الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان14%

الشيعة في الميزان مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 419

الشيعة في الميزان
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 142537 / تحميل: 9286
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

هذا.. ولسوف نرى أن أحمد أمين المصري يأخذ برأي ابن القفطي هذا. لكنه ينظر فيه إلى خصوص أئمة أهل البيتعليه‌السلام ، كما سيأتي بيانه، وبيان مدى خلطه وفساده في الفصل التالي.

وفيه دلالة على أن الفضل كان مخدوعاً، وعلى أن المأمون لم يكن مخلصاً فيما أقدم عليه..

د ـ : إنه لا بد لنا من الإشارة هنا إلى أن أكثر ثورات العلويين، التي قامت ضد المأمون ـ قبل البيعة للرضاعليه‌السلام طبعاً ـ كانت من بني الحسن، وبالتحديد من أولئك الذين يتخذون نحلة الزيدية، فأراد المأمون أن يقف في وجههم، ويقضي عليهم، وعلى نحلتهم تلك نهائياً، وإلى الأبد، فأقدم على ما أقدم عليه من البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد.

هذا.. وقد كانت نحلة الزيدية هذه ـ شائعة في تلك الفترة، وكانت تزداد قوة يوماً عن يوم، وكان للقائمين بها نفوذ واسع، وكلمة مسموعة، حتى إن المهدي قد استوزر يعقوب بن داوود، وهو زيدي، وآخاه، وفوضه جمع أمور الخلافة(١) .

وعلى حد تعبير الشبراوي: (.. فولاه الوزارة، وصارت الأوامر كلها بيديه، واستقل يعقوب حتى حسده جميع أقرانه..)(٢) .

____________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ / ١٤٧، وغيره من كتب التاريخ، فراجع فصل: مصدر الخطر على العباسيين.

(٢) الإتحاف بحب الأشراف ص ١١٢.

٢٠١

بل كان: (لا ينفذ للمهدي كتاب إلى عامل، فيجوز، حتى يكتب يعقوب إلى أمينه وثقته بإنفاذه.)(١) .

وقد بلغ من نفوذ يعقوب هذا.. أن قال فيه بشار بن برد أبياته المشهورة، التي قدمناها، والتي يقول فيها: (إن الخليفة يعقوب ابن داوود).

وقد سعي بيعقوب هذا إلى المهدي: وقيل له: (.. إن الشرق والغرب في يد يعقوب، وأصحابه، وإنما يكفيه أن يكتب إليهم ؛ فيثوروا، في يوم واحد، فيأخذوا الدنيا)(٢) .

وذلك لأنه قد: (أرسل يعقوب هذا إلى الزيدية، وأتى بهم من كل أوب، وولاهم من أمور الخلافة في المشرق والمغرب كل جليل، وعمل نفيس، والدنيا كلها في يديه..)(٣) .

وإذا ما عرفنا أن معاوني يعقوب إنما كانوا هم: متفقهة الكوفة، والبصرة، وأهل الشام(٤) .. فإننا نعرف أن الاتجاه الزيدي سوف يؤثر كثيراً، وكثيراً جداً على الثقافة العامة، والاتجاهات الفكرية في ذلك العصر ـ كما حدث ذلك فعلاً.. حتى لقد صرح ابن النديم بأن:

(أكثر علماء المحدثين إلا قليلاً منهم، وكذلك قوم من الفقهاء، مثل: سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة كانوا من الشيعة الزيدية.)(٥) وقد صرح المؤرخون أيضاً: بأن أصحاب الحديث جميعهم، قد

____________

(١) الطبري ج ١٠ / ٤٨٦، والكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٠، ومرآة الجنان ج ١ / ٤١٨.

(٢) الكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٦، ٦٧.

(٣) الطبري ج ١٠ / ٥٠٨، طبع ليدن، والوزراء والكتاب للجهشياري ص ١٥٨، والكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٦.

(٤) الطبري، طبع ليدن ج ١٠ / ٤٨٦.

(٥) الفهرست لابن النديم ص ٢٥٣.

٢٠٢

خرجوا مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، أو أفتوا بالخروج معه(١) .

وعلى كل حال.. فإن ما يهمنا بيانه هنا: هو أن المأمون كان يريد

____________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٣٧٧، وغيرها من الصفحات، وغيرها من الكتب. ويرى بعض أهل التحقيق: أن المقصود هو جميع أصحاب الحديث في الكوفة. ولكن الظاهر أن المراد: الجميع مطلقاً، كما يظهر من مراجعة مقاتل الطالبيين وغيره.

والأمر الذي تجدر الإشارة إليه هنا: هو أن فرقة من الزيدية، وفرقة من أصحاب الحديث، قد قالوا بالإمامة على النحو الذي يقول به الشيعة الإمامية، عندما جعل المأمون (الرضا)عليه‌السلام ولياً لعهده. لكنهم بعد وفاة الرضاعليه‌السلام رجعوا عن ذلك: قال النوبختي في فرق الشيعة ص ٨٦:

(.. وفرقة منهم تسمى (المحدثة) كانوا من أهل الإرجاء، وأصحاب الحديث، فدخلوا في القول بإمامة موسى بن جعفر، وبعده بإمامة علي بن موسى، وصاروا شيعة، رغبة في الدنيا وتصنعاً. فلما توفي علي بن موسىعليه‌السلام رجعوا إلى ما كانوا عليه.

وفرقة كانت من الزيدية الأقوياء، والبصراء، فدخلوا في إمامة علي بن موسىعليه‌السلام ، عندما أظهر المأمون فضله، وعقد بيعته، تصنعاً للدنيا، واستكانوا الناس بذلك دهراً. فلما توفي علي بن موسىعليه‌السلام رجعوا إلى قومهم من الزيدية.) وقد تقدم قول الشيبي: إنه قد التف حول الرضاعليه‌السلام (المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته..) وغير ذلك. والذي نريد أن نقوله هنا هو: أن (الإرجاء دين الملوك) على حد تعبير المأمون (على ما نقله عنه في ضحى الإسلام ج ٣ / ٣٢٦)، نقلاً عن طيفور في تاريخ بغداد.

وفي البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٧٦: أن المأمون قال للنضر بن شميل: ما الإرجاء؟. قال: (دين يوافق الملوك، يصيبون به من دنياهم، وينقصون به من دينهم) قال: صدقت الخ. وليراجع كتاب بغداد ص ٥١، وعمدة القول بالإرجاء (القديم) هو: المغالاة في الشيخين، والتوقف في الصهرين، فالإرجاء والتشيع، وخصوصاً القول بإمامة موسى بن جعفر، وولده علي الرضا على طرفي نقيض ومن هنا كانت المساجلة الشعرية بين المأمون المظهر لحب علي وولده، وابن شكلة المرجي، يقول المأمون معرضا بابن شكلة:

إذا المرجي سرك أن تراه

يموت لحينه من قبل موته

فـجدد عـنده ذكرى علي

وصل على النبي وآل بيته

أما ابن شكلة فيقول معرضاً بالمأمون:

إذا الشيعي جمجم في مقال

فسرك أن يبوح بذات نفسه

فصل على النبي وصاحبيه

وزيـريه وجاريه برمسه

٢٠٣

= راجع: مروج الذهب ج ٣ / ٤١٧، والكنى والألقاب ج ١ / ٣٣١، وبعد هذا. فإنه لمن غرائب الأمور حقاً، الانتقال دفعة واحدة من القول بالإرجاء إلى التشيع، بل إلى الرفض (وهو الغلو في التشيع حسب مصطلحهم، والذي يتمثل بالقول بإمامة الأئمة الاثني عشرعليهم‌السلام ) وأغرب من ذلك العودة إلى الإرجاء بعد موت علي الرضاعليه‌السلام .

وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى تأثير السياسة والمال في هؤلاء الذين أخذوا على عاتقهم ـ بادعائهم ـ مسؤولية الحفاظ على الدين والذود عن العقيدة، فإنهم كانوا في غاية الانحطاط الديني، يتلونون ـ طمعاً بالمال والشهرة ـ ألواناً، حتى إن ذلك يحملهم على القول بعقيدة، ثم القول بضدها، ثم الرجوع إلى المقالة الأولى، إذا رأوا أن الحاكم يرغب في ذلك، ويميل إليه، ولهذا أسموا بـ‍ (الحشوية) يعني: أتباع وحشو الملوك، وأذناب كل من غلب، ويقال لهم أيضاً (وهم في الحقيقة أهل الحديث): (الحشوية، والنابتة، والغثاء، والغثر) على ما في كتاب: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص ٨٠.

وراجع أيضاً فرق الشيعة، ورسالة الجاحظ في بني أمية، وغير ذلك.

بل لقد أطلق عليهم المأمون نفسه لفظ (الحشوية) في مناقشته المشهورة للفقهاء والعلماء المذكور في العقد الفريد والبحار، وعيون أخبار الرضا وغير ذلك. وقال عنهم الزمخشري في مقام استعراضه للمذاهب والنحل، ومعتنقيها:

وإن قلت من أهل الحديث وحزبه

يـقولون تيس ليس يدري ويفهم

ويقابل كلمة (الحشوية) كلمة (الرافضة) التي شاع إطلاقها على الشيعة الإمامية.

ومعناها في الأصل: جند تركوا قائدهم. فحيث إن الشيعة لم يكونوا قائلين بإمامة أولئك المتغلبين، سموهم ب‍ـ (الرافضة) ولذا جاء في تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٦١: أن معاوية كتب إلى عمرو بن العاص:

 (أما بعد. فإنه قد كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، فقد سقط إلينا مروان في رافضة أهل البصرة الخ..). ومثل ذلك ما في وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص ٣٤، فالمراد بكلمة رافضة هنا هو ذلك المعنى اللغوي الذي أشرنا إليه، فسمي الشيعة بالرافضة، لأنهم ـ كما قلنا ـ رفضوا الانقياد لأولئك الحكام المتغلبين.

٢٠٤

= يقول السيد الحميري على ما جاء في ديوانه وغيره ـ يهجو البعض:

أبـوك ابن سارق عنز النبي

وأمـك بـنت أبـي جحدر

ونحن على رغمك الرافضون

لأهـل الـضلالة والـمنكر

ولكن قد جاء في الطبري، مطبعة الاستقامة ج ٦ ص ٤٩٨، والبداية والنهاية ج ٩ ص ٣٣٠، ومقدمة ابن خلدون ص ١٩٨، ومقالات الإسلاميين ج ١ ص ١٣٠، وغاية الاختصار ص ١٣٤: أن سبب تسمية الشيعة بـ‍ (الرافضة) هو أنهم عندما تركوا نصرة زيد بن علي في سنة ١٢٢ ه‍. قال لهم زيد: رفضتموني، رفضكم الله، وهذا كذب راج على بعض الشيعة أيضاً حيث ذكروا وذكر الطبري في نفس الصفحة المشار إليها آنفاً: أن التسمية كانت من المغيرة بن سعيد، لما رفضته الشيعة.. وكانت قضيته سنة ١١٩ ه‍.

ولكن الحقيقة هي أن التسمية بالرافضة كانت قبل سنتي ١٢٢ ه‍ و ١١٩ ه‍. فقد جاء في المحاسن للبرقي ص ١١٩ طبع النجف، باب الرافضة: أن الشيعة كانوا يشكون إلى الباقر المتوفى سنة ١١٤ أن الولاة قد استحلوا دماءهم وأموالهم باسم: (الرافضة) الخ.

وجاء في ميزان الاعتدال طبع سنة ١٩٦٣ م. ج ٢ ص ٥٨٤ بعد ذكره لإسناد طويل أن الشعبي المتوفى سنة ١٠٤ ه‍. قال لأحدهم: (ائتني بشيعي صغير، أخرج لك منه رافضياً كبيراً).

وفي كتاب: روض الأخبار المنتخب من ربيع الأبرار ص ٤٠، أن الشعبي قال: (أحبب آل محمد ولا تكن رافضياً، وأثبت وعيد الله، ولا تكن مرجئياً.). بل لدينا ما يدل على أن تسمية الشيعة بـ‍ (الرافضة) كان قبل سنة المئة، فقد جاء في المحاسن والمساوي للبيهقي ص ٢١٢، طبع دار صادر وأمالي السيد المرتضى ج ١ ص ٦٨ هامش: أن لما أنشد الفرزدق أبياته المشهورة في الإمام زين العابدين، المتوفى سنة ٩٥ ه‍ قال عبد الملك بن مروان المتوفى سنة ٨٦ ه‍ للفرزدق: (أرافضي أنت يا فرزدق؟!). وعلى كل حال: فإن ذلك كله قد كان قبل قضيتي زيد والمغيرة ابن سعيد بزمان بعيد.

