الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان9%

الشيعة في الميزان مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 419

الشيعة في الميزان
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 142503 / تحميل: 9286
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الإمَام

لأي صفة يتسع هذا المقام إذا حاولت التعبير عن بعض صفات الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ! ألزهده وعدله، أو لعقله وعلمه، أو لشجاعته وكرمه، أو لتواضعه وعفوه، أو لتضحيته وخدماته، أو لفصاحته وبلاغته !.

وهل يحتاج الكاتب عن هذه الشخصية إلى الاستشهاد بقول مستشرق غربي، أو مؤرخ شرقي!. هل يحتاج إلى نقل الرواة ثقة عن ثقة، ويبحث في سند الرواية ونصوصها، ثم يجهد الفكر في الاستنباط والتأويل والتخريج !. كلا، ليس الكاتب بحاجة إلى شيء من هذا، فلا مدعي ومنكر، كي نلجأ إلى طرق الاثبات والاقناع، ولا اجتهاد وتقليد، كي يفحص المجتهد عن الدليل، والمقلد عمن يوثق بقوله.

نشأ الإمام في محيط يعبد الاصنام، وما سجد لصنم، وافتتح حياته بالجهاد ضد الشرك والالحاد، والبغي والاستبداد، بات على فراش النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله معرضاً نفسه للقتل فداء للرسول الأعظم، وقتل يوم بدر صناديد قريش، منهم الوليد وحنظلة بن أبي سفيان والعاص بن سعيد، وحقق اللّه على يد الرسول ويده أول عز للإسلام والمسلمين، وقتل يوم اُحد جماعة من الأعداء، منهم طلحة بن طلحة وبني عبد الدار أصحاب الراية، وقتل في وقعة خيبر مرحبا بطل اليهود، ويوم الخندق عمرو بن ود الذي كان يقوم بألف رجل، قاتل وقتل هؤلاء وغيرهم لا لسلطان ولا لمال ولا أخذاً بثأر، قاتلهم بعد أن جحدوا إِله العالمين، واستعلوا على البائسين، واستعبدوا المستضعفين، قاتلهم بعد أن دعاهم إلى الحق فرفضوه، فلم ير لهم دواء إلا السيف فأعمله في رقابهم، وشفى صدور قوم مؤمنين، وأذهب غيظ قلوبهم.

وقد اعتاد الناس أن يقولوا: أنت كريم لمن سرق ألفاً، وبذل منه واحداً، بل اعتادوا أن يلقبوه بالمحسن الكبير. إِذن بأي لفظ نعبر عمن بذل حياته وجميع ما يملك للناس، بقي الإمام هو وزوجته بنت الرسول، وولداه الحسنان ثلاثة أيام لا يذوقون شيئاً، حيث آثروا بطعامهم على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، وباع حديقة لا يملك غيرها باثني عشر ألف درهم وزعها على المحتاجين، ولم يبق لأهله درهماً واحداً، وهم أحوج من يكون إلى المال.

واعتاد الناس أن يقولوا للرئيس: أنت عادل، وإن عاش في النعمة والترف، وشعبه في البؤس والشقاء، إذن بأي لفظ نعبر عن الإمام، وقد أبى أن ينزل القصر الأبيض في الكوفة، وسكن في كوخ مع الفقراء، وهو خليفة المسلمين، وامتنع عن أكل الطيبات، لأن في أطراف مملكته من لا

٣٠١

عهد له بالشبع، ولا طمع له بالقرص.

قال له العلاء الحارثي: يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصماً. قال: ماله ؟ قال: لبس العباءة وتخلى عن الدنيا. قال: عليّ به، فلما جاء قال: يا عدو نفسه، لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك، أترى اللّه أحل لك الطيبات، وهو يكره أن تأخذها !. أنت أهون على اللّه من ذلك. قال: يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك، وجشوبة مأكلك. قال: ويحك، إِني لست كأنت، إن اللّه فرض على أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس.

بهذا القياس، بالشعب بالضعفاء والمساكين والفقراء قاس الإمام، وهو الحاكم المطلق، نفسه وأخاه عقيلاً وولديه حسناً وحسيناً، فلقد شمل عدله القريب والبعيد، والعدو والصديق، كما شمل الغيث المؤمن والملحد، بل شمل عدله الحيوان كما شمل الإنسان، فكان يوصي من في يده إِبل الصدقة أن لا يحول بين ناقة وبين فصيلها، وأن لا يبالغ في حلبها خشية أن يضر ذلك بولدها، وأن لا يركب ناقة ويدع غيرها، بل يعدل بينها في الركوب، وبين صواحباتها، فيا للعدالة المساواة تشمل الأحياء جميعاً، مساواة بين أفراد الحيوان، فضلاً عن أبناء الإنسان.

أما العفو فهو فوق العدل، وعفو الإمام فوق كل عفو، قد يعفو الإنسان عمن يسيء إليه بكلمة نابية، أو يعتدي على بعض ما يملك، أما الإمام فقد ظفر بألد أعدائه مروان بن الحكم وعمرو بن العاص فعفا عنهما، وكل واحد منهما أخطر عليه من جيش بخاصة ابن العاص، وحال جند معاوية بينه وبين الماء في صفين، وقالوا له: لن تذوق الماء حتى تموت عطشاً، فأجلاهم عنه، وسقاهم منه، وأوصى بقاتله ابن ملجم خيراً، وقال لأهله: اعفوا هو أقرب للتقوى.

أما علمه فقد ملأت أقواله كتب اللغة بشتى فروعها، وكتب الفلسفة والأخلاق والفقه بخاصة القضاء، وهو أول رجل في الإسلام، وربما في العالم وضع العلماء كتباً مستقلة في قضائه، وقوله الفصل والحجة القاطعة في ذلك كله، وبكلمة متى ثبت القول عن علي فلا يسأل عن قول سواه، لأنه ينطق بلسان الرسول الأعظم الذي لا ينطق عن الهوى. وأجمع وأروع كلمة قيلت في وصف الإمام هي كلمة صاحبه ضرار، حيث قال له معاوية: صف لي علياً، فقال: كان بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من لسانه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحدته، كان واللّه عزيز الدمعة، طويل الفكرة،

٣٠٢

يقلب كفيه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويبتدئنا إذا أتيناه، ونحن واللّه مع تقريبه لنا، ودنوه منا لا نكلمه لهيبته، ولا نبتدئه لعظمته، وإن تبسم فعن اللؤلؤ المنظوم، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد باللّه لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني الآن أسمعه، وهو يقول: يا دنيا اليَّ تعرضت، أم إليَّ تشوقت: هيهات هيهات غري غيري، لا حين حينك، فقد طلقتك ثلاثاً، لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطبك كبير، آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق(١) .

وبالتالي فلا أريد مما قدمت أن أمهد لذكر فضائل الإمام ومناقبه، وإنما غرضي الوحيد أن أبين أن الولاء للإمام هو ولاء للإنسانية والحق والعدالة، ولا

_____________________

(١) كتاب حديقة الأفراح، لأحمد الشرواني ص ٤٣ طبعة سنة ١٢٩٨ هجرية.

٣٠٣

استدل على ذلك بنص ولا أصل ولا إجماع، وإنما أحيل من يطالبني بالدليل إلى سيرة الإمام وتاريخه، ثم يحكم بما يوحيه عقله وضميره، بل أحيله إلى سيرة الأمويين مع الإمام، وسيعلم من حقدهم عليه، واغراقهم في بغضه مكانته من الحق، لأنهم أعداؤه الألداء، وخصومه الأشداء.

قيل لمعاوية: قد بلغت ما أملت، فلو كففت عن هذا الرجل، فقال: لا واللّه، حتى يربو عليها الصغير، ويهرم الكبير، هذا قول من وصف بالحلم الذي ورثه عن أمه هند، فكيف بغير الحليم منهم !.

المنَاجَاة *

لقد بذل الأئمة الهداة (ع) أقصى ما لديهم من جهد ليُخلّقوا شيعتهم بأخلاقهم، ويقصدوا بهم قصدهم، وسلكوا لذلك كل سبيل، ولم يقتصروا على إلقاء الخطب والمواعظ، والدروس والمحاضرات، وضرب الأمثال والحكم، وإيراد القصص والحكايات، بل أوجدوا لهم آثاراً أخرى من غير هذا النوع، وغير الأساليب المألوفة في فن التربية الحديثة ودور المعلمين والمعلمات وعنوا بها عناية خاصة، لأنها أجدى وأبلغ في التأثير والتهذيب.

وقد اصطلح الشيعة على تسمية تلك الآثار التي لا يقدر قدرها إِلا من فتح اللّه عليه باب علمه وهدايته، اصطلحوا على تسميتها بالأدعية والزيارات، ولكنها في واقع الأمر إِشراق إلهي يكمل ما في النفس البشرية من نقص، ويطهر ما فيها من رجس، ويصلح ما فيها من فساد، هي وحي ما في ذلك شك، ولكنها وحي المحبة والإخلاص، وفيض الضمير والوجدان الحي أراد أئمة الشيعة أن يجردوا من كل نفس رقيباً ملازماً لها في السر والعلانية مسيطراً عليها سيطرة السيد على عبده والقائد على جنده يقربها من الطاعة ويبعدها عن المعصية، فسنوا لأتباعهم أدعية ومناجاة رتبوها على الأيام والأوقات، وأمروهم بتكرارها ومعاودتها حتى تصبح لهم طبيعة ثانية: فدعاء للصباح، وآخر للمساء، وفي كل يوم من أيام الشهر، وفي كل ليلة من ليالي الجمعة دعاء خاص، ولكل من رجب وشعبان ورمضان ولياليه عشية وسحراً وأيامه ظهراً وعصراً أدعية معينة، وأودعوا هذه

_____________________

* - نشر في العرفان أيار ١٩٥٠ بعنوان قرآن رقم ٢ عند الإمامية، وابدلت العنوان هنا، لأن جماعة من الأفاضل انتقدوه.

٣٠٤

الأوراد مكارم الأخلاق بكاملها، وعلى الأصح أودعوها أخلاقهم الكريمة بالذات، وهي لا تعد ولا تحصى، وقد جمعها علماء الإمامية في كتب خاصة، منها الصحيفة السجادية، والاقبال لابن طاووس، ومصباح الكفعمي، وجامع الأدعية والزيارات نذكر منها في مقامنا هذا بعض الفقرات على سبيل الشاهد والمثال:

«ما لي كلما قلت قد صلحت سريرتي وقرب من مجالس التوابين مجلسي عرضت لي بلية أزالت قدمي.. إِلا هي لعلك رأيتني مستخفاً بحقك فأقصيتني، أو لعلك رأيتني معرضاً عنك فقليتني، أو لعلك وجدتني في مقام الكاذبين فرفضتني، أو رأيتني غير شاكر لنعمائك فحرمتني، أو لعلك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني، أو لعلك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلك رأيتني آلف مجالس البطالين فبيني وبينهم خليتني، أو لعلك بقلة حيائي منك جازيتني.. اللهم ألبسني زينة المتقين في بسط العدل وكظم الغيظ، وحسن السيرة، والسبق إلى الفضيلة، والقول بالحق وإن عز، والصمت عن الباطل وإِن نفع، واستقلال الخير وإن كثر من قولي وفعلي، واستكثار الشر وإن قل من قولي وفعلي.. اللهم اجعل ما يلقي الشيطان في روعي من التمني والتظني والحسد ذكراً لعظمتك، وتفكيراً في قدرتك، وما أجرى على لساني من لفظة فحش أو هجر أو شتم عرض أو شهادة باطل أو اغتياب غائب أو سب حاضر نطقاً بالحمد لك، وإغراقاً في الثناء عليك.. اللهم الحقني بصالح من مضى، واجعلني من صالح من بقي، وخذ بي سبيل الصالحين.. اللهم إني أعوذ بك من الكسل والفشل والهم والحزن والجبن والبخل والغفلة والقسوة والذلة والمسكنة والفقر والفاقة، وأعوذ بك من نفس لا تقنع، وبطن لا يشبع، وقلب لا يخشع، ودعاء لا يسمع، وعمل لا ينفع، وصلاة لا ترفع».

