاً إلى كتف، ويرمون معهم الجمار جنباً إلى جنب، وهذي كتبهم تنطق بذلك بكل صراحة ووضوح، منها الجواهر والمسالك والحدائق، وسائر كتب الفقه، وجميع مناسك الحج، وهذه توزع في النجف وإيران بلا عوض على كل طالب وراغب.

وقال المؤلف في الصفحة نفسها «كادت تحدث مأساة في موسم الحج هذا العام، لأن زعيماً إسلامياً كبيراً أراد أن يمارس بعض مناسك الحج على طريقة مذهبه الشيعي بما يتعارض تعارضاً مثيراً مع مقتضيات العرف الإسلامي، فأحدث هذا من الهرج ما كاد يفضي إلى شر وسوء.

_____________________

(١) ميزان الشعراني باب الفرائض.

(٢) ميزان الشعراني ج ٢ صفحة ٢٥٨ طبعة سنة ١٣١١ هجرية، والمغني ج ٩ ص ١٥١ الطبعة الثالثة.

٢٦٩

هذا الزعيم الإسلامي الشيعي هو آية اللّه الكاشاني - كما أعلم - وقد اجتمعت به في لبنان بعد أن أدى فريضة الحج عائداً من مكة إلى بلده إِيران، وسمعته يتحدث عن سفره وحجه فلم يشر من قريب ولا من بعيد إلى الهرج المذكور، أو إلى أي شيء حدث بسبب ما أداه من أفعال الحج، ولا شيء من واجبات الحج عند الشيعة يتعارض مع العرف الإسلامي، أو يحدث هرجاً يفضي إلى سوء، وهذه هي واجبات الحج، كما هي مدونة في كل منسك من مناسك الحج، وفي كل كتاب من كتب فقه الشيعة، وكما يؤديها كل مسلم شيعي، بلا زيادة ولا نقصان، وهي الإحرام والوقوف بعرفات، والوقوف بالمشعر، ونزول منى، والرمي والذبح، والحلق والطواف، وركعتاه، والسعي، وطواف النساء وركعتاه.

وهناك أمر يحدث في كثير من مواسم الحج يظن من لا ينتبه إليه أن الشيعة يخالفون إخوانهم السنة في بعض أفعال الحج، مع أنه لا خلاف بينهما في واقع الحال. وهذا الأمر هو ثبوت أول شهر ذي الحجة، فإِن أفعال الحج موقتة بأيام الشهر الهلالي، فلا يجوز أن تتقدم عن وقتها أو تتأخر، ويصادف أن يثبت أول الشهر عند السنة، ولا يثبت عند الشيعة، فيقف - مثلاً - السني في عرفات يوم الاثنين، لأنه يعتقد أن أول الشهر يوم الأحد، بينما يحاول الشيعي جاهداً وحرصاً على أداء الواجب في حينه أن يقف يوم الثلاثاء لاعتقاده بأن أول الشهر الاثنين. وليس هذا خلافاً في حكم الشرع، ولا في موضوعه، وإنما هو خلاف في ظرف العمل الذي يخرج تشخيصه وتطبيقه عن اختصاص الشرع، فالخلاف بين السنة والشيعة في ذلك كالخلاف بين أهل الشام والعراق على ثبوت هلال شوال، وتعيين عيد الفطر(١) .

وأراني قد أتعبت القارئ بهذا التطويل والقال والقيل، ولا أظنه رافقني واستطاع معي صبراً إلى هنا، فلعله اكتفى بقراءة العنوان، أو لعله قرأ العنوان وبعض الأسطر، وولى مدبراً لا يلوي على شيء.

_____________________

(١) جاء في جريدة الجمهورية المصرية عدد ٢٧ نيسان سنة ١٩٥٥ أن عيد الأضحى في مصر كان سنة ٩٣٩ يوم الاثنين، وفي المملكة العربية السعودية يوم الثلاثاء وفي بومباي يوم الأربعاء.

