الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان14%

الشيعة في الميزان مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 419

الشيعة في الميزان
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 142556 / تحميل: 9287
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الإمَام

لأي صفة يتسع هذا المقام إذا حاولت التعبير عن بعض صفات الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ! ألزهده وعدله، أو لعقله وعلمه، أو لشجاعته وكرمه، أو لتواضعه وعفوه، أو لتضحيته وخدماته، أو لفصاحته وبلاغته !.

وهل يحتاج الكاتب عن هذه الشخصية إلى الاستشهاد بقول مستشرق غربي، أو مؤرخ شرقي!. هل يحتاج إلى نقل الرواة ثقة عن ثقة، ويبحث في سند الرواية ونصوصها، ثم يجهد الفكر في الاستنباط والتأويل والتخريج !. كلا، ليس الكاتب بحاجة إلى شيء من هذا، فلا مدعي ومنكر، كي نلجأ إلى طرق الاثبات والاقناع، ولا اجتهاد وتقليد، كي يفحص المجتهد عن الدليل، والمقلد عمن يوثق بقوله.

نشأ الإمام في محيط يعبد الاصنام، وما سجد لصنم، وافتتح حياته بالجهاد ضد الشرك والالحاد، والبغي والاستبداد، بات على فراش النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله معرضاً نفسه للقتل فداء للرسول الأعظم، وقتل يوم بدر صناديد قريش، منهم الوليد وحنظلة بن أبي سفيان والعاص بن سعيد، وحقق اللّه على يد الرسول ويده أول عز للإسلام والمسلمين، وقتل يوم اُحد جماعة من الأعداء، منهم طلحة بن طلحة وبني عبد الدار أصحاب الراية، وقتل في وقعة خيبر مرحبا بطل اليهود، ويوم الخندق عمرو بن ود الذي كان يقوم بألف رجل، قاتل وقتل هؤلاء وغيرهم لا لسلطان ولا لمال ولا أخذاً بثأر، قاتلهم بعد أن جحدوا إِله العالمين، واستعلوا على البائسين، واستعبدوا المستضعفين، قاتلهم بعد أن دعاهم إلى الحق فرفضوه، فلم ير لهم دواء إلا السيف فأعمله في رقابهم، وشفى صدور قوم مؤمنين، وأذهب غيظ قلوبهم.

وقد اعتاد الناس أن يقولوا: أنت كريم لمن سرق ألفاً، وبذل منه واحداً، بل اعتادوا أن يلقبوه بالمحسن الكبير. إِذن بأي لفظ نعبر عمن بذل حياته وجميع ما يملك للناس، بقي الإمام هو وزوجته بنت الرسول، وولداه الحسنان ثلاثة أيام لا يذوقون شيئاً، حيث آثروا بطعامهم على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، وباع حديقة لا يملك غيرها باثني عشر ألف درهم وزعها على المحتاجين، ولم يبق لأهله درهماً واحداً، وهم أحوج من يكون إلى المال.

واعتاد الناس أن يقولوا للرئيس: أنت عادل، وإن عاش في النعمة والترف، وشعبه في البؤس والشقاء، إذن بأي لفظ نعبر عن الإمام، وقد أبى أن ينزل القصر الأبيض في الكوفة، وسكن في كوخ مع الفقراء، وهو خليفة المسلمين، وامتنع عن أكل الطيبات، لأن في أطراف مملكته من لا

٣٠١

عهد له بالشبع، ولا طمع له بالقرص.

قال له العلاء الحارثي: يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصماً. قال: ماله ؟ قال: لبس العباءة وتخلى عن الدنيا. قال: عليّ به، فلما جاء قال: يا عدو نفسه، لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك، أترى اللّه أحل لك الطيبات، وهو يكره أن تأخذها !. أنت أهون على اللّه من ذلك. قال: يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك، وجشوبة مأكلك. قال: ويحك، إِني لست كأنت، إن اللّه فرض على أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس.

بهذا القياس، بالشعب بالضعفاء والمساكين والفقراء قاس الإمام، وهو الحاكم المطلق، نفسه وأخاه عقيلاً وولديه حسناً وحسيناً، فلقد شمل عدله القريب والبعيد، والعدو والصديق، كما شمل الغيث المؤمن والملحد، بل شمل عدله الحيوان كما شمل الإنسان، فكان يوصي من في يده إِبل الصدقة أن لا يحول بين ناقة وبين فصيلها، وأن لا يبالغ في حلبها خشية أن يضر ذلك بولدها، وأن لا يركب ناقة ويدع غيرها، بل يعدل بينها في الركوب، وبين صواحباتها، فيا للعدالة المساواة تشمل الأحياء جميعاً، مساواة بين أفراد الحيوان، فضلاً عن أبناء الإنسان.

أما العفو فهو فوق العدل، وعفو الإمام فوق كل عفو، قد يعفو الإنسان عمن يسيء إليه بكلمة نابية، أو يعتدي على بعض ما يملك، أما الإمام فقد ظفر بألد أعدائه مروان بن الحكم وعمرو بن العاص فعفا عنهما، وكل واحد منهما أخطر عليه من جيش بخاصة ابن العاص، وحال جند معاوية بينه وبين الماء في صفين، وقالوا له: لن تذوق الماء حتى تموت عطشاً، فأجلاهم عنه، وسقاهم منه، وأوصى بقاتله ابن ملجم خيراً، وقال لأهله: اعفوا هو أقرب للتقوى.

أما علمه فقد ملأت أقواله كتب اللغة بشتى فروعها، وكتب الفلسفة والأخلاق والفقه بخاصة القضاء، وهو أول رجل في الإسلام، وربما في العالم وضع العلماء كتباً مستقلة في قضائه، وقوله الفصل والحجة القاطعة في ذلك كله، وبكلمة متى ثبت القول عن علي فلا يسأل عن قول سواه، لأنه ينطق بلسان الرسول الأعظم الذي لا ينطق عن الهوى. وأجمع وأروع كلمة قيلت في وصف الإمام هي كلمة صاحبه ضرار، حيث قال له معاوية: صف لي علياً، فقال: كان بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من لسانه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحدته، كان واللّه عزيز الدمعة، طويل الفكرة،

٣٠٢

يقلب كفيه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويبتدئنا إذا أتيناه، ونحن واللّه مع تقريبه لنا، ودنوه منا لا نكلمه لهيبته، ولا نبتدئه لعظمته، وإن تبسم فعن اللؤلؤ المنظوم، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد باللّه لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني الآن أسمعه، وهو يقول: يا دنيا اليَّ تعرضت، أم إليَّ تشوقت: هيهات هيهات غري غيري، لا حين حينك، فقد طلقتك ثلاثاً، لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطبك كبير، آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق(١) .

وبالتالي فلا أريد مما قدمت أن أمهد لذكر فضائل الإمام ومناقبه، وإنما غرضي الوحيد أن أبين أن الولاء للإمام هو ولاء للإنسانية والحق والعدالة، ولا

_____________________

(١) كتاب حديقة الأفراح، لأحمد الشرواني ص ٤٣ طبعة سنة ١٢٩٨ هجرية.

٣٠٣

استدل على ذلك بنص ولا أصل ولا إجماع، وإنما أحيل من يطالبني بالدليل إلى سيرة الإمام وتاريخه، ثم يحكم بما يوحيه عقله وضميره، بل أحيله إلى سيرة الأمويين مع الإمام، وسيعلم من حقدهم عليه، واغراقهم في بغضه مكانته من الحق، لأنهم أعداؤه الألداء، وخصومه الأشداء.

قيل لمعاوية: قد بلغت ما أملت، فلو كففت عن هذا الرجل، فقال: لا واللّه، حتى يربو عليها الصغير، ويهرم الكبير، هذا قول من وصف بالحلم الذي ورثه عن أمه هند، فكيف بغير الحليم منهم !.

المنَاجَاة *

لقد بذل الأئمة الهداة (ع) أقصى ما لديهم من جهد ليُخلّقوا شيعتهم بأخلاقهم، ويقصدوا بهم قصدهم، وسلكوا لذلك كل سبيل، ولم يقتصروا على إلقاء الخطب والمواعظ، والدروس والمحاضرات، وضرب الأمثال والحكم، وإيراد القصص والحكايات، بل أوجدوا لهم آثاراً أخرى من غير هذا النوع، وغير الأساليب المألوفة في فن التربية الحديثة ودور المعلمين والمعلمات وعنوا بها عناية خاصة، لأنها أجدى وأبلغ في التأثير والتهذيب.

وقد اصطلح الشيعة على تسمية تلك الآثار التي لا يقدر قدرها إِلا من فتح اللّه عليه باب علمه وهدايته، اصطلحوا على تسميتها بالأدعية والزيارات، ولكنها في واقع الأمر إِشراق إلهي يكمل ما في النفس البشرية من نقص، ويطهر ما فيها من رجس، ويصلح ما فيها من فساد، هي وحي ما في ذلك شك، ولكنها وحي المحبة والإخلاص، وفيض الضمير والوجدان الحي أراد أئمة الشيعة أن يجردوا من كل نفس رقيباً ملازماً لها في السر والعلانية مسيطراً عليها سيطرة السيد على عبده والقائد على جنده يقربها من الطاعة ويبعدها عن المعصية، فسنوا لأتباعهم أدعية ومناجاة رتبوها على الأيام والأوقات، وأمروهم بتكرارها ومعاودتها حتى تصبح لهم طبيعة ثانية: فدعاء للصباح، وآخر للمساء، وفي كل يوم من أيام الشهر، وفي كل ليلة من ليالي الجمعة دعاء خاص، ولكل من رجب وشعبان ورمضان ولياليه عشية وسحراً وأيامه ظهراً وعصراً أدعية معينة، وأودعوا هذه

_____________________

* - نشر في العرفان أيار ١٩٥٠ بعنوان قرآن رقم ٢ عند الإمامية، وابدلت العنوان هنا، لأن جماعة من الأفاضل انتقدوه.

٣٠٤

الأوراد مكارم الأخلاق بكاملها، وعلى الأصح أودعوها أخلاقهم الكريمة بالذات، وهي لا تعد ولا تحصى، وقد جمعها علماء الإمامية في كتب خاصة، منها الصحيفة السجادية، والاقبال لابن طاووس، ومصباح الكفعمي، وجامع الأدعية والزيارات نذكر منها في مقامنا هذا بعض الفقرات على سبيل الشاهد والمثال:

«ما لي كلما قلت قد صلحت سريرتي وقرب من مجالس التوابين مجلسي عرضت لي بلية أزالت قدمي.. إِلا هي لعلك رأيتني مستخفاً بحقك فأقصيتني، أو لعلك رأيتني معرضاً عنك فقليتني، أو لعلك وجدتني في مقام الكاذبين فرفضتني، أو رأيتني غير شاكر لنعمائك فحرمتني، أو لعلك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني، أو لعلك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلك رأيتني آلف مجالس البطالين فبيني وبينهم خليتني، أو لعلك بقلة حيائي منك جازيتني.. اللهم ألبسني زينة المتقين في بسط العدل وكظم الغيظ، وحسن السيرة، والسبق إلى الفضيلة، والقول بالحق وإن عز، والصمت عن الباطل وإِن نفع، واستقلال الخير وإن كثر من قولي وفعلي، واستكثار الشر وإن قل من قولي وفعلي.. اللهم اجعل ما يلقي الشيطان في روعي من التمني والتظني والحسد ذكراً لعظمتك، وتفكيراً في قدرتك، وما أجرى على لساني من لفظة فحش أو هجر أو شتم عرض أو شهادة باطل أو اغتياب غائب أو سب حاضر نطقاً بالحمد لك، وإغراقاً في الثناء عليك.. اللهم الحقني بصالح من مضى، واجعلني من صالح من بقي، وخذ بي سبيل الصالحين.. اللهم إني أعوذ بك من الكسل والفشل والهم والحزن والجبن والبخل والغفلة والقسوة والذلة والمسكنة والفقر والفاقة، وأعوذ بك من نفس لا تقنع، وبطن لا يشبع، وقلب لا يخشع، ودعاء لا يسمع، وعمل لا ينفع، وصلاة لا ترفع».