فهل ترى وسيلة أيسر من هذه الوسيلة، وأبعدها أثراً وأعمها نفعاً ؟ وهل ترى شيئاً أقرب إلى النفس، وأدنى من القلب والعقل من هذه الخشية والسكينة ؟ وهل ادعى إلى التفكير والتأمل والرجوع بالنفس، إلى بارئها من هذا الشعور الديني الذي يبعث في القلب رغبة ورهبة وحناناً ورحمة.

إن هذا النحو من التأديب لم يكتشفه فن التربية الحديثة بعد ولم تهتد إليه رجاله الاخصائيون، فلم يكتف الإمام بتعداد المساوئ، وإضافة كل سيئة إلى نتيجتها الطبيعية التي لا تنفك عنها بحال، وإنما علم الإنسان كيف يتصل بخالقه رأساً ومن غير واسطة، وكيف يخلد إلى ضميره

٣٠٥

ووجدانه، ويعكف على نفسه فيهذبها ويجرد منها وازعاً يقف سداً بينها وبين شهواتها واندفاعاتها، متجهاً بها إلى الخير والكمال، ناهجاً السعادة والفضيلة.

على هذا الأساس، أساس الشعور باللّه وبالخير المطلق، والتجرد من الشهوات والأهواء وتهذيب الأخلاق والطباع، وتثقيف العقول والمواهب. على هذا الأساس أراد أئمة الشيعة أن يقيموا بنيان الإنسانية لتسيطر المحبة والعدالة، ويعم الأمن والسلام.

وقعت البشرية في أشد مما هي فيه اليوم من الجهل والعدوان وإفشاء الرذيلة والفحشاء، ولم تنشلها من تلك الهوة السحيقة العميقة القنابل والطائرات، إن هذه تزيد المشاكل تعقداً وتقف حجرة عثرة في سبيل الصلاح والإصلاح لأن الأدواء والأوباء لا تعالج بإِيجاد اسبابها الباعثة على نموها وانتشارها. لقد وقع العالم في شر مما هو فيه الآن، فكان خلاصه على يد الرسل والأنبياء، رسل الرحمة والسلام، وانبياء الإنسانية والعدالة، إن احياء روح الفضيلة في النفوس هي السبيل الوحيدة الموصلة إلى الراحة وحسن العاقبة والسعادة في الدنيا والآخرة.

ليس الغرض من هذه الأوراد التقرب إلى اللّه سبحانه بتلاوتها وترديد ألفاظها، وإنما القصد أن نتفهم معانيها ومغازيها، فتغمر بها نفوسنا، ويستغرق بها تفكيرنا، لنعمل جاهدين معتقدين أن من ورائنا قوة خفية تراقب وتحاسب، فتعين المخلص على جهاده، وتمهد له سبيل النجاح، وتشجعه على المضي والنشاط:

«ربي قوّ على خدمتك جوارحي، واشدد على العزيمة جوانحي وهب لي الجد في خشيتك، والدوام في الاتصال بخدمتك، حتى أسرع إليك في ميادين السابقين، واشتاق إلى قربك في المشتاقين، وأدنو منك دنو المخلصين، واخافك مخافة الموقنين».

وهل القرب من اللّه غير الجهاد في سبيل الصالح العام ؟ وهل السباق في ميادين اللّه غير المسارعة إلى الفضائل والخيرات ؟ وهل الاتصال بخدمة اللّه غير المثابرة على العمل الذي يعود بالنفع عليك وعلى أهلك وأطفالك ؟

«اللهم أعطني السعة في الرزق، والأمن في الوطن، وقرة العين في الأهل والمال والولد والصحة في الجسم والقوة في البدن والسلامة في الدين».

إن هذه ثمرات ينتجها السعي مع التوكل على الواحد الأحد، وهل تجد شيئاً أمس بالعاطفة، وأسرع تأثيراً وإنفعالاً من قول الإمام زين العابدين (ع): «اللهم صل على محمد وآل محمد، واجعل أوسع رزقك عليّ إذا كبرت، واحسن أيامي يوم ألقاك».

٣٠٦

وأي حرمة أو هيبة للمرء عند زوجه وأولاده إذا شاب رأسه وقل ماله ؟ ولا يوم كيومه الأخير الذي عليه مدار سعادته أو شقائه الابديين.

وبعد، فإن هذه الكنوز ليست بأدعية ولا أوراد فحسب، وإنما هي كتاب الدهر ومدرسة الحياة، وثروة القلب والعقل، فيجب أن يقرأها المؤمن والملحد، لأنها الوازع الوجداني في هذه الحياة، فضلاً عما فيها من لذة ومتعة وجمال.

كان الشيعة الإمامية منذ عهد أئمتهم إلى زمن قريب يحافظون على هذه الآثار ذكوراً وإناثاً كباراً وصغاراً، يجثمون في المساجد وفي البيوت يكررونها خاشعين متضرعين، فيشعر كل واحد أنه خلق لعمل الخير لا للشر، ووجد للطاعة لا للمعصية، ثم أهملوها كما أهملوا غيرها من الشعائر والعادات المقدسة التي كانوا بها مثلاً أعلى لصدق الإيمان ورسوخ العقيدة.

التقيَّة

قال ابن أبي الحديد في أول الجزء الثالث من شرح نهج البلاغة ما يتلخص بأن معاوية بن أبي سفيان كتب إلى عماله برئت الذمة ممن يروي شيئاً في فضائل علي وأهل بيته، وأن يمحوا اسم كل شيعي من دواوين العطاء، وينكلوا به، ويهدموا داره، وامتثل العمال أمر سيدهم، فقتلوا الشيعة تحت كل حجر ومدر، وطردوهم وشردوهم، وقطعوا الأيدي والأرجل، وسملوا الأعين، وصلبوهم على جذع النخل. وزاد الضغط بعد معاوية أضعافاً، وبالأخص في ولاية عبيد اللّه بن زياد قاتل الحسين، وولاية الحجاج «بن يوسف» حيث قتل الشيعة كل قتلة، وأخذوا بكل ظنة وتهمة حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال له شيعي.

ومن هذا الضغط التزم الشيعة طريق (التقية). ومعناها عندهم الحيطة والحذر من القوي الظالم الذي يأخذ المتهم دون أن يحاكمه ويأذن له بالدفاع عن نفسه.

واليوم لا أثر للتقية عند الشيعة حيث لا خوف عليهم، ولا هم يرهبون.

واستدلوا على تشريع التقية بالآية ١٠٦ النحل «إِلا من اُكره وقلبه مطمئن بالإيمان». قال المفسرون في سبب نزولها: إِن المشركين آذوا عمار بن ياسر، وقسوا عليه، وأكرهوه على قول السوء بحق الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعطاهم ما أرادوا، فوصل خبره إلى الرسول، وهو مع جماعة من أصحابه، فقال بعضهم: كفر عمار، فأجابه الرسول: كلا، إِن عماراً يغمره الإيمان من قرنه إلى قدمه، ودخل عليهم عمار باكياً على ما صدر منه، فمسح الرسول عينيه، وقال له: لا تبك، إِن عادوا لك فعد لهم بما قلت.

٣٠٧

الأصْل في الأشيَاء

من عقيدة الإمامية أن الأصل في الأشياء الاباحة حتى يرد فيها نهي، فهم لا يخطئون من يفعل شيئاً لا يعلم المنع عنه، فعدم العلم بالمنع كاف للحكم بالإباحة، ولا نحتاج إلى دليل خاص يدل على الترخيص، فمن قال: هذا حلال، أو هذا طاهر، لا يسأل عن الدليل، وإنما يطلب الدليل ممن يدعي التحريم أو النجاسة، لأن الأصل في الأشياء الحل والطهارة حتى يثبت العكس.

وينقلب هذا الأصل إلى ضده في بعض الوقائع، أي أن الأصل فيها المنع حتى يثبت العكس، منها حقوق الناس، فلا يجوز لأحد أن يتعدى على غيره بالقتل أو الضرب أو الشتم، أو التصرف في أمواله حتى يعلم بوجود المسوغ، ومنها مقاربة النساء، فلا يجوز مقاربة أية امرأة أو العقد عليها إلا بعد العلم بالحل والجواز، ومنها اللحوم فلا يجوز تناول أي نوع من اللحم حتى يثبت أنه من حيوان يؤكل لحمه، وأنه ذكي حسب الأصول المقررة.

والسر أن الزواج في النوع الأول مطلق غير مقيد بشيء، أما جواز التصرف بحق الغير، بدمه أو ماله، وجواز مقاربة المرأة، وتناول اللحم فمقيد بشرط خاص لا بد من إِحرازه والتثبت من وجوده، وبمجرد الشك في الشرط ينتفي الجواز والترخيص.

٣٠٨

هَل يَجبُ على المتَديّن أن يقَلد في أعمَالِه الدّينية ؟ *

جاءني هذا السؤال من أحد المهاجرين المؤمنين، ثم أخبرني بعض القادمين من المهجر أن هذه المسألة كثر حولها الكلام والحوار بين الجالية اللبنانية في سيراليون.

لكل إنسان أن يستقل بحريته وإِرادته، فيقول ويفعل ما يشاء ما لم يتعد بأقواله وأفعاله على حرية الغير، وبتعبير أهل الشريعة ما لم يحلل حراماً أو يحرم حلالاً، وليس له أن ينسب كلمة واحدة أو فعلاً من الأفعال إلى الدين أو القانون أو لأي شيء آخر ما لم تثبت النسبة لديه بالطرق العلمية الصحيحة.

والمتدين عندما يؤدي عملاً إِنما يؤديه بدافع ثبوته في الدين مدعياً أن الدين نفسه أمره بذلك، ولا ريب أن يكون كاذباً مفترياً على اللّه ورسوله في دعواه هذه إذا لم يتحقق من ثبوتها في الشريعة بأحد طرق الإثبات، ومصادر الشريعة أربعة: كتاب اللّه، وسنة نبيه، والإجماع، وأدلة العقل، ولمعرفة الحكم الشرعي الثابت في هذه الأصول طريقان(١) .

الطريق الأول: أن يكون للمتدين الأهلية التامة لاستخراج الحكم من دليله بنفسه وبلا واسطة، ولا تتحقق هذه الأهلية إلا لمن عرف اللغة العربية من معاني الكلمات وهيئاتها وتراكيبها واطلع على كتب الشريعة، وموارد اجماع العلماء والمشهور من أقوالهم، واتقن أصول الفقه اللفظية والعقلية، ومتى تمت هذه المعلومات للمتدين استطاع بعد بذل الجهد في البحث والتنقيب وإمعان النظر أن يرد الفروع إلى أصولها، والجزئيات إلى كلياتها، ويستخرج الأحكام الشرعية

_____________________

* - نشر في العرفان تشرين الثاني ١٩٥٤.

(١) هذان الطريقان محل وفاق بين الفقهاء أما الاحتياط فقد اختلفوا فيه ولذا لم نذكره.

٣٠٩

من أدلتها وبهذا يصبح عالماً مجتهداً يعمل برأيه، ولا يرجع إلى غيره.

الطريق الثاني: يختص بمن لا أهلية له لاستخراج الحكم الشرعي من دليله، وقد عبر عنه الفقهاء بالمقلد، والتقليد تارة يراد منه التقليد بالرأي، أي الأخذ بقول القائل بصفته الشخصية دون أن يطالب بالحجة والدليل، بل يجعل قوله «العندي» هو الدليل والحجة، كما لو حكم إنسان بصحة شيء أو فساده، لأن فلاناً حكم بذلك بحيث يكون القول هو الدليل الوحيد لا غير، وهذا هو التقليد الأعمى المحرم عقلاً وشرعاً وعرفاً، وهو المعني بما جاء في القرآن الكريم «وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل اللّه، قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا. قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون».

