شبابنا ومشاكلهم الروحية

شبابنا ومشاكلهم الروحية0%

شبابنا ومشاكلهم الروحية مؤلف:
الناشر: دار القرآن الكريم
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 156

شبابنا ومشاكلهم الروحية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد كامل الهاشمي
الناشر: دار القرآن الكريم
تصنيف: الصفحات: 156
المشاهدات: 27168
تحميل: 43827

توضيحات:

شبابنا ومشاكلهم الروحية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 156 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 27168 / تحميل: 43827
الحجم الحجم الحجم
شبابنا ومشاكلهم الروحية

شبابنا ومشاكلهم الروحية

مؤلف:
الناشر: دار القرآن الكريم
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

النقطة الرابعة: مخاطر الاتصال بالعالم الغيبي.

قد يتصور الكثير من الناس أن مسألة الارتباط بالعالم الغيبي وقدرة البعض على التعرف على أسراره واكتشافها ولو كان هذا البعض نبياً أو رسولاً، مجرد مسألة تفضيل واختصاص من قبل الله سبحانه وتعالى، من دون أن تكون هناك مبررات أخرى جعلت الله جلَّ وعلا يختص هذا البعض من الناس دون غيرهم بإطلاعهم على الغيب وتعريفهم بحقائق العالم الآخر. ولكن الصحيح أن المسألة خلاف ذلك تماماً؛ لأن الله سبحانه وتعالى وإن كان له الحق المطلق في اختيار من يشاء من عباده لجعله نبياً أو رسولاً أو ولياً صالحاً يخبر الناس عما غاب وخفى عنهم من أسرار وحقائق عالم الغيب، إلا أن الله إنما يختار من عباده لهذه المهمة من علم منه الأمانة والصدق والإخلاص في تأدية رسالته عنه إلى الناس، وهذا ما نلمحه من إطلاق تأكيده تعالى على أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة يمتنع عليه أن يسير الناس في اتجاه مغاير لإرادة الله ومشيئته، وفي ذلك يقول تعالى: ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ) (آل عمران: ٧٩).

ونفس هذا المعنى نلحظه في قوله تعالى لنبيه عيسى (ع):( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ

٨١

الْغُيُوبِ ) (المائدة: ١١٦).

ويؤكد عيسى (ع) على أنه لم يقل للناس إلا ما أمره الله به حينما يقول:( مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (المائدة: ١١٧).

وعلى هذا الأساس نعي أن مسألة الارتباط بالغيب مسألة لها خطورتها الكبيرة التي تجعل منها مهمة ثقيلة لا ينهض بحمل أعبائها وتحمل مسؤوليتها إلا القليل من الناس ممن توفرت فيهم مؤهلات خاصة جعلت منهم أناساً قادرين على القيام بدورهم المطلوب في ربط الإنسان بخالقه وبعالم الغيب من دون أدنى تقصير أو إخلال بالواجب.

ولقد سعى علماء العرفان إلى بيان المخاطر التي يمكن أن تقع للإنسان في اتصاله بعالم الغيب عبر طريق الكشف والمشاهدة، مع تأكيدهم المسبق بإمكانية اتصال الإنسان بعالم الغيب من خلال هذا الطريق الذي يتأتى للإنسان من خلال تزكية النفس ومجاهدتها بآداب الشريعة ورسومها، بخلاف من أنكر إمكانية هذا الأمر ورأى في مكاشفات العرفاء ومشاهداتهم جنوحاً إلى الخيال وضرباً من الوهم، وسيأتينا الحديث مفصلاً عن العرفان وطريقة العرفاء في تحصيل المعرفة في بعض الكلمات القادمة.

وعلى كل حال فقد أدرك العرفاء إمكانية الاشتباه والخطأ في

٨٢

ما يتوصل إليه أصحاب المكاشفات من نتائج معرفية عبر اتصالهم الروحي بعالم الغيب، ومن هنا بدأ العرفاء يؤكدون على قيود معينة لا يمكن لمكاشفة العارف أن تتجاوزها أو أن تحاول إسقاطها، وأهم تلك القيود أن لا تخالف المكاشفة الشريعة في مقرراتها وأحكامها، ومن هنا قال العرفاء: (إن الشريعة مقدمة على الحقيقة). وأكدوا في عدة مقامات على ضرورة اتباع الأنبياء والرسل (ع) فيما جاءوا به عن الله تعالى، وفي ذلك يقول القيصري: (فالاهتداء إليه تعالى إما بإخباره تعالى عن ذاته وصفاته وأسمائه، أو بتجليه لعباده وإشهاده نفسه لهم (وجلَّ جناب الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد، أو يطلع عليه إلا واحد بعد واحد) فهم الأنبياء (ع) الذين هم خلاصة خاصة أهل الوجود والشهود، فواجب لطالب الحق اتباعهم والاهتداء به. قال تعالى:( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ) وبقدر متابعته للأنبياء والأولياء (ع) يظهر له الأنوار الإلهية والأسرار الربانية)(١) .