فهل ترى وسيلة أيسر من هذه الوسيلة، وأبعدها أثراً وأعمها نفعاً ؟ وهل ترى شيئاً أقرب إلى النفس، وأدنى من القلب والعقل من هذه الخشية والسكينة ؟ وهل ادعى إلى التفكير والتأمل والرجوع بالنفس، إلى بارئها من هذا الشعور الديني الذي يبعث في القلب رغبة ورهبة وحناناً ورحمة.

إن هذا النحو من التأديب لم يكتشفه فن التربية الحديثة بعد ولم تهتد إليه رجاله الاخصائيون، فلم يكتف الإمام بتعداد المساوئ، وإضافة كل سيئة إلى نتيجتها الطبيعية التي لا تنفك عنها بحال، وإنما علم الإنسان كيف يتصل بخالقه رأساً ومن غير واسطة، وكيف يخلد إلى ضميره

٣٠٥

ووجدانه، ويعكف على نفسه فيهذبها ويجرد منها وازعاً يقف سداً بينها وبين شهواتها واندفاعاتها، متجهاً بها إلى الخير والكمال، ناهجاً السعادة والفضيلة.

على هذا الأساس، أساس الشعور باللّه وبالخير المطلق، والتجرد من الشهوات والأهواء وتهذيب الأخلاق والطباع، وتثقيف العقول والمواهب. على هذا الأساس أراد أئمة الشيعة أن يقيموا بنيان الإنسانية لتسيطر المحبة والعدالة، ويعم الأمن والسلام.

وقعت البشرية في أشد مما هي فيه اليوم من الجهل والعدوان وإفشاء الرذيلة والفحشاء، ولم تنشلها من تلك الهوة السحيقة العميقة القنابل والطائرات، إن هذه تزيد المشاكل تعقداً وتقف حجرة عثرة في سبيل الصلاح والإصلاح لأن الأدواء والأوباء لا تعالج بإِيجاد اسبابها الباعثة على نموها وانتشارها. لقد وقع العالم في شر مما هو فيه الآن، فكان خلاصه على يد الرسل والأنبياء، رسل الرحمة والسلام، وانبياء الإنسانية والعدالة، إن احياء روح الفضيلة في النفوس هي السبيل الوحيدة الموصلة إلى الراحة وحسن العاقبة والسعادة في الدنيا والآخرة.

ليس الغرض من هذه الأوراد التقرب إلى اللّه سبحانه بتلاوتها وترديد ألفاظها، وإنما القصد أن نتفهم معانيها ومغازيها، فتغمر بها نفوسنا، ويستغرق بها تفكيرنا، لنعمل جاهدين معتقدين أن من ورائنا قوة خفية تراقب وتحاسب، فتعين المخلص على جهاده، وتمهد له سبيل النجاح، وتشجعه على المضي والنشاط:

«ربي قوّ على خدمتك جوارحي، واشدد على العزيمة جوانحي وهب لي الجد في خشيتك، والدوام في الاتصال بخدمتك، حتى أسرع إليك في ميادين السابقين، واشتاق إلى قربك في المشتاقين، وأدنو منك دنو المخلصين، واخافك مخافة الموقنين».

وهل القرب من اللّه غير الجهاد في سبيل الصالح العام ؟ وهل السباق في ميادين اللّه غير المسارعة إلى الفضائل والخيرات ؟ وهل الاتصال بخدمة اللّه غير المثابرة على العمل الذي يعود بالنفع عليك وعلى أهلك وأطفالك ؟

«اللهم أعطني السعة في الرزق، والأمن في الوطن، وقرة العين في الأهل والمال والولد والصحة في الجسم والقوة في البدن والسلامة في الدين».

إن هذه ثمرات ينتجها السعي مع التوكل على الواحد الأحد، وهل تجد شيئاً أمس بالعاطفة، وأسرع تأثيراً وإنفعالاً من قول الإمام زين العابدين (ع): «اللهم صل على محمد وآل محمد، واجعل أوسع رزقك عليّ إذا كبرت، واحسن أيامي يوم ألقاك».

٣٠٦

وأي حرمة أو هيبة للمرء عند زوجه وأولاده إذا شاب رأسه وقل ماله ؟ ولا يوم كيومه الأخير الذي عليه مدار سعادته أو شقائه الابديين.

وبعد، فإن هذه الكنوز ليست بأدعية ولا أوراد فحسب، وإنما هي كتاب الدهر ومدرسة الحياة، وثروة القلب والعقل، فيجب أن يقرأها المؤمن والملحد، لأنها الوازع الوجداني في هذه الحياة، فضلاً عما فيها من لذة ومتعة وجمال.

كان الشيعة الإمامية منذ عهد أئمتهم إلى زمن قريب يحافظون على هذه الآثار ذكوراً وإناثاً كباراً وصغاراً، يجثمون في المساجد وفي البيوت يكررونها خاشعين متضرعين، فيشعر كل واحد أنه خلق لعمل الخير لا للشر، ووجد للطاعة لا للمعصية، ثم أهملوها كما أهملوا غيرها من الشعائر والعادات المقدسة التي كانوا بها مثلاً أعلى لصدق الإيمان ورسوخ العقيدة.

التقيَّة

قال ابن أبي الحديد في أول الجزء الثالث من شرح نهج البلاغة ما يتلخص بأن معاوية بن أبي سفيان كتب إلى عماله برئت الذمة ممن يروي شيئاً في فضائل علي وأهل بيته، وأن يمحوا اسم كل شيعي من دواوين العطاء، وينكلوا به، ويهدموا داره، وامتثل العمال أمر سيدهم، فقتلوا الشيعة تحت كل حجر ومدر، وطردوهم وشردوهم، وقطعوا الأيدي والأرجل، وسملوا الأعين، وصلبوهم على جذع النخل. وزاد الضغط بعد معاوية أضعافاً، وبالأخص في ولاية عبيد اللّه بن زياد قاتل الحسين، وولاية الحجاج «بن يوسف» حيث قتل الشيعة كل قتلة، وأخذوا بكل ظنة وتهمة حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال له شيعي.

ومن هذا الضغط التزم الشيعة طريق (التقية). ومعناها عندهم الحيطة والحذر من القوي الظالم الذي يأخذ المتهم دون أن يحاكمه ويأذن له بالدفاع عن نفسه.

واليوم لا أثر للتقية عند الشيعة حيث لا خوف عليهم، ولا هم يرهبون.

واستدلوا على تشريع التقية بالآية ١٠٦ النحل «إِلا من اُكره وقلبه مطمئن بالإيمان». قال المفسرون في سبب نزولها: إِن المشركين آذوا عمار بن ياسر، وقسوا عليه، وأكرهوه على قول السوء بحق الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعطاهم ما أرادوا، فوصل خبره إلى الرسول، وهو مع جماعة من أصحابه، فقال بعضهم: كفر عمار، فأجابه الرسول: كلا، إِن عماراً يغمره الإيمان من قرنه إلى قدمه، ودخل عليهم عمار باكياً على ما صدر منه، فمسح الرسول عينيه، وقال له: لا تبك، إِن عادوا لك فعد لهم بما قلت.

٣٠٧

الأصْل في الأشيَاء

من عقيدة الإمامية أن الأصل في الأشياء الاباحة حتى يرد فيها نهي، فهم لا يخطئون من يفعل شيئاً لا يعلم المنع عنه، فعدم العلم بالمنع كاف للحكم بالإباحة، ولا نحتاج إلى دليل خاص يدل على الترخيص، فمن قال: هذا حلال، أو هذا طاهر، لا يسأل عن الدليل، وإنما يطلب الدليل ممن يدعي التحريم أو النجاسة، لأن الأصل في الأشياء الحل والطهارة حتى يثبت العكس.

وينقلب هذا الأصل إلى ضده في بعض الوقائع، أي أن الأصل فيها المنع حتى يثبت العكس، منها حقوق الناس، فلا يجوز لأحد أن يتعدى على غيره بالقتل أو الضرب أو الشتم، أو التصرف في أمواله حتى يعلم بوجود المسوغ، ومنها مقاربة النساء، فلا يجوز مقاربة أية امرأة أو العقد عليها إلا بعد العلم بالحل والجواز، ومنها اللحوم فلا يجوز تناول أي نوع من اللحم حتى يثبت أنه من حيوان يؤكل لحمه، وأنه ذكي حسب الأصول المقررة.

والسر أن الزواج في النوع الأول مطلق غير مقيد بشيء، أما جواز التصرف بحق الغير، بدمه أو ماله، وجواز مقاربة المرأة، وتناول اللحم فمقيد بشرط خاص لا بد من إِحرازه والتثبت من وجوده، وبمجرد الشك في الشرط ينتفي الجواز والترخيص.

٣٠٨

هَل يَجبُ على المتَديّن أن يقَلد في أعمَالِه الدّينية ؟ *

جاءني هذا السؤال من أحد المهاجرين المؤمنين، ثم أخبرني بعض القادمين من المهجر أن هذه المسألة كثر حولها الكلام والحوار بين الجالية اللبنانية في سيراليون.

لكل إنسان أن يستقل بحريته وإِرادته، فيقول ويفعل ما يشاء ما لم يتعد بأقواله وأفعاله على حرية الغير، وبتعبير أهل الشريعة ما لم يحلل حراماً أو يحرم حلالاً، وليس له أن ينسب كلمة واحدة أو فعلاً من الأفعال إلى الدين أو القانون أو لأي شيء آخر ما لم تثبت النسبة لديه بالطرق العلمية الصحيحة.

والمتدين عندما يؤدي عملاً إِنما يؤديه بدافع ثبوته في الدين مدعياً أن الدين نفسه أمره بذلك، ولا ريب أن يكون كاذباً مفترياً على اللّه ورسوله في دعواه هذه إذا لم يتحقق من ثبوتها في الشريعة بأحد طرق الإثبات، ومصادر الشريعة أربعة: كتاب اللّه، وسنة نبيه، والإجماع، وأدلة العقل، ولمعرفة الحكم الشرعي الثابت في هذه الأصول طريقان(١) .

الطريق الأول: أن يكون للمتدين الأهلية التامة لاستخراج الحكم من دليله بنفسه وبلا واسطة، ولا تتحقق هذه الأهلية إلا لمن عرف اللغة العربية من معاني الكلمات وهيئاتها وتراكيبها واطلع على كتب الشريعة، وموارد اجماع العلماء والمشهور من أقوالهم، واتقن أصول الفقه اللفظية والعقلية، ومتى تمت هذه المعلومات للمتدين استطاع بعد بذل الجهد في البحث والتنقيب وإمعان النظر أن يرد الفروع إلى أصولها، والجزئيات إلى كلياتها، ويستخرج الأحكام الشرعية

_____________________

* - نشر في العرفان تشرين الثاني ١٩٥٤.