٢٧٠

الشّيعَة الإماميَّة * في كِتَاب تاريخ التشريع الإسْلامي ، المقرر للتدريس في الأزهر

هذا الكتاب للأستاذ عبد اللطيف السبكي، ومحمد علي السايس ومحمد يوسف البربري المدرسين في كلية الشريعة بالجامع الأزهر، طبع سنة ١٣٥٥ هجري - ١٩٣٦ م، وهو مقرر للتدريس في الأزهر الشريف يقرأه الألوف من الطلاب والشيوخ، وينتشرون في الأقطار الإسلامية يبثون تعاليمه في المساجد والمنتديات، ليصير عقيدة في النفوس يورثها الآباء للأبناء، والجيل الحاضر للمستقبل.

وإذا كان الكتاب بهذه المكانة من الانتشار والتأثير كان على الذين وضعوه، وعملوه أن يتحروا الحقيقة والصدق في النقل، ويتعدوا كل ما يتخذ منه عدو الدين والوطن سبيلاً إلى تمزيق الصفوف، وبث الضغينة والشحناء بين المسلمين، كي لا يقعوا فريسة سائغة بين أنياب الوحش المستعمر.

تكلم المستشرقون عن الإسلام والمسلمين، واهتموا بدراسة القرآن والحديث، والمغازي والسيرة، وبحثوا عن كل فرقة من الفرق الإسلامية، وشرحوا أصولها وفروعها وتاريخها وقادتها وثوراتها ومجادلاتها الدينية، ونقبوا في الزوايا والخبايا عن الاغلاط والهفوات، ولم تغب عنهم صغيرة ولا كبيرة، حتى عرفوا عن كل فرقة ما لم يعرفه الخواص من الفرقة نفسها، وإلى القراء هذ المثل البسيط.

اطلعت في العام الماضي على كتاب ضخم يقع في أربعمائة صفحة، اسمه عقيدة الشيعة، للمستشرق رونلدس يعدد فيه مقامات تزورها الشيعة لم أسمع

_____________________

* - نشر في العرفان عدد كانون الثاني ١٩٥٣.

٢٧١

بها أنا، وكثير غيري من رجال الدين، وذكر في المصادر ما يقرب من مائة كتاب، منها وضع باللغة الفرنسية، ومنها باللغة الإنكليزية، ومنها بالعربية، وأصحاب هذه الكتب منهم مسلمون من مذاهب شتى، ومنهم غير مسلمين من أديان مختلفة، وفي هذه المصادر كتاب مجهول لا يحمل اسم المؤلف، ولم يعرف من هو، ومتى وضع، ولم تذكر مصادره، واسم الكتاب مفتاح الجنان.

أما الغاية من هذا النشاط، ومن هذا التلفيق، ومن هذا الحشد والتعبئة هو الدس، وإيقاع الفتنة بين المسلمين، ودعم هذا الدس بشتى الأساليب، ليظهروا الإسلام والمسلمين بأبشع المظاهر واشنعها، ويعلنوا للعالم أجمع أن المسلمين همج رعاع، لا يصلحون لشيء غير الاستغلال والاستثمار.

وإذا تشبث هؤلاء الأَبالسة بكتاب لا يحمل اسم إنسان معرفة ولا نكرة، فكم تكون غبطتهم وسرورهم إذا وقفوا على سباب ووخزات طائفية في كتاب يدرس في الأزهر أكبر جامعة إسلامية.

والذي جاء في الكتاب عن الإمامية منه ما لم تقل به الإمامية، ومنه ما يشاركهم في القول به غيرهم من مذاهب السنة، فمن الذي لم يقولوا به ما جاء في صفحة ١٤٦ «ان الإيمان بالإمام عند الشيعة الإمامية جزء من الإيمان باللّه، ومن مات على غير هذا الاعتقاد مات مع الكفر.. وان أئمتهم يعلمون متى يموتون، بل لا يموتون إلا باختيارهم» إلى غير ذلك من نسبة الغلو، وتأويل القرآن بغير الحق إلى طائفة تعتمد في إِيمانها وعقيدتها على كتاب اللّه، وسنة رسوله.

