شبابنا ومشاكلهم الروحية

شبابنا ومشاكلهم الروحية0%

شبابنا ومشاكلهم الروحية مؤلف:
الناشر: دار القرآن الكريم
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 156

شبابنا ومشاكلهم الروحية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد كامل الهاشمي
الناشر: دار القرآن الكريم
تصنيف: الصفحات: 156
المشاهدات: 27161
تحميل: 43826

توضيحات:

شبابنا ومشاكلهم الروحية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 156 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 27161 / تحميل: 43826
الحجم الحجم الحجم
شبابنا ومشاكلهم الروحية

شبابنا ومشاكلهم الروحية

مؤلف:
الناشر: دار القرآن الكريم
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الإسلاميون، ممن عنوا بالجانب الروحي في الإسلام واستطاعوا إدراك الكثير من حقائق عالم الغيب، على التسميات التالية التي تبين جميع مراتب الوجود وتنزلاته، فقالوا: (فأول العوالم في الوجود الخارجي هو عالم العقول والنفوس المجردة المسماة بعالم الجبروت، ثم عالم المثال المطلق الذي لكل من الموجودات المجردة وغير المجردة فيه صور مثالية مدركة بالحواس الباطنة، ويسمى بعالم الملكوت، ثم عالم المُلْك الذي هو العرش والكرسي والسماوات والعناصر وما يتركب منها. وهذه العوالم الثالث صور ما في العلم الإلهي من الأعيان الثابتة المسماة بالماهيات الممكنة، والحقائق وأمثالها، وهي عالم الغيب المطلق لاشتماله على غيوب كل ما في العالم.

والإنسان وإن كان من حيث صورته الظاهرة من عالم الملك، لكن لجامعيته وكونه مشتملاً على كل ما في العالم الخارجي فهو عالم آخر برأسه، فصارت العوالم الكلية والحضرات الأصلية خمساً: عالم الأعيان الثابتة، وهي عالم الغيب المطلق. عالم الجبروت. عالم الملكوت. عالم الملك. عالم الإنسان الكامل)(١) .

ولا بد من التنبيه في هذا المقام على أن معرفة الأمور والأشياء تارة

____________________

(١) رسائل قيصري: رسالة في التوحيد والنبوة والولاية / ١٤ - ١٥.

٦١

تكون بحدودها، وتارة بإدراكها على ما هي عليه من خلال انكشاف حقيقتها للإنسان بصورة مباشرة، وحينما نريد أن نوضح ذلك بمثال فإنه سيمكننا تشبيه النوع الأول من المعرفة بمن يستطيع أن يحد الحلاوة فيقول هي كذا وكذا، وهذا نوع معرفة بالشيء، والنوع الثاني من المعرفة يمكن تشبيهه بمن يعرف الحلاوة بتذوقها، والنوع الأول من المعرفة يسمى بالمعرفة العقلية لأنها تستند في معرفة حقيقة الأشياء إلى العقل والبرهان، والنوع الثاني من المعرفة يسمى بالمعرفة القلبية لأنها تستند في معرفة حقيقة الأشياء إلى القلب والعرفان، ولكل نوع من أنواع المعرفتين مناصرون ومؤيدون، واصطلح على تسمية مناصري المعرفة القلبية والذوقية بالإشراقيين أو العرفاء.

وفي هذا المجال توجد بحوث معرفية وفلسفية مطولة في ترجيح المعرفة العقلية البرهانية على المعرفة القلبية العرفانية أو بالعكس، وفي الإشكالات المعرفية التي ترد على كل نوع من أنواع المعرفتين، والبحث في هذه المسألة يعد من البحوث الفلسفية المهمة التي شغلت تفكير الكثير من الفلاسفة والعرفاء، ومازالت المسألة إلى يومنا هذا محل أخذ ورد، وقد بحثت بعضاً مما يرتبط بالمسألة مورد البحث في كتابي"القيمة المعرفية للكشف والشهود" .

وما أردته من ذكر هذا التنبيه هو فقط الإشارة إلى أن معرفة الحقائق الغيبية على وجهها الصحيح والتام قد لا تتيسر للإنسان بمجرد البحث

٦٢

العلمي والتتبع الفكري، بل ربما يفتقر إدراكها إلى مجاهدات نفسية عملية؛ وذلك لأن الإسلام قد دلنا على أن العلم والعمل يرتبط كل منهما بالآخرة ويؤثر فيه، فالعلم يهدي إلى العمل، والعمل بالعلم يفتح للإنسان أبواباً أخر من العلم، وهذا ما أكده القرآن حينما قال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً ) (الأنفال: ٢٩) وحينما قال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (الحديد: ٢٨)، وحينما قال:( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) (العنكبوت: ٦٩).

