الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان0%

الشيعة في الميزان مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 419

الشيعة في الميزان

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد جواد مغنية
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 137835
تحميل: 8519

توضيحات:

الشيعة في الميزان
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 137835 / تحميل: 8519
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وأوصى هو إلى ولده محمد الباقر، وأوصى الباقر إلى ولده جعفر الصادق، ثم أوصى الصادق إلى ولده موسى الكاظم ، ثم أوصى الكاظم إلى ولده علي الرضا، ثم أوصى الرضا إلى ولده محمد الجواد، ثم أوصى الجواد إلي ولده علي الهادي، هو أوصى إلى ولده الحسن العسكري ومنه انتقلت الإمامة بالوصية إلى ولده محمد بن الحسن، وهو المهدي المنتظر الذي اختفى بعد موت أبيه، وكان ذلك سنة ٢٥٦ هجري.

وقد وضعت كتاباً مستقلاً، اسمه «المهدي المنتظر والعقل» وقربت الفكرة من وجهة عقلية، وذكرت جملة من مؤلفات السنة والشيعة في المهدي، ثم أدرجت كتاب المهدي في كتاب «الإسلام والعقل».

وهذا التسلسل في الوصية من إمام إلى إمام هو من صلب عقيدة الاثني عشرية، لأن الإمام عندهم لا يكون إلا بنص النبي عليه مباشرة، أو بواسطة إمام منصوص عليه، ومن هنا كانت الإمامة منصباً إلهيّاً، يأتي في الدرجة الثانية من النبوة، فالنبي يبلغ عن اللّه، والإمام يبلغ عن النبي.

هؤلاء هم الأئمة الاثنا عشر للفرقة الاثني عشرية التي مضى على وجودها أكثر من ألف عام، رغم ما لاقته من الظلم والاضطهاد.

عقيدتهم

يستطيع أي إنسان يحسن القراءة أن يعطي صورة واضحة الملامح عن عقيدة الاثني عشرية، يستخلصها من أوثق المصادر، وأصفى المراجع. ذلك أن علماءهم قديماً وحديثاً قد وضعوا العديد من الكتب في هذا الموضوع، منها - على سبيل المثال - اعتقادات الصدوق وشرحها للشيخ المفيد، وأوائل المقالات للشيخ المفيد أيضاً، وقواعد العقائد للخواجة نصير الطوسي، وشرحها للعلامة الحلي، وشرح الباب الحادي عشر للمقداد، ونقض الوشيعة للسيد محسن الأمين وأصل الشيعة وأصولها للشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، وعقيدة الشيعة الإمامية للسيد هاشم معروف، وعقائد الإمامية للشيخ المظفر، والشيعة والتشيع ومع الشيعة الإمامية للكاتب.

ولست أدري كيف يقطع في الخطأ والالتباس من يعرض عقيدة هذه الفرقة، مع كثرة المصادر، وانتشارها.. ومهما يكن، فإن الاثني عشرية يعتقدون: بالتوحيد، والعدل، والنبوة، والمعاد، وبوجوب الصوم والصلاة، والحج

٣٨١

والخمس والزكاة، وبكل ما جاء في القرآن الكريم، وثبت عن الرسول العظيم بالتواتر أو بنقل الثقات. ويعتقدون بوجوب تأويل النقل بما يتفق مع العقل، وبأن القرآن هو هذا الذي بين أيدي الناس لا زيادة فيه، ولا نقصان، ويعتقدون بفتح باب الاجتهاد، لأهل المعرفة والكفاءة، وبتقليد الجاهل للعالم في الأمور الشرعية الفرعية، وبوجوب طلب العلم على كل إنسان كفاية لا عيناً، وبعصمة جميع الأنبياء، وأئمتهم الاثني عشر، وبالتقية، مع خوف الضرر، وقد ذكرنا العصمة والتقية بصورة مفصلة في كتاب الشيعة والتشيع، ويعتقدون بأن الإمامة أصل من أصول المذهب، لا من أصول الإسلام، وأن من أنكرها فهو مسلم، له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، إذا اعتقد بالتوحيد والنبوة والمعاد، ولكنه ليس إمامياً.

و يعتقدون بأن الغلو بأي إنسان فهو كفر سواء أكان من أهل البيت، أم من غيرهم، لقول الإمام علي: «سيهلك فيّ صنفان: محب مفرط، يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق، وخير الناس في هذا النمط الأوسط فالزموه».

وروى الاثنا عشرية عن إمامهم الخامس محمد الباقر أنه قال: واللّه ما شيعتنا إلا من اتقى اللّه.. ليس بين اللّه وبين أحد قرابة. ولسنا نتقرب إلى اللّه إلا بالطاعة، فمن كان للّه مطيعاً فهو ولينا، ومن كان للّه عاصياً فهو عدونا، ولا تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع.

ورووا عن إمامهم السادس جعفر الصادق أنه قال: لا تقولوا علينا إلا الحق.

وقال: إنما شيعة جعفر من عف بطنه وفرجه، واشتد جهاده، وعمل بخالقه، ورجا ثوابه وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فهم شيعة جعفر.

وقال بعض شعرائهم يصف الصادقين في إيمانهم وعقيدتهم من هذه الفرقة:

إن ينطقوا ذكروا أو يسكتوا فكروا

أو يغضبوا غفروا أو يقطعوا وصلوا

أو يظلموا صفحوا أو يوزنوا رجحوا

أو يسألوا سمحوا أو يحكموا عدلوا

المهدي المنتظر

أما المهدي المنتظر فإنه فكرة إسلامية يعتنقها السنة والشيعة، فلقد روى السنة

أخباره عن النبي، ودونوها في الصحاح من كتب الحديث، وبلغت لكثرتها حد التواتر منها ما جاء في سنن ابن ماجة ج ٢ الحديث رقم ٤٠٨٣ أن رسول اللّه قال: يكون في أمتي المهدي، تنعم به أمتي نعمة لم تنعم مثلها قط. وفي حديث آخر أنه يملؤها قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً. ومنها ما في سنن أبي داود السجستاني ج ٢ ص ٤٢٢ طبعة سنة ١٩٥٢ وصحيح الترمذي ج ٩

٣٨٢

ص ٧٤ طبعة سنة ١٩٣٤ أن رسول اللّه قال: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول اللّه ذلك اليوم، حتى يبعث رجلاً من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً». ونقل صاحب أعيان الشيعة في الجزء الرابع عن فوائد السمطين لمحمد بن إبراهيم الحموي الشافعي أن النبي قال: من نكر خروج المهدي فقد كفر بما أنزل على محمد.

ووضع علماء السنة كتباً خاصة بالمهدي نذكر منها على سبيل المثال: كتاب صفة المهدي، لأبي نعيم الأصفهاني والبيان في أخبار صاحب الزمان، للكنجي الشافعي، والبرهان في علامات مهدي آخر الزمان، لملا علي المتقي، وأخبار المهدي، لعباد الرواجني، والعرف الوردي في أخبار المهدي، للسيوطي، والقول المختصر في علامات المهدي المنتظر، لابن حجر، وعقد الدرر في أخبار المهدي المنتظر، لجلال الدين يوسف الدمشقي نقلاً عن منتخب الأثر للطف اللّه الصافي.

أما علماء السنة الذين أفردوا لأخبار المهدي باباً خاصاً في مؤلفاتهم فلا يبلغهم الإحصاء، وقد جرأت هذه الأحاديث والمقالات والكتب الكثيرين من أهل السنة أن ينتحلوا المهدوية ويدعوها لأنفسهم، وهذا يثبت ما قلناه من أن فكرة المهدي المنتظر يقول بها السنة والشيعة على السواء، تماماً كفكرة الخلافة والاثني عشرية، من حيث المبدأ، ولا اختلاف إلا في اتجاه الفهم وتطبيقه.