ونترك الكلام في بيان عقيدة الإمامية بأئمتهم إلى شيخ هذه الطائفة، ومرجعها الأكبر، ودليلها في كل أمر من أمور الدين، إلى الشيخ المفيد محمد بن النعمان قال في كتابه أوائل المقالات طبعة تبريز سنة ١٣٧١ هجري ص ٣٨ «القول أن الأئمة يعلمون الغيب منكر بين الفساد، لأن الوصف بذلك إنما يستحقه من علم الأشياء بنفسه لا بعلم مستفاد، وهذا لا يكون إلا للّه عز وجل، وعلى قولي هذا جماعة أهل الإمامة إلا من شذ عنهم من المفوضة، ومن انتمى إليهم من الغلاة».

وفي صفحة ٢١٣ قال السبكي وشركاؤه «وكان من آراء الإمامية التي خالفوا فيها جمهور الفقهاء أنهم يمنعون من تزويج المسلم بالكتابية، ولا يجيزون للمريض أن يطلق، وإن كان له أن يتزوج، فإِن تزوج ولم يدخل بها حتى مات فالنكاح باطل، ولا يترتب عليه مهر، ولا ميراث، وان الطلاق بالثلاث في مجلس واحد يعتبر طلقة واحدة» إلى غير ذلك مما لا يتسع المجال لنقله ورده.

٢٧٢

أما تزويج المسلم بالكتابية فقد اتفقت كلمة الإمامية على أنه إذا كان الزوجان كتابيين، ثم أسلم الزوج، وبقيت الزوجة على دينها يبقى الزواج كما هو، واختلفوا فيما إذا أراد المسلم أن يتزوج بالكتابية ابتداء، فبعضهم منع، وبعضهم أجاز، ودليل القائلين بالجواز قوله تعالى «والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم» أي أحل لكم زواج المحصنات من أهل الكتاب، وما رواه محمد بن مسلم في الصحيح قال سألت الإمام الباقر عن نكاح اليهودية والنصرانية قال: لا بأس أما علمت أنه كان تحت طلحة يهودية على عهد رسول اللّه(١) أما آية «ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن» فالمراد منها الوثنيات اللاتي لا كتاب لهن، وآية «ولا تمسكوا بعصم الكوافر» ليست صريحة في الزواج، كما قال الشهيد الثاني في كتاب المسالك.

هذا، وفقهاء الشيعة في هذه الأيام يجيزون زواج المسلم بالكتابية، ويجرونه بأنفسهم، وهذه سجلات محاكمهم الشرعية مملوءة بتثبيت هذا الزواج، والحكم بصحته، فالقول: ان الإمامية لا يجيزون زواج المسلم بالكتابية لا نصيب له من الواقع.

أما طلاق المريض فقد اتفقت كلمة الإمامية على أن الرجل إذا طلق زوجته حال مرضه، ثم مات قبل أن تمضي سنة على تاريخ وقوع الطلاق فإنها ترثه بشروط ثلاثة. الأول: أن يكون الموت مستنداً إلى المرض الذي طلقها فيه. الثاني: أن لا تتزوج. الثالث: أن لا يكون الطلاق بطلب منها(٢) .

وفي كتاب المغني للسنة ج ٦ طبعة ثالثة ص ٣٣٠ و٣٣١ أن جماعة منهم الإمام مالك، وابن أبي ليلى، والإمام أحمد في أشهر الروايتين أن المطلقة في مرض الموت ترث المطلق في العدة وبعدها ما لم تتزوج. فمن مذاهب السنة من يشارك الإمامية في هذا القول، ويستدل بنفس الدليل الذي استدل به الإمامية

_____________________

(١) كتاب الجواهر والمسالك باب الزواج اسباب التحريم.

(٢) نفس المرجع باب الإرث.

٢٧٣

أنفسهم، وهو أن المريض قصد حرمان المطلقة من ميراثه، فعورض بنقيض قصده، كالقاتل يستعجل الميراث، فيعاقب بالحرمان.

أما إذا تزوج المريض، ومات قبل الدخول فلا تستحق الزوجة مهراً، ولا ميراثاً قال به الإمام مالك، كما قال به الإمامية(١) .

