الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان0%

الشيعة في الميزان مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 419

الشيعة في الميزان

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد جواد مغنية
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 137770
تحميل: 8519

توضيحات:

الشيعة في الميزان
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 137770 / تحميل: 8519
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

دَرس مِن المَاضِي *

اعتاد كثيرون من خطباء الجوامع والكنائس أن يأمروا بتقوى اللّه، وينهوا عن معصيته، يوجهون هذه الموعظة - في الغالب - إلى المستضعفين الذين يظلمهم الأقوياء ولا يستطيعون أن يظلموا أحداً، فيخوفوهم من نار جهنم تشوي وجوههم وأفئدتهم، كلما نضجت بدلهم غيرها كي يدوم عليهم العذاب الأليم.

أما الأقوياء الطغاة الذين يملكون الاطيان والبنايات، والأثاث والسيارات، ويملأون البنوك والمصارف بما اختلسوه من أقوات العباد فيمجدونهم ويسبحون بحمدهم، ويلتمسون العلل لتبرير عدوانهم،ويعدونهم بجنة عرضها السموات والأرض، وبقصور أضخم من قصورهم في الدنيا، وببساتين أوسع من بساتينهم في هذه الدار، وبحور أجمل من الراقصات والأرتستات اللائي انفقوا عليهن الألوف، وبخمور ألذ وأشهى مما يشربونها في المواخير والحانات.

ومنذ القديم كان وعاظ المساجد يتقربون إلى الملوك والحكام أمثال الطاغية عبد الحميد، والفاسق فاروق يتقربون إليهم بالدعاء لهم في خطب الجمعة بأن يديم اللّه لهم القوة والعز، والغلبة والنصر متجاهلين قول اللّه سبحانه «ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار» وقول الرسول الأعظم «ما ازداد رجل من السلطان قربا إلا ازداد من اللّه بعدا - من أرضى سلطاناً بما سخط اللّه خرج من دين الإسلام».

إن أمثال هؤلاء الوعاظ يهددون ويهولون على المساكين الذين لا يستطيعون حيلة ولا وسيلة ويبشرون المترفين بما أعد اللّه لهم من الثواب الجزيل والأجر

_____________________

* - نشر في جريدة الهدف ٢٣ أيلول سنة ١٩٥٤.

٣٤١

العظيم، إن الواعظ المخلص هو الذي يقف في وجه القوي الظالم يردعه عن ظلم الضعيف، ويجابهه بالحقيقة، بسوء عمله، ويشهر به بين الناس، ويدعو الجماهير على المنابر وفي المحافل لمكافحته وردعه عن الباطل، ويدلهم على من اغتصب حريتهم، واعتدى على كرامتهم ويدفعهم إلى الاستماتة دون حقهم، على الواعظ أن يفهم المظلوم أن واجبه الأول أن يناضل من ظلمه ويحاربه بكل سبيل، يفهمه أن نومه على الضيم يجعله ظالماً بعد أن كان مظلوماً، لأنه بالخنوع والخضوع يشجع الظالم على التمادي في الغي والفساد.

ونقدم أمثلة من الوعاظ المخلصين السابقين الذين تجردوا عن كل غاية إلا النصح والإخلاص للّه والإنسانية عسى أن ينتفع بها وعاظ اليوم:

مر أبو ذر الصحابي الجليل بمعاوية، وهو يبني داره الخضراء، فصاح أبو ذر في وجهه قائلاً: من أين لك هذا يا معاوية ! فإن كنت بنيتها من مال المسلمين فهي الخيانة، وإن كنت بنيتها من مالك فهو الإسراف.

ولما بنى الخليفة الناصر قصر الزهراء بالأندلس بالغ القاضي منذر بن سعيد في تقريعه وترويعه بخطبة على المنبر أمام الجماهير، والخليفة بينهم. ابتدأ القاضي خطبته بقوله تعالى: «أتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين».

ثم أفضى الخطيب إلى ذكر التبذير والإسراف في أموال الأمة، وتلا قوله سبحانه «أفمن أسس بنيانه على تقوى اللّه ورضوانه خير، أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم، واللّه لا يهدي القوم الظالمين».

وحج المنصور أيام خلافته، فسمع وهو يطوف في البيت، منادياً يرفع صوته، ويقول: اللهم إنا نشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، فطلبه المنصور، وقال له: من تعني. قال: إياك عنيت، فقد حال طمعك بين الناس وحقهم، استرعاك اللّه أمور المسلمين، فجعلت بينك وبينهم حجاباً وحصوناً، واتخذت وزراء ظلمة، وأعواناً فجرة، إن أحسنت لا يعينوك، وإن أسأت لا يردعوك، وقويتهم على ظلم الناس، ولم تأمرهم بإغاثة المظلوم والجائع.

وذات يوم وزع رسول اللّه بعض الفيء على الناس، وأخذ أعرابي نصيبه فاستقله، وبسط يده، وجذب الرسول من ثوبه جذباً شديداً، وقال: يا محمد زدني، فليس هذا المال مالك ولا مال أبيك، واستل عمر سيفه صارخاً دعني يا رسول اللّه أضرب عنقه، فقال الرسول: دعه ان لصاحب الحق مقالاً.

ضرب رسول اللّه بهذا أصدق الأمثال من نفسه، ليعطي الحكام والأقوياء درساً في تقبل النقد

٣٤٢

والمعارضة من كل إنسان، فلا يستصغرون ضعيفاً، ولا يحتقرون فقيراً، فمهما بلغوا من المكانة فإنهم دون النبي قداسة وعظمة، ضرب من نفسه هذا المثل ليعطي الأقوياء هذا الدرس البليغ، وليشجع المستضعفين على المطالبة بحقوقهم، ويجرئهم على من يظن به الإنحراف عن جادة الصواب كائناً من كان، وقال: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقيل له: كيف تنصره ظالماً، قال: بردعه عن الظلم، وفي الحديث إذا عجزت أمتي عن أن تقول للظالم يا ظالم، فقد تودع منها». وفي هذا الحديث يكمن السبب الأول لتأخر الشعوب وفقرها وجهلها واستعبادها وتآمر الأذناب الخونة عليها.

