الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان14%

الشيعة في الميزان مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 419

الشيعة في الميزان
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 142439 / تحميل: 9283
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الشيعة في الميزان

تأليف:

محمد جواد مغنية

١

هذا الكتاب

نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنينعليهما‌السلام للتراث والفكر الإسلامي

وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً

قسم اللجنة العلمية في الشبكة

٢

تقديم

بسم اللّه الرحمن الرحيم

والحمد للّه رب العالمين وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين

منذ أكثر من ألف عام، وعلماء الإمامية يكتبون ويذيعون عن عقيدة الاثني عشرية كيلا ينسب إليهم ما ليس لهم به علم، ويستدلون عليها بالنصوص بعد درسها وتمحيصها كيلا يكون لأحد فيها مهمز أو مغمز، ويحرصون كل الحرص أن يكون سندها محل وفاق بين جميع المسلمين، لأن الشرط الأساسي عندهم لمدرك العقيدة أن يكون قطعي السند والدلالة على حد تعبيرهم أي العلم القاطع بصحة السند، ووضوح دلالته وضوحاً لا يقبل الشك والتأويل إذا كان المدرك نقلاً عن المعصوم.. وبرغم هذا الحرص والتشدد قال قائل: كل تشيع من أي نوع كان ويكون فهو رفض أي غلو. وقال آخر: هو زندقة. وتسامح ثالث وتساهل قائلاً: الشيعة كلهم باطنية.

ولا شيء من هذه الأقوال يقوم على أساس غير التقليد والتعصب، لأن الاثني عشرية يعتقدون بأن الغلو شرك، والزندقة إلحاد، وإخفاء العقيدة، والتأويل بلا مبرر من الشرع أو العقل بدعة وضلالة.. وأثبت ذلك بالأرقام في كتاب مع الشيعة الإمامية.

ويبدأ تاريخ الاختلاف بين المسلمين حول الخلافة، يبدأ باليوم الذي انتقل فيه الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الرفيق الأعلى، حيث دان قوم بما حدث في السقيفة كأمر واقع لا مفر منه، أو لا يجوز الخطأ عليه، وأنكروا النص على الولاية بمعنى الخلافة والسلطة مع الاعتراف بولاية أهل البيت على معنى الحب والاحترام، ودان آخرون بنصوص الولاية لآل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله على معنى الخلافة، وأوضحت ذلك مفصلاً في كتاب فلسفة التوحيد والولاية..

وقد اتسع الجدال والنقاش حول الخلافة على مر الزمن، ثم تطور إلى التراشق بالانهامات وخبث الكلمات، ولعبت السلطة الحاكمة دورها في التمزيق والتفتيت، كما هو شأنها في كل جيل. وحاول المصلحون من الفريقين أن يجمعوا ويوحدوا حرصاً على مصلحة الأمة، فخفت الوطأة إلى حد، بخاصة بعد أن تكررت النكبات والعثرات في كل بلد مسلم.

والآن، وبعد أن تراكمت الهزائم والمشكلات عربياً وإسلامياً فماذا نحن صانعون إذا لم ندفن الماضي، وننظر إلى المستقبل الطويل العسير، ونواجه بالعمل الجدي الموحد !؟.. وهذا ما يخافه

٣

ويخشاه العدو المشترك. فأطلق بلسان أبواقه وعملائه صيحات منكرة لإيقاظ الفتنة وكتبوا مقالات مضللة، ونشروا كتباً متخمة بالدس والافتراء لا بأي دافع إلا صالح الاستعمار والصهيونية. فدعاني هذا إلى أن أعرض عقيدة الشيعة، وبخاصة الفرقة الكبرى الاثني عشرية، أعرضها على حقيقتها، وأدرسها دراسة تفصيلية في ثلاثة مؤلفات هي: «الشيعة والتشيع» و«مع الشيعة الإمامية» و«الاثنا عشرية» وكان لها، ولما كتبه غيري في هذا الموضوع من علمائنا - أحسن الأثر، بالخصوص عند مشايخ الأزهر، وفتوى المرحوم الشيخ محمود بجواز التعبد والأخذ بالمذهب الجعفري - أشهر من أن تذكر.

لقد أقبل القراء على كتاب مع الشيعة الإمامية، وأعيد طبعه بعد خمسة أشهر من الطبعة الأولى، كما أقبلوا على كتاب الشيعة والتشيع والاثني عشرية. ونفدت كل النسخ، ولما كثر الطلب على هذه الكتب الثلاثة رغبت إلى صديقي الكريم الأستاذ محمد المعلم صاحب «دار الشروق» بأن ينشرها في مجلد واحد بعنوان «الشيعة في الميزان» فاستجاب وتبنى المشروع، لأنه يتناول عرضاً شاملاً لعقيدة تكاد تكون مجهولة للكثير من الخاصة فضلاً عن العامة، ونزولاً عند رغبة القراء ورغبتي. فشكراً للّه وله، وهو سبحانه المسؤول أن يأخذ بيده وإياي لما يحب ويرضى. والصلاة على محمد وآله معدن التقى والعروة الوثقى.

٤

الشِّيعةُ والتَّشَيُّع

مقدّمة

بسم اللّهِ الرَحمن الرَحيم

والحمد للّه رب العالمين، وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله الطاهرين

وبعد:

فان هذه الصفحات ليست استئنافاً للحملات التي قدتها ضد الانتهازيين والمفترين.. ولا بحثاً انتقادياً، او تأملاً فلسفياً، وانما هي عرض لعقائد الشيعة، مع اقامة الدليل على ان ما من شيء في عقيدتهم الا وله مصدر متسالم على صحته عند اهل السنة، حتى عدد الأئمة وحصرهم ب ١٢ إِماماً، وحتى العصمة والتقية والجفر وفكرة المهدي المنتظر، وغيرها.

واشرت الى اهم دولهم كالفاطميين والبويهيين والحمدانيين والصفويين، وما لهم من آثار قائمة، حتى اليوم، للدلالة على مساهمة الشيعة في الحضارة الاسلامية مساهمة فعالة، وترجمت لكل واحد من الأئمة الاثني عشر (ع) ترجمة مختصرة، ربما أغنت عن كثير من المطولات، كما ذكرت الفوارق بين السنة والشيعة، واعتمدت لاكثر ما كتبت على مصادر أهل السنة، والكتب الصحاح عندهم، وتركت اشياء تتصل بموضوع الكتاب، لاني كنت قد ذكرتها في بعض مؤلفاتي السابقة، وبخاصة كتاب «مع الشيعة الإمامية» وكتاب «الشيعة والحاكمون».

وقد لا يصدق القارئ اذا قلت: ان هذه الصفحات هي ثمرة البحث الحر، دون أن أتأثر بأية نزعة شخصية، او فكرة مذهبية.. لذا ادع الحكم له وحده، ولا اقطع عليه الطريق بالحمد والثناء على ما كتبت.

ولكن هل يستطيع الانسان ان يتجرد عن وضعه وتربيته وعقيدته التي نشأ واستمر عليها شاباً وكهلاً ؟..

كلا.. ولكن ليس من الضروري ان تكون كل عقيدة باطلة، ولا كل تربية فاسدة.. بل قد وقد.. وتعرف الحقيقة حين تعرض على محك العقل، والجدل المنطقي العلمي، وهذا ما أريد من القارئ ان يعرفه ويتنبه اليه، فانا لا ادعي التحرر، ولكني أطلبه من القارئ. على ان ينظر الى عقيدة التشيع من خلال الإسلام، وعلى ضوء كتاب اللّه وسنّة نبيه. لا من خلال عقله.. لان

٥

العقل مهما سما يظل مقصراً عن ادراك كثير من الحقائق الإلهية. ككيفية الصلاة، وعدد الركعات، والهرولة في الحج، ورمي الجمار، وما الى ذاك.

وتقول: اراك تهتم كثيراً بامر الشيعة والتشيع، فهل فرغنا من مشاكل الحياة، ولم يبق الا التعريف بهذه الطائفة وصحة ما تدين به وتعتقد ؟. او ان هذا اهم واجدى ؟..

اجل، ان المشاكل التي نعانيها لا تتصل في واقعها بقضية التشيع والتسنن من قريب او بعيد، بل ان حديث هذه القضية والاهتمام بها يزيد المشاكل تعقيداً، ويجعلها مستحيلة او عسيرة الحل، وهذا ما يريده لنا المستعمرون والصهاينة، اعداء الدين والوطن، انهم يريدون ان نتلهى بالمشاحنات والنعرات الطائفية، ليعزلونا عن الحياة، ويخلو لهم الجو.. ويظهر أن لهم جهازاً ضخماً.. يعرف مداه من قرأ كتاب «الخلافة» للنبهاني، وكتاب «ابو سفيان» للحفناوي، وكتاب «الخطوط العريضة» لمحب الدين الخطيب، ومجلة «التمدن الاسلامي» التي تصدر بدمشق، والنشرات المتتابعة التي يصدرها «انصار السنة» بالقاهرة، ومقال الجبهان في مجلة «راية الاسلام» السعودية عدد ربيع الآخر سنة ١٣٨٠ هجري، وغيرها وغيرها..

لقد دأب هذا الجهاز - في تآليفه ونشراته - على مهاجمة الشيعة، وتصويرهم كطائفة ملحدة مجرمة تكيد للاسلام والمسلمين.. والغرض الاول هو تنفيذ «الخطوط العريضة» التي رسمها الاستعمار لايقاظ الفتنة، واشاعة الفرقة بين المسلمين..

فرأيت من واجبي أن أنبه الأفكار إلى مقاصد هذا الجهاز الفاسد وأهدافه، واقطع الطريق عليه بالكشف عن عقيدة الشيعة، مع الاشارة الى شيء من تاريخهم، ليتبين للناس المزاعم الكاذبة التي لفقها أولئك المأجورون.