وكما اتفق الطرفان على فكرة المهدي المنتظر فقد اتفقوا أيضاً على اسمه ونسبه، وكنيته ولقبه، وأنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وأما الجهة التي اختلفوا فيها فهي: هل ولد المهدي أو لم يولد حتى الآن.

أهم الفروق بين الشيعة والسنة

وبالإضافة إلى ما تقدم فإن الشيعة الاثني عشرية تختلف مع السنة في أشياء. بعضها يرجع إلى العقيدة، وبعضها يرجع إلى الأحكام، نلخص أهمها فيما يلي:

معرفة اللّه: قال السنة:

تجب معرفة اللّه بالسمع لا بالعقل، أي أن اللّه وحده هو الذي أوجب على الناس أن يعرفوه. (المواقف للأيجي: (المتوفى ٧٥٦ هجري - ١٣٥٥) ١ -: ٢٥١ ، مطبعة السعادة بمصر سنة ١٣٢٥ هجري).

وقال الشيعة: إن معرفة اللّه تجب بالعقل لا بالسمع، أي أن العقل هو الذي أوجب على الإنسان أن يعرف خالقه، لأن معرفة الإيجاب تتوقف على معرفة الموجب، فلا بد أن نعرف اللّه أولاً بطريق العقل، ثم ننظر فيما أوجب، وما لم يُوجب ومحال أن نعرف أحكامه دون أن نعرف شيئاً عنه،. أما ما جاء في السمع من هذا الباب كقوله تعالى: «فاعلموا أن لا إله إلا هو» فهو

٣٨٣

بيان وتأكيد وتقرير لحكم العقل، وليس تأسيساً جديداً من الشارع، وقال السنة: اللّه يصح أن يرى (المواقف للأيجي ٨: ١١٥). وقال الشيعة: ان رؤية اللّه محالة وغير ممكنة في الدنيا والآخرة: وأولوا الآيات الدالة بظاهرها على إمكان الرؤية، أولوها بالعقل والبصيرة لا بالعين والبصر (وقال السنة: إن صفات اللّه زائدة على ذاته).

وقال الشيعة بل هي عينها، وإلا لزم تعدد القديم.

كلام اللّه : هل هناك شيء آخر وراء ألفاظ التوراة والإنجيل، الأصليّين والقرآن يسمى كلام اللّه، أو أن كلامه تعالى هو هذا اللفظ الموجود في الكتب السماوية؟

قال السنة: إن الكلام الموجود في الكتب السماوية ليس بكلام اللّه حقيقة، بل إن كلامه قديم قائم بذاته، تماماً كالعلم والقدرة والإرادة، وهذه الكلمات المسطورة التي نتلفظ بها، وننسبها إليه سبحانه تعبر عن كلامه القائم بذاته.

كما يعبر قولنا «علْم اللّه وإرادة اللّه» عن علمه وإرادته القائمين بذاته.

وقال الشيعة: إن كل من يوجد كلاماً فكلامه يدل على معنى ما نطق به. وعلى هذا يكون كلام اللّه هو الكلمات نفسها الموجودة في التوراة، والإنجيل، والقرآن.

وهي حادثة، ومخلوقة. ولا يلزم من القول بحدوثها أن يكون اللّه محلاً للحوادث، لأنه سبحانه يخلق الكلام، كما يخلق سائر الكائنات.

أفعال اللّه : قال السنة: لا يجوز تعليل أفعال اللّه بشيء من الأغراض والعلل الغائية، لأنه لا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء. (المواقف ٨: ٢٠٢) وفي كتاب «المذاهب الإسلامية» للشيخ أبي زهرة (فصل وحدانية التكوين: فقرة تعليل الأفعال) ما نصّه بالحرف «قال الأشاعرة أي السنة: إن اللّه سبحانه وتعالى خلق الأشياء لا لعلة ولا لباعث لأن ذلك يقيّد إرادة اللّه».

وقال الشيعة: إن جميع أفعاله عزّ وجل معلّلة بمصالح تعود على الناس، أو تتعلق بنظام الكون، كما هو شأن العليم الحكيم.

الأمر والإرادة : قال السنة: لا تلازم بين ما يأمر به اللّه وما يريد، ولا بين ما ينهى عنه وما يكره، فقد يأمر بما يكره، وينهى عما يحب. (المواقف ٨: ١٧٦) وقال الشيعة: إن أمر اللّه بالشيء يدل على إرادته له، وإن نهيه عنه يدل على كرهه له، ومحال أن يأمر بما يكره، وينهى عما يحب.

عقاب الطائع وثواب العاصي : قال السنة: إن العقل يجيز على اللّه أن يعاقب الطائع، ويثيب

٣٨٤

العاصي، لأن المطيع لا يستحق ثواباً بطاعته، والعاصي لا يستحق عقاباً بمعصيته، وأيضاً يجيز العقل على اللّه أن يخلف وعده. (المواقف ٨: المقصد الخامس والسادس من المرصد الثاني في المعاد)، والمذاهب الإسلامية لأبي زهرة، فصل بعنوان «منهاجه وآراؤه» رقم ١٠٤. وقال الشيعة: إن العقل لا يجيز على الله أن يعاقب المطيع، ويجيز عليه أن يتفضّل على العاصي، تماماً كما لك أن تتفضّل على من أساء إليك، ولا يجوز أن تسيء إلى من أحسن.

الجبر والاختيار : قال السنة: أفعال العباد كلها خيرها وشرها، من اللّه، وليس لقدرتهم تأثير فيها، وإن التكليف بما لا يطاق جائز على اللّه، لأنه خالق كل شيء، ولا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء. (المواقف ٨: المقصد الأول والثاني، والسابع من المرصد السادس في أفعاله تعالى).

وقال الشيعة: إن الإنسان مخير لا مسير وإن اللّه لا يكلف نفساً إلا وسعها، وإن أفعال العباد خيرها من اللّه، لأنه أرادها وأمر بها ومن العبد أيضاً لأنها صدرت منه باختياره وإرادته.

أما شرها فمن العبد فقط، لأنه فاعلها بمشيئته، وليست من اللّه لأنه نهي عنها.

الحسن والقبح : قال السنة: إن العقل لا يدرك حسناً ولا قبحاً، وإنما الحسن ما أمر به الشرع، والقبيح ما نهى عنه. ولو أمر بما نهى عنه، لصار حسناً بعد أن كان قبيحاً أو نهى عما أمر به لصار قبيحاً بعد أن كان حسناً. ويقولون هذا حسن لأن اللّه أمر به، وهذا قبيح لأن اللّه نهى عنه (المواقف ٨: المقصد الخامس في الحسن والقبح من المرصد السادس في أفعاله تعالى).

قال الشيعة: العقل يدرك الحسن والقبح مستقلاً عن الشرع ويقولون إن اللّه أمر بهذا لأنه حسن، ونهى عن ذلك لأنه قبيح.

الأسباب والمسببات : قال السنة: إن المسببات لا تجري على أسبابها، وإن جميع الممكنات مستندة إليه تعالى بلا واسطة ولا علاقة بين الحوادث المتعاقبة إلا بإجراء العادة بخلق بعضها عقب بعض، كالإحراق عقب مماسة النار والري بعد شرب الماء فكل من الإحراق والري يستند إلى اللّه مباشرة، ولا مدخل إطلاقاً للمماسة والشرب. (المواقف ٨: ١٤٨و٢٠٣ - ٢٠٤).

وقال الشيعة إن جميع المسببات ترتبط بأسبابها، فالماء هو الذي يروي والنار هي التي تحرق.

وقال السنة: لا يجب على اللّه أن يبعث أنبياء يبينون للناس موارد الخير والشر، ويجوز أن يتركهم بلا هادٍ ولا مرشد، لأنه لا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء.