(١) هذان الطريقان محل وفاق بين الفقهاء أما الاحتياط فقد اختلفوا فيه ولذا لم نذكره.

٣٠٩

من أدلتها وبهذا يصبح عالماً مجتهداً يعمل برأيه، ولا يرجع إلى غيره.

الطريق الثاني: يختص بمن لا أهلية له لاستخراج الحكم الشرعي من دليله، وقد عبر عنه الفقهاء بالمقلد، والتقليد تارة يراد منه التقليد بالرأي، أي الأخذ بقول القائل بصفته الشخصية دون أن يطالب بالحجة والدليل، بل يجعل قوله «العندي» هو الدليل والحجة، كما لو حكم إنسان بصحة شيء أو فساده، لأن فلاناً حكم بذلك بحيث يكون القول هو الدليل الوحيد لا غير، وهذا هو التقليد الأعمى المحرم عقلاً وشرعاً وعرفاً، وهو المعني بما جاء في القرآن الكريم «وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل اللّه، قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا. قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون».

وتارة يراد بالتقليد الأخذ بالرواية أي الأخذ بما ينقله القائل عن غيره، لا من عند نفسه، كالأخذ بقول الطبيب إن هذا الشيء يحتوي على مادة كذا، وبقول المحامي إن القانون ينص على كذا، وبقول المهندس إن هذا الأساس يحمل طابقين من البناء أو أكثر، وكأخذ القاضي بشهادة من يعلم بعدالته، والأعمى بقول البصير الذي يرشده إلى الطريق، وما إلى ذلك من رجوع من لا يعلم إلى من يعلم، وهذا النوع من التقليد، وهو العمل بالرواية لا بالرأي، هو الذي أوجبه الفقهاء، فقد كانوا وما زالوا يرشدون الناس إلى ما ثبت في كتاب اللّه وسنة رسوله لا إلى شيء من آرائهم وأقوالهم الخاصة، فالجاهل يسأل العالم عن الحكم الثابت في الشريعة، فيفتيه به، ويرويه له لفظاً أو معنى، لقد أوجب الفقهاء السؤال على الجاهل للآية الكريمة «فاسألوا أهل الذكر إِن كنتم لا تعلمون» وأوجبوا على العالم أن يجيب ويبين لقوله تعالى «وإذ أخذ اللّه ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه»

وبهذه المناسبة ننقل إلى القراء ما قاله محمد بن علي الشوكاني من علماء السنة في رسالته المسماه القول المفيد في أدلة الإجتهاد والتقليد طبعة سنة ١٩٢٩ ص ١٧ و١٨ و٢٨ «ان حدوث التمذهب بمذهب الأئمة الأربعة إِنما كان بعد انقراض الأئمة الأربعة، وانهم كانوا على نمط من تقدمهم من السلف في هجر التقليد، وان هذه المذاهب إنما أحدثها العوام المقلدة من دون أن يأذن بها إِمام من الأئمة المجتهدين. وكأن هذه الشريعة التي بين أظهرنا من كتاب اللّه وسنة رسوله قد صارت منسوخة، والناسخ لها ما ابتدعوه من التقليد في دين اللّه، فلا يعمل الناس بشيء مما في الكتاب والسنة، بل لا شريعة لهم إِلا ما تقرر في المذاهب، أذهبها اللّه».

٣١٠

فوَائدُ الصَّوم *

اعتاد فريق أن يكتبوا في كل سنة عن فوائد الصوم في عدد رمضان من مجلة العرفان الغراء، ونحن إذ نشكر العرفان التقية السخية، ولهذا الفريق حسن النية، نرجو ألا يكتب أحد في هذه السنة وفي السنين التالية الشيء الذي كان قد كتب في الأجيال الخالية، إن ما ينشرونه في كل عام، هو تكرار لما قيل وسطر من مئات الأعوام.

قالوا: إن فائدة الصوم تنقية المعدة، وفائدة الوضوء النظافة وفائدة الصلاة الرياضة، وأنا استغفر اللّه تعالى عن إخواني الأفاضل من هذا التعليل والتحليل، إن تناول حبة واحدة من الصيدلية لا تدع في المعدة كبيرة ولا صغيرة، وإن الغسل بالماء الساخن والصابون يغني عن عشرين وضوءاً من حيث النظافة، وإن حركة رياضية فنية تغني عن ألف ركعة من حيث الرياضة.

إن العبادة صلة خاصة بين العبد وربه، وفائدتها أخروية محضة، فلا يسوغ تفسيرها بأشياء دنيوية، ولا صلة لها بهذه الحياة سوى إظهار العبودية، والانقياد التام، والطاعة العمياء للّه سبحانه، فكل ما يعود إلى العبادة يجب التسليم به من غير قيد ولا شرط، وقول كيف ولماذا ؟ عقوق، وهذا معنى قول الفقهاء إن العبادة من الأمور التوقيفية، أي يجب الوقوف منها عند أمر اللّه تعالى.

أما حديث «صوموا تصحوا» فلعله جواب لمن يزعم أن الصوم يمرض الصحيح، لا إنه يصحح المريض، ولهذا يحرم الصوم على المريض مع الضرر،

_____________________

* - نشر في العرفان أيار ١٩٥٢.

٣١١

وعلى الصحيح إذا أدى به إلى المرض.

وقالوا: إن من فائدة الصوم أن يتذكر الصائم الفقير، ليتصدق عليه بالفرش والرغيف، ولو صح هذا لوجب الصوم على النواب فقط ليتذكروا الجياع والعطاشى الذين انتخبوهم، وجعلوهم نواباً.

كيفَ يَجبُ أن نَفهَم الِعبَادَة *

المواضيع التي تعرض لها الإسلام

يبحث الإسلام عن العقائد، عن الإيمان باللّه ورسوله واليوم الآخر، وعن محاسن الأخلاق ومساوئها، كالعفاف والصدق، والثبات والوفاء، والكرم والأمانة، وعن الغضب والحسد، والإسراف والبخل، والرياء والكذب، والغش والخلاعة، وما إلى ذلك، ويبحث عن العبادة، كالصلاة والصيام والحج، وعن النظم الاجتماعية، كالزواج والطلاق، والوصايا والمواريث، والجيش وتعيين الولاة، وتنظيم القضاء، ويبحث عن التجارة والزراعة، وما إِليهما من العقود.

ومن يرغب في لقب عالم بالديانة الإسلامية فعليه أن يعرف هذه الأمور، ويأخذها من أصولها المقررة، وأدلتها المفصلة، وبقدر معرفته بها قوة وضعفاً تكون منزلته من العلم بالإسلام وشريعته.

وليس من غرضنا في هذا المقام أن نبين حقيقة كل نوع من هذه الأنواع، والوصف الذي يخصه، ويميزه عن سواه، وإنما الغرض أن نبين الفرق بين العبادة وغيرها من المعاملات، ومنه يتضح القصد مما قلناه عن العبادة في العرفان الأغر عدد شعبان سنة ١٣٧١ هجري، وجواب ما كتبه الدكتور عمر فروخ، وما كتبه الأستاذ الشيخ عبد اللّه الخنيزي حول رأينا في معنى العبادة.

_____________________

* - نشر في العرفان أيلول ١٩٥٢.

٣١٢

معنى العبادة

والفرق بين العبادة وجميع المعاملات أن العبادة لا تصح بحال بل لا تسمى عبادة إلا بشرطين: الأول: أن يثبت وجوبها بطريق النقل لا بطريق العقل. الثاني: أن يكون الدافع الأول على الإتيان بها إِطاعة اللّه سبحانه، وامتثال أمره الخاص المتعلق بالفعل نفسه، فمن عمل عملاً متعبداً به، وقاصداً منه وجه اللّه من دون أن يثبت أمره فإن عمله يكون بدعة وضلالة، وكذا من صام وصلى من غير أن يكون الدافع الأول على عباته إِطاعة الأمر المتعلق بالعبادة يكون عمله لغواً، فليس للإنسان كائناً من كان أن يعبد اللّه تعالى بعمل خاص يخترعه من عند نفسه، أو يزيد أو ينقص فيما رسم اللّه، مستنداً في ذلك إلى الأوامر المطلقة المجملة، كقوله سبحانه «وما اُمروا إِلا ليعبدوا اللّه. واعبدوا اللّه مخلصين له الدين. وما خلقت الجن والانس إِلا ليعبدون» وليس له أيضاً أن يشرك مع طاعة اللّه أي باعث من البواعث المادية، فمن توضأ بداعي الطاعة والنظافة معاً، أو صلى بداعي التعبد والرياضة، أو صام بداعي الوجوب والصحة يقع عمله في غير موقعه.

معنى المعاملة

أما معاملات التجارة، وعقود الزراعة، والأحوال الشخصية، وتنظيم دوائر الحكومة، وما إلى ذلك مما لا يدخل في باب العبادات ولا يمت إليها بصلة قريبة أو بعيدة، فكلها تصح وتنفذ من غير حاجة إلى أمر من اللّه سبحانه، على شريطة أن لا تزاحم حقاً من الحقوق الخاصة أو العامة، فلو فرض أن الناس اصطلحوا فيما بينهم على إيجاد نوع من التجارة أو الزراعة أو الصناعة أو عادة من العادات، ولم يكن شيء منها معروفاً في عهد الرسول فتصح وتسمى شرعية أيضاً، وإن لم يرد فيها نص خاص، تسمى شرعية للمبادئ العامة التي أقرها الدين، مثل «أوفوا بالعقود. وأحل اللّه البيع. والناس عند شروطهم. وكل صلح وشرط جائز إلا ما حلل حراماً أو حرم حلالاً» وأعلن الفقهاء هذه الحقيقة في كتب الفقه وأصوله بقولهم أنه ليس للمشرع حقيقة دينية شرعية واصطلاح خاص لمعنى الألفاظ إلا في العبادات، أي يرجع إليه في تفسير العبادة وأجزائها وشروطها، أما غيرها من المعاملات فهو كأحد الناس لا فرق بينه وبين أي إنسان من أبناء العرف في هذه الجهة.

٣١٣

وإذا وجد أمر خاص في الكتاب أو السنة بغير العبادات، كالأمر بالزواج والتجارة، فلا يجب على الإنسان أن يفعل المأمور به تقرباً إلى اللّه، وامتثالاً لأمره الخاص، كما يجب ذلك في العبادات، فمن تزوج لإشباع الغريزة الجنسية أو للولد، فالزواج شرعي صحيح، ومن باع أو اشترى، لغاية مادية فمعاملته صحيحة نافذة، بل لو قصد التوصل إلى الحرام من البيع كمن باع بعض ما يملك ليستعين به على الاثم والعدوان، فالبيع صحيح، وقد أجمع الفقهاء على أن من باع وقت الأذان إلى الصلاة من يوم الجمعة يأثم، ولكن بيعه صحيح نافذ الأثر، يأثم للآية الكريمة «يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر اللّه وذروا البيع» ويصح البيع، لأن النهي عن المعاملة لا يدل على الفساد.