وتارة يراد بالتقليد الأخذ بالرواية أي الأخذ بما ينقله القائل عن غيره، لا من عند نفسه، كالأخذ بقول الطبيب إن هذا الشيء يحتوي على مادة كذا، وبقول المحامي إن القانون ينص على كذا، وبقول المهندس إن هذا الأساس يحمل طابقين من البناء أو أكثر، وكأخذ القاضي بشهادة من يعلم بعدالته، والأعمى بقول البصير الذي يرشده إلى الطريق، وما إلى ذلك من رجوع من لا يعلم إلى من يعلم، وهذا النوع من التقليد، وهو العمل بالرواية لا بالرأي، هو الذي أوجبه الفقهاء، فقد كانوا وما زالوا يرشدون الناس إلى ما ثبت في كتاب اللّه وسنة رسوله لا إلى شيء من آرائهم وأقوالهم الخاصة، فالجاهل يسأل العالم عن الحكم الثابت في الشريعة، فيفتيه به، ويرويه له لفظاً أو معنى، لقد أوجب الفقهاء السؤال على الجاهل للآية الكريمة «فاسألوا أهل الذكر إِن كنتم لا تعلمون» وأوجبوا على العالم أن يجيب ويبين لقوله تعالى «وإذ أخذ اللّه ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه»

وبهذه المناسبة ننقل إلى القراء ما قاله محمد بن علي الشوكاني من علماء السنة في رسالته المسماه القول المفيد في أدلة الإجتهاد والتقليد طبعة سنة ١٩٢٩ ص ١٧ و١٨ و٢٨ «ان حدوث التمذهب بمذهب الأئمة الأربعة إِنما كان بعد انقراض الأئمة الأربعة، وانهم كانوا على نمط من تقدمهم من السلف في هجر التقليد، وان هذه المذاهب إنما أحدثها العوام المقلدة من دون أن يأذن بها إِمام من الأئمة المجتهدين. وكأن هذه الشريعة التي بين أظهرنا من كتاب اللّه وسنة رسوله قد صارت منسوخة، والناسخ لها ما ابتدعوه من التقليد في دين اللّه، فلا يعمل الناس بشيء مما في الكتاب والسنة، بل لا شريعة لهم إِلا ما تقرر في المذاهب، أذهبها اللّه».

٣١٠

فوَائدُ الصَّوم *

اعتاد فريق أن يكتبوا في كل سنة عن فوائد الصوم في عدد رمضان من مجلة العرفان الغراء، ونحن إذ نشكر العرفان التقية السخية، ولهذا الفريق حسن النية، نرجو ألا يكتب أحد في هذه السنة وفي السنين التالية الشيء الذي كان قد كتب في الأجيال الخالية، إن ما ينشرونه في كل عام، هو تكرار لما قيل وسطر من مئات الأعوام.

قالوا: إن فائدة الصوم تنقية المعدة، وفائدة الوضوء النظافة وفائدة الصلاة الرياضة، وأنا استغفر اللّه تعالى عن إخواني الأفاضل من هذا التعليل والتحليل، إن تناول حبة واحدة من الصيدلية لا تدع في المعدة كبيرة ولا صغيرة، وإن الغسل بالماء الساخن والصابون يغني عن عشرين وضوءاً من حيث النظافة، وإن حركة رياضية فنية تغني عن ألف ركعة من حيث الرياضة.

إن العبادة صلة خاصة بين العبد وربه، وفائدتها أخروية محضة، فلا يسوغ تفسيرها بأشياء دنيوية، ولا صلة لها بهذه الحياة سوى إظهار العبودية، والانقياد التام، والطاعة العمياء للّه سبحانه، فكل ما يعود إلى العبادة يجب التسليم به من غير قيد ولا شرط، وقول كيف ولماذا ؟ عقوق، وهذا معنى قول الفقهاء إن العبادة من الأمور التوقيفية، أي يجب الوقوف منها عند أمر اللّه تعالى.

أما حديث «صوموا تصحوا» فلعله جواب لمن يزعم أن الصوم يمرض الصحيح، لا إنه يصحح المريض، ولهذا يحرم الصوم على المريض مع الضرر،

_____________________

* - نشر في العرفان أيار ١٩٥٢.

٣١١

وعلى الصحيح إذا أدى به إلى المرض.

وقالوا: إن من فائدة الصوم أن يتذكر الصائم الفقير، ليتصدق عليه بالفرش والرغيف، ولو صح هذا لوجب الصوم على النواب فقط ليتذكروا الجياع والعطاشى الذين انتخبوهم، وجعلوهم نواباً.

كيفَ يَجبُ أن نَفهَم الِعبَادَة *

المواضيع التي تعرض لها الإسلام

يبحث الإسلام عن العقائد، عن الإيمان باللّه ورسوله واليوم الآخر، وعن محاسن الأخلاق ومساوئها، كالعفاف والصدق، والثبات والوفاء، والكرم والأمانة، وعن الغضب والحسد، والإسراف والبخل، والرياء والكذب، والغش والخلاعة، وما إلى ذلك، ويبحث عن العبادة، كالصلاة والصيام والحج، وعن النظم الاجتماعية، كالزواج والطلاق، والوصايا والمواريث، والجيش وتعيين الولاة، وتنظيم القضاء، ويبحث عن التجارة والزراعة، وما إِليهما من العقود.

ومن يرغب في لقب عالم بالديانة الإسلامية فعليه أن يعرف هذه الأمور، ويأخذها من أصولها المقررة، وأدلتها المفصلة، وبقدر معرفته بها قوة وضعفاً تكون منزلته من العلم بالإسلام وشريعته.

وليس من غرضنا في هذا المقام أن نبين حقيقة كل نوع من هذه الأنواع، والوصف الذي يخصه، ويميزه عن سواه، وإنما الغرض أن نبين الفرق بين العبادة وغيرها من المعاملات، ومنه يتضح القصد مما قلناه عن العبادة في العرفان الأغر عدد شعبان سنة ١٣٧١ هجري، وجواب ما كتبه الدكتور عمر فروخ، وما كتبه الأستاذ الشيخ عبد اللّه الخنيزي حول رأينا في معنى العبادة.

_____________________

* - نشر في العرفان أيلول ١٩٥٢.

٣١٢

معنى العبادة

والفرق بين العبادة وجميع المعاملات أن العبادة لا تصح بحال بل لا تسمى عبادة إلا بشرطين: الأول: أن يثبت وجوبها بطريق النقل لا بطريق العقل. الثاني: أن يكون الدافع الأول على الإتيان بها إِطاعة اللّه سبحانه، وامتثال أمره الخاص المتعلق بالفعل نفسه، فمن عمل عملاً متعبداً به، وقاصداً منه وجه اللّه من دون أن يثبت أمره فإن عمله يكون بدعة وضلالة، وكذا من صام وصلى من غير أن يكون الدافع الأول على عباته إِطاعة الأمر المتعلق بالعبادة يكون عمله لغواً، فليس للإنسان كائناً من كان أن يعبد اللّه تعالى بعمل خاص يخترعه من عند نفسه، أو يزيد أو ينقص فيما رسم اللّه، مستنداً في ذلك إلى الأوامر المطلقة المجملة، كقوله سبحانه «وما اُمروا إِلا ليعبدوا اللّه. واعبدوا اللّه مخلصين له الدين. وما خلقت الجن والانس إِلا ليعبدون» وليس له أيضاً أن يشرك مع طاعة اللّه أي باعث من البواعث المادية، فمن توضأ بداعي الطاعة والنظافة معاً، أو صلى بداعي التعبد والرياضة، أو صام بداعي الوجوب والصحة يقع عمله في غير موقعه.

معنى المعاملة

أما معاملات التجارة، وعقود الزراعة، والأحوال الشخصية، وتنظيم دوائر الحكومة، وما إلى ذلك مما لا يدخل في باب العبادات ولا يمت إليها بصلة قريبة أو بعيدة، فكلها تصح وتنفذ من غير حاجة إلى أمر من اللّه سبحانه، على شريطة أن لا تزاحم حقاً من الحقوق الخاصة أو العامة، فلو فرض أن الناس اصطلحوا فيما بينهم على إيجاد نوع من التجارة أو الزراعة أو الصناعة أو عادة من العادات، ولم يكن شيء منها معروفاً في عهد الرسول فتصح وتسمى شرعية أيضاً، وإن لم يرد فيها نص خاص، تسمى شرعية للمبادئ العامة التي أقرها الدين، مثل «أوفوا بالعقود. وأحل اللّه البيع. والناس عند شروطهم. وكل صلح وشرط جائز إلا ما حلل حراماً أو حرم حلالاً» وأعلن الفقهاء هذه الحقيقة في كتب الفقه وأصوله بقولهم أنه ليس للمشرع حقيقة دينية شرعية واصطلاح خاص لمعنى الألفاظ إلا في العبادات، أي يرجع إليه في تفسير العبادة وأجزائها وشروطها، أما غيرها من المعاملات فهو كأحد الناس لا فرق بينه وبين أي إنسان من أبناء العرف في هذه الجهة.

٣١٣

وإذا وجد أمر خاص في الكتاب أو السنة بغير العبادات، كالأمر بالزواج والتجارة، فلا يجب على الإنسان أن يفعل المأمور به تقرباً إلى اللّه، وامتثالاً لأمره الخاص، كما يجب ذلك في العبادات، فمن تزوج لإشباع الغريزة الجنسية أو للولد، فالزواج شرعي صحيح، ومن باع أو اشترى، لغاية مادية فمعاملته صحيحة نافذة، بل لو قصد التوصل إلى الحرام من البيع كمن باع بعض ما يملك ليستعين به على الاثم والعدوان، فالبيع صحيح، وقد أجمع الفقهاء على أن من باع وقت الأذان إلى الصلاة من يوم الجمعة يأثم، ولكن بيعه صحيح نافذ الأثر، يأثم للآية الكريمة «يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر اللّه وذروا البيع» ويصح البيع، لأن النهي عن المعاملة لا يدل على الفساد.

نتيجة الفرق بين العبادة والمعاملة

وبعد أن اتضح أن الأحكام الشرعية، منها عبادات، ومنها معاملات، وأن العبادة تتوقف على أمر اللّه، وعلى إِتيانها بامتثال هذا الأمر على العكس من المعاملة ينتج أن العبادة من الأمور الروحية التي تقرب فاعلها من طاعة اللّه، وتبعده عن معصيته، وانها لا تمت إلى المادة بصلة، بل هي للّه وحده «فاسجدوا للّه واعبدوا. فاعبد اللّه مخلصاً. وأقم الصلاة لذكري» ولازم ذلك أن كل متدين يجب عليه أن يفعل العبادة عن طيب نفس من غير قيد ولا شرط.

ويبحث الإسلام عن المعاملات على أساس مادي، أي أساس تنظيم الحياة الدنيوية تنظيماً يصون مصلحة المجتمع، ولا تتصل المعاملات بالروح والحياة الأخرى إِلا تبعاً لهذه المصلحة، فمن تجاوز حدودها فقد تجاوز حدين، وخالف حقين، حق اللّه، وحق الناس، أي الحق الخاص والحق العام، ومن أخل بشيء من العبادة فقد تجاوز حداً واحداً، وخالف حقاً واحداً، هو حق اللّه فحسب، فالمعاملات التجارية والزراعية والصناعية يصح منها ما يتلاءم مع الحياة وتقدمها ويفسد منها ما لا يتفق مع الصالح الدنيوي، والصحيح نافذ بحق كل إنسان مؤمناً كان أم جاحداً.

ويتسع على الفقيه مجال الاجتهاد في المعاملات، ويضيق في العبادات، إِذ ينحصر في البحث عن الأمر التعبدي، فإِن وجده التزم به، وإِلا توقف عن القول، واعمال الفكر.

٣١٤

بني الإسلام على خمس

ولا شيء أصرح في الدلالة على ما قدمنا من الحديث الذي اتفقت عليه جميع المذاهب الإسلامية «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إِله إِلا اللّه، وأن محمداً رسول اللّه، وإِقامة الصلاة وإِيتاء الزكاة، وحج البيت» فلم يبنَ الإسلام على شيء من الزراعة والصناعة والتجارة، لأن هذه تبنى عليها الحياة المطلقة في جميع صورها وألوانها، الحياة الطبيعية المادية التي يحياها في هذه الدار كل فرد متديناً أم غير متدين، أما الصلاة والحج والصيام فإنها أركان الحياة الروحية الدينية، فمن أقرَّ بها لزمه أن ينقاد إليها انقياداً تاماً، ولا يجوز له أن يعللها بشيء من المادة، إِذ يتنافى ذلك مع إِسلامه وإِيمانه.