أما الطلاق ثلاثاً لا يقع إِلا واحدة عند الإمامية فصحيح، ولكن هذه الزيادة في كتاب تاريخ التشريع الإسلامي، وهي أن يكون المجلس واحداً غير صحيحة فليس لذكر المجلس عين، ولا أثر في كتبهم، إِذا لا عبرة عندهم باتحاد المجلس، ولا بتعدده والمعول في تعدد الطلاق على تخلل الرجعة أثناء العدة بين الطلاقين أو الزواج ثانية بعد انتهاء العدة، ثم الطلاق مرة أخرى، وقد خالفوا بذلك الأئمة الأربعة، كما أن علماء مصر خالفوا الأئمة الأربعة جميعاً، وأخذوا بما أخذ به الإمامية «فقد كان العمل في محاكم مصر الشرعية في هذا الموضوع على مذهب الأئمة الأربعة، ثم صدر قانون رقم ٢٥ سنة ١٠٢٩ فنصت المادة الثالثة منه أن الطلاق المقترن بعدد لفظاً أو إِشارة لا يقع إِلا واحدة»(٢) .

وإذا جاز لعلماء مصر أن يخالفوا المذاهب الأربعة كافة، وهم من العاملين بها منذ القديم، فلماذا لا يجوز للإمامية أن يخالفوهم، ان الفقيه المسلم هو الذي يعتمد في أقواله على آية ظاهرة، أو حديث صحيح عنده، سواء أوافق المذاهب، أم خالفها.

_____________________

(١) ميزان الشعراني ج ٢ آخر باب الوصايا.

(٢) كتاب الأحوال الشخصية لمحمد محيي الدين عبد الحميد ص ٢٤٤ طبعة سنة ١٩٤٢.

٢٧٤

افتِراء عَلى الإمَاميَّة *

قال الدكتور ستيورادت ضود استاذ العلوم الاجتماعية في جامعة بيروت الأميركية، وفي جامعة واشنطن في كتابه العلاقات الاجتماعية في الشرق العربي صفحة ٢١٠ قال «يعتقد الشيعة أن موت الحسين وأتباعه كان بمثابة تضحية لغفران خطايا جميع المسلمين» وليت المؤلف أشار إلى مصدر قوله هذا الذي لم نجد له أثراً في كتاب قديم أو حديث للشيعة الإمامية كيف وهم يتلون مؤمنين بكتاب اللّه المنزل «ولا تزر وازرة وزر أخرى» ! إن عقيدة الفداء والغفران عقيدة نصرانية بحتة لا يعرفها مذهب من المذاهب الإسلامية.

وقال في الصفحة نفسها: «تبدأ الأئمة الإثنا عشر عند الشيعة بعلي، وكلهم ملهمون يتصفون بمميزات إلهية» وهذا مثل سابقه لا نعرف له مصدراً. يعتقد الإمامية أن من شبه اللّه بشيء من خلقه، أو نسب بعض صفاته القدسية إلى إنسان ما نبياً كان أو إِماماً فهو ومن جحد اللّه وأنكر وجوده سواء «تعالى اللّه عما يقول المشبهون والجاحدون له علواً كبيراً»(١) ان الإمام في عقيدة الشيعة الإمامية إنسان كامل لا يمتاز بشيء عن أفراد البشر إلا «أنه أفضل من كل أحد في زمانه»(٢) .

_____________________

* - نشر في العرفان عدد حزيران ١٩٥١.

(١) من خطب نهج البلاغة.

(٢) كتاب شرح التجريد للعلامة الحلي ص ٢٥٠ طبع العرفان.