٢٠٥

أن يقضي على الزيدية، ويكسر شوكتهم بالبيعة للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، ولهذا نرى أنه قد طبق اللقب، الذي طالما دعا إليه الزيدية، واعترف به العباسيون، بل ودعوا إليه في بدء دعوتهم ودولتهم، ألا وهو لقب: (الرضا من آل محمد)، طبقه على علي ابن موسىعليه‌السلام ، فسماه: (الرضا من آل محمد)(١) . فأصبحت بذلك حجته قوية على الزيدية، بل لم يعد لهم حجة أصلاً. وأصبح يستطيع أن ينام قرير العين، إذ قد أصبح (الرضا من آل محمد) موجوداً، فالدعوة إلى غيره ستكون لا معنى لها البتة. ولسوف تكون مرفوضة من الناس جملة وتفصيلا. وكان ذلك بطبيعة الحال السبب الرئيسي في إضعاف الزيدية، وكسر شوكتهم، وشل حركتهم.

والذي ساهم إلى حد كبير في إضعافهم، وشل حركتهم، هو اختياره الإمامعليه‌السلام بالذات، حيث إنه الرجل الذي لا يمكن لأحد كائناً من كان أن ينكر فضله، وعلمه، وتقواه، وسائر صفاته ومزاياه، التي لم تكن لأحد في زمانه على الإطلاق، فليس لهم بعد طريق للاعتراض عليه: بأن الذي اختاره لولاية عهده، والخلافة من بعده، ليس أهلاً لما أهله له. ولو أنهم ادعوا ذلك لما صدقهم أحد، ولكانت الدائرة حينئذ في ذلك عليهم، والخسران لهم دون غيرهم.

____________

(١) راجع: الفخري في الآداب السلطانية، ص ٢١٧، وضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٤، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٧، والطبري، وابن الأثير، والقلقشندي وأبو الفرج. والمفيد وكل من تعرض من المؤرخين لولاية العهد. بل لقد صرح نفس المأمون بذلك في وثيقة ولاية العهد، وهذا يكفي في المقام.. ولقد قال دعبل:

أيا عجباً منهم يسمونك الرضا

ويـلقاك منهم كلحة وغضون

وهناك نصوص أخرى مفادها: أنه سمي الرضا، لرضا أعدائه، وأوليائه به، وعزى الشيبي في كتابه: الصلة بين التصوف والتشيع ص ١٣٨: عزا رضا أعدائه به إلى قوة شخصيتهعليه‌السلام .. أما نحن فنقول: إنه ليس من اليسير أبداً، أن تنال شخصية رضا كل أحد، حتى أعدائها. اللهم إلا إذا كان هناك سر إلهي، اختصت به تلك الشخصية، دون غيرها من سائر بني الإنسان..

٢٠٦

فذلكة لا بد منها:

هذا.. ولا يسعنا هنا إلا أن نشير إلى أن المأمون، لم يخترع أسلوباً جديداً للتصدي للزيدية، والحد من نفوذهم، وكسر شوكتهم، ببيعته للرضاعليه‌السلام ، إذ أنه كان قد استوحى هذه الفكرة من سلفة المهدي، الذي كان قد استوزر يعقوب بن داوود الزيدي، ليحد من نشاط الزيدية، ويكسر شوكتهم. وكان قد نجح في ذلك إلى حد ما: إذ لا يحدثنا التاريخ عن تحركات زيدية خطيرة ضد المهدي، بعد استيزاره ليعقوب، وتقريبه للزيدية، كتلك الأحداث التي حدثت ضد المنصور، وخصوصاً ثورة محمد وإبراهيم ابني عبد الله. كما يلاحظ أن تقريب العباسيين للزيدية في عصر المهدي، وتسليطهم على شؤون الدولة وإداراتها، لم يؤثر في الوضع العام أثراً يخشاه العباسيون، وذلك بلا شك مما يشجع المأمون على الإقدام على ما كان قد عقد العزم عليه، بجنان ثابت وإرادة راسخة.

يضاف إلى ذلك: أن سهولة إبعاد العباسيين لهم عن مراكز القوة، ومناصب الحكم على يد المهدي نفسه، الذي نكب يعقوب بن داوود، الوزير الزيدي، حيث لم تصاحبه ردة فعل، ولا نتج عنه أية حادثة تذكر ضد العباسيين، لا حقيرة، ولا خطيرة.. هو الذي شجع المأمون على أن يستوحي نفس الفكرة، ويلعب نفس اللعبة، ويتبع نفس طريقة المهدي. في مواجهتهم، وكسر شوكتهم، بالبيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده. وعلى كل حال، فإن هذا أسلوب قديم اتبعه العباسيون في دعوتهم الأولى أيضاً، حيث بايعوا للعلويين، وأظهروا أن الدعوة لهم وباسمهم..

ثم كانت النتيجة هي ما يعلمه كل أحد، حيث انقلبوا عليهم يوسعونهم قتلاً وعسفاً، وتشريداً عندما خافوهم. فلم يعودوا بحاجة إليهم.

ه‍ ـ : أضف إلى ذلك ما تقدم أن المأمون كان يعلم قبل أي شخص آخر بطبيعة العلاقات التي كانت قائمة بين الأئمةعليهم‌السلام ، وبين الزيدية، حيث إنها كانت على درجة من السوء والتدهور. وكان عدم التفاهم، والانسجام فيما بينهم واضحاً للعيان..

٢٠٧

حتى لقد شكى الأئمةعليهم‌السلام منهم، وصرحوا: بأن الناس قد نصبوا العداوة لشيعتهم، أما الزيدية فقد نصبوا العداوة لهم أنفسهم(١) ، وفي الكافي رواية مفادها: إنه عليه‌السلام قال إنهم قبل أن يصلوا إلى الحكم كانوا لا يطيعونهم فكيف تكون حالهم معهم لو أنهم وصلوا إلى الحكم وتبوءوا كرسي الرئاسة.

وقد رأينا: أن عبد الله بن الحسن، عندما جاء يعرض على الإمام الصادقعليه‌السلام كتاب أبي سلمة، الذي يدعوه فيه للقدوم إلى الكوفة، لتكون الدعوة له، وباسمه، فنهاه الإمامعليه‌السلام عن ذلك ـ رأيناه ـ ينازع الإمام الصادق الكلام، حتى قال له:

____________

(١) راجع: الوافي للفيض ج ١ ص ١٤٣، باب: الناصب ومجالسته.

هذا. ولا يمنع ذلك ما ورد عنهم عليهم‌السلام من أن خروج الزيدية وغيرهم على الحكام يدرؤا به عنهم، وعن شيعتهم: فقد جاء في السرائر قسم المستطرفات ص ٤٧٦ أنه: (ذكر بين يدي أبي عبد الله من خرج من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال عليه‌السلام : ((لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد ..)) إلخ وذلك لأن اصطدامهم مع الحكام كان يصرف أنظار الحكام إليهم، ويفسح المجال أمام أهل البيت وشيعتهم إلى حد ما. ولم يكن هناك مجال لاتهام الأئمة وشيعتهم بالتواطؤ معهم، مع ما كان يراه الحكام من عدم الانسجام الظاهر بين الأئمة وبين الزيدية، وغيرهم من الثائرين وسلبية كل فريق منهما تجاه الآخر..

وأخيراً.. فلا بد لنا هنا من الإشارة إلى أن ثورات العلويين، سواء على الحكم الأموي، أو الحكم العباسي، قد ساهمت في أن يبقى حق العلويين في الحكم متحفظاً بقوته وحيويته في ضمير الأمة، ووجدانها. ولم تؤثر عليه حملات القمع والتضليل، التي كان الحكم القائم آنذاك يمارسها ضدهم، وضد هذا الحق الثابت لأهل البيتعليهم‌السلام بالنص.

٢٠٨

(والله، ما يمنعك من ذلك إلا الحسد) إلخ وقد انصرف عبد الله آخر الأمر مغضباً(١) .

ورأينا أيضاً أنه في موقف آخر له مع الإمام الصادقعليه‌السلام يتهمه بنفس هذه التهمة، ويصمه بعين هذه الوصمة، وذلك عندما أرادوا البيعة لولده محمد، وأبدى الإمامعليه‌السلام رأيه في ذلك. ذلك الرأي الذي كشفت الأيام عن صحته وسداده(٢) .

بل لقد كان عيسى بن زيد يقول لمحمد بن عبد الله: (.. من خالفك من آل أبي طالب، فأمكني أضرب عنقه.)(٣) وقد تجرأ عيسى هذا أيضاً على الإمام الصادق بكلام لا نحب ذكره.

وأما موقف محمد بن عبد الله نفسه مع الإمام الصادقعليه‌السلام ، فأشهر من أن يذكر، حيث إنه سجن الإمامعليه‌السلام ، واستصفى أمواله، وأسمعه كلاماً قاسياً، لا يليق بمقام الإمام وسنه(٤) .

إلى آخر ما هنالك مما يدل على كرههم، وحقدهم على الأئمةعليهم‌السلام . أو بالأحرى حسدهم لهم..

____________

(١) راجع: مروج الذهب ج ٣ ص ٣٥٤، ٣٥٥، وغيره من المصادر.

(٢) الصواعق المحرقة ص ١٢١، وينابيع المودة للحنفي ص ٣٣٢، ٣٦١، ومقاتل الطالبيين ص ٢٥٥، ٢٥٦، ٢٧٠، وغير ذلك.. وفي هذا الأخير: أن عبد الله ابن الحسن لم يرض باستدعاء الإمام، ولا وافق عليه، عندما أرادوا البيعة لولده محمد، وبعد أن أقنعوه، وحضر الإمام، جرى بينهما ما جرى.

(٣) قاموس الرجال ج ٧ ص ٢٧٠.

(٤) قاموس الرجال ج ٧ ص ٢٧٠، و ج ٨ ص ٢٤٢، ٢٤٣ والبحار ج ٤٧ ص ٢٨٤، ٢٥٨.

٢٠٩

والمأمون.. كان يعلم بذلك كله، ويدركه كل الإدراك، ولهذا فإننا لا نستبعد أنه ـ وهو الداهية الدهياء ـ قد أراد أيضاً في جملة ما أراد: أن يوقع الفتنة بين آل علي أنفسهم. أي: بين الأئمة، والمتشيعين لهم، وبين الزيدية، ويقف هو في موقف المتفرج المتربص حتى إذا أضعف كل واحد من الفريقين الفريق الآخر، ولم يعد فيهما بقية.. انقض هو عليهما، وقضى عليهما بأهون سبيل.

بل إن بعض الباحثين يرى: أنه أراد من لعبته هذه: (.. ضرباً للثائرين العلويين من إخوة علي بن موسى بأخيهم.)(١) .

ولو أننا استبعدنا كل ذلك، فلا أقل ـ كما قلنا ـ من أن حجته أصبحت قوية على الزيدية، وعلى كل من يدعو إلى (الرضا من آل محمد)، ولم يعد يخشى أحداً منهم، بعد أن أصبح (الرضا من آل محمد) موجوداً.

الهدف التاسع:

كما أنه ببيعته للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، وقبول الإمامعليه‌السلام بذلك.. يكون قد حصل على اعتراف من العلويين، على أعلى مستوى بشرعية الخلافة العباسية، ولقد صرح المأمون بأن ذلك، كان من جملة أهدافه، حيث قال: (.. فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا..) وسنتكلم حول تصريحات المأمون هذه بنوع من التفصيل في فصل: مع بعض خطط المأمون، وغيره إن شاء الله تعالى.

نعود إلى القول: إن تصريح المأمون هذا يعطينا: أن قبول الإمام بأن يكون ولي عهد المأمون، إنما يعني بالنسبة للمأمون: أن الإمام يكون قد أقر بأن الخلافة ليست له دون غيره، ولا في العلويين دون غيرهم، وأنه كما يمكن أن يكون هو جديراً بها، وأهلا لها، وكذلك غيره يمكن أن يكون كذلك. وليتمكن المأمون بذلك من محاربة العلويين بنفس السلاح الذي بأيديهم، وليصير ـ من ثم ـ من الصعب استجابة الناس لهم، إذا دعوا لأية ثورة ضد حكم اعترفوا هم بشرعيته، وأيدوه، وتعاونوا معه من قبل، وعلى أعلى مستوى ومن أعظم شخصية فيهم.

____________

(١) هو الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه: الصلاة بين التصوف والتشيع ص ٢١٩.

٢١٠

بل لقد كان يريد أن يحصل من العلويين على اعتراف بأن الحكم حق للعباسيين فقط. أما هم، فليس لهم فيه أدنى نصيب، وما فعله المأمون من إسناد ولاية العهد لواحد منهم، ما كان إلا تفضلاً وكرماً، ومن أجل أن يجمع شمل البيتين العلوي والعباسي، وتصفو القلوب ويمحو ما كان من أمر الرشيد وغيره من أسلافه مع العلويين.