وبعد أن فرَّق الآملي في(جامع الأسرار ومنبع الأنوار) بين الإلهام الخاص والإلهام العام، وما يكون منه بسبب وما لا يكون بسبب، يصرح بضرورة الحاجة إلى النبي المرسل والإمام المعصوم (ع) في التمييز بين الإلهام الحقيقي وغير الحقيقي فيقول: (والتمييز بين هذين الإلهامين محتاج إلى ميزان كلمة ومحك رباني، وهو نظر الكامل المحقق والإمام المعصوم والنبي المرسل، المطلع على بواطن الأشياء على

____________________

(١) رسالة التوحيد والنبوة والولاية: ٢١.

٨٣

ما هي عليه، واستعدادات الموجودات وحقائقها. ولهذا احتجنا بعد الأنبياء والرسل (ع) إلى الإمام المرشد، لقوله تعالى:( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) لأن كل واحد ليس له قوة التمييز بين الإلهاميين الحقيقي وغير الحقيقي، وبين الخاطر الإلهي والخاطر الشيطاني، وغير ذلك)(١) .

أضف إلى ذلك أن العرفاء طال ما نبهوا على ضرورة وأهمية كون الإنسان في بداية سلوكه إلى الله تحت نظر المرشد الخبير الذي يكشف له عما يمكن أن يلتبس عليه في أثناء مجاهدته لنفسه.

وخلاصة ما نريد قوله في ختام هذه النقطة وهده الكلمة أيضاً أن على شبابنا المسلم أن يكون دقيقاً في ارتباطه بعالم الغيب وتعامله مع مسائل الروح، وأن يعي تمام الوعي أنه مهما بالغ في العبادة والتقرب من الله فإن هناك الشيطان اللعين الذي يسعى لصده عن سبيل الله بكل وسيلة وألف حيلة، وأن عليه أن يستعين كل الاستعانة بالله سبحانه وتعالى في جميع مراحل جهاده مع النفس الأمَّارة بالسوء، وأن يسأل الله عَزَّ شأنه أن يبصره ما يكايد به الشيطان ويلهمه ما يعدو له، كما يقول زين العابدين وسيد الساجدين (ع) في دعائه عند ذكر الشيطان والاستعاذة منه:(اللَّهُم وما سوَّل لنا من باطل فعرِّفناه، وإذا عرَّفْتَناه فقناه، وبصرنا ما نكايده به، وألهمنا ما نعدُّه له، وأيقظنا عن سِنة الغفلة بالركون إليه، وأحسن بتوفيقك عوننا عليه، الله واشرب قلوبنا إنكار عمله، وألطف لنا في نقض حيله) (٢) .

____________________

(١) جامع الأسرار ومنبع الأنوار: ٤٥٥ - ٤٥٦.

(٢) الصحيفة الكاملة السجادية: الدعاء السابع عشر.

٨٤

الكلمة السادسة:

الشباب وعلم العرفان والقراءات الروحية والغيبية

قلنا في الكلمة السابقة إننا سنتحدث عن علم العرفان وعن طريقة العرفاء في استحصال المعرفة، وحديثنا في هذه الكلمة عن العرفان بصورة خاصة وعن الكتابات والنتاجات الروحية والغيبية بصورة عامة ينطلق من إحساسنا المتزايد بضرورة تصحيح المسار الكلي الذي يتعامل شبابنا المسلم من خلاله مع القراءات الروحية والغيبية التي كثر الإقبال عليها ولاسيَّما من قبل الشباب في الفترة الأخيرة، وبالأخص بعد تنامي حركة الصحوة الإسلامية والعودة إلى الدين التي شهدتها مجتمعاتنا الإسلامية مع بدايات عقد الثمانينات من القرن العشرين الميلادي.