الإسْلام وفكَرة الزّهْد *

تعرضت كتب التاريخ والتراجم لسيرة الملوك والأمراء، وقادة الجيش، ولم تتعرض بالذات لحياة الفقراء الكادحين، ومع ذلك فباستطاعة الباحث أن يتعرف على حياة الجماهير من خلال دراسته لحياة القادة والحكام، لأن حياة هؤلاء وتاريخهم يرتبط ارتباطاً تاماً بالحياة الاجتماعية، وتاريخ المجتمع على أن المؤرخين وأصحاب السير قد ترجموا لعدد كبير من الشعراء ورجال الدين وعلماء اللغة الذين عانوا آلام البؤس والشقاء، ترجموا لهم لأنهم من أهل الذكاء والمعرفة، لا لأنهم من ذوي الفقر والفاقة، فمن هؤلاء:

عبد الوهاب بن علي المالكي كان بقية ذوي الفضل، وقد ضاق به العيش في بغداد فهجرها، ولدى خروجه شيعه خلق كثير من سائر الطوائف، فقال لهم: لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين في كل غداة ما عدلت ببلدكم بلوغ أمنية. ومنهم الاخفش الصغير علي بن سليمان النحوي عاش أياماً على اللفت النيء حتى انتهت به الحال إلى أن مات جوعاً، ومنهم الخليل بن أحمد النحوي العروضي الشهير كان يقيم في خص من أخصاص البصرة لا يقدر على فلسين، والخص خيمة من القصب، ومنهم أبو الطيب الطبري طاهر بن عبد اللّه كان شيخ الشافعية في عصره وبلغ من العمر مائة وستين سنة صحيح العقل والفهم والأعضاء، يفتي ويقضي ويدرس، كان له ولأخيه عمامة وقميص، إذا لبسها هذا جلس الآخر في البيت وإذا أراد غسلها جلسا فيه معاً، وفي ذلك قال الشاعر:

قوم إذا غسلوا ثياب جمالهم

لبسوا البيوت إلى فراغ الغاسل

_____________________

* - نشر في رسالة الإسلام نيسان ١٩٥٤.

٣٤٣

ومنهم السيرافي النحوي الحسن بن عبد اللّه كان ينسج ويأكل من كسب يده، ومنهم الشيخ أبو حامد الأسفرايني، قيل في سيرته: انه إمام المذهب على الإطلاق وشيخ الإسلام والمسلمين قاطبة، وكان يحضر مجلسه ثلاثمائة متفقه، كان هذا الشيخ يشتغل حارساً في الليل لبيوت الناس، ويقرأ ويطالع على ضوء فانوس الحرس، ومنهم الزبيدي محمد بن يحيى تزيد مصنفاته على مائة تصنيف في شتى العلوم والفنون، وقد بلغ به الفقر والجوع أن يضع نواة في حلقه يلوكها ليتعلل بها. ومنهم عبد القادر السهروردي كان يبقى اليوم واليومين لا يذوق الزاد، وكان ينقل الماء بالقربة بأجر زهيد. وكان الشهيد الثاني زين الدين العاملي على علمه ومكانته ينقل الحطب على ظهره إلى أهله لعجزه عن أجرة الخادم، وباع الشيخ عبد المحسن الصوري عمامته ليشتري بثمنها قوت يومه، ويكفي هذا العدد اليسير مثالاً لحياة قادة الفكر وأئمة الدين واللغة البائسين، وتمهيداً لبيان فكرة الزهد وأسبابها.

عاش الخليل في خص من القصب لا يملك فلسين، واشتغل شيخ الإسلام والمسلمين حارساً، ومات الأخفش من الجوع، عاش هؤلاء وأمثالهم في الحرمان وهم يرون أن الأموال تجبى من العامل والفلاح وغيرهما في شرق الأرض وغربها ليبذرها الخونة والمقامرون على الحرام والفسوق، ويمتلكون بها الدور الشاهقة والضياع الواسعة، وكان من نتيجة هذا الوضع الشاذ أن تراكم السخط والاستياء في نفوس الشيوخ المحرومين من الذين قدمنا ذكرهم، والذين لم نأت لهم على ذكر، وعوضاً عن أن يحملهم هذا الاستياء على النضال وجهاد القائمين على الظلم، فقد انقلب في نفوس الكثير إلى يأس من الاصلاح وتبدل الحال وتولد من هذا اليأس فكرة الزهد في الحياة الدنيا، والتهوين من شأنها. وكان لهذه الفكرة خطورتها وتأثيرها في الحياة الاجتماعية بين المسلمين، فكتب علماؤهم في الزهد وأطالوا، ودعوا إليه في المساجد والمحافل، وألبسوه ثوب الدين والقداسة، والزهد بمعنى الاعراض عن طيبات الحياة ليس له مصدر في الكتاب الكريم، ولا في السنة النبوية، وإنما انعكس في أذهان البائسين من فقرهم وفاقتهم، ان أفكار الإنسان ورغباته لا تأتيه عفواً، ولا تهبط عليه من السماء، وإنما تتولد من واقع حياته، والظروف التي تحيط به.

ولولا وجود الفقراء المعذبين في الأرض، لولا الطمع وظلم الإنسان للإنسان، لو طبق مبدأ التعاون الأخوي، والمساواة دون اعتبار لطبقة أو فرد، لما عرف الناس معنى الزهد، ولما كان للفظه في قواميس اللغة عين ولا أثر، ويكفي للدلالة على هذه الحقيقة زهد الإمام عليعليه‌السلام ، وأبي ذر،

٣٤٤

وغيرهما من أنصار الحق، ودعاة العدالة، قال الإمام: هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل في الحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له في الشبع، وقال أبو ذر: عندما خصه عثمان بمبلغ من المال لا أقبل عطاء لا يعم كل معوز.

أعرض الهداة المتقون من الزهاد عن متاع الحياة وطيباتها لا رغبة عنها، بل احتجاجاً على من استأثر بها، واحتكرها لنفسه دون سواه. أرادوا أن تكون الحياة وخيراتها للجميع، أرادوها اجتماعية عامة لا فردية خاصة، أرادوا القضاء على الفوارق والامتيازات ليعيش الجميع في أمن وسلام، فلا تكالب ولا تطاحن على أرزاق الشعوب، ولا حقد ولا حسد على الرغيف.