٢٧٥

الأعْوَر الدّجَّال *

قرأت كتاب «المهدية في الإسلام» للشيخ سعد محمد حسن من علماء الأزهر فتذكرت قصة كنت قرأتها منذ أكثر من عشرين عاماً، وبطل القصة رجل يعرف بالأعور الدجال، وشعرت برغبة ملحة في قراءتها من جديد، ولكني لطول العهد نسيت اسم الكتاب الذي قرأت فيه القصة فبحثت عنها في كل كتاب احتملت أن يتعرض لها إلى أن اهتديت إليها في أحد الكتب القديمة، نقل صاحب الكتاب القصة عن رواة عدة اختلفت أقوالهم في الوصف والتصوير، والاختصار والتطويل، ولكنهم اتفقوا على أصل الفكرة، والصورة التالية تعبر عن أقوالهم مجتمعة:

يأتي في آخر الزمن، رجل اسمه صائد، ولقبه الدجال، عينه اليمنى ممسوحة، والأخرى في جبهته، تضيء كأنها كوكب، فيها علقة ممزوجة بالدم، مكتوب على جبينه «كافر» يخوض البحار ويجوب آفاق الأرض، يسير بين يديه جبل أبيض يخاله الناس طعاماً، وما هو بطعام، وخلفه جبل من نار ودخان، ينادي بأعلى صوته: إِلي إِلي أتباعي، أنا الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، أنا ربكم الأعلى. أكثر أتباعه اليهود، تحته حمار مسافة ما بين أذنيه ميل، لا يمر بماء إِلا غار، ولا بزرع إِلا تلف، ولا بشعب إلا أهلكه، ورماه في هوة الفقر والبؤس، وتنتشر في عهده الفتن في كل مكان، وتتراكم كقطع الليل المظلم.

وسواء أكان رواة هذه القصة محل الثقة أو الريب فإنها تنطبق كل الإنطباق على دول الاستعمار وشركات الاحتكار، فهي تدخل الشعوب بقصد الصيد

_____________________

* - نشر في العرفان عدد شباط ١٩٥٤

٢٧٦

والقنص، وتتستر بإسم المساعدات الفنية والدفاع عن حقوق الضعفاء. أما العين التي تضيء بالكواكب فهي إشارة إلى ثروة المحتكرين وأموالهم، إلى نفط الحجاز والعراق والكويت والبحرين وقطر وإيران، وعلقة الدم فيها ترمز إلى أن مصدر هذه الأموال دماء الكادحين والمحرومين، وكلمة كافر تشير إلى أن دول الاستعمار تكفر بحقوق الإنسان وخالقه، والجبل الأبيض الذي يظن أنه طعام، هو تصدير رؤوس الأموال إلى البلدان المستعمرة للسيطرة على مواردها ومقدراتها، وجبل الدخان والنار هي الحرب التي تتولد من صراع الشركات على السلب واحتكار الأسواق العالمية، ولا يدخل الاستعمار أرضاً إلا بلي أهلها بالفقر والمرض والجهل، وأحاطت بهم الفتن من كل جانب، والذين يسيطرون على الشركات الاحتكارية أكثرهم من اليهود، كما هو الواقع بالفعل. أما حمار الأعور الدجال فهم الاقطاعيون، حيث يتخذهم الاستعمار والشركات مطية لما يبتغونه من العدوان والسلب، وابتزاز الدماء والأموال.

كانت الدول المستعمِرة، إِذا أرادت أن تستعبد شعباً، ترسل جنودها يحتلونه بالقوة والغلبة، ولما تنبهت الشعوب وتزايدت الحركات الوطنية، والانتفاضات التحررية ضد النفوذ الأجنبي لجأ المستعمرون إلى اكتشاف أسلوب جديد للاستعمار لجأوا إلى المعاهدات، والحصول على صكوك تحمل تواقيع الرجعيين والاقطاعيين، ولكن المستعمرين لم ينتفعوا بهذا الأسلوب ولن ينتفعوا بأي أسلوب يلجأون إليه الآن وفي المستقبل بعد أن شعرت الشعوب الضعيفة بالظلم والحيف، وانتشر الوعي في كل مكان، لن ينتفعوا بشيء حتى بهذا الدس، ومحاولة التفرقة، وبث البغضاء والشقاق بين أبناء البلد الواحد عن طريق بعض رجال الدين.