إذ مما يؤسف له أنه قد تولدت عند شبابنا المسلم رغبة جامحة في قراءة ومتابعة الكتابات الروحية والتي تعني بقضايا النفس والروح وكل ما يرتبط بالغيبيات من قريب أو بعيد، وموقع الخطأ في هذه القراءات الشابة أنها ما كانت تميز في كثير من الأحيان بين الغث والسمين في هذه الكتابات، ولا بين الكتابات التي تتعامل مع القضايا الروحية

٨٥

والمسائل الغيبية بجد ووعي وإدراك لجميع أبعاد تلك القضايا والمسائل، والتأثيرات السلبية التي يمكن أن ينتجها التعامل الخاطئ مع هذه القضايا والمسائل وبين الكتابات التي تبتعد عن الواقعية والموضوعية في طرح ومعالجة قضايا الروح والنفس الإنسانية ولا تلتفت إلى الانعكاسات السلبية التي يمكن أن يولدها التصوير المشوه والمبتور لقضايا النفس والروح الذي تقدمه هذه الكتابات.

ومن المهم التنبيه على أن المسألة في واقعها كانت ذات بعدين، فمن جهة كانت هناك مثل هذه الكتابات الأخيرة التي لم يكن يهمها إلا أن تقدم ما يثير القارئ ويستجلب نظره من دون أن تحاول دراسة واستقصاء التأثيرات البعدية التي تتركها قراءة الكتاب على نفسية الشاب وتفكيره وطريقة تعامله مع الناس والحياة، والتي كانت في أغلب الأحيان تأثيرات سلبية وغير محمودة. ومن جهة أخرى كان الشاب المسلم يقبل على هذه الكتابات بشغف ونهم من دون أن يكون واعياً للمخاطر النفسية والفكرية والسلوكية التي يمكن أن يولدها التعامل الخيالي واللاواقعي مع القضايا الغيبية والروحية الذي يقع فيه الشاب نتيجة إقباله الكلي على قراءة ومتابعة هذه الكتابات.

ولا يتصور الشاب المسلم الذي يعشق هذه الكتابات ويقبل عليها لأنه يجدها تنسجم وغاية الإسلام في ربط الإنسان بخالقه وتوثيق علاقته الروحية به، إننا لا نريد أن نقلل من أهمية القراءات الروحية التي يمكن أن تساهم أو من المحقق أنها تساهم في بناء وتنشيط البعد

٨٦

الروحي عند الإنسان في علاقته بالله وبالعالم الآخر، ولكن ما نريد قوله: إنه ليس كل الكتابات التي تتناول وتثير القضايا الغيبية والروحية ينبغي للشباب قراءتها، لأنه من الملاحظ أن هذه الكتابات على قسمين كما أشرنا إليه من قبل:

قسم يعالج قضايا الروح والغيب برؤية سحرية كما نشاهده في الكتابات التي تعني بقضايا الطلمسات والسحر واستحضار الأرواح والجن، وما شابه ذلك وشاكله، ومن الملاحظ والمجرب في سيرة الكثيرين ممن كانوا يقبلون على مثل هذه الكتابات الإغراق في الاهتمام بهذه القضايا ومحاولة تصييرها وسيلة للقفز على مشاكل الواقع الحياتي والتغاضي عن ضرورة حدها بالطرق الطبيعية والمتعارفة، ولا ننسي بالإضافة إلى ذلك الاستفادة السيئة التي يستفيدها البعض من المستغلين والانتهازيين من مثل التعامل مع الغيب والغيبيات بهذه الصورة وضمن هذا المجال.

وقسم آخر يعالج قضايا الروح والغيب باعتبارها أمور ترتبط كل الارتباط بالنفس الإنسانية في سيرها الصعودي والتكاملي إلى الله سبحانه وتعالى، وفي هذا المقام يبرز علمان في الوسط الإسلامي كان لهما الدور الأكبر في الاعتناء بالقضايا الروحية والمسائل الغيبية وهما علم العرفاء وعلم التصوف، ولأننا نشعر بحصول وتواجد الكثير من الملابسات عند شبابنا المسلم في فهم ووعي هذين العلمين، ولاسيَّما الأول منهم - أعني علم العرفان - الذي حظي باهتمام واسع من قبل الشباب على أثر انتصار الثورة الإسلامية

٨٧

في إيران وانتشار الفكر العرفاني لقائدها العظيم الإمام الخميني (قدَّس اللهُ نفسه الزكية)، فإننا سنحاول أن نقدم لمحة مختصرة عن كلا العلمين مع إيضاح وبيان الملابسات الفعلية التي تكتنف التعامل مع هذين العلمين من قبل الكثير من الناس وبالأخص شبابنا المسلم، وسنسعى أيضاً لاكتشاف الرؤية الإسلامية في نقد وتقييم كلا العلمين، فنقول:

بالنسبة إلى علم العرفان فإنه علم اعتنى بالجانب الروحي في الإسلام باعتباره البعد الأساس الذي ما جاءت ونزلت الأديان الإلهية إلا من أجل تنميته وتركيزه وتذكير الإنسان به، وابتداءً يحدد العرفان موضوعه بأنه الله والمعرفة بذاته وصفاته وأفعاله معرفة شهودية لا تتم للإنسان إلا من خلال مجاهدة النفس وتزكيتها وتطهيرها وتأديبها بآداب الشريعة ورسومها.

