الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان0%

الشيعة في الميزان مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 419

الشيعة في الميزان

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد جواد مغنية
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 137777
تحميل: 8519

توضيحات:

الشيعة في الميزان
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 137777 / تحميل: 8519
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

خدك لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم.

قضاء الإمام

وقد اشتهر عنه أنه كان أقضى أهل زمانه. والقضاء هو المحكّ للمواهب والرأي الصائب، ولمن حفظ العلم حفظ رواية أو دراية، قال أحمد أمين في المجلد الأول من فجر الإسلام: «كان ذا عقل قضائي، فقد ولاّه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قضاء اليمن وله آراء ثبتت صحتها في مشاكل قضائية عديدة، حتى قيل عنه: قضية ولا أبا حسن لها» وهذا القول مشهور عن عمر بن الخطاب. وقد عني جماعة من فقهاء السنة والشيعة بجمع قضاياه في كتاب مستقل، منهم الترمذي صاحب أحد الصحاح الستة، والمعلى بن محمد البصري، ومحمد بن قيس البجلي، وعلي بن إبراهيم القمي، وجمع السيد محسن الأمين عدة قضايا أضافها إلى كتاب علي بن إبراهيم، وطبعها في كتاب اسمه «عجائب أحكام أمير المؤمنين».

منها: أن أربعة رجال شربوا الخمر، وكان مع كل واحد منهم سكين، فلما بلغ بهم السكر تباعجوا بالسكاكين، فمات اثنان وبقي اثنان. فجاء أهل القتيلين للإمام وقالوا: إن هذين قتلا صاحبينا فأقدنا منهما، قال لهم.. ما علمكم بذلك، لعل كلاً منهما قتل صاحبه ولكن الدية توزع على الأربعة فيصيب كل واحد من الاثنين الباقيين ربع دية كل واحد من القتيلين».

ومبنى هذا الحكم أن الاجتماع على السكر وحمل السكاكين مخالفة صريحة للشرع والقانون. وقد نجمت جناية القتل عن هذه المخالفة التي اشترك فيها الأربعة. فتكون جناية القتل مشتركة بين الأربعة أيضاً.

ومنها أن ستة غلمان تعاطوا لعباً في الفرات، فغرق غلام منهم. فشهد ثلاثة على الاثنين أنهما أغرقاه، وشهد اثنان على الثلاثة أنهم أغرقوه. فقضى بالدية أخماساً منها ثلاثة أخماس على الاثنين ومنها خمسان على الثلاثة.

استند هذا الحكم إلى عدد الشهود، شهد ثلاثة على الاثنين فأصابهما ثلاثة أخماس على كلّ واحد خمس ونصف، وشهد اثنان على ثلاثة فأصابهم اثنان من خمسة، على كل واحد أقل من خمس.

٤٠١

علم الإمام جعفر الصادق

عاش الإمام جعفر الصادق في أواخر زمن الأمويين، وأوائل العهد العباسي، حين أقبلت الدنيا على العرب بسبب الفتوح، واتصلوا بالأمم المتحضرة كالفرس، وعندهم الطب، والهندسة، والجغرافية، والحساب، والتنجيم، والأدب، والتاريخ، والمصريين، وعندهم مدرسة الإسكندرية، والسوريين الذين تاثروا بالعقلية الرومانية. وفي هذا العهد شرع بنقل هذه العلوم إلى اللغة العربية. فأقبل عليها المسلمون يدرسونها إلى جانب الفقه والتفسير والحديث والنحو وما إليه.

ويعقدون لها الحلقات العلمية في مساجد الشام والعراق والحجاز. وفي هذا العهد، وفي الحلقات، كانت تقوم مناقشات عنيفة قسمت المسلمين فرقاً ومذاهب، ما يزال أثرها قائماً إلى اليوم. كانت هذه المناقشات تدور حول مسألة الخلافة ومسألة استقلال الإنسان بأفعاله، ومسألة من ارتكب كبيرة ولم يتب، ومسألة إمكان رؤية اللّه، ومسألة أن صفاته هي عين ذاته أو غيرها، ومسألة خلق القرآن. ولم

يكن الخلاف في هذه المسألة قد بلغ ما انتهى إليه في عصر المأمون. وقد كان لهذه الخلافات أثر كبير في العلم والأدب والسياسة. أما أثرها في العلم فإن النظر في الخلافة يستتبع النظر في معنى الرئاسة ومهمتها ومصدرها وشروطها. والنظر في الإرادة والاختيار يستتبع النظر في عدل اللّه وحكم العقل واستحقاق الإنسان للثواب والعقاب. والنظر في مرتكب الكبيرة يستتبع النظر في حقيقة الإيمان والكفر وعلاقة الناس بعضهم ببعض. والنظر في إمكان رؤية اللّه يستتبع النظر في سرّ الوجود وصفات الموجد والقدم والحدوث.

إن النظر في هذه المسائل وما إليها ينتمي حتماً إلى الكائنات وأسبابها. أما أثرها في الأدب فقد وقف الشعراء ينصر بعضهم هذا المبدأ ويدعو إليه، وبعضهم يحاربه ويدعو إلى غيره.

وكان أثرها في السياسة أظهر وأبلغ. لأن الكثير منها يتعلق بالحاكمين وشرعية حكمهم، وعلاقة المحكومين بهم، ولذا رأينا رجال الدولة ينكِّلون بكل عالم لا تتفق سياستهم مع أقواله وآرائه، ويقرّبون إليهم كلّ من وجدوا في قوله مبرراً لظلمهم واستبدادهم. ومن هنا قال بعض الباحثين إن هذه الخلافات كانت في بدء أمرها سياسيّة، ثم تغلب الجانب الديني على الجانب السياسي.