ومن هنا نريد التأكيد على أن ما استعرضناه من حقائق عن عالم الغيب في هذه النقطة وما سنقوم باستعراضه في النقطة القادمة من حقائق وتصورات ترتبط بهذا العالم أيضاً قد لا تتضح كل الوضوح للقارئ، وكل ما نرجوه من القارئ أن يعي أن هناك حقائق كثيرة عن عالم الغيب قد يكون جاهلاً بها ولم يسمع عنها أبداً؛ مما يستدعي منه أن يكون دقيقاً في رفض أو قبول هذه الحقائق أو التصورات، وأن يكون أكثر دقة في التعامل مع القضايا والأمور الغيبية التي لم يسمح له الوقت بتكوين تصور معقول وواقعي عن حقيقتها وكنهها، لأننا نعي تمام الوعي أن التعامل مع القضايا الغيبية والروحية من دون استعداد علمي وعملي مسبقين عمل له خطورته الكبيرة على ذات الشخص وعلى الآخرين ممن يرتبطون به، وهذا ما سنقوم ببيانه في النقطة الرابعة من

٦٣

هذه الكلمة.

وما قدمناه من تصوير عن عالم الغيب وتعدد وجوداته وتنزلاته فيما مر وسبق هو نتاج أفكار العرفاء الإسلاميين، وهناك تصوير آخر حاول العلماء الطبيعيون من خلاله تقديم بعض الحقائق عن العالم الغيبي، وأكثر هذه الحقائق ينسجم ولا يتعارض مع الحقائق التي استطاع عرفاء الإسلام التوصل إليها واكتشافها في هذا المجال، ومنذ بدايات القرن العشرين الميلادي توجهت أنظار الكثير من العلماء في أوربا وأمريكا والاتحاد السوفيتي السابق إلى البحث في القضايا الروحية والغيبية، وتوصلوا من خلال بحوثهم التجريبية والمختبرية إلى نتائج مهمة في المجالين الروحي والغيبي يمكننا اعتبارها أوليات البحوث الروحية والغيبية التي أهتم بها أشد الاهتمام في الوسط الإسلام علم العرفان.

ويقوم التصوير الذي يقدمه العلماء المحدثون عن العوالم الغيبية على الاعتقاد بانقسام العالم إلى عالمين: عالم فيزيقي وهو العالم المادي الذي نحسه ونشعر به وندرك موجوداته، وعالم أثيري هو بمثابة العالم الغيبي الذي لا نحسه ولا نشعر به ولا ندرك موجوداته إلا من خلال تأثيراته التي تنعكس في بعض الأحيان على عالمنا المادي الفيزيقي.

وفي مقام بيان وشرح بعض حقائق الإنسان الغيبية يقول جيمس آرثر فند لاي - وهو ممن توصلوا إلى نتائج مهمة وجيدة في البحث الروحي - في كتابه"على حافة العالم الأثيري": (إن الإنسان مكون من

٦٤

جسم ونفس وروح، فالجسم ما نراه، والنفس هي العقل، والروح هي الجسم الأثيري الذي يطابق في الشكل الجسم الفيزيقي، وهي التي تجعل هذا الجسم الفيزيقي يتماسك. وما الموت إلا انفصال الجسم الأثيري عن الجسم المادي، ويحمل هذا الجسم الأثيري معه العقل أو النفس، وعندئذٍ ننظر إلى الكون من وجهة النظر الأثيرية لا وجهة النظر المادية، ويصبح العالم المادي أمراً تافهاً لا يعتد به. أما الأثيري، وهو ما نسميه نحن الفضاء، فليس إلا مادة حقيقية في صيغة أكثر تخلخلاً، وهو العالم الحقيقي الذي يعتد به، وهو ما عرفنا عن تكوينه كون مستقر ثابت، في حين أن الكون المادي دائب التغير سائر إلى الانحلال، ولا يوجد في الكون الأثيري أي أثر للانحلال، بل إن كل شيء فيه ثابت منتظم. أما عقل الإنسان فشيء فوق الأثيري، ولا يستطيع أي إنسان وهو في جسمه الفيزيقي أن يشرح العقل ويفسره، ولكنه لابد أن يكون شيئاً فوق الأثيري لأنه يعمل بعد الموت، فهو الذي يرشد الجسم الأثيري ويضبطه)(١) .