ولقد حاول المأمون أن ينتزع من الإمام اعترافا بأن الخلافة حق للعباسيين، شفاهاً أيضاً فكانت النتيجة عكس ما أراد المأمون، وذلك عندما عرض بالمن على الإمام بأن جعله ولي عهده، فأجابه الإمامعليه‌السلام : بأن هذا الأمر لم يزده في النعمة شيئاً، وأنه وهو في المدينة كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب.

كما أن المأمون قد قال لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين: (.. وليعتقد فيه المفتونون به، بأنه ليس مما ادعى في قليل، ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه.) ولسوف يأتي الكلام عن هذه التصريحات إن شاء الله كما قلنا.

وبعد.. فإنه لا يكون من المبالغة في شيء لو قلنا: إن حصول المأمون على اعتراف من العلويين، ومن الإمام الرضاعليه‌السلام خاصة، بشرعية خلافته، وخلافة، بني أبيه أخطر على العلويين من الأسلوب الذي انتهجه أسلافه من أمويين وعباسيين ضدهم،: من قتلهم، وتشريدهم، وسلب أموالهم، إلى غير ذلك مما هو معروف ومشهور.

الهدف العاشر:

يضاف إلى ذلك، أنه يكون قد حصل على اعتراف ضمني من الإمام بشرعية تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وليعطي الناس ـ من ثم ـ الصورة التي يريدها عن الحكم والحاكم، وليؤكد للملأ أجمع: أن الحاكم هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته: من كان، ومهما كان، وإذن فليس لهم بعد حق في أن يتطلعوا إلى حكومة أحد على أن بها شيئاً جديداً، ولا أن ينظروا إلى جهة على أنها يمكن أن يكون بها المنقذ لهم، والمخرج من الظلمات إلى النور، حتى ولو كانت تلك الجهة هي آل بيت نبيهم، فإنه من الطبيعي أن يتبع السياسيون أساليب، ويتكلموا بأشياء كثيرة، ينسبونها بمجرد وصولهم إلى الحكم، وتسلمهم لازمة السلطة، فإن تلك لا تعدو كونها تكتيكات، ووعودا انتخابية، يحتاجون إليها في ظروف معينة، ثم يستغنون عنها.. كما كانت الحال في وعود المأمون، التي أشرنا إليها فيما تقدم.

٢١١

وهكذا.. فيكون سكوت الإمام في فترة ولاية العهد، عن تصرفات الهيئة الحاكمة، دالا على رضاه بها، ويعتبر إمضاء لها.. وبعد هذا.

فلا يجب أن يكون من العسير على الناس أن يتصوروا طبيعة وماهية حكم الإمام، وكل من يقدر له أن يصل الحكم والسلطان، سواء من العلويين، أو من غيرهم.

وإذا كانت الصورة واحدة، والجوهر واحد، والاختلاف إنما هو فقط في الاسم والعنوان، فليس لهم بعد حق، أو على الأقل ما الداعي لهم، لأن يطلبوا حكماً أفضل، أو حكاماً أعدل، فإنه طلب لغير موجود، وسعي وراء مفقود.

الهدف الحادي عشر:

هذا.. وبعد أن يكون المأمون قد حصل على كل ما قدمناه، وحقن دماء العباسيين، واستوثقت له الممالك، ولم يعد هناك ما يعكر صفو حياته(١) ، وقوي مركزه، وارتفع بالخلافة من الحضيض المهين، الذي أوصلها إليه أسلافه إلى أوج العظمة، والتمكن والمجد. وأعطاها من القوة والمنعة، ووهبها من الحياة في ضمير الأمة ووجدانها ما هي بأمس الحاجة إليه.. ولتتمكن من ثم من الصمود في وجه أية عاصفة، وإخماد أية ثورة، ومقاومة كل الأنواء، وذلك هو حلمه الكبير، الذي طالما جهد في تحقيقه إنه بعد أن يكون قد حصل على كل ذلك وسواه مما قدمناه:

____________

(١) لقد صرح الذهبي في الجزء الأول من كتابه (العبر) بأنه في سنة ٢٠٠ ه‍. استوثقت الممالك للمأمون. وهذه هي نفس السنة التي أتي فيها بالإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو.. ولكن اليافعي في مرآة الجنان ج ٢ ص ٨: قد جعل ذلك في سنة ٢٠٣: أي في السنة التي تخلص فيها المأمون من الإمام الرضاعليه‌السلام بواسطة السم الذي دسه إليه.. وفي اليعقوبي ج ٢ ص ٤٥٢ طبع صادر: أنه في السنة التي غادر فيها المأمون خراسان: (لم تبق ناحية من نواحي خراسان يخاف خلافها).

٢١٢

يكون قد أفسح لنظام حكمه المجال ـ تلقائيا ـ لتصفية حساباته مع خصومه، أياً كانوا. وبأي وسيلة كانت، وبهدوء، وراحة فكر واطمئنان إن اقتضى الأمر ذلك.

كما أنه يكون قد مهد الطريق لتنفيذ الجزء الثاني ـ ولعله الأهم ـ من خطته الجهنمية، بعيداً عن الشبهات، ودون أن يتعرض لتهمة أحد، أو شك من أحد..

ألا وهو: القضاء على العلويين بالقضاء على أعظم شخصية فيهم. وليكون بذلك قد قضى نهائياً، وإلى الأبد، على أكبر مصدر للخطر، يمكن أن يتهدده، ويتهدد خلافته ومركزه.

إنه يريد زعزعة ثقة الناس بهم، واستئصال تعاطفهم معهم، وليحوله ـ إن استطاع ـ إلى كره ومقت، بالطرق التي لا تمس العواطف والمشاعر، ولا تثير الكثير من الشكوك والشبهات.

يظهر ذلك في محاولاته إسقاط الإمام إجتماعياً، والوضع منه قليلاً قليلاً، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر، وليدبر فيه في نهاية الأمر بما يحسم عنه مواد بلائه.. كما صرح لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين، وسنتكلم بنوع من التفصيل عن محاولات المأمون هذه، التي باءت كلها بالفشل الذريع، وعادت عليه بالخسران، لأن الإمامعليه‌السلام كان قد أحبطها عليه، بل لقد كان لها من النتائج العكسية بالنسبة إليه ما جعله يتعجل بتصفية الإمام جسديا، بعد أن أشرف هو منهعليه‌السلام على الهلاك.. بالطريقة التي حسب أنها سوف لا تثير الكثير من الشكوك والشبهات.

ملاحظة لا بد منها:

ومن الأمور الجديرة بالملاحظة هنا: أن المأمون كان يقدر أن مجرد جعل ولاية العهد للإمام، سوف يكون كافيا لتحطيمه إجتماعياً، وإسقاطه نهائياً من أعين الناس، حيث يظهر لهم بالعمل ـ لا بالقول: أن الإمام رجل دنيا فقط، وأن تظاهره بالزهد والتقوى ما هو إلا طلاء زائف، لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. ولسوف تكون النتيجة هي تشويه سمعة الإمامعليه‌السلام ، وزعزعة ثقة الناس به، وذلك بسبب الفارق الكبير بالسن، بين الخليفة الفعلي، وبين ولي عهده، إذ إن ولي العهد لا يكبر الخليفة الفعلي بسنتين، أو ثلاثة، أو خمسة، لا.. بل أكثر من ذلك بكثير، إنه يكبره بـ‍(٢٢) سنة،

٢١٣

وإنه لمن الأمور غير الطبيعية أبداً: أن يقبل ولاية العهد، وهو يكبر الخليفة الفعلي بهذا المقدار الكبير من السنين، ولسوف يكون قبوله لها ـ مع هذا الفارق بينهما ـ موجبا لجعله عرضة لشكوك الناس، وظنونهم، ولسوف يتسبب بوضع علامات استفهام كبيرة حوله.. كما كان الحال، بالنسبة لسؤال محمد بن عرفة، وكلام الريان المتقدم.. ولسوف يفسر(١) ذلك من أولئك الذين لا يدركون حقيقة ما يجري، وما يحدث، ـ وما أكثرهم ـ بتفسيرات تنسجم مع رغائب المأمون، وأهدافه. لأنهم سوف يرون أن زهدهعليه‌السلام بالدنيا، ليس إلا ستاراً تختفي وراءه مطامعه فيها، وحبه المستميت لها، حتى إنه ليطمع أن يعيش إلى ما بعد الخليفة الفعلي، الذي هو أصغر من ولده، ويصل إلى الحكم.. وباختصار نقول:

إنه يريد أن: (.. يعتقد فيه المفتونون به بأنه: ليس ما ادعى في قليل ولا كثير.) حسبما صرح به هو نفسه.. وعلى حد قول الإمام نفسه، الذي كان يدرك خطة المأمون هذه: (.. أن يقول الناس: إن علي بن موسى، لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعا بالخلافة؟!.). كما سيأتي.

____________

(١) ولكنا، مع ذلك نجد: أن قسما من أصحاب الرضاعليه‌السلام ، ممن كانوا يراقبون الأحداث بوعي ودراية، كانوا يدركون نوايا المأمون وأهدافه هذه ففي البحار ج ٤٩ ص ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٩: أنه قد سئل أبو الصلت: (كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا مع إكرامه ومحبته له، وما جعل له من ولاية العهد بعده؟! فقال: إن المأمون كان يكرمه ويحبه لمعرفته بفضله، وجعل له ولاية العهد من بعده، ليري الناس أنه راغب في الدنيا، فلما لم يظهر منه إلا ما ازداد به فضلاً عندهم، ومحلاً في نفوسهم، جلب عليه إلخ.).

٢١٤

وعن الريان قال: دخلت على الرضا، فقلت: يا ابن رسول الله، إن الناس يقولون: إنك قبلت ولاية العهد، مع إظهارك الزهد في الدنيا؟!، فقالعليه‌السلام :((قد علم الله كراهتي..)) (١) وقد أشرنا إلى سؤال محمد بن عرفة، وكلام الريان فيما تقدم.

وعلى أي شيء يبكي المأمون، ومن أجل أي شيء يشقى ويتعب، ويسهر الليالي، ويتحمل المشاق.. إلا على هذا.. إن هذا هو أجل أمنياته وأغلاها.

سؤال وجوابه:

قد يدور بخلد القارئ أن ما ذكرناه هنا: فيما يتعلق بالفارق الكبير بالسن، ينافي ما تقدم من أن المأمون كان يريد الحصول على قاعدة شعبية، والارتفاع بالخلافة من الحضيض الخ.

ولكن الحقيقة هي:

أنه لا منافاة هناك.. ويمكن للمأمون أن يقصد كل ذلك من البيعة، لأن مقدار التفاوت بالسن بين الإمامعليه‌السلام والمأمون، لم يكن مما يعرفه الكثيرون، ولا مما يلتفت إليه عوام الناس في بادئ الأمر، لأنهم يأخذون الأمور على ظواهرها، ولا يتنبهون إلى مثل ذلك، إلا بعد تنبيه وتذكير، فللوهلة الأولى تجوز عليهم الخدعة، ويقدرون خطوة المأمون هذه، وتنتعش الآمال في نفوسهم بالحياة الهنيئة السعيدة، تحت ظلم حكم بدا أنه يتخذ العدل ديدنا، والإنصاف طريقة..

____________

(١) علل الشرايع ص ٢٣٨، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٠، وأمالي الصدوق ص ٤٤، ٤٥.

٢١٥

ثم.. وبعد أن يجند المأمون أجهزة إعلامه، من أجل تسميم الأفكار، يجد أن نفوس الناس مهيأة ومستعدة لتقبل ما يلقى إليها. ويكون لديه ـ باعتقاده ـ من الحجج ما يكفي لإسقاط الإمام، وزعزعة ثقة الناس به. ولا يؤثر ذلك بعد ذلك على الحكم، فإن الحكم يكون قد استنفذ أغراضه من البيعة. وحصل على ما يريد الحصول عليه منها.. هذا ولا بد لنا هنا من ملاحظة أن المأمون وأجهزة إعلامه كانوا في مقابل وصم الإمام بالرغبة بالدنيا والتفاني في سبيلها.. يشيعون بين الناس عن المأمون عكس ذلك تمام، فيطلب المأمون من وزيره أن يشيع عنه الزهد، والورع والتقوى(١) .. وأنه لا يريد مما أقدم عليه الأخير الأمة ومصلحتها، حيث قد اختار لولاية عهده أفضل رجل قدر عليه، رغم أن ذلك الرجل هو من ذلك البيت الذي لا يجهل أحد موقفه من حكم العباسيين، وموقف العباسيين منه كما يتضح ذلك من وثيقة ولاية العهد، وغيرها.