وبديهة ان الشيعة ليسوا من القبائل البائدة التي خيم الظلام عليها وعلى آثارها، حتى يُتقول عليهم بالحدس والتخمين.. فهذه بلادهم منتشرة في شرق الارض وغربها، ومؤلفاتهم العقائدية وغيرها تغص بها المكتبات العامة والخاصة، اما علماؤهم فلا يبلغهم الاحصاء، وهم يرحبون بكل من يريد جدالهم ونقاشهم بالحكمة والمنطق.. اذن يستطيع طالب الحقيقة ان يعرف عقيدة الشيعة من كتبهم وعلمائهم دون الرجوع إلى كتابي هذا.. ومع ذلك فقد عرضت عقائدهم بأسلوبي الواضح الذي يقتصر على الجوهر واللباب، ولا يتكلف الزخرف والتزويق، كي لا يبقى عذر لمعتذر بعدم التفهم للعبارات المطولة المعقدة.

هذا، الى ان من يقرأ هذه الصفحات بتأمل وامعان يتبين له انها تهدف اول ما تهدف الى

٦

الاخذ والعمل بمبادئ الاسلام وتعاليمه، واذا اهتمت بالتشيع فانما تهتم به لانه من الاسلام في الصميم بنص القرآن الكريم، والسنة النبوية، بل هو ركن من اركانه برواية الصحابي الجليل ابي سعيد الخدري. وبالتالي، فاني من الذين يؤمنون ان المستقبل للحب والاخاء الانساني، وان روح التعصب آخذة بالزوال يوماً بعد يوم، حتى لا يبقى لها عين ولا أثر - ان شاء اللّه - وعندها لا يجد الانتهازيون وتجار الطائفية مجالاً للدس والتخريب.

واللّه سبحانه المسؤول ان يستعملنا في مرضاته انه ارحم الراحمين، وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين.

٧

التشيّع

هل التشيع فكرة ابتدعها الشيعة من انفسهم، ثم طبعوها بطابع الدين، وصبغوها بالاسلام تمويهاً ورياءً لغايات سياسية، لا تمت الى الاسلام بسبب قريب او بعيد، او ان التشيع عقيدة اسلامية، جاءت من عند اللّه، وبلغها محمد بن عبد اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، تماما كوجوب الصوم والصلاة، والحج والزكاة؟ وبكلمة هل الاسلام اصل للتشيع، او ان اصل التشيع اجنبي عن الاسلام؟

وقبل ان نجيب عن هذا التساؤل نمهد بما يلي:

اسباب المعرفة:

مهما اختلف المفكرون في اسباب المعرفة، وانها التجربة او العقل أو الحدس فانهم متفقون كلمة واحدة على ان السبب الوحيد لمعرفة آراء الغير ومعتقداته هي اقواله وتصريحاته.. فاذا اردنا ان نعرف ما تدين وتعتقد به طائفة من الطوائف الدينية، ونتحدث عن عقيدتها فعلينا ان نسند الحديث الى اقوالها بالذات، الى كتب العقائد المعتبرة عندها، ولا يسوغ بحال الاعتماد على قول كاتب او مؤلف بعيد عنها ديناً وعقيدة، لأن هذا البعيد قد يكون جاهلاً متطفلاً، فيحرف الواقع عن غير قصد، او حاقداً متحاملاً، فيفتري بقصد التنكيل والتشهير، او خائناً مستأجراً فيكذب ويدس بقصد التفرقة وايقاظ الفتنة.. بل لا يجوز الاعتماد على اقوال راوٍ او كاتب من ابناء الطائفة نفسها اذا لم تجتمع كلمتها على الثقة بمعرفته وعلمه، فان الكثيرين ممن كتبوا عن طائفتهم وعقائدها قد تجافوا عن الواقع، وخبطوا خبط عشواء، ورفض الكبار من علماء الطائفة اقوالهم، وصرحوا بضعفها وعدم الاعتماد عليها.

وكذا لا يصح الاعتماد على العادات والتقاليد المتبعة عند العوام، لان الكثير

منها لا يقره الدين الذي ينتمون اليه، حتى ولو ايدها وساندها شيوخ يتسمون بسمة الدين، وأوضح مثال على ذلك ما يفعله بعض عوام الشيعة في بعض مدن العراق، وايران وفي بلدة النبطية في جنوب لبنان من لبس الاكفان، وضرب الرؤوس والجباه بالسيوف في اليوم العاشر من محرم. فان هذه البدعة المشينة حدثت في عصر متأخر من عصر الأئمة، وعصر كبار العلماء من الشيعة، وقد احدثها لانفسهم اهل الجهالة دون أن يأذن بها إِمام أو عالم كبير، وأيدها شيوخ السوء، لغاية الربح والتجارة.. وسكت عنها من سكت خوف الاهانة والضرر او فوات المنفعة والمصلحة، ولم يجرؤ على مجابهتها ومحاربتها احد في ايامنا الا قليل من العلماء، وفي طليعتهم المرحوم السيد محسن الأمين العاملي الذي ألف رسالة خاصة في تحريمها وبدعتها، واسمى الرسالة

٨

«التنزيه لاعمال الشبيه»، وقاومه من أجلها اهل الخداع والاطماع.

كتب العقائد عند الشيعة:

وكتب العقائد المعتبرة عند الشيعه كثيرة، ومطبوعة تتداولها الأيدي، وتعرض للبيع في مكتبات العراق وايران، نذكر منها على سبيل المثال: اوائل المقالات، والنكت الاعتقادية للشيخ المفيد، والشافي للشريف المرتضى، والعقائد للشيخ الصدوق، وشرح التجريد، وكشف الفوائد للعلامة الحلي، والجزء الأول من اعيان الشيعة ونقض الوشيعة للسيد محسن الامين، وأصل الشيعة وأصولها للشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، والفصول المهمة والمراجعات للسيد عبد الحسين شرف الدين، ودلائل الصدق للشيخ محمد حسن المظفر.

وبالتالي، نكرر - هنا - ما قلناه اكثر من مرة في ردودنا ومؤلفاتنا، وما اعلنه المعتمد عليهم من علمائنا، ان الشيعة لا يقرون ولا يعترفون بشيء مما قيل عن عقيدتهم، اذا لم تتفق مع ما جاء في الكتب المعتبرة عندهم. سواء أكان القائل مستشرقاً او عربياً، سنياً أو شيعياً، متقدماً أو متأخراً.

معنى التشيع:

لم يكن للعرب وحدة سياسية قبل الاسلام، فكل قبيلة تحكم نفسها، وكل مدينة لا تعرف لغيرها سلطاناً عليها، وبعد الاسلام اوجد النبي سلطة عامة

خضع لها جميع العرب، ومارس هو السلطة بكافة معانيها: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، فكان يبين الاحكام والحلال والحرام، ويقود الجيش، ويخابر الملوك، ويعقد المعاهدات، ويقضي بين الناس، ويقيم الحدود، وقد ربط القرآن الكريم هذه السلطات بشخص الرسول، ففي الآية ٦ من سورة الأحزاب: «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم» وفي الآية ٣٦ من السورة نفسها: «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللّه ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم» وفي الآية ٧ من سورة الحشر: «وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا» وغيرها كثير.

واتفق المسلمون بكلمة واحدة على ان السلطة الزمنية والدينية التي كانت للرسول تعطى لخليفته، ثم اختلفوا فيما بينهم: هل يعين الخليفة بالنص عليه من النبي، او يترك الامر فيه الى اختيار الامة؟. قال الشيعة: ان الخليفة يتعين بالنص لا بالانتخاب، أي ان اللّه سبحانه يأمر النبي ان يبلغ المسلمين بانه قد اختار (فلاناً) خليفة بعده، وان عليهم ان يسمعوا له ويطيعوا، وقد صدر هذا النص بالفعل من النبي على علي بن أبي طالب.

٩

هذا هو التشيع، وهكذا ابتدأ ونشأ دون ان يضاف اليه أي شيء آخر.. اما المغالاة في علي وصفاته أو تكفير خصومه السياسيين وما الى ذاك فلا يمت الى التشيع بسبب.. والذي يدلنا على ان لفظ الشيعة علَم على من يؤمن بأن علياً هو الخليفة بنص النبي ما قاله فقهاء الإمامية في كتب التشريع من انه اذا اوصى رجل بمال للشيعة، او وقف عقاراً عليهم يعطى لمن قدم علياً في الإمامة على غيره بعد النبي، ولا يعطى للمغالين (كتاب المسالك للشهيد الثاني ج ١ باب الوقف).

وبالتالي، إن التشيع في حقيقته وجوهره يتلخص بهذه الكلمة، وهي الإيمان بأن الإمام المنصوص عليه يتولى الحكم، ويحكم بإرادة اللّه لا بإرادة الناس، وقد أنكر السنة عليهم ذلك، وبالغوا في الإنكار، حتى قال بعض المؤلفين: إن هذه العقيدة نزعة فارسية استقاها الشيعة من الفرس..

ونجيب بانها اسلامية بحت، لا شائبة فيها لغير الاسلام، وقد أُخذت من كتاب اللّه وسنة نبيه، كما يظهر من الادلة الآتية. وإذا اخذ الشيعة هذه النزعة من الفرس. فمن اين اخذ عثمان بن عفان قوله - حين طلب اليه ان يتخلى عن

الخلافة - «ما كنت لاخلع قميصاً قمصنيه اللّه». وقال ايضاً: «لان اقدم فتضرب عنقي احب من ان انزع سربالاً سربلنيه اللّه».

يجوز ان تكون الخلافة قميصاً بل سربالاً من اللّه لعثمان، ولا يجوز ان تكون حقاً الهياً لعلي. ثم أي فرق بين قول عثمان هذا، وقول الشيعة بان الخلافة منصب الهي امرها بيد اللّه لا بيد الناس؟.. ولماذا كان قول الشيعة نزعة اجنبية، وقول عثمان نزعة اسلامية؟..