وعن الجسم الأثيري يقول فندلاي: (والجسم الأثيري هو الذي يحفظ كيان الجسم المادي فوق الأرض، ومن الجائز أن يكون لكل شيء في الوجود جسم أثيري، ولن يتغير العقل بالموت ولكنه يؤدي

____________________

(١) فندلاي، على حافة العالم الأثيري: ٢٥ - ٢٦.

٦٥

وظائفه في أوساط أخرى مغايرة)(١) .

ورغم ما توصل إليه فندلاي من حقائق عن عالم الغيب والروح فإنه كان يقول عن الحياة: (والحياة شيء آخر غير المادة الفيزيقية، وهي من خصائص العالم الأثيري، أما لماذا أو متى امتزجت بالمادة الفيزيقية؟ فأمر لا نعرفه)(٢).

وهذه هي بعض ملامح العالم الغيبي، وهي لا تعدو أن تكون مجرد تصورات أولية عن حقيقة العالم الغيبي وموجوداته، وإلا فإن حقائق هذا العالم لا تنفذ ولا تتناهى ولا يمكن الإحاطة بها واستعراضها في كتاب، بل ولا في كتب كثيرة، ولقد صدق تبارك وتعالى حينما قال:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً ) (الإسراء: ٨٥).

النقطة الثالثة: حقيقة الاتصال بالعالم الغيبي وصوره

بعد أن تبين لنا في النقطة السابقة وجود العالم الغيبي وبعض حقائقه الأولية فإنه يهمنا في هذه النقطة الحديث بصورة إجمالية أيضاً عن حقيقة الاتصال بالعالم الغيبي وموجوداته، وصور هذا الاتصال وأشكاله. والحديث عن هذا الأمر حديث له أهمية خاصة لأننا نشعر أن الكثير من الناس يحملون تصورات مشوهة ومغلوطة عن كيفية الاتصال بالعالم الغيبي، وقبل ذلك عن حقيقة الارتباط بهذا العالم وإمكانية ذلك

____________________

(١) نفس المصدر.

(٢) نفس المصدر.

٦٦

وعدمه.

وقبل بيان صور وأشكال اتصال الإنسان بالعالم الغيبي وموجوداته نريد أن نقدم المقدمة التالية، وهي: أن كل إنسان موحِّد يؤمن بالله ورسالاته لابد وأن يعتقد بإمكانية ارتباط الإنسان بالغيب ولو في حالات مخصوصة وعند أفراد مخصوصة من الناس، وعلى هذا الأساس يؤمن هذا الإنسان بدعوات الأنبياء والرسل (ع) لأنها لا تتأتى للأنبياء والرسل (ع) إلا من خلال ارتباطهم بالله سبحانه وتعالى ونزول الوحي عليهم بواسطة الملائكة أو القذف في القلب أو بأي واسطة أخرى، ومن خلال هؤلاء الرسل والأنبياء (ع) يوصل الله عَزَّ شأنه أوامره ونواهيه إلى عامة الناس، وليس من الممكن ولا بمقدور أي إنسان أن يكلمه الله بصورة مباشرة ويوحي إليه ما يشاء، لأن الارتباط بالله وتبليغ أحكامه إلى الناس مهمة ثقيلة لا يتوفر على شرائطها إلا القليل من الناس، ولذلك فإن الله سبحانه يقول: ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (الشورى: ٥١).

والاتصال بالله سبحانه وتعالى وبعالم الغيب عن طريق النبوة والرسالة هو الطريق الوحيد الذي يطمئن الإنسان من خلاله إلى صحة وواقعية ما يصل إليه من عالم الغيب وما وراء المادة، وذلك لأن الحفظ والصيانة من الخطأ والاشتباه أمران مضمونان في هذا النوع من الارتباط بالعالم الغيبي، وهذا ما نلمحه من خلال تأكيد القرآن الكريم على

٦٧

مقتضيات العصمة والحفظ في مبدأ ومنتهى وواسطة هذا الارتباط الغيبي بين الله تعالى وأنبيائه ورسله (ع). فالوحي ينزل من الله جَلَّ جلاله، والله لا يقول إلا الحق ولا يهدي إلا إلى الصراط المستقيم( قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ) (يونس: ٣٥)،( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ) (الحج: ٦)، ( وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ) (الأحزاب: ٤).