وقال الشيعة: بل تجب بعثة الأنبياء من باب اللطف الذي يقرب الناس من الطاعة ويبتعد بهم عن المعصية.

٣٨٥

عصمة الأنبياء قال السنة: تجوز الذنوب على الأنبياء الكبائر منها والصغائر قبل البعثة، أما بعد البعثة، فتجوز الصغائر عمداً وسهواً والكبائر سهواً، لا عمداً.

وقال الشيعة: الأنبياء معصومون من الذنوب كبيرها وصغيرها، قبل البعثة وبعد البعثة ولا يصدر عنهم ما يشين لا عمداً ولا سهواً كما أنهم منزهون عن دناءة الآباء، وعهر الأمهات وأن اللّه سبحانه نقلهم من أصلاب طاهرة إلى أرحام مطهرة منذ آدم إلى حين ولادتهم.

الصحابة : قال أكثر السنة: إن أصحاب رسول اللّه جميعهم عدول لا تطلب تزكيتهم (كتاب مسلم: الثبوت وشرحه، وكتاب «أصول الفقه» للخضري).

وقال الشيعة: إن الصحابة كغيرهم، فيهم الطيب، والخبيث، والعادل، والفاسق، واستدلوا بالآية ١٠٢ من سورة التوبة «من أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين».

وقالوا: بل أنزل اللّه على نبيه سورة خاصة بالمنافقين افتتحها بقوله: «إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول اللّه، واللّه يعلم إنك لرسوله، واللّه يشهد إن المنافقين لكاذبون».

الاجتهاد : للاجتهاد معنيان: الأول أن يستخرج الفقيه الحكم الشرعي فما يرتئيه هو ويستحسنه، دون أن يعتمد على آية قرآنية، أو سنة نبوية، أو إجماع قائم، أو مبدأ ثبت بحكم العقل والبديهة، وتسالم على صحته جميع العقلاء. وهذا النوع من الاجتهاد يعبر عنه بالرأي، وهو جائز عند السنة.

أما عند الشيعة فمحرم، ويستدلون على تحريمه بأنه يعتمد على مجرد الظن والترجيحات الشخصية.

المعنى الثاني : ان يجتهد الفقيه في سند الحديث من حيث الصحة والضعف، وفي تفسير النص كتاباً وسنّة، وفي استخراج الحكم من أقوال المجمعين، ومبدأ العقل الثابت بالبديهة كمبدأ قبح العقاب بلا بيان، ومبدأ المشروط عدم عند عدم شرطه، وما إلى ذلك من أحكام العقل التي لاتقبل الشك، ولا يختلف فيها اثنان.. وقد أجاز الشيعة هذا الاجتهاد لكل فقيه يجمع الشروط المقررة للمجتهد، ولم يقيدوا اجتهاده بقول إمام من أئمة السلف أو الخلف.

وحرم السنة هذا النوع من الاجتهاد واقفلوا بابه منذ القرن الرابع الهجري، وحجروا على الفقيه أن يصحح أو يضعف حديثاً من أحاديث الآحاد أو يعمل بما يفهمه من النص، أو يستخرج حكماً من مبادئ العقل. إلا إذا وافق رأيه قول إمام من أئمة السلف.

٣٨٦

التعصيب : قال السنة: إذا كان للميت بنت وأخ، وليس له ابن ولا أب فتركته مناصفة بين الأخ والبنت، وإذا كان له بنتان فأكثر فلأخيه الثلث، والباقي للبنتين أو البنات.. وهذي إحدى مسائل التعصيب الذي عقد الفقهاء له فصلاً خاصاً في باب الميراث.

وقال الشيعة: التعصيب باطل من الأساس بشتى فروعه ومسائله، وإن التركة بكاملها للبنت أو البنات، وليس للأخ شيء لأن الولد ذكراً كان أو أنثى يأتي في الدرجة الأولى نسباً والأخ في الدرجة الثانية، والعم في الدرجة الثالثة.

العول : القاعدة في الإرث أن فرض الزوجة من ميراث زوجها الثُّمن إن كان له ولد ذكراً كان أو أنثى، وللأبوين معاً الثلث وللبنتين الثلثان إذا لم يكن للميت ابن فإذا افترض أن كان للميت زوجة وأبوان وبنتان، ولا ابن له اجتمع على تركته من له الثمن، ومن له الثلث، ومن له الثلثان وبديهة أن التركة لا تتسع للثلث والثلثين والثمن، فإذا أخذ الأبوان الثلث، والبنتان الثلثين، لم يبق للزوجة شيء. وإذا أخذت الزوجة الثمن، دخل النقص على الأبوين أو البنتين، فماذا نصنع. وهذي إحدى مسائل العول الذي أطال الفقهاء الكلام عنه في باب الميراث، ومعنى العول هنا زيادة السهام على التركة. قال السنة: يدخل النقص على كل واحد بقدر سهمه، تماماً كأرباب الديون إذا ضاق مال المديون عن دينهم.

وقال الشيعة: يدخل النقص على البنتين فقط.

المتعة : من معاني المتعة الزواج إلى أجل، وقد اتفق المسلمون قولاً واحداً السنة منهم والشيعة على أن الإسلام شرعها، ورسول اللّه أباحها، واستدلوا بالآية ٣٤ من سورة النساء «فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة».

وجاء في «صحيح البخاري» (٧: كتاب النكاح): إن رسول اللّه قال لأصحابه في بعض حروبه: «قد أذن لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا. إيما رجل

أو امرأة توافقا فعشرة ما بينهما ثلاث ليالٍ، فإن أحبّا أن يتزايدا أو يتتاركا تركا».

وفي «صحيح مسلم» (٢: باب نكاح المتعة ص ٦٢٣ - طبعة ١٣٤٨ هجري) عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري أنه قال: «استمتعنا على عهد رسول اللّه، وأبي بَكر، وعمر» وفي الصفحة نفسها حديث عن جابر، قال فيه: «ثم نهانا عنه عمر».

وبعد أن اتفق المسلمون على شرعيتها وإباحتها في عهد رسول اللّه، اختلفوا في نسخها: وهل صارت حراماً بعد أن أحلها اللّه؟.

٣٨٧

ذهب السنة إلى أنها نسخت، وحرمت بعد الإذن بها قال ابن حجر العسقلاني في كتاب «فتح الباري بشرح صحيح البخاري» (١١: ٧٠ طبعة ١٩٥٩) «وردت عدة أحاديث صحيحة وصريحة بالنهي عن المتعة بعد الإذن بها» وجاء في الجزء السادس من كتاب «المغني» لابن قدامة ص ٦٤٥، طبعة ثالثة، ما نصه بالحرف: قال الشافعي: «لا أعلم شيئاً أحله اللّه، ثم حرمه، ثم أحله ثم حرمه، إلا المتعة».

وقال الشيعة: أجمع المسلمون على إباحة المتعة، واختلفوا فينسخها. وما ثبت باليقين لا يزول بمجرد الشك والظن. وأيضاً استدلوا على عدم النسخ بأن الإمام الصادق سئل: «هل نسخ آية المتعة شيء قال: لا ولولا ما نهى عنها عمر، ما زنى إلا شقي» وأن كثيراً من الناس يحسبون المتعة ضرباً من الزنا والفجور، جهلاً بحقيقتها، ويعتقدون أن ابن المتعة، عند الشيعة، لا نصيب له من ميراث أبيه، وأن المتمتع بها لا عدة لها وأنها تستطيع أن تنتقل من رجل إلى رجل إن شاءت. ومن أجل هذا استقبحوا المتعة، واستنكروها وشنعوا على من أباحها.