رأي الناس فيمن يتصدى للحكم:

لعل من الواضح أن كثيراً من الناس كانوا يرون ـ في تلك الفترة من الزمن ـ لقصر نظرهم، وقلة معرفتهم: أن هناك منافاة بين الزهد والورع، والتقوى، وبين المنصب، وأنهما لا يتفقان، ولا يجتمعان.

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ ص ٢٦١.

٢١٦

وقد رأينا الكثيرين يمتنعون على تولي المناصب للحكام، لما يرونه من المنافاة المشار إليها.

ولعل سر فهمهم هذا: هو أنهم كانوا قد اعتادوا من الحكام التجاوز على الحقوق، والدماء، والأموال، وعلى أحكام الدين، والنواميس الإنسانية، بشكل عام. والزهد والورع لا يتلائم مع ذلك كله، ولا ينسجم معه.

ولكن الحقيقة هي: أن لا منافاة بينهما أبداً، فإن الحكم إذا كان وسيلة لإيصال الخير إلى الآخرين، ورفع الظلم عنهم، وإشاعة العدل، إقامة شريعة الله تعالى، فيجب السعي إليه، والعمل من أجله، وفي سبيله.. بل إذا لزم من ترك السعي إليه، تضييع الحقوق، وانهيار صرح العدل، والخروج على أحكام الدين، فإن ترك السعي هذا، يكون هو المنافي للزهد والورع والتقوى..

ولقد قاد النبيعليه‌السلام الأمة، وقبله قادها سليمان بن داوود، وغيره، وبعده الإمام علي بن أبي طالب، وولده الحسن، ثم الحسين، وهكذا..

وحال هؤلاء في الزهد والورع، لا يحتاج إلى مزيد بيان، وإقامة برهان، بل لم يكن على ظهرها أزهد، ولا أتقى، ولا أفضل، ولا أورع منهم، عدوهم يعرف منهم ذلك تماماً كما يعرفه منهم صديقهم. فعدا عن الأنبياء الذين كانوا القمة في الورع والزهد والتقوى، نرى الإمام عليعليه‌السلام قمة في ذلك أيضاً، وقد رقع مدرعته حتى استحيا من راقعها، وكان راقعها هو ولده (الإمام الحسنعليه‌السلام )(١) . وكان يصلي في بيت المال ركعتين شكراً لله، بعد فراغ المال منه. وكان يقول:((إليك عني يا دنيا غري غيري، أبي تعرضت؟!..)) الخ وهو الذي قال فيه عدوه معاوية: (لو كان له بيتان: بيت من تبر، وآخر من تبن، لأنفق تبره قبل تبنه.). إلى غير ذلك مما لا مجال لنا لتتبعه واستقصائه..

____________

(١) راجع: الدرة النجفية ص ٣٠٣، طبعة حجرية.

٢١٧

العلويون يدركون نوايا المأمون:

إن نوايا المأمون تجاه العلويين، ومحاولاته لإسقاطهم إجتماعياً، وابتزازهم سياسياً.. حتى إذا أخفق في ذلك راح يختلهم واحداً فواحداً، كلما واتاه الظرف، وسنحت له الفرصة.. لم يكن العلويون يجهلونها، بل كانوا يدركونها كل الإدراك، ولم تكن تخدعهم تلك الشعارات والأساليب المبهرجة. وحسبنا هنا أن نذكر في مقام التدليل على هذا: أن المأمون كتب لعبد الله بن موسى، بعد وفاة الرضا، يعده بأنه يجعله ولي عهده، ويقول له: (ما ظننت أن أحداً من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا).

فأجابه عبد الله يقول: (وصل إلي كتابك، وفهمته، تختلني فيه عن نفسي مثل القانص، وتحتال علي حيلة المغتال، القاصد لسفك دمي. وعجبت من بذلك العهد، ولايته لي بعدك، كأنك تظن: أنه لم يبلغني ما فعلته بالرضا؟! ففي أي شيء ظننت أني أرغب من ذلك؟ أفي الملك الذي غرتك حلاوته؟!.

إلى أن يقول: أم في العنب المسموم الذي قتلت به الرضا؟!).

ويقول له أيضاً ـ والظاهر أنه نص آخر للرسالة ـ: (هبني لا ثأر لي عندك، وعند آبائك المستحلين لدمائنا الآخذين حقنا، الذين جاهروا في أمرنا، فحذرناهم. وكنت ألطف حيلة منهم، بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً،

____________

(١) ترجمة الإمام عليعليه‌السلام من تاريخ ابن عساكر بتحقيق المحمودي ج ٣ ص ٥٨ ـ ٦٠.

٢١٨

فواحداً منا الخ..)(١) .

ولا بد من ملاحظة: منافاة وعده هذا لعبد الله بن موسى بأن يجعل له ولاية العهد.. للرسالة التي أرسلها إلى العباسيين في بغداد، فور وفاة الرضاعليه‌السلام ، ويعدهم فيها بأن يجعل ولاية العهد فيهم، وسنشير إلى رسالته لهم في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله وعلى كل حال.. فإننا نستطيع أن نفهم من هذه الرسالة التي لعبد الله بن موسى أموراً، نشير إلى بعضها:

أولاً: إن المأمون كان قد جعل ولاية العهد وسيلة لختل الشخصيات التي كان يخشاها، والغدر بها، إذ إن من المقبول والطبيعي ـ كما يرى البعض ـ أن يكون ولي العهد هو الذي يتآمر، ويدبر للتخلص من الخليفة الفعلي، ليختصر المسافة، ويصل إلى الحكم، الذي ينتظر الوصول إليه، والحصول عليه بفارغ الصبر. وليس من الطبيعي، ولا من المقبول أن يتآمر الخليفة على ولي عهده، إلا إذا كان يريد أن يجعل الخلافة لمن هو أعز عليه منه، وهذا ما نفاه المأمون عن نفسه في أكثر من مناسبة.

وهكذا.. فإن النتيجة تكون: أن الخليفة الفعلي يكون آخر من يتهم في ولي العهد، إذا ما راح ضحية التآمر والاغتيال، وعرف الناس ذلك. وهذا بلا شك من جملة ما كان يريده المأمون، ويسعى إليه.

ثانياً: إن المأمون رغم الصعوبات التي واجهها في فترة تولية الرضاعليه‌السلام العهد.. يبدو أنه كان يعتبر نفسه منتصراً وناجحاً في لعبته تلك، ولذلك نرى أنه قد حاول تكرار نفس اللعبة مع عبد الله بن موسى. ولكن يقظة هذا الأخير، الذي كانت ظروفه تختلف عن ظروف الإمامعليه‌السلام قد فوتت عليه الفرصة، وأعادته. بخفي حنين.

____________

(١) مقاتل الطالبيين للأصفهاني ص ٦٢٨، إلى ص ٦٣١، وسنورد الرسالة في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله.

٢١٩

كما أننا لا نستبعد أن المأمون قد أراد بالإضافة إلى ذلك التستر على غدره بالرضاعليه‌السلام ، بعد أن كان قد افتضح واشتهر، رغم محاولاته الجادة للتستر والكتمان.

ثالثاً: ما تقدمت الإشارة إليه من أن إكرامه للعلويين، والرضا بهم، والتستر لمحنهم، ما كان منه إلا ضمن خطة مرسومة، وإلا سياسة منه ودهاء، من أجل أن يأمن العلويون جانبه، ويطمئنوا إليه، كما يدل عليه قوله لعبد الله بن موسى: (ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا) وقد قدمنا أنه أشار إلى ذلك أيضاً في كتابه للعباسيين، فلا نعيد..

رابعاً: أنه لم يستطع أن يخفي عن العلويين ـ كما لم يستطع أن يخفي عن غيرهم ـ غدره بالإمام الرضاعليه‌السلام ، وسمه له بالعنب، وكذلك غدره بغيره من العلويين. وسر ذلك واضح، فإن جميع الدلائل والشواهد كانت متوفرة على ذلك، كما سيأتي بيان جانب من ذلك في فصول هذا الكتاب بنوع من التفصيل.

موقف الإمام في مواجهة مؤامرات المأمون:

لقد رأينا كيف أن المأمون أراد من لعبته تلك، التغلب على المشاكل التي كان يواجهها، والاستفادة في تقوية دعائم خلافته، وخلافة العباسيين بشكل عام.. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هو موقف الإمامعليه‌السلام نفسه من لعبة المأمون تلك، وخططه، وأهدافه؟، وهل أفسح المجال للمأمون ليحقق كل ما يريد تحقيقه، ويصل إلى ما

كان يريد الوصول إليه؟.. وهل كانت لديه خطط من نوع معين، وأهداف معينة كان يسعى من أجل الوصول إليها، والحصول عليها؟!.

الحقيقة هي: أن الإمامعليه‌السلام قد استطاع، بما اتبعه من خطة حكيمة، وسلوك مثالي: أن يضيع على المأمون كافة الفرص، ويجعله يبوء بالخيبة والخسران، ويمنى بالفشل الذريع، حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك، وبدا الارتباك واضحاً في كل تصرفاته، وأقواله، وأفعاله..

وسيأتي في الفصول الآتية في القسمين: الثالث، والرابع بيان بعض ما يتعلق بذلك إن شاء الله.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

العِلم دين يُدان به *

رأى بعض الغيورين على الدين إعراض الشباب عنه وعن أهله، وإقبالهم على كل جديد مفيد وغير مفيد، فحاول أن يرغبهم في الدين ويقنعهم بأن جديدهم هذا غير جديد، لأن الدين بزعمه قد تحدث عن كل شيء تصريحاً أو تلويحاً، وأشار إلى ما كان ويكون من الآلات والمخترعات الحديثة، ثم أورد هذا الغيور الشواهد على دعواه من آيات قرآنية وأحاديث نبوية حملها على غير محملها، وفسرها بغير حقيقتها، فسر قول القرآن الكريم «ويخلق ما لا تعلمون» بالطيارة والسيارة، وفسر «ويوم تأتي السماء بدخان مبين» بالغازات السامة، وفسر «الكتاب المبين» بالتسجيل الهوائي للاصوات، إذن يصح لنا أن نقول بناء على هذا القياس: أن قول القرآن الحكيم «من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره» إشارة إلى تحطيم الذرة، وان الفقرة الأولى تشير إلى استخدام الذرة في الأغراض السلمية النافعة، والفقرة الثانية تشير إلى استعمالها في الحرب المهلكة المدمرة.

إن هذا التفسير، وإن دل على طيب السريرة وسلامة القصد، فإنه لا يقل ضرراً عن الرجعية والجمود. إن الخير كل الخير ان نقف بالدين عند واقعه وحقيقته، وحسب الدين فضيلة أنه أمر بكل شيء نافع، ونهى عن كل ما فيه شائبة الضرر، حسبه فضيلة أنه حارب الجهل والفقر كما حارب الظلم والكفر.

إن القرآن لم يشر إلى وجود هذه الآلات والمخترعات، ولا إلى وجود اديسون وانشتين، وإلى وجود هتلر وموسيليني ولكنه أعرب بلسان عربي فصيح أن

_____________________

* - أذيعت من محطة الإذاعة اللبنانية ونشرت في مجلة الأحد في شهر رمضان المبارك ١٩٥٥.

٣٦١

« من قتل نفساً بغير نفس.. فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً» وقتل النفس يكون بالسيف ويكون بالجهل والبطالة وخنق الحريات وما إلى ذلك من الوقوف في طريق الحياة والنبوغ، كما أن إحياءها يكون بالعلم وإفساح المجال للعمل وحرية الفكر وظهور النبوغ والعبقريات، وبالنتيجة يكون هتلر وأمثاله من الذين قتلوا الناس جميعاً، وأديسون وانشتين من الذين أحيوهم جميعاً، أجل إن اللّه علم الإنسان ما لم يعلم، حيث وهبه العقل والإدراك، ورفع عنه الحجر والوصاية، ولكنه في نفس الوقت نهاه أن يبخس الناس اشياءهم، ويعيث في الأرض فساداً.

إن العلم قد يكون سلاحاً فتاكاً، وقوة هدامة تدمر الحضارة، وتعود بالإنسانية إلى ظلمة التوحش والبربرية، ووسيلة تخيف الناس على أرواحهم وأموالهم، وتجعلهم في جزع مستمر، وقد يكون العالم قوة منتجة، وأداة لتطور الحياة وتقدمها.

