التشيع نشأته معالمه

التشيع نشأته معالمه5%

التشيع نشأته معالمه مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 390

  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 20486 / تحميل: 7816
الحجم الحجم الحجم
التشيع نشأته معالمه

التشيع نشأته معالمه

مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

البَداء

تقديمٌ

إنّ مِن المسائل الفكريّة التي أُثير حوْلها الجدَل والحوار بين الفكر الإسلامي الأصيل، والفكر اليهودي المحرّف، هي مسألة إمكانية حدوث النَسْخ في الشرائع الإلهية، سواء باستبدال شريعةٍ مكان شريعةٍ أُخرى، أو باستبدال حُكمٍ مكان حُكمٍ آخَر في الشريعة ذاتها.

وكما وقع الخلاف في مسألة النَسْخ والتبديل في التشريع والأحكام، وقع الجدال أيضاً في قدرة الله تعالى على التغيير والتبديل في عالَم التكوين، والخلائق.

فهاتان مسألتان عقيديّتان، مسألة النَسْخ التشريعي، والنَسْخ التكويني (البَداء)، قد دار الحوار والجدَل فيهما بين الفكر اليهودي المحرّف، وبين ما جاء به القرآن ونطق به الرسول الأمين (صلّى الله عليه وآله)، مِن أنّ النسْخ في الشرائع هو سنّة إلهية، وأنّ التغيير والتبديل في الأحكام ظاهرة طبيعية في الشرائع، كما أنّ التغيير والتبديل كائنٌ في عالَم الخلْق والتكوين الذي سُمّيَ بـ (البَداء).

أُستعمل مصطلح (البَداء) في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) للدفاع

١٠١

عن الفَهْم الإسلامي مقابل الفهْم اليهودي، والفكر الفلسفي المتأثّر بالفلسفة اليونانية، وبعض المدارس الكلامية كمدرسة المعتزلة.

أثار هذا المصطلح شُبهةً فكريةً عقيدية لدى البعض مِن الكتّاب، وأصحاب الآراء والمذاهب العقيدية في الصفّ الإسلامي، ولمْ تقِف حدود هذه الشُبهة عند الاستفهام والمناقشة والردّ العِلمي، بل أُسيء فهْم المصطلح، وأُضيفت إلى إساءة الفهْم تصوّرات ناشئة عن روح الخِلاف والمواجهة القَبْلية بين هذه المدرسة، وبين مدارس فكريّة أُخرى.

ففُهِم القول بالبداء بأنّه قول بتغيّر عِلم الله؛ لخَفاء المصالح عليه، وبالتالي نسبة الجهل إليه سبحانه وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.

وهكذا تدخّل النزاع والخلاف في تشويه الحقيقة، وتحويل الموقف مِن خِلافٍ بين الفكر الإسلامي، الذي قاده أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، وبين الفهْم اليهودي المحرّف وبعض الاتّجاهات الفلسفية والكلامية المنحرفة، إلى تُهمةٍ فكريّةٍ تُلصَق بأتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وفهْمها لهذه المسألة.

ولإيضاح هذه المفرَدة العقيدية، وبيان الفهْم التوحيدي في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، نعرّف ولو بإيجاز، بمعنى البَداء، ونشْأت المصطلح، ونِسْبة البداء إلى الله سبحانه.

البَداء في اللغة:

بدا الشيء بَدْواً وبَداءً: أي ظهر ظهوراً، قال الله تعالى: ( وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ) (١) .

(البَداء، ظهور الرأي بعد أنْ لمْ يكن، واستصواب شيءٍ عُلِم بعد أن لمْ يُعلم.

____________________

(١) سورة الزمر: آية ٤٧.

١٠٢

ويقال بَدا لي في هذا الأمر بَداء، أي ظهر لي فيه رأي آخَر) (١) .