الصلاة تنهى عن الفحشاء

وعلى الأساس الذي ذكرناه لمعنى العبادة نستطيع أن نفسر قوله سبحانه «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر» وغيرها من الآيات والأحاديث التي تعرضت لبيان الحكمة من العبادة، فالقصد منها أن الإنسان لو عبد اللّه حقاً لتمشى على دين اللّه، وانتهج صراطه المستقيم، فانتهى عن المنكر والفحش، وعمل الخير والمعروف إِلا فقد حكم على نفسه بنفسه بأنه دجال منافق خير منه من أعلن الكفر والجحود وبهذا تجد تفسير قوله تعالى «فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون»

ما قال ربك ويل للأولى سكروا

بل قال ربك ويل للمصلينا

وثبت عن الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من اللّه إِلا بعداً. وقال: لا صلاة لمن لم يطع الصلاة. وطاعة الصلاة أن ينتهي المصلي عن الفحشاء والمنكر» وقال الإمام الصادق ع: «من أحب أن يعلم أقبلت صلاته أم لم تقبل فلينظر هل منعته عن الفحشاء والمنكر، فبقدر ما منعته قبلت منه».

٣١٥

المتعَة عِندَ الشيعَة الإمَاميَّة *

ويسمونها بالزواج المنقطع، وبالزواج إلى اجل، وهي كالزواج الدائم لا تتم إلا بعقد صحيح دال على قصد الزواج صراحة، ويحتاج العقد إلى إيجاب. وهو قول المرأة أو وكيلها: زوجت أو أنكحت أو متعت، ولا يكون بغير هذه الألفاظ الثلاثة أبداً، وإلى قبول من الرجل، وهو قبلت أو رضيت.

وكل مقاربة تحصل بين رجل وامرأة من دون هذا العقد فهي سفاح. وليست بنكاح حتى مع التراضي والرغبة الأكيدة. وإذا كان العقد بلفظ أجرت أو وهبت أو أبحت ونحوها، فهو لغو لا أثر له أبداً. ومتى تم العقد كان لازماً يجب الوفاء به، وألزم كل واحد من الطرفين بالعمل على مقتضاه.

ولا بد في عقد المتعة من ذكر المهر، وهو كمهر الزوجة الدائمة لا يتقدر بقلة أو كثرة، فيصح بكل ما يتراضى عليه الرجل والمرأة، ويسقط نصفه بهبة الأجل، أو انقضائه قبل الدخول، كما يسقط نصف مهر الزوجة بالطلاق قبل الدخول.

ولا يجوز للرجل أن يتمتع بذات محرم كأمه، واخته، وبنته، وبنت أخيه، وبنت اخته، وعمته، وخالته، نسباً ولا رضاعاً، ولا بأم زوجته ولا بنتها، واختها، ولا بمن تزوج أو تمتع بها أبوه أو ابنه، ولا بمن هي في العدة من نكاح غيره، ولا بمن زنى بها وهي في عصمة غيره، فالمتعة في ذلك كله كالزوجة الدائمة من غير تفاوت.

وعلى المتمتع بها أن تعتد مع الدخول بعد انتهاء الأجل، كالمطلقة، سوى أن المطلقة تعتد بثلاث حيضات، أو ثلاثة أشهر، وهي تعتد بحيضتين أو بخمسة

_____________________

* - نشر في العرفان تشرين الأول ١٩٥٠.

٣١٦

وأربعين يوماً. أما العدة من الوفاة فهما فيها سواء، ومدتها أربعة أشهر وعشرة أيام، سواء أحصل الدخول أم لم يحصل.

والولد من المتعة كالولد من الزوجة الدائمة في الميراث والنفقة وسائر الحقوق المادية والأدبية.

ولا بد من أجل معين في المتعة يذكر في متن العقد، وبهذا تفترق المتعة عن الزواج الدائم، ولكن الطلاق يفصم عرى الزواج، كما يفصمه انتهاء الأجل في المتعة، فانتهاء الأجل طلاق في المعنى، ولكن بغير أسلوبه.

ولا ميراث للمتمتع بها من الزوج، ولا نفقة لها عليه، والزوجة الدائمة لها الميراث والنفقة ولكن للمتمتع بها أن تشترط على الرجل ضمن العقد الانفاق والميراث، وإذا تم هذا الشرط كانت المتمتع بها كالزوجة الدائمة من هذه الجهة أيضاً، ويكره التمتع بالزانية والبكر.

هذه هي المتعة، وهذي حدودها وقيودها، كما هي مدونة في جميع الكتب الفقهية للشيعة الإمامية، ولم تستعمل المتعة شيعة سوريا ولبنان، ولا عرب العراق، والمنقول أن بعض المسنّات في بلاد إيران يستعملن المتعة.

والخلاصة أن الشيعة الإمامية يقولون بإِباحة المتعة، ولكن على الأساس الذي بيناه. وعلى الرغم من ذلك فإنهم لا يفعلونها، وما هي بشائعة في بلادهم. وإنما الزواج الشائع بينهم هو الزواج الدائم المعروف المألوف عند جميع الطوائف والأمم. ولا أثر لها في محاكمهم الشرعية.

وقد اتفق السنة والشيعة على تشريع زواج المتعة في عهد الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودلت عليه الآية ٢٤ من سورة النساء «فما استمتعتم به منهن، فآتوهن أجورهن فريضة»، وفي الحديث ما ذكره مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد اللّه، قال: «استمتعنا على عهد رسول اللّه وأبي بكر وعمر».

ولكن السنة قالوا: إن المتعة نسخت واصبحت حراماً بعد أن أحلها اللّه سبحانه، وقال الشيعة: لم يثبت النسخ عندنا، كانت حلالاً، وما زالت على ما كانت عليه.

٣١٧

ضَريبَة الزكَاة عِندَ الإماميَّة *

اجتمعت في القاهرة اللجنة التحضيرية للمؤتمر الشعبي العام الذي سيعقد في ٢٠ أيلول من هذه السنة لبحث التكافل الاجتماعي، وستستأنف اللجنة اجتماعها ثانية لتنهي الأبحاث التي تدرج في جدول أعمال المؤتمر.

ومن الأبحاث التي تحضرها اللجنة الزكاة والوقف الخيري لرعاية المؤسسات الاجتماعية، تبحث هذين الموضوعين مكيفين مع العصر على أساس الشريعة الإسلامية، وقد اختير لهذه الغاية ثلاثة من علماء المسلمين، منهم العلامة الشيخ عبد اللّه العلايلي، واثنان من علماء القاهرة، ولا بد أن يدرس هؤلاء الأفاضل أقوال المذاهب في الزكاة والوقف، إن درس أقوالهم مجتمعة يؤدي حتماً إلى النتيجة المطلوبة، إذ رب فقيه لا تتفق فتواه في مسألة إلا مع عصره وبيئته، وآخر تتفق فتواه في المسألة ذاتها مع عصره، ولو ضمت اللجنة علماء من جميع المذاهب الإسلامية لجاءت الفائدة أتم وأكمل.

وان للشيعة الإمامية اجتهادات في زكاة الأموال واخماسها لا تجدها في أي مذهب إسلامي، وبوسعي أن أورد عشرات الشواهد على ذلك غير أن المجال لا يتسع لأكثر من شاهد: قال اللّه تعالى في سورة الأنفال آية ٤١ «واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن للّه خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل» فقد فسرت المذاهب - عدا الشيعة - الغنيمة بالأموال المكتسبة بطريق الحرب والقتال فأوجبوا الخمس بهذا النوع خاصة، أما الشيعة فقالوا: إن

_____________________

* - نشر في جريدة بيروت ٢٣ نيسان ١٩٥٢.

٣١٨

الغنيمة هي كل فائدة تحصل للإنسان من أي سبيل كان، لا من طريق الحرب فحسب.

فمن ملك منجماً من ذهب أو فضة أو حديد أو نفط أو نحاس أو زفت أو كبريت وما إلى ذلك ففيه الخمس، عشرون بالمائة، ومن وجد مدخراً من آثار السابقين أو أخرج شيئاً من البحر كاللؤلؤ والمرجان أو ورث من إنسان مالاً ثابتاً أو منقولاً، وكان المورث لم يؤد الخمس ففي ذلك كله ضريبة ٢٠ بالمائة وكل ما يكسبه الإنسان من أرباح التجارة والصناعة والعمل والاجارات والوظيفة والهدية والوصية، وما إلى ذلك يستثنى منه مؤنته ومؤنة من يعول سنة كاملة وما زاد عن مؤنة السنة ففيه الخمس، ومن اشترى طعاماً أو وقوداً وفضل منه شيء عن السنة ففيه الخمس، ومن اشترى ثياباً تزيد عن حاجته وبقيت عنده أكثر من سنة ففيها الخمس.

هذا مثال واحد أوردناه للتنبيه على أن المجال عند الشيعة الإمامية يتسع لمن يريد أن يتخذ من الشريعة الإِسلامية أحكاماً تتمشى مع كل زمان ومكان.

إن الشيعة يملكون كنوزاً ثمينة من الاجتهادات التي ترتكز على الكتاب والسنة، ويملكون الإفادة منها في كل تشريع جديد، فمن الخير أن يشترك علماء الشيعة في كل مجتمع ومؤتمر يهدف إلى مثل هذه الغاية السامية.

٣١٩

الضَّرورَة تعفي المضطرّ مِنَ العِقاب *

عدم الحرج:

تقوم الشريعة الإسلامية على مبادئ وأسس يقاس بها كل حكم من أحكام الشريعة، من أي نوع كان، ومن تلك المبادئ السعة، وعدم العسر والحرج على المكلفين، وهو أصل مطلق غير مقيد، وحاكم غير محكوم، لا ينفيه شيء، وبه ينتفي كل تكليف يوجب العسر والحرج، سواء أكان التكليف من نوع العبادات أو المعاملات أو العقوبات أو الأحوال الشخصية.

وقد أعلن القرآن الكريم هذا المبدأ «وما جعل عليكم في الدين من حرج» «يريد اللّه بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر». «يريد اللّه أن يخفف عنكم» واشتهر الحديث عن الرسول الأعظم: (بعثت بالحنفية السمحة).

قاعدة المصالح والمفاسد:

ومن القواعد التي ترجع إلى عدم الحرج قاعدة المصالح والمفاسد التي قال بها الشيعة والمعتزلة، تتلخص في أن اللّه أمر بالفعل لمصلحة فيه تعود على فاعله، ونهى عنه لمفسدة كذلك، لا ان الفعل يصبح صالحاً لأن اللّه أمر به وفاسداً لأنه نهى عنه، بل أمر به اللّه تعالى لأنه صالح بالذات، ونهى عنه لأنه قبيح بالذات.

ويتفرع على ذلك أنه يجوز للإنسان - إذا اضطرته الظروف - أن يفعل، ويترك ما نص الكتاب والسنة على وجوبه وتحريمه، ولا يعد ذلك مخالفة منه

_____________________

* - نشر في رسالة الإسلام نيسان ١٩٥٢.

٣٢٠

للشريعة، بل عمل بالشريعة نفسها، على شريطة أن تقدر الضرورة بقدرها، فيكتفي المضطر بما يدفع عنه الضرورة والضيق، وبارتفاع الضرورة يرتفع المسوغ الشرعي والعقلي، ويبقى الشيء على حكمه الأول، ويكون التعدي بغياً وعدواناً «فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إِثم عليه». «فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإِن اللّه غفور رحيم». «وقد فصل لكم ما حرم عليكم إِلا ما اضطررتم إليه».