والإسلام يحدد موقف العلم، أو قل يحدد مسؤولية من في أيديهم قوة العلم ووسائله، ويوجب عليهم أن يستخدموه للحياة لا للممات، إن الإسلام يحث على العلم ويرفع من شأن العاملين به، وهم المعنيون بقوله سبحانه «هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون - يرفع اللّه الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات» وقال الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام «العلم دين يدان به». أي أن العلم حق، وعلى كل إنسان أن يدين بالحق، ويعمل به، وإنما يكون العلم حقاً وديناً مقدساً إذا خلقنا خلقاً جديداً ينهض بنا إلى حياة أفضل، كما خلق الإسلام مجتمعاً جديداً في التفكير والمعيشة والسلوك، أما العلم الذي ينتهي بنا إلى سوء المصير فقد تعوذ منه الأنبياء والمصلحون، كما تعوذوا من الشيطان الرجيم، بل تعوذوا من علم لا ضرر فيه ولا نفع، قال الرسول الأعظم ص: أعوذ باللّه من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، فما قولكم بالعلم يتخذ آلة للصوصية ! أما القلب الذي لا يخشع فهو الذي لا يشعر صاحبه بالمسؤولية، ولا يكترث بالدين والوجدان، والنفس التي لا تشبع هي التي تحرص على الاحتكار واحتياز الثروات، وتعمى عن سوء العاقبة والمصير.

٣٦٢

حَديث رَمضَان *

لقد غير العلم فهم الإنسان لحقيقة الحياة، وقضى على كثير من التقاليد والمعتقدات، قضى على المعتقد الذي أقام الخرافة مقام العلم، والأحلام مقام الملموس والمنظور، وفسر الطبيعة وحوادثها باشياء لا تمت إليها بسبب. فسر المرض بلمس الجن، فعالجه بالرقى والتعاويذ، ونسب الفقر إلى القدر، فأوجب الاستسلام له والانقياد، وأسند سلطة الحاكم إلى اللّه، فأمر الناس بالسمع له والطاعة. هذه هي العقيدة التي ناصرها الظلم، وقاومها العلم، ودعمها الاقطاع، وكذبها الوعي، ودللها الاستعمار وخنقها التطور.

أما الدين الذي يحارب الخرافات والأوهام، ويدعو إلى تفسير الطبيعة بأسبابها، ويتصل بحياة الإنسان مباشرة، ويهدف إلى أن تكون الفضيلة عملاً مجسماً يحسه ويشعر به كل فرد فانه يسير مع العلم جنباً لجنب حليفين متناصرين، وهل يحارب العلم ديناً أساسه الدعوة إلى العلم، وحدّه العدالة والمساواة، وهدفه سعادة الإنسانية ورفاهيتها ؟ إن مثل هذا الدين يرفع الإنسان إلى مستوى أعلى، فقد رفع الإسلام قبائل العرب المتوحشة إلى أقصى ما يمكن أن يصلوا إليه من التقدم والحضارة في ذلك العهد، وهذا التاريخ طبع كثيراً من الحضارات بطابع الدين وسماته، فوصف هذه بالحضارة الإسلامية، وتلك بالحضارة المسيحية، وثالثة بالحضارة البوذية، ولو كان العلم يعاند الدين لما كان للحضارة الدينية في التاريخ ذكر، وللكنائس ورجالها في أميركا وأوروبا عين ولا أثر أثر في هذا العصر الذي يجري فيه تيار العلم بأقصى ما يجري تيار في جميع العصور.

يتبين من هذا أن العلم لا يعاند اللاهوت، وأن عدو اللاهوت هو اللاهوتي

_____________________

* - أذيعت من محطة الإذاعة اللبنانية ونشرت في جريدة التلغراف في شهر رمضان المبارك ١٩٥٢.

٣٦٣

الذي يفسر الطبيعة بالخيال والوهم، ويتخذ من أقوال السلف برهاناً على الحقيقة، ولو كذبتها التجربة والعيان، ويحاول إِقناع الناس بأن دينه خير الأديان، وأن طائفته تسعد غداً في جنات النعيم، وسائر الطوائف تشقى بنار الجحيم.

ليست مهمة رجل الدين أن ينظر إلى السماء وحدها، ويغض الطرف عن الأرض التي يعيش فيها، أو ينظر إليها من خلال نفسه وجامعه وكنيسته، فيبشر بدينه، ويهاجم سائر الأديان، ويتعصب لطائفة ضد الطوائف الأخرى، وإنما واجب رجل الدين أولاً وقبل كل شيء أن يتخذ من كل ما عليه مسحة دينية من عمل يؤدى في معبد، أو قول في كتاب مقدس، أو دعاء يكرر في الصلوات وأيام الصيام أداة توجيه وإِرشاده إلى تعاون جميع الطوائف الذين يجمعهم وطن واحد، وآمال واحدة، وأهداف مشتركة، إلى تعاون الجميع على تحقيق هذه الآمال والأهداف، وهدم الفروق والحواجز التي تحول بينها وبينهم، أن يعملوا يداً واحدة على حل ما يعانونه من مشكلات لا يصح الاغضاء عنها، ولا التقصير فيها. إِن الشعب الذي لا يتعاون ابناؤه على ازدهاره ورفع مستواه المادي والروحي لا دين له ولا إيمان.

ليس الدين ذلاً ولا انكساراً وزهداً في الحياة وملذاتها، ولا صلاة وصياماً يذوب له الصائمون، إن الصلاة رمز إلى إيمان المصلي، إيمانه بحق الإنسان وخالقه، وتعبير عن حبه للنظام الذي يحقق الحرية والرخاء للجميع، وانه يتقبل هذا النظام، ويحافظ عليه، ويخضع له بمحض إرادته واختياره. فالصلاة الصحيحة هي ما ينتهي بها المصلي، ويتورع عن كل ما فيه ضرر لنفسه ولغيره، ويأتمر ويفعل كل ما فيه الخير والصلاح له وللمجتمع، وبهذا نجد تفسير الآية الكريمة «ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر».

أما الصيام فقد أمر به الإنجيل قبل أن يأمر به القرآن «كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون» وليست الحكمة من وجوب الصيام أن يتذكر الصائم الجائعين، فيحسن إليهم. ويتصدق عليهم بالقرش والرغيف - كما قيل - ولو كانت هذه فائدة الصيام لوجب الصيام على الأغنياء دون الفقراء، ولكان حقاً على اللّه أن يسلط على الناس حاكماً ظالماً يظلمهم، ويستعبدهم ليتذكروا المظلوم، وينتصروا له من الظالم.

إن قول اللّه سبحانه كتب عليكم الصيام لعلكم تتقون إشارة إلى أن الحكمة من وجوب الصوم، وامتناع الإنسان عن طعامه وشرابه - وهما في بيته ومتناول يده - أن يضبط الصائم نفسه بوازع يردعه عن استغلال الناس واستثمارهم، والتعدي على طعامهم وشرابهم. أن يدرك عملاً لا قولاً ان اطلاق العنان لانانيته واهوائه يجعل أقوات الناس ومقدراتهم رهناً بمقدرته على الاحتكار

٣٦٤

واللعب بالأسواق، وبمهارته في فن الغش والتدليس وفي ذلك خطر كبير عليه وعلى المجتمع. أن يدرك أن حرية الفرد واستقلاله ومصالحه - مهما بالغنا في احترامها - هي دون حرية المجتمع واستقلاله ومصالحه. أن الحر فرداً كان أو مجتمعاً هو من لا يستغل ولا يستغل، لا يستعبد ولا يستعبد. وبالتالي أن يهيِّئ الصائم نفسه بنكران ذاته، وكبح شهواته ليكون عضواً صالحاً في مجتمع يسير في سبيل النجاح والازدهار.

أن الدين أمر بالصوم تحدياً للجوع والعطش، لا رغبة في الجوع والعطش، تحدياً للأهواء التي تفرض على الناس ضريبة الجوع والعطش، وتعيق سير التقدم بجشعها الذي لا يقيد بقيد، ولا ينتهي إلى حد. قال الرسول الأعظم محمد بن عبد اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الصائم من يذر شهوته وطعامه وشرابه لأجل اللّه سبحانه، وقال: كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش. أجل، لأن صيامه لم يحد من طمعه، ولم يرق به إلى احترام الحياة، والإيمان بحقوق الإنسان. وجاء في بعض الأدعية التي يتلوها المؤمنون في شهر رمضان المبارك: اللهم ارزقني الجد والاجتهاد، والقوة والنشاط لما تحب وترضى. والوجل منك، والرجاء لك والتوكل عليك، والثقة بك، والورع عن محارمك، ان الخوف من اللّه سبحانه، والورع عن محارمه، والنشاط لما يرضيه، كل ذلك، إنما يكون بالتحرر من عبودية الهوى، وحب السيطرة والاستئثار، والبعد عن الكسل والخمول، عن سبيل الذين يقامرون بقرش الفقير، ورغيف البائس، ولا عمل لهم سوى الانتقال من مقهى إلى بار، ومن ملهى إلى حانة، إن اللّه لا يحب، ولا يرضى عن مجتمع لا يجد ويجتهد، ولا يكافح ويناضل في سبيل حياة أرقى وأبقى، ولو ملأ الشوارع بالكنائس والجوامع، والفضاء بالأجراس والأذان ان المجتمع الذي يحبه اللّه ورسوله، ويحب اللّه ورسوله هو الذي لا ترى فيه إِلا عاملاً في مصنع، أو زارعاً في حقل، أو راعياً على منحدر جبل، أو سماكاً يجذب شباكه، أو فناناً يرسم على لوحة، أو طبيباً في عيادة، أو عالماً في مختبر، أو أديباً ينقد الأوضاع.

إن مثل هذا المجتمع خليق بأن يعبد اللّه مخلصاً له الدين والصلاة والصيام.

٣٦٥

العيد *

إن الأعياد لا تختص بأمة دون أمة، ولا بدين دون آخر، فنجدها جلية واضحة في تاريخ الأمم والأديان جميعاً. وتنقسم الأعياد إلى دينية وشعبية، وأعياد خاصة ليست بشعبية ولا دينية، بل هي في نظر الأديان بدعة وضلالة، وعند الشعوب سخف وجهالة، كالاحتفال بتتويج ملك ليس له أثر يذكر، ولا منقبة تشكر. والغبطة بمثل هذا العيد لا تتعدى المتوج وأسرته، فإذا زال النفوذ والسلطان، وجاءت الأعياد كانت عليهم عذاباً وحسرات.

ويلاحظ أن العرب يهتمون ويحتفلون بالأعياد الدينية أكثر من الأعياد الشعبية، على عكس الغربيين الذين يهتمون بالأعياد الشعبية أكثر من غيرها، ولعل السر أن الشرق مصدر الأديان، وأن العرب لم يستردوا بعد كامل حقوقهم وسيادتهم، وسالف عزهم ومجدهم.

ومهما يكن فإن الأعياد الدينية تختلف باختلاف البواعث والأسباب، فعيد الميلاد يرمز إلى المودة والرحمة والإنسانية التي دعا إليها السيد المسيح، ومولد النبي من الذكريات الخالدة التي لها أعظم الأثر في تاريخ الإنسانية، فقد كان مولده إِيذاناً بانتهاء عهد الجاهلية والاستبداد، وبزوغ عهد الحضارة والحرية والحكمة من عيد الهجرة النبوية ان يلتفت المسلمون إلى الماضي ليجددوا وحدتهم، ويعملوا يداً واحدة لأنفسهم لا لغيرهم، ويناضلوا بروح التضحية والإخلاص في سبيل مبادئهم القومية، وإرجاع مجدهم، وإحياء تراثهم، ويحرروا بلادهم وعقولهم من كل قيد يعيقهم عن السير في طريق الحرية والحياة.

وهذان العيدان المولد والهجرة لم يكونا معروفين في عهد الرسول، ولا

_____________________

* - أذيعت من محطة الإذاعة اللبنانية في عيد رمضان المبارك ١٩٥٣.

٣٦٦

في عهد خلفائه الراشدين، فالمولد لم يصبح عيداً مقرراً عند المسلمين إلا في القرن الثامن الهجري، وعيد الهجرة تقرر بالأمس في هذا القرن. والحقيقة أن هذين العيدين هما من الأعياد الشعبية عند المسلمين لا من الأعياد الدينية، ولذا لا تجوز فيهما صلاةُ العيد. أما عيد الأضحى والفطر فإنهما من الدين في الصميم، فقد ثبت أن النبي كان يحتفل بهما، ويحتفل معه المسلمون، ويصلون فيهما خلفه صلاةَ العيد.

وعيد الأضحى يهدف إلى توثيق آصرة القربى بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم وديارهم ولغاتهم، ويذكرهم بأنهم أسرة واحدة ينتظم فيها مئات الملايين. وعيد الفطر تحية القيام بالواجب، حيث يجدر بالصائم الذي جاهد شهواته شهراً كاملاً، وانتصرت قوى إِيمانه وعقيدته على أهوائه وميوله أن يعيد عيد النصرِ والفوز، عيدَ انتصارِ النظام على الفوضى، والعقل على العاطفة، عيداً يبتهج فيه لتغلب الحق على الباطل، والمبدأ المقدس على المنافع الخاصة.