وإذا لاحظنا أن النهضة العلمية عند المسلمين، والإنقسامات المذهبية، والخلافات السياسية يبدأ تاريخ أكثرها بعهد الإمام الصادق، ولاحظنا مع هذا ما اتفقت عليه أهل السير والتراجم من أن الإمام الصادق ابتعد عن السياسة كل البعد، وانصرف انصرافاً تامّاً للعلم، إذا لاحظنا ذلك

٤٠٢

كله فلا ندهش لما قرأناه من أن أصحاب الحديث جمعوا أسماء الرواة الثقات عن الصادق فكانوا أربعة آلاف رجل، ولما سطّره ابن حجر في «صواعقه»: إن الناس نقلوا عن الصادق من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البلدان، ولما قاله فريد وجدي في «دائرة معارف القرن العشرين»: ألف جابر بن حيان في الكيمياء كتاباً يشتمل على ألف ورقة، يتضمن رسائل جعفر الصادق، وهي خمسمائة رسالة، ولما ذكره الشهرستاني في «الملل والنحل»: كان الصادق ذا علم غزير في الدين، وأدب كامل في الحكمة، وزهد في الدنيا، وورع تامّ عن الشهوات أقام مدة بالمدينة يفيد الشيعة، ويفيض على الموالين له أسرار العلوم، ثم دخل

العراق وأقام بها مدة. ولما جاء في كتاب «عقيدة الشيعة» للمستشرق دوايت، وقد ساهم عدد من تلامذة الصادق مساهمة عظمى في تقدم علمي الفقه والكلام. وصار اثنان منهم، وهما أبو حنيفة ومالك بن أنس، فيما بعد، من أصحاب المذاهب الفقهية، وكان واصل بن عطاء رئيس المعتزلة، وجابر بن حيان الكيمياوي الشهير من تلامذته، إلى غير ذلك مما ذكره الباحثون من غربيين وشرقيين.

الطابع الخاص لمدرسة الإمام جعفر الصادق وتعاليمه

نوجز الكلام عن تعليم الإمام وطابعه الخاص على ضوء آثاره التي حفظها التراث الإسلامي، ويستطيع الوصول إليها من أراد ذلك. وقد حفظ له هذا التراث أصولاً في الكيمياء، وفي علم الكلام والتوحيد، وفي الأخلاق، وفي العلوم الدينية بشتى فروعها:

الكيمياء: للصادق رسائل في الكيمياء درجها تلميذه جابر بن حيّان في مؤلفاته العديدة. وقد نشر بعضها، والبعض الآخر لم ينشر بعد، وهو موجود في القاهرة. ومما طبع: كتاب الرحمة، وكتاب الميزان، وكتاب الملك، وكتاب مختار رسائل جابر بن حيان، ونترك الكلام عن طابعها وفوائدها إلى ذوي الاختصاص.

علم الكلام والتوحيد: له كتاب توحيد المفضل، درجه المجلسي في كتاب البحار بكامله، وطبع مستقلاً بمصر. وله احتجاجات وتعاليم في الإلهيات يجدها المتتبع في كتاب أصول الكافي للكليني، وكتاب الشافي للسيد المرتضى، وفي غيرهما من كتب الحديث والعقائد لعلماء الشيعة الإمامية.

وطريقته لفهم ما وراء الطبيعة ترتكز على منطق العقل والفطرة والثقة بما يستنتجه ويستنبطه من الفرض الصحيح فكل فرض يصح إذا كان نتيجة منطقية لقضية بديهيَّة. وهذا الأسلوب يعتمده اليوم علماء الطبيعة وغيرهم وبه يستدل الإمام على حدوث العالم، وبحدوثه على وجود الصانع. وكان يوجه اهتماماً بالغاً إلى إزاحة كل شبهة تحوم حول وحدانية اللّه وعدله وقدرته وسمّوه، وحول

٤٠٣

بعث الأنبياء وتنزيههم.

فاللّه واحد، وعالم، وقادر، وصفاته عين ذاته، ليس كمثله شيء. وكلامه مخلوق وليس بقديم. والبعث والحساب لا بدّ منهما. والأنبياء معصومون قبل النبوّة وبعدها. والخلافة تكون بنصّ الرسول لا بالانتخاب. والإنسان مخير غير مسيّر، وخلاصه بيده لا بيد أحد من الناس.

الأخلاق: له مواعظ وحكم، ووصايا أوصى بها أهل بيته وأصحابه نجدها متفرّقة في كتاب «حلية الأولياء» لأبي نعيم الأصفهاني، وكتاب «تحف العقول» للحسين الحرّاني، وكتاب «مطالب السؤول» لمحمد بن طلحة الشافعي، وغير ذلك من كتب الأخلاق، والحديث. ولو جمعت لجاءت في كتاب ضخم، وهي تضع قواعد لحسن السلوك وتقرّره على مبدأ المساواة بين الناس جميعاً، ومبدأ أن الإنسان خيّر بطبعه طيّب بذاته، وإنما تفسده التربية والمحيط والأوضاع. فمن أقواله: «أصل الإنسان عقله، وحسبه دينه، وكرمه تقواه، والناس في آدم مستوون. إن النفس لتلتاث على صاحبها إذا لم يكن لها من العيش ما تعتمد عليه، فإذا هي أحرزت معيشتها اطمأنّت. بني الإنسان على خصال، فمهما بني عليه فإنه لا يبنى على الخيانة والكذب». وإذا كان طبع الإنسان الصدق والأمانة، فالكاذب الخائن إذن من أخرج الإنسان عن طبعه ووضعه، وعمل على هدم بنائه وكيانه.

التفسير: للشيعة كتب عدة في تفسير القرآن، منها كتاب «مجمع البيان» للطبرسي، وكتاب «التبيان» للشيخ الطوسي، وكتاب «كنز العرفان» للمقداد. وقد رووا في هذه الكتب وغيرها من كتب التفسير والحديث عن الإمام الصادق تفاسير لكثير من آيات الكتاب، وخاصة فيما يتعلق بالأحكام. والشيعة لا يفسرون آية من القرآن إلا بعد مقابلتها مع سائر الآيات، وبعد البحث عما صحّ عن النبي وآل بيته من التفسير، لأن في القرآن آيات ينسخ أو يخصص بعضها بعضاً، وفي السنة أحاديث تفسر كثيراً من الآيات. وكلام اللّه والرسول لا يتناقضان، لأنهما بمنزلة الشيء الواحد، فإن لم يجدوا في الكتاب ناسخاً ولا مخصصاً، ولم يجدوا في السنة مفسراً، فسروا الآية بما يقتضيه ظاهر لفظها ما لم يتنافَ الظاهر مع العقل، وإلا أوجبوا التأويل بما يتحمله اللفظ، ويقبله العقل. وقد أخذوا هذه الطريقة في التفسير عن أئمة آل البيت.