زهد الإمام في لذائذ العيش، وهو الحاكم المطلق ليفهم الأجيال أنه ليس لمن يتولى أمور الناس أن يشبع، وفيهم جائع واحد. إن الاعراض عن متاع الحياة مواساة لمن حرم منها، كما فعل الإمام، إن دل على شيء فإِنما يدل على قيمة الحياة وأهميتها لا على احتقارها وازدرائها، وقد ثبت في الحديث الشريف أن حرمة الأموال كحرمة الدماء، فالاعتداء على قوت إنسان اعتداء على دمه وحياته، فكيف بالغاصبين المحتكرين أقوات الشعوب وموارد ثرواتهم !

أما الآيات والروايات التي استدل بها بعض الزهاد، فلا تدل على الترغيب في التقشف والاعراض عن اللذائذ، إِنما تدل على وجوب الزهد في المحرمات، والكف عن السلب والنهب، والخيانة والكذب، على أن يضحي الإنسان بالنفس والمال في سبيل الحق، ولا يؤثر الخبيث على الطيب. قال اللّه سبحانه وتعالى: «وابتغ فيما آتاك اللّه الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا» «ألم تر أن اللّه سخر لكم ما في الأرض» «لا تحرموا طيبات ما أحل اللّه لكم ولا تعتدوا إِن اللّه لا يحب المعتدين».

المُحَرّم هو اعتداء الإنسان على حق أخيه، وتهاونه بنصيبه من هذا الحق.

وقد جاء في الحديث الشريف (ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة، ولا الآخرة للدنيا، ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه - المؤمن القوي خير وأحب إلى اللّه من المؤمن الضعيف).

ولا ريب أن الإنسان يقوى بالمادة، وما تقدمت الإنسانية إِلا بعد أن كشف العلم عن حقيقتها، وسلك بها سبيل الخير والعمار، لا سبيل الشر والدمار.

وبعد، فإن الإسلام دين القوة والعمل، لا دين الرهبانية والكسل.

٣٤٥

ستّة يعرفونَ بسيماهم *

قال الإمام الصادق (ع):

* للمرائي ثلاث علامات: يكسل إِذا كان وحده، وينشط إِذا كان الناس عنده، ويجب أن يحمد بما لم يفعل.

* وللكسلان ثلاث علامات: يتوانى حتى يفرط، ويفرط حتى يضيع، ويضيع حتى يأثم.

* وللمسرف ثلاث علامات: يشتري ما ليس له، ويأكل ما ليس له، ويلبس ما ليس له.

* وللمنافق ثلاث علامات: إِذا حدث كذب، وإِذا وعد أخلف، وإِذا اؤتمن خان.

* وللظالم ثلاث علامات: يعصي مَن فوقه، ويعتدي على من دونه، ويظاهر الظالمين.

* وللحاسد ثلاث علامات: يغتاب إذا غاب، ويتملق إذا شهد، ويشمت بالمصيبة.

ثم قال: ولكل واحدة من هذه العلامات: شعب يبلغ العلم بها أكثر من ألف باب.

ويجمع هذه العلامات وشعبها فقدان الشعور بالواجب الذي يمليه الدين والضمير، وقد توجد هذه العلامات كلها أو بعضها مجتمعة في شخص واحد.

إِن الشعور الوحيد الذي يسيطر على صاحبها، ويدفعه إلى الحركة منفعته الخاصة

_____________________

* - نشر في العرفان نيسان ١٩٥١.

٣٤٦

التي استعمل لأجلها الأساليب، واتخذ من غايته مبرراً للكذب والخيانة والغش والخديعة، ولا وزن للقيم الروحية عنده، إِذ الفضيلة في نظره لا تقاس بمقياس النبل والمروءة، وضميره لا يؤنبه على ما يتنافى وشيئاً من ذلك، وإنما يؤاخذه على أنه لم يكن يحسن سبل الاحتيال التي تحقق انانيته، فمن العبث، والحالة هذه، أن ترغبه في ترك الجريمة مناشداً ومبيناً أن عمله يأباه الدين القويم والخلق الكريم.

لقد كثر المصابون بهذا النقص كثرة عمت جميع الفئات، فإنك تجدهم بين الموظفين والاطباء ورجال الدين والمحامين وفي الشوارع والأسواق، وفي المدارس والمزارع، وفي كل مكان، ولا شيء أدل على هذا الوباء وانتشاره من كثرة التذمر وتراكم الاستياء، فالموظف يشكو من عدم إِنصافه في حين أنه يكسل في عمله حتى يفرط، ويفرط حتى يضيع، والشاب المتعلم يشكو من عدم تقدير الناس لحامل الشهادات «والعبقرية الفذة» ولكنه لا يتورع عن ظلم زميله، فينتقصه إذا غاب، ويشمت به إذا فشل، ورجل الدين يشكو من فساد الاخلاق ولكنه في نفس الوقت يحب أن يحمد بما لم يفعل، وقل مثل ذلك في المحامي والطبيب وما إليهما.

إِن تفشي الرذيلة بهذا النحو يحدث خطراً كبيراً على المجتمع، ويسبب مشاكل اجتماعية عديدة، وإذا عولج الفقر بزيادة الإنتاج، والمرض والجهل في المؤسسات العلمية والصحية، فإن الخلق السيئ لا يعالج بغير الشعور بأن وراء هذه الطبيعة قوة خفية تراقب، وتحاسب، وتثيب، وتعاقب، شريطة أن ينعكس هذا الشعور في الأقوال والأفعال، وتكون هي أثراً من آثاره.

بهذا الإيمان، الإيمان باللّه وحده، وبهذا الشعور، الشعور بالخوف والرجاء تهذب الأخلاق فتموت الرذيلة، وتحيا الفضيلة، وتسود المحبة التي تثمر الثقة المتبادلة، والتعاون المنتج.