معنى الاضطرار:

ليس للاضطرار ضابط خاص يرجع إليه الفقيه، وإِنما يختلف باختلاف الأشخاص، والعوامل الخارجية، والدوافع النفسية، فرب حالة تعد اضطراراً بالقياس إِلى إِنسان دون غيره، بل رب حالة تكون اضطراراً لإنسان في مورد ولا تكون اضطراراً له في مورد آخر، ولذا قيل: لكل مقام مقال، ولكل سؤال جواب، ولكل حادث حديث.

وعلى أي الأحوال فليس معنى الاضطرار - في مقامنا هذا - أن يكون الإنسان مجبراً على الفعل، على نحو لا يكون له معه مندوحة إلى الترك، فإن الفعل - والحالة هذه - لا يتصف بحسن أو قبح، ولا يحكم عليه بحل او تحريم، لأنه خارج عن القدرة والاختيار، وإِنما المقصود من الإضطرار أن يكون الإنسان قادراً على الفعل والترك معاً، ولكنه يختار الفعل لعامل خارجي أو دافع نفسي، كمن لا يملك إلا ثوباً واحداً يتستر به، فاضطره الجوع إلى بيعه، ليشتري بثمنه رغيفاً يسد رمقه، ويقيم أوده.

وقد ذكر الفقهاء أسباباً تخفف على المجرم عقاب الجريمة، وأعذاراً تعفي المضطر من كل عقاب، غير أنهم لم ينظموها في مبحث واحد، بل جاءت متفرقة في أبواب الفقه هنا وهناك، ولو جمعت لكانت كتاباً مستقلاً.

٣٢١

اسباب التخفيف:

ومن أسباب التخفيف التي ذكرها الفقهاء: أن الزاني إذا كان أعزب أو متزوجاً يتعذر عليه الوصول إلى زوجته لمرض أو سفر فعقابه الجلد دون الرجم، وإذا كان متزوجاً يمكنه الوصول إلى زوجته ساعة يشاء يعاقب بالرجم، وأن السارق تقطع يده، إذا نقب نقباً، أو كسر قفلاً أو باباً، أما إذا أخذ المال من غير حرز كسرقة الثمرة على الشجرة، أو السرقة من الحقل والبيدر فلا تقطع يده(١) .

الدفاع عن المال والنفس والحريم:

ومن الأعذار التي تعفي المضطر من كل عقاب، الدفاع عن المال والنفس والعرض، ولو أدى الدفاع إلى قتل المعتدي، وعليه جميع المذاهب، قال صاحب المغني ج ٧ «لا أعلم فيه خلافاً» وقال صاحب الجواهر والمسالك «القتل دفاعاً عن النفس والمال لا يوجب قصاصاً. ومن وجد مع زوجته رجلاً يزني بها فله قتلهما معاً، ولا إِثم عليه» وفي الآية الكريمة «ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً» والمعتدي قتل ظالماً لا مظلوماً، وقال الشهيد في المسالك «ألا قوي وجوب الدفاع عن النفس والحريم مع الإمكان، ولا يجوز الإستسلام» أي يجب على الإنسان أن يدافع عن نفسه وحريمه بكل وسيلة، ولو بقتل المعتدي، على شريطة أن يعتمد في الدفاع على الأسهل فالأسهل، كالصياح أولاً، ثم الضرب ثم الجرح، وأخيراً القتل، أما الدفاع عن المال فجائز فعله وتركه.

حاجة المضطر إلى الطعام

ومن الأعذار: حاجة المضطر إلى الطعام، فقد أباح فقهاء المذاهب للجائع الذي يخاف التلف على نفسه أن يتناول كل ما يحفظ به نفسه، ويسد رمقه، فأباحوا له أكل الميتة، والسرقة والنهب والقتل، قال صاحب المغني في باب الصيد والذبائح ج ٨ «إذا لم يجد المضطر إِلا طعاماً لغيره، فإن لم يكن صاحبه مضطراً إليه لزمه بذله للمضطر، فإن لم يفعل فللمضطر أخذه منه، لأنه مستحق له دون مالكه، فإن احتيج في ذلك إلى قتال فله قتاله، فإن قتل المضطر فهو شهيد، وإن آل أخذه إلى قتل صاحب الطعام فدمه هدر لأنه ظالم» وقال صاحب المسالك ج ٢ باب الأطعمة والأشربة: «إن كان المضطر قادراً على صاحب

_____________________

(١) المغني طبعة ثالثة ج ٧ ص ٢٤٨، والجواهر والمسالك باب الحدود.

٣٢٢

الطعام قاتله، فإن قتل المضطر كان مظلوماً، وإن قتل صاحب الطعام فدمه هدر».

ومن الطريف ما ذكره كثير من فقهاء السنة والشيعة وإن المضطر إِن لم يجد إلا نفسه جاز له أن يقطع بعض أعضائه غير الرئيسة التي لا يؤدي قطعها إلى هلاكه، ويأكلها، وأنه إذا وجد إنساناً ميتاً جاز له أن يأكل من لحمه.

وأول ما يختلج في النفس أن الفقهاء قد استوحوا هذا الفرص وأمثاله، من الفقر والحرمان في العصر الذي عاشوا فيه، وإن شأن المضطر في حركاته وسكناته أشبه بشأن الجماد تسيره قوة خارجة عنه، لأنه لا يصغي ولا يمكن أن يصغي لقول: هذا حسن يجب فعله، وذاك قبيح يجب تركه:

وقد التقت النظرية القائلة «إن الفقر ليتحدى كل فضيلة» بنظرية الفقهاء «لا عقاب مع اضطرار» بل هي عينها، وكفى بالفقر عقاباً.

وقال الشيخ محمد الأعسم في منظومة الأطعمة والأشربة(١) :

الفضل للخبز الذي لولاه

ما كان يوماً يعبد الإله

ومن الأمثلة عندنا في جبل عامل «الجوع كافر» ولعل مصدر هذا المثل قول أبي ذر: «إِذا ذهب الفقر إِلى بلد قال له الكفر خذني معك» فقد تجول هذا الصحابي في قرى العامليين - جنوب لبنان - ينذر ويبشر أهله، عندما نفاه عثمان إلى بلاد الشام.

وليس الفقر كفراً فحسب، بل هو الموت الأكبر، كما قال الإمام علي بن أبي طالب ع، موت للعقل والروح والجسم، فلا صحة ولا علم، ولا فضيلة مع فقر، فالجهاد للقضاء على الفقر أفضل من كل جهاد عند اللّه سبحانه، لأنه جهاد في سبيل الإيمان باللّه والعمل بشريعته وأحكامه.

_____________________

(١) الشيخ محمد علي الأعسم عالم من علماء النجف وشعرائها، له منظومات في الفقه والعربية، توفي سنة ١٢٤٧ هجرية.

٣٢٣

اليمين وأحكامها *

وردت اليمين في كلام اللّه سبحانه، كقوله عز وجل: والقرآن، والعصر، والنجم، والتين والزيتون، وما إلى ذلك مما جاء في الكتاب العزيز، ووردت في كلام الأنبياء والأئمة فكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يحلف: والذي نفس أبي القاسم بيده، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، وكان الإمام (ع) يحلف: والذي أصوم وأصلي له، وتجدها في كلام العلماء والجهال، والملوك والصعاليك، وتكاد توجد حيث يوجد ضمير المتكلم، وأكثر ما تكون استعمالاً في كلام التجار والنفعيين.

وعرفت اليمين كتب الشرائع والقوانين، وأطال الفقهاء الكلام في أقسامها وأحكامها وفي الحالف وشروطه، والمحلوف عليه وبه، قال الشيعة الإمامية: لا يتحقق معنى اليمين إِلا إذا كان القسم باللّه وأسمائه الحسنى وصفاته الدالة عليه صراحة، فمن حلف بالقرآن والنبي والكعبة، وما إلى ذلك لا يكون القسم شرعياً، ولا يترتب على مخالفته إِثم ولا كفارة، ولا تُفصل به الدعاوى في المحاكمات، ووافقهم على ذلك أبو حنيفة.

قال الشافعي ومالك وابن حنبل تنعقد اليمين إذا كان الحلف بالمصحف، وتفرد ابن حنبل عن الجميع بأنها تنعقد بالحلف بالنبي(١) وثبت من طريق الشيعة والسنة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: من كان منكم حالفاً فليحلف باللّه أو ليذر. ومن طريق الشيعة أن محمد بن مسلم سأل الإمام الباقر (ع) عن قول اللّه عز وجل: والليل

_____________________

* - نشر في العرفان آذار سنة ١٩٥١.

(١) الدرر شرح الغرر ج ١ باب الإيمان. وميزان الشعراني ج ٢ باب الإيمان.

٣٢٤

إِذا يغشى، والنجم إذا هوى وما أشبه ذلك فقال: إِن للّه عز وجل أن يقسم من خلقه بما شاء. وليس لخلقه أن يقسموا إِلا به.

وتنقسم اليمين إلى أربعة أقسام:

١ - يمين اللغو، وهي التي لا يعتد بها الناس، فلم يقصدوا بها جلب مغنم، ولا دفع مغرم وإنما تدور على ألسنتهم جرياً على المعتاد، كما تقول لمن قال لك: ألا تحبني: بلى واللّه، ولمن قال لك: أرأيت فلاناً أو معك صرف ليرة: لا واللّه، وقولك: فلان رجل طيب واللّه، تقول ذلك من غير قصد اليمين، وليس لهذه اليمين أي أثر عند السنة والشيعة، فصاحبها غير مؤاخذ ولا تجب عليه كفارة سواء أطابق قوله الواقع أم لم يطابق، لأنها ليست بيمين حقيقية، ولا تشبهها في شيء إلا في الصورة والصيغة.

وفي سورة البقرة آية ٢٢٥ «لا يؤاخذكم اللّه باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم، واللّه غفور رحيم».

القسم الثاني: يمين المناشدة، وهي الحلف على إنسان ليفعل أو يترك، وهذه لا أثر لها عند السنة والشيعة لا بالنسبة إلى المقسم، ولا بالنسبة إلى المقسم عليه، وعن الإمام الصادق في رجل أقسم على آخر قال: ليس عليه شيء، إنما أراد إكرامه، وتسمية هذا القسم باليمين ضرب من التجوز.

القسم الثالث: يمين الغموس، وهي الحلف باللّه سبحانه على شيء في الماضي أو الحال مع تعمد الحالف الكذب، وسميت بالغموس لأنها تغمس صاحبها في الذنوب الآثام، وبها تفصل الدعاوى في المرافعات، وتستعملها الناس كثيراً لينفوا عنهم ما نسب اليهم من فعل أو ترك أو لإرضاء المحلوف له، أو ترغيبه كيمين التجار والنفعيين، وهي من أعظم الكبائر مع عدم الصدق، وتكرر النهي عنها في القرآن الحكيم «لا تجعلوا اللّه عرضة لأيمانكم. تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم. لا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل اللّه ولكم عذاب عظيم. ولا تطع كل حلاف مهين. يحلفون باللّه لكم ليرضوكم واللّه ورسوله أحق أن يرضوه إِن كانوا مؤمنين.

٣٢٥

يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا فإِن اللّه لا يرضى عن القوم الفاسقين» والدخل الخيانة، وفي الحديث أن موسى نبي اللّه أمر أن لا يحلفوا باللّه كاذبين وأنا آمركم أن لا تحلفوا باللّه كاذبين ولا صادقين، واتفق السنة والشيعة على أنها توجب الإثم والعقاب ولا توجب الكفارة، لأنها أعظم من أن يكفر عنها إلا الشافعي حيث أوجب التكفير(١) .