وواسطة هذا الاتصال هو الملك الذين ينزل على الرسل والأنبياء (ع) بالوحي من السماء، وقد وصف الله تعالى ملائكته بأنهم( لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) (التحريم: ٦)، ووصف الملك الذي ينزل على خاتم الأنبياء والرسل (ص) بالوحي والقرآن بالأمين فقال: ( وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ) (الشعراء: ١٩٢ - ١٩٣).

ومنتهى هذا الاتصال الغيبي هو النبي أو الرسول الذي يتلقى الوحي من الله بواسطة الملائكة، ومن يتلقى الوحي من الله ويبعثه الله بالنبوة والرسالة لا يمكن أن يكذب أو أن يحرف الكلام، وهو ما يثيره القرآن الكريم في العديد من آياته كقوله تعالى:( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (النجم: ٢ - ٤)، وقوله سبحانه:( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ) (الحاقة: ٤٠ - ٤٧) وكقوله تعالى على لسان نبيه

٦٨

موسى (ع):( إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ) (الأعراف: ١٠٤ - ١٠٥).

وعلى هذا الأساس فإن جميع تنزلات الوحي على الأنبياء والرسل (ع) تكون بالحق، قال تعالى:( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ) (الإسراء: ١٠٥) وقال سبحانه:( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ) (البقرة: ١٧٦)، وقال عَزَّ شأنه في شأن كل الأنبياء الذين أوحى إليهم:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) (البقرة: ٢١٣).

ومن المهم أن نشير في ختام حديثنا عن الوحي إلى أن الوحي في المصطلح القرآني لا يختص بالأنبياء والرسل (ع)، بل هو على أنواع وأشكال ومراتب وما يختص بالأنبياء والرسل (ع) هو المرتبة العالية من الوحي التي تستلزم حمل رسالة إلهية أو دعوة ربانية إلى الناس، وعدم اختصاص الوحي بالأنبياء والرسل (ع) دلت عليه الكثير من آيات القرآن الكريم كقوله تعالى:( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ) (النحل: ٦٨)، وقوله تعالى:( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ) (القصص: ٧).

هذا ما أردنا بيانه بالنسبة إلى الطريق الأول من طريق الاتصال بالغيب. وأما الطرق الأخرى للاتصال بعالم الغيب والارتباط بما وراء الطبيعة فإن الحديث عنها يطول وسنحاول تقديم بعض الحقائق والتصورات عنها ضمن الخلاصة التالية:

٦٩

يعتقد جل الفلاسفة والعرفاء من الإسلاميين وغيرهم بوجود عوالم غيبية يمكن للإنسان الارتقاء إليها والتوصل إلى اكتشاف حقائقها بطريق أو آخر، وأهم تلك العوالم هو عالم المثال، وهو عالم بين عالم الأجسام وعالم الأرواح المجردة (فهو من حيث أنه غير مادي شبيه بعالم الأرواح، ومن حيث أنه ذو صورة وشكل ومقدار شبيه بعالم الأجسام)(١) .

وهذا العالم توجد فيه حقائق الأشياء والموجودات وصورها المثالية ويمكن للإنسان من خلال تجريد نفسه أن يتصل بهذا العالم وأن يتعرف على ما فيه من حقائق وصور، (وجميع أرباب المكاشفة أكثر ما يكاشفون الأمور الغيبية يكون في هذا العالم وفيه يتجسد الأعمال والأفعال الإنسانية الحسنة والقبيحة كل بما يناسبها. ولكل إنسان فيه نصيب، وهو القوة الخيالية التي فيها يرى المنامات)(٢) .

وسنتحدث بعد قليل عن حقيقة المكاشفة التي يدعي أهل العرفان أنها طريق من طرق تحصيل المعارف الغيبية والإلهية. وما يلزم التنبيه عليه إن الإنسان حينما يتجرد وتسمو نفسه إلى الاتصال بالعالم العلوي، فإن أول ما يتعرّف عليه من عوالم الغيب هو هذا العالم المثالي، وفي ذلك يقول القيصري أحد أبرز علماء العرفان: (وأول ما ينفتح للإنسان عند غيبته من هذا العالم الجسماني هذا العالم

____________________

(١) رسائل قيصري: رسالة التوحيد والنبوة والولاية / ١٧.

(٢) نفس المصدر: ١٨.