من ادلة الشيعة:

استدل الشيعة على ان الخلافة تكون بالنص لا بالانتخاب بادلة:

منها: أن الخليفة يحكم باسم اللّه لا باسم الشعب، فيجب والحال، ان يُختار من اللّه بلسان نبيه، لا من الشعب بطريق الانتخاب.

ومنها: قوله تعالى في الآية ٦٨ من سورة القصص: «وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة». فاللّه سبحانه حصر الاختيار به، ونفاه عن جميع الناس. (دلائل الصدق ج ٣ ص ٢١ طبعة ١٩٥٣).

ومنها: أن الأكثرية غير معصومة عن الخطأ، فمن الجائز أن تختار رجلاً لا تتوافر فيه صفات

١٠

الإمام من العلم والخلق، فتعم الفوضى والفساد. وقد نص القرآن على سقوط رأي الأكثرية في الآية ١١٦ من سورة الانعام: «وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل اللّه». وفي الآية ١٠٦ من سورة المائدة: «وأكثرهم لا يعقلون». وفي الآية ٧١ من سورة المؤمنون: «وأكثرهم للحق كارهون». وغيرها من الآيات (كتاب فدك للصدر ص ١١٣ طبعة ١٩٥٥. وج ٤ من كتاب الميزان في تفسير القرآن للطباطبائي ص ١٠٩ طبعة سنة ١٣٧٦هجري).

وجاء في الحديث النبوي ان محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله يرى يوم القيامة اكثر امته تدخل النار. وحين يسأل عن السبب يقال له: انهم ارتدوا بعدك على ادبارهم القهقرى (كتاب الجمع بين الصحيحين. الحديث ٢٦٧).

واهل السنة الذين قالوا: ان الخليفة يكون بالانتخاب لا بالنص يعترفون بان الاكثرية قد تخطئ، وتختار غير الكفوء، لكن بعضهم قال: اذا انحرف الخليفة، عزلناه، وأتينا بالأصلح.. واعلن ابو بكر من على المنبر قائلاً: «اذا استقمت

فأعينوني، واذا زغت قوِّموني». واجاب الشيعة عن ذلك بان وظيفة الإمام ان يقوّم المعوج من رعيته، فاذا قومته الرعية انعكست الآية، واصبح محكوماً، والرعية هي الحاكمة، قال الشاعر الشيعي١:

وقالوا رسول اللّه ما اختار بعده

إِماماً ولكنا لأنفسنا اخترنا

أقمنا إماماً إن أقام على الهدى

أطعنا وإن ضل الهداية قوّمنا

فقلنا إذن أنتم امام إِمامكم

بحمدٍ من الرحمن تهتم وما تهنا

ولكننا اخترنا الذي اختار ربنا

لنا يوم خم ما اعتدينا ولا حلنا

يسخر الشاعر من قولهم: انهم يطيعون الامام ان استقام، ويقوِّمونه إن اعوج، ويرد عليهم بانهم اصبحوا هم الإمام، وهو المأموم.

أصل التشيع:

من الذي جاء بالتشيع، وحمل الناس عليه؟ وهل يرجع الى اصل من اصول الاسلام، ومصدر من مصادره كآية من كتاب اللّه، أو رواية من السنة النبوية؟

وقد أجاب الشيعة عن ذلك إجابة حاسمة وواضحة، وأثبتوا بالأرقام من أقوال أهل السنة، وكتبهم الصحاح أن النبي هو الذي بعث عقيدة التشيع، وأوجدها، ودعا إلى حب علي وولائه، وأول من أطلق لفظ الشيعة على أتباعه ومريديه، ولولاه لم يكن للشيعة والتشيع عين ولا أثر.

١١

قال العلامة الحلي في كتاب «نهج الحق»: ذكر الإمام احمد بن حنبل في مسنده، والثعالبي في تفسيره انه لما نزلت الآية ٢١٤ من سورة الشعراء: «وانذر عشيرتك الاقربين» جمع النبي من أهل بيته ثلاثين، فاكلوا، وشربوا، ثم قال لهم: من يضمن عني ديني ومواعيدي، ويكون خليفتي، ومعي في الجنة؟ قال علي: أنا. فقال له: انت.

ونقل الشيخ محمد حسن المظفر في كتاب دلائل الصدق ج ٢ ص ٢٣٣ عن كتاب كنز العمال ج ٦ ص ٣٩٧ أن النبي قال لعشيرته: قد جئتكم بخير الدنيا

_________________________

١ - دلائل الصدق ج ٢ ص ٢٥ طبعة سنة ١٩٥٣، وهذا الشاعر هو سفيان بن مصعب العبدي، قال السيد محسن الأمين: كان من أصحاب الإمام جعفر الصادق، وتوفي في حدود سنة ١٢٠ هجري (اعيان الشيعة، القسم الثاني من الجزء الأول ص ١٦٦ طبعة سنة ١٩٦٠ ).

١٢

والآخرة، وقد أمرني ربي أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على أمري هذا؟ قال علي: أنا يا نبي اللّه أكون وزيرك عليه فأخذ النبي برقبته، وقال: إن هذا أخي، ووصيي،وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا. فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع وتطيع لولدك علي(١)

وبهذه المناسبة ننقل ما ذكره الاديب المصري عبد الرحمن الشرقاوي في كتاب «محمد رسول الحرية»، قال في ص ٨٠ الطبعة الاولى:

«ورأى محمد أن يجمع أسرته من بني عبد المطلب، ويدعوهم إلى الإيمان بما جاء به، فليس أحب إليه من عشيرته. وأولم لهم في بيته، وبدأ يتكلم. وبدأوا كلهم يسمعون لمحمد، وهو يحدثهم عما جاء به. ولكن أحداً لم يستجب إليه: إلا علي بن أبي طالب. هو وحده الذي انتفض يؤكد أنه سينصر محمداً بسيفه. وضحك من الاستخفاف بعض الكبار، فقد كان علي هذا أصغر الحاضرين، كان اذ ذاك ما يزال فتى صغير السن، تتقدم به سنه الى أول الشباب، ولكن محمداً لم يستخف بحماسة علي، فقد قام اليه، فعانقه وبكى».

وقال الأميني في الجزء الأول من كتاب «الغدير»(٢) ص ٩ طبعة ١٣٧٢ هجري: بعد أن رجع النبي من حجة الوداع، وهي الحجة التي لم يلبث بعدها الا قليلاً، ووصل الى غدير خم جمع الناس، وخطبهم وقال فيما قال:

ان اللّه مولاي، وانا مولى المؤمنين، وانا اولى بهم من انفسهم، فمن كنت مولاه فعلي مولاه يقولها ثلاث مرات، ثم قال: اللهم والِ من والاه، وعاد من عاداه، واحب من احبه، وابغض من بغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وادر الحق معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب.

ثم ذكر الاميني من رواة هذا الحديث ١٢٠ صحابياً ، و ٨٤ تابعياً، اما

___________________

(١) ذكر هذا الحديث محمد حسين هيكل في كتاب «حياة محمد» طبعة أولى، ثم حذفه في الثانية لقاء ٥٠٠ جنيه، ودليلنا المقابلة بين الطبعتين. انظر التعليق ص ١١٤ من «أعيان الشيعة» ج ١ قسم ١ طبعة ١٩٦٠

(٢) هذا الكتاب للشيخ عبد الحسين الأميني، وقد بلغ ١٢ مجلداً ضخماً، جمع فيه النصوص على خلافة علي من طرق السنة ورواياتهم عن النبي، وقد بلغت المئات، وطبع الكتاب أكثر من مرة في طهران، والمؤلف من علماء الشيعة في هذا العصر ومحل ثقة الجميع واحترامهم.

١٣

طبقات رواته من أئمة الحديث واساتذته فقد بلغوا ٣٦٠، وبلغ المؤلفون في حديث الغدير من السنة والشيعة ٢٦ مؤلفاً.

وقد اعتبر الشيعة حديث الغدير هذا نصاً بخلافة علي بعد النبي، ومن هنا اهتموا به هذا الاهتمام البالغ، واهل السنة يعترفون بصحة هذا الحديث، ويقولون بصدوره عن النبي، ولكنهم أوَّلوا الولاء بالحب والاخلاص، لا بالحكم والسلطان، فحديث «من كنت مولاه فعلي مولاه» أشبه عندهم بحديث «يا علي لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق» وغيره من الأحاديث الدالة على مكانة أهل البيت وعلو شأنهم، والحب وعلو الشأن شيء، والنص على الخلافة شيء آخر.

وأجاب الشيعة عن ذلك بأن قول النبي أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعلي مولاه يدل بصراحة ووضوح على أن نفس ولاية النبي الدينية والدنيوية هي بعينها قد جعلها النبي لعلي بعده، إذ جعل علياً نظير نفسه في أنه أولى بهم من أنفسهم، ولا شيء سوى ذلك، ولو كان للفظ المولى ألف معنى ومعنى.

لفظ الشيعة:

وكما أثبت الشيعة من كتب السنة وأقوالهم أن النبي هو الذي بعث عقيدة التشيع ودعا اليها أثبتوا أيضاً من طرق السنة أن النبي أول من أطلق لفظ الشيعة على من احب علياً وتابعه، قال الشيخ محمد حسين المظفر في كتاب «تاريخ الشيعة» ص ٥ طبع النجف:

جاء في كتاب الصواعق المحرقة لابن حجر وفي كتاب النهاية لابن الأثير، ان النبي قال: يا علي انك ستقدم على اللّه انت وشيعتك راضين مرضيين.

وجاء في الدر المنثور للسيوطي ان النبي قال: ان هذا - واشار الى علي - وشيعته لهم فائزون يوم القيامة.

ثم قال صاحب «تاريخ الشيعة»: فكانت الدعوة الى التشيع لعلي من محمد تمشي منه جنباً لجنب مع الدعوة الى شهادة لا إله الا اللّه محمد رسول اللّه.

وبهذا يتبين معنا ان المصدر الاول والاخير للشيعة والتشيع هو النبي دون سواه، فان كان التشيع هو السبب لتمزيق المسلمين وتفريق كلمتهم كما زعم

بعض السنة فالمسؤول عن ذلك هو النبي وحده دون سواه.