يقول بعض الفلاسفة: إن من يفعل حسناً أو يترك قبيحاً بدافع الخوف والرجاء من اللّه سبحانه أو الدولة مثله مثل المجرم، وأحسب أن في هذا القول شيئاً من التسامح، فإن الدوافع والبواعث مهما كان نوعها لا تغير من حقيقة ما هو حسن بالذات أو قبيح بالذات، والذين ينزعون إلى الخير بذاتهم، ويفعلونه من تلقاء أنفسهم أندر من الكبريت الأحمر، فالشعور بأن فاعل الخير عظيم مثاب عند اللّه تعالى، وفاعل الشر حقير معاقب ضرورة أخلاقية اجتماعية له فوائده وثمراته، هذا بالإضافة إلى أنه من أهم أركان الدين، ومن هنا تعرف سر ما جاء في الكتاب العزيز «وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون».

٣٤٧

العمَامة وَرجَال الدّين *

كان اللباس في عهد الرسول ص والخلفاء الراشدين، وأول عهد العباسيين واحداً لا تمييز فيه لأحد على أحد، فلا فرق بين لباس العالم والجاهل، ولا بين رجل الدين وغيره، فالنبي ص وخلفاؤه وأصحابه جميعاً كانوا يلبسون كما تلبس الناس، فكان العالم يُعرف بهديه وآثاره، لا بثيابه ومظاهره.

وأول من غيّر لباس رجال الدين في الإسلام إلى هيئة خاصة هو أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة، وفي المجلد الأول من كتاب المدخل لابن الحاج ص ١٣٧ أن تمييز رجال الدين باللباس عن غيرهم مخالف للسنة، ثم ذكر مفاسد تترتب على هذا التمييز نلخصها بما يلي:

إِن تمييز رجال الدين في اللباس يستدعي - كما رأينا - أن يتزيّا بزيهم من لا أهلية له، فيتقدم ويترأس في المجالس وغيرها على من هو خير منه علماً وخلقاً، وتنخدع العوام بثوبه فيأتمنونه ويسألونه عن أشياء لا يعرف حكمها، ويمنعه زيه ولباسه أن يقول لا أعلم، كي لا يقال: إِنه جاهل ومتطفل يلبس ثوب غيره فيفتي بما لا يعلم، ويحكم بغير ما انزل اللّه سبحانه.

ولو كان لباس العلماء كلباس غيرهم من الناس لم تقع هذه المفاسد، ولعمَّ بهم النفع، وحصلت البركة والراحة والخير على أيديهم، وضرب شاهداً على ذلك ما حكي عن العالم أبي الحسن الزيات كان من عادة هذا العالم الجليل أن يلبس لباس العمال، ويعمل في أرضه كما يعملون، وفي ذات يوم خرج ليعمل في أرضه كعادته، وإذا بالشرطة يأخذونه مع غيره من العمال ليشتغلوا سخرة

_____________________

* - نشر في العرفان تموز سنة ١٩٥٤.

٣٤٨

في بستان السلطان، وكان الشرطة يسمعون باسمه، ولكنهم يجهلون شخصه، وليس عليه ما يدل على علمه ومكانته، فسمع وأطاع، وعمل كغيره، ودخل الوزير البستان يراقب الأعمال، وما أن وقعت عيناه على الشيخ حتى انكب على قدميه يقبلهما ويعتذر، ويقول: من جاء بك يا سيدي، فقال: أعوانكم أيها الظلمة، قال أقلنا يا سيدي، واخرج بسلام، فأبى الشيخ إِلا أن يبقى مع المظلومين، وقال: هؤلاء إخواني، كيف أخرج، وأدعهم في ظلمكم ! قال الوزير: يخرجون معك، فأبى الشيخ، وقال: غداً تعودون بهم إلى السخرة، فأعطاه الوزير أوثق العهود على أن لا يسخر أحداً أبداً، فرضي الشيخ، وخرج هو والعمال.

ثم قال صاحب كتاب المدخل في صفحة ١٣٩ «إِنما عز الفقيه بفهم المسائل وشرحها ومعرفتها، ومعرفة السنن والعمل بها.. ومعرفة البدع وتجنبها.. قال اللّه سبحانه: إِنما يخشى اللّه من عباده العلماء. فجعل خلعة العالم الخشية والورع، ولكن البعض جعل خلعته توسيع الثياب والأكمام وكبرها وحسنها وصقالتها».

قال صاحب البحار في المجلد السادس ص ٢٠٩ طبعة ١٣٢٣ هجرية «كان النبي ص يلبس القلانس تحت العمائم، والعمائم بغير القلانس.. وكانت له عمامة يقال لها السحاب، فوهبها للإمام عليعليه‌السلام وكان ربما طلع فيها الإمام، فيقول النبي ص أتاكم علي في السحاب» ويدل على هذا أن النبي لم يكن يتقيد بزي خاص، ولم يوجب أحد من أئمة الدين على طلاب العلم وشيوخه لباساً معيناً.

وبعد أن أصبحت العمامة شعاراً مقدساً بحكم العادة واستمرارها وجب صيانتها من يد العابثين وضحكة الهازئين، وجب على أهلها الحقيقيين أن يلزموا أولي الأمر بسن قانون يحوطها من الفوضى، ويصونها من جاهل منتحل، ومراء محترف، لو تزيَّا غير الشرطي بزي الشرطي لعاقبه القانون، فهل تأتي الأيام، ونرى لمرجع ديني كبير ما لشرطي صغير من نظام يحفظه ويرعاه، وإِن عجز أهل الدين والعلم الصحيح عن إِيجاد هذا النظام فألف خير لهم وللمجتمع أن يسيروا مكشوفي الرأس، أو يلبسوا الكوفية والعقال من أن يتزيَّا بزيهم الجهلاء والدخلاء.

إِن الدين فوق كل شيء، ولكن ليس له حارس يحرسه، ولا سياج يحفظه، اللهم إِلا صوت الاستعمار يخوفنا من عدوه، ويوصينا بالاحتراس منه، يخاف الاستعمار على الدين من عدو الاستعمار، كأن الدين يوالي الاستعمار ويحالفه، وليس للدين عدو كالاستعمار ولا خصم كالاقطاع، لأنهما يدينان بالغي والفساد، فيكفران باللّه وحقوق الإنسانية ويتخذان من الدخلاء على الدين وسيلة لتحقيق ما يبغيان، وهذا وحده يحتم على رجال الدين الذين هم منه في الصميم

٣٤٩

أن يسلكوا كل سبيل للغربلة والتصفية.