٤٠٤

الفقه

تعرّض الفقه الإسلامي لأحوال الإنسان الخاصة والعامة: لواجبه مع اللّه، ومع نفسه وأسرته، ولعلاقته مع الدولة والمجتمع، ولشؤونه الزراعية والتجارية، ولما ينتج، ويستهلك. ولهذا كان الفقه الإسلامي أوسع من سائر العلوم الإسلامية، وكانت آثار الصادق فيه أكثر منها في غيره، فظهرت في كتب الصحاح للسنة، وفي كل كتاب من كتب الحديث والفقه للشيعة، وفي كل باب من أبوابها، وهذا هو السرّ في تسمية الشيعة الإمامية أحياناً بالجعفريين، ونسبتهم إلى الإمام جعفر دون غيره من الأئمة الاثني عشر. وقد تصدى جماعة، منهم الجاحظ بن عقدة الزيدي، والشيخ أبو جعفر الطوسي، لإحصاء عدد الرواة الذين رَوَوا عن جعفر بن محمد، ودوّنت أسماؤهم ورواياتهم في الكتب الموجودة بين أيدي الناس، فبلغوا أربعة آلاف رجل من أهل العراق والحجاز والشام وخراسان. وفي «كتاب المعتبر» للمحقق الشيخ علي بن عبد العال: «كتب من أجوبة مسائل جعفر بن محمد أربعمائة مصنف لأربعمائة مصنّف سمّوها أصولاً».

وبهذه الأصول أصبح الصادق مرجعاً للفقه والتشريع عند الشيعة الإمامية. وبعد عصر الأئمة بقليل جمعت هذه الأصول الأربعمائة في أربعة كتب: في «كتاب الكافي» لمحمد بن يعقوب الكليني، وكتاب «من لا يحضره الفقيه» لمحمد بن بابويه القمي المعروف بالصدوق وكتاب «الاستبصار»، وكتاب «التهذيب» لمحمد بن الحسن الطوسي.

طريقته في التشريع

نهى الصادق عن العمل بالقياس، وكان يقول: إن المقاييس لا تزيد أصحابها إلا بعداً عن الحقّ، ونهى عن اتباع كل ظنّ لا يستند إلى مصدر صحيح. ومعنى القياس إلحاق أمر بآخر في الحكم الشرعي لاتحادهما في العلة، وهو من الأصول الشرعية عند الأحناف وغيرهم.

ومن تتبع أقواله وأحكامه يجد له شخصية علمية مستقلة بذاتها، فلم يسند حديثه إلى الرواة، ولا إلى قول مشهور أو مأثور إلا نادراً، وتقول الشيعة: إن الإمام إذا حدّث، ولم يسند، فسنده أبوه عن جده عن الرسول، ومهما يكن

فإن ما رُوي عنه في التشريع يرتكز على مبادئ عامة منها:

الحرية

لكل إنسان من ذكر وأنثى حرية التصرف بنفسه، وبما يختص به من شؤون، ولا سلطان عليه لأحد إلا إذا كان صغيراً أو مجنوناً أو سفيهاً، فيولى عليه حينئذٍ قوي أمين، على أن لا تتعدى تصرفات الولي مصلحة المولى عليه.

٤٠٥

ومنها المساواة

إن جميع الناس سواء أمام القانون، فكل جان يعاقب، وكل غاصب يغرم، ولا حصانة لحاكم، ولا لذي منصب كائناً من كان، وكل قانون يقسم الناس على غير أساس التقوى، فهو جائر.

ومنها الثقة بالإنسان، واحترام شعوره ومعاملات الإنسان، وجميع تصرفاته صحيحة بموجب الأصل ما لم يثبت العكس، إلا فيما يدّعيه على غيره، لأن كل إنسان بريء ما لم تثبت إدانته، وكل من يدين بدين يرتب على أعماله آثار الصحة ما دامت موافقة لما يعتقد، وإن خالفت الإسلام.

ومنها تحريم الاستغلال

إن الغشّ والربا والاحتكار، وكل معاملة تؤدي إلى استثمار الغير فهي باطلة، وكل احتيال على الشرع والقانون فهو تضليل، وكل من كان في يده شيء يمنع من التصرّف به إذا أدى إلى الإضرار بغيره.

ومنها الإباحة والحلّ

كل شيء فيه صلاح للناس من جهة من الجهات فهو حلال وكل من اضطر إلى شيء فهو له مباح، فالجائع الذي لا يجد سبيلاً للعيش لا يُعاقب على السرقة، والمدين الذي يعجز عن الوفاء لا يُحبس ولا يحجز وله ما يضطرّ إليه من مسكن ومأكل وملبس.

ومنها الذمة

لكل بالغ عاقل صفة ذاتية تؤهله للإلزام والالتزام بما له وما عليه، وعلى من ضمن وتعهد أو اؤتمن على عمل أو مال أن يؤديه على وجهه، وللطرف الثاني الحق في أن يحاسبه ويلزمه بالوفاء، وأن يتسلط عليه وعلى ماله إذا خان أو قصر. والشرط الرئيسي لصحة الإلزام والالتزام أن يكون العمل حقاً للملتزم وسائغاً في نفسه، لا يستدعي ضرراً على من ألزم أو التزم، ولا على غيرهما، فكل معاهدة تخرج عن اختصاص المتعاهدين أو تضرّ بهما أو بأحدهما أو بغيرهما، أو تكون مجهولة الحقيقة فهي تضليل يجب الغاؤها، وكل تجارة أو زراعة أو صناعة فيها شائبة الضرر فهي فاسدة، وكل من نذر أو أقسم أو عاهد اللّه أن يفعل ما يضرّ به أو بغيره فنذره وقسمه وعهده لغو. قرر الصادق هذا المبدأ بأحاديث كثيرة منها: «من اشترط شرطاً سوى كتاب اللّه فلا يجوز له ولا عليه. والمسلمون عند شروطهم إلا شرطاً حلّل حراماً أو حرّم حلالاً. كل شرط خالف كتاب اللّه

٤٠٦

فهو مردود. إذا رأيت خيراً من يمينك فدعها، وافعل الذي هو خير، ولا كفَّارة عليك، إنما ذلك من خطوات الشيطان، إن الكفارة إذا حلف الرجل على أن لا يزني ولا يشرب ولا يخون وأشباه هذه.

ومنها قاعدة الأقرب فالأقرب: اعتمد الصادق على هذا المبدأ في الإرث، فجعل الأولاد والآباء أولى بالإرث من الاخوة والأجداد، والاخوة أولى من الأعمام والأخوال. فمتى وجد واحد من المرتبة المتقدمة حجب عن الإرث كل من كان في المرتبة المتأخرة، فالبنت تحجب عمها، كما يحجبه الابن من غير فرق. واعتمد على هذا المبدأ أيضاً في النفقات قال: «إن أفضل ما ينفقه الإنسان على نفسه وعياله، ثم على والديه، ثم الثالثة على القرابة والإخوان، ثم الرابعة على الجيران الفقراء، ثم الخامسة في سبيل اللّه، وهو أخسّها أجراً».