نتيجة الفرق بين العبادة والمعاملة

وبعد أن اتضح أن الأحكام الشرعية، منها عبادات، ومنها معاملات، وأن العبادة تتوقف على أمر اللّه، وعلى إِتيانها بامتثال هذا الأمر على العكس من المعاملة ينتج أن العبادة من الأمور الروحية التي تقرب فاعلها من طاعة اللّه، وتبعده عن معصيته، وانها لا تمت إلى المادة بصلة، بل هي للّه وحده «فاسجدوا للّه واعبدوا. فاعبد اللّه مخلصاً. وأقم الصلاة لذكري» ولازم ذلك أن كل متدين يجب عليه أن يفعل العبادة عن طيب نفس من غير قيد ولا شرط.

ويبحث الإسلام عن المعاملات على أساس مادي، أي أساس تنظيم الحياة الدنيوية تنظيماً يصون مصلحة المجتمع، ولا تتصل المعاملات بالروح والحياة الأخرى إِلا تبعاً لهذه المصلحة، فمن تجاوز حدودها فقد تجاوز حدين، وخالف حقين، حق اللّه، وحق الناس، أي الحق الخاص والحق العام، ومن أخل بشيء من العبادة فقد تجاوز حداً واحداً، وخالف حقاً واحداً، هو حق اللّه فحسب، فالمعاملات التجارية والزراعية والصناعية يصح منها ما يتلاءم مع الحياة وتقدمها ويفسد منها ما لا يتفق مع الصالح الدنيوي، والصحيح نافذ بحق كل إنسان مؤمناً كان أم جاحداً.

ويتسع على الفقيه مجال الاجتهاد في المعاملات، ويضيق في العبادات، إِذ ينحصر في البحث عن الأمر التعبدي، فإِن وجده التزم به، وإِلا توقف عن القول، واعمال الفكر.

٣١٤

بني الإسلام على خمس

ولا شيء أصرح في الدلالة على ما قدمنا من الحديث الذي اتفقت عليه جميع المذاهب الإسلامية «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إِله إِلا اللّه، وأن محمداً رسول اللّه، وإِقامة الصلاة وإِيتاء الزكاة، وحج البيت» فلم يبنَ الإسلام على شيء من الزراعة والصناعة والتجارة، لأن هذه تبنى عليها الحياة المطلقة في جميع صورها وألوانها، الحياة الطبيعية المادية التي يحياها في هذه الدار كل فرد متديناً أم غير متدين، أما الصلاة والحج والصيام فإنها أركان الحياة الروحية الدينية، فمن أقرَّ بها لزمه أن ينقاد إليها انقياداً تاماً، ولا يجوز له أن يعللها بشيء من المادة، إِذ يتنافى ذلك مع إِسلامه وإِيمانه.

الصلاة تنهى عن الفحشاء

وعلى الأساس الذي ذكرناه لمعنى العبادة نستطيع أن نفسر قوله سبحانه «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر» وغيرها من الآيات والأحاديث التي تعرضت لبيان الحكمة من العبادة، فالقصد منها أن الإنسان لو عبد اللّه حقاً لتمشى على دين اللّه، وانتهج صراطه المستقيم، فانتهى عن المنكر والفحش، وعمل الخير والمعروف إِلا فقد حكم على نفسه بنفسه بأنه دجال منافق خير منه من أعلن الكفر والجحود وبهذا تجد تفسير قوله تعالى «فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون»

ما قال ربك ويل للأولى سكروا

بل قال ربك ويل للمصلينا

وثبت عن الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من اللّه إِلا بعداً. وقال: لا صلاة لمن لم يطع الصلاة. وطاعة الصلاة أن ينتهي المصلي عن الفحشاء والمنكر» وقال الإمام الصادق ع: «من أحب أن يعلم أقبلت صلاته أم لم تقبل فلينظر هل منعته عن الفحشاء والمنكر، فبقدر ما منعته قبلت منه».

٣١٥

المتعَة عِندَ الشيعَة الإمَاميَّة *

ويسمونها بالزواج المنقطع، وبالزواج إلى اجل، وهي كالزواج الدائم لا تتم إلا بعقد صحيح دال على قصد الزواج صراحة، ويحتاج العقد إلى إيجاب. وهو قول المرأة أو وكيلها: زوجت أو أنكحت أو متعت، ولا يكون بغير هذه الألفاظ الثلاثة أبداً، وإلى قبول من الرجل، وهو قبلت أو رضيت.

وكل مقاربة تحصل بين رجل وامرأة من دون هذا العقد فهي سفاح. وليست بنكاح حتى مع التراضي والرغبة الأكيدة. وإذا كان العقد بلفظ أجرت أو وهبت أو أبحت ونحوها، فهو لغو لا أثر له أبداً. ومتى تم العقد كان لازماً يجب الوفاء به، وألزم كل واحد من الطرفين بالعمل على مقتضاه.

ولا بد في عقد المتعة من ذكر المهر، وهو كمهر الزوجة الدائمة لا يتقدر بقلة أو كثرة، فيصح بكل ما يتراضى عليه الرجل والمرأة، ويسقط نصفه بهبة الأجل، أو انقضائه قبل الدخول، كما يسقط نصف مهر الزوجة بالطلاق قبل الدخول.

ولا يجوز للرجل أن يتمتع بذات محرم كأمه، واخته، وبنته، وبنت أخيه، وبنت اخته، وعمته، وخالته، نسباً ولا رضاعاً، ولا بأم زوجته ولا بنتها، واختها، ولا بمن تزوج أو تمتع بها أبوه أو ابنه، ولا بمن هي في العدة من نكاح غيره، ولا بمن زنى بها وهي في عصمة غيره، فالمتعة في ذلك كله كالزوجة الدائمة من غير تفاوت.

وعلى المتمتع بها أن تعتد مع الدخول بعد انتهاء الأجل، كالمطلقة، سوى أن المطلقة تعتد بثلاث حيضات، أو ثلاثة أشهر، وهي تعتد بحيضتين أو بخمسة

_____________________

* - نشر في العرفان تشرين الأول ١٩٥٠.

٣١٦

وأربعين يوماً. أما العدة من الوفاة فهما فيها سواء، ومدتها أربعة أشهر وعشرة أيام، سواء أحصل الدخول أم لم يحصل.

والولد من المتعة كالولد من الزوجة الدائمة في الميراث والنفقة وسائر الحقوق المادية والأدبية.

ولا بد من أجل معين في المتعة يذكر في متن العقد، وبهذا تفترق المتعة عن الزواج الدائم، ولكن الطلاق يفصم عرى الزواج، كما يفصمه انتهاء الأجل في المتعة، فانتهاء الأجل طلاق في المعنى، ولكن بغير أسلوبه.

ولا ميراث للمتمتع بها من الزوج، ولا نفقة لها عليه، والزوجة الدائمة لها الميراث والنفقة ولكن للمتمتع بها أن تشترط على الرجل ضمن العقد الانفاق والميراث، وإذا تم هذا الشرط كانت المتمتع بها كالزوجة الدائمة من هذه الجهة أيضاً، ويكره التمتع بالزانية والبكر.

هذه هي المتعة، وهذي حدودها وقيودها، كما هي مدونة في جميع الكتب الفقهية للشيعة الإمامية، ولم تستعمل المتعة شيعة سوريا ولبنان، ولا عرب العراق، والمنقول أن بعض المسنّات في بلاد إيران يستعملن المتعة.

والخلاصة أن الشيعة الإمامية يقولون بإِباحة المتعة، ولكن على الأساس الذي بيناه. وعلى الرغم من ذلك فإنهم لا يفعلونها، وما هي بشائعة في بلادهم. وإنما الزواج الشائع بينهم هو الزواج الدائم المعروف المألوف عند جميع الطوائف والأمم. ولا أثر لها في محاكمهم الشرعية.

وقد اتفق السنة والشيعة على تشريع زواج المتعة في عهد الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودلت عليه الآية ٢٤ من سورة النساء «فما استمتعتم به منهن، فآتوهن أجورهن فريضة»، وفي الحديث ما ذكره مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد اللّه، قال: «استمتعنا على عهد رسول اللّه وأبي بكر وعمر».

ولكن السنة قالوا: إن المتعة نسخت واصبحت حراماً بعد أن أحلها اللّه سبحانه، وقال الشيعة: لم يثبت النسخ عندنا، كانت حلالاً، وما زالت على ما كانت عليه.

٣١٧

ضَريبَة الزكَاة عِندَ الإماميَّة *

اجتمعت في القاهرة اللجنة التحضيرية للمؤتمر الشعبي العام الذي سيعقد في ٢٠ أيلول من هذه السنة لبحث التكافل الاجتماعي، وستستأنف اللجنة اجتماعها ثانية لتنهي الأبحاث التي تدرج في جدول أعمال المؤتمر.

ومن الأبحاث التي تحضرها اللجنة الزكاة والوقف الخيري لرعاية المؤسسات الاجتماعية، تبحث هذين الموضوعين مكيفين مع العصر على أساس الشريعة الإسلامية، وقد اختير لهذه الغاية ثلاثة من علماء المسلمين، منهم العلامة الشيخ عبد اللّه العلايلي، واثنان من علماء القاهرة، ولا بد أن يدرس هؤلاء الأفاضل أقوال المذاهب في الزكاة والوقف، إن درس أقوالهم مجتمعة يؤدي حتماً إلى النتيجة المطلوبة، إذ رب فقيه لا تتفق فتواه في مسألة إلا مع عصره وبيئته، وآخر تتفق فتواه في المسألة ذاتها مع عصره، ولو ضمت اللجنة علماء من جميع المذاهب الإسلامية لجاءت الفائدة أتم وأكمل.

وان للشيعة الإمامية اجتهادات في زكاة الأموال واخماسها لا تجدها في أي مذهب إسلامي، وبوسعي أن أورد عشرات الشواهد على ذلك غير أن المجال لا يتسع لأكثر من شاهد: قال اللّه تعالى في سورة الأنفال آية ٤١ «واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن للّه خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل» فقد فسرت المذاهب - عدا الشيعة - الغنيمة بالأموال المكتسبة بطريق الحرب والقتال فأوجبوا الخمس بهذا النوع خاصة، أما الشيعة فقالوا: إن

_____________________

* - نشر في جريدة بيروت ٢٣ نيسان ١٩٥٢.

٣١٨

الغنيمة هي كل فائدة تحصل للإنسان من أي سبيل كان، لا من طريق الحرب فحسب.

فمن ملك منجماً من ذهب أو فضة أو حديد أو نفط أو نحاس أو زفت أو كبريت وما إلى ذلك ففيه الخمس، عشرون بالمائة، ومن وجد مدخراً من آثار السابقين أو أخرج شيئاً من البحر كاللؤلؤ والمرجان أو ورث من إنسان مالاً ثابتاً أو منقولاً، وكان المورث لم يؤد الخمس ففي ذلك كله ضريبة ٢٠ بالمائة وكل ما يكسبه الإنسان من أرباح التجارة والصناعة والعمل والاجارات والوظيفة والهدية والوصية، وما إلى ذلك يستثنى منه مؤنته ومؤنة من يعول سنة كاملة وما زاد عن مؤنة السنة ففيه الخمس، ومن اشترى طعاماً أو وقوداً وفضل منه شيء عن السنة ففيه الخمس، ومن اشترى ثياباً تزيد عن حاجته وبقيت عنده أكثر من سنة ففيها الخمس.