يَوم عَاشُورَاء *

لو آمن الناس بقول قائل: ان الحق للقوة لكان عليهم أن يرموا بكل كتاب مقدس، وبكل تشريع ودستور في عرض البحر.

حيث لا عدل، ولا فضيلة، ولا إيمان إلا بالمادة، والنتيجة الحتمية لهذا المنطق إن الإنسانية والجماد في الميزان سيان.

لو كان الحق للقوة ما كان لشهداء الفضيلة ذكر، ولا لأبطال التحرير فضل، وكان السفاكون الهادمون في كل عصر ومصر كيزيد هم الكون بكامله.

إن يوم عاشوراء لأحد الشواهد الصادقة على أن من تسلح بالمادة وحدها فهو أعزل.

ليس يوم عاشوراء احتجاجاً على يزيد وجيش يزيد فحسب، وإنما هو دليل قاطع على أن من يقف أمام الغاصب الطاغي ساجد الركاب منحني الرأس معفر الجبين يمد إليه يد الذل والاستجداء، دليل على أنه ليس له من الحق شيء، وأنه يستحق الحياة. ألا ترى إذا رآه الرائي قال: شقي بائس، ولم يقل: صاحب حق مهتضم.

إن صاحب الحق يمد إلى حقه يد القوة والعزة، يمدها وهو عالي الرأس ثابت الجنان، ولا يردها إلا قابضة على حقه، أو تقطع مجاهدة في سبيل الحق والعدالة، فإن قطعها في هذا السبيل حياة، وبقاءها ممات، والسلام على الحسين القائل: «إني لا أرى الموت إِلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برماً».

ليس يوم عاشوراء عاطفة مذهبية شيعية نحو الرسول وأهل بيته، عاطفة

_____________________

* - تليت في الكلية العاملية يوم العاشر من المحرم سنة ١٣٧١ هجرية.

٣٥٠

ولدها الضغط على الشيعة، كما زعم الزاعمون، ولكنه تكريم للبطولة والتضحية، وإحياء للجهاد المقدس، واعتزاز بالاباء والكرامة، وإيمان بسلطان العدالة والحرية، وثورة على معاهدة سنة ٣٦ المصرية، وعلى الشركة الأنكلوايرانية، وعلى الاستعمار في تونس وعلى الفساد في جميع البلاد، على كل ظالم مستعمر ومستثمر أموياً كان أم غير أموي.

ليس يوم عاشوراء للشيعة فحسب، ولا للسنة، وإنما هو للناس أجمعين، لأنه جهاد وتضحية، وحق وصراحة، ونور وحكمة، وليس لهذه الفضائل دين خاص، ولا مذهب خاص، ولا وطن خاص، ولا لغة خاصة. هذا هو يوم عاشوراء في حقيقته ومغزاه.

أما زيارة كربلاء وشد الرحال إليها من بلاد نائية فهي تكرار وتأكيد لما يهدف إليه يوم عاشوراء، وإنك واجد تفسير ذلك مكتوباً في القطع المعلقة على قبر الحسين بتلوها الزائر ساعة دخوله الحضرة المقدسة، وخروجه منها، وقد جاء فيها:

«إني سلم لمن سالمكم، وحرب لمن حاربكم محقق لما حققتم مبطل لما ابطلتم، فاسأل اللّه أن يجعلني من خيار مواليكم العاملين بما دعوتم إليه، اهتدي بهديكم، وأن يجعل محياي محيا محمد وآل محمد، ومماتي ممات محمد وآل محمد».

يتلو الزائر هذه الكلمات وأمثالها بقلب خاشع ونفس مطمئنة في بقعة ارتفع فيها صوت الحق ضد الباطل، وخفقت رايات الهدى ضد الضلال، وشع فيها نور العدالة ليمحو ظلام الجور، واريقت دماء زكية لتطهر الأرض من رجس الاستعباد.

لم تعرف الكرة الأرضية في عهد يزيد مناصراً للحق غير هذه البقعة الصغيرة المسماة بأرض كربلاء، يقصدها الزائر ليشهد اللّه والناس على نفسه أنه لا يتبع إلا الحق، ولا يناصر إلا أهله، وأنه عليه يحيا ويموت، يحيا حياة محمد وآل محمد، ويموت ممات محمد وآل محمد.

إذن ليس معنى زيارة كربلاء تأليه الأحجار والأخشاب، وعبادة الأرض والتراب.

هذا شاعر - الجواهري - زار قبر الحسين، وبيّن الغاية من زيارته، والهدف من رحلته، فقال: إني زرت قبر الحسين، وشممت ثراه كي يتسرب إلى نفسي نسيم الاباء والكرامة، ويهب على قلبي ريح الحق والعدالة، وعفرت خدي بالتراب، حيث يضع، وقطع خد الحسين، ولم يخضع لظالم، ولثمت أرضاً وطأها الحسين، لأن خيل الطغاة جالت على صدره وقلبه وظهره وصلبه، ولم يهادن، ولم يمالئ من سلب الشعب حريته، والأمة حقوقها.

شممت ثراك فهب النسيم

نسيم الكرامة من بلقع

٣٥١

وعفرت خدي بحيث استرا

ح خد تفرّى ولم يخضع

ولا يبتغي الزائر الشاعر بعد هذا الدليل دليلاً على قداسة غايته ونبل مقصده، وأي دليل أصدق وأبلغ وأوضح على عظمة بقعة دفن فيها من نثرت السيوف لحمه دون رأيه وضميره، ورفع رأسه على الرمح دون إيمانه وعقيدته، وأطعم الموت خير البنين والأصحاب من الكهول إلى الشباب إلى الرضع دون مبدئه ودعوته.

وماذا أأروع من أن

يكون لحمك وقفاً على المبضع

وأن تتقي دون ما ترتأي

ضميرك بالاسل الشرع

وأن تطعم الموت خير البنين

من الأكهلين إلى الرضع

إن يوم عاشوراء وزيارة كربلاء هما رمز الحرية والمساواة بين الأسود والأبيض، والعربي مع العجمي، والملك وابن الشارع، وانه لا فضل إِلا لمن جاهد وكابد في سبيل هذه المساواة، المساواة في الغرم والغنم، فلا ظالم ومظلوم، ولا جائع ومتخوم، ولا عطشان وريان.