لقد كان الاحتفال بعيدي الفطر والأضحى في عصر الإسلام الأول بسيطاً متواضعاً، كان النبي يوسع على عياله يوم العيد، ويأمر أصحابه بالتوسعة على عيالهم، وكان يغتسل ويتطيب ويلبس أجمل ثيابه، ويقول: إِن اللّه جميل يحب الجمال، وقال الإمام جعفر الصادق في تفسير هذه الآية من سورة الأعراف «يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد، وكلوا واشربوا، ولا تسرفوا، إن اللّه لا يحب المسرفين، قل من حرم زينة اللّه التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق» قال: إن معنى الآية تزينوا والبسوا أفخر ثيابكم في الجمعات والأعياد، وكلوا من طيبات ما أحل اللّه، ولا تأكلوا حراماً ولا باطلاً.

لقد استحب القرآن الزينة والأكل والشرب من الحلال الطيب، ونهى عن التبذير والإسراف، لأن المبذرين كانوا إخوان الشياطين، وقرش واحد يؤخذ من غير حل، أو ينفق في معصية اللّه، في الفسق والفجور فهو إِسراف وتبذير ومجاوزة للحدود. وإذا ضممنا الآية التي أمرت بالزينة إلى هذه الآية من سورة النور الموجهة إلى النساء «ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو ابنائهن أو ابناء بعولتهن أو اخوانهن أو ابناء اخوانهن أو ابناء اخواتهن أو نسائهن» إذا ضممنا الآيتين معاً تكون النتيجة أن القرآن أباح للرجال أن يتزينوا إِذا خرجوا إلى المساجد والمحافل في الأعياد وغيرها، أما النساء فلا تباح لهن الزينة في يوم العيد ولا في غير العيد إِلا إذا كانت الزينة للأزواج لا للأجانب، وفي عصرنا هذا تكاد تنعكس الآية عند بعض النساء، فانهن يقابلن الأزواج بثياب المطبخ، وبشعرهن المنفوش، كأنه صوف على غنم، وبالكلام الجاف الموحش، وإِذا أردن الخروج تزين بأفخر الزينة، ولبسن الحلي والحلل، وزججن الحواجب والعيونا، وملأن المحافظ بأنواع المساحيق

٣٦٧

يضعنها على الخدود، وهن سائرات في الشارع، أو راكبات في السيارة. وفي الحديث عن الرسول الأعظم «أيما امرأة تزينت لغير زوجها فعليها لعنة اللّه. إِن خير نسائكم الولود الودود السيّرة العفيفة العزيزة في أهلها الذليلة مع بعلها المتبرجة مع زوجها الحصان على غيره التي تسمع قوله، وتطيع أمره».

وفي أيام الأعياد تتجلى العواطف الزوجية والأبوية والأخوية بأجلى معانيها حتى عند المتشائمين المشككين الذين يعمون عن الأثمار والأزهار، ولا يرون إلا الحنظل والأشواك، وتظهر هذه العاطفة الإنسانية في أبناء القرى أكثر منها في ابناء المدينة، فليس العيد في القرية ملابس وكعكاً وذبائح فحسب، فقبل كل شيء يجتمع أهل القرية في المسجد لصلاة العيد جماعة، ثم يتصافحون ويتعانقون متبادلين كلمات التهاني والدعاء بالخير (كل عام وأنتم بخير) يقولونها بصدق وإخلاص، ويرجون للأعزب أن يروه في العام المقبل عريساً سعيداً، وللمتزوج الذي لم يولد له أن يروا له ولداً مباركاً، ومن استوفى نصيبه من ذلك يتمنون له الخلاص من الذنوب والآثام. وحج بيت اللّه الحرام.

ثم ينتشرون زرافات ووحدانا إلى زيارة المرضى ومعايدتهم وتفقد الفقراء والأيتام فيجمعون لهم المعونة لنفقات العيد، ويبذلون أقصى الجهود لإصلاح ذات البين، فيؤلفون بين عائلتين متباغضتين أو شخصين متحاسدين، وإذا عجز أهل القرية عن التأليف بين القلوب المتنافرة استنجدوا بالقرى المجاورة، فيلبون مسرعين مخلصين، وإذا كان أهل بيت في حزن وحداد على فقد عزيز رغبوا إليهم في ترك الحداد، وتناسي المصاب، وإلا حدّت لأجلهم القربة بكاملها.

ومنذ سنوات كنت أقيم في بعض القرى الواقعة على حدود لبنان الجنوبية، فحدث شجار دام بين عائلتين كبيرتين لأسباب مادية، فحاولت الصلح بينهما فلم أفلح حتى جاء يوم العيد، فأقبل أهل القرية إلى بيتي صباحاً يقدمون لي التهاني كعادتهم في كل عيد، فقلت لهم: إِني حزين لا أقبل التهنئة من أحد أياً كان، وسألوني عن السبب مستغربين، قلت: لا احتفل بالعيد أبداً ما دام في البلد اخصام. فانبرى شيوخ القرية وجمعوا المتخاصمين، وأتوا بهم جميعاً إلي، فتكلمت ورغبت إليهم أن يتصافحوا ويتعانقوا، ففعلوا، وزال ما كان في قلوبهم من غل. وهكذا اتفق أهل القرية الذين ما زالوا على الفطرة الإنسانية الطيبة التي فطرهم اللّه وفطر الناس جميعاً عليها، لا أهل القرية فحسب، وإنما فسد، وأفسد من ساءت تربيته وعلاقاته الاجتماعية.

٣٦٨

ولولا أن تمتد بعض الايدي الأثيمة إلى كثير من القرى تثير فيها الفتنة والشغب لكانت كل قرية كهذه، ويتناسى أهلُها جراحَهم ودماءهم، ويسيرون وراء كل من يتجه بهم إلى النجدة والصالح العام.

إن المشاركة الوجدانية تظهر بأصدق معانيها في ابناء القرية يوم العيد، ويلمسها كل من أقام بينهم، وشهد أعيادهم. أما المدينة فيكاد لا يوجد لهذه المشاركة أثر يذكر لا في أيام الأعياد ولا في غيرها. وليس السبب في هذا التفاوت ما قيل أو يقال بأن القرية صغيرة، وكل واحد من أهلها يرى الآخر صباحاً ومساء، فهم كأهل البيت الواحد، وإنما السبب الحقيقي أن التفاوت في العيش بين أبناء القرى يسير جداً، فلا يوجد فيها كوخ متواضع إلى جانب قصر شامخ، كما هي الحال في المدينة. والغني من أهل القرية من يملك قوته الضروري ولباسه وفراشه، فهم لذلك يشعرون بالمسؤولية، ويجتمعون على النجدة، ويبتهجون بالعيد جميعاً.

أما المدينة ففيها مملكتان منفصلتان انفصالاً تاماً مملكة الغني الكبير الذي يحوز الملايين، ومملكةُ الفقير المعدم الذي لا يملك شيئاً. ومن هنا ضعف الشعور بالمسؤولية، وساءت العلاقة بين الهيئات، واختص الابتهاج والاحتفال بالعيد ومظاهره ورسومه بذوي القوة والغنى والترف. أما الفقير فإِنه يكذب على نفسه ويخدعها يوم العيد، فيبتهجُ ويبتسم متجاهلاً أتعابه وأوجاعه، لأنه لا يَود أن تكون حياته كلها سلسلة من الأحزان والآلام، فهو يفر من الحزن الواقعي إلى الفرح الكاذب، ومن الاتعاب الحقيقية إلى الراحة الوهمية. إِن احتفال البائسين بالأعياد أشبه بالمريض والجائع يلجأ إلى الفن ليخففَ أعباء الواقع.

إن القائلين بأن الابتهاج والسعادة ينبعان من القلب مغالون جداً بل أن ابتهاج القلب وسعادته ينبعان من هذه الأشياء المحسوسة الملموسة القائمة على وجه الأرض، والكامنة في بطنها، والتي لا تستقيم الحياة بدونها أبداً، ولا تتم السعادة إلا بها.

إن العيد السعيد حقاً هو اليوم الذي لا يقل فيه الصادر عن الوارد، والخارج عن الداخل، عيد النهضة الكبرى، نهضةُ الزراعةِ والصناعة، والقضاء على الفقر والبطالة والأمية، وعلى اليد التي تثير التفرقة والفتنة والفساد، وعلى كل مشروع يهدف إلى الاستثمار، والوقوف في سبيل الحرية والحياة.

ربنا هيِّئ لهذا البلد من أمره رشداً وقرب هذا اليوم لنتخذه شعاراً لنهضتنا، وعيداً لأولنا وآخرنا، وما ذاك عليك، ولا على المخلصين من عبادك بعزيز.

٣٦٩

كاشِفُ الغطاء الكبير وَالمصَلّون *

إن من يدعي الإصلاح دينياً كان أو سياسياً لا يكون مصلحاً حتى ينكر ذاته، وينسى شخصيته، فيحاسب نفسه وأهله وولده، وكل من يلوذ به قبل أن يحاسب الناس، وأن من تظاهر بالصلاح والإصلاح، وعمل في الخفاء لحساب شهواته وملذاته فهو مراءٍ منافق، وظالم لئيم.

إن نكران الذات هو الأساس الوحيد الذي يجب أن تبنى عليه دعوة الداعين إلى الخير والصالح العام.

كان المغفور له الشيخ الأكبر جعفر كاشف الغطاء المتوفى في أوائل القرن التاسع عشر المرجع الأول للشيعة، وكان الاقبال عليه عظيماً من جميع الطبقات، وكان الناس يجتمعون الوفاً للصلاة خلفه، وفي ذات يوم تجمع الناس في المكان الذي يصلي فيه الشيخ ينتظرونه كالمعتاد، ولما أبطأ عن ميعاده قام كل واحد إلى صلاته يؤديها منفرداً. ودخل الشيخ فرآهم على هذه الحال، فغاظته هذه النزعة الفردية، وهذا الانحلال، فوبخهم قائلاً: لماذا لم تختاروا رجلاً منكم يؤمكم في الصلاة ؟ ثم قصد رجلاً عادياً يصلي في طرف المسجد، فاقتدى به، وصلى خلفه.

ربما كان تأخير الشيخ عن قصد وعمد، ليرى ما هم صانعون، إذا غاب هو عنهم، فلما رأى شتاتهم وتفككهم أنكر عليهم وضرب لهم من نفسه مثلاً حياً لنكران الذات، واقتدى برجل عادي.

رأى الشيخ من إقبال الناس عليه، وثقتهم به، وتعظيمهم له، ما أخافه،

_____________________

* - نشر في مجلة الأحد سنة ١٩٥٢.

٣٧٠

وأقلقه. خاف، وهو الحارس على الدين ومبادئه، وحامي الشريعة وتعاليمها أن يتوهم متوهم أنه هو وحده الذي يستحق التكريم والتعظيم من دون الناس أجمعين، وإن من عداه ليس أهلاً أن يكون إِماماً للجماعات في الصلاة، ولا في غير الصلاة فحارب هذه الأرستقراطية، وهذا الاحتكار بأفعاله قبل أقواله، وأحيا مبدأ الرسول الأعظم الذي قال: «إن في كل حي نجيباً، وإن شر الناس من أحقر الناس».

أراد الشيخ من اقتدائه برجل عادي أن يخلق الثقة في نفس كل فرد بأنه أهل للإمامة في الصلاة، وقيادة الجماعات في كل عمل نافع، ما دام يذعن للحق، وينكر الباطل، وأن يفهم الناس جميعاً أن القيادة ليست وقفاً على ذوي المناصب والانساب، وأن في السوق والشارع نفوساً طيبة، وقلوباً ذكية تصلح أن تقود جماعة، ويقتدي بها حتى الشيخ الأكبر، والمرجع الأول أمثال كاشف الغطاء.

إن اتباع الشيخ ومقلديه لا يرون غيره أهلاً لهذه الإمامة، فهو وحده القائد، وإِمام الصلاة. ولو كان الشيخ من طلاب الرئاسة ومحبيها، لسره هذا الشعور من الجماهير، وأقرهم عليه، واغراهم به ليغالوا بالاقبال عليه، والاعراض عمن سواه، ولكن الشيخ نظر إلى هذا الشعور بمنظار الدين والواقع لا بانفعاله الذاتي، وانانيته الضيقة، فرأى أن إقرارهم عليه تضليل وخيانة، فردعهم عنه، وأرشدهم إلى الحق مقتدياً برجل عادي إطاعة لواجب الدين والعلم.

٣٧١

السّيّد محسِن الأمِين *

ربما يتساءل الناس إِذا كان لم يعد للدين وزن ولا أثر في النفوس في هذا العصر فمن أين هذه العظمة للأمين المحسن، وهو رجل الدين الأول، ورئيس العلماء الأكبر ! وما هذا الدوي الهائل الذي كنا نسمعه خلف جثمانه، وهذا السيل الجارف من الشعب والحكومة في سوريا ولبنان حول الجثمان وخلفه وأمامه، هذا الحشد الذي ضم جميع الهيئات الدينية والسياسية والشعبية كبارها وصغارها من جميع الطوائف والأديان، ولماذا ملأت الصحف في الأقطار الغربية أعمدتها على الصفحات الأولى تشيد بعظمة الفقيد تعدد فضائله ومناقبه ! وما سبب هذه الهزة العنيفة التي زلزلت العالم العربي والإسلامي عندما سمع نبأ وفاته !