١٤

الشعر:

وكان لأحاديث الشيعة والتشيع أثر ظاهر في أشعار الصحابة، نقل طرفاً منها الشريف المرتضى في كتاب «العيون والمحاسن»(١) والشيخ الاميني في كتاب «الغدير». من ذلك ما جاء في ج ١ ص ١١ و ج ٢ ص ٣٩ من كتاب الغدير ان حسان بن ثابت قال للنبي بعد ان اعلن قوله من كنت مولاه فعلي مولاه: ائذن لي يا رسول اللّه ان اقول في علي ابياتاً تسمعهن، فقال له النبي: قل على بركة اللّه، فقام حسان، وقال: يا معشر مشيخة قريش، اتبعها قولي بشهادةٍ من رسول اللّه في الولاية:

يناديهم يوم الغدير نبيهم

بخم واسمع بالنبي مناديا

وقد جاء جبريل عن أمر ربه

بأنك معصوم فلا تك وانيا

وبلغهم ما أنزل اللّه ربهم

إليك ولا تخشَ هناك الأعاديا

فقام به إذ ذاك رافع كفه

بكف علي معلن الصوت عاليا

فقال فمن مولاكم ووليكم

فقالوا ولم يبدوا هناك تعاميا

إلهك مولانا وأنت وليّنا

ولن تجدن فينا لك اليوم عاصيا

فقال له قم يا علي فإنني

رضيتك من بعدي إِماماً وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه

فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا اللهم وال وليّه

وكن للذي عادى علياً معاديا

فيا رب انصر ناصريه لنصرهم

امام هدى كالبدر يجلو الدياجيا

وفي ج ٢ ص ٦٧ من كتاب «العيون والمحاسن» أن خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين صاحب رسول اللّه، قال:

إذا نحن بايعنا علياً فحسبنا

أبو حسن مما نخاف من الفتن

وجدناه أولى الناس بالناس انه

أطب قريش بالكتاب وبالسنن

وإن قريشاً لا تشق غباره

إذا ما جرى يوماً على الضمر البدن

____________________

(١) هذا الكتاب جمعه الشريف المرتضى من أقوال استاذه الشيخ المفيد، وطبع في النجف سنة ١٩٣٧ باسم الفهرست خشية ان تمنعه السلطة يومذاك لو طبع باسمه الحقيقي.

١٥

وصي رسول اللّه من دون أهله

وفارسه قد كان في سالف الزمن

وأول من صلى من الناس كلهم

سوى خيرة النسوان واللّه ذو المنن

وصاحب كبش القوم في كل وقعة

يكون لها نفس الشجاع لدى الذقن

فذاك الذي تثني الخناصر باسمه

امامهم حتى أغيب في الكفن

وفي الكتاب المذكور أن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب قال عندما بويع أبو بكر:

ما كنت أحسب أن الأمر منتقل

عن هاشم ثم منها عن أبي حسن

أليس أول من صلى لقبلتهم

واعلم الناس بالآيات والسنن

وآخر الناس عهداً بالنبي ومن

جبريل عون له في الغسل والكفن

ماذا الذي ردكم عنه فنعلمه

ها ان بيعتكم من أول الفتن

وقال عبد اللّه بن سفيان بن الحرث بن عبد المطلب:

وكان ولي الأمر بعد محمد

علي وفي كل المواطن صاحبه

وصي رسول اللّه حقاً وجاره

وأول من صلى ومن لان جانبه

وقال الصحابي جرير بن عبد اللّه البجلي:

فصلى الإله على أحمد

رسول المليك تمام النعم

وصلى على الطهر من بعده

خليفتنا القائم المدعم

علياً عنيت وصي النبي

يجالد عنه غواث الأمم

وقال عبد الرحمن بن حنبل:

لعمري لئن بايعتم ذا حفيظة

على الدين معروف العفاف موفقا

عفيفاً عن الفحشاء أبيض ماجداً

صدوقاً وللجبار قدماً مصدقا

أبا حسن فارضوا به وتبايعوا

فليس كمن فيه لذي العيب منطقا

علي وصي المصطفى ووزيره

وأول من صلى لذي العرش واتقى

وهذا الشاعر الصحابي هو الذي قال في عثمان بن عفان(١) :

واحلف باللّه جهد اليمين

ما ترك اللّه أمراً سدى

ولكن جعلت لنا فتنة

لكي نبتلي بك أو تبتلى

____________________

(١) كتاب «الاستيعاب» ج ٢ ص ٤٠٧ طبعة ١٩٣٩

١٦

دعوت الطريد فأدنيته

خلافاً لما سنه المصطفى

ووليت قرباك أمر العباد

خلافاً لسنة من قد مضى

وأعطيت مروان خمس الغنى

-مة آثرته وحميت الحمى

وفي الجزء الثاني من كتاب «الغدير» ص ٦٧ أن الصحابي قيس بن سعد بن عبادة قال:

وعلي إمامنا وإمام

لسوانا أتى به التنزيل

يوم قال النبي من كنت مولا

ه فهذا خطب جليل

إنما قاله النبي على الأمة

حتم ما فيه قال وقيل

وفي كتاب «أمير المؤمنين علي بن أبي طالب» لكاظم آل نوح سنة ١٣٧٤ هجري ص ٤٣: نقلاً عن جمهرة الخطب أن سعيد بن قيس الهمداني كان يرتجز يوم صفين بقوله:

هذا علي وابن عم المصطفى

أول من أجابه لما دعا

هذا الإمام لا يبالي من غوى

وفي الكتاب المذكور ص ٤٤ أن الفضل بن أبي لهب قال:

الا إن خير الناس بعد محمد

مهيمنه التاليه في العرف والنكر

وخيرته في خيبر ورسوله

تبيد عهود الشرك فوق أبي بكر

وأول من صلى وصنو نبيه

وأول من أردى الغواة لدى بدر

فذاك علي الخير من ذا يفوقه

أبو حسن حلف القرابة والصهر

وفي صفحة ٤٥ نقلاً عن كتاب «صفين» لنصر بن مزاحم أن زفر بن زيد بن حذيفة الأسدي قال يوم صفين:

فحوطوا علياً فانصروه فانه

وصيي وفي الإسلام أول أول

وان تخذلوه والحوادث جمة

فليس لكم عن أرضكم متحول

وفي كتاب «أمالي الشيخ المفيد» ص ٩١، منشورات المطبعة الحيدرية بالنجف:

إن علي بن أبي طالب لما بلغه مسير طلحة والزبير لحربه خطب في الناس، وقال بعد أن حمد اللّه وأثنى عليه:

أما بعد، فإن اللّه تبارك وتعالى لما قبض نبيه قلنا نحن أهل بيته وعصبته

وورثته وأولياؤه أحق خلائق اللّه به، لا ننازع حقه وسلطانه، فبينما نحن على ذلك إذ نفر

١٧

المنافقون، فانتزعوا سلطان نبينا منا، وولوه غيرنا. وايم اللّه لولا مخافة الفرقة من المسلمين أن يعودوا إلى الكفر، ويعود الدين لكنا قد غيرنا ذلك ما استطعنا، وقد ولي ذلك ولاة مضوا لسبيلهم، ورد اللّه الأمر إليّ، وقد بايعني طلحة والزبير، ثم نهضا إلى البصرة ليفرقا جماعتكم، ويلقيا بأسكم بينكم، اللهم فخذهما لغشهما هذه الأمة، وسوء نظرهما للعامة.

فقام الصحابي بو الهيثم بن التيهاني، وقال: يا أمير المؤمنين إن حسد قريش إياك على وجهين: أما خيارهم فحسدوك منافسة في الفضل، وارتفاعاً في الدرجة، وأما شرارهم فحسدوك حسداً أحبط اللّه به أعمالهم، وأثقل أوزارهم، وما رضوا أن يساووك، حتى أرادوا أن يتقدموك، فبعدت عليهم الغاية، وأسقطهم المضمار، وكنت أحق قريش بقريش، نصرت نبيهم حياً، وقضيت عنه الحقوق ميتاً، واللّه ما بغيهم إلا على أنفسهم، ونحن أنصارك وأعوانك، فمرنا بأمرك ثم انشأ:

إن قوماً بغوا عليك وكادوا

ثم عابوك بالأمور القباح

ليس من عيبها جناح بعوض

فيك حقاً ولا كعشر جناح

أبصروا نعمة عليك من اللّه

وقرماً يدق قرن النطاح

وإماماً تأوي الأمور إليه

ولجاماً يلين غرب الجماح

كلٍ ما تجمع الامامة فيه

هاشمياً له عراض البطاح

حسداً للذي أتاك من اللّه

وعادوا إلى قلوب قراح

ونفوس هناك أوعية البغض

على الخير للشفاء شحاح

من مسر يكنه حجب الغيب

ومن مظهر العداوة لاح

يا وصي النبي نحن من الحق

على مثل بهجة الاصباح

فخذ الاوس والقبيل من الخز

رج بالطعن والوغى والكفاح

ليس منا من لم يكن لك في اللّه

ولياً على الهدى والفلاح

فاشعار الصحابة والأحاديث النبوية تدل دلالة واضحة على أن التشيع بمعنى وجود النص على علي بالخلافة بعد النبي بلا فاصل كان موجوداً في عهد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله

١٨

الأصْحَابُ والتّشيّع

ذكر ابن أبي الحديد في «شرح النهج»، والسيد محسن الأمين في الجزء الثاني من «الأعيان»، وكرد علي في «خطط الشام»، والسيد حيدر الآملي في «الكشكول فيما جرى على آل الرسول»

ذكر هؤلاء وغيرهم أن جماعة من أصحاب رسول اللّه كانوا يدينون بالتشيع، ويعتقدون أن النبي نص على علي باسمه، وعيّنه خليفة على المسلمين من بعده، وجعله أولى بالناس من أنفسهم، ثم دكروا أسماء هؤلاء الأصحاب.