والواقع أن المتعة عند الشيعة الاثني عشرية كالزواج الدائم، لا تتمُ إلا بالعقد الدال على قصد الزواج صراحة، وأن المتمتع بها يجب أن تكون خالية من جميع الموانع، وأن ولدها كالولد من الدائمة في وجوب التوارث، والإنفاق وسائر الحقوق المادية والأدبية وأن عليها أن تعتد بعد انتهاء الأجل مع الدخول بها، وإذا

مات زوجها وهي في عصمته، اعتدت كالدائمة من غير تفاوت إلى غير ذلك من الآثار والأحكام.

وقال الشيعة: تجب الصلاة على النبي وآله في الصلاة ومن لا يصلي عليه وعليهم فيها فلا صلاة له، واستدلوا بالآية ٥٦ من سورة الأحزاب: «إن اللّه وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً» معطوفاً عليها الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه ج ٨، كتاب الدعوات، باب الصلاة على النبي وهذا نصه بالحرف: «كيف نصلي عليك - يا رسول اللّه - فقال: قولوا: «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد».

وقال السنة: لا تجب الصلاة على آل محمد في الصلاة وبالأولى في غيرها. أما الصلاة على محمد دون آله فهي فرض عند الشافعية والحنابلة، وتبطل الصلاة بتركها، وهي سنة راجحة عند الحنفية والمالكية، وتصح الصلاة بتركها. ج ١ ميزان الشعراني، باب صفة الصلاة. و ج ١ المغني لابن قدامى، مسألة التشهد.

٣٨٨

تاريخهم السياسي

إن الارتباط وثيق جداً بين تاريخهم السياسي، وبين ملوك بني بويه، والأمراء الحمدانيين، وملوك إيران من عهد الصفويين إلى اليوم، وذكرنا ما يتصل بذلك في كتاب «الشيعة والتشيع» أما الفاطميون فقد كانوا من الإسماعيلية لا من الاثني عشرية.

ولا بد للمؤرخ لهذه الفرقة أن يدخل في حسابه الإمارات المستقلة - غير أمراء الأقطاع - كإمارة بني عمار الذين حكموا طرابلس الشام من أواسط القرن الخامس الهجري إلى سنة ٥٠٢ حين أخذها منهم الصليبيون.

وأيضاً عليه أن ينظر إلى من تولى الوزارة من هذه الفرقة لدول غير شيعية، كالعلقمي وزير المستعصم العباسي، وابن الفرات وزير المقتدر.

وأيضاً ينبغي أن يقف طويلاً عند الحوادث والحركات الثورية التي قام بها الشيعة الاثنا عشرية، للانتفاض على السلطة الحاكمة طلباً للحرية والعدالة،

كثورة العراقيين ضد الإنكليز سنة ١٩٢٠ م وموقف علمائهم من حكام الجور.

تاريخهم الثقافي

أما آثارهم الثقافية فيستطيع الباحث أن يعرفها بالحس واليقين، لا بالحدس والتخمين، فهذه المكتبة الإسلامية العربية منها، وغير العربية تغص في مؤلفاتهم من كل فن، وقد ذكرنا طرفاً منها في كلمتنا عن آل البيت، أما منهجهم في البحث والتأليف فهو الاجتهاد ومنطق العقل، قال الدكتور توفيق الطويل المصري في كتاب «أسس الفلسفة» ص ٣٩٠ طبعة ١٩٥٥: ورأي كارادي فو «أن التشيع رد فعل لفكر حر طليق كان يقاوم جموداً عقلياً بدا في مذهب أهل السنة» وفي ص ٣٩١: «كان للشيعة فضل ملحوظ في إغناء المضمون الروحي للإسلام، فبمثل حركاتهم الجامعة تأمن الأديان التحجر في قوالب جامدة».

وقال الشيخ مصطفى عبد الرازق شيخ الأزهر في كتاب تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية ص ٢٠٢ طبعة ١٩٥٩: «إن النزوع إلى تدوين الفقه كان أسرع إلى الشيعة من سائر المسلمين» وقدمنا أن الذهن يتجه عند سماع لفظة الشيعة إلى الاثني عشرية.

وقال الأديب أحمد أمين المصري في كتاب «يوم الإسلام» ص ٨٩ طبعة ١٩٥٨: «وكان الطوسي - أي الخواجا نصير - أسبق من أينشتين في فهم الزمنية».

وفي مجلة المجلة المصرية عدد تشرين الثاني سنة ١٩٦٤ مقال بعنوان «نظرة جديدة في الفلسفة الإسلامية» جاء فيه «صدر في هذه السنة الجزء الأول من تاريخ الفلسفة الإسلامية تأليف

٣٨٩

«هنري كوربان» الأستاذ بالمدرسة العلمية للدراسات العليا في كلية الآداب بالسوربون، وقد أعطى المؤلف الشيعة نصيب الأسد في تطور الفلسفة الإسلامية، والكثير من آرائها واتجاهاتها. وكذلك أعطى أهمية كبرى لميرداماد، وملا محسن الفيض، وعبد الرزاق هيجي، وقاضي سعيد القمي، وصدر الدين الشيرازي، وسيد حيدر آملي، والجلال الرواني، وابن كمونه، ومحمود شبسري».

بلدانهم وعددهم

إن إحصاء البلدان والنفوس من الموضوعات العلمية التي تعتمد على الاستقراء والمشاهدات، ولا نعرف أحداً أحصى بلدان هذه الفرقة وعددهم على هذا الأساس لنعتمد عليه، وننقل عنه ولكن الذي لا شك فيه أنهم من الفرق الكبرى في الإسلام، ويأتون بعد السنة من حيث العدد بلا فصل، وأن العراق وإيران والبحرين والأحساء والقطيف أكثرهم منهم.

وهم في لبنان من الطوائف الأولى، ويشعرون فيه بحريتهم وكرامتهم، لأن لبنان من حيث هو بلد الحرية والكرامة، ولهم في هذا البلد تاريخ مجيد، ويعيش العدد الكبير من الاثني عشرية في أكثر البلاد الإسلامية كسورية والحجاز، واليمن، وقطر، ومسقط، وعمان، والكويت ومنهم نواب في المجلس بتركيا، ومنهم الآن نائبان ويذهب إليهم بين الحين والحين بعض علماء النجف وإيران للهداية والإرشاد.

ولا يخلو مكان منهم في أفغانستان، وبعثات الأفغانيين الدينية إلى النجف الأشرف مستمرة منذ القديم. وقال لي أديب أندنوسي اثنا عشري، وعالم من علماء النجف أقام أمداً غير قصير في أندنوسيا، قالا: إن عدد الاثني عشرية هناك يبلغ نحواً من خمسة ملايين.

ويوجد منهم عدد غير قليل في البانيا، أما الصين فقال الشيخ المظفر في تاريخ الشيعة: إن فيها ١١ مليوناً، وفي روسيا ١٠ ملايين، وقال صاحب أعيان الشيعة: إنهم في الهند ٣٠ مليونا. وفي الجزء الأول من دائرة المعارف الإسلامية الشيعية التي يصدرها الأستاذ الكبير السيد حسن الأمين باللغة الإنكليزية - إن عدد الشيعة اليوم يبلغ حوالي مائة وخمسين مليوناً يقيمون في شرق الأرض وغربها.

وقال الشيخ محمد أبو زهرة المصري في آخر كتاب الإمام جعفر الصادق: لقد نما المذهب الجعفري، وانتشر لأسباب:

١ - إن باب الإجتهاد مفتوح عند أهله(١) .

____________________

(١) تكلمنا مفصلاً عن الاجتهاد في المجلد السابع من دائرة المعارف، وآخر الجزء السادس من فقه الإمام الصادق.