القسم الرابع: اليمين المنعقدة، وهي الحلف على آت في المستقبل فعلاً كان أم تركاً، وفي ميزان الشعراني ج ٢ باب الأيمان «إن هذه اليمين تنعقد عند الأئمة الأربعة في الطاعة والمعصية والمباح» وفي الدرر ج ١ باب الأيمان «لو حلف إنسان على معصية كعدم الكلام مع أبيه، وترك الصلاة تنعقد اليمين ويحنث ويكفر - والحنث هو عدم العمل بموجب اليمين - ولو قال كل حلال عليَّ حرام فالقياس أن يحنث عند انتهائه من هذه الجملة لأنه تنفس، بل تنعقد اليمين ولو كان الحالف مكرهاً أو مخطئاً كما لو أراد أن يقول اسقني الماء فسبق لسانه وقال واللّه لا أشرب الماء» وفي ميزان الشعراني «لو حلف لا يكلم فلاناً أو ليضربنه مائة سوط تنعقد اليمين ويحنث، أو حلف ليقتلن فلاناً وكان يعلم أنه ميت تنعقد ويحنث مع قول مالك أنه لا يحنث» وفي الجزء الثاني من حاشية الباجوري على شرح الغزي على متن أبي شجاع «لو حلف لا يصلي فصلى تنعقد اليمين ويحنث إلا صلاة الجنازة لأنها لا تسمى صلاة».

وقال الشيعة الإمامية: إِن اليمين لا تنعقد، ولا يكون لها أي أثر إذا كانت على محرم أو مكروه أو ترك مستحب، فمن حلف أن يشرب الخمر أو لا يصلي أو لا يكلم أباه أو زوجته أو ولده أو يقتل إنساناً أو يضربه أو لا يعود مريضاً، وما إلى ذلك تقع اليمين منه لغواً فلا توجب حنثاً ولا كفارة، لأنها حلف على عمل غير مشروع، وتحليل للحرام أو تحريم للحلال أو استكراه لمستحب أو مباح وإنما تكون اليمين صحيحة عند الشيعة لها أثرها الشرعي إذا حلف على عمل واجب أو مستحب أو مباح على الأقل على نحو تعود اليمين بالمصلحة على الحالف أو عدم الضرر، ولو حلف على ترك شيء وكان في صالح الحالف حين الحلف، ثم احتاج إليه تنحل اليمين، ومثاله أن يحلف إنسان على ترك أكل اللحم لغاية صحية، تنعقد اليمين، فإِذا أكل اللحم والحالة هذه يأثم ويكفر، ولو تحسنت

_____________________

(١) ميزان الشعراني ج ٢ باب الأيمان.

٣٢٦

صحته بعد ذلك ، واحتاج إلى أكل اللحم ، تنحل اليمين ، ويصبح في حل منها. فكما أنها لا تنعقد أبداً على ما كان تركه أولى وأرجح، فإنها تنحل بعد انعقادها إذا صار مرجوحاً.

أما كفارة هذه اليمين المنعقدة لو خالف الحالف فعتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، ومن عجز عن ذلك كله فصيام ثلاثة أيام عند جميع المذاهب للآية ٨٩ من سورة المائدة «فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم».

أما يمين البراءة من الحق فحرمتها مؤكدة عند جميع المذاهب سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: أنا بريء من دين محمد إن لم أفعل كذا فما كلمه الرسول حتى مات، وفي الحديث أن من حلف بالبراءة من الحق فقد برئ منه كاذباً كان أو صادقاً. اللهم ما عرفتنا من الحق فحملناه، وما قصرنا عنه فبلغناه.

٣٢٧

نحوَ فِقْه إسْلامي في أسْلوبٍ جَديد *

إن من تتبع آيات الأحكام وأحاديثها، وتدبر معانيها وأسرارها يرى أن التشريع الإسلامي يرتكز على أصول ومبادئ عامة هي:

الحرية، وحقن الدماء، وصيانة الفروج والأموال، واحترام العقائد، وعدم الضرر والحرج، والوفاء بالعهد، وحفظ النظام، وعقوبة الجاني، وتغريم المعتدي، وعدم الغش والخيانة، وإباحة الطيبات، وتحريم الخبائث، ومراعاة العقل والعدل، ودرء المفاسد، وجلب المصالح، وفصل الخصومات بالصلح والحسنى مع الإمكان، وإلا فبالقوة على أساس الحق، والأخذ بالمعرف مع عدم وجود النص المعاكس والمساواة بين الناس جميعاً، وما إلى ذلك مما تستدعيه الحاجة، ويفرضه الظرف، ويقره المنطق السليم.

إن هذه المبادئ هي الأسس الثابتة للتشريع الحديث، والمصادر الأولى التي يستقي منها المشرع العصري أحكامه وأراءه، أسس راسخة لا تتغير بتغير الزمن، ولا تتبدل بتبدل الأحوال، وإنما تتطور الأسباب والحاجات التي تمثل هذه المبادئ. فقبل عصر الآلة كان العرف يعتبر قيوداً وشروطاً في البيع والتجارة لا تتم بدونها، وبعد أن زاد الإنتاج، وتطورت وسائل النقل، واتسعت حدود التجارة وأسبابها براً وبحراً لم تعد تلك القيود مرعية عند العرف، وأصبح التاجر الشرقي يشتري من التاجر الغربي الصفقات الكبرى بهاتف أو برقية، ويتم البيع بينهما قبل استلام المثمن وقبض الثمن، ثم يبيع الشرقي هذه الصفقات بالوسيلة نفسها، فالشرع - والحالة هذه - يلغي الشروط التي كانت معتبرة قبلاً، ويلزم

_____________________

* - نشر في النشرة القضائية أيار ١٩٥١.

٣٢٨

المتابعين بما التزما، والزمتهما به غرفة التجارة، فالمعول شرعاً على العرف الذي يختلف باختلاف الزمن، ولا ينظر إلى الوسائل مهما كان نوعها ما دامت لا تحرم حلالاً، ولا تحلل حراماً، وبهذا نجد تفسير الحديث المشهور «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة» أي أن المفاهيم العامة كالبيع مثلاً بمعناه الشامل كان حلالاً في عهد محمد ص، وسيبقى كذلك إلى يوم القيامة، وإن تطورت أفراده بتطور الزمن.

فأي حكم يتنافى مع مبدأ من هذه المبادئ فهو محل للاعتراض والطعن، ولا يسوغ نسبته إلى الإسلام وشريعته، وإن كان الحاكم به مرجع المؤلفين قديماً وحديثاً، وشيخ المجتهدين علماً وورعاً، بل إذا كان الحديث مخالفاً لهذه المبادئ يجب إهماله أو صرفه عن ظاهره، وإن كان راويه من السابقين الأولين، حيث ثبت بطريق السنة والشيعة أن النبي أمر أن يعرض ما روي عنه على كتاب اللّه، فما وافقه فهو قائله، وما خالفه لم يقله(١) .

وعلى الرغم من إيمان فقهاء السنة والشيعة بهذه المبادئ العامة، واعترافهم بأن الشريعة الإسلامية ترتكز عليها، وتستنير بضوئها فإنك تجد في كتبهم أحكاماً لا تتفق مع مبدأ من مبادئ الإسلام، وقد تجاوزت هذه الأحكام حد الإحصاء. نقدم بعضها بين يدي القارئ ليكون شاهداً على ما نقول منها: ما أجمع عليه فقهاء الشيعة أنه إذا كانت عين في يد إنسان فأقرّ بها لآخر، ثم أقرّ بها لغيره، كما لو قال: هي لزيد، بل هي لعمر وجب على المقر أن يدفع العين للأول، وثمنها بكامله للثاني، لأنه ساوى بينهما في الإقرار. يعطي العين للأول لتقدم الإقرار له وثمنها للثاني، لأنه أحال بينه وبين حقه. وهذه «الحيلولة» بمنزلة التلف(٢) . ان مثل هذا الحكم ضرر فاحش على المقر، حيث حكم عليه بأكثر مما ثبت في الواقع، وأن أحد المحكوم لهما أخذ منه ما لا يستحقه ظلماً وعدواناً بحكم القضاء.

ومنها: ما أجمع عليه فقهاء الشيعة أيضاً أنه إذا ظلم قوي عاملاً فحبسه حائلاً

_____________________

(١) كتاب فرائد الأصول للشيخ الأنصاري من الشيعة، وكتاب فجر الإسلام نقلاً عن الموافقات للشاطبي من السنة.

(٢) كتاب الجواهر، باب الاقرار، وجميع كتب الفقه للشيعة.

٣٢٩

بينه وبين عمله الذي يدر عليه وعلى عياله القوت قالوا: إن القوي آثم يستحق الذم والعقاب، ولكن لا يجوز الحكم عليه بالمبلغ الذي فوته على العامل أي لا يحكم عليه بالعطل والضرر «أما لو غصب دابة ضمن منافعها سواء استوفاها الغاصب أم لا»(١) مستندين في ذلك إلى أن العامل نفسه إنسان حر لا يتقوم بمال، فمنافعه كذلك، بخلاف الدابة فإنها تتقوم هي ومنافعها بالمال(٢) . وهذا الحكم يتنافى مع مبدأ الحرية واحترام الأنفس والأموال. والعرف لا يرى أدنى تفاوت بين حبس عامل لو ترك حراً لحصل على المال، وبين التعدي على ماله الحاصل.

ومنها: ما ذكره صاحب المسالك، وصاحب الجواهر من فقهاء الشيعة في باب الطلاق «إذا كرهت المرأة زوجها، وأرادت انفساخ عقد الزواج، فارتدت عن الإسلام انفسخ العقد وبانت منه. فاذا رجعت بعد ذلك إلى الإسلام قبل منها وتمت الحيلة» ومثل هذا الاحتيال على الدين لتحقق الأهواء والشهوات لا يقره عقل ولا شرع سماوي أو وضعي(٣) .

ومنها: ما جاء في كتاب الميزان للشعراني من السنة (ج ٢) باب الصيد والذباحة: أن ابن حنبل قال (لا يحل صيد الكلب الأسود - ووجهة صاحب الكتاب - بأنه شيطان، وصيد الشيطان رجس، لأنه لا كتاب له، ولو كان له كتاب لحل صيده) وفي باب الشهادات من الكتاب المذكور نقلاً عن ابن حنبل أيضاً: أنه لا تقبل شهادة البدوي على القروي.

وفي كتاب الفقه على المذاهب الأربعة (ج ٤ ص ٢٨٩) (إذا أراد رجل أن يقول لزوجته: أنت ظاهر، فسبق لسانه، وقال: أنت طالق يحكم القاضي بصحة الطلاق.

_____________________

(١) كتاب الوسيلة الكبرى، باب الغصب للسيد أبو الحسن.

(٢) كتاب الجواهر باب الغصب.

(٣) عرضت لي هذه الحادثة حين كنت قاضياً في محكمة بيروت الشرعية. كرهت امرأة زوجها وطلبت منه الطلاق فامتنع، فأشار عليها بعضهم بالارتداد، فارتدت عن الإسلام إلى النصرانية، وسجلت ارتدادها عند المحافظ وفي دائرة الاحصاء وقدمت لي طلباً بفسخ الزواج، فأصدرت قراراً بتاريخ ١٩ شباط سنة ١٩٤٩ برد طلبها وبقاء الزواج فاستأنفت قراري فأصدرت محكمة الاستئناف الشرعية قراراً بتاريخ ٨ كانون الأول سنة ١٩٤٩ بفسخ الزواج بينها وبين زوجها، وبعد هذا القرار رجعت إلى الإسلام وتزوجت غيره وتمت الحيلة.

٣٣٠

وفي كتاب الذخائر الأشرفية لابن الشحنة الحنفي باب النكاح «إذا علق رجل طلاق امرأته على رؤية شيء، وقد كانت حاملاً، فخرج إلى السوق، ورأى ذلك الشيء ووضعت امرأته حملها، وعندما رجع إلى بيته وجدها متزوجة برجل آخر فيصح الطلاق من الزوج، والزواج من الآخر».

إن هذه الأحكام وأمثالها التي يجدها المتبع في كتب الفقه لرجال الدين لا تعتمد على غير الحدس والاقيسة الباطلة، فمن الخطأ نسبتها إلى شريعة خالدة ذات مبادئ صحيحة ثابتة كالشريعة الإسلامية، إن هذا النوع من الأحكام لا يجوز بقاؤه بحال من الأحوال في كتب الفقه الإسلامي التي يقدسها الأستاذ والطالب، ويعتمد عليها المرجع الأكبر في علمه وعمله.