ولا شيء أقرب إلى التصديق من هذا القول، لأن مقياس الصدق لأقوال المؤرخين وغيرهم هو الواقع، فإن كان ما يدل عليه وجب القبول، وإلا وجب الرد. وتشيع جماعة من الأصحاب لعلي أمر طبيعي، وحقيقة يفرضها الواقع بعد أن كان النبي هو الباعث الأول لهذه العقيدة، كما قدمنا. وليس من المعقول أن ينقض جميع الأصحاب عهد نبيهم، ويخالفوا بكاملهم ما جاءهم به من البينات.

وأيضاً ليس من المعقول أن يتشيع جماعة من الأصحاب، ثم لا يظهر أي أثر لتشيعهم، بخاصة بعد أن صرفت الخلافة عن علي إلى غيره، ومن هنا رأينا هؤلاء الأصحاب يؤلفون حزباً مناهضاً لبيعة أبي بكر وخلافته.

قال السيد محسن الأمين في القسم الأول من الجزء الثالث «لأعيان الشيعة» ص ٣٠٨ وما بعدها طبعة ١٩٦٠(١) :

____________________

(١) يعتمد المؤلف هنا على تاريخ الطبري، والإمامة والسياسة لابن قتيبة، وعلى ارشاد المفيد واحتجاج الطبرسي.

١٩

«انقسم الناس بعد وفاة النبي أحزاباً خمسة:

١ - حزب سعد بن عبادة رئيس الخزرج من الأنصار.

٢ - حزب أبي بكر وعمر، ومعهما جل المهاجرين.

٣ - حزب علي، ومعه بنو هاشم، وقليل من المهاجرين، وكثير من الأنصار الذين قالوا: لا نبايع إلا علياً، كما جاء في تاريخ الطبري.

٤ - حزب عثمان بن عفان من بني أمية ومن لف لفيفهم.

٥ - حزب سعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن من بني زهرة.

ومال قسم كبير من الأنصار مع حزب أبي بكر وعمر، فقوي حزبهما، واضطر عثمان، وحزب ابن أبي وقاص أن يبايعوا أبا بكر، وبقي حزب علي هو المعارض الوحيد، وحاول أبو سفيان أن يستغل الموقف، ويساوم أبا بكر، فجاء إلى علي وقال:

بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم

ولا سيما تيم بن مرة أو عدي

فما الأمر إلا فيكم وإليكم

وليس لها إلا أبو حسن علي

أما واللّه لو شئتم يا بني هاشم لاملأنها عليهم خيلاً ورجالاً، فناداه علي ارجع يا أبا سفيان، فواللّه ما تريد اللّه بما تقول، وما زلت تكيد للإسلام وأهله.

ولما سمع أبو بكر تهويش أبي سفيان أسند بعض الوظائف لولده، فرضي وسكت، بل دعا للخليفة بالتوفيق والنجاح.

واجتمع ١٢ رجلاً من حزب علي، وتشاوروا بينهم في إنزال أبي بكر عن منبر الرسول، فقال قائل منهم: استشيروا علياً قبل أن تفعلوا، ولما استشاروه قال: لو فعلتم لاثرتم حرباً، ولأتى إليّ القوم، وقالوا: بايع، والا قتلناك.

لقد شعر حزب علي بالخيبة، وانتاب رجاله هزة عنيفة ارتعشت منها قلوبهم وأعصابهم، لصرف الحق عن أهله، والاستهتار بالدين، وأقوال سيد المرسلين، وإذا نهاهم الإمام عن حمل السلاح، وإعلان العصيان، ومجابهة الحاكم وجهاً لوجه فإن هناك سبيلاً آخر لمناصرة الحق، وهو الدعاية له، والعمل على نشره في جميع الأوساط، ومختلف الطبقات. وهذا ما حصل بالفعل، فكانوا - أينما حلوا - يوجهون الناس إلى علي، ويحدثونهم عن فضائله، ومكانته عند اللّه والرسول، ويؤكدون حقه في الخلافة، ويركزون دعايتهم هذه على كتاب اللّه

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وهكذا نلاحظ كثيراً من الأدلة القرآنية التي تؤيد هذا الأمر. إذن ما ذهب إليه الإمامية صحيح ، لا يخالف القرآن كما إدعاه البعض.

وبعد هذا البيان والدراسة في بحث (الغيب) ، ندخل في دراسة القصة الغيبية.

ب ـ أقسام القصة الغيبية :

سبق أن قلنا أنّ هذا النوع من القصص تعد أحداثها بتفاصيلها مصدرها الوحي ، فهذه القصص من قبيل الغيب الذي كشفه الله عَزّ وجَلّ لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي غيب سواء أكانت في الماضي أو المستقبل ، فعلى هذا يمكن تقسيم القصة الغيبية إلى ما يلي :

الأول ـ قصص الماضي :

يحتوي القرآن الكريم على كثير من علوم الغيب ، خصوصاً ما جرى على الأمم الماضية ، فعلى سبيل المثال ما جاء في قصة يوسف عليه السلام مع اخوته حيث أوحى الله سبحانه إلى يوسف في قوله تعالى :( لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) [يوسف / ١٥]. ففي الآية غيب موحى إلى يوسف ، وكذلك غيب موحى إلى نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإخبار الوحي له بما حصل ليوسف عليه السلام وأكّد على ذلك في قوله تعالى :( ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) [يوسف / ١٠٢]. إلى غير ذلك مما ذكره القرآن الكريم من أخبار الأمم الماضية ، فالقرآن ذكر تلك القصص على نحو الإختصار ، ثم جاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يوضحها ، فالملاحظ أنّ تلك القصص وما تضمنته من أحداث ليست في متناول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولم تحدث أمامه ، كما أنّه لم يُنشئها ولم يأخذها عن طريق غيره

١٠١

من المؤرخين ، بل مصدره الوحي ، وأخذ عنه أهل بيته عليهم السلام. «وذكر العلامة الجليل الورع الثقة النبيل ، السيد هاشم البحراني في كتابه (مدينة المعاجز) أكثر من ستمائة رواية في إخبارات الأئمة الإثني عشر صلوات الله عليهم»(١٠٥) .

الثاني ـ قصص المستقبل :

يتناول هذا اللون من القصص أموراً مختلفة كلها تتحدث عن أمور غيبية خاصة تحدث في الواقع ، ولو تأملنا ما ذكر في القرآن الكريم ، وعلى لسان النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأمكن تقسيمه إلى ما يلي :

أولاً ـ أخبار تحققت في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) :

رأى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المنام ـ وكان ذلك في المدينة المنورة قبل أن يخرج إلى الحديبية ـ أنّ المسلمين دخلوا المسجد الحرام ، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنّهم داخلوا مكة عامهم هذا ، فلما إنصرفوا ولم يدخلوا مكة ؛ قال المنافقون : ما حلقنا ولا قصرنا ولا دخلنا المسجد الحرام. فأنزل الله هذه الآية :( لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) [الفتح / ٢٧]. وكان بين نزول الآية والدخول مدة سنة. وكان عام سبع للهجرة وتَمّ الفتح القريب من دونه ـ وهو صلح الحديبية ـ ، الذي كان مقدمة لفتح مكة سنة ثمان للهجرة.

ثانياً ـ أخبار تحققت بعد حياته :

وهذا ال نوع من القصص منه ما هو مشهور كأخبار آخر الزمان ، المسمى بـ(أحاديث الفتن والملاحم) ، ويندرج تحت هذا النوع كثير من الإخبارات ،

__________________

(١٠٥) ـ النمازي ، الشيخ علي الشاهرودي : مستدرك سفينة البحار ، ج ٨ / ٨٠.

١٠٢

كخبر الدابة التي تخرج للناس في آخر الزمان ، وقد جاء في القرآن الكريم خبرها في قوله تعالى :( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ) [النمل / ٨٢]. ومن أراد تفاصيل ذلك ؛ فليراجع كتب التفسير.

كما ورد على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدة إخبارات غيبية ، من أهمها ما يحل على أهل بيته عليهم السلام كإخباره بمقتل سبطه الحسين عليه السلام في كربلاء ، وقد ذكر منها ابن الأثير في ترجمة أنس بن الحارث حيث قال : «روى حديثه أشعث بن سحيم ، عن أبيه عن أنّه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : (إنّ ابني هذا يقتل بأرض من أرض ال عراق ، فمن أدركه فلينصره) ، فقتل مع الحسين عليه السلام»(١٠٦) .

وأيضاً إخباره عن الإمام المهدي عليه السالم ، وقد ذكرها علماء المسلمين ، لا ينكر ذلك إلا مكابر لا قيمة لرأيه.

ثالثاً ـ أخبار البعث والنشور :

لعلّ من أهم القضايا التي واجه بها نبينا الأعظم عليه السلام مشركي قريش قضية البعث والنشور ، فقد أنكر المشركون هذا الأمر باصرار عنيف ، واستغربوا من ذلك أشد الإستغراب ، وقد سجل القرآن الكريم هذا الإنكار في أكثر من آية ، منها ما يلي :

قوله تعالى :( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ) [سبأ / ٧ ـ ٨].

__________________

(١٠٦) ـ ابن الاثير ، علي بن محمد : أسد الغابة ، ج ١ / ١٢٣.

١٠٣

وقوله تعالى :( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) [الجاثية / ٢٤].

وقوله تعالى :( أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ *أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ *قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ *فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ ) [الصافات / ١٦ ـ ١٩].