٧٠

المثالي، وفيه يشاهد أحوال العباد بحسن صفاء الباطن، وقوة الاستعداد. فإن من يشاهد أمراً يقع بعد سنة أقوى استعداداً ممن يشاهد ما يقع دون تلك المدة. وكل ما يشاهد في الخيال المقيد قد لا يكون محتاجاً إلى التعبير وهو القليل والأكثر ما يحتاج إليه، وذلك لأن المعاني إذا ظهرت بالصور إنما يظهر فيها بحكم المناسبة بينها وبين ما يظهر فيها من الصور، فلابد أن يعبر الرائي أو من يعبر له من تلك الصور إلى المعنى الظاهر فيها. وقد يكون أضغاث أحلام لا يلتفت إليه لسوء مزاج الدماغ، لذلك يصيب بعض المنامات ويخطأ بعضها)(١) .

وبعد أن أدركنا وجود هذا العالم وحقيقته فإنه سيتضح لنا أن اتصال الإنسان بعالم الغيب يعني قدرته على الاطلاع على ما في العوالم الغيبية وبالأخص عالم المثال من صور ومعلومات، ولا ينبغي الاعتقاد بأن اطلاع الإنسان على ما في عالم المثال من صور وحقائق ينحصر في طريقة واحدة وأسلوب معين، بل من المقرر بين علماء العرفان - وهم أكثر من اهتم وعنى بمثل هذه المسائل - أن تحصيل القدرة على الاطلاع على عالم الغيب يمكن من خلال عدة طرق، والبعض من هذه الطرق ربما لا يكون مكتسباً أصلاً، وإنما تتدخل بعض العوامل الوراثية والبيئية في وجوده وحصوله عند البعض من الناس، وعلى هذا الأساس فقد قسَّم العرفاء الكشف، والذي يعني

____________________

(١) نفس المصدر.

٧١

اطلاع الإنسان على ما وراء هذا العالم المادي من حقائق ومعلومات وصور، إلى قسمين:

الأول: الكشف الحقيقي المعنوي، وهو يعني ظهور المعاني العينية والحقائق الغيبية، وهو يحصل بسبب تزكية النفس ومجاهدتها بالمجاهدات الشرعية.

الثاني: الكشف الصوري غير الحقيقي، وهو يعني اطلاع الإنسان على المغيبات المختصة بالخلق، بالإضافة إلى اطلاعه على ما في عالم المثال عن طريق الحواس الخمس.

وهذا النوع من الكشف يحصل بعوامل ثلاثة:

الأول: المجاهدات الشرعية والتي تعني تهذيب الإنسان نفسه وتطهيرها من أوساخ التعلق بالمادة وانقطاعه إلى الحق جلَّ وعلا.

الثاني: المجاهدات غير الشرعية كما يفعله بعض أصحاب الرياضات النفسية والبدنية من أتباع الأديان والمذاهب الباطلة من كثرة الجوع وقلة النوم، فإن لهذه المجاهدات تأثيراً على نفسية الإنسان ولو كانت من غير طريق شرعي. وفي ذلك يقول بعض العرفاء: (وأما فراسة أهل الرياضة بالجوع والخلوة وتصفية البواطن من غير وصلة إلى جانب الحق، فلهم فراسة كشف الصور والأخبار بالمغيبات المختصة بالخلق، فهم لا يخبرون إلا عن الخلق، لأنهم محجوبون عن الحق)(١) .

____________________

(١) حيدر الآملي، جامع الأسرار ومنبع الأنوار: ٤٦٨.

٧٢

الثالث: ما يحصل بسبب خاصية معينة تكون في النفس ترجع إما لعامل وراثي أو لوقت الولادة ومكانها أو لوضع البلد والبيئة الجغرافية. وقد اهتم علم (الباراسيكولوجي) في عصرنا الحديث باكتشاف هذه الخاصية التي تتمتع بها بعض النفوس البشرية ودراسة الظواهر الخارقة للعادة التي تتولد من وجود هذه الخاصية عند البعض من الناس.

ويهمنا قبل الدخول في بيان صور الكشفين الصوري والمعنوي أن ننبِّه شبابنا المسلم على أمر مهم للغاية، وهو أن حصول الكشف لإنسان ما لا يعني في تمام الأحوال استقامة هذا الإنسان واتباعه للشرع، لأننا قد بينا أن الكشف الصوري والذي يعني في بعض جوانبه اطلاع الإنسان على أسرار الناس وقضاياهم الخاصة قد يحصل في بعض الأحيان من خلال طرق غير شرعية، والمشكلة الكبرى هاهنا أن المخادعين وقطاع الطريق إلى الله ممن تحصل لهم هذه المكاشفات الصورية، يستغلون هذه المكاشفات لأغراضهم الدنيوية الخبيثة ويخدعون عامة الناس بأنهم أصحاب مقامات وقرب من الله، والناس لجهلها بهذه الأمور والحقائق تحسن الظن بهم وتعتقد أنهم في الواقع كذلك، وربما أعرضوا عن أصحاب الكشف المعنوي من العلماء والعرفاء الذين لا يرجون إلا الله ولا يخشون أحداً سواه لأنهم لا يخبرونهم عن مغيباتهم وأسرارهم الخاصة، ولم يعلموا أن العرفاء الحقيقيين الذين لا يبتغون من وراء سعيهم ومجاهدتهم لأنفسهم إلا الوصول إلى الحق جلَّ جلاله يعتبرون التفات الإنسان إلى الكشف