البَداء في الاصطلاح:

وإذا كان هذا معنى البداء في اللغة، فلنتابع استعمال كلمة (البَداء)، ونسبتها إلى الله سبحانه بلسان الشريعة ومصطلحها، وإذا شئنا مثل هذا التحقيق، فسنجد أنّ الرسول الكريم محمّداً (صلّى الله عليه وآله) هو أوّل مَن نسَب (البَداء) إلى الله سبحانه، في الحديث الآتي الوارد في البخاري: (عن أبي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّهُ سَمِعَ رُسُول اللهِ (صلّى الله عليه وآله) يَقُولُ: إِنَّ ثَلاثَةً في بَنِي إِسرائِيلَ: أَبْرَصَ وأَقْرَعَ وَأَعْمـى، بَدَا للهِ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكاً، فَأَتى الأَبْرَصَ فقال: أيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْك؟ قال َ: لَوْنٌ حَسَنٌ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ، قَدْ قَذِرَنِي النـاسُ، قالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ، فَأُعْطِيَ لَوْناً حَسَناً، وَجِلْداً حَسَناً، فَقَالَ: أَيُّ المَالِ أحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ: الإِبِلُ - أَو قَالَ: البَقَرُ، هو شَكَّ في ذلك: أَنّ الأبرص والأقرع: قال أحدهما الإبل، وقال الآخَر البقر - فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ، فَقَالَ: يُبَارَكَ لَكَ فِيهَا. وَأَتَى الأَقْرَعَ فَقَالَ: أيُّ شَيْءٍ أَحبُّ إِليْكَ؟ قال: شَعَرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هذا، قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ، وأُعْطِيَ شَعراً حسناً، قالَ: فأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ: البَقَرُ، قالَ: فَأَعْطَاهُ بَقَرَةً حامِلاً، وقالَ: يُباركُ لكَ فِيهَا. وَأَتى الأَعْمى فقال: أيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ: يَرُدُّ اللهُ إِلَيَّ بَصَري، فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ، قالَ: فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللهُ إِلَيْهِ بَصَرهُ، قالَ: فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ: الغَنَمُ، فَأَعْطَاهُ شَاةً وَالِداً، فَأُنْتِجَ هذَانِ وَوَلَّدَ هذَا، فَكانَ لِهذَا وَادٍ مِنْ إِبِلٍ، وَلِهذَا وَادٍ مِنْ بَقَرٍ، وَلِهذَا وَادٍ مِنَ الغَنَمِ.

ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ في صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِين، تَقَطَّعَتْ بِيَ الحِبَالُ في سَفَرِي، فَلاَ بَلاَغَ اليَوْمَ إِلاَّ بِاللهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الحَسَنَ وَالجِلْدَ الحَسنَ وَالمالَ، بَعيراً أَتَبلَّغُ عَلَيْهِ

____________________

(١) المعجم الوسيط.

١٠٣

في سَفَرِي. فَقَالَ لَهَ: إِنَّ الحقُوقَ كَثِيرَةٌ، فَقَال لَهُ: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَص يَقْذَرُكَ النَّاسُ فَقِيراً فَأَعْطَاكَ اللهُ؟ فَقَالَ: لَقَدْ وَرِثْتُ لِكابِرٍ عَنْ كابِرٍ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كاذِباً فَصَيَّرَكَ اللهُ إِلَى ما كُنْتَ.

وَأَتَى الأَقْرَعَ في صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ما قالَ لهذَا، فَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ ما رَدَّ عَلَيْهِ هذَا، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كاذِباً فَصَيَّرَكَ اللهُ إلَى ما كُنْتَ.

وأَتَى الأَعْمى في صُورَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ، وَتَقَطَّعَتْ بِيَ الحِبَالُ في سَفَرِي، فلا بلاغَ اليومَ إلاّ باللهِ ثُمَّ بِكَ، أسأَلُكَ بالَّذِي رَدَّ عَليكَ بَصَرَكَ شاةً أَتبلَّغُ بِها في سَفَري، فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمى فَرَدَّ الله بَصَرِي، وفَقِيراً فَقَدْ أَغْنَانِي، فَخُذْ ما شِئْتَ، فَوَ اللهِ لا أَجْهَدُكَ اليَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ للهِ، فَقَالَ: أَمْسِكْ مالَكَ، فَإِنَّمَا ابتُلِيتُمْ، فَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنْكَ، وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ) (١).

وروي عن أبي موسى الأشعري أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) قال: (يجمع الله (عزّ وجلّ) الأُمم في صعيد يوم القيامة، فإذا بدا لله (عزّ وجلّ) أن يصدع بين الخلْق، مثّل لكلّ قومٍ ما كانوا يعبدون...) (٢) .