إن هذه المبادئ التي ذكرناها بقصد التمثيل، لا بقصد الحصر، يسري أكثرها في الأمور المدنية كالبيع والإجارة، وما إليها من الموجبات والعقود، وفي الأمور الجنائية كالقتل والسرقة، وفي الأحوال الشخصية كالزواج والوصايا، وفي جميع المعاهدات والالتزامات. وهي تمثل لنا روح التشريع في أحكام

الإمام الصادق، ومذهبه في الفقه الذي استمدّه من واقع الحياة، من كرامة الإنسان وحريته وحاجاته ومصالحه، لا من الظّن والخيال، ولا من أهواء السلطات، وشهوات المحتكرين. إن الحرية والمساواة وصيانة حقوق الإنسان واحترام ذمته وما إلى ذلك هي المدارك الصحيحة للفقه عند الإمام الصادق. وما الكتاب والسنة إلا تعبير صادق ولسان ناطق لهذه المبادئ. وهذا ما أراده الصادق حين قال للشيعة: لا تقبلوا علينا حيدثاً إلا ما وافق القرآن والسنة، أو كان معه شاهد من أحاديثنا، أي لا تقبلوا حديثاً فيه شائبة الظلم والمحاباة. إن هذه النظرة إلى الفقه نتيجة طبيعية لتلك الثقافة الواسعة، والعلم الغزير. بالكتاب والسنة وعلى مبدأ الإمام الصادق، يجب على من يريد أن يفهم الفقه أن يعي المبادئ الإنسانية قبل كل شيء. وإلا فهو أبعد ما يكون عن فقه الصادق وآيات اللّه. وسنة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

٤٠٧

أمضي عَلى دِين النَّبي

معنى الحي

سؤال، قد يبدو للوهلة الأولى غريباً. وهو ما معنى هذا حي، وذاك ميت ؟.

ووجه الغرابة أن معنى الحي معروف، وكذلك معنى الميت. ومع التأمل يتضح أن هذا السؤال وجيه. وإليك البيان:

إن لكل فرد من أفراد الإنسان واقعاً يعيش فيه، وهو عمله بالذات، وقد يقتصر هذا العمل على صاحبه، ولا يتعدى أثره إلى غيره وقد يتجاوزه، وينتفع به الآخرون. والأول حي بالاسم، ميت بالفعل - وإن أكل وشرب - ما دام لا يحس أحد بوجوده، والثاني حي بآثاره الباقية، يمتد وجوده بوجودها، وإن صار تراباً وعظاماً.

إن محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي اقترن اسمه باسم اللّه في المعابد والمعاهد، وفي الصلوات والدعوات في كل زمان ومكان، إن محمداً باقٍ ببقاء اللّه، وكذلك أهل بيته الذين نزلت بهم آية المودة والتطهير أحياء ما دام لكتاب اللّه، وسنة نبيه أنصار وأتباع. وكل من ترك أثراً من قول أو فعل ينتفع الناس به مباشرة أو بالواسطة فهو موجود، وكل من خرج من هذه الحياة كما دخلها أول مرة فهو أبتر وعقيم، وعبث زائد.

فمن غرس شجرة، أو بنى بيتاً، أو شق طريقاً، أو اخترع آلة، أو اكتشف نظرية، أو ألّف كتاباً، أو نشر مقالاً، أو ألقى خطاباً ينير العقول والأفكار، أو يثير العواطف، ويتجه بها نحو الخير، كل أولاء، ومن إليهم، باقون ما دامت آثارهم تحيا وتتحرك من بعدهم.

الجزار والخباز

وتسأل: ماذا تقول في الجزار والخباز وبائع الخضار وما أشبه من الذين ينتفع الناس بهم في حياتهم اليومية، دون أن يكون لأعمالهم طبيعة الدوام والاستمرار ؟.

الجواب: ما من أحد يؤدي دوراً في هذه الحياة إلا ويترك أثراً نافعاً، وإن لم يبد ظاهراً للعيان. إن العامل، أي عاملٍ عضو حي من المجتمع، به وبغيره تحصل البشرية على غاياتها. وكثيراً ما يقيض اللّه السعادة للآخرين عن طريق واحد من هؤلاء البسطاء، أو ينبه به غافلاً، أو يلهم به مفكراً، أو يؤازر مصلحاً.

وكفى العامل البسيط أثراً أن يكوّن له أسرة صالحة، فيربي أبناءه بالكثير من العرق، والجهد المضني.

٤٠٨

العمر القصير

وأقصر الناس عمراً من لا يرى هماً إلا همه، ولا مشكلة إلا مشكلته، ولا خيراً إلا خيره. وقد يخلد هذا، ويدوم له الذكر بما يتركه من اسواء وأدواء. ولكنه يخلد في العذاب، في اللعن والسباب، تماماً كما خلد يزيد ونيرون.

العمر الطويل

أما أطول الناس أعماراً، وأكثرهم تأكيداً لوجودهم في كل زمان ومكان فكثيرون: منهم العلماء الذين اكتشفوا قوى الطبيعة، وسلطوا عليها إنسان القرن العشرين، لينشئ منها حياة جديدة بعد أن تسلطت عليه واستعبدت أسلافه قروناً وأحقاباً.

ومنهم الذين يمنحون الناس التفاؤل، ويشجعونهم على المضي في العمل من أجل حياة أرغد وأسعد. وفي طليعتهم الأنبياء والأوصياء الذين أرشدوا الإنسانية، وأضاءوا لها سبيل الرقي والهداية.

ومنهم الذين يملكون الاستعداد للاستشهاد والتضحية بكل عزيز من أجل إحياء الحق، وإماتة الباطل.

ولا أتجاوز الحقيقة إذا قلت: إن إيمان المؤمن، ودين المتدين يقاس بالاستعداد للتنازل عن حياته من أجل الدين ومن فقد هذا الاستعداد فما هو من الدين وأهله في شيء، وإن زكّى جبنه وحرصه على الحياة بألف علة وعلة.

الحسين

ولا تعرف الإنسانية واحداً في تاريخها كله تمثلت فيه روح التضحية والفداء من أجل ما يعتقد ويدين كما تمثلت في الحسين (ع) الذي نطق الواقع على لسانه، وهو في طريقه إلى الاستشهاد: «أمضي على دين النبي».