تذكرت قصة الأعور الدجال، وأنا أقرأ كتاب المهدية في الإسلام، وهو الذي أوحى إلي بتفسير الدجال بالاستعمار، وحماره بالاقطاعيين وبعض رجال الدين، لأن أبحاث الكتاب بعيدة كل البعد عن موكب الحياة، وإنما تنحصر مواضيعه بأمور انتهى زمانها، وعفّى الدهر عليها، ولا تثمر سوى إِثارة الفتن بين المسلمين، وبث روح التعصب الذي يستغله المستعمر لتحقيق أغراضه وأهوائه، وإِلا فبأي شيء نفسر قوله:

«إن الإمامة عند الشيعة تميت العقل، وتشل التفكير. وانه يستطيع أن يعلل بابحاثها عندهم خضوع الناس واستكانتهم للحكام الظالمين. لأن ابن هاني الأندلسي الذي خاطب المعز لدين اللّه بقوله:

٢٧٧

ما شئت لا ما شاءت الأقدار

فاحكم فانت الواحد القهار

هو شيعي. وان الشيعة تفسر نصوص القرآن بروح بعيدة عن ظاهره، وعن مادة اللغة نفسها ونقل عن الذهبي أن نهج البلاغة مكذوب على أمير المؤمنين علي وقال: ان الشيعة في فارس إِثنا عشرية، وهم طوائف، منهم اجتهاديون - أي أصوليون - وليس لهم من اسمهم نصيب، لأنهم لا يفكرون مطلقاً في نقد الروايات أو تمحيص أسانيدها، وحتى مجرد إِثارة النزاع والشك فيها».

وما إلى ذلك مما نقله عن خصوم الشيعة، وعن المستشرقين أعداء الإسلام الذين يبعثهم المستعمرون إلى الشرق للدس والكيد للمسلمين، يتعلمون اللغة العربية، ويؤلفون في المذاهب الإسلامية بدافع الشقاق وتفريق الكلمة. أما كتب الشيعة فلم ينقل منها إِلا ما يتفق مع مقاصد المستعمرين ومراميهم من اظهار المسلمين بمظهر الجهل والبداوة المتوحشة.

أهذه هي رسالة الأزهر الشريف وأهدافه ! وبهذا أمر الإسلام، وهكذا كانت سيرة السلف الصالح ! أهذي هي الثقافة الإسلامية، وبهذا يظهر فضل الإسلام على سائر الأديان !

لقد كتبنا وأجبنا على افتراءات المؤلف وافتراءات غيره على الشيعة، ونشرنا في مجلة العرفان ورسالة الإسلام، وصحف بيروت، وكتب علماء الشيعة مئات المجلدات وعشرات المقالات في الأصول والفروع والتفسير والرجال، كتبنا وتقربنا وتوددنا رغبة في التفاهم، ووحدة الكلمة، وجمع القوى ضد العدو المشترك، ولكن أبى غيرنا إلا الشقاق وبث روح التعصب، لأن المستعمر هكذا يريد !

ونحن نسأل المؤلف الذي نقل عن بعض كتب الشيعة ما نقل، هل يؤمن حضرته بكل ما كتب السنة ! بل هل يؤمن بكل ما في الصحاح الست حتى بحديث «استمع لأميرك وأطعه، وان جلد ظهرك وأخذ مالك» ولماذا نقل المؤلف عن أحد علماء الشيعة، وهو المجلسي ما يتفق وأغراض أعداء الدين، ولم ينقل عنه ما ذكره في الجزء الثالث من كتاب البحار صفحة ٤٩ طبعة سنة ١٣٠١ هجرية في نفي الغلو.

أعرض المؤلف عن الحسنات، وأشاع ما ظن أنه من السيئات، وهذا ما دعانا أن نفسر الأعور الدجال بالاستعمار، وحماره ببعض رجال الدين، ويعرف كل من قرأ ما كتبته من قبل، ومن بعد، إني لا أجرح أحداً بكلمة نابية، ولكني لم أجد مندوحة عن هذا التفسير، وأنا أقرأ كتاب المهدية في الإسلام، وأرجو القراء الكرام أن لا يحكموا علي بشيءٍ إِلا بعد أن يقرأوا الكتاب، وهذا عذري إليهم.