هذا مثال واحد أوردناه للتنبيه على أن المجال عند الشيعة الإمامية يتسع لمن يريد أن يتخذ من الشريعة الإِسلامية أحكاماً تتمشى مع كل زمان ومكان.

إن الشيعة يملكون كنوزاً ثمينة من الاجتهادات التي ترتكز على الكتاب والسنة، ويملكون الإفادة منها في كل تشريع جديد، فمن الخير أن يشترك علماء الشيعة في كل مجتمع ومؤتمر يهدف إلى مثل هذه الغاية السامية.

٣١٩

الضَّرورَة تعفي المضطرّ مِنَ العِقاب *

عدم الحرج:

تقوم الشريعة الإسلامية على مبادئ وأسس يقاس بها كل حكم من أحكام الشريعة، من أي نوع كان، ومن تلك المبادئ السعة، وعدم العسر والحرج على المكلفين، وهو أصل مطلق غير مقيد، وحاكم غير محكوم، لا ينفيه شيء، وبه ينتفي كل تكليف يوجب العسر والحرج، سواء أكان التكليف من نوع العبادات أو المعاملات أو العقوبات أو الأحوال الشخصية.

وقد أعلن القرآن الكريم هذا المبدأ «وما جعل عليكم في الدين من حرج» «يريد اللّه بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر». «يريد اللّه أن يخفف عنكم» واشتهر الحديث عن الرسول الأعظم: (بعثت بالحنفية السمحة).

قاعدة المصالح والمفاسد:

ومن القواعد التي ترجع إلى عدم الحرج قاعدة المصالح والمفاسد التي قال بها الشيعة والمعتزلة، تتلخص في أن اللّه أمر بالفعل لمصلحة فيه تعود على فاعله، ونهى عنه لمفسدة كذلك، لا ان الفعل يصبح صالحاً لأن اللّه أمر به وفاسداً لأنه نهى عنه، بل أمر به اللّه تعالى لأنه صالح بالذات، ونهى عنه لأنه قبيح بالذات.

ويتفرع على ذلك أنه يجوز للإنسان - إذا اضطرته الظروف - أن يفعل، ويترك ما نص الكتاب والسنة على وجوبه وتحريمه، ولا يعد ذلك مخالفة منه

_____________________

* - نشر في رسالة الإسلام نيسان ١٩٥٢.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٤١: -

[ المورد - (٥١) - نهيهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه عن جواب أبى سفيان في احد ]

كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نزل يوم احد بأصحابه - وهم سبعمائة - في عدوة الوادي، وجعل ظهره إلى الجبل، وكان المشركون ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دارع ومائتا فارس، ومعهم خمسة عشر امرأة وفي المسلمين مائتا دارع وفارسان.

وتعبأ الجيشان للقتال، فاستقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة، وترك أحدا

٣٦١

خلف ظهره، وجعل وراءه الرماة وهم خمسون راميا، أمر عليهم عبدالله بن جبير وقال له: انضح عنا الخيل بالنبل لا يأتونا من خلفنا، واثبتوا مكانكم، ان كانت لنا، أو كانت علينا، فانا انما نؤتى من هذا الشعب شعب أحد(١) .

وخرج طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين ينادي: يا معشر أصحاب محمد انكم تزعمون ان يعجلنا بسيوفكم إلى النار، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل أحد منكم يعجله سيفي إلى الجنة، ويعجلني سيفه إلى النار ؟

قال ابن الأثير في كامله: فبرز إليه علي بن أبي طالب فضربه فقطع رجله فسقط وانكشفت عورته، فناشده الله فتركه - لما به يخور بدمه حتى هلك - فكبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: كبش الكتيبة، وكبر المسلمون بتكبيره، وقال لعلي: ما منعك ان تجهز عليه ؟ فقال ناشدني الله والرحم فاستحييت منه. وصمد علي بعده لأصحاب اللواء يحمل عليهم فيقتلهم واحدا بعد واحد.

قال ابن الأثير وغيره: وقد كان المسلمون قتلوا أصحاب اللواء وبقي مطروحا لا يدنو منه أحد، فأخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته فاجتمعت قريش حوله، وأخذه صواب عبد لبني عبد الدار - كان من أشد الناس قوة - فقتل عليه (قال) وكان الذي قتل أصحاب اللواء علي بن أبي طالب، قاله أبو رافع.

واقتتل الناس قتالا شديدا. وأمعن حمزة وعلي وأبو دجانة في رجال من المسلمين وأبلوا بلاء حسنا، وأنزل الله نصره عليهم وكانت الهزيمة على المشركين، وهرب النساء مصعدات في الجبل، ودخل المسلمون عسكرهم ينهبون، فلما نظر بعض الرماة إلى اخوانهم ينهبون، آثروا النهب على البقاء في الشعب، ونسوا ما أمرهم به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وحضهم عليه. وحين رأى خالد بن الوليد قلة من بقي من الرماة حمل عليهم فقتلهم، وشد

____________________

(١) الشعب بالكسر ما انفرج بين الجبلين (منه قدس) (*).

٣٦٢

بمن معه على أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من خلفهم، وتبادر المنهزمون من المشركين حينئذ بنشاط مستأنف لقتال المسلمين حتى هزموهم بعد أن قتلوا سبعين من أبطالهم، فيهم أسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبدالمطلب وقاتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يومئذ قتالا شديدا، فرمى بالنبل حتى فني نبله وانكسرت سية قوسه، وانقطع وتره، وأصيب بجرح في وجنته، وآخر في جبهته وكسرت رباعيته السفلى، وشقت - بأبي هو وأمي - شفته، وعلاه ابن قمئة بالسيف.

وقاتل دونه علي، ومعه خمسة من الأنصار استشهدوا في الدفاع عنه رضي ‌الله‌ عنهم وأرضاهم، وترس أبو دجانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه، فكان يقع النبل بظهره وهو منحن عليه، وقاتل مصعب بن عمير فاستشهد، قتله ابن قمئة الليثي وهو يظنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فرجع إلى قريش يقول لهم: قتلت محمدا، فجعل الناس يقولون: قتل محمد، قتل محمد فأوغل المسلمون في الهرب على غير رشد، وكان أول من عرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كعب بن مالك، فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين ابشروا هذا رسول الله حي لم يقتل فأشار إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن أنصت(١) .

وحينئذ نهض علي بمن كان معه حتى خلصوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الشعب، فتحصن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله به، وهم يحوطونه مدافعين عنه.

قال ابن جرير وابن الأثير في تاريخيهما وسائر أهل الأخبار: فأبصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله - أي وهو في الشعب - جماعة من المشركين، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي: احمل عليهم، فحمل عليهم ففرقهم وقتل منهم، ثم أبصر جماعة أخرى، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : اكفنيهم يا علي فحمل عليهم وفرقهم وقتل منهم. فقال جبرائيل: يا رسول الله هذه المواساة، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انه مني وأنا منه. فقال

____________________

(١) مخافة أن يسمع العدو فيهجم عليه (منه قدس) (*).

٣٦٣

جبرائيل: وأنا منكما. (قالوا) وسمع صوت :

لا سيف إلا ذو الفقار

ولا فتى إلا علي(٤٨٥)

وجعل علي ينقل الماء لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في درقته من المهراس يغسل به جرح النبي فلم ينقطع الدم(١) .

ووقعت هند وصواحباتها على الشهداء يمثلن بهم، فاتخذت من آذان الرجال وآنافهم وأصابع أيديهم وأرجلهم ومذاكيرهم قلائد ومعاضد، وكانت أعطت وحشيا معاضدها وقلائدها جزاء قتلة حمزة فلاكتها فلم تسغها فلفظتها(٤٨٦) .

ثم أشرف أبو سفيان على المسلمين، فقال: أفي القوم محمد ؟ ثلاثا، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) : لا تجيبوه(٣) فقال أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا

____________________

(٤٨٥)

لا سيف الا ذو الفقار

ولا فتى الا على

راجع: فرائد السمطين للحمويني الشافعي ج ١ / ٢٥٧ ح ١٩٨، ترجمة الإمام على بن أبى طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي ج ١ / ١٤٨ ح ٢١٥، الكامل في التاريخ ج ٢ / ١٠٧، مناقب على بن أبى طالب لابن المغازلي ص ١٩٧، تذكرة الخواص للسبط بن الجوزي ص ٢٦، المناقب للخوارزمي ص ٢١٣ ط الحيدرية، السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ / ١٠٦، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ١٤ / ٢٥١ وقد نقل تصحيحه عن شيخه عبد الوهاب ابن سكينة.

(١) حتى أحرقت سيدة نساء العالمين بعد ذلك حصيرا وجعلت على الجرح من رماده فانقطع الدم، وقد شهدت الواقعةعليها‌السلام فكانت تعانقه وهو مجروح وتبكي (منه قدس).

(٤٨٦) الكامل في التاريخ ج ٢ / ١١١، الدرجات الرفيعة ص ٦٦ - ٦٩، السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ / ٩٦ - ٩٧، السيرة الحلبية ج ٢ / ٢٤٦.

(٢) كما في غزوة احد من تاريخي ابن جرير وابن الأثير وطبقات ابن سعد والسيرتين الحلبية والدحلانية وكتاب البداية والنهاية لأبي الفداء وسائر الكتب المشتملة على غزوة أحد (منه قدس).

(٣) كأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن آمنا من أبى سفيان وأصحابه أن يشدوا عليه =>

٣٦٤

محمدا ؟ قال عمر: اللهم لا وانه ليسمع كلامك(٤٨٧) .

قلت: هذا محل الشاهد من هذه الحكاية إذ آثر رأيه في جواب أبي سفيان على نهي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إياهم عن جوابه كما ترى.

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٤٦: -

[ المورد - (٥٢) -: التجسس مع النهى عنه ]

قال الله عزوجل:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ) (٤٨٨) .

وفي الصحيح عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إياكم والظن، فان الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا، ولا تناجشوا ولا تحاسد، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله اخوانا. الحديث(٤٨٩) .

لكن عمر رأى في أيام خلافته ان بالتجسس نفعا للأمة وصلاحا للدولة، فكان يعس ليلا، ويتجسس نهارا، حتى سمع هو يعس في المدينة صوت

____________________

=> إذا علموا ببقائه حيا، ولذلك نهاهم عن جوابه، وكأن عمر إذ أجابه لم يكن خائفا ولم يكن يرى لهذا الاحتياط وجها (منه قدس).

(٤٨٧) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ / ٤٧، الكامل لابن الأثير ج ٢ / ١١١، السيرة الحلبية ج ٢ / ٢٤٥.

(٤٨٨) سورة الحجرات: ١٢.

(٤٨٩) مجمع البيان ج ٩ / ١٣٧، صحيح مسلم ج ٨ / ١٠ ط العامرة، صحيح الترمذي ج ١ / ٣٥٩، صحيح البخاري ج ٣ / ٤٣١ وج ٤ / ١٢٨، مسند أحمد ج ٢ / ٢٤٥ و ٢٨٧ و ٢٦٥ و ٥١٧، الجامع الصغير ح ٢٩٠١، وصحيح الجامع الصغير ح ٢٦٧٦، أسنى المطالب ص ٩٨، الفتح الكبير ج ١ / ٤٩٠ (*).