وبذا نفْهم أنّ الرسول الهادي (صلّى الله عليه وآله) هو أوّل مَن استعمل كلمة البداء، وأضاف معناها إلى الله سبحانه.

ولنستمع إلى الشيخ المفيد وهو يوضّح معنى البداء، الذي آمنت به الإمامية واعتقدته، قال: (أقول في معنى البداء ما يقوله المسلمون بأجْمعهم في النسْخ وأمثاله، مِن الإفقار بعد الإغناء والإمراض بعد الإعفاء والإماتة بعد الإحياء، وما يذهب إليه أهل العدْل خاصّة مِن الزيادة في الآجال والأرزاق والنقصان منها بالأعمال.

فأمّا إطلاق لفظ البداء، فإّنما صرتُ إليه بالسمْع الوارد عن الوسائط بين العباد وبين الله (عزّ وجلّ)، ولو لمْ يرِد به سمْع أعلم صحّته ما استجزت إطلاقه، كما أنّه لو لمْ يرِد

____________________

(١) صحيح البخاري ٣: ١٢٧٦ / كتاب الأنبياء - ١٤ - (باب ٥١) / ح ٣٢٧٧.

(٢) مسند الإمام أحمد بن حنبل ٤: ٤٠٧.

١٠٤

عليّ سمْع بأنّ الله تعالى يغضب ويرضى ويحبّ ويعجب، لَما أطلقت ذلك عليه سبحانه، ولكنّه لمّا جاء السمْع به صرتُ إليه على المعاني التي لا تأباها العقول.

وليس بيني وبين كافّة المسلمين في هذا الباب خلاف، وإنّما خالَف مَن خالفهم في اللفظ دون ما سواه، وقد أوضحت مِن علّتي في إطلاقه بما يقصر معه الكلام، وهذا مذهب الإمامية بأسرها، وكلّ مَن فارقها في المذهب يُنكره على ما وصَفتُ مِن الاسم دون المعنى ولا يرضاه) (١) .

إلاّ أنّ إساءة فهْم المصطلح قد جرّت إلى حوارٍ طويلٍ بين الشيعة الإمامية، والذين اختلفوا معهم مِن الفِرَق الإسلامية كالأشاعرة وغيرهم، خلافاً لفظياً في استعمال هذا المصطلح، هذا المصطلح الذي بُني على أساس استعمال الرسول الكريم محمّد (صلّى الله عليه وآله) له.

أمّا دلالته ومعناه، فإنّ الرأي الإمامي انطلق في فهْمه مِن الردّ على الفكر اليهودي المحرّف، الذي يذهب إلى أنّ يَد الله مغلولة: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ... ) (٢) ، وهو غير قادر أن يُحدِث شيئاً في الخلْق بعد أن فرغ منه وخلَقه، واتّخذ طابعه النهائي، فرفضوا الإيمان بقدرة الله على التغيير في الخلْق ما يشاء، وكما رفضوا الإيمان بقدرة الله على التغيير في الخلْق، رفضوا أيضاً النسْخ في التشريع، كأساسٍ عقيدي لرفض الإيمان بنبوّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) القائمة على أساس نسْخ الشرائع السابقة، ووجوب اتّباع شريعة القرآن.

وقد استدلّ الشيعة الإمامية بالحديث النبويّ الآنِف الذِكر، على استعمال المصطلح لفظاً ومعنىً، وعلى الآيتين الكريمتين آية النسْخ في التشريع: ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا... ) (٣) ، وآية المَحْو الشاملة للتشريع والتكوين: ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ

____________________

(١) الشيخ المفيد / أوائل المقالات: ص ٩٢ - ٩٣.

(٢) سورة المائدة: آية ٦٤.

(٣) سورة البقرة: آية ١٠٦.

١٠٥

وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (١) .

والنسْخ هو بَداءٌ تشريعي، أي تغيير في التشريع، والمَحْو هو بداءٌ تكويني، أي تغيير في التكوين، إذ لا ينسَخ إلاّ ما هو كائن ومثبّت في عالَم التحقّق التكويني.