وبعد ذلك يقسم العرفان إلى عرفان نظري وعرفان عملي، والقسم الأول يهتم ببحث ودراسة العديد من المسائل أهمها البحث في حقيقة التوحيد ومراتبه وانقساماته إلى توحيد ذاتي، وتوحيد صفاتي، وتوحيد أفعالي، والبحث في حقيقة النفس وتجردها، ومراتب السير والسلوك إلى الله، والبحث عن العلاقة بين الشريعة والطريقة والحقيقة وهي ثلاث تسميات يرمز بالأولى منها إلى الفقه والأحكام الشرعية، وبالثانية إلى الآداب التي يلزم مراعاتها من قبل السالك إلى الله، وبالثالثة إلى المعاني والمعارف التي يتوصل إليها الإنسان من خلال سعيه التكاملي والروحي، وربما عبر بعض العرفاء عن هذه التسميات الثلاث بالفقه

٨٨

الأصغر والفقه الأوسط والفقه الأكبر. ويبحث في العرفان النظري أيضاً عن ظاهر الشريعة وباطنها وعن حدود العلاقة بين الظاهر والباطن.

وأما القسم الثاني من العرفان - وهو العرفان العملي - فهو يعني بتحديد البرنامج العملي للإنسان السالك إلى الله، من حيث الآداب التي ينبغي التزامها والوظائف والأذكار والأوراد التي يلزم مراعاتها.

ومن خلال ذلك يتبين لنا أن العرفان بقسميه النظري والعملي لا يعدو أن يكون في حقيقته وواقعه أكثر من جنبة من جنبات الدين، التي أوليت عناية خاصة ومتميزة من قبل علماء العرفان لكونها هي الجنبة الرئيسية في الخطاب الديني الإلهي الذي لا يبتغي من وراء تشريع الأحكام على الإنسان وتكليفه بها إلى تطهير ذاته من كل ما سوى الله وجعل الإنسان متحققاً بحقيقة العبودية المطلقة لله (عَزَّ وجَلَّ)، انطلاقاً من قوله تعالى: ( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (المائدة: ٦)، وقوله تعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُون ) الذاريات: ٥٦ - ٥٧.

وبعد هذا لابد أن نشير إلى أن العرفان يعتبر طريقاً من طرق المعرفة الدينية في مقابل العقل والوحي، إذ العرفان يقوم أساساً على الإيمان بأن الوصول إلى معرفة الحقائق الدينية على وجهها الواقعي والصحيح إنما يتيسر للإنسان بطريق المجاهدة وتزكية النفس، وهو ما يفهم من قوله تعالى: ( إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً ) (الأنفال: ٢٩)،

٨٩

وقوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (الحديد: ٢٨).

أما العقل فهو طريق معرفي يعتمد الدليل البرهاني وسيلة أصلية لإثبات المطالب وتقرير الحقائق، والوحي طريق معرفي يعتمد التلقي المباشر من الله وسيلة لتقرير وإثبات الحقيقة الدينية، ومرادنا من الوحي في هذا المقام الوحي بمعناه الخاص الذي يعني الإنباء والإخبار عن الله تعالى.

وحينما نقول إن العرفان طريق معرفي يقابل العقل والوحي فهذا لا يعني - كما يتصور الكثيرون - أنه يضادهما ويخالفهما، بل يعني أنه رتبة من رتب استجلاء الحقيقة كما أن العقل والوحي كذلك، ومما لا خلاف فيه بين جميع أهل الديانات والرسالات السماوية أن الوحي هو المصدر الأول والأساس للتعرف على الحقائق الدينية والغيبية، وإنما حصل الخلاف بين الفلاسفة المشائين والحكماء الإشراقيين في تقديم الطريق البرهاني العقلي على الطريق العرفاني الذوقي أو العكس، فقال الفلاسفة العقليون بتقديم البرهان على العرفان وقال الحكماء الذوقيون بتقديم العرفان على البرهان، وصار لكل واحد منهم حججه وبراهينه، وهذا النزاع يعتبر من المشاكل المعرفية والمهمة في تاريخ الفلسفة، ولا نستطيع أن نستقصي الكلام عنه وفيه في هذا المقام لأنه يحتاج إلى بحث موسع مستقل ونحن إنما أردنا فقط أن

٩٠

نقدم لشبابنا المسلم تعريفاً مختصراً عن موضوع علم العرفان وطريقة العرفاء في استحصال المعرفة.