٣٦٥

رجل يتغنى في بيته فسور عليه فوجد عنده امرأة وزقا من خمر، فقال: أي عدو الله ظننت ان الله يسترك وأنت على معصية، فقال لا تعجل يا أمير المؤمنين ان كنت اخطأت في واحدة، فقد اخطأت انت في ثلاث. قال الله تعالى:( وَلَا تَجَسَّسُوا ) فقد تجسست وقال:( وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) وقد تسورت وقال:( فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا ) وما سلمت. فقال: هل عندك من خير ان عفوت عنك ؟. قال نعم. فعفا عنه وخرج(٤٩٠) .

وعن السدي قال: خرج عمر بن الخطاب فإذا هو بضوء نار ومعه عبدالله بن مسعود واتبع الضوء حتى دخل الدار، فإذا سراج في بيت، فدخل وحده وترك ابن مسعود في الدار، فإذا شيخ جالس وبين يديه شراب وقينة تغنيه، فلم يشعر حتى هجم عليه عمر، فقال: ما رأيت منظرا أقبح من شيخ ينتظر أجله فرفع الشيخ رأسه فقال: بلى صنيعك أنت أقبح مما رأيت مني، إذ تجسست وقد نهى الله عن التجسس، ودخلت بغير إذن، فقال عمر: صدقت ثم خرج عاضا على ثوبه يبكي.

وقال: ثكلت عمر أمه، إلى أن قال: وهجر الشيخ مجلس عمر حينا، فبينا عمر بعد ذلك جالس إذ به قد جاء شبه المستخفي حتى جلس في أخريات الناس فرآه عمر فقال: علي بهذا، فقيل له: أجب فقام وهو يرى ان عمر سيسوئه بما رأى منه. فقال عمر: ادن مني فلا زال يدنيه حتى

____________________

(٤٩٠) أخرجه الخرائطي في كتاب مكارم الأخلاق وهو الحديث ٣٦٩٦ من أحاديث الكنز في ص ١٦٧ من جزئه الثاني، وأورده ابن أبى الحديد في ص ٩٦ من المجلد الثالث من شرح نهج البلاغة، وذكره الغزالي في ص ١٣٧ من كتابه إحياء العلوم (منه قدس). الغدير للأميني ج ٦ / ١٢١، الرياض النضرة ج ٢ / ٤٦ ط ١، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ١ / ٦١ وج ٣ / ٩٦ ط ١، الدر المنثور ج ٦ / ٩٣، الفتوحات الإسلامية ج ٢ / ٤٧٧ (*).

٣٦٦

أجلسه بجنبه، فقال: ادن مني اذنك فالتقم أذنه فقال له. والذي بعث محمدا بالحق ما أخبرت أحدا من الناس بما رأيت منك، ولا ابن مسعود فانه كان معي. (الحديث)(٤٩١) .

وعن الشعبي: ان عمر فقد رجلا من أصحابه، فقال لابن عوف: انطلق بنا إلى منزل فلان فننظر فأتيا منزله فوجدا بابه مفتوحا وهو جالس وامرأته تصب له في الإناء فتناوله أياه، فقال عمر لابن عوف: هذا الذي شغله عنا، فقال ابن عوف لعمر: وما يدريك ما في الإناء ؟. فقال عمر: أتخاف ان يكون هذا تجسسا ؟ قال: بل هو التجسس. قال: وما التوبة من هذا ؟. قال: لا تعلمه بما اطلعت عليه من أمره !. (الحديث)(٤٩٢) .

وعن المسور بن مخرمة، عن عبدالرحمن بن عوف: انه حرس المدينة مع عمر بن الخطاب ليلة فبينا هم يمشون شب لهم سراج في بيت فانطلقوا يؤمونه فلما دنوا منه فإذا باب مجاف - مغلق - على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط، فأخذ عمر بيد عبدالرحمن بن عوف فقال له: هذا بيت ربيعة بن أمية، وهم الآن يشربون الخمر فما ترى ؟. قال أرى انا قد أتينا ما نهى الله عنه إذ تجسسنا، فانصرف عنهم عمر وتركهم !(٤٩٣) .

____________________

(٤٩١) أخرجه أبو الشيخ في كتاب القطع والسرقة، ونقله صاحب كنز العمال في ص ١٤١ من جزئه الثاني وهو الحديث ٣٣٥٤ (منه قدس).

(٤٩٢) أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر وهو الحديث ٣٦٩٤ في ج ٢ من الكنز (منه قدس).

(٤٩٣) أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد والخرائطي في مكارم الأخلاق وهو الحديث ٣٦٩٣ من أحاديث الكنز في الجزء المتقدم ذكره. وأخرجه الحاكم أيضا وصححه في باب النهى عن التجسس من كتاب الحدود صفحة ٣٧٧ من الجزء الرابع من المستدرك =>

٣٦٧

وعن طاووس: ان عمر خرج ليلة فمر ببيت فين ناس يشربون فناداهم أفسقا ؟ أفسقا ؟ فقال بعضهم: قد نهاك الله عن هذا، فرجع عمر وتركهم !(٤٩٤) .

وعن أبي قلابة: ان عمر حدث ان أبا محجن الثقفي يشرب الخمر في بيته هو وأصحابه فانطلق عمر حتى دخل عليه، فقال أبو محجن: يا أمير المؤمنين ان هذا لا يحل لك قد نهاك الله عن التجسس، أفسأل عمر زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن الأرقم فقالا: صدق يا أمير المؤمنين فخرج عمر وتركه !(٤٩٥)

قلت: من تتبع ما جاء من الأخبار حول تجسسه رأى من نشاطه في سياسته وعزائمه المبذولة في سبيلها ما هو ماثل بأجلى المظاهر(٤٩٦) .

وكأنه (رض) كان يرى أن الحدود الشرعية تدرأ بخطأ الحاكم في طريق اثباتها، ولذلك لم يقم على واحد من هؤلاء المجرمين حدا، بل لم يؤذ منهم أحدا، وما ندري كيف رضي أن لا يكون لتجسسه أثر، إلا تمرد المجرمين في إجرامهم، بعد أن رأو هذا التسامح من أمامهم ؟ !.

____________________

=> أورده الذهبي في تلخيصه مصرحا بصحته (منه قدس). الغدير للأميني ج ٦ / ١٢٢، سنن البيهقي ج ٨ / ٣٣٤، الإصابة ج ١ / ٥٣١، الدر المنثور ج ٦ / ٩٣، السيرة الحلبية ج ٣ / ٢٩٣، الفتوحات الإسلامية ج ٢ / ٤٧٦.

(٤٩٤) (٤٩٥) هذا الحديث وحديث طاووس موجودان في ج ٢ / ١٤١ من كنز العمال (منه قدس). مجمع البيان ج ٩ / ١٣٥.

(٤٩٦) الغدير للأميني ج ٦ / ١٢١، مجمع البيان ج ٩ / ١٣٥ (*).

٣٦٨

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٤٩: -

[ المورد - (٥٣) - تشريع حد لمهور النساء ]

يجب في المهر أن يكون مما يملكه المسلم، عينا كان أم دينا، أم منفعة، وتقديره راجع إلى الزوجين فيما يتراضيان عليه، كثيرا كان أم قليلا، ما لم يخرج بسبب القلة عن المالية كحبة من طعام مثلا، نعم يستحب في جانب الكثرة أن لا يزيد على مهر السنة وهو خمسمائة درهم(٤٩٧) .

وكان عمر (رض) عزم على النهي عن الغلو في مهور النساء، تسهيلا لأمر التناكح الذي به التناسل، وبه صون الاحداث عن الحرام وأن من تزوج أحرز ثلثي دينه(٤٩٨)

فقام في بعض أيامه خطيبا في هذا المعنى، فكان مما قاله في خطابه: لا يبلغني ان امرأة تجاوز صداقها صداق زوجات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الا أرجعت ذلك منها. فقامت إليه امرأة فقالت: والله ما جعل الله ذلك لك، انه يقول:( وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ) (٤٩٩) فعدل عن حكمه قائلا: الا تعجبون من إمام أخطأ وامرأة أصابت ؟ ! ناضلت إمامكم فنضلته(٥٠٠) .

وفي رواية(١) انه قال: كل أحد أعلم من عمر، تسمعونني أقول مثل

____________________

(٤٩٧) الوسائل باب - ٢ - من أبواب المهور ح ١، جواهر الكلام ج ٣١ / ٣ و ١٤ و ١٥، الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٨ / ١٦١ ط بيروت.

(٤٩٨) مستدرك الوسائل ك النكاح باب - ١ - من أبواب مقدمات النكاح ح ٢ و ٣، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ج ٥ / ٨٦.

(٤٩٩) سورة النساء آية: ٢٠.

(٥٠٠) رواه بهذه الألفاظ كثير من حفظة السنن وسدنة الآثار، وأرسله ابن أبى الحديد في أحوال عمر ص ٩٦ من المجلد الثالث من شرح النهج - إرسال المسلمات (منه قدس). وراجع: الغدير للأميني ج ٦ / ٩٨، وشرح النهج الحديدي ج ١ / ٦١ وج ٣ / ٩٦ ط ١.

(١) ذكرها الزمخشري في تفسير: وآتيتم إحداهن قنطارا من سورة النساء في كشافه (منه قدس) (*).

٣٦٩

هذا القول فلا تنكرونه علي حتى ترد علي امرأة ليست أعلم من نسائكم ؟ !(٥٠١) .

وفي رواية أخرى(١) فقامت امرأة فقالت: يابن الخطاب الله يعطينا وأنت تمنع وتلت هذه الآية، فقال عمر: كل الناس أفقه من عمر ورجع عن حكمه(٥٠٢) .

قلت: استدلوا بهذه الواقعة وأمثالها على إنصافه واعترافه، وكم له من قضايا مع الخاصة والعامة من رجال ونساء تمثل له الإنصاف والاعتراف و كان إذا أعجبه القول أو الفعل يستفزه العجب، وربما ظهر عليه الطرب.

كما اتفق له مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد سئل عن أشياء كرهها، فيما أخرجه البخاري عن أبي موسى الأشعري إذ قال: سئل النبي عن أشياء كرهها لكونها

____________________

(٥٠١) الغدير للأميني ج ٦ / ٩٧، الكشاف للزمخشري ج ١ / ٣٥٧ وفى طبع آخر ج ١ / ٥١٤، شرح صحيح البخاري للقسطلاني ج ٨ / ٥٧.

(١) ذكرها الرازي في تفسير الآية آخر ص ١٧٥ من الجزء الثالث من تفسيره الكبير، وله ثمة عثرة لليدين وللفم، إذ قال: وعندي ان الآية لا دلالة فيها على جواز المنالاة. إلى آخر كلامه الملتوي عن الفهم الذي أراد به تخطثه المرأة دفاعا عن عمر وقد زاد في طينته بلة من حيث لا يدرى، فليراجع الباحثون كلامه ليعجبوا من أسفافه، وفى ص ١٥٠ من تاريخ عمر بن الخطاب لأبي الفرج ابن الجوزي حديث عن عبدالله ابن مصعب وآخر عن ابن الاجدع يتضمنان خطاب عمر في نهيه عن الغلو في مهور النساء ورد المرأة عليه بما ألزمه بالرجوع عما نهى عنه معترفا بخطأه وصواب المرأة (منه قدس).