لقد رحب الحسين بالاستشهاد، وأقدم عليه دون تردد لا حباً بالموت، وتبرماً بالحياة، ولا فراراً من سأم، ولا اضطراباً في النفس، ولا طموحاً إلى بطولة وسلطان، ولا خوفاً من الاتصاف بالجبن. لا دافع ولا هدف على الإطلاق إلا الامتثال لمشيئة اللّه، والانقياد لأمر رسول اللّه الذي لا مفر من طاعته، ولا محيد.

قال له أخوه محمد بن الحنفية: ما حداك على الخروج عاجلاً ؟

قال الحسين: أتاني رسول اللّه، وقال: يا حسين اخرج، شاء اللّه أن يراك قتيلاً.

قال محمد: إنّا للّه، وإنّا إليه راجعون. فما معنى حملك هذه النسوة معك ؟

٤٠٩

قال الحسين: إن اللّه شاء أن يراهن سبايا.

وقال له ابن عباس: لا تخرج إلى العراق.

قال الحسين: إن اللّه أمرني بأمرٍ، وأنا ماضٍ فيه.

قال ابن عباس: وا حسيناه. أطلق ابن عباس صرخته الدامية هذه، وهو لا يعلم أنها قد تجاوزت حدود الزمان والمكان، وأنها ستحدث انقلاباً في الأفكار والأوضاع، وتُتخذ شعاراً للثورات والانتفاضات، ونشيداً للحرية والاستقلال، وأنها ستُجري أبحراً من الدماء والدموع، وتملأ الأجواء لهيباً من الآهات والزفرات، وأن المواكب والمطابع والمنابر سترددها مدى الأجيال، وإلى آخر يوم.

وبعد، فإن الحسين (ع) يحب الحياة، ويكره الموت. ما في ذلك ريب. وإلا لم يكن عظيماً، لأن من تساوى في مقاييسه الموت والحياة لا يُعدّ باذلاً ومضحياً إذا أقدم على الموت، وأي عاقل يتنازل عن حياته، ويرضى بجز الرأس، ورضّ الصدر والظهر، وذبح الأطفال، وسبي النساء إذا لم تكن العاقبة خيراً وأبقى. ولا شيء أفضل عاقبة من طاعة اللّه، والتضحية في سبيله، لهذا وحده أقدم الحسين على ما أقدم، ولم يتردد، ويبرر المعصية والاحجام بمنطق الشيطان، وتحريفه وتزييفه.

منطق إبليس

قيل: إن إبليس التقى برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال له: يا محمد، إن اللّه قد وصفك بنبي الهداية، ووصفني بإمام الغواية، مع العلم بأن الأمر في يده، لأنه على كل شيء قدير، فلماذا لا يُلجئ عباده إلى الهداية ما دام قد أرادها منهم ؟.

لقد تجاهل إبليس اللعين أن اللّه يخلق الكون بما فيه على قاعدة «كن فيكون». فيستند الفعل إلى قدرته مباشرة، وإلى كلمته وحده لا شريك له، أما أفعال العباد، ومعاملة بعضهم مع بعض فإنه سبحانه لا يتدخل بها إلا على أساس الإرشاد، والأمر والنهي تاركاً للإنسان حريته الكاملة، وقدرته المطلقة، ليتحمل وحده أعباء الجهاد والعمل، ومسؤولية الإهمال والكسل، ويتميز بذلك الخبيث من الطيب، وتظهر للعقول قيمتها، وللنفوس غرائزها. ولو أن اللّه ألجأ عباده إلى الفعل إلجاء لانتقضت حكمة الخالق العليم، وتعطل العقل السليم، وبطل الشرع والتكليف، وكانت أفعال الإنسان تماماً كالجريان في الماء، والثمرة على الشجرة. وبكلمة إن اللّه سبحانه بالنسبة إلى الكون خالق ومبدع، وبالنسبة إلى عمل الإنسان هادٍ ومرشد، لا مبدل لكلماته، وهو الحكيم العليم.

٤١٠

وبهذا نجد تفسير قول الحسين (ع): إن اللّه شاء أن يراني قتيلاً، وشاء أن يراهن سبايا. أي أمرني اللّه أن أجاهد ضد الظلم والفساد، ومعي النساء والأطفال، فامتثلت، وهو الحكيم العليم بما يترتب على أمره. وعليه تكون الأوضاع الاجتماعية هي المسؤولة عن الشر، وليست الإرادة الإلهية، والمصلحون الطيبون هم الذين يضحون ويستميتون من أجل تغيير الأوضاع وتحويلها إلى الخير والصلاح كما فعل الحسين وأيضاً بهذا يتبين الجواب عن قول من قال: لماذا سلط اللّه يزيد وجيشه على الحسين وأهله. إن اللّه سبحانه لا يسلط، ولن يسلط الأشرار على الأخيار. حاشا وكلا. بل نهى الأشرار عن الفساد والعدوان، وأمر الأخيار بنضالهم وجهادهم، إن أصروا وتمردوا منذراً العاصي بالعقاب، ومبشراً الطائع بالثواب، دون أن يتدخل بقدرته من أجل هذا أو ذاك: «ولو شاء اللّه لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض» (٤ محمد).

على دين النبي

بأمر اللّه تعالى، ودين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تُفسر أعمال الحسين (ع)، وكل حركة من حركاته، وخطوة من خطواته، فدين النبي هو الهوية والماهية الحقيقية لوقعة كربلاء، وفيه يكمن سر خلودها وبقائها ببقاء اسم محمد، ورسالة محمد.

إن مضي الحسين إلى القتل على دين النبي يدلنا بصراحة لا تقبل التأويل على أن هذا الدين العظيم لا يعترف بأحد كائناً من كان إذا أحاط به الظلم والفساد، ولم يحرك ساكناً حرصاً على نفسه وجاهه. أبداً إما ان الحسين لم يمض على دين النبي، لأنه جازف وتهور، وإما ان الساكت عن الحق يبرأ منه النبي ودين النبي، ولا واسطة.

ونقول: إن هذا معناه الجهاد، والجهاد لا يجب إلا مع المعصوم أو نائبه.

الجواب: إن الجهاد على نوعين: جهاد الغزو بقصد الدعوة إلى الإسلام وانتشاره. وهذا هو الذي يجب كفاية بإذن المعصوم أو نائبه، ويختص بالذكر، دون الأنثى، وبالصحيح، دون المريض.