٣٥٢

نحْنُ أعدَاء الظُّلم *

(الملك يبقى مع الكفر، ولا يبقى مع الظلم) نطق بهذه الحكمة العلامة المجلسي في كتابه بحار الأنوار، وهو أحد أئمة الدين الإسلامي.

وإن حوادث التاريخ لتشهد لهذه الحكمة بالحق والصدق. إن الحكم الذي يرتكز على الانساب والوراثة، ومظهر الدين، ورضا الأفراد المقربين لا يلبث حتى يزول، والأساس الثابت للحكم هو ثقة الشعب وولاؤه. وما فاروق عنا ببعيد، فهو من سلالة الملوك والأمراء، وتولد من أبوين مسلمين، وأقر بالشهادتين وكان يحضر في المساجد للصلاة، ويقيم موائد الإفطار في رمضان للصائمين، ويستمع لتلاوة القرآن الكريم.

قال الرسول الأعظم ص مفتخراً: (إني خلقت في زمن الملك العادل) يفخر محمد بعدالة رجل لم يكن على دينه، ولا من بلده ولا لغته من لغته، يفخر به وبزمانه لأنه ساوى بين الناس أجمعين، ورفع ظلم القوي عن الضعيف، وطمع الغني بالفقير، وحال بين استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وهذي هي دعوة نبي الإخاء والمساواة ورسول المحبة والسلام.

أجل، كان هذا الملك يعبد النيران، ولكنه لم يتقلب هو وأهله وحاشيته في النعيم والهناء، وشعبه يقاسي عذاب البؤس والشقاء، ولم يتحصن بحجاب يطردون عن بابه الضعيف المظلوم، ويرحبون بالقوي الظالم، بهذه المساواة بين الناس كافة كان ذلك المجوسي عظيماً عند الرسول، على ما بينهما من البعد في الدين واللغة والوطن.

_____________________

* - تليت في الكلية العاملية يوم العاشر من المحرم سنة ١٣٧٢ هجرية.

٣٥٣

فالقريب - إذن - من قربته الإنسانية، وإن بعد لغة وديناً وبلاداً، والبعيد من أبعده الطمع والجشع، وإِن قرب ديناً ولغة ووطناً ونسباً، والرجل الصالح العادل من شعر بالتبعات، وتحرر من الشهوات، وقام بواجبه الإنساني بصبر وشجاعة، أما أن يتظاهر بالدين، بالإيمان بالغيب، والمحافظة عليه، والدفاع عنه، ثم يعمل أعمالاً إجراميةً وحشية فإن الحق والدين يبرآن منه، ومن أعماله، فمسلم ومسيحي ومجوسي اسماء تدل على أن هذا الإنسان تولد من أب مسلم أو مسيحي أو مجوسي لا أكثر ولا أقل، وماذا يجدي الانتساب إلى الدين، إذا لم يكن معه حق وعدالة وقد رأينا المستعمر يتخذ من التظاهر بالدين وسيلة لتوطيد أقدامه، وتغطية عدوانه، ويوجد في عصرنا هذا حكام مسلمون، وغير مسلمين، فهل الحاكم المسلم أصلح وأنفع لشعبه من الحاكم غير المسلم !

كان ملك الفرس يعبد النيران، ولكنه لم يفسد في الأرض بعد إِصلاحها، فيحول خيراتها لإبادة العالم، أو يخصص هذه الخيرات بفئة من الفئات وبهذا كان صالحاً عادلاً يفخر الرسول به وبزمانه.

ونحن المسلمين الذين ندين بدين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله لسنا أعداء دين من الأديان، ولا قومية من القوميات، ولا شعب من الشعوب، ولسنا شعب اللّه المختار كما تزعم الصهيونية لنفسها، وإنما نحن أعداء الظلم والاستعمار والتضليل.

نحن أعداء الصحافة المضللة التي عميت عن بؤسنا وشقائنا، واهتمت بنشر الأزياء، بأخبار الفساتين في باريس. والإعلان عن السيقان الجميلة، ومدينة الملاهي، والكازينو، ولو حسنت نية أربابها وتوخوا الصالح العام، والتوجيه المفيد لنشروا في صحفهم عن كيفية إنتاج الحليب والزبدة في هولندا، وإنتاج الحبوب في أميركا، ووسائل الري في روسيا، وتربية الدواجن في أوروبا.

ونحن في أشد الحاجة إلى هذا التوجيه، إلى الانتفاع بإمكانياتنا المادية، والتحرر من اغلال الامتيازات وقيود الشركات وطوفان البضائع الأجنية.

٣٥٤

لِمَن العِيد ؟ *

كان المجتمع العربي الإسلامي إلى نهاية الحرب الأولى. وقبل أن تقع البلاد العربية فريسة المستعمر يعيش بعقائد ومبادئ يستمدها من دينه الذي كان مصدر معرفته، كما أنه سبيل سعادته وهدايته.

فمناهج التربية كانت توجه نحو القيم الروحية، وتوضع في ضوء أصولها وقواعدها. وكان الفقه الإسلامي يفصل بين الناس في منازعاتهم في المحاكم وغير المحاكم. فالمتعلم من حفظ القرآن، وتعلم العقائد وعلم الكلام، وعرف التفسير والحديث، والقانوني من درس الشريعة الإسلامية، والرجل الطيب من كان سلوكه صورة عن الخلق الإسلامي الصحيح. والخائن من زاغ عن منهج الدين، واستخف بتعاليمه حاكماً كان أو محكوماً.

وكان من نتيجة ذلك أن التعاليم الدينية كانت واضحة في أذهان الناس، متمكنة من نفوسهم، فيعرفون الشيء الذي يأمر به الشرع، أو ينهى عنه، فيخضعون لأمره ونهيه طوعاً لا كرهاً واقتناعاً لا حياء، ويميزون بين الواجب والمحرم والمندوب، فيمتنعون عن السرقة والكذب والزنا والخمر، لأن هذه محرمة، ويؤدون الصلاة والزكاة والحج، لأنها واجبة، ويتصدقون مؤمنين بأن الصدقة سنة ندب إليها الشرع الشريف، هكذا كان المجتمع يواجه الحياة بعقيدة تهديه، وتسدد خطاه، وبدين يهذب من سلوكه وأخلاقه. فكان الفرد وهو في أحسن أوقات النعيم يشعر بالخوف من اللّه، وبحافز يبعثه إلى أن يساءل نفسه: ما هي

_____________________

* - تليت في اجتماع ديني في الزيدانية ببيروت ١٩٥٢ واذيعت في الوقت نفسه من محطة الإذاعة اللبنانية.