وإزاء هذا الإنكار لهذه القضية ، إستخدم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم القصة في عرض البعث واليوم الآخر ، وأكّد على ذلك بأن نَزّل المستقبل منزلة الحار ، فهذه القصص في الوقت الذي تحمل الرد على المنكرين ، فإنّها تُؤكِّد الإيمان بالبعث والنشور ، كما أنّ هناك عاملاً جوهرياً يضاف إلى وجود هذا النوع من قصص العالم الآخر ، ووراء كثرته وتكراره أنّ ذلك العالم هو محل العقاب والثواب ، وقضية العقاب والثواب أساسية يتمد عليها منهج التربية في الشريعة الإسلامية ، من أجل قيام الإنسان المسلم على مبادئ دينه والإلتزام بها ، حيث سيظل وازع الإحساس بالمسؤولية ، ـ عما يقول أو يفعل ـ مائلاً أمامه من خلال تصوره لحياة أخرى يؤمن بأنّه سيجازي فيها على سلوكه ، على الخير بالخير في الجنة والنعيم ، وعلى الشر بالشر في النار والعذاب ، كما في قوله تعالى :( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) [الزلزلة / ٧ ـ ٨].

١٠٤

٣ ـ القصة الخيالية

أ ـ الخرافية

ب ـ التمثيلية

ج ـ الخيال العلمي

١٠٥
١٠٦

٢ ـ القصة الخيالية :

هي حكايات يبتدعها خيال المؤلف ، قد تكون نثراً أو نظماً ، والروايات والقصص القصيرة ، هي من أشهر أشكال قصص الخيال رواجاً ، وسمات هذه القصص أنّها تحتوي على عناصر خيالية ، إما كلياً أو جزئياً ، وهذه العناصر تشمل الشخصيات والأوضاع المحيطة ، وفي بعض قصص الخيال تكون العناصر الخيالية واضحة ـ أي بعيدة عن الواقع ـ مثل القصة الإطارية ، وهي قصة تروي في إطارها مجموعة من الحكايات ، ومن أحسن الأمثلة عليها قصة شَهْرَيَار الملك وشَهْرَزَاد في كتاب (ألف ليلة وليلة) ، ومع ذلك ليس من الضروري أن تختلف كثيراً عن الواقع ؛ إذ أنّ كثيراً من نماذج قصص الخيال تمثل شخصيات قريبة من الواقع ، وتصف أوضاعاً واقعية ، وبعض القصص ترتكز على شخصيات وحوادث حقيقية ، وتدمج عادة العناصر الواقعية في قصص الخيال مع الأوضاع والشخصيات والحوادث الخيالية ، والغرض الرئيس لمعظم قصص الخيال هو التسلية ، إلا أنّ هناك بعض الأعمال الجادة من قصص الخيال التي تحفز العقل وتدعو إلى التفكير عن طريق إيجاد الشخصيات ، ووضعها في مواقف محددة ، وتأسيس وجهات النظر ، ويقوم مؤلفو قصص الخيال الجادة بتوضيح الأحكام المميزة بين الأشياء ، وهذه الأحكام تتناول المسائل الأخلاقية والفلسفية والنفسية والإجتماعية ، ولعلّ أهم ما يمكن دراسته من أقسامها هي التالي :

أ ـ الخرافية :

الخُرافَة : «الحديث المستملح من الكذب. وقالوا : حديث خرافة ، ذكر إبن الكلبي في قولهم حديث خرافة أنّ خرافة من بني عُذْرَة أو من جُهَيْنَة ، إختطفته الجن ، ثم رجع إلى قومه فكان يُحدث بأحاديث مما رأى يعجب منها

١٠٧

الناس ، فكذبوه فجرى على ألسن الناس»(١٠٧) . وعُرِّفت الخرافة أيضاً بـ«معتقد لا عقلاني أو ممارسة لا عقلانية. والخرافات قد تكون دينية ، وقد تكون ثقافية أو إجتماعية. فمن الخرافات الدينية إيمان بعض المشلولين أو المقعدين ، بقدرة قديس بعينه أو قديسة بعينها على شفائهم.

ومن الخرافات الثقافية أو الإجتماعية ، إيمان كثير من الناس بأنّ الخرزة الزرقاء تدفع الشر ، وبأنّ نعل الفرس مجلبة للخير»(١٠٨) وبعد هذا التعريف فالحكاية الخرافية : «قصة أو حكاية خيالية قصيرة ذات مغزى في معظم الحكايات الخرافية ، يمثل واحد أو أكثر من الشخصيات حيواناً أو نباتاً أو شيئاً يتكلم ويتصرف كمخلوق بشري ، ويمكن أن نُقص الحكاية الخرافية نثراً أو شعراً ، وفي عديد من الحكايات يمكن تلخيص المراد من القصة ، أو مغزاها في النهاية على شكل مثل شعبي»(١٠٩) .

وهذا النوع من القصة الخيالية لا قيمة له على المستوى الديني ، لا في القرآن الكريم ، ولا في السنة النبوية.

ب ـ التمثيلية :

لست بصدد دراسة القصة التمثيلية من جميع جوانبها ، وإنّما الهدف هو التعريف بها من بعض جوانبها ، في القرآن الكريم والسنة النبوية ، والذي يهمنا بحثه هو التالي :

__________________

(١٠٧) ـ ابن منظور ، محمد بن مكرم : لسان العرب ، ج ٩ / ٦٥ ـ ٦٦.

(١٠٨) ـ البعلبكي ، منير : موسوعة المورد العربية ، ج ١ / ٤٦١.

(١٠٩) ـ الموسوعة العربية العالمية ، ج ٩ / ٤٨١.

١٠٨

١ ـ التعريف بالمثل :

يطلق المثل على معانٍ ثلاثة ، هي كالتالي :

الأول ـ المثل السائر :

هو كلمة موجزة قيلت في مناسبة تناقلتها الأجيال بدون تبديل ، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم : (إنّ من البيان لسحرا)(١١٠) ، قال الميداني : «يعني أنّ بعض البيان يعمل عمل السحر ، ومعنى السحر : إظهار الباطل في صورة الحق ، والبيان : إجتماع الفصاحة والبلاغة ، وذكاء القلب مع اللسَنِ ، وإنما شُبّه بالسحر ، لحدّة عمله في سامعه وسرعة قبول القلب له. يضرب في إستحسان المنطق ، وإيراد الحجة البالغة»(١١١) . والهدف منه مقصور على التطبيق.

الثاني ـ المثل القياسي :

ويقصد به البيانيون متشكل من أي وصف أو قصة أو تصوير رائع لتوضيح فكرة ، عن طريق تشبيه يسميه البلاغيون (التمثيل المركب) لتقريب أمر معقول من محسوس يجمع بذلك بين عمق الفكرة ، وجمال التصوير ولم يقصر على سماع أو نقل ، والإهتمام بصياغة الفكر فيه أكثر من إقتباس مثل سائر ، وحاصل القياسي : هو ما يخلقه المتمثل لغرض ينشده ، ومن نماذجه في القرآن الكريم ، قوله تعالى :( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) [النحل / ١١٢]. فالآية فيها إستعارة تمثيلية ؛ حيث أخذ اللباس في الجوع والخوف الدال على إستعمالها لمن

__________________

(١١٠) ـ الميداني ، احمد بن محمد النيسابوري : مجمع الأمثال ، ج ١ / ٧.

(١١١) ـ نفس المصدر.

١٠٩

كفر بأنعم الله تعالى ـ الأمن والصحة والكفاية في الرزق وغيرها من النعم التي لا تحصى ـ ، ولو إكتفى بالإذاقة لفات ذلك. وفي الأمثال النبوية قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (أيها الناس إياكم وخضراء من الدِمَن. قيل يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وما خضراء الدمن؟ قال : المرأة الحسناء في منبت السوء)(١١٢) .

قال الشريف الرضي : «... أنّه عليه الصلاة والسلام نهى عن نكاح المرأة على ظاهر الحسن ـ وهي منبت السوء ، أو في البيت السوء ـ ، فوجه المجاز في هذا القول ، أنّه عليه الصلاة والسلام ، شَبّه المرأة الحسناء بالروضة الخضرة لجمال ظاهرها ، وشبّه منبتها السوء بالدِمْنَة لقباحته ، والدِمْنَة هي : الأبعار المتجمعة تركبها السوافي ، ويعلوها الهابي ، فإذا أصابها المطر أنبتت نباتاً خضراء يروق منظره ويسوء مخبره ، فنهى عليه الصلاة والسلام عن نكاح المرأة إذا كانت مغموضة في نفسها ، أو مطعوناً عليها في نسبها ، لأنّ أعراق السوء تنزع إلى ولدها ، وتضرب في نسلها ، قال الشاعر :

وأدركنه خالاته فخذلنه

ألا إنّ عِرق السوء لا بدّ مدرك(١١٣)

وفي السيرة الحسينية ما جاء في خطبته في مكة المكرمة : «خُطّ الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي إشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخِيرَ لي مصرع أنا لاقيه ، فكأنّي بأوصالي تُقطعها عُسْلَان الفَلوات بين النَوَاوِيس وكربلا ، فيملأن مني أكراشاً جُوفَاً ، وأجْرُبَة سُغُبَاً»(١١٤) .

__________________

(١١٢) ـ الغروي ، الشيخ محمد : الأمثال النبوية ، ج ١ / ٢٧٢.

(١١٣) ـ الشريف الرضي ، محمد بن الحسين : المجازات النبوية / ٦٠ ـ ٦١.

(١١٤) ـ السماوي ، الشيخ محمد طاهر : إبصار العين في أنصار الحسين / ٦.

١١٠

إنّ بلاغة هذه الخطبة وعُلو مضمونها ، يوجب لنا الإطمئنان بصدورها عن سيد الشهداء عليه السلام ، كما أنّها على وجازتها تضمنت نهج الحسين عليه السلام وهدفه ، ونهايته ووصف مصرعه ومكانه ، والذي يهمنا بحثه ـ هنا ـ بيان بعض أوجهها البلاغية ، المتمثلة فيما يلي :

أولاً ـ عَبّر الحسين عليه السلام عن الموت الذي هو طبيعي للبشر بأنّه : (خط مخط القِلادة على جِيدْ الفَتاة). وهذا التعبير براعة إستهلال عجيبة المعنى ؛ حيث أنّ مخط القلادة يراد منه شيئين :

أ ـ إسم مكان : وهو موضع خط القلادة ـ وهي الجلد المستدير من الجيد ـ ، فكما أنّ ذلك الجلد لازم على الرقبة ، كذلك الموت على ولد آدم.