النوع الثاني: جهاد الدفاع عن الدين والحق، وهذا يجب عيناً لا كفاية، ومطلقاً غير مقيد بإذن المعصوم ولا نائبه، تماماً كوجوب الدفاع عن النفس، ويشمل الذكر والأنثى، والمريض والأعرج والأعمى، كلاً حسب استطاعته ومقدرته. (انظر الجواهر وغيرها من كتب الفقه).

المدعي الزائف

وبالتالي، فإن الصراع بين الخير والشر طبيعي لا مفر منه، فإذا طغى الشر في مجتمع، ولا مكترث فإن معنى هذا أن المجتمع لا عدو فيه للشر، ولا ناصر يتحسس الخير، ويهتم بالدين، لأن العدو ينبغي أن يُحارب مهما تكن النتائج.

٤١١

أما من يكتفي بقول: إنّا للّه، وإنّا إليه راجعون تاركاً الشر يسير على حاله بغية الحفاظ على مصالحه، أما هذا فإنه يؤكد، ولا ريب، ما يلصق به من تهم، ويذاع عنه من محاباة.

ونقول: إن للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر شروطاً، وأولها الأمل بالقضاء على المنكر.

ونقول: ليست المسألة مسألة شرط ومشروط ولا مكلف وتكليف شرعي، وإنما المسألة في واقعها مسألة عداء للشر والباطل، وتحسس بالدين والخير، وعدم التحسس به، فمتى وجد هذا العداء، وهذا الإحساس طغت غريزة المغامرة على صاحبها غير ملتفت إلى الشروط والمشرط، ولا يستسلم إطلاقاً، بل يموت من أجل الحق واقفاً على قدميه بكبرياء وعناد وتحد. وكفى بهذا التحدي احتجاجاً وخروجاً على الباطل وأهله.

وغريبة الغرائب أن يدعي الواحد منا أنه على دين النبي، ثم يغضب لنفسه وقريبه وصديقه، ويصرخ باسم اللّه والدين صرخات أيوب المبتلى إذا مُست أشياؤه، ولو من بعيد، ولا يغضب إذا انتهكت حرمات اللّه، وشريعة رسول اللّه. ولو كان بينه وبين اللّه علاقة وصلة لأثمر شجرها، وظهر أثرها. كلا، إن الوهم هو الذي صوَّر له هذه الصلة، وأضفى عليها صفة الوجود. أما مجرد الركوع والسجود فما هو من دين النبي في شيء إذا لم ينظر المصلي إلى الباطل بعيني ثائر مغامر.

وكم من متعبد تكشف عنه القناع، وتبين، حين جد الجد، ان قطرة من دمه، وذرة من جاهه ومصلحته خير من ألف نبي ونبي. إن دين النبي عمل وجهاد وكفاح، إنه دماء وعيال وأرواح تبذل ثمناً للحق، تماماً كما بذل الحسين. أما من يدعي دين النبي غير مستعد لأن يترجم دعواه. ويثبتها بالأفعال، والتضحية بمصالحه الشخصية من أجل هذا الدين فهو دعي زائف.

وبعد، فقد كان للإسلام دولة وسلطان حين كان يزيد وشهيد يمضي على دين النبي. أما اليوم فذل وهوان، حيث ألف يزيد ويزيد، ولا شهيد واحد. بل ألوف العبيد تموت وتحيا على حب الدينار والدولار.

٤١٢

لَولا التَّفسير الكاشِف

أحمد اللّه سبحانه على ما وفقني إليه من عرض فقه الإمام جعفر الصادق (ع) فتوى ودليلاً في ستة أجزاء. وشكراً للّه جل ثناؤه على هذا التوفيق. لقد فرغت إلى تفسير كتابه العزيز.

ومن خصائص القرآن أن يجذب إليه كل قارئ وسامع، دون أن يحس ويشعر، حيث يجد فيه نور العقول، وشفاء القلوب، وراحة الصدور. وما أن استمع أعداء محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله لبعض آياته، حتى أدركوا ما للقرآن من سلطان على القلوب والعقول، وأيقنوا أنهم مغلوبون لا محالة، ما دام القرآن شاهداً له ودليلاً. فلجأوا إلى التهاتر، وقال بعضهم لبعض: «لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون». ولكن الغلبة في النهاية كانت للقرآن وشريعته، لا لأنه الحق فحسب، بل ويحمل سر الغلبة وسلاحها.

وإذا جذب القرآن إليه كل قارئ وسامع فكيف بمن تصدى لتفسيره، والكشف عما تلقاه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله من ربه، ثم حاول أن يربط آيات اللّه وكلماته بواقع العصر الحديث ؟. لقد جذبني «التفسير الكاشف» إلى معاني القرآن ومقاصده وأهدافه، وصرفني عن كل شيء، وبالأصح أفقدني كل شيء، حتى ذاكرتي، ولم يدع لي إلا البصيرة التي أهتدي بها إليه وحده. ولولاه لوضعت كتاباً جديداً حين رغب إليّ التاجر الأمين أن يطبع كتاباً من مؤلفاتي - كما أشرت في المقدمة - ولو اخترت لتفسيري الكاشف أن يكون تلخيصاً أو تبسيطاً لما جاء في التفاسير لأرحت نفسي من عناء السهر والتأملات، ولانتهيت منه، أو من أكثره. ولا شيء أهون عليّ من التخليص والتوضيح. وأي شيء أيسر من الرواية بالمعنى ؟. ولكن حاولت جهدي أن يشعر القارئ بأن كلمات اللّه سبحانه تتوجه إليه من خلال عقله وقلبه، وأنها تصميم وتخطيط لأن يحيا هو وغيره حياة غنية وقوية لا يعوزها شيء، ولا يهددها شيء، وأن الحياة الكريمة هي حق إلهي لكل إنسان، وأن من اعتدى عليها فقد اعتدى على حق اللّه بالذات، وأن أي تخطيط يضعه الإنسان لمجابهة أية مشكلة من مشاكل هذه الحياة فلا يؤدي إلى الحل الصحيح إلا إذا اعتمد على كتاب اللّه، أو التقى معه، لأن الإنسان، أي إنسان يخطئ ويصيب أياً تكون منزلته، أما الوحي فمنزه عن الخطأ.

حاولت جهدي أن يحس القارئ بأن الإسلام نزل من السماء لأجله وأجل الناس جميعاً، لا من أجل الأنبياء، ولا العلماء وأن هؤلاء جنود متطوعون للذب عن الدين، لا للارتزاق به. وأيضاً حرصت كل الحرص أن يقتنع القارئ بهذا تلقائياً، وهو ماضٍ في قراءته. وليس هذا بالشيء

٤١٣

اليسير.