٣٥٥

عاقبة النعمة التي وهبني اللّه إياها ؟ هل أثاب عليها أو أعاقب، وماذا سيكون موقفي أمام اللّه إذا سألني عنها ؟ لقد كان الإحساس الديني يلازمه في جميع أحواله، حتى عند المعصية، فسرعان ما يندم ويبالغ في الانابة والتوبة.

وقد أعطانا الاحتلال الأجنبي مجتمعاً جديداً، أعطانا مجتمعاً لا يهتم بالعقائد والأخلاق، ولا يعرف من المبادئ قليلاً ولا كثيراً، وعرف الأجنبي كيف يخلق مجتمعاً أعزل من الضمير والمثل العليا، فوجه اهتمامه قبل كل شيء إلى الشريعة الإسلامية، فأزاحها من المحاكم ودور القضاء، وأحل محلها القانون الوصفي الذي يتلاءم مع أغراضه الاستعمارية، كما ألغى من المدارس كل ما يمت إلى الدين واحياء الضمير بسبب، ووضع منهاج التربية على أساس قتل الروح الوطنية، وإضعاف اللغة العربية، وطلى عقول الناشئة بألفاظ جوفاء تتطاول بها إلى الكراسي والمناصب، ولو أن الأجنبي حين الغى الدين من مناهج التربية أحل محله العلم الذي نجابه به مشاكلنا الاقتصادية لهان الخطر، ولكنه حاول أن يجردنا من الروح والمادة معاً ليبرر استغلاله وجشعه.

أجل هكذا أراد المستعمر أن نكون، أن نعيش في ظلام دامس، وجو مفعم بالغموض بالنسبة للعقائد وآداب السلوك، وقد تم له ما أراد، أو بعض ما أراد، وإِن أردت برهاناً على ذلك فقارن بين احترامنا لشهر الصيام اليوم، واحترامنا له بالأمس، وبين أغنياء المسلمين اليوم، وأغنيائهم بالأمس، فمن بنى هذي المدارس والمساجد ؟ ومن أوقف الأسواق والمخازن في سبيل الخير ؟ وقل لي بربك هل تستطيع أن تجمع قليلاً من المال دون أن تقيم حفلاً برئاسة حاكم أو وزير تنشد بين يديه القصائد الطوال، والخطب الرنانة في المديح والثناء، وتسلك الف سبيل وسبيل، تفعل ذلك مرغماً لأن الغني لا يتبرع لأي عمل خيري إِلا ملقاً لحاكم أو زعيم، أو رغبة في رتبة، أو شهرة. هذي هي أخلاقنا أخلاق تجارية لا دينية، وهذي إِحدى الأسباب للضعف والانحلال، وأي شيء أدل على الضعف من المظاهر يوم العيد الذي سيطل علينا غداً، لمن هو العيد ! ومن هم الذين سيعيدون ويفرحون ؟ هم الأغنياء ونساؤهم وأطفالهم، أما الأرامل والأيتام، والعاطلون عن العمل فلهم الحسرات والتنهدات للأغنياء اللحم والحلوى والفاكهة وللفقراء الجوع والعطش والدموع. للاغنياء الأجواخ والحرير، وللفقراء الأجساد العارية والثياب البالية، للأغنياء القصور والخدم، وللفقراء الأكواخ وحرارة الشمس، للأغنياء السينما والملاهي، وللفقراء الشوارع والرمال، للأغنياء سيارات الكدلك والبويك، وللفقراء الدهس والسب والشتائم !

ألا ليت يوم العيد لا كان انه

يجدد للمحزون حزناً فيجزع

٣٥٦

وإذا كانت الأنظمة الوضعية لم تبدع للإنسانية شيئاً أفضل مما أبدعه الإسلام فعلينا نحن المسلمين أن نضرب أمثلة من أفعالنا، لا من أقوالنا هذه الحقيقة، أن نضرب أمثلة بالتضحية لا بتلاوة القرآن والخطب والأناشيد فحسب. إن هذا ليس بشيء عند اللّه إذا لم يكن سبيلاً إلى تطبيق تعاليم الإسلام الذي حارب فكرة الإنقسام والتفاضل بين الناس على أساس الغنى والفقر، والانساب والمناصب.

نحن لا نريد أن نعيش بالأحلام العقيمة، ونسعد لأن اسمنا مسلمون، وكفى، إننا نكون مسلمين حقاً سعداء حقاً إذا تدبرنا آي الذكر الحكيم، وتعاونا جميعاً على خير هذا الوطن، على أن يكون مجتمعنا في أمن وأمان من الجوع والمرض والجهل. أيكون الإنسان منا مسلماً، وهو لا يستطيع أن يرى أحداً إِلا أصحاب الجاه والمال ولا يحترم إلا زعيماً أو حاكماً. جاء في الحديث الشريف أن الفقراء هم صفوة الخلق، وان من أراد اللّه فليطلبه عند الفقراء، أي من أراد الحق فلا يبحث عنه في المريخ ولا عند أرباب العروش والتيحان، لأنه لا يجده هناك، إنما يجده في العمل الذي يرفع البؤس عن البائسين، والعوز عن المعوزين، يجده في السبيل الذي يطعمهم من جوع ويؤمنهم من خوف. إن حياة اليسر والراحة تعين على طاعة اللّه وعبادته، وتبعد عن محارمه ومعصيته.

وما كان ربك ليهلك القرى وأهلها مصلحون.