وأما بالنسبة إلى كيفية إطلاع النفس على الحقائق الغيبية والمعارف الإلهية من خلال هذا الطريق فيوضحه لنا فيلسوف الإسلام الراحل العلامة الطباطبائي حينما يشرح الاختلاف الواقع في كيفية إيصال هذا الطريق إلى المعرفة بقوله: (فمنهم من قرَّره على أن العلوم الإنسانية فطرية بمعنى أنها حاصلة له، موجودة معه بالفعل في أول وجوده، فلا جرم يرجع معنى حدوث كل علم له جديد إلى حصول التذكر. ومنهم من قرَّره على أن الرجوع إلى النفس بالانصراف عن الشواغل المادية يوجب انكشاف الحقائق لا بمعنى كون العلوم عند الإنسان بالفعل، بل هي له بالقوة وإنما الفعلية في باطن النفس الإنسانية المفصولة عن الإنسان عند الغفلة الموصولة به عند التذكر، وهذا ما يقول به العرفاء وأهل الإشراق وأترابهم من سائر الملل والنحل. ومنهم من قرَّره على نحو ما قرَّره العرفاء غير أنه اشترط في ذلك التقوى واتباع الشرع علماً وعملاً كعدة من المسلمين ممن عاصرناهم وغيرهم زعماً منهم أن اشتراط اتباع الشرع يفرق ما بينهم وبين العرفاء والمتصوفة، وقد خفى عليهم أن العرفاء سبقوهم في هذا الاشتراط كما يشهد به كتبهم المعتبرة الموجودة)(١) .

ويؤكد العلامة الطباطبائي على أنه لا مجال لإنكار حصول

____________________

(١) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن: ٥ / ١٦١ - ١٦٢.

٩١

المعارف الإلهية عن طريق مجاهدة النفس وتزكيتها، والذي يثمر قرب العبد من ربه ودخول الإنسان في حظيرة الولاية الإلهية، حينما يقول: (نعم، هاهنا حقيقة قرآنية لا مجال لإنكارها، وهو أن دخول الإنسان في حظيرة الولاية الإلهية، وتقربه إلى ساحة القدس والكبرياء يفتح له باباً إلى ملكوت السماوات والأرض يشاهد منه ما خفى على غيره من آيات الله الكبرى، وأنوار جبروته التي لا تطفأ، قال الصادق (ع):لولا أن الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم لرأوا ملكوت السماوات والأرض ، وفيما رواه الجمهور عن النبي (ص) قال:لولا تكثير في كلامكم وتمريج في قلوبكم لرأيتم ما أرى ولسمعتم ما أسمع ، وقد قال تعالى: ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) (العنكبوت: ٦٩) ويدل على ذلك ظاهر قوله تعالى:( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) (الحجر: ٩٩) حيث فرع اليقين على العبادة، وقال تعالى:( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) (الأنعام: ٧٥)، فربط وصف الإيقان بمشاهدة الملكوت، وقال تعالى:( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ) (التكاثر: ٧)، وقال تعالى:( إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) (المطففين: ١٨ - ٢١)(١) .

ومع اعتقاد العرفاء الراسخ بإمكانية توصل الإنسان إلى المعرفة من خلال هذا الطريق، إلا أنهم كانوا يؤكدون على صعوبة سلوك هذا

____________________

(١) نفس المصدر: ٢٧٠ - ٢٧١.

٩٢

الطريق لكثرة المؤهلات والخصوصيات التي يحتاجها سالك هذا الطريق، بالإضافة إلى كثرة الاشتباهات التي تقع في سلوك هذا الطريق والتي قلَّ من ينجو منها ممن سلكوا هذا الطريق. ومن تلك الاشتباهات العظيمة التي يقع فيها الكثير ممن يميلون إلى العرفان، والتي طالما حذر من الوقوع فيها أكثر العرفاء، محاولة الاطلاع على كتب العرفان وقراءتها بصورة شخصية ومن دون الاستعانة في فهمها ودراستها بأهل هذا الفن، وهذا الخطأ والاشتباه قُدِّر لكثير من شبابنا المسلم الوقوع فيه نتيجة إقبالهم على قراءة هذه الكتب التي وضعت للمتخصصين من أهل هذا الفن، ولاسيَّما بعد انتصار الثورة الإسلامية المباركة في إيران وانتشار الكتابات العرفانية لزعيمها الراحل الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه).