٧٣

الصوري واشتغاله بالاطلاع على أسرار الخلق من الحجب التي تحجب الإنسان عن الوصول إلى الحق. وهذا ما يذكرنا به بعض العرفاء حينما يقول: (ولما كان العالم(١) أكثرهم أهل انقطاع عن الله واشتغال بالدنيا، مالت قلوبهم إلى أهل الكشف الصوري والأخبار عما غاب من أحوال المخلوقات فعظَّموهم واعتقدوا أنهم هم أهل الله وخاصته، وأعرضوا عن أهل الكشف الحقيقي، واتهموهم فيما يخبرون به عن الله، وقالوا: لو كان هؤلاء أهل الحق، كما يزعمون، لأخبرونا عن أحوالنا وأحوال المخلوقات، وإذا كانوا لا يقدرون على كشف أحوال المخلوقات، فكيف يقدرون على كشف أمور أعلى من هذه، فكذبوهم بهذا القياس الفاسد، وعميت عليهم الأنباء الصحيحة. ولم يعلموا أن الله تعالى قد حمي هؤلاء عن ملاحظة أهل الخلق وخصهم به، وشغلهم عما سواه، حماية لهم وغيرة عليهم. ولو كانوا ممن يتعرضون إلى أحوال الخلق، لما صلحوا للحق، فأهل الحق لا يصلحون للخلق، كما أن أهل الخلق لا يصلحون للحق)(٢) .

وأما بالنسبة إلى صور الكشفين الصوري والمعنوي فإنها كالتالي:

أولاً: صور الكشف الصوري: يذكر العارف الكبير السيد حيدر

____________________

(١) أي عامة الناس.

(٢) المصدر السابق ٤٦٩.

٧٤

الآملي في كتابه(جامع الأسرار ومنبع الأنوار) صور الكشف الصوري فيقول بعد تقسيمه الكشف إلى معنوي وصوري: (وأعني بالصوري ما يحصل في عالم المثال من طريق الحواس الخمس، وذلك أما أن يكون على طريق المشاهدة، كرؤية المكاشفة صور الأرواح المتجسدة والأرواح الروحانية، وأما أن يكون على طريق السماع، كسماع النبي الوحي النازل منظوماً أو مثل صلصلة الجرس أو دوي النحل كما جاء في الحديث الشريف فإنه (ع) كان يسمع ذلك ويفهم المراد منه. أو يكون الكشف على سبيل الاستنشاق وهو التنسم بالنفحات الإلهية والتنشق بفوحات الربوبية. قال (ع):إن لله تعالى في أيام دهركم نفحات: ألا فتعرضوا لها . وقال:إني لأجد نفَس الرحمن من جانب اليمن . أو يكون الكشف عن سبيل الملامسة، وهي الاتصال بين النورين أو بين الجسدين المثاليين)(١) .

وبعد أن يستعرض الآملي صور الكشف الصوري هذه يوجه أنظارنا إلى أنواع الكشف الصوري من حيث تعلقها أو عدم تعلقها بالحوادث الدنيوية وكيف تصير هذه المكاشفات حجاباً لبعض الناس يحجبهم عن رؤية جمال الحق والإخلاص في الارتباط بالله سبحانه وتعالى، فيقول: (وأنواع الكشف الصوري إما أن تتعلق بالحوادث الدنيوية أولاً. فإن كانت متعلقة بها سميت رهبانية لاطلاعهم - أي أصحابها - على

____________________

(١) المصدر السابق ٤٦٢.