ب ـ إسم مصدر : والمراد به نفس الخط ، فيكون معنى ذلك : أنّ الموت دائرة لا يخرج ابن آدم عن وسطها ، كما أنّ القلادة دائرة لا يخرج الجيد منها حال تقليده. فإذا كان الموت لابد منه ؛ فليختر الإنسان أفضل ميتة ، وأعظمها شرفاً ونفعاً ، وإن أدّت إلى تقطيع أوصاله.

ثانياً ـ إختيار الحسين عليه السلام لنفسه الموتة الكريمة ، التي هي مرتبطة بأمر السماء التي تتم فيها شهادة الحسين وسعادته ، وسعادة من سار على نهجه ، لقد قضي الأمر وتمت الخيرة ، وكيفية القتلة ومكانها وعَبّر عن ذلك بقوله : (وخِير لي مصرع أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تُقَطّعها عُسْلَان الفَلوات ، بين النَواوِيس وكربلاء).

فعسلان الفلوات : هي الذئاب ، ولعلّ الحسين عليه السلام يعني بها ـ مجازاً ـ الوحوش البشرية من أعدائه التي وَزّعت جسده الطاهر ، وتركته بالعراء وسلبته ووطأته بالخيول ، ثم تركته بلا مواراة ثلاثة أيام ، وقد عَبّر عن وحشيتهم بقوله

١١١

(فيملأن مني أكراشاً جُوْفَاً ـ أي واسعة ـ ، وأجربة سُغُباً ـ أي البطون الجائعة ـ ، وهذا تعبير عن شدتها وكثرة أكلها من دون محام ولا دافع عن الأعضاء المقطعة ، ويُؤَيّد هذا المعنى ما قاله لأصحابه لما نزل بَطْن العَقَبة : «ما أراني إلا مقتولاً ، فإنّي رأيت في المنام كلاباً تنهشني ، وأشدّها عليّ كلب أبقع»(١١٥) . أراد الحسين عليه السلام أن يُبيّن للمسلمين من خلال خطبته ، تلك الجريمة النكراء التي إقترفها الأمويون في حق البيت النبوي الطاهر ، ومدى اللثم والخسة في نفوس أعدائه ، حيث إمتدت تلك الجريمة ـ بعد تقطيع الحسين عليه السلام بالسيوف ، ووطئ جثته بالخيول ـ لتدخل الرعب والهلع في نفوس النساء والأطفال ، وتُعَرِّضَهم للعطش والحرق والسحق والأسر وضرب السياط ، وبهذا أراد الحسين عليه السلام أن يسجل على صفحات التاريخ ، صوراً من البطش والهمجية التي لا يرتكبها إلا الذئاب المفترسة والوحوش الضارية.

الثالث ـ مطلق ما يسمى بالمثل :

سواء فيه المثل السائر ، والقياسي والفرضي المعروف بالخياليات التي صنعت للإعتبار والموعظة ، كفرضيات كتاب (كليلة ودمنة) ، وكل وصف به نوع غرابة أو إعجاب زائد ، كقوله تعالى :( مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ .) [محمد / ١٥]. المستفاد من كلمات اللغويين أنّ المثل بمعنى التمثيل والتنظير ، وسمي المثل مثلاً لأنّه ماثل بخاطر الإنسان ؛ أي شاخص به. يقول الجوهري : «ومثلت له كذا تمثلاً إذا صَوّرت له مثاله

__________________

(١١٥) ـ المقرّم ، السيد عبد الرزاق الموسوي : مقتل الحسين / ١٨١.

١١٢

بالكتابة وغيرها»(١١٦) . فكأنّ مراد الجوهري الصورة بالكتابة والتمثال بخير الكتابة ؛ لأنّ غير الكتابة إما يكون وصفاً ؛ فهو أمر تخييلي محض ، وإما أن يكون عملاً يدوياً محسوساً فهو التمثال. فيكون الغاية من سوق المثل والتنظير له إقامة الحجة أو إظهار آية دالة على شيء ما. فالأسلوب في الآية عرضها مثول وانتصاب لحقيقتها أمام الناظر. ومن هذا الباب ما جاء عن الحسين عليه السلام في اليوم العاشر من المحرم ، حينما إستدعى ابن سعد ومَثّل له نهايته ، حيث قال له : «أي عمر ، أتزعم أنك تقتلني ويوليك الدّعي بلاد الرّي وجُورجَان ، والله لا تهنأ بذلك ، عهد معهود فاصنع ما أنت صانع ، فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة ، وكأنّي برأسك على قصبة يتراماه الصبيان بالكوفة ، ويتخذونه غرضاً بينهم ، فصرف بوجهه عنه مغضباً»(١١٧) .

وعند خروج الأكبر عليه السلام إلى الميدان ؛ صاح بعمر بن سعد : «مالك؟! قطع الله رحمك كما قطعت رحمي ، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسَلّط عليك من يذبحك على فراشك»(١١٨) .

٢ ـ أهمية المثل :

للمثل أهمية كبرى يمكن تلخيصها فيما يلي :

١ ـ إنّ أهمية الأمثال بيانية ، حيث لم يكن في كلام العرب أوجز منها ، ولا أشد إختصاراً. قال إبراهيم النظام : «إجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في

__________________

(١١٦) ـ الجوهري ، إسماعيل بن حَمّاد : تاج اللغة وصحاح العربية ، ج ٥ / ١٨١٦.

(١١٧) ـ المقرّم ، عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٢٣٥.

(١١٨) ـ نفس المصدر / ٢٥٧.

١١٣

غيره من الكلام : إيجاز اللفظ ، وإصابة المعنى ، وحسن التشبيه ، وجودة الكناية ، فهو نهاية البلاغة»(١١٩) .

٢ ـ إنّ المقصود من ضرب الأمثال ، أنّها تؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه ؛ وذلك لأنّ الغرض في المثل أن تنفعل به النفوس ، وتؤمن به القلوب ، فإن كان مدحاً ؛ كان أبهى وأفخم وأنبل في النفوس ، وأعظم وأهز للعطف ، وأسرع للإلف ، وأذكر وأيسر على الألسن ، وأولى بأن تعتلقه القلوب وأجدر. وإن كان ذماً ؛ كان مَسّه أوجع ، ووقعه أشدّ ، وحَدّه أحد. ومن هذا ما ورد في الخطب الحسينية في الطريق وفي كربلاء. وكذلك ما ورد عن أهل بيته عليهم السلام أثناء الخطب في الكوفة ، ويمكن التركيز منها على ما يلي :

المثل في خطب الإمام الحسين (عليه السلام) :

قال عليه السلام لابن عباس : «والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العَلَقَة من جوفي ، فإذا فعلوا ذلك ؛ سَلّط الله عليهم من يذبهم ، حتى يكونوا أذلّ من فِرَام المرأة»(١٢٠) .

وقال أثناء طريقه إلى الكوفة : «إنّ هؤلاء أخافوني ـ وهذه كتب أهل الكوفة ـ وهم قاتليَّ ، فإذا فعلوا ذلك ولم يدعوا الله محرماً إلا انتهكوه ؛ بعث

__________________

(١١٩) ـ الغروي ، الشيخ محمد : الأمثال النبوية ، ج ١ / ١٠.

(١٢٠) ـ المقرّم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٢٣٤.

١١٤

الله إليهم من يقتلهم ، وحتى يكونوا أذلّ من فِرَام الأمّة»(١٢١) . وخاطب الأعداء يوم عاشوراء بقوله : (يا عَبيد الأمّة)(١٢٢) تحقيراً لهم.

إيضاح أهم مفردات المثل الحسيني :

الفِرَام : ورد في كتب اللغة أنّ (الفِرَام) : دواء تُضيِّق به المرأة المسلك ، أو حب الزبيب تحتشى به لذلك ، وكانت في أحراح ثقيف سعة يتضيقن بعجم الزبيب. والفرامة : هي الخرقة تحتشي بها المرأة عند الحيض كالفِرَام ، وفيها يقول الشاعر :

وجَدْتُك فيها كأمِّ الغلام

متى ما تَجِدْ فَارِما تَفْترِم(١٢٣)

وأيضاً قال في (بَطْن العَقَبة) : «إنّهم لن يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جَوفي ، فإذا فعلوا ذلك ؛ سَلّط الله عليهم من يذلهم ، حتى يكونوا أذلّ فرق الأمم»(١٢٤) .

وقال في (الرُهَيَمة) : «وطلبوا دمي فهربت ، وأيم الله ليقتلوني فيلبسهم الله ذِلّاً شاملاً ، وسيفاً قاطعاً ، ويسلط عليهم من يذلهم ، حتى يكونوا أذلّ من قوم سَبأ ؛ إذ ملكتهم إمرأة فحكمت في أموالهم ودمائهم»(١٢٥) . هذه بعض الأمثال الحسينية الواردة في خطبه عليه السلام.

__________________

(١٢١) ـ المصدر السابق / ١٧٥.

(١٢٢) ـ نفس املصدر / ١٦٨.

(١٢٣) ـ ابن منظور ، محمد بن مكرم : لسان العرب ، ج ١٢ / ٤٥١ ـ ٤٥٢.

(١٢٤) ـ المقرم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ١٨١.

(١٢٥) ـ نفس المصدر / ١٨٥.

١١٥

وإن كان وعظاً ؛ كان أشفى للصدر ، وأدعى للفكر ، وأبلغ في التنبيه والزجر ، ويبصر الغاية.

المثل في خطبة السيدة زينب (عليها السلام) في الكوفة :

ومما ورد في الخطبة الزينبية التي خطبتها في الكوفة ـ من الأمثال ما يلي : «الحمد لله ، والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار ، أما بعد يا أهل الكوفة ، يا أهل الخَتَل والغَدْر ، أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنّه ، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم»(١٢٦) . تشير أم المصائب زينب عليها السلام إلى قوله تعالى :( وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) [النحل / ٩٢].