٣٥٧

الجشَع *

كان الناس فيما مضى لا يتطلبون من رجل الدين أن يتكلم في أشياء تخرج عن تعاليم مدرسته ودائرة اختصاصه، فإذا خطب أو كتب تناول موضوعات تكاد تنحصر في العبادات والفقه والوصايا العشر، وما إليها، وكان يسند أقواله إلى كتاب منزل، أو نبي مرسل، أو حكم العقل، أو إجماع الأمة، هذا إذا كان من ذوي العلم والتحصيل، وإلا اسندها إلى مصدر غير صحيح، أو أرسلها إرسالاً من غير اسناد معتمداً على اسم الدين وماله من قداسة وهيبة في النفوس، وكانت هذه القداسة وحدها تقوم عند المؤمنين والاتباع مقام التعليل وذكر الدليل، فهي الحجة القاطعة لإثبات الحق في فصل الخصومات، وحل المشكلات.

أما اليوم فقد عم الوعي، وخضع كل شيء للنقد والتساؤل، وبنيت الحياة واشياؤها على العلم، على التجربة والمشاهدة، فأي مبدأ أو قول كائناً من كان قائله لا بد يتناوله البحث والتمحيص، ومن حاول أو يحاول الافلات من النقد والبحث الحر فإنما يقيم الدليل على أنه يبني على غير أساس، ويسير على غير هدى. إن الويل لمن زلت قدمه عن جادة الصواب، وتجاوز حدود الواقع، واستعان بالأوهام والتخيلات.

إن الدعاية الصحيحة أو قل الناجحة هي أن تعلن الواقع بدون مبالغة أو تحريف، أما إعلان ما ليس بواقع فينتج عكس الغرض المطلوب، لهذا لا أذكر شيئاً مما قرأته في كتاب أو سمعته من أفواه الرجال عن فوائد الصوم، لأن الصوم عبادة، والعبادة لا تصاب بالعقول، ولا تفسّر بالأوهام، بل يختصر فيها على ما نطق به

_____________________

* - اذيعت من محطة الإذاعة اللبنانية ونشر في جريدة «الجريدة» في شهر رمضان المبارك سنة ١٩٥٥.

٣٥٨

القرآن الكريم، وثبت في السنة النبوية.

سأتحدث عن الجشع لا عن الصيام، وكلاهما من وحي رمضان المبارك، لأن الشيء يعرف باضداده كما يعرف بنظائره.

جاء في الحديث الشريف عن الرسول الأعظم ص وآله «الجشع أشد من حرارة النار». وهذا حق، لأن النار لا تنفذ إلى أعماق الأرض، بل تقف عند حد لا تتعداه، إن لم تجد ما تأكله، أما الجشع فلا يحده شيء ولا يشبهه شيء يلتهم ما فوق الأرض وما تحتها ولا يبقي لأحد باقية، وربما كانت الحكمة من وجوب الصوم، والعلم عند اللّه، استنكاراً للجشع والطمع، وإثارة النقمة على أهله الذين يحتكرون الأقوات، ويتحكمون بالأسعار، واحتجاجاً على أصحاب القصور التي تقوم حولها بطون خاوية، وأجسام عارية، وعلى الجامعات والمستشفيات التي اسست للاستغلال والمراباة.

قال الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام «إن كنت تريد من الدنيا ما يكفيك فإن أيسر ما فيها يكفيك، وإن كنت تريد ما لا يكفيك، فإن كل ما فيها لا يكفيك» أي أن كل إنسان لو عمل لكفايته وسد حاجته، لما هو ضروري وحيوي لوجوده وحياته، فإن في هذه الأرض الواسعة الخيرة من الأرزاق ما يكفي جميع سكانها بالغاً ما بلغوا. أما لو عمل للربح والسيطرة والظهور فإن كل ما في الدنيا لا يكفي واحداً، لأن اللاكفاية كاللانهاية لا تحد بحد.

لو أخذ العالم بهذه النظرة لما عرف الناس المشاكل، ولاستراح كل بلد من القلاقل والاضطرابات الداخلية والخارجية، ولسرحت الجنود من ثكناتها، وتحولت مصانع الأسلحة إلى صنع الطعام واللباس، ولم يبق أي داع لوسائل القسوة والعنف، لو عمل كل إنسان للكفاية لما وجد فقير، ولما احتاج أحد إلى الصدقات والمبرات.

إن سلوك هذا السراط هو الذي يأخذ بيدنا إلى حيث نريد وكل جهد يبذل لتجنب الأخطاء والويلات لا بد يتحول إلى النقيض إذا انحرفنا عن هذا النهج القويم، قل في تحديد الفضائل والقيم ما شئت أن تقول وتفلسف ما استطعت فإنك لا تجد ولن تجد لقيمك مكاناً في نفس عاقل إذا لم تحمه من جشع المستغلين، وطمع المستثمرين، إن هدف الإنسان في هذه الحياة أن يحياها بعدالة وسلام، لا أن يفلسفها بمواعظ وكلام، ان الرذيلة أن نبقى في مكاننا من الانحطاط، والفضيلة أن تكون لنا عيشة راضية، ومدارك نامية، وأخلاق سامية، والأخلاق السامية في نظر الإسلام ترتكز على التقوى، فإن الاتجاه إليها يتمثل في كل آية من القرآن الكريم، وكل حديث للرسول العظيم، وكل مبدأ من مبادئ الإسلام، وكل حكم من أحكامه.

٣٥٩

وليست التقوى مظاهر وطقوساً تؤدى في المعابد فقط، وإنما هي العمل المنتج، ولا يمكن أن نفهم أو نتصور التقوى مفصولة عن العمل النبيل، ولا يكون العمل نبيلاً إلا إذا كان مقروناً بالإيمان بأن لك مثل ما لغيرك، وعليك مثل ما عليه دون زيادة أو نقصان في المغنم والمغرم.

بهذا الإيمان، الإيمان بالواجب لا بالقوة نكون من المتقين الأخيار، تؤثر الحق على الباطل، والشجاعة على الجبن، والصراحة على المداهنة، والاباء على الذل، ونقول للظالم يا ظالم، وللخائن يا خائن، وللجاهل يا جاهل. بهذا الإيمان نحيا حياة طيبة لا نخاف ظلماً ولا هضماً، وبدونه نحيا حياة الذل والبؤس، وتسود فينا الرذيلة والفجور، والنفاق، والملق «اللّه ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون».

٣٦٠