فأولاً وقبل أن أخط بالقلم أرجع إلى التفاسير واحداً بعد واحد. وكانت عند شروعي ١٨ تفسيراً، ثم إزدادت إلى ٢١، وربما بلغت مع الأيام ٣٠، أو أكثر. وبعدها أفرغ إلى تأملاتي في كل تساؤل يمكن أن يمر بذهن شاب من شبابنا حول معنى الآية ومدلولها، ثم أتأمل في الإجابة بما يتناسب مع عقله وثقافته. وأيضاً أتأمل طويلاً في تطبيق الآية على سلوكنا العملي ليكون القارئ على يقين بأن الإسلام لا يعنى بالمعاني المجردة، والقيم في ذاتها. كلا، وإنما قيم الإسلام تحس وتلمس كأية ظاهرة من ظواهر الحياة، وأية ثمرة من ثمرات الأعمال. وأحسب أني بلغت بعض ما أردت. وعلى سبيل المثال أذكر تفسيري للآية التالية:

«ألم تكن أرض اللّه واسعة فتهاجروا فيها». وقلت في تفسيرها:

من عجيب الصدف أو أحسنها أن يتفق - من غير قصد - وصولي بتفسير القرآن الكريم إلى آيات الهجرة - مع أول السنة الهجرية لعام ١٣٨٨، وإسرائيل تحتل أرضنا المقدسة، وأهلها يهاجرون منها فراراً من التنكيل والتقتيل الجماعي الذي مارسته إسرائيل، وما زالت تمارسه.

وقد أوحت إليّ هذه الصدفة بالمقارنة بين اعتداء المشركين في مكة على المسلمين، وإخراجهم من ديارهم وبين الاعتداء الإسرائيلي - وبالأصح - الاعتداء الاستعماري على الأرض المقدسة، وإخراج أهلها من ديارهم. ثم انتقلت من هذه المقارنة إلى استخراج العبرة والعظة من جهاد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين في هجرتهم، وتدبير الخطط وإحكامها الذي بلغ بالمسلمين إلى أوج النصر على عدوهم، وتحطيم طغيانه وعدوانه، وأوقف صناديد قريش الذين أخرجوا النبي من مكة، أوقفهم بين يديه أذلاء مستسلمين، يستمعون إليه وهو يقول لهم: «ما تظنون أني فاعل بكم ؟».

وقد يظن البعض أن الهدف الاول من هجرة النبي والمسلمين هو مجرد الهروب بدينهم من المشركين الذين تعرضوا للمسلمين بالأذى، ومنعوهم من ممارسة الشعائر والأعمال الدينية، تماماً كما يلتجئ العابد الزاهد إلى المسجد ليقيم فيه صلاته بعيداً عن الضوضاء والغوغاء.. كلا، لقد كانت هجرة المسلمين أبعد وأعمق من ذلك. والدليل ما حققته من نتائج وأهداف لقد كانت هجرة الرسول - بالإضافة إلى الهروب بالدين - خطة مرسومة ومدبرة تمهيداً للمعركة الفاصلة، تماماً كانسحاب الجيش من ميدان القتال إلى موقع آخر من مواقعه للهجوم المعاكس والانقضاض على العدو بضربة قاضية لا تقوم له بعدها قائمة.

وبعد أن وصل النبي إلى المدينة آخى بين أصحابه وجمع القلوب المتخاصمة، وأذاب ما فيها من عصبية وأحقاد، وحين تم له ذلك بدأ يرغب المسلمين في الجهاد، ويحثهم على الدفاع عن كيانهم

٤١٤

وعقيدتهم، ويضمن الجنة لمن يقتل في سبيل اللّه، والعزة والكرامة دنيا وآخرة لمن ينجو من القتل. ولما أخذت هذه التعاليم سبيلها إلى نفوسهم شرع بتجنيدهم وتأليف السرايا، يبعثها هنا وهناك.. وقادها بنفسه أكثر من مرة، وحققت الاستقرار والأمن للمسلمين، كما اقلقت راحة قريش وسلامتها. ثم تحولت السرايا إلى معارك كبرى، - والمسلمون يبذلون أرواحهم وأموالهم، حتى جاء نصر اللّه والفتح «وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة اللّه هي العليا».

وأحسب أن هذه الإشارة كافية لاستخراج العبرة التي يجب أن ننتفع بها في نكبتنا بإسرائيل ومن ساند إسرائيل.

هاجر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من مكة المكرمة لاعتداء المشركين عليه وعلى أصحابه، وهاجر الفلسطينيون من الأرض المقدسة لاعتداء الصهيونية والاستعمار عليهم وعلى نسائهم وأطفالهم. وكانت هجرة المسلمين آنذاك ابتعاداً عن الوقوع في التهلكة، وانسحاباً من ميدان المعركة لتجمع القوى، والاستعداد للضربة القاضية على العدو.. ويجب أن يكون خروج الفلسطينيين من ديارهم بهذا القصد والروح، ولهذه الغاية بالذات، لا بقصد إخلاء البيت للصوص يسرحون فيه ويمرحون.

وبدأ النبي هجرته بالتآخي بين أصحابه. وعلى قادة العرب والمسلمين أن يبدأوا بالتآخي والتصافي بين القلوب، وأن يوحدوا كلمتهم لمجابهة العدو، تماماً كما فعل النبي قبل أن يجابه المشركين ومن حاد عن هذه السبيل فقد التقى مع إسرائيل، وحقق أمنيتها من حيث يريد أو لا يريد.

وارسل النبي السرايا لتقلق أمن المشركين، وأمد المسلمون هذه السرايا بكل ما يحتاجون ويجب على العرب والمسلمين أن يشجعوا الفدائيين من الفلسطينيين وغيرهم، ويمدوهم بالمال والعتاد ويتعاونوا معهم إلى أقصى الحدود، ليقلقوا راحة إسرائيل وأمنها.. وعبأ النبي جميع المسلمين للمعركة الفاصلة الكبرى، واستأصل الشرك من جذوره بعد أن رسخ قروناً في كل جزء من أرض الجزيرة العربية. وهذا ما يجب أن يفعله قادة العرب والمسلمون.