وبعد مراجعة كتب المفسرين حول هذه الآية ؛ نخرج بالنتيجة التالية :

أولاً ـ هذا مثل قرآني يشير إلى المرأة التي غزلت ثم نقضت غزلها من بعد إمرار وفَتلٍ للغزل ؛ وهي إمرأة حمقاء من قريش ، واسمها رَيطَة بنت عمرو ، بن كعب ، بن سعد ، بن تميم ، بن مُرّة ، وكانت تسمى خَرْقَاء مكة ، كانت تغزل مع جواريها إلى إنتصاف النهار ، ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن ، ولا يزال ذلك دأبها.

ثانياً ـ هذا نهي من الله للمكلفين أن يتصفوا بالصفات المذكورة في الآية ، المندرجة تحت الألفاظ التالية :

__________________

(١٢٦) ـ المصدر السابق / ٣١١.

١١٦

١ ـ أنْكَاثاً : جمع نِكْث ، وكل شيء نقض بعد الفتل ؛ فهو أنكاث حبلاً كان أو غزلاً.

٢ ـ دَخَلاً : الدَخَل ، ما أدخل في الشيء على فساد ، فالمراد بالدخل وسيلته ، من تسمية السبب باسم المسبب ؛ أي وسيلة للغدر والخدعة والخيانة ؛ تطيبون بها نفوس الناس ثم تخونون وتدعونهم بنقضها. ومعنى ذلك : أنكم كمثلها ، إذا تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم فتؤدونها وتعقدونها ، ثم تخونون وتخدعون بنقضها ونكثلها ، والله ينهاكم عنه.

٣ ـ أرْبَى : أي أكثر عدداً ومنه أربا فلان للزيادة التي يزيدها على غريمة في رأس ماله. ومعنى ذلك لا ينقضوا العهد بسبب أن يكون قوم أكثر من قوم ؛ أي لا تنقضوا عهدكم ، متخذيها دغلاً وغدراً وخديعة ، لمداراتكم قوماً هم أكثر عدداً ممن عاهدتم له ، بل عليكم الوفاء والحفظ لما عاهدتم عليه. فالسيدة زينب عليها السلام تذكرهم وتوبخهم بالعهد والبيعة لسيد الشهداء عليه السلام التي نقضوها ، وشبهتهم بالمرأة التي نقضت غزلها من بعد قوة ، إلى أن قالت : «ألا وهل فيكم إلا الصَلَف النَطَف ، والعجب والكذب والشَنِف ، ومَلِق الإماء ؛ وغَمَز الأعداء؟!» وفي هذا المقطع عَبّرت عنهم بألفاظ تعيبهم وتكشفهم بها توبيخاً لهم (فالصَلَف) : الذي يمتدح بما ليس عنده. وفي حديث المؤمن : (لا عنف ولا صَلَف) ، يقال : سحاب صلف ، إذ كان قليل الماء ، كثير الرعد ، وفي المثل (رُبّ صَلَف تحت الرَاعِدَة) يضرب للرجل يتوعد ثم لا يقوم فيه»(١٢٧) .

__________________

(١٢٧) ـ الطريحي ، الشيخ فخر الدين : مجمع البحرين ، ج ٥ / ٨٢.

١١٧

(والنَطَفَ) : «القذف بالفجور ، أو الفساد ، أو الشر»(١٢٨) .

(والشنف) : المبغض(١٢٩) .

(ومَلِق الإماء) :

«المَلأِق : الضعيف. أو التودد والتذلل ، وإبداء ما باللسان من الإكرام والودّ ما ليس في القلب»(١٣٠) .

(وغَمَز الأعداء) :

«الغَمَز : الضعف والميل والعيب»(١٣١) ؛ أي أنتم ضعاف في عقولكم وعملكم بحيث إستزِهدكم الأعداء ، وسخروا بكم بإطاعتكم لهم. إلى أن قالت : «أو كَمَرْعَى على دِمّنَة ، أو كقَصّةٍ على مَلْحُودَة».

(الدِمنَة) :

«هي ما تُدمّنُه الإبل والغنم بأبوالها وأبعارها ؛ أي تلبّده في مرابضها ؛ فربما نبت الحسن النضير. ومنه الحديث : (فينبتون نبات الدِّمن في السيل) ، هكذا جاء في رواية بكسر الدال وسيكون يرعى البعير ؛ لسرعة ما ينبت فيه»(١٣٢) .

وقيل الدِّمنة : هي المنزل الذي ينزل فيه أخيار العرب وتحصل فيه بسبب نزولهم تغيّر في الأرض بسبب الأحداث الواقعة منهم ومن مواشيهم ، فإذا أمطرت أنبتت نبتاً حسناً شديد الخضرة والطراوة ؛ لكنّه مرعى وَبِيء للإبل

__________________

(١٢٨) ـ لويس ، معلوف : المنجد في اللغة / ٨١٦.

(١٢٩) ـ نفس المصدر / ٤٠٤.

(١٣٠) ـ نفس المصدر / ٧٧٤.

(١٣١) ـ نفس المصدر / ٥٥٩.

(١٣٢) ـ ابن الأثير ، المبارك بن محمد الجزري : نهاية في غريب الحديث ، ج ٢ / ١٣٤.

١١٨

مُضرّبها)(١٣٣) . ومن هذا ، ما ورد في الحديث النبوي (.. إياكم وخَضْرَاء الدِّمن ، وقيل يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وما خضراء الدِّمن؟ قال : المرأة الحسناء في منبت السوء)(١٣٤) .

قال الشريف الرضي (ره) : «والقول الآخر : أن يكون عليه الصلاة والسلام ؛ إنّما نهى في الحقيقة عن تغارض النفاق وتعاير الأخلاق ، وأن يتلقى الرجل أخاه بالظاهر الجميل ، وينطوي عن الباطن الدميم ، أو يخدعه بحلاوة اللسان ، ومن خلفها مرارة الجنان ، وإلى هذا المعنى ذهب الشاعر في قوله :

وقد يَنْبُتُ المرْعَى على دِمَنِ الثّرَى

وتَبْقَى حَزَازَاتُ النفوس كما هِيَا

كأنه أراد ، إنا وإن لقيناكم بظاهر الطلاقة والبشر ، فإنّا نضمر لكم على باطن الغش والغمز ، ومثل هذا قول الآخر :

وفِينَا وإن قِيلَ إصْظَلحْنَا تَضَاغُنٌ

كما طرّ أوبارُ الجِرَابِ على النّشْرِ

وقال أهل العربية : النشر أن ينبت وبر البعير وتحته داء العرّ ؛ وهو الجرب فيرى كأن ظاهره سليم وباطنه سقيم»(١٣٥) ، وبعد هذا الإيضاح يظهر لنا مغزى ما يستفاد من كلام السيدة زينب عليها السلام ، حيث أنّ الغرض هو التعريف بأن الدِّمنَة وإن زها ظاهرها بالنبت ، إلا أنّه لا يفيد الحيوان قوة ؛ لأنّها مجمع الأوساخ والكشافات السامة القاتلة ، فنتاج الدِّمنة لا يكون طيباً ، وأهل الكوفة وإن زها

__________________

(١٣٣) ـ الطريحي ، الشيخ فخر الدين : مجمع البحرين ، ج ٦ / ٢٤٨.

(١٣٤) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد بن الحسن : وسائل الشيعة ، ج ٢٠ / ٣٥ (الباب ٧ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ٧).

(١٣٥) ـ الشريف الرضي ، محمد بن ابي احمد الحسين : المجازات النبوية / ٦١.

١١٩

ظاهرهم بالإسلام ؛ إلا أنّ الصدور إنطوت على قلوب مظلمة لا يصدر منها إلا بما يقوم به أهل الجاهلية والإلحاد»(١٣٦) .

(أو كقَصّةٍ على مَلْحُودة) :

«القَصّةُ والقِصّة والقَصُّ ، الجَصّ : لغة حجازية. وقيل : الحجارة من الجَصّ ، وقد قصّصَ داره ، أي جصّصَها. ومدينة مُقصّصَة : مطلية بالقصّ ، وكذلك قبر مُقصّصٌ ، والتقصيص : هو التجصيص ، وذلك أنّ الجَصّ يقال له ، القَصّة. يقال : قصصت البيت وغيره ؛ أي جصّصته. وفي حديث زينب (يا قَصّةٌ عُلى مَلحُودَةٍ) ؛ شبهت أجسادهم بالقبور المتخذة من الجصّ ، وأنفسهم بجيف الموتى التي تشتمل عليها القبور»(١٣٧) .

قال السيد المقرّم (ره) : «والذي أراه ، أنّ النكتة في هذه الإستعارة ، أنّ القصّة بلغة الحجاز الجصّ ، والملحودة ؛ القبر لكونه ذا لحد ، فكان القبر يتزين ظاهره ببياض الجصّ ، ولكن داخله جيفة قذرة ، وأهل الكوفة وإن تزين ظاهرهم بالإسلام ، إلا أنّ قلوبهم كجيف الموتى ؛ بسبب قيامهم بأعمال الجاهلية الوخيمة العاقبة من الغدر وعدم الثبات على المبادئ الصحيحة ؛ وقد إنفردت (متتمة الدعوة الحسينية) بهذه النكات البديعة ، التي لم بسبقها مهرة البلغاء إليها»(١٣٨) .

إلى أن قالت عليها السلام : (ولقد أتيتم بها خَرْقَاء ، شَوْهَاء كِطلَاعِ الأرض ، ومِلء السماء).

__________________

(١٣٦) ـ المقرم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٣١١ (بتصرف).

(١٣٧) ـ ابن منظور ، محمد بن مكرم : لسان العرب ، ج ٧ / ٧٦ ـ ٧٧.

(١٣٨) ـ المقرم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٣١٢.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419