أجل لقد غيرت التطورات الأخيرة كثيراً من الأفكار والاتجاهات، وكشفت الغطاء عن كل مموه زائف، ولكنها عجزت عن مقاومة الحق الذي يتمثل بشخصية الفقيد، فأرغمت على الاعتراف بسلطانه، والنزول على حكمه.

اعتمد الفقيد على العمل والاخلاص لا على الرياء والتضليل، ولا على الأنساب والألقاب، وهل يفخر بأكفان الأموات وترابهم غير الحقير الأعزل من سلاح الحياة، انتسب الفقيد إلى حقيقة الدين وجوهره لا إلى اسمه ومظهره، فانتسب إليه العلم والدين فهذي المدرسة المحسنية مضى على خدمتها للعلم والإنسانية نصف قرن، وهذي المؤلفات تعد بالعشرات، وهذا كتاب الأعيان من أعظم وأضخم ما تركت أمة من تراث خالد وهذا الجهاد المستمر لتوحيد الكلمة، وجمع الصفوف، وهذا الكفاح لكل مستعمر ومستثمر، خلال اصطفى لها اللّه أمينه

_____________________

* - نشر في العرفان أيار سنة ١٩٥٢.

٣٧٢

المحسن.

إن الكثير منا يملك العلم والذكاء، ولكن ماذا يجدي العلم والذكاء إِذا أديا إلى لغو لا خير فيه ! وماذا يجدي الجاه والمال إِذا كانا سبباً للتحاسد والتباغض ! بل ماذا تجدي الهجرة إلى النجف والأزهر واكسفورد والسوربون إذا لم تكن لغايات إنسانية ولم تدفع بالحياة إلى التقدم وكيف تتقدم بنا الحياة أو نتقدم بها، إذا كنا نجهل الحياة، وتستعبدنا الشهوات !.

لقد انبعثت نفس الفقيد من صميم العصر الذي عاش فيه، وتجرد عن ذاته وغايته، فكان كفوءاً لكل ما ألقي عليه من مسؤوليات، تسعين عاماً من حياته قضاها مجاهداً في سبيل العلم والخير مدافعاً عن الحق دفاع من لا يبغي حطاماً، ولا يخشى سلطاناً، فكان في عاملة والعراق ودمشق لا وزن عنده إلا للحق، ولا فضل إلا لعامل على خير الوطن والصالح العام كائناً من كان سنياً أم شيعياً، مسلماً أم غير مسلم، وهذه هي السبيل الواضحة التي يصل منها الإنسان إلى العظمة المطلقة التي تتخطى حدود الأمصار والأديان، لأنها كالشمس فوق الحدود جميعاً، لقد كان الإنسان إنساناً قبل أن يكون شرقياً أو غربياً، وقبل أن يكون مسلماً أو نصرانياً، وهكذا العظمة وحب الخير لا يجنسان جغرافياً ولا تاريخياً ولا دينياً، ولا هوية لهما غير حقيقة الإنسان بمعناه الشامل، إن الزمان والمكان لا يغيران شيئاً من حقيقة الإنسان، وإِنما هما ظرفان لما يقوم به من أعمال، وأن معنى الدين هو الشعور بالمسؤولية تجاه أخيك الإنسان، ومعنى الإيمان هو إخضاع حياتك لهذا الشعور، أن المسيح لا يريد النصراني الماروني أو الرومي وإنما يريد النصراني الإنساني، ومحمد لا يريد المسلم السني أو الشيعي، وإنما يريد المسلم الإنساني، هكذا فهم الفقيد الإسلام والإيمان فأخضع حياته لهذا الشعور، وبهذا كان عظيماً عند المسيحيين كافة والمحمديين كافة.

وربما يتساءل المرء: كيف اجتمعت هذه العظمة مع تلك الحياة المتواضعة التي كان يحياها الفقيد والبساطة في مظاهره كلها في مأكله وملبسه ومسكنه، فلا بواب ولا حجاب، ولا سيارة فخمة، وبناية ضخمة، وقد رأيته، وأنا جار له في الشياح واقفاً في دكان قصاب يشتري اللحم ويحمله بيده إلى أهله، ورأيته منفرداً متثاقلاً يدفع بجسمه المريض المتهدم يزور العمال البائسين في بيوتهم، فيجلس إليهم ويطايبهم، ويسمع منهم، ويستمعون إليه، قد يتساءل المرء: أهذا حقاً هو الذي احتشدت الأمة بقضها وقضيضها خلف جثمانه ! أهذا حقاً هو الذي كان بالأمس يحمل اللحم بيده ! أهذا حقاً هو الذي كان يمشي وحيداً في الشارع، ويجلس على الحصير مع البائس والفقير ! نعم هو هو !

٣٧٣

وهذا الرسول الأعظم الذي قرن اسمه باسم اللّه فيه الصلاة، وعلى المنابر والمآذن، ودانت بأقواله ملايين الملايين في مشارق الأرض ومغاربها هو الذي كان يخصف نعله، ويرقع ثوبه بيده ويعقل البعير، ويقطع اللحم، ويحلب الشاة، ويطحن مع الخادم، ويجلس على الأرض مع الأسود والأبيض، وهكذا كان الرسول الأعظم، وهكذا اقتدى به سليله المحسن الكبير، وما هذا الاحتقار للمادة إِلا مظهر الكمال، والاعتداد بسلامة النفس، الاعتداد بالعلم والنزاهة والعمل والإخلاص وحيثما وجدت الترف والزينة وجدت الاستغلال والخيانة، وحيثما وجدت التواضع وجدت الحق والصدق.

كان مسجد الرسول الأعظم في عهده وعهد الخلفاء الراشدين هو البرلمان والسراي الكبير وقصر العدل، ولم يكن هذا الجامع سوى قليل من الطين وسعف النخل ولكن منه انبعثت القوة التي حطمت تاج كسرى وقيصر، ومنه شع النور الذي ملأ الآفاق والأكوان، وبه سادت الفضيلة على الرذيلة، وتغلب الضعيف المحق على القوي المبطل. أما القصور الشامخة أما ناطحات السحاب فأساسها البغي والاستثمار وحيطانها التحاسد والتباغض، وسقفها الطمح والجشع، وأثاثها العجب والرياء، من سكنها أغوته، ومن اغتر بها أردته، والسلام على أمير المؤمنين حيث وصف المخلصين «عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم» والعكس بالعكس.

أنكر أهل الجاهلية الرسول الأعظم، لأنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ولا يملك كنزاً ولا بستاناً أهذا الذي بعثه اللّه رسولاً ؟ «وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إِليه ملك فيكون معه نذيراً أو يلقى إِليه كنز أو تكون له جنة» ولو كان محمد ص في هذا العصر لقال له البعض: كيف تكون نبياً، وأنت لا تملك سيارة!

وما تجلت هيبة الحق في شيء، كما تجلت في حياة متواضعة وزهد في زخرف الأرض وزينتها، كان للفقيد - الذي لا يملك سيارة - صور للهيبة والجلال تتعدد بتعدد من ارتدى عمة مثل عمته، ولبس جبة وقفطاناً كما لبس. وقد أعار لكل واحد صورة أكسبته احتراماً وتقديراً حتى إِذا ذهب الأصيل ذهبت تلك الصورة عن الدخيل، واسترد المستعار، وبرز الجميع عراة إِلا من لبس ثوبه من غزله، وحاكه على نوله.

* * *

إلى هنا أكتفي بجمع ما تألف منه هذا الكتاب، وهو جزء مما نشرت وأذعت في مدة تقرب من عشرين عاماً، وأؤمل أن يوفقني اللّه سبحانه لجمع الجزء الباقي في مستقبل الأيام.

٣٧٤

وأسأل القارئ المعذرة عما يجد من أخطاء لم يتهيأ لي التحرز عنها حين وقوعها، وما على الإنسان من غضاضة في خطأ غير مقصود يرجع عنه عند ظهور الصواب، والسلام على الإمام علي بن أبي طالب حيث قال «ليس كل من رمى أصاب» واللّه سبحانه من وراء القصد، وهو العالم بصدق النية، وطيب السريرة.

الاثنَا عشريَّة وَأهل البيَت (ع)

الاثنَا عشريَّة

الاثنا عشرية نعت يطلق على الشيعة الإمامية القائلة باثني عشر إماماً تعيّنهم بأسمائهم.

تمهيد: واجه الإسلام ما واجهته سائر الأديان من التقسيم إلى فرق، ثم تقسيم كل فرقة، على مرّ الّزمن، إلى فرق.. وفي التاريخ العديد من الشواهد على ذلك «ولو شاء ربك لجعل النَّاس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين» (هود - ١١٨) ولا يقف هذا الاختلاف على الطوائف وأهل الأديان بعضها مع بعض.

بل يتعداها إلى اتباع الدين الواحد. ولا نعرف أهل دين أجمعوا على عقيدة واحدة من جميع جهاتها، دون أن يتفرّقوا شيَعاً وأحزاباً. ورغم هذا الشتات والنزاع - وربما الحرب والصراع - فإن بين الفرق من كل طائفة قاسماً مشتركاً يجمع شملها.

ويربطها بالدّين الأصيل، وإلا لم تكن فرقاً لدين واحد، فلا بد لكل فرقة أن تأخذ بنصيب من دينها، أمّا مقدار هذا النصيب، وأيّ الفرق أكثر ملاءمة للأصل والمصدر فلا يعرف من كثرة الأتباع وقوّتهم، وسلطانهم.

الفرق الإسلامية

والذي نراه ونرجّحه أن أسباب الإختلاف والتعدّد في الفرق الإسلامية، على ما بينها من رابط قويّ أو ضعيف، هي واحدة تتّحد مفهوماً، وتختلف مصداقاً. ومن هذه الأسباب أن الذين انتموا إلى الدّين، عند بدايته، منهم من انتمى إليه حقاً وصدقاً، ومنهم من انتمى إليه شكلاً وظاهراً ابتغاء ما يجنيه من وراء هذا الانتماء، تماماً كما ينتمي كثيرون إلى حزب من الأحزاب لمنافع شخصية.

٣٧٥

ومنها أن التعاليم التي أتى بها النبيّ لم تطبق بكاملها في عهده وحياته. ولمّا جاء دور تطبيقها والعمل بها، نظر إليها كلّ من زاويته الخاصّة، وواقع بيئته، ومنطق عقله. هذا وإنّ كثيراً من التعاليم المنسوبة إلى النبيّ لم ينطق بها صراحة، وإنّما استنبطها الأتباع من إيماءة أو تصرّف، أو من شيء لا يمتّ إليه بسبب. بل اختلفوا في الأحكام التي طبقها النبي، وعمل بها. فلقد توضأ مئات المرات أمام ألوف من المسلمين، ومع هذا اختلف السنّة والشيعة في صورة الوضوء، وادعت كل فرقة أنها هي التي تتوضأ بوضوئه دون غيرها.

ومنها أن فئة من الأتباع قد تثق برجل ثقة عمياء، وتواليه ولاء دين وعقيدة وأخرى تتّهمه وتهاجمه.

الخلافة

لهذه الأسباب ولغيرها افترق المسلمون إلى فرق وشيع. وقامت بينهم حدود وحواجز، وأهمّها مسألة الخلافة وما يتّصل بها، بخاصة الطريق الذي يعين الخليفة بعد الرسول، وهل هو النصّ من الرسول، أو اختيار الوجهاء والأعيان ؟ قال الشيعة بالأول، وقال السنة بالثاني. وآمن كل بما رأى، وأصبح إيمانه هذا جزءاً من عقيدته ونظامها. وهذا - كما ترى - اختلاف في المنهج والطريق المثبت للخلافة، لا في أصل الخلافة: فالقول بأنها من عقيدة الشيعة خطأ. ما دام الكلّ متفقين على أصل الفكرة، وأنها تستند إلى الدين باعتبارها رئاسة عامة في الدين والدنيا نيابة عن الرسول باتفاق الجميع، إذن ليست الخلافة، من حيث الفكرة، شيعيّة فقط، أو سنّية فقط وإنما هي عقيدة لجميع المسلمين.

أجل، إن فكرة النص من النبي على الخليفة شيعية لأن السنّة لا يقولون بها، كما أن فكرة الانتخاب سنّية لأن الشيعة لا يقولون بها.