٧٥

المغيبات الدنيوية بحسب رياضتهم. وأهل السلوك، لعدم توقف همهم العالية في الأمور الدنيوية، لا يلتفتون إلى هذا القسم من الكشف لصرفها عن الأمور الأخروية وأحوالها، ويعدونه من قبيل الاستدراج والمكر بالعبد، بل كثير منهم لا يلتفتون إلى القسم الأخروي أيضاً، وهم الذين جعلوا مقاصدهم الفناء في الله والبقاء به. والعارف المحقق لعلمه بالله ومراتبه وظهوره في مظاهر الدنيا والآخرة، واقف معه أبداً ولا يرى غيره، ويرى جميع ذلك تجليات إلهية، فينزل كلاً منها منزلته، فلا يكون ذلك النوع أيضاً من الكشف استدراجاً في حقه، لأنه حال المبعدين الذين يقنعون من الحق بذلك، ويجعلون ذلك سبب حصول الجاه والمنصب في الدنيا. وهو تعالى منزه في الحقيقة من القرب والبعد المثبتين للغيرية مطلقاً. وإن لم تكن أنواع الكشف الصوري متعلقة بها - أي بالحوادث الدنيوية - بأن كانت المكاشفات في الأمور الحقيقية الأخروية والحقائق الروحانية من الأرواح العالية والملائكة السماوية والأرضية، فهي مطلوبة معتبرة)(١) .

ثانياً: صور الكشف المعنوي: بعد أن يعرّف الآملي الكشف المعنوي بأنه (ظهور المعاني العينية والحقائق الغيبية)(٢) يشرع في بيان صوره ومراتبه فيقول: (وله أيضاً مراتب.أولها ظهور المعاني في القوة المفكرة من غير استعمال المقدمات وترتيب القياسات، بل بأن ينتقل

____________________

(١) نفس المصدر: ٤٦٥ - ٤٦٦.

(٢) نفس المصدر: ٤٦٩.

٧٦

الذهن من المطالب إلى مبادئها، ويسمى بالحدس.

ثم ظهور المعاني في القوة العاقلة المستعملة للمفكرة، وهي قوة روحانية غير حالة في الجسم، ويسمى بالنور القدس، والحدس من لوامع أنوارها؛ وذلك لأن القوة المفكرة جسمانية، فتصير حجاباً للنور الكاشف عن المعاني الغيبية، فهي أدنى مراتب الكشف، ولذلك قيل: الفتح على قسمين فتح في النفس، وهي يعطي العلم التام نقلاً وعقلاً. وفتح في الروح، وهو يعطي المعرفة وجوداً، لا عقلاً ولا نقلاً.

ثم ظهور المعاني في مرتبة القلب، وقد يسمى ظهورها بالإلهام في هذا المقام، إن كان الظاهر معنى من المعاني الغيبية، لا حقيقة من الحقائق، أو روحاً من الأرواح المجردة، أو عيناً من الأعيان الثابتة؛ لأن تجلي هذه الأشياء في هذا الموطن يسمى مشاهدة قلبية.

ثم ظهور المعاني في مرتبة الروح، وينعت ظهورها بالشهود الروحي، وهو بمثابة الشمس المنورة لسماوات مراتب الروح وأراضي مراتب الجسد، فهو - أي المكاشف في مرتبة الروح - بذاته آخذ من الله العليم المعاني الغيبية من غير واسطة على قدر استعداده الأصلي، ويفيض على ما تحته من القلب وقواه الروحانية والجسمانية، إن كان من الكمل والأقطاب، وإن لم يكن منهم، فهو آخذ من الله بواسطة القطب على قدر استعداده وقربه منه، أو بواسطة الأرواح التي هي تحت حكمه من عالمي الجبروت والملكوت.

٧٧

ثم ظهور المعاني في مرتبة السر، ثم ظهورها في مرتبة الخفى بحسب مقاميهما، وظهور المعاني في هذه المرتبة لا يمكن إليه الإشارة ولا تقدر على إعرابه العبارة، كما قيل: الحقيقة كشف سبحات الجلال من غير إشارة، وإذا صار هذا المعنى مقاماً أو ملكة للسالك، أتصل علمه بعلم الحق اتصال الفرع بالأصل، فحصل له أعلى المقامات من الكشف)(١) .