٣٩٠

٢- إن المذهب الجعفري قد انتشر في أقاليم مختلفة الألوان من الصين إلى بحر الظلمات، حيث أوروبا و ما حولها، وتفريق الأقاليم التي تتباين عاداتهم وتفكيرهم وبيئاتهم الطبيعية والاقتصادية والاجتّماعية والنفسية. إن هذا يجعل المذهب كالنهر الجاري في الأرضين المختلفة الألوان يحمل في سيره ألوانها وأشكالها من غير أن تتغير في الجملة عذوبته.

٣ - كثرة علماء المذهب الذين يتصدون للبحث والدراسة وعلاج المشاكل المختلفة، وقد آتى اللّه ذلك المذهب من هؤلاء العلماء عدداً وفيراً عكفوا على دراسته، وعلاج المشاكل على مقتضاه.

آل البَيْت

تعريف:

أهل البيت في اللغة سكانه، وآل الرجل أهله، ولا يُستعمل لفظ «آل» إلا في أهل رجل له مكانة.

وقد جاء ذكر أهل البيت في آيتين من القرآن، الأولى الآية ٧٣ من سورة «هود»: «رحمة اللّه وبركاته عليكم أهل البيت»، والثانية الآية ٣٣ من سورة «الأحزاب»: «إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت، ويطهّركم تطهيراً». واتفق المفسرون أن المراد بالآية الأولى أهل بيت إبراهيم الخليل، وبالآية الثانية أهل بيت محمد بن عبد اللّه، وتبعاً للقرآن استعمل المسلمون لفظ أهل البيت وآل البيت في أهل بيت محمد خاصة، واشتهر هذا الاستعمال حتى صار اللفظ علماً لهم، بحيث لا يفهم منه غيرهم إلا بالقرينة، كما اشتهر لفظ المدينة بيثرب مدينة الرسول.

اختلف المسلمون في عدد أزواج النبي، فمن قائل: أنهن ثماني عشرة امرأة، ومنهم من قال: إنهن إحدى عشرة، وعلى أي الأحوال فقد أقام مع النساء سبعاً وثلاثين سنة، رُزق خلالها بنين وبنات ماتوا كلهم في حياته، ولم يبق منهم سوى ابنته فاطمة. وقد اتفقت كلمة المسلمين على أن علي بن أبي طالب، وفاطمة، والحسن، والحسين من آل البيت في الصميم، وأن شجرة النسب النبوي تنحصر فروعها في أبناء فاطمة، لأن النبي لم يُعقب إلا من وُلدها.

منزلة آل البيت عند المسلمين

إذا أردنا أن نعرف منزلة آل البيت عند المسلمين، والباعث على تكوين الفرق الإسلامية، وإيمانها بآل البيت فعلينا أن نلاحظ منزلة محمد عند المسلمين، وسيرته مع آل بيته، وأن نلاحظ، مع ذلك، أخلاق آل البيت أنفسهم، وما أصابهم من المحن في سبيل تمسكهم بما يرونه الحق

٣٩١

والعدل. وكل ما يرونه حقاً فهو الحق.

إن حقيقة الإسلام هي الشهادة للّه بالوحدانية ولمحمد بالرسالة: «لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه». فمن أقرّ للّه بالوحدانية، وجحد رسالة محمد، أو نسب صفات الخالق إلى غير اللّه، أو صفات النبوّة إلى غير محمد ممن كان في عصره، أو جحد آية من القرآن، أو سنّة ثابتة بالضرورة من سنن النبي، فلا يصحّ عده من المسلمين، لأنه لا يحمل الطابع الأساسي للإسلام. فالمسلم إذن من آمن باللّه، وبمحمد، وقرن طاعته بطاعته، وبهذا نطقت الآية ٦ من سورة «الأحزاب»: «أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول»، والآية ٦٢ من سورة «التوبة»: «واللّه ورسوله أحقّ أن ترضوه» والآية ٦٥ من سورة «النساء»: «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم». والآية ٢ من سورة «النجم»: «وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى» وما إلى ذلك من عشرات الآيات.

سيرة النبي مع آل بيته:

نقل أصحاب السير والمناقب من السنّة والشيعة صوراً كثيرة لعطف النبي على آل بيته وحبّه لهم، نكتفي بالإشارة إلى بعضها:

كان النبي إذا سافر، فآخر بيت يخرج منه بيت فاطمة وإذا رجع من سفره فأول بيت يدخله بيتها. يجلس ويضع الحسن على فخذه الأيمن، والحسين على فخذه الأيسر، يقبّل هذا مرة وذاك أخرى، ويجلس علياً وفاطمة بين يديه. وجاء في الحديث أنه دخل مرة بيت فاطمة ودعاها ودعا علياً، والحسن، والحسين، ولفّ عليه وعليهم كساء وتلا الآية: «إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت، ويطهّركم تطهيراً». والمسلمون يسمّون هذا الحديث بحديث الكساء، ويطلقون لفظ «أصحاب الكساء» على محمد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين. وقال لهم مرة: «أنا سلم لمن سالمكم، وحرب لمن حاربكم». وما إلى ذلك من الأحاديث المشهورة عند جميع الفرق الإسلامية. وقد أوصى النبي أمته بآل بيته، وواصاهم بالقرآن، ففي الحديث: «إني تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب اللّه، فيه الهدى والنور.. ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم اللّه في أهل بيتي، أذكركم اللّه في أهل بيتي». وفي الآية ٢٢ من سورة «الشورى»: «قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في القربى». والمراد بالقربى قرابة النبي. ولذا أولاهم المسلمون على اختلاف فرقهم قسطاً كبيراً من الرعاية والتبجيل، وكان لهم عند أبي بكر من التعظيم والإكبار ما لم يكن لأحد غيرهم. وكان عمر بن الخطاب يؤثرهم على جميع المسلمين، فرض لأبناء البدريين من العطاء ألفين ألفين في

٣٩٢

السنة إلا حسناً وحسيناً فرض لكل واحد منهما خمسة آلاف. وقد ملأ أصحاب التاريخ والتراجم كتبهم بفضائل أهل البيت ومناقبهم. فأهل السنّة يقدّسون علياً والأئمة من ذرّيته، ولكنهم لا يعترفون بأنهم أحقّ وأولى بالخلافة من غيرهم، كما تعتقد الشيعة.

أخلاق أهل البيت:

كان عليّ صلباً في الحق لا تأخذه فيه لومة لائم. ولم يكن الحقّ في مفهومه ما كان امتداداً لذاته وسلطانه. فقد تساهل في حقوقه الخاصة حتى استغلّ أعداؤه هذا التساهل. عفا عن مروان بن الحكم بعد أن ظفر به في وقعة الجمل، وعن عمرو بن العاص حين تمكن منه يوم صفين، وسقى أهل الشام من الماء، بعد أن منعوه منه، حتى كاد يهلك جنده عطشاً. وإنما كان الحق في مفهومه أن لا يستأثر إنسان على إنسان بشيء كائناً من كان. جاءته امرأتان ذات يوم تشكوان فقرهما، فأعطاهما. ولكنّ إحداهما سألته أن يفضلها على صاحبتها، لأنها عربية، وصاحبتها من الموالي. فأخذ قبضة من تراب، ونظر فيه، وقال: لا أعلم أن اللّه فضَّل أحداً من الناس على أحد إلا بالطاعة والتقوى. وطلب أخوه عقيل، وهو ابن أمه وأبيه، شيئاً من بيت المال، فمنعه. وأرادت ابنته أم كلثوم أن تتزيّن يوم العيد بعقد من بيت المال، على أن تردّه عاريةً مضمونة، حين كان أبوها خليفة، فغضب. وطلب طلحة والزبير الوظيفة على أن يناصراه، والا

عارضا وأثارا عليه حرباً شعواء، فأبى، ولما أشير عليه أن يخادعهما ويخادع معاوية حتى يستقيم له الأمر، فقال: لا أداهن في ديني، ولا اعطي الدنية في أمري. وأبى أن ينزل القصر الأبيض بالكوفة إيثاراً للخصاص التي يسكنها الفقراء. وكان يلبس المرقّع حتى استحيا من راقعه، كما قال، وكان راقعه ولده الحسن. ويأكل الخبز الشعير تطحنه امرأته بيدها مواساة للكادحين والمعوزين. وأثنى عليه رجل من أصحابه، فأجابه بقوله: إن من اسخف حالات الولاة عند صالح الناس أن يظنّ بهم حبّ الفخر، ويوضع أمرهم على الكبر، وقد كرهت أن يكون جال في ظنكم أني أحبّ الإطراء واستماع الثناء.. فلا تكلموني بما تُكلم به الجبابرة.