وبعد أن أناط السنّة تعيين الخليفة بانتخاب الوجهاء خاصة، وهم الذين عبّروا عنهم «بأهل الحلّ والعقد» قالوا مبرّرين رأيهم هذا إن الجماعة - أي الوجهاء - منزّهون ومعصومون عن الخطأ، وإن اللّه يهديهم إلى الحقّ والصواب، لحديث «لا تجتمع أمتي على ضلالة» ولما رواه البخاري في «صحيحه» (٩: كتاب الأحكام) من أن النبيّ قال: «من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر،

فإنّه ما أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية».

٣٧٦

وردّ الشيعة هذا الحديث، وكلّ حديث يتضمّن عصمة الجماعة، لأنَّها قد تخطئ بل جاء في الآية ١٨٧ من «الأعراف» «ولكن أكثر الناس لا يعلمون» فبالأولى القلّة وإن كانوا «أهل الحلّ والعقد».

هذا، إلى أن السنّة والشيعة متفقون قولاً واحداً على أن أيّ حديث يأتي من الرّسول يجب أن يعرض أولاً على «كتاب اللّه» فإن تناقض معنى أحدهما مع معنى الآخر، وجب طرح الحديث وإهماله. وليس من شك أنّ بين قوله «ولكن أكثر الناس لا يعلمون» وبين حديث عصمة الجماعة تناقضاً ظاهراً، فيجب طرحه وإهماله.

وأيضاً: بعد أن أناط الشِّيعة تعيين الخليفة بنصّ النبيّ عليه اسماً وعيناً قالوا مستدلين على ذلك: «إن محمداً نصّ على علي بن أبي طالب (ع) باسمه وعينه ونسبه، وعقد له الخلافة على المسلمين من بعده، وأمرهم بالسمع والطاعة له، وأعلمهم أن طاعته طاعة اللّه ورسوله» ونقل الشيعة عن ج ١ من «مسند» الإمام أحمد بن حنبل وج ٢ من «تاريخ» الطبري، وجلد ٢ من «تاريخ» ابن الأثير، وج ٣ من «مستدرك» «الصحيحين» للنيسابوري ومن «السيرة الحلبية» نقلوا عن هذه الكتب وغيرها.

إن محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله حين نزلت عليه هذه الآية: «وأنذر عشيرتك الأقربين» ٢٦ (الشعراء) (٢١٤)، جمع عشيرته في بيته. وبعد أن أكلوا من مائدته، قال لهم مشيراً إلى علي (ع): هذا أخي ووصيّي وخليفّتي فيكم، فاسمعوا له، وأطيعوا. وعلّق الأستاذ محمد عبد اللّه عنان المصري، في كتابه على ذلك «تاريخ الجمعيّات السريّة»: فقال: من الخطأ أن يقال إن الشيعة إنما ظهروا لأول مرّة عند انشقاق الخوارج، بل كان بدء الشيعة وظهورهم في عصر الرّسول، حين أمر بإنذار عشيرته بهذه الآية: «وأنذر عشيرتك الأقربين» ثم ساق الحديث إلى نهايته.

ووضع علماء الشيعة الاثني عشرية العديد من الكتب في النصّ على عليعليه‌السلام ، وجمعوا فيها الآيات والأحاديث من طرق السنة والشيعة.

من هذه الكتب «الشافي» للمرتضى، «ونهج الحق» للعلامة الحلّي، والجزء الثاني «من دلائل الصدق» للمظفّر، «ونقض الوشيعة» والجزء الأول من «أعيان الشيعة» للسيّد الأمين، و«المراجعات» لشرف الدّين، «والغدير» للأميني.

٣٧٧

وممّا قدّمناه نستخلص:

أولاً - إن فكرة العصمة لم يقل بها الشيعة وحدهم، فإن السنّة يقولون بها أيضاً، والاختلاف بينهم في التطبيق فقط. فالسنّة يجعلونها للجماعة، والشيعة للإمام المنصوص عليه، فنسبة الفكرة من حيث هي إلى الشيعة دون السنّة خطأ واشتباه، تماماً كما هي الحال في فكرة الخلافة من حيث هي، ونسبتها إلى الشيعة دون غيرهم.

ثانياً - إنّ فكرة النصّ على عليعليه‌السلام بالذات هي فكرة دينية إسلامية تستند إلى الكتاب والسنة، وليست فكرة سياسية - كما قيل - ترتكز على حق الوراثة في الحكم، ولا فكرة عاطفية صرف، لا مصدر لها إلا قرابة النسب والسبب بين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثالثاً - إن مبدأ النص على عليعليه‌السلام بالخلافة فارق أساسي، وحاجز منيع بين السنة والشيعة. وقد كان له المقام الأول في الإيمان والعقيدة، وتعدد الفرق الإسلامية، والتأثير البالغ في السياسة، والفلسفة، وعلم الكلام، وفي الفقه، وفي التفسير والحديث، والتصوف، والأدب الإسلامي في جميع مراحله، بل والأساطير التي يبرأ منها الكتاب والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلي وأبناؤهعليهم‌السلام ، والمحقون من شيعتهم. قال الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام : «ما شيعتنا إلا من يقول علينا حقّاً».

بدء التشيع:

قال الشيعة: إن رسول اللّه هو الذي غرس بذرة التشيع لعليعليه‌السلام بالنص عليه، وبالمدح والثناء بما لم يثن به على غيره من الأصحاب.

كقوله: «يا علي، لا يحبّك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق» وقوله: «علي مع الحق، والحق مع علي» بل هو الذي أطلق على أتباع عليعليه‌السلام

لفظ الشيعة، وأسماهم بهذا الاسم، حيث قال له: «يا أبا الحسن أنت وشيعتك في الجنة» وقال: «تأتي أنت وشيعتك راضين مرضيين» نقل الشيعة هذا الحديث عن كتاب «الصواعق المحرقة» لابن حجر الشافعي.

وظهرت هذه البذرة أوّل ما ظهرت حين توفي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبويع أبو بكر بالخلافة، حيث امتنع عليعليه‌السلام ، ومعه شيعته وأنصاره، واستمرّوا ممتنعين عن البيعة ستة أشهر كاملة. ذكر هذا المؤرخون والكتّاب القدامى والجدد.

وآخرهم الكاتب المصري أحمد عباس صالح، فقد نشر مقالاً متسلسلاً بعنوان «اليمين والثورة» في مجلة الكاتب القاهرية. وممّا قاله في عدد يناير «كانون الثاني» ١٩٦٥: إنّ غالبية المسلمين

٣٧٨

حين توفي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كانوا مع الاتجاه الذي يمثله علي بن أبي طالبعليه‌السلام وأصحابه. لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان زعيم هذا الاتجاه، وواضع مبادئه الأساسية وقال في عدد فبراير «شباط» ١٩٦٥: «كان حزب كبير من أحزاب المسلمين يعتقدون أن علياًعليه‌السلام كان أولى بالخلافة من أبي بكر وعمر».

وأخذت بذرة التشيع تنمو وتعلو، وتواصل نموها وعلوها مع الزمن، والحركات الاجتماعية الإصلاحية في الإسلام، حتى أصبحت عقيدة الأصحاب والرواد الأول، والصالحين والمخلصين. ذلك أن علياً كان يسير على الطريق التي رسمها الرسول. قال المسعودي في مروج الذهب: كان مع علي في صفين تسعون ألفاً، فيهم ألفان وثمانمائة من أصحاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

الخلفاء الاثنا عشر

روى السنة والشيعة عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: إن الخلافة في قريش وإن عدد الخلفاء اثنا عشر خليفة، فقد جاء في صحيح البخاري ج ٩ كتاب الأحكام ما نصه بالحرف: «قال رسول اللّه: لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان.. ويكون اثنا عشر أميراً». وقال ابن حجر العسقلاني، وهو يشرح هذا الحديث في كتاب فتح الباري ج ١٣ ص ١٨٣ طبعة ١٣٠١ هجري: «كم يملك هذه الأمة من خليفة؟. فقال: اثنا عشر، كعدة نقباء بني إسرائيل».

ولم يخالف في ذلك إلا الخوارج، فإنهم قالوا: ليست الخلافة في قريش، بل الناس فيها سواء.

وبعد أن اتفق السنة والشيعة على أن الخلافة لا تكون إلا في قريش، قال الشيعة وأفضل قريش بنو هاشم، لما رواه مسلم في صحيحه ج ٢ بعنوان كتاب الفضائل أن النبي قال: «إن اللّه اصطفى كنانة من إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم». وأيضاً روى مسلم في الكتاب المذكور بعنوان فضائل علي بن أبي طالب أن النبي «قال: أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي، فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب اللّه، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب اللّه، واستمسكوا به، وأهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي» كررها ثلاثاً.

وقال الشيعة: فإذا جمعنا بين الأحاديث الثلاثة، في قريش، «والاصطفاء، والثقلين» وعطفنا بعضها على بعض جاءت النتيجة أن الخلافة في أهل بيت رسول اللّه، وهم علي وبنوه.

فالسنة يتفقون مع الشيعة في أن الخلافة لا بد منها، وأنها في قريش دون غيرهم وأن عدد الأئمة اثنا عشر إماماً ويختلفون معهم في أمرين: الأول في حصر الخلافة بالهاشميين، وبصورة أخص بعلي وبنيه. الثاني في تعيين الأئمة الاثني عشر بأسمائهم وأنسابهم، يختلفون في هذين، أما

٣٧٩

أصل فكرة الاثني عشرية فمحل وفاق بين السنة والشيعة الاثني عشرية، وعلى هذا تكون فكرة إسلامية تعم الطرفين، لا سنية فقط، ولا شيعية فقط، تماماً كفكرة العصمة وفكرة الخلافة من حيث المبدأ والقاعدة.

أما السبب لتسمية هذه الفرقة من الشيعة بالاثني عشرية دون غيرها، مع العلم بأن السنة يؤمنون بالأئمة ال ١٢ فهو أن هذه الفرقة قد أجمعت على تعيين ال ١٢ بأسمائهم وأعيانهم، واختلف السنة في ذلك. فمنهم من قال: إن ال ١٢ لم يخلقوا بعد، وسيخلقون، ويملكون بعد ظهور المهدي المنتظر ووفاته، ومنهم من قال: «إن المراد بال ١٢ غير أصحاب الرسول لأن حكم أصحابه يرتبط بحكمه. إذن، كل الأئمة الاثني عشر من بني أمية ما عدا عثمان ومروان، لأنهما صحابيان. وعليه يكون أول الأئمة الذين عناهم النبي يزيد بن معاوية، ثم ابنه معاوية،

ثم عبد الملك، وأولاده الأربعة: الوليد، وسليمان، ويزيد، وهشام وعمر بن عبد العزيز، والوليد بن يزيد، ويزيد بن الوليد، وأخوه إبراهيم، ومروان الحمار. ومنهم من قال: هم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاوية، وولده يزيد، وعبد الملك، وأولاده الأربعة، وعمر بن عبد العزيز. ومنهم من قال: المراد وجود ١٢ إماماً في مدة الإسلام، حتى يوم القيامة، وإن لم تتوال أيامهم إلى غير ذلك (فتح الباري للعسقلاني ج ١٣ ص ١٨٣ وما بعدها طبعة سنة ١٣٠١ هجري).

الفرقة الاثنا عشرية

قدمنا أن بذرة التشيع غرست في عهد الرسول، وظهرت حين بويع أبو بكر، ونمت وعلت يوم صفين، ففرقة علي هي أولى الفرق الإسلامية على الإطلاق، تكونت في حياته، وبقيت ثابتة على ولائه إلى أن قتل، فافترقت بعده إلى فرق، وباد أكثر هذه الفرق، وذهب مع الزمن، ومنها ما هي ثابتة قائمة، حتى اليوم، وستبقى إلى آخر يوم، رغم الحملات والمحاولات لمحوها وإبادتها وهكذا جميع الفرق، أية فرق تنطبق عليها قاعدة تنازع البقاء، وبقاء الأصلح، تماماً كأغصان الشجرة، تتفرع عن أصل واحد، فينمو، ويمتد في النمو، ويحمل من الأزهار والثمار ما يصلح للبقاء والاستمرار، والذي لا يصلح لها يذبل ويجف وينتهي إلى السقوط والضياع.

ومن فرق الشيعة البائدة فرقة قالت: إن علياً لم يقتل ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً.

وفرقة قالت بإمامة ولده محمد بن الحنفية من بعده وهم المعروفون بالكيسانية.

ومن الفرق الباقية حتى اليوم الاثنا عشرية التي لزمت القول بإمامة الحسن بن علي بعد أبيه، لأن النبي نص عليه، وعلى أخيه الحسين بقوله: «ولداي هذان إمامان قاما أو قعدا» وبهذا النص انتقلت الإمامة بعد الحسن إلى أخيه الحسين، ثم اوصى بها الحسين إلى ولده علي زين العابدين،

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419