ومن هنا نريد أن نذكر شبابنا المسلم - في ختام حديثنا عن العرفان - على ضرورة الالتفات إلى هذا الأمر والرجوع إلى إنسان مطلع وخبير في ما ينبغي أن يقرأه الشباب وما لا ينبغي أن يقرأه، ولاسيَّما في مثل هذه الكتابات التي يولِّد الفهم الخاطئ لمقاصدها الكثير من المشاكل والأزمات الفردية والاجتماعية.

وأما بالنسبة إلى علم التصوف والذي يعتبره البعض من المفكرين الإسلاميين الجنبة الاجتماعية في العرفان، كما أن العرفان الجنبة النظرية للتصوف، فإن الحديث عنه لا يعدو أن يكون نفس الحديث المتقدم عن العرفان، غاية الأمر أن الملابسات التاريخية التي أحاطت

٩٣

بعلمي العرفان والتصوف كانت أكثر ما تنشأ من الأفكار والسلوكيات المثيرة التي تبناها من تسموا بـ: (المتصوفة) أو (الصوفية).

وهذه الأفكار والسلوكيات المثيرة والتي كانت في كثير من الأحيان تصطدم بالشريعة ومشاعر المسلمين الدينية كان بعض المتصوفة يقع فيها نتيجة عدم نضوج واكتمال الجانب العلمي والمعرفي عند هؤلاء المتصوفة، وهو الجانب الذي أكد عليه أشد التأكيد بعد ذلك العرفاء من خلال تقييمهم ونقدهم لاشتباهات المتصوفة العلمية والعملية.

ومن خلال هذا الحديث السريع والمقتضب عن كل من العرفان والتصوف اتضح لنا أن هناك الكثير من الملابسات التاريخية والمعرفية والشرعية التي تحيط بهذين العلمين، والتي تجعل من مهمة التمييز بين الحق والباطل والصواب والخطأ فيهما مهمة عسيرة لا يقدر على القيام بها إلا القليل من الناس ممن استوعبوا كل المسائل والإثارات المرتبطة بهذين العلمين، وجميع المداخلات التي تتعلق بالمسارات المختلفة لهذين العلمين في أبعادهما وانعكاساتهما التاريخية والاجتماعية والدينية.

٩٤

الكلمة السابعة:

الشباب وعالم الأحلام والرؤى

ابتليت مجتمعاتنا الإسلامية - وربما كل المجتمعات الدينية - بمشكلة التعامل مع الغيب والغيبيات، ومن أهم تلك الإثارات التي ترتبط بالجانب الغيبي هي مشكلة الأحلام والرؤى، إذ أن هذه المشكلة قُدِّر لها أن تُضخَّم وأن يتم التعامل معها إما من موقع الرفض المطلق لكل أسسها المعقولة واللامعقولة، أو من موقع القبول المطلق لكل أسسها المعقولة واللامعقولة أيضاً، وهكذا صار الناس في موقفهم من الأحلام والرؤى بين إفراط وتفريط.

وقبل أن نحاول معالجة المشكلة واستكشاف الموقف الشرعي والعقلي تجاهها، لابد أن نشير إلى حالة مؤسفة جداً تنتشر في أوساط مجتمعاتنا الإسلامية، ويسمح لها أن تؤسس البناء الفكري والعقيدي والسلوك الفردي والاجتماعي للإنسان المسلم، وهي حالة الاندفاع في التعامل مع الغيبيات بصورة تفتقد كل مقومات الوعي والإدراك، إذ من الملاحظ أن هناك الكثير من الارتباكات والتخبطات الفكرية والنفسية والروحية والسلوكية يعيشها عدد غير يسير من المسلمين ولاسيَّما من

٩٥

الشباب المسلم المتدين نتيجة انعدام الرؤية الواضحة عندهم في ما يتعلق بالغيب والغيبيات.