وكان منكراً لذاته متوجهاً بكل تفكيره إلى خير الجماعة، لا يبالي بغضب الخاصة إذا رضيت العامة، ويقول: إن سخط الخاصة يُغتفر مع رضى العامّة. لذا افتتنت به الجماهير في عصره وبعد عصره، وبوّأته أعلى مكان، لأنه العنوان الكامل لآمالها وأمانيها. ومنهم من رفعه إلى مكان الآلهة، كما فعل الغلاة، وبحقّ قال له النبيّ: يا علي إن اللّه قد زيّنك بأحبّ زينة لديه، وهب لك حبّ المساكين، فجعلك ترضى بهم أتباعاً، ويرضون بك إماماً.

٣٩٣

لقد بالغ عليّ في تمسّكه بالحقّ، وحاسب عليه نفسه وعمَّاله، حتى أغضب الكثير منهم، وبعضهم تركه وهرب إلى عدوّه معاوية، وأصبح عوناً له بعد أن كان حرباً عليه.

آمن علي باللّه وبالإنسان. وقد ورث عنه الأئمة من ولده هذا الإيمان وساروا بسيرته، وتخلّقوا بأخلاقه، فكل واحد منهم وافر العلم، محبّ للخير والسلم، عزوف عن الشرّ والحرب، صارم في الحق. وإنما ظهر بعض هذه الصفات في شخص أحدهم أكثر من الآخرين تبعاً للظروف ومقتضيات الأحوال. ظهر في الحسن بن علي حبه للسلم وكرهه للحرب، لأن عصره كان عصر الفتن والقلاقل، بايعه أهل العراق بعد وفاة أبيه بالخلافة، وكان جيشه يتألف من أربعين ألفاً. ولما رأى أن معاوية مصرّ على الحرب، تنازل له عن الخلافة مؤثراً حقن الدماء وصالح الإسلام على كل شيء. وظهرت صلابة الحسين في الحق، وضحَّى

بنفسه وأهله وأصحابه، لأن يزيد بن معاوية لم يترك مجالاً للمهادنة. وظهرت آثار علوم الإمام محمد الباقر وولده الإمام جعفر الصادق، لأن العلم في عصرهما كثر طلابه والراغبون فيه، وقد أفسح لهما المجال للتدريس وبثّ العلوم.

محن آل البيت:

تحدّث أصحاب التاريخ والسير عن محن آل البيت وأطالوا الحديث، ووضع الشيعة فيها كتباً مستقلّة سموا الكثير منها بأسماء تدل عليها، كاسم مثير الأحزان، ونفس المهموم، والدمعة الساكبة، ولواعج الأشجان، ورياض المصائب، واللهوف، ومقاتل الطالبيين، وما إلى ذلك. وتكاد تتفق كلمة الباحثين القدامى والمتأخرين على أن الأمويين إنما نكلوا بآل البيت أخذاً بثارات بدر واُحد، لأن محمداً وعلياً قتلا في هاتين الحربين شيوخ الأمويين وساداتهم. ويستشهدون على ذلك بما تمثل به يزيد بن معاوية، عندما قتل الحسين، ووضع رأسه بين يديه:

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسلْ

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً،

ثم قالوا: يا يزيد، لا تشلْ

وليس ببعيد أن يتذكر يزيد الحفائظ والحروب القديمة بين محمد، جدّ الحسين، وجدّه أبي سفيان، وبين علي أبي الحسين وأبيه معاوية، وأن ينطق بكلمة التشفّي والحقد. ولكن الباعث الأول على الفجيعة هو نظام الجور، وعهد الأب للابن بالخلافة، وجعلها حقاً موروثاً. والبحث في محن آل البيت واسع المجال متشعّب الأطراف.

٣٩٤

فقد ظهرت آثار هذه المحن في العقيدة، والسياسة، والأدب، والتقاليد، وما زالت تفعل فعلها إلى اليوم. ولم يتح لمحن آل البيت، فيما أعلم، من درسها درساً موضوعيّاً، ولا يمكن شرحها وبيان أسبابها ونتائجها في مقامنا هذا. وعلى أي الأحوال، فإن محن آل البيت ومحن الناس جميعاً ابتدأت منذ تغيّر نظام الحكم عند المسلمين.

كان الحكم في عهد الرسول الأعظم يقوم على مبدأ أن كل شيء للّه، فالمال مال اللّه، والجند جند اللّه، ومعنى هذا أن الناس جميعاً متساوون في الحقوق، لأن اللّه للجميع وبعده بأمد قصير تغير هذا النظام، وأصبح كل شيء للحاكم.

فالمال مال الحاكم، والجند جند الحاكم، والناس كلهم عبيد الحاكم. قال معاوية بن أبي سفيان: «الأرض للّه، وأنا خليفة اللّه. فما أخذت فلي، وما تركته للناس فبالفضل مني». وعلى هذا المبدأ، وهب مصر لعمرو بن العاص مكافأةً له على جهاده وبلائه ضد الإمام علي. وكان جند يزيد في وقعة الحرة يجبرون الناس على أن يبايعوا يزيداً، على أنهم عبيد قنّ له، وينقشون أكف المبايعين علامة الاسترقاق، ومن أبى عن هذه البيعة ضربت عنقه.

من هذا النظام وحده تولدت محن آل البيتوغير آل البيت، وإن كان نصيبهم منها أكبر وأفظع.

ولا بد من التساؤل: لماذا ذعر الناس لمحن آل البيت وتحدّثوا فيها وأطالوا الحديث أكثر من غيرها؟ ويمكننا الجواب بأن محنهم كانت أقسى المحن جميعاً، وبأنها في نظر المسلمين هي محن الإسلام نفسه. فقد أوصى الرسول وبالغ في الوصاية بأهل بيته، وواساهم بكتاب اللّه، وشّبههم بسفينة نوح، واعتبر التعدي عليهم تعدياً عليه بالذات، وهذا السبب يرجع إلى الدين، ولا شيء يوازي احترام العقيدة الدينية وتقديسها عند المسلمين وبخاصة في ذاك العهد.