(٥٠٢) الغدير للأميني ج ٦ / ٩٨، تفسير القرطبي ج ٥ / ٩٩، تفسير النيسابوري ج ١، تفسير الخازن ج ١ / ٣٥٣، الفتوحات الإسلامية ج ٢ / ٤٧٧ وزاد فيه: حتى النساء. وهناك روايات أخرى من أراد الاطلاع عليها مع مصادرها فاليراجعها في الغدير ج ٦ / ٩٥ وما بعدها. (*)

٣٧٠

مما لا يعنى العقلاء بها، ولا هي مما بعث الأنبياء لبيانها، فلما أكثروا عليه غضب لتعنتهم في السؤال، وتكلمهم فيما لا حاجة لهم به، ثم قال للناس. سلوني، كأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله رآهم فشلوا أو خجلوا حيث أغضبوه فتبسط لهم بقوله: سلوني، رأفة بهم ورحمة، فقال رجل هو عبدالله بن حذافة: من أبي يا رسول الله ؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : أبوك حذافة، فقام آخر وهو سعد بن سالم فقال: من أبي يا رسول الله ؟. فقال: أبوك سالم مولى أبي شيبة.

وكان سبب هذا السؤال منهما طعن الناس في نسبيهما، فلما رأى عمر ما في وجه رسول الله من الغضب قال: يا رسول الله انا نتوب إلى الله عزوجل مما يوجب غضبك اه‍. وسره من رسول الله الحاق عبدالله بحذافة، والحاق سعد بسالم تصديقا لاميهما في نسبيهما.

وفي صحيح البخاري أيضا عن أنس بن مالك ان عبدالله بن حذافة سأل رسول الله فقال له: من أبي ؟. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : أبوك حذافة.

وفي صحيح مسلم: انه كان يدعى لغير أبيه، فلما سمعت أمه سؤاله هذا، قالت: ما سمعت بابن أعق منك أأمنت أن تكون أمك قارفت ما يقارف نساء الجاهلية فتفضحها على أعين الناس. فبرك عندها عمر على ركبتيه أمام رسول الله فقال معجبا بتصديق النبي لام عبدالله ابن حذافة في نسبه: رضينا بالله ربا، وبالاسلام دينا وبمحمد نبيا.(٥٠٣)

قالها طربا بسترهصلى‌الله‌عليه‌وآله على كثير من الأمهات المفارقات في الجاهلية وقد جب الإسلام ما قبله.

____________________

(٥٠٣) تجد هذا الحديث في باب من برك على ركبتيه عند الإمام أو المحدث، وتجد قبله حديث أبى موسى في أواخر كتاب العلم صفحة ١٩ من الجزء الأول من صحيح البخاري (منه قدس). صحيح مسلم. (*)

٣٧١

[ المورد - (٥٤) - استبدال الحد الشرعي بأمر آخر يختاره الحاكم ]

وذلك ان غلمة الحاطب بن بلتعة، اشتركوا في سرقة ناقة لرجل من مرينة فجي بهم إلى عمر فأقروا، فأمر عمر كثير بن الصلت ان يقطع أيديهم، فلما ولي بهم ردهم عمر إليه ثم استدعى ابن مولاهم وهو عبدالرحمن بن حاطب فقال له: أما والله لولا انكم تستعملونهم وتجيعونهم لقطعت أيديهم. وأيم الله إذ لم أفعل، لاغرمتك غرامة توجعك إلى آخر ما كان من هذه الواقعة فلتراجع في ص ٣٢ والتي بعدها من الجزء الثالث من أعلام الموقعين.

ونقلها عنه العلامة المعاصر أحمد أمين في ص ٢٨٧ من (فجر الإسلام). وأشار إليها ابن حجر العسقلاني في ترجمة عبدالرحمن بن حاطب، حيث أورده في القسم الثاني من الإصابة فقال: وله قضية مع عمر(٥٠٤) .

قلت: لعل ما فعله عمر من درء الحد عن هؤلاء الغلمة وجها، وذلك حيث لا تكون السرقة الا عن مخمصة اضطرتهم إليها بقيا على رمقهم ليكونوا ممن عناهم الله عزوجل بقوله:( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) (٥٠٥) .

لكنهم أقروا بالسرقة فثبتت عليهم ولم يدعوا الضرورة الملجئة إليها، ولو فرض انهم ادعوها، لكان على الحاكم ان يطالبهم بما يثبتها، لكنا لم نر منه سوى أنه وسعهم باشفاقه مشتدا على ابن حاطب، وما ندري من أين علم انهم كانوا يجيعونهم هذا الجوع ؟.

____________________

(٥٠٤) وقريب من هذا ما وقع منه مع المغيرة بن شعبة وذلك لما زنى المغيرة بام جميل فدرأ عنه الحد. راجع تفصيل القضية في كتاب الغدير ج ٦ / ١٣٧ - ١٤٤.

(٥٠٥) سورة البقرة آية: ١٧٣ (*).

٣٧٢

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٥٣: -

[ المورد - (٥٥) - اخذ الدية حيث لم تشرع ]

وذلك ان أبا خراش الهذلي الصحابي الشاعر، أتاه نفر من أهل اليمن قدموا عليه حجاجا، فأخذ قربته وسعى نحو الماء تحت الليل حتى استقى لهم ثم أقبل صادرا فنهشته حية قبل ان يصل إليهم، فأقبل مسرعا حتى أعطاهم الماء وقال: اطبخوا شاتكم وكلوا. ولم يعلمهم ما أصابه، فباتوا على شأنهم يأكلون حتى أصبحوا، وأصبح أبوخراش وهو في الموتى، فلم يبرحوا حتى دفنوه وقال وهو يموت في شعر له :

لقد أهلكت حية بطن واد

على الاخوان ساقا ذات فضل

فما تركت عدوا بين بصرى

إلى صنعاء يطلبه بذحل

فبلغ خبره عمر بن الخطاب فغضب غضبا شديدا وقال: لولا ان تكون سنة لأمرت ان لا يضاف يماني أبدا، ولكتبت بذلك إلى الافاق. ثم كتب إلى عامله باليمن ان يأخذ النفر الذين نزلوا على أبي خراش الهذلي فيلزمهم ديته ويؤذيهم بعد ذاك بعقوبة يمسهم بها جزاء لفعلهم ! ؟(٥٠٦) .

[ المورد -(٥٦) - اقامة حد الزنى حيث لم يثبت مقتضيه ]

وذلك فيما أخرجه ابن سعد في أحوال عمر ص ٢٠٥ من الجزء الثالث

____________________

(٥٠٦) هذه القضية أوردها ابن عبد البر في أحوال أبى خراش الهذلى من كتابه الاستيعاب وأورده الدميري في حياة الحيوان بمادة حية (منه قدس)

٣٧٣

من طبقاته(١) بسند معتبر، أن بريدا قدم على عمر فنثر كنانته، فبدرت صحيفة فأخذها فقرأها فإذا فيها :

ألا أبلغ أبا حفص رسولا

فدا لك من أخي ثقة ازاري

قلائصنا هداك الله انا

شغلنا عنكم زمن الحصار

فما قلص وجدن معقلات

قفا سلع بمختلف البحار

قلائص من بني سعد بن بكر

وأسلم أو جهينة أو غفار

يعقلهن جعدة من سليم

معيدا يبتغي سقط العذار

فقال: ادعوا لي جعدة من سليم. [ قال ] فدعوا به فجلده مائة معقولا ونهاه ان يدخل على امرأة مغيبة. انتهى بلفظ ابن سعد(٥٠٧) .

قلت: لا وجه لإقامة الحد هنا بمجرد هذه الأبيات، إذ لم يعرف قائلها ولا مرسلها، على انها لا تتضمن سوى استعداء الخليفة على جعدة بدعوى انه تجاوز الحد مع فتيات من بني سعد ابن بكر، وسلم، وجهينة، وغفار، فكان يعبث بهن فيعقلهن كما تعقل القلص، يبتغي بذلك سقط عذارهن، أي سقط الحياء والحشمة، هذا كل ما في الأبيات مما نسب إلى جعدة. وهو لو ثبت شرعا لا يوجب بمجرده إقامة الحد، نعم يوجب تربيته وتعزيره.

ولعل ما فعله الخليفة انما كان من هذا الباب. وشتان ما كان منه هنا، وما كان منه مع المغيرة بن شعبة مما ستسمعه قريبا ان شاء الله.

[ المورد - (٥٧) - درؤه الحد عن المغيرة بن شعبة ]

وذلك حيث فعل المغيرة (مع الإحصان) ما فعل مع أم جميل بنت عمرو

____________________

(١) وأخرجه ابن عساكر في تاريخه، وذكر جلده ونفيه إلى عمان (منه قدس).

(٥٠٧) الطبقات الكبرى ج ٢ / ٢٨٥ ط دار صادر. (*)

٣٧٤

امرأة من قيس في قضية هي من أشهر الوقائع التاريخية في العرب، كانت سنة ١٧ للهجرة لا يخلو منها كتاب يشتمل على حوادث تلك السنة، وقد شهد عليه بذلك كل من أبي بكرة - وهو معدود في فضلاء الصحابة وحملة الآثار النبوية - ونافع بن الحارث - وهو صحابي أيضا - وشبل بن معبد، وكانت شهادة هؤلاء الثلاثة صريحة فصيحة بأنهم رأوه يولجه فيها ايلاج الميل في المكحلة لا يكنون ولا يحتشمون، ولما جاء الرابع - وهو زياد بن سمية - ليشهد، أفهمه الخليفة رغبته في ان لا يخزي المغيرة، ثم سأله عما رآه فقال: رأيت مجلسا وسمعت نفسا حثيثا وانتهازا، ورأيته مستبطنها. فقال عمر: أرأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة ؟. فقال لا لكن رأيته رافعا رجليها فرأيت خصيتيه تتردد إلى ما بين فخذيها، ورأيت حفزا شديدا، وسمعت نفسا عاليا. فقال عمر: رأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة ؟. فقال: لا. فقال عمر: الله أكبر قم يا مغيرة إليهم فاضربهم. فقام يقيم الحدود على الثلاثة.

واليكم تفصيل هذه الواقعة بلفظ القاضي أحمد الشهير بابن خلكان في كتابه - وفيات الأعيان - إذ قال ما هذا لفظه: وأما حديث المغيرة بن شعبة والشهادة عليه، فان عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه كان قد رتب المغيرة أميرا على البصرة، وكان يخرج من دار الإمارة نصف النهار، وكان أبو بكرة يلقاه فيقول: أين يذهب الامير ؟. فيقول: في حاجة. فيقول: ان الأمير يزار ولا يزور.

[ قال ]: وكان يذهب إلى امرأة يقال لها أم جميل بنت عمرو وزوجها الحجاج بن عتيك بن الحارث بن وهب الجشمي، ثم ذكر نسبها، ثم روى عن أبا بكرة بينما هو في غرفته مع اخوته، وهم نافع، وزياد، وشبل بن معبد أولاد سمية فهم اخوة لام، وكانت أم جميل المذكورة في غرفة أخرى قبالة هذه الغرفة فضرب الريح

٣٧٥

باب غرفة أم جميل ففتحه ونظر القوم فإذا هم بالمغيرة مع المرأة على هيئة الجماع، فقال أبو بكرة: بلية قد ابتليتم بها فانظروا فنظروا حتى أثبتوا فنزل أبو بكرة فجلس حتى خرج عليه المغيرة فقال له: ان كان من أمرك ما قد علمت فاعتزلنا.