وهذه المعاني التي يذكرها العرفاء في بيان وإيضاح حقيقة الكشف ذكر ما يماثلها ويشابهها في الكثير من التفاصيل والجزئيات بعض من اهتموا بدراسة وتتبع الظواهر الروحية والغيبية، ولاسيَّما تلك الحالات التي حدثت لبعض من أصيبوا بالغيبوبة والموت المؤقت ثم عادوا إلى الحياة ليقصوا على الناس ما شاهدوه في أثناء غيبوبتهم أو موتهم المؤقت، ومن العجيب أن تتفق تلك المشاهدات التي شاهدها هؤلاء البعض مع تصورات العرفاء عن عالم الغيب وما يتمتع به من خصائص ومميزات، ويحكي الدكتور ريمون مودي في كتابه(أضواء حول الحياة بعد الحياة) بعض هذه التجارب فيقول: (لقد أكد لي العديد من الأشخاص أنهم في لحظة معينة من تجربتهم، كانوا يشعرون بأن لديهم نظراً بعيد المدى يرون به واقعاً مختلفاً تماماً، حيث فيه كل المعارف - المتعلقة بالماضي والحاضر والمستقبل - تجتمع كلها في حالة لا زمنية (حالة انعدام الزمن). فبالنسبة لبعض

٧٨

الأشخاص، كان يتجلى ذلك في لحظة ضياء، كانوا يبلغون خلالها، كما يبدو لهم، المعرفة الشاملة، وإذا ما حاولوا وصف هذا الجانب من حادثتهم، كانوا يجتمعون على وصفه بأنه لا يمكن التعبير عنه. وقد اعترف الجميع، كذلك، بأن هذه المعرفة المطلقة كانت تتلاشى في لحظة عودتهم إلى الحياة الدنيوية، ولا يبقى لديهم من هذا العلم بكل شيء، أي شعور)(١) .

وحينما يسأل الدكتور مودي امرأة أصيبت بحالة موت مؤقت عن مشاهداتها في هذه الحالة عبر السؤال التالي: بأي شكل تمثلت لك تلك المعرفة؟ هل بشكلها العملي أو بالصور؟ فإنها كانت تجيب قائلة: (بكل الأشكال الممكنة: من صور، وأصوات، وأفكار. لقد كانت أي شيء، وكل شيء، كما أنه لم يبق شيء غير معروف. كل المعرفة كانت هناك، ليست فقط في هذه أوجهها، بل كلها)(٢) .

ويحكي عن رجل شاب ما رآه في ذلك العالم الغيبي فيقول: (والمرء في ذلك العالم يتنسم المعرفة  ... (مثلما يشم النسمات لتدخل إلى جسمه) فيعرف بها على حين غرة (فجأة) كل الأجوبة  ... وهذا يحدث كما لو أن المرء يركز انتباهه على ناحية ما من هذا العلم، وفي لمحة، تتدفق المعرفة من تلك الناحية بصورة ذاتية، وكأنه يستمع إلى

____________________

(١) ريمون مودي، أضواء حول الحياة بعد الحياة: ٢٩.

(٢) نفس المصدر: ٣١.

٧٩

عشرة دروس معاً ذات قراءة سريعة)(١) .

ويحدثه رجل في الأربعين من عمره أصيب بتوقف في القلب قائلاً: (ثم رأيت نفسي وسط منظر ريفي تمر به الجداول، وفيه الأشجار والجبال العالية. ولكن عند ما نظرت حولي - إن صح القول - لم تكن أشجاراً حقاً، حتى ولا شيء مما أعرفه، بل إن الذي بدا لي كان أكثر غرابة؛ كان يوجد أناس، ليسوا بمظهرهم المادي والجسدي: الناس كانوا موجودين، وهذا كل ما هنالك)(٢) .

وفي ختام هذه النقطة لابد من الإشارة إلى أنه توجد طرق أخرى معروفة للاتصال بالعالم الغيبي والاطلاع على بعض المغيبات كاستحضار الأرواح والجان والكهانة وغيرها، وللإسلام موقف صريح تجاه التعامل معه هذه الطرق لا يمكننا التغافل عنه في علاقتنا مع الغيب والمغيبات، وهذا الموقف يهدينا إلى أن الاتصال بالغيب والاطلاع على الأسرار والمغيبات لا ينبغي أن يجعل غاية يتجاوز من خلالها على حدود الشريعة ومقررات الدين، ويشعر الفرد من خلالها بالتعالي والامتياز على الآخرين، بالإضافة إلى كون هذه الطرق كطريق الكشف قد تخطأ في بعض مطياتها ونتائجها مما لا يبرر الاعتماد المطلق عليها في التوصل إلى الحقيقة التي ينبغي للإنسان أن ينشدها في علاقته وارتباطه بعالم الغيب. وهذا ما سنقوم ببيانه في النقطة التالية.

____________________

(١) نفس المصدر: ٣٣.

(٢) نفس المصدر: ٣٤.

٨٠