وبصورة عامة فإن المشكلة الروحية للإنسان المسلم المعاصر تكمن في سماحه للغيب المختلَق والمتوهَم بأن يتدخل في حياته بشكل يفسد عليه كل ارتباطاته الغيبية واللاغيبية. وهذا الأمر ينتج من قصور أو تقصير في وعي وإدراك واستيعاب حقائق الإسلام ما يرتبط منها بالغيب والعالم الآخر الذي ينتظره المسلم، وما يرتبط منها بحاضره وعالمه الدنيوي الذي يعيشه بالفعل.

وحينما نقول بأن المشكلة الروحية للإنسان المسلم المعاصر في أساسها مشكلة تعامل مع غيب مختلق ومتوهم، فذلك لأننا ندرك بأن الكثير من التصورات والأفكار التي يحملها العديد من المسلمين عن عالم الغيب تصورات وأفكار لا تمت إلى الإسلام بصلة ولا ترتبط معه بأي رابط، وفوق ذلك فإن هذا التعامل يفسح له المجال أن يفسد ويدمر حياة الإنسان المسلم حتى في بعدها الروحي، وهذا ما نجزم بأن الإسلام ما كان يبتغيه وما كان يرتضيه من المسلم، ولقد دخل عليّ (ع) على العلاء بن زياد الحارثي يعوده فشكا إليه العلاء أمر أخيه عاصم (فقال له العلاء: يا أمير المؤمنين، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد. قال:وما له؟ قال: لبس العباءة وتخلى عن الدنيا. قال:عليّ به ، فلما جاء قال:يا عدي نفسه، لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك! أترى الله أحل لك الطيبات، وهو يكره أن تأخذها! أنت أهون

٩٦

على الله من ذلك )(١) .

وما نريد إثارته من حديث عن الأحلام والرؤى في هذه الكلمة ننطلق فيه من محاولة تصحيح مظاهر التعامل اللاواعي والسلبي التي يمارسها الكثير من الأفراد المتدينين في أوساط مجتمعاتنا الإسلامية في موقفهم من الرؤى والأحلام، سواء التي يشاهدونها بأنفسهم أم التي يشاهدها غيرهم من الناس ويصل خبرها إليهم.

إننا نشعر أن هناك الكثير من السذاجة والبساطة واللاواقعية يتمتع بها المسلمون في نظرتهم للمسائل الغيبية وموقفهم منها، وأفضل دليل على ذلك الاستجابة السريعة والتأثيرات العميقة التي تجدها وتتركها كل ظاهرة تتعلق بالأمور الغيبية في نفوس أكثر المسلمين ولو كانت الظاهرة عاجزة عن إثبات نفسها بأي دليل مقنع، ويكفي أن يخترع أي إنسان - ولو كان فاسقاً وبعيداً كل البعد عن الدين - معجزة وكرامة وأي قصة ذات طابع غيبي وينسبها إلى شخصية مقدسة في الوسط الديني ليجد أكثر الناس تتباشر بنقلها وكأن الجميع قد شاهدها بأم عينيه، ومن يحاول التشكيك في حصولها وصدورها ولو لم يكن يحمل نية سيئة فإنه لن يواجه بأقل من النفور والاشمئزاز، وربما يتهم بمحاولة تشكيك الآخرين في حقائق الدين.

وعلى هذا الأساس يبرز لنا في الوسط الديني الإسلامي بين فترة وأخرى من يدعي أنه يطلع على قضايا غيبية بصورة أو أخرى، ومن

____________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ٢٠٩.

٩٧

الطبيعي أن لا يعجز مثل هؤلاء المدعون عن الحصول على العديد من الأنصار والأتباع الذين يدافعون عنهم ويتبنون كل النتائج المتحصلة من مشاهداتهم الغيبية.

وخطورة هذه الدعاوى أنها تستطيع أن توجد قناعات قلبية ونفسية عند من يؤمنون بها ويصدقون مدعيها بحيث لا يمكن لأي دليل عقلي أو شرعي مهما كان محكماً وثابتاً أن يزلزل أو يزحزح تلك القناعات الثابتة. ومن المؤسف جداً أن تصير الرؤى والمنامات من الأمور التي يعتمد عليها بصورة كلية عند الكثير من المتدينين حتى في أمور لا مجال للرؤيا في إثباتها أو نفيها، وربما كان أحد أسباب هذا التعامل اللاواعي من قبل المتدينين مع قضايا الرؤى والمنامات هو تقصير أصحاب الفكر والعلماء في بيان وإيضاح حقيقة الرؤى والأحلام والاشتباهات التي يمكن أن تحيط بها وتلتبس على من يشاهدها مع كثرة ابتلاء المتدينين بمسائل الرؤى والمنامات، وانجرار الكثير منهم للتعامل معها بصورة لا واعية وسلبية.