وإذا لم نعتبر بهذا الدرس من تراثنا وتاريخنا، ونكون جميعاً جنوداً من جنود اللّه والوطن فلسنا جديرين باسم العرب والعروبة، ولا باسم الإسلام والمسلمين.. بل ولا باسم الإنسان والإنسانية بعد أن أصبح الجهاد في هذا العصر من أوجب الواجبات وأهمها.

٤١٥

الفهرس

الشيعة في الميزان تأليف: محمد جواد مغنية ١

تقديم بسم اللّه الرحمن الرحيم والحمد للّه رب العالمين وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين ٣

الشِّيعةُ والتَّشَيُّع مقدّمة بسم اللّهِ الرَحمن الرَحيم والحمد للّه رب العالمين، وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله الطاهرين ٥

التشيّع ٨

الأصْحَابُ والتّشيّع ١٩

شُرُوطُ الإمَام ٢٤

عُلومُ الإمَام ٣٥

التقية وَالبدَاء وَالرّجعَة وَالجفر وَمصْحف فاطِمة بَين السُنّة وَالشّيِعَة ٤٠

الشّيعَة والفُرس ٥٤

أحمَد أمين يعَترف في أيَّامه الأخِيرة ٦٠

بَينَ السُّنّة وَالشِّيعَة ٦٤

المهدِي المنتَظر ٧٥

التشيّع في ثَلاث مَراحِل ٨٣

الإسلام وَالوَلاء ١٠٠

الإمامَة بَين شَيْخ الشِّيعَة وَشَيْخ المُعتَزلة ١٠٤

دُول الشِّيعَة ١١٠

دَولَة الأدَارسَة ١١١

دَولَة العَلويّين ١١٧

دَولَة البويهيّين ١٢٠

دَولَة الفَاطِميّين * ١٣١

٤١٦

الدَولَة الحَمْدَانيَّة ١٤٦

الدَّولَة الصّفويَّة ١٥٦

أصفَهان مَدينَة العجَائِب ١٦٥

في مدَينَة العجَائب وَالمسَاجد رأيتُ خَطّ الإمَام عَلي في أصفهَان ١٦٦

عَدَد الشيعَة وَبُلدانهُم ١٧٥

النَبيّ وَالزهرَاء وَالأئِمَّة الاثنَا عَشَر محَمَّد المصْطفى ١٨٩

الزَّهرَاء ١٩٣

أمِيرُ المؤمنِين ١٩٤

الإمَام الحَسَن ١٩٧

الإمَام الحُسَين ٢٠٠

الإمَام زين العَابدين ٢٠٣

الإمَام محمَّد البَاقِر ٢٠٩

الإمَام جَعفَر الصَّادق ٢١١

الإمَام مُوسى الكَاظِم ٢١٤

الإمَام عَلي الرّضَا ٢١٧

الامَام محمَّد الجَوَاد ٢١٩

الإمَام عَلي الهَادِي ٢٢٢

الإمَام حَسَن العَسكري ٢٢٤

الإمَام الحجَّة محمَّد بن الحَسَن ٢٢٦

الأئِمَة الإثنَا عَشَر ٢٢٧

لا سُنّة وَلا شِيعَة ٢٢٩

معَ الشِّيعَة الإمَاميَّة ٢٣٣

ضرورَات الدين وَالمذهَب * ٢٣٦

مِن أصُول الإماميَّة * ٢٣٩

لا جَبر وَلا تَفويض * ٢٤٣

٤١٧

الخِلاف لا يمنَع مِن الإنصَاف * ٢٤٧

مِن اجتهَادات الإماميَّة * ٢٤٩

الشيعَة في نظَر الدكتور طهَ حُسين * ٢٥٤

الشِّيعَة في كِتَاب الحضَارة الإسلاميَّة * في القرن الرابع الهجري ٢٥٧

الغلاة في نظَر الإماميَّة * ٢٥٩

الشيعَة في كِتَاب الدّيمقراطيَّة * للاستاذ خالد محمد خالد ٢٦٢

الشّيعَة الإماميَّة * في كِتَاب تاريخ التشريع الإسْلامي ، المقرر للتدريس في الأزهر ٢٧١

افتِراء عَلى الإمَاميَّة * ٢٧٥

الأعْوَر الدّجَّال * ٢٧٦

الشيعَة في رَأي الدكتور عَبد الرحمن بدَوي ٢٧٩

القُرآن الكَريم ٢٨٠

عِلم الحَديث عِندَ الإمَاميَّة * ٢٨٣

الإجمَاع * ٢٨٧

دَليلُ العَقْل * ٢٩٢

الإمَامَة عِندَ الشِّيعَة الإماميَّة ٢٩٨

الإمَام ٣٠١

المنَاجَاة * ٣٠٤

التقيَّة ٣٠٧

الأصْل في الأشيَاء ٣٠٨

هَل يَجبُ على المتَديّن أن يقَلد في أعمَالِه الدّينية ؟ * ٣٠٩

فوَائدُ الصَّوم * ٣١١

كيفَ يَجبُ أن نَفهَم الِعبَادَة * ٣١٢

المتعَة عِندَ الشيعَة الإمَاميَّة * ٣١٦

ضَريبَة الزكَاة عِندَ الإماميَّة * ٣١٨

الضَّرورَة تعفي المضطرّ مِنَ العِقاب * ٣٢٠

٤١٨

اليمين وأحكامها * ٣٢٤

نحوَ فِقْه إسْلامي في أسْلوبٍ جَديد * ٣٢٨

مَعرَكة في الأزهَر * بين المجددين والمحافظين ٣٣٣

هَلْ أبو ذرّ اِشتِراكي ؟ * ٣٣٧

دَرس مِن المَاضِي * ٣٤١

الإسْلام وفكَرة الزّهْد * ٣٤٣

ستّة يعرفونَ بسيماهم * ٣٤٦

العمَامة وَرجَال الدّين * ٣٤٨

يَوم عَاشُورَاء * ٣٥٠

نحْنُ أعدَاء الظُّلم * ٣٥٣

لِمَن العِيد ؟ * ٣٥٥

الجشَع * ٣٥٨

العِلم دين يُدان به * ٣٦١

حَديث رَمضَان * ٣٦٣

العيد * ٣٦٦

كاشِفُ الغطاء الكبير وَالمصَلّون * ٣٧٠

السّيّد محسِن الأمِين * ٣٧٢

الاثنَا عشريَّة وَأهل البيَت (ع) ٣٧٥

آل البَيْت ٣٩١

أمضي عَلى دِين النَّبي ٤٠٨

لَولا التَّفسير الكاشِف ٤١٣

الفهرس ٤١٦

٤١٩