لقد آن لقادة الدين في النجف والأزهر أن يصفوا الحساب مع هذه الكتب، فيدرسوها دراسة علمية صحيحة، ويختاروا منها ما يتفق مع حاجاتنا الاجتماعية والاقتصادية، ومع المبادئ العامة للتشريع الإسلامي، ويظهروا ما في بطونها من كنوز وفوائد لا نجدها في قانون قديم وحديث، ويهملوا هذه السخافات التي تعود بنا إلى عهد الجهل، ودور الوحشية، وتعوقنا عن التفكير في مسايرة الحياة وأطوارها.

اعتمد التشريع الإسلامي في بدايته على الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وكان هذان الأصلان يومذاك كافيين وافيين باغراض الحياة الساذجة البسيطة في عهد الرسول، وبعد أن تطورت الحياة، وفوجئ المسلمون بأمور لا يعرفون عنها وعن أحكامها كثيراً أو قليلاً، ورأى فقهاؤهم أن الجمود عند نصوص الكتاب والسنة لا يزيل جهالة، ولا يرشد إلى هداية لجأوا إلى أصول أخرى للتشريع غير الكتاب والسنة، فقال السنة: عندنا القياس، وقال الشيعة: عندنا العقل، ولكن الكثيرين منهم وخاصة «المتأخرين» دونوا أحكاماً تتنافى مع روح التشريع الإسلامي ومبادئه العامة، ولا يؤيدها قياس صحيح أو عقل سليم.

يجب على الفقيه إذا عرضت له مسألة من المسائل أن يستخرج حكمها - قبل كل شيء - من آيات الأحكام وأحاديثها الثابتة على أن يراعي في تخريج الحكم المبادئ العامة للتشريع فإذا وجد آية أو رواية تتنافى بظاهرها مع مبدأ منها وجب أن يصرفها عن ظاهرها، ويؤولها بما يتفق مع العقل والمنطق، وإذا فقد النص من الكتاب والسنة تتبع أقوال الفقهاء، فإن وجد لها أثراً في كلامهم نظر إلى دليلهم غير مقلد لأحد في أصل أو فرع كائناً من كان، فإن كان معقولاً وكفيلاً

٣٣١

بالغاية المنشودة من الشرع عمل به، وإن لم يجد لمسألته أثراً في كتبهم، أو وجد حكمها من النوع الذي نقلناه، اعرض غير مكترث بالمتون والشروح والحواشي، ورجع إلى عقله واجتهاده، وركز حكمه على مبادئ التشريع مسترشداً بالقواعد العامة التي قررها العقل، ووضعت لحل المشكلات والمعضلات. يجب أن نسترشد بكل قاعدة وأصل وضع لرفع مستوى التشريع سواء أكان واضعه شيخاً قديماً أو جديداً، ما دام الأصل يتفق مع منطق العقل، وروح الشرع.

نحن نعتقد أن الشريعة الإسلامية شريعة خالدة تمتاز بروح المرونة، والتطور مع كل عصر، وأن الشرائع الحديثة قد اقتبست الكثير من أحكامها. ولكن هذا لا يمنعنا من إعلان الحق بأن فيها إلى جانب ذلك أحكاماً دخيلة ابتدعها التعصب والجهل، وأنها في أشد الحاجة إلى التقليم والتطعيم، وهذا لا يحط من شأنها، ولا ينزلها عن عرشها، فهذه أرقى القوانين الحديثة التي هي نتيجة التفكير العميق، والدراسة الصحيحة ما زالت معرضاً للتعديل والتبديل، والزيادة والنقصان، فأحرى أن يعرض ذلك لما في كتب الفقه التي مضى عليها قرون عديدة، وهي على وضعها وطبعها، وترتيبها وتبويبها، مع أن أصحابها لا يعلمون الغيب، ولا يتنزهون عن الخطأ.

وضع الفقهاء كتباً، وبوبوا أبواباً خاصة للأمور الاجتماعية والاقتصادية كالزواج والطلاق، والتجارة والاجارة، وأكثروا فيها من الفروع والقروض، ومع هذا كثيراً ما تعرض لنا مسائل من هذه الأبواب نجهل حكمها، فنرجع إلى كتبهم وأبوابهم باحثين عن الحكم فلا نجد له أثراً في فروعهم وفروضهم على كثرتها، فكيف بما لم يفردوا له باباً مستقلاً، ولا عنواناً خاصاً كالملاحة والتجارة البحرية ونظم البريد التي هي من صميم الحياة، والتي وضع لها المشرع العصري قوانين في مجلد ضخم يبلغ مئات الصفحات.

لقد تطورت الحياة، وتعددت شؤونها واحداثها، ولم يبق شيء حقير أو خطير على ما كان عليه في عهد الفقهاء السالفين، فمن المستحيل أن تبقى الأحكام جامدة راكدة، وموضوعاتها في تغير مستمر، ان الحكم متفرع من موضوعه فيثبت بثبوته وينتفي بانتفائه ويتطور بتطوره.

٣٣٢

مَعرَكة في الأزهَر * بين المجددين والمحافظين

قامت في الجمهورية المصرية معركة عنيفة حول الأزهر ومشاكله، واستمرت شهرين على التقريب. يضم الأزهر من العلماء والطلاب ما يربو على العشرين ألفاً، كما أن ميزانيته تربو بكثير على المليون من الجنيهات.

وسبب المعركة أن الاستاذ خالد محمد خالد وجه إلى الشيخ عبد الرحمن تاج على أثر توليه مشيخة الأزهر ستة خطابات مفتوحة يحثه فيها على أن يسير بالأزهر إلى الامام. وأن لا يبقى ما كان فيه على ما كان، وحركت خطابات الاستاذ خالد أفراداً من داخل الأزهر وخارجه، فناصره فريق، وعارضه فريق. ورأيت أن الخص لقراء العرفان أقوال الطرفين، لما فيها من فائدة ومتعة، ولما للأزهر من قدر ومكانة في نفوس القريبين والبعيدين.

يعتقد الأستاذ خالد أن الأزهر عقدة التنفس للمصريين وغيرهم من العرب والمسلمين وانه إنما وجد لخير العروبة والإسلام، ولكن الكثير من شيوخه لم يفهموا هذه الرسالة، أو فهموها ولم يعملوا لها، بل تاجروا بالإسلام بغير مبرر، وباعوه بغير ثمن، وقد أزاح الاستاذ خالد الستار عن بعض ما يعانيه الأزهر من الأدواء، وقدم الحلول لعلاجها واستئصالها.

من هذه الأدواء أن بعض حملة العمائم ينعقون مع كل ناعق لا يردعهم رادع من دين أو عقل. ففي عام ١٩٥١ جاء إلى مصر مدير أقلام المخابرات الإنكليزية في الشرق الأوسط، واستحصل من شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية ووكيل الأزهر على فتوى بأن الإسلام يحرم تحديد الملكية. وفي عام ١٩٣٧

_____________________

* - نشر في العرفان نيسان ١٩٥٤.

٣٣٣

كان الاستاذ يدرس في الأزهر عند أحد الشيوخ، وكان هذا الشيخ يمقت الإمام الراحل المراغي، ويلتمس له العثرات ليحدث تلاميذه بها، وذات يوم رأى التلاميذ شيخهم هذا يقبل يد المراغي، وينحني له كأنه في ركوع، وفي أثناء الدرس سأل التلاميذ شيخهم عن تلك المودة والخضوع، فأجاب الشيخ: يا أبنائي «نقبلها ونلعنها» وقد تأكد التلاميذ فيما بعد أن «نقبلها ونلعنها» قاعدة مطردة يلتزمها معظم شيوخ الأزهر. وفي عام ١٩٣٦ كان الاستاذ خالد يدرس كتاباً كبيراً في الفقه يضم بين دفتيه حشداً من المسائل التافهة، منها «مسألة» من صلى وهو يحمل قربة فساء، فهل تصلح صلاته أم تكون باطلة، ويذكر مثلاً آخر من كتاب التوحيد الذي يدرسه طلاب كلية أصول الدين في الأزهر. قال صاحب هذا الكتاب «لا يجوز عزل الإمام بالفسق والخروج عن طاعة اللّه، ولا بالظلم والجود على عباد اللّه. لأنه قد ظهر الفسق، وانتشر الجور من الائمة والأمراء بعد الخلفاء الراشدين، وكان السلف ينقادون لهم. ولا يرون الخروج عليهم».

ويوم ابتدع فاروق لنفسه نسباً كاذباً برسول اللّه ص قام خطباء المساجد يسألون اللّه أن يوفق مليكهم المعظم ويرعاه، وقال بعض الشيوخ: «لقد علم اللّه أن مليكنا الصالح من سلالة نبيه الكريم، فألهم والده العظيم أن يختار له اسماً قريباً من النبوة ألا وهو الفاروق» وبعد أن ذهب فاروق هذا وقف شيخ من العلماء بين يدي اللواء محمد نجيب فحوقل وبسمل وقال إن فرعون (أي فاروق) علا في الأرض، وجعل أهلها شيعاً.

واجتمعت مرة لجنة الفتاوى بالأزهر، وقررت إِخراج أبي ذر من الإسلام، وظهرت الصحف تحمل طعن العمائم فيه لأن المصلحين والجائعين يستشهدون بأقوال هذا الصحابي الجليل، ونشرت جريدة الأهرام حديثاً لشيخ الأزهر السابق. قال فضيلته: إن الشعب الروسي شقي وتعس، ونظامه الاقتصادي فاشل، والبطالة متفشية، والعمال ساخطون. مع أن هذا الشيخ لو سئل عن حي الزمالك لما عرف أين يقع !

وخاطب الأستاذ خالد شيخ الأزهر قائلاً: أن مهمتك تبدأ من الأجابة على هذا السؤال: هل الأزهر مقبرة أم جامعة ؟ فإِذا كان مقبرة فليبق كما هو، وإِذا كان جامعة فليمض على الدرب الذي خطته الحياة للجامعات. ثم يلتفت ويقول: ان الأزهر في الحقيقة أكثر من جامعة، إِنه غدة تفرز للناس في بلادنا ما لا غنى عنه، وقد خرج في القديم رجالاً لا يستوحون في أعمالهم وأقوالهم غير الدين والعلم. دخل الخديو مرة على شيخ يلقي درسه في فناء الأزهر وقد تحلق الطلاب حوله

٣٣٤

على الحصير، وبسط الشيخ ساقه بسبب مرض بها، فوقف الخديو على الحلقة، فلم يتحول الشيخ من مكانه، ولم يجمع ساقه الممدودة في وجه الخديو، ويعجب الخديو بهذا الشيخ البسيط، ويأمر له بنفحة من المال، فيردها الشيخ قائلاً للرسول: قل لأفندينا: ان الذي يمد رجله لا يمد يده. وعندما توفي الشيخ محمد عبده أرسل الخديو رسولاً إلى شيخ الأزهر يبلغه أن يمتنع هو والعلماء عن تشييع جنازة الإمام، فيلتفت إلى أبناء الأزهر، ويقول على مسمع من رسول الخديو: هيا يا مشايخ إِلى تشييع الجنازة، فيبهت الرسول، ويقول للشيخ: ألا تمتثل رغبة أفندينا ! فيجيب الشيخ في غضب صاعق: ان اللّه وحده هو أفندينا.

ومن الذين ناصروا الأستاذ خالداً في ثورته، ورجا أن لا يخمد لهبها الشيخ حمد حبش من علماء الأزهر ومدرس بأحد معاهده قال: طالما خالجتني المعاني التي تناول شرحها وعلاجها الأستاذ خالد، لكنني كنت أجبن من أن أجهر بها. وذكر مأساة حصلت له. قال: زارني أحد المفتشين وأنا أدرس في بعض المدارس الدينية، فسأل الطلبة في نواقض الوضوء هذا السؤال: رجل من غير دبر، وفتحنا له فتحة في بطنه فما الحكم ! وناصره الأستاذ موسى جلال، ونقل صورة لعالم يحمل الشهادة العالمية من الأزهر قال: جرت مسابقة لوظيفة الإمامية في عهد مصطفى عبد الرزاق حين كان وزيراً للأوقاف، وكان من ضمن الأسئلة هذا السؤال «ماذا تعرف عن قرطبة ؟» فأجاب الشيخ بخط يده ما نصه بالحرف «قرطبة على وزن فعللة، وهي امرأة صحابية جليلة تزوجت صحابياً جليلاً، وانجبت منه تابعين وأتباع التابعين».