ومع أن عدداً من العلماء والفلاسفة والعرفاء الإسلاميين تعرضوا في جملة من كتاباتهم لأبحاث مهمة وأساسية في الرؤى والأحلام إلا أن هذه الأبحاث كانت تتخذ في أكثر الأحيان منهجاً اختصاصياً وأسلوباً علمياً معقداً مما لا يوفر دواعي الاطلاع عليها ومحاولة هضم واستيعاب أفكارها من قبل عامة الناس. ولقد أفصح الشيخ المفيد (رض) في كلمة مختصرة له عن المنامات عن أهم مظاهر التعامل السلبي مع

٩٨

أبعاد هذه القضية حينما قال: (إن الكلام في باب رؤيا المنامات عزيز، وتهاون أهل النظر به شديد، والبلية بذلك عظيمة، وصدق القول فيه أصل جليل)(١) .

وعلى هذا الأساس فإننا سنحاول أن نعالج مشكلة الموقف من الرؤى والأحلام في هذه الكلمة، وسنسعى لتقديم صورة واضحة وجلية عن حقيقة الرؤى والمنامات نأمل من خلالها أن تتلاشى مظاهر التعامل السلبي مع الرؤى والمنامات عند شبابنا المسلم الذي نخصه ونعنيه بالحديث قبل غيره من الناس.

وستتم معالجة المشكلة من خلال النقاط التالية:

النقطة الأولى: حقيقة الرؤى والمنامات.

في هذه النقطة سنحاول التعرف على حقيقة الرؤى والمنامات وكيف تحصل للإنسان عند نومه، وأول بيان عن حقيقة الرؤى والمنامات نقدمه للقارئ هو ما ينقله العلامة المجلسي في(بحار الأنوار) عن بعض الحكماء إذ يقول: (إن للنفوس الإنسانية اطلاعاً على الغيب في حال المنام وليس أحد من الناس إلا وقد جرب ذلك من نفسه تجارب أوجبته التصديق، وليس ذلك بسبب الفكر، فإن الفكر في حال اليقظة التي هو فيها أمكن يقصر عن تحصيل مثل ذلك، فكيف في حال النوم، بل بسبب أن النفوس الإنسانية لها مناسبة الجنسية إلى المبادئ العالية المنتقشة بجميع ما كان وما سيكون وما هو كائن في الحال، ولها أن تتصل بها

____________________

(١) الكراجكي، كنز الفوائد: ٢ / ٦٠.

٩٩

اتصالاً روحانياً وأن تنتقش بما هو مرتسم فيها، لأن اشتغال النفس ببعض أفاعيلها يمنعها عن الاشتغال بغير تلك الأفاعيل، وليس لنا سبيل إلى إزالة عوائق النفس بالكلية عن الانتقاش بما في المبادئ العالية، لأن أحد العائقين هو اشتغال النفس بالبدن، ولا يمكن لنا إزالة هذا العائق بالكلية مادام البدن صالحاً لتدبيرها، إلا أنه قد يسكن أحد الشاغلين في حالة النوم، فإن الروح ينتشر إلى ظاهر البدن بواسطة الشرايين وينصب إلى الحواس الظاهرة حالة الانتشار ويحصل الإدراك بها، وهذه الحالة هي اليقظة فتشتغل النفس بتلك الإدراكات، فإذا انخنس الروح إلى الباطن تعطلت هذه الحواس وهذه الحالة هي النوم، وبتعطلها يخف إحدى شواغل النفس عن الاتصال بالمبادئ العالية والانتقاش ببعض ما فيها، فيتصل حينئذٍ بتلك المبادئ اتصالاً روحانياً، ويرتسم في النفس بعض ما انتقش في تلك المبادئ وما استعدت هي لأن تكون منتقشة به، كالمرايا إذا حوذي بعضها ببعض، والقوة المتخيلة جبلت محاكية لما يرد عليها، فتحاكي تلك المعاني المنتقشة في النفس بصور جزئية مناسبة لها، ثم تصير تلك الصور الجزئية في الحس المشترك فتصير مشاهدة، وهذه هي الرؤيا الصادقة.

ثم إن الصور التي تركبها القوة المتخيلة إن كانت شديدة المناسبة لتلك المعاني المنطبعة في النفس حتى لا يكون بين المعاني التي أدركتها النفس وبين الصور التي ركبتها القوة المتخيلة تفاوت إلا في

١٠٠