وهناك أسباب سياسية لتوالي المحن على آل البيت من الحكام، وإذاعتها بين الجماهير أكثر من غيرها. لما يئس المسلمون من إصلاح الحاكم تمنوا أن يدبر شؤونهم إمام عادل ناصح للّه ورسوله، وفي آل البيت خير من توافرت فيه هذه الصفات، بل كان في المسلمين حزب قوي منتشر في أقطار الأرض يدين بالتشيع لهم، ويرى أن الخلافة حق خصه اللّه بعلي وبنيه. وقد أعلن الشيعة هذا المبدأ في أشعارهم، واتخذوه أساساً لتعاليمهم، وعملوا على بثه في الجهر والخفاء، ولم يتركوا فرصة تمرّ إلا عدّدوا مناقب آل البيت ومثالب من غصبهم هذا الحق. فرأى الحكام في آل البيت وشيعتّهم خطراً كبيراً على سلامة الدولة وأمنها أكثر من غيرهم فخصّوهم بالقسط الأوفر من المحن، ونكّلوا بهم بقسوة تفوق كل قسوة. وقد رأى الناس في هذه المحن مورداً خصباً للتشهير

٣٩٥

بالحاكم وإثارة الجماهير، ولا شيء كالخطوب والمآسي تستدعي عطف الناس، وتثير إشفاقهم ورحمتهم، وكلنا يعرف كيف استغلّ معاوية قميص عثمان لتأليب أهل الشام على عليّ. فالشيعة أذاعوا تلك المحن وبكوا واستبكوا الناس وفاء لأئمتّهم، ولبثّ

الدعوة لهم ونشر مبادئهم. وأذاعها كل ناقم ومعارض للأنظمة السياسية تبريراً لنقمته ومعارضته، ودعماً لأقواله وحجته تظلّم الشعب لآل البيت، وفي الوقت نفسه عّبر بمحنهم عن ثورته على الفساد.

إن محن آل البيت هي محن الشعب، ومحنه محنهم، وقد أعرب عن آلامه بما ألمّ بهم، لإثارة العواطف، لأنّ من أساء إليهم فبالأحرى أن يسيء إلى غيرهم، ولأنهم المجموعة الكريمة الطيبة التي يرى فيها الشعب مثاله الأعلى ويتمنى أن تقوده هي، أو من يماثلها في الصفات والمؤهلات وإلا فإن الثورة على النظام الجائر محتمة لا محالة.

كارثة كربلاء وأثرها في حياة الشيعة

كانت الأسباب الأولى لمحن آل البيت سياسية، وبعد حدوثها تركت أثراً بارزاً في حياة طائفة كبيرة من المسلمين كانت ولا تزال تدين بالولاء لآل البيت. فكارثة كربلاء، وهي أفظع ما حلّ بآل البيت من كوارث، قُتل فيها الحسين بن علي، وسبعة عشر شاباً وطفلاً من أهله، وأكثر من سبعين رجلاً من أصحابه، فيهم الصحابي والتابعي، هذه الحادثة جعلت كربلاء مزاراً مقدساً عند الشيعة يفد إليها في كل سنة مئات الألوف للزيارة من أنحاء البلاد، وفي كثير من الأحيان يوصي الشيعة في الهند، وإيران واطراف العراق أن ينقل رفاته من بلده ليدفن في كربلاء، رغبةً في ثواب اللّه وجزائه. وتحيي الشيعة، في كل سنة، وفي كل مدينة وقرية من بلادهم، ذكرى مقتل الحسين في الثلث الأول من شهر محرّم. وفي بعض أيام السنة، يجتمعون للاحتفال بهذه الذكرى فيروي الخطيب بعض أخبار كربلاء ومأساتها، ويعدّد المناقب والسوابق لشهدائها، وينوح عليهم شعراً ونثراً، ويسمّون هذه المحافل بمجالس التعزية، وقد وضعوا لها كتباً خاصة.

وما زال شعراء الشيعة، منذ قتل الحسين إلى اليوم، ينظمون القصائد الطوال يصوّرون فيها الحوادث الدامية التي جرت في كربلاء، وهي من عيون الشعر العربي في الرثاء. وقد طبع السيد محسن الأمين قسماً كبيراً من هذه المراثي أسماه «الذر النضيد في مراثي السبط الشهيد».

ونذكر أبياتاً من قصيدة لشاعر شيعي تصوّر لنا الغاية التي يهدف إليها الشيعة من زيارة كربلاء، ويوم عاشوراء:

شممتُ ثراك، فهبّ النسيم

نسيم الكرامة من بلقع

٣٩٦

وعفرتُ خدي بحيث استرا

خ خدّ تفرّى ولم يخضع

وماذا؟ أأروع من أن يكون

لحمك وقفاً على المبضع

وأن تتقي، دون ما ترتأي

ضميرك بالأسل الشرَّع

وأن تطعم الموت خير البنين

من الأكهلين إلى الرُّضَّع!

ومن هنا نعرف أن الشيعة إنما يقدسون أرض كربلاء، ويحيون يوم عاشوراء، لأنها في نظرهم، رمز الجهاد المقدس في سبيل الحرية والكرامة، وعنوان التضحية ضد الظلم والطغيان. فاحياؤها كذلك ثورة على الظلم والطغيان.

ماذا تعني كلمة الحسين عند الشيعة

كتبت ما تقدم عن كارثة كربلاء وأثرها في حياة الشيعة سنة ١٣٧٥ هجري. وفي شهر رمضان المبارك سنة ١٣٨٧ كنت في البحرين، كان عليّ أن أصعد المنبر في كل ليلة بمأتم آل العريض الكرام بعد أن أزمع على موضوع يتقبله المثقف العصري وغيره على السواء، وكنت أحرص على بلوغ هذا الهدف كل الحرص. أما الحكم بأني أدركت ما أردت وأملت فأدعه إلى أهل البحرين.

وفي إحدى الليالي صعدت المنبر، وقبل أن ابتدئ بالكلام سمعت صوتاً يقول: سلام اللّه عليك يا حسين، ولعن اللّه من قتلك، وكان الموضوع الذي أزمعت الحديث عنه لا يتصل بالحسين ولا بيزيد من قريب أو بعيد، وإذا بي أنسى موضوع المحاضرة، وأشرع بتفسير كلمة الحسين عند إطلاقها دون قيد، وكلمة يزيد وماذا تعنيان عند الشيعة، وقلت فيما قلت:

إن التطور لم يقف عند حدود المادة، بل تعداها إلى الأفكار واللغة، لأنها جميعاً متلازمة متشابكة، لا ينفك بعضها عن بعض. وكلمة الحسين كانت في البداية اسماً لذات الحسين بن علي (ع) ثم تطورت مع الزمن، وأصبحت عند شيعته وشيعة أبيه رمزاً للبطولة والجهاد من أجل تحرر الإنسانية من الظلم والاضطهاد، وعنواناً للفداء والتضحية بالرجال والنساء والأطفال لإحياء دين محمد بن عبد اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله

ولا شيء أصدق في الدلالة على هذه الحقيقة من قول الحسين (ع)، وهو في طريقه إلى الاستشهاد: «أمضي على دين النبي».

أما كلمة يزيد فقد كانت من قبل اسماً لابن معاوية، أما هي الآن عند الشيعة فإنها رمز للفساد والاستبداد، والتهتك والخلاعة، وعنوان للزندقة والإلحاد، فحيث يكون الشر والفساد فثم اسم يزيد، وحيثما يكون الخير والحق والعدل فثم اسم الحسين.

٣٩٧

فكربلاء اليوم عند الشيعة هي فلسطين المحتلة، وسيناء، والضفة الغربية من الأردن، والمرتفعات السورية، أما أطفال الحسين وسبايا الحسين فهم النساء والأطفال المشردون المطرودون من ديارهم،. وشهداء كربلاء هم الذين قتلوا دفاعاً عن الحق والوطن في ٥ حزيران. وهذا ما عناه الشاعر الشيعي بقوله:

كأن كل مكان كربلاء لدى

عيني وكل زمان يوم عاشورا

وما أن نزلت عن المنبر، حتى استقبلني شاب مرحباً وقال: هذي هي الحقيقة وهكذا يجب أن يفهم الإسلام وتاريخ الإسلام، بخاصة كارثة كربلاء. ثم وجه إليّ سؤالاً وافقني على جوابه، ولم أكن أعرفه من قبل، ولما عرفوني به علمت أنه من سنة البحرين، وأنه يشغل منصباً كبيراً في الحكومة.