٢٧٨

ولو أن المؤلف كتب عن اللاجئين العرب، وما فعلته إسرائيل، ومن أوجد إسرائيل، أو تكلم عن احتلال الإنكليز لمصر وحرقها القاهرة، أو عن الدماء البريئة التي أراقها الفرنسيون من مراكش لكان أليق بالعالم المخلص، وانفع للدين والإسلام من اثارة النعرات التي تباعد بين الأخوين، وتمزق شمل المسلمين، وتجعلهم أكلة آكل لكل مستعمر ومستثمر، ولكن المؤلف لم يجد جواً ملائماً لعبقريته وعلومه إلا هذا الجو، وسيذكر التاريخ كتابه بما هو أهله، واللّه من وراء القصد.

الشيعَة في رَأي الدكتور عَبد الرحمن بدَوي

قال الدكتور عبد الرحمن بدوي في مقدمة كتابه - دراسات إسلامية -: للشيعة أكبر افضل في إِغناء المضمون الروحي للإسلام، وإِشاعة الحياة الخصبة القوية العنيفة التي وهبت هذا الدين البقاء قوياً عنيداً قادراً على اشباع النوازع الروحية للنفوس حتى أشدها تمرداً وقلقاً، ولولاها لتحجر في قوالب جامدة. ليت شعري ماذا كان سيؤول إليه أمره فيها، ومن الغريب أن الباحثين لم يوجهوا عناية كافية إلى هذه الناحية، ناحية الدور الروحي في تشكيل مضمون العقيدة الذي قامت به الشيعة والعلة في هذا أن الجانب السياسي في الشيعة هو الذي لفت الأنظار أكثر من بقية الجوانب مع أنه ليس إلا واحداً منها، وقد يكون من أقلها خطراً من حيث القيمة الذاتية لهذا المذهب، ووجوده بشكل واضح لا يدل مطلقاً على طغيانه على بقية جوانبه، بل كان نتيجة لطبيعة الصلة بين الدين والدولة في الحضارة العربية، وفي الإسلام منها بوجه التخصيص: فهما فيه متزاوجان وينبعان من مصدر واحد. ولهذا نميل هنا إلى اطلاق لفظ الشيعة في المقام الأول من التيار الروحي في الإسلام.

٢٧٩

القُرآن الكَريم

التمسك بالقرآن

إِن الإمامية أشد الناس تمسكاً بالقرآن، ومحافظة عليه، وتعظيماً له، ومنه يستقون عقيدتهم وأحكامهم، وبه يدفعون شبهات المبطلين، وأقوال المتحذلقين، فهو عندهم المعجزة الكبرى، والمقياس الصحيح للحق والهداية، فقد رووا أن أئمتهم أمروهم أن يعرضوا ما ينقل عنهم على القرآن، فإِن خالفه فهو كذب وافتراء وزخرف وباطل يجب ضربه في عرض الجدار.

لا تحريف في القرآن

ويستحيل أن تناله يد التحريف بالزيادة أو النقصان للآية ٩ الحجر «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» والآية ٤٢ فصلت «لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد».

ونسب إلى الإمامية افتراء وتنكيلاً نقصان آيات من آي القرآن، مع أن علماءهم المتقدمين والمتأخرين الذين هم الحجة والعمدة قد صرحوا بأن القرآن هو ما في أيدي الناس لا غيره، فمن المتقدمين الشيخ الصدوق في كتاب اعتقاد الشيعة الإمامية، والسيد المرتضى في كتاب المسائل الطرابلسيات، والشيخ الطوسي في كتاب التبيان، ومن المتأخرين الشيخ جعفر النجفي في كتاب كشف الغطاء، والسيد محسن البغدادي في شرح الوافية، والشيخ علي الكركي ألف رسالة خاصة في نفي الزيادة، والسيد محسن الأمين في الجزء الأول من أعيان الشيعة، والشيخ جواد البلاغي في الجزء الأول من آلاء الرحمن. ونقل الأمين والبلاغي في هذين الكتابين أن القائلين بالنقصان هم أفراد من شذاذ الشيعة، والحشوية من السنة لا يعتد بقولهم. اذن نسبة التحريف إلى الشيعة كنسبته إلى السنة، كلتاهما لم تبن على أساس من الصحة.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419