أما الذين لم ترق لهم أقوال الأستاذ خالد، وتصدوا للرد عليه فكلمات بعضهم تنبئ بانهم من فصيلة شيخ قرطبة أم التابعين وأتباعهم، وإليك هذه الجملة من تلك الردود «أتى الأستاذ خالد بأمثلة يظن أنها تزري بكتب الفقه من مسائل الطلاق، على أن عين البصير لا ترى هزءاً في ذلك وأي عجب في الصورة التي أبرزها الكاتب - أي خالد - في قول من قال لزوجته «ان لم اقتلك فأنت طالق» أليس يجوز أن يقولها قائل: فهو ان قتل كان قاتلاً، وإن لم يقتل كان مطلقاً».

٣٣٥

أما الآراء التي قدمها الأستاذ خالد، ورآها شافية للأزهر من أدواته، ووافية للسير به في سبيل الحياة والتقدم فتتلخص بأن تتكون لجان تعكف على مراجعة جميع مناهج وكتب التعليم بالأزهر، وتراجع الكتب الدينية المعروضة للثقافة العامة من تفسير وتصوف وسيرة، وتعد قائمة بما لا يتفق منها مع العقل، وتضع اللجان مؤلفاً جديداً يحتوي على خطب تذاع على ملايين المسلمين تكشف لهم النقاب عن الخرافات الدينية، وتنظر اللجان في دراسة الفقه الإسلامي على أن مصدره الكتاب والسنة فقط لا المذاهب الأربعة ولا غيرها.

هذي خلاصة لتلك الخطابات المفتوحة التي وجهها الأستاذ خالد محمد خالد إلى شيخ الأزهر، وما دار حولها من الرد والتأييد، وهي تدل على الوعي والرغبة في أن لا يتخلف الأزهر الشريف عن ركب الحياة السائر دائماً إلى الأمام(١) .

_____________________

(١) المصدر جريدة الجمهورية المصرية العدد ٩ و١٠ و١٢ و١٤ و١٥ و١٧ كانون الثاني ١٩٥٤ والعدد ٦ و٧ و١٠ و١٧ و٢١ و٢٤ شباط ١٩٥٤.

٣٣٦

هَلْ أبو ذرّ اِشتِراكي ؟ *

من الآراء السائدة أن أبا ذر الغفاري ممن آمن بالاشتراكية ودعا إليها وأنه لاقى من جراء ذلك أنواع العذاب، أما سبب هذا الرأي فيعود إلى كفاح هذا الصحابي الجليل في سبيل تنفيذ مبدأ الإسلام ومحاربة البؤس والشقاء.

لم يكن أبو ذر فيلسوفاً ولا صاحب مذهب خاص، بل كان رجلاً ساذجاً عاش في البادية يرعى الماعز والغنم، ثم صحب الرسول الأعظم وأخذ عنه تعاليم الإسلام، فآمن بها، ودعا إليها، فهو لا يعتمد في إيمانه ودعوته على غير الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.

على هذا الأساس، أساس روح الإسلام ومبادئه حارب أبو ذر قيام الترف والنعيم إلى جانب البؤس والشقاء ونادى بأعلى صوته: لا يحل للإنسان أن يتمتع بثروة لا يحصيها العد والحساب، وجاره جائع يعجز عن القوت، ومريض لا يستطيع التطبيب، وجاهل لا يجد السبيل إلى التعليم.

وإذا دفع الأغنياء من أموالهم ما يسد هذا الفراغ، بحيث تتيسر السبيل إلى الرغيف والدواء والدرس لطلابها فلهم أن يكسبوا الأموال ويجمعوها من حل ويتصرفوا بها كما يريدون ويشتهون ما دامت تصرفاتهم لا تضر بصالح الأفراد ولا الجماعات.

ومن تفهم الإسلام وأخلص له، إخلاص أبي ذر حرم على الإنسان أن يتقلب في نعيم الثراء وأخوه يعذب في جحيم الشقاء، أما إذا كان أخوه في عيشة راضية أو مستور الحال فإن النعيم مباح بل مستحب لكل من وجد السبيل إليه قال تعالى

_____________________

* - نشر في جريدة الجهاد ١٩٥٢.

٣٣٧

في سورة الأعراف آية ٣٢ و٣٣ «قل: من حرم زينة اللّه التي أخرج لعباده. والطيبات من الرزق. قل: إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي».

إن هذه الآية الكريمة أباحت للإنسان أن يحيا في نعيم الطيبات ويظهر بمظاهر الابهة والزينة، بل أنكر اللّه على من حرم ذلك، لأن التحريم ينافي الحكمة من خلق الزينة والطيبات التي أخرجها اللّه لعباده، وحرمت الفواحش والخلاعة وانتهاك الأعراض والحرمات، والإثم والبغي.

وعلى هذه الآية يرتكز تشريع القوانين والأحكام الدينية، فتطلق للفرد حريته وسعادته ومواهبه ولا تكون الحكومة ولا غيرها وصياً ولا ولياً عليه، وإنما تكون رقيباً ومحاسباً ورادعاً له عن الإثم والبغي، عن الاضرار بالغير والتعدي على حقوق الناس، كي لا يعيش إنسان على حساب إنسان.

إن للفرد وجوداً مستقلاً عن غيره، ووجوداً بوصف كونه جزءاً من الجماعة، له حقوقه المادية والأدبية.

ليس للإسلام مذهب خاص يسمى الاشتراكية أو الديمقراطية وإنما هو دين وشرع يدعو إلى العدالة الاجتماعية والمحبة والمساواة يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وقد تلتقي هذه الدعوة من بعض جهاتها مع المذاهب المادية والآراء الفلسفية، وتفترق عنها من جهات أخرى ولا تعني هذه الملاءمة أن تلك الدعوة هي عين هذا المذهب وحقيقته.

وكثيراً ما يحسن الإنسان بذكائه وصفاء فطرته بمعنى من المعاني فيعبر عنه في معرض حديثه بأسلوب ساذج عادي ثم يقرر هذا المعنى كحقيقة علمية جاءت نتيجة لدرس العلماء وتجاربهم، كقول أبي ذر «إذا ذهب الفقر إلى بلد قال الكفر: خذني معك» فقد اثبت العلم أن سلوك الإنسان وليد لحالاته وظروفه فإذا كان جائعاً لم ينتفع بالحكمة الصالحة والموعظة الحسنة، لأنه يفكر ببطنه لا بعقله ومثل هذا الحس الصائب لا يصح أن نسميه مذهباً في الأخلاق، ونظرية في العلوم التي هي نتيجة البحث والاقيسة والاستنتاج.

إن أبا ذر صحابي، مثله مثل أي صحابي آمن باللّه ورسوله، وبالإسلام ومبادئه ولكنه يمتاز عن غيره بالزهد والجهر بالحق، وهاتان الميزتان هما السبب الوحيد لنسبة الاشتراكية إلى أبي ذر.

٣٣٨

كان لأبي ذر زوجة سوداء وكان يرحمها ويرفق بها، وكان أصحابه ينصحونه ويلحون عليه بأن يتزوج غيرها فلا يقبل منهما النصح، وكان إذا وزع العطاء على المسلمين أخذ عطاءه وانفقه على الفقراء وكانت له غنيمات يرعاها بنفسه، ويحلبها بيده، فيبدأ بجيرانه وأضيافه إذا كان عنده رغيفان أعطى أحدهما لذي حاجة، وكان لا يقبل عطاء من حاكم ولا من غيره إلا إذا كان العطاء عاماً. أرسل إليه عثمان مائتي دينار فجاء الرسول، وقال له: هذه من عثمان، وهو يقول لك: إنها من صلب ماله ما خالطها حرام، فقال له أبو ذر: هل أعطى أحداً من المسلمين مثلما أعطاني ؟ قال كلا، فقال أبو ذر: إذهب أنت والدراهم، إنما أنا رجل من المسلمين يسعني ما يسعهم ولست في حاجة إلى المال، فقال له الرسول:

أصلحك اللّه إني لا أرى في بيتك كثيراً ولا قليلاً !

فرفع أبو ذر الوسادة وأراه قرصين من خبز الشعير، وقال للرسول: بل عندي هذان وإني لغني بهما وبثقتي باللّه وإيماني بالحق.

يمقت أبو ذر الاحتكار بشتى انواعه ومعانيه حتى الهدايا، فإنها لا تحل له ولا لغيره إذا لم تكن عامة شاملة للجميع، وهو غني بكوز الماء والشعير لأنهما وسيلة تيسر له الوصول إلى هدفه الأسمى وعقيدته المثلى.

أما صراحة أبي ذر فقد جرت عليه الويلات وسببت له الضرب والبؤس والتشريد، عندما أسلم أبو ذر كان عدد المسلمين لا يزيد على أربعة، فتعرض لصناديد قريش، وجهر بالإسلام وتحداهم منادياً بأعلى صوته: لا إِله إِلا اللّه، محمد رسول اللّه. فضربوه حتى كاد يقضى عليه لولا أن يكفهم عنه العباس بن عبد المطلب، ثم عاود فعاودوا الضرب والعذاب. ولما رأى النبي ص أن أبا ذر معرض للقتل، لأن طبعه يأبى السكوت عن الباطل أمره أن يلتحق بأهله حتى إذا كثر المسلمون أتاه.

ولما توفي النبي ص، ورأى أبو ذر الأموال في عهد الخليفة الثالث يبذرها الأقربون هنا وهناك، والناس يقتلهم الجوع والبؤس ثارت ثورته وجن جنونه وصاح في وجه السلطان وفي كل مكان: جمعتم الأموال من الناس فيجب أن تنفقوها على الناس فطرد، ونفي ومات في الصحراء وحيداً، بعد أن مضت عليه ثلاثة أيام لم يطعم فيها شيئاً، هذا والكثير من زملائه الذين هم دونه سابقة ومنزلة عند الرسول يتدفق عليهم الذهب والفضة وتزخر حياتهم بالنعيم وأطايب العيش، وهذي سبيل الإثم والبغي ما تزال، ولن تزال متبعة ما وجد الباطل أنصاراً.

٣٣٩

اصطدم أبو ذر بأصحاب السيادة والثروة لا لأنه يطلب سلطاناً ومالاً، بل لأنه لا يريد أن يقوم الترف والبذخ إلى جنب الفقر والبؤس.

لم يكن أبو ذر صاحب مذهب خاص أو رأي جديد، صحب الرسول وآمن بدعوته على أنها وحي من اللّه سبحانه، وتفهمها على أساس العدل بين الناس أجمعين، فلا تابع ومتبوع، وسيد ومسود، وكرس حياته لتحقيق هذه الدعوة والظفر بها ولم يتخذها كغيره وسيلة للجاه والعيش، فكان ذلك سبباً لأن يتخذ المصلحون من شخصيته هادياً لسلوكهم ورائداً لأهدافهم.

وأي إنسان أدرك الدين على حقيقته كما بشر به الرسل والأنبياء، أدركه على أنه رسالة إنسانية تجاوزت حدود الفردية والعنصرية والإقليمية والطائفية وإن هذه الرسالة غاية تقصد لذاتها لا وسيلة وأداة للميول والشهوات، وأخلص لها إخلاص أبي ذر يكون كأبي ذر قدوة صالحة لكل مصلح ومثلاً أعلى لكل مؤمن.

ليس رجل الدين من نطق بالحكمة وحفظ الأصول والفروع، ولا من آمن بالأساطير والعفاريت والسحر والتخريف فالأول مشعوذ محترف يقلده الجاهلون باسم العلم والمعرفة، والثاني جاهل مخرف يحترمونه باسم الإيمان والقداسة، ولا شيء أعظم من خطرهما على الدين، إذ يبقى بلا قائد ولا رائد، هذا هو السر في ضعف العقيدة الدينية وانصراف الناس عن الدين وأهله.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419