(قال) وذهب المغيرة ليصلي بالناس الظهر ومضى أبو بكرة. فقال أبو بكرة: لا والله لا تصل بنا وقد فعلت ما فعلت. فقال الناس: دعوه فليصل فانه الأمير واكتبوا بذلك إلى عمررضي‌الله‌عنه ، فكتبوا إليه فأمرهم ان يقدموا عليه جميعا، المغيرة والشهود، فلما قدموا عليه جلس عمررضي‌الله‌عنه ، فدعا بالشهود والمغيرة، فتقدم أبو بكرة فقال له: رأيته بين فخذيها ؟ قال: نعم والله لكأني انظر إلى تشريم جدري بفخذيها، فقال له المغيرة ألطف النظر ؟

فقال أبو بكرة: لم آل ان اثبت ما يخزيك الله به.

فقال عمررضي‌الله‌عنه : لا والله حتى تشهد لقد رأيته يلج فيه ايلاج المرود في المكحلة.

فقال: نعم أشهد على ذلك.

فقال: اذهب مغيرة ذهب ربعك. ثم دعا نافعا فقال له: على م تشهد ؟

قال على مثل ما شهد أبو بكرة.

قال: لا حتى تشهد انه ولج فيها ولوج الميل في المكحلة.

قال: نعم حتى بلغ قذذة

فقال له عمررضي‌الله‌عنه : اذهب مغيرة قد ذهب نصفك.

ثم دعا الثالث فقال له: على م تشهد ؟

فقال: على مثل شهادة صاحبي فقال له عمر اذهب مغيرة فقد ذهب ثلاثة أرباعك.

ثم كتب إلى زياد وكان غائبا وقدم فلما رآه جلس له في المسجد واجتمع عنده رؤس المهاجرين والأنصار، فلما رآه مقبلا قال: الي أرى رجلا لا يخزي الله على لسانه رجلا من المهاجرين، ثم ان عمررضي‌الله‌عنه رفع رأسه إليه فقال ما عندك يا سلح الحبارى ؟ فقيل ان المغيرة قام إلى زياد. فقال: لا مخبأ لعطر بعد عروس.

٣٧٦

فقال له المغيرة: يا زياد اذكر الله تعالى واذكر موقف يوم القيامة فان الله تعالى وكتابه ورسوله وأمير المؤمنين قد حقنوا دمي الا ان تتجاوز إلى ما لم تر مما رأيت فلا يحملنك سوء منظر رأيته على أن تتجاوز إلى ما لم تر فوالله لو كنت بين بطني وبطنها ما رأيت أن يسلك ذكري فيها.

قال: فدمعت عينا زياد واحمر وجهه وقال: يا أمير المؤمنين أما ان أحق ما حقق القوم فليس عندي، ولكن رأيت مجلسا وسمعت نفسا حيثيا وانتهازا ورأيته مستبطنها.

فقال له عمررضي‌الله‌عنه : رأيته يدخله ويولجه كالميل في المكحلة

فقال: لا.

وقيل قال زياد: رأيته رافعا رجليها فرأيت خصيتيه تردد ما بين فخذيها ورأيت حفزا شديدا وسمعت نفسا عاليا.

فقال عمررضي‌الله‌عنه . رأيته يدخله ويولجه كالميل في المكحلة.

فقال لا، فقال عمر: الله اكبر قم يا مغيرة إليهم فاضربهم فقال إلى أبي بكرة فضربه ثمانين وضرب الباقين، وأعجبه قول زياد ودرأ الحد عن المغيرة.

فقال أبو بكرة بعد أن ضرب: أشهد أن المغيرة فعل كذا وكذا.

فهم عمر ان يضربه حدا ثانيا، فقال له على بن أبي طالب: ان ضربته فارجم صاحبك فتركه واستناب عمر أبا بكرة فقال: انما تستتبني لتقبل شهادتي. فقال: أجل. فقال: لا أشهد بين اثنين ما بقيت في الدنيا، فلما ضربوا الحد قال المغيرة: الله أكبر الحمد لله الذي أخزاكم. فقال عمررضي‌الله‌عنه : اخزى الله مكانا رأوك فيه.

(قال) وذكر عمر بن شيبة في كتاب أخبار البصرة ان أبا بكرة لما جلد أمرت أمه بشاة فذبحت وجعل جلدها على ظهره. فكان يقال: ما كان ذاك الا من ضرب شديد.

(قال) وحكى عبدالرحمن بن أبي بكرة: ان أباه حلف لا يكلم زيادا ما

٣٧٧

عاش، فلما مات أبو بكرة كان قد أوصى ان لا يصلى عليه الا أبوبرزة الاسلمي وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله آخى بينهما، وبلغ ذلك زيادا فخرج إلى الكوفة، وحفظ المغيرة بن شعبة ذلك لزياد وشكره. ثم ان أم جميل وافت عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه بالموسم والمغيرة هناك، فقال له عمر: أتعرف هذه المرأة يا مغيرة ؟ فقال: نعم هذه أم كلثوم بنت على. فقال عمر: أتتجاهل علي والله ما أظن أبا بكرة كذب فيما شهد عليك، وما رايتك الا خفت أن أرمي بحجارة من السماء.

(قال) ذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في أول باب عدد الشهور في كتابه المهذب: وشهد على المغيرة ثلاثة أبو بكرة، ونافع، وشبل بن معبد.

(قال) وقال زياد: رأيت استأ تنبو ونفسا يعلو ورجلين كأنهما اذنا حمار ولا أدري ما وراء ذلك فجلد عمر الثلاثة ولم يحد المغيرة.

(قال) قلت: وقد تكلم الفقهاء على قول عليرضي‌الله‌عنه لعمر: ان ضربته فارجم صاحبك. فقال أبو نصر بن الصباغ: يريد ان هذا القول ان كان شهادة أخرى فقد تم العدد، وان كان هو الأولى فقد جلدته عليه والله أعلم. انتهت هذه المأساة وما إليها بلفظ القاضي ابن خلكان عينا فراجعه في ترجمة يزيد بن زياد الحميري من الجزء الثاني من وفيات الأعيان المنتشرة(٥٠٨) .

وأخرج الحاكم هذه القضية في ترجمة المغيرة ص ٤٤٩ والتي بعدها من الجزء الثالث من صحيحه المستدرك، وأوردها الذهبي في تلخيص المستدرك أيضا، وأشار إليها مترجمو كل من المغيرة، وأبي بكرة، ونافع، وشبل بن

____________________

(٥٠٨) وفيات الأعيان ج ٢ / ٤٥٥ (*).

٣٧٨

معبد، ومن أرخ حوادث سنة ١٧ للهجرة من أهل الأخبار(٥٠٩) .

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٥٩: -

[ المورد - (٥٨) - تشدده على جبلة بن الايهم ]

وذلك انه وفد عليه في خمسمائة من فرسان عك وجفنة، تخب بهم مطهماتهم العربية، وعليهم الوشي المنسوج بالذهب والفضة، وفي - مقدمتهم جبلة وعلى رأسه تاجه وفيه قرط جدته مارية فاسلموا جميعا، وفرح المسلمون بهم وبمن وراءهم من أتباعهم فرحا شديدا، وحضر جبلة بأصحابه الموسم من عامهم ذاك مع الخليفة، فبينا جبلة يطوف بالبيت إذ وطأ ازاره رجل من فزارة فحله فلطمه جبلة، فاستعدى الفزاري عمر، فأمر عمر جبلة أن يقيده من نفسه أو يرضيه، وضيق عليه في ذلك حتى بلغ اليأس، فلما جنه الليل خرج بأصحابه فأتوا القسطنطينية فتنصروا جميعا مرغمين، وقد نالهم ثمة من الخطوة بهرقل ومن العز والابهة فوق ما يتمنون(٥١٠) وكان جبلة مع هذا كله يبكي أسفا على ما فاته من دين الإسلام.

وهو القائل :

____________________

(٥٠٩) الأغاني لأبي الفرج الاصبهاني ج ١٤ / ١٤٦، الغدير للأميني ج ٦ / ١٣٧ - ١٤٤ و ٢٧٤، فتوح البلدان للبلاذري ص ٣٥٢، تاريخ الطبري ج ٤ / ٢٠٧، الكامل لابن الأثير ج ٢ / ٣٧٨، البداية والنهاية لابن كثير ج ٧ / ٨١، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ٣ / ١٦١ ط ١ وج ١٢ / ٢٣١ - ٢٣٩ ط بتحقيق أبو الفضل، عمدة القاري ج ٦ / ٢٤٠، سنن البيهقي ج ٨ / ٢٣٥.

(٥١٠) كما فصله ابن عبد ربه الأندلسي حيث ذكر وفود جبلة على عمر في كتابه - الجمانة - في الوفود صفحة ١٨٧ من الجزء الأول من عقده الفريد. وتجد أيضا في صفحة ٦٢ من الجزء الأول من كتاب الدروس العربية للمدارس الثانوية المطبوع في مطبعة الكشاف ببيروت نقلا عن الأغاني لأبي الفرج الاصفهانى (منه قدس). وكذلك تغريبه: ربيعة بن أمية بن خلف إلى خيبر ثم دخل أرض الروم وارتد. راجع: الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ / ٢٨٢ (*).

٣٧٩

تنصرت الاشراف من أجل لطمة

وما كان فيها لو صبرت لها ضرر

تكنفني منها لجاج ونخوة

وبعت لها العين الصحيحة بالعور

فياليت أمي لم تلدني وليتني

رجعت إلى القوم الذي قال لي عمر

ويا ليتني ارعى المخاض بقفرة

وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر

قلت: ليت الخليفة لم يحرج هذا الأمير العربي وقومه ولو ببذل كل ما لديه من الوسائل إلى رضا الفزاري من حيث لا يدري ذلك الأمير أو من حيث يدري، وهيهات أن يفعل عمر ذلك. انه أراد أن يقود جبلة في أول بادرة تبدر منه ببرة(١) الصغار، فيجدع أنف عزه، وهذه سيرته مع كل عزيزي الجانب منيعي الحوزة كما يعلمه متتبعو سيرته من أولي الألباب.

وقد مر عليك تشدده على خالد وهو من أخواله. وشتان بين يوميه، يومه مع صاحبه المغيرة إذ درأ عنه حد الزنى محصنا كما سمعته آنفا، ويومه مع خالد إذ أصر على رجمه ولولا أبو بكر لرجم، كما سمعته أيضا، فان قوة شكيمة خالد واعتداده بنفسه أوجبا شدة وطأة عمر عليه، كما ان شمم جبلة وعزة نفسه أوجبا ذلك عليه أيضا، بخلاف المغيرة فانه كان - مع دهائه ومكره وحيله - أطوع لعمر من ظله، وأذل من نعله، ولذلك استبقاه مع فجوره.

وكانت سياسته تقتضي إرهاب الرعية بالتشدد على من كان عزيزا كجبلة وخالد، وربما أرهبهم بالوقيعة بذوي رحمه كما فعله بابنه أبي شحمة وبأم فروة أخت أبي بكر وبمن لا فائدة له به ممن لا يكون في عير السياسة ولا في نفيرها، كما فعله بجعدة السلمي، وضبيع التميمي، ونصر بن حجاج، وابن

____________________

(١) البرة حلقة من صفر أو نحوه توضع في أنف الجمل الشرود، فيربط بها حبل يقاد به ذلك الجمل (منه قدس) (*).

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419