علم الإمام علي بن أبي طالب

كان مظهر الحياة الفكرية عند العرب قبل الإسلام اللغة، والشعر، والأمثال، والقصص، ومعرفة الأنساب. وبعد الإسلام والقرآن تطورت الحياة الفكرية والمادية، وتعددت العلوم، وأصبح كل ما أشار إليه القرآن من قريب أو بعيد علماً مستقلاً، ولم يتعرض الإسلام للعقائد والأخلاق والعبادات فحسب، بل تعرض أيضاً للتشريع، والقضاء، والكون وعلاقة الناس بعضهم ببعض.

وكان من نتيجة تعرّض الإسلام للحياة الدنيوية أن آمن المسلمون بمبدأ عام، وهو أن الدين مبدأ التشريع، وحدا بهم هذا الإيمان أن يتخذوا من الدين أساساً لحياتهم الفكرية بشتى فروعها وشعبّها، وأن يبحثوا عن إرادة اللّه وقصد الرسول في كل مسألة تعرض لهم، سواء أكانت دينية أم دنيوية، لأن الدين إذا كان مصدر الهداية فيجب أن يكون مصدراً من مصادر المعرفة أيضاً. وقد رافقتهم

هذه الظاهرة في جميع أدوارهم، ولن ينسوها بعد أن اتصلوا بالفلسفة اليونانية والأمم المتحضرة. لم تكن الفلسفة معروفة في صدر الإسلام، ولما عرفها المسلمون فيما بعد انحرفوا بها إلى الدين، وأوضح مثال على ذلك علم الكلام والتوحيد، فإنه فلسفي في صورته دينيّ في مادته.

٣٩٨

وليس من غرضنا الآن أن نترجم لكل إمام من أئمة آل البيت ونبيّن منزلته من العلوم، وإنما غرضنا الأول أن نقدّم صورة لعلومهم على وجه العموم، وخير مثال لذلك علم الإمام علي وحفيده جعفر الصادق. فقد ذاع علمهما وانتشر. وظهر أثره في المؤلفات والمدارس الإسلامية أكثر من علم غيرهما من الأئمة. على أنه إذا استطعنا أن نصوّر علم هذين العظيمين أمكننا أن ندرك من خلاله مدى علوم سائر الأئمة، لأن كل إمام كان يأخذ العلم عن أبيه إلى أن تنتهي السلسلة إلى الرسول الأعظم، كما قال الشيخ أبو زهرة في كتاب الإمام الصادق.

كان الإمام علي بن أبي طالب عالماً بأمور الدين والدنيا التي تعرض لها القرآن والسنة. ولم يخف عليه شيء يمتّ إلى الإسلام بسبب قريب أو بعيد، بل رُوي عنه أنه قال: «لو ثنيت لي الوسادة لأفتيت أهل التوراة بتوارتهم، وأهل الإنجيل بإنجيلهم، وأهل القرآن بقرآنهم». وعلمه هذا نتيجة لطول صحبته مع الرسول، فقد ضمّه إليه وهو طفل، وبقي في كنفه بعد النبوة، إلى أن لحق النبي بالرفيق الأعلى. وأسلم حيث لا يوجد على وجه الأرض مسلم إلا محمد وزوجته خديجة. واهتم النبي بتنشئته وتربيته، واتخذه أميناً لسره، واصطفاه لعلمه، وكان كاتبه وشريكه في نسبه وزوج ابنته، وأبا ريحانيته الحسن والحسين، وأخاه حين آخى بين المسلمين، وبديله على فراشه حين همّ المشركون بقتل من يبيت في الفراش. واستخلفه على ما كان عنده من ودائع لما هاجر من مكة إلى المدينة، كما استخلفه على المدينة يوم سار إلى غزوة تبوك، وقال له: أنت مني بمنزلة هارون من موسى. وولاّه القضاء في اليمن، وبلغ عنه سورة «براءة». وشهد مع النبي مشاهده كلها. بل كان علي نفس النبي كما نطقت بذلك الآية ٦١ من سورة آل عمران: «فقل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم، وأنفسنا وأنفسكم،

ثم نبتهل فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين». فقد أجمع المفسرون على أن المراد بأبنائنا الحسن والحسين، وبنسائنا فاطمة، وبأنفسنا النبي وعلي. وقال النبي: «علي مني وأنا من علي.. عليّ مع الحق والحق مع علي.. علي رباني هذه الأمة..

من كنت مولاه فعليّ مولاه»، إلى غير ذلك من الفضائل التي قال عنها طه حسين في كتابه «علي وبنوه»: «إن علياً كان أهلاً لها ولأكثر منها، ويعرفها له خيار المسلمين، ويؤمن بها أهل السنّة كما تؤمن بها شيعته».

هذا، إلى عقل يتسع لكل شيء، وفراسة لا يكاد يخفى عليها شيء، وحكمة هي الحقيقة والواقع الملموس وبلاغة ليس فوقها إلا بلاغة القرآن. إن هذا العلم والعقل وهذه الحكمة والبلاغة قد جعلت من الإمام ترجماناً للتشريع ومرجعاً في جميع العلوم الإسلامية، وقدوة لكل مذهب من

٣٩٩

مذاهب المسلمين. لم يكن للمسلمين علوم مدوّنة في عهد الإمام، ولما صار لهم علوم منظمة، لها أبواب وفصول، ووضعوا الكتب في الفقه، والأصول والتفسير والحديث، وعلم الكلام والتوحيد، والأدب وتاريخه، والبلاغة، وفي المذاهب والفرق، وما إلى ذلك استعان بنور علمه وحكمته كل عالم ومؤلف، واحتج بقوله وبلاغته كل أديب وكاتب. (أنظر كتاب علي والفلسفة للمؤلف).

كان علي عالماً بالأصول والأنظمة التي قررها القرآن والرسول، والتي تحقق للناس الرخاء والهناء فحرص عليها، وأمر عماله بالعمل بها ومن تلك الأصول:

«احترام الجماهير». قال في عهده لمالك الأشتر النخعي لما ولاّه على مصر: «إن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة.. فليكن صفوك لهم، وميلك معهم». وكتب إلى أحد عمّاله على الخراج «لا تبيعنّ للناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف، ولا دابة يعملون عليها ولاعبداً، ولا تضربن أحداً سوطاً بمكان درهم».

«رعاية الموظفين». وقد أوصى الأشتر أن يختار الموظفين الأكفاء، وأن «يسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم. وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا».

«زيادة الإنتاج». وقال للأشتر: «وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ في نظرك من استجلاب الخراج». إلى أن قال: «وإنما يؤتى خراب الأرض

من إعواز أهلها لأشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء».

«كراهية الحرب». قال له أهل العراق عندما استبطأوه عن حرب أهل الشام بادئ الأمر، إن الناس يظنون أنك تكره الحرب كراهية الموت، فقال: «والله لا أبالي أدخلت إلى الموت أو خرج الموت إليّ فواللّه ما دفعت الحرب يوماً، إلا وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي وتعشو إلى ضوئي، وذلك أحبّ إليّ من أن أقتلها على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها». وقال لأصحابه بعد أن أثخنوا في أعدائه يوم صفين: «لا تتبعوا موالياً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تنهبوا مالاً». فجعلوا يمرون بالذهب والفضة في معسكرهم فلا يعرض لهما أحد. وبلغه أن حجر بن عدي وعمرو بن الحمق يشتمان معاوية وأهل الشام، فأرسل إليهما أن كفا عما بلغني عنكما. فقالا: «يا أمير المؤمنين ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: «كرهت لكم أن تكونوا شتّامين لعّانين، ولكن قولوا: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم».

«المساكين». اللّه اللّه في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، والمساكين المحتاجين وأهل البؤسى والزمنى.. واحفظ للّه ما استحفظك من حقه فيهم، فلا تشخص همك عنهم، ولا تصّعّر

٤٠٠