وهكذا يتّضح أنّ الشيعة الإمامية استعملت مصطلح البداء، بعد أن استعمله الرسول الكريم محمّد (صلّى الله عليه وآله)، وفهِمَته بأنّه مرادف للمَحْو والنسْخ والتغيير، وقد قال الله تعالى: ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (٢) ، فقد أوضح سبحانه أنّه يمْحو ويغيّر أوضاع الناس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والبلاء الشخصي... الخ، إذا ما غيّروا ما بأنفسهم.

وجاء في الحديث الشريف: أنّ الله سبحانه يبسط الرزق، ويُنسئ في الأجَل لمَن يصِل رحِمَه، فأوضح بذلك أنَّ التبديل والتغيير متوقّف على فِعل هذا المعروف، وذلك هو مصداق البَداء الذي قالت به الإمامية.

روى أبو هريرة عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) قال: (سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: مَن سرّه أن يُبسَط له في رزقه، وأن يُنَسأ له في أثره، فلْيَصِل رحِمَه) (٣) .

ولنقرأ جملةً مِن بيانات الإمام الصادق (عليه السلام) لمفهوم البَداء، وتفسيره للآية التي تحدّثت عنه.

عن منصور بن حازم قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام): هل يكون اليوم شيء لم يكن في عِلم الله تعالى بالأمْس؟

____________________

(١) سورة الرعد: آية ٣٩.

(٢) سورة الرعد: آية ١١.

(٣) صحيح البخاري: ص ٢٢٣٢ / ح ٥٦٣٩ (باب مَن بسط له في الرزق بصِلة الرحِم).

١٠٦

قال: لا، مَن قال هذا فأخزاه الله.

قلت: أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، أليس في عِلم الله؟ قال: بلى، قبل أن يخلق الخلْق) (١) .

وروي عنه قوله (عليه السلام): (مَن زعم أنّ الله (عزّ وجلّ) يبدو له في شيءٍ لمْ يعْلمه أمْس، فابرؤوا منه) (٢) .

وعن عبد الله بن سنان، أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (ما بدا لله في شيءٍ إلاّ كان في عِلمه قبل أن يبدو له) (٣) .

وعنه (عليه السلام) أنّه قال: (مَن زعم أنّ الله بدا له في شيءٍ بداء ندامةٍ، فهو عندنا كافر بالله العظيم) (٤) .

وعن ميسّر بن عبد العزيز قال: قال لي أبو عبد الله الصادق [ عليه السلام ]: (يا ميسّر ادع، ولا تقل إنّ الأمْر قد فُرغ منه...) (٥) .

وقال (عليه السلام): (إنّ الله (عزّ وجلّ) لَيَدفع بالدعاء الأمْر الذي عَلِمه إن يُدعى له فيستجيب، ولولا ما وفّق العبد مِن ذلك الدعاء، لأصابه منه ما يجثّه مِن جديد الأرض) (٦) .

ثمّ أوضح معنى البَداء بقوله (عليه السلام): (إنّ الله لمْ يُبْدَ له مِن جهل) (٧) .

وقد تحدّث القرآن عن البَداء كمعنىً ومفهوم، دون أن يستعمل لفظه في موارد

____________________

(١) الشيخ الصدوق / التوحيد (باب البداء).

(٢) المجلسي / بحار الأنوار ٤: ١١١.

(٣) الكليني / الأُصول مِن الكافي ١: ١٤٨ / ح ٩ (باب البداء).

(٤) الشيخ الصدوق / الاعتقادات في دِين الإمامية: ص ٢٠.

(٥) الكليني / الأُصول مِن الكافي ٢: ٤٦٦ / ح ٣.

(٦) المصدر السابق: ص٤٧٠ / ح٩.

(٧) المصدر السابق ١: ١٤٨ / ح ١٠.

١٠٧

كثيرةٍ مِن آيه وبياناته، كقوله تعالى: ( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ، يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (١) .

وكقوله تعالى: ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٢) .

وقوله تعالى: ( يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) (٣).

وقوله تعالى: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ... ) (٤) .

وقوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ ) (٥) .

وقوله تعالى: ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ، فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) (٦) .

( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ... ) (٧) .

( لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ... ) (٨) .

____________________

(١) سورة الرعد: آية ٣٨، ٣٩.

(٢) سورة البقرة: آية ١٠٦.

(٣) سورة الرحمن: آية ٢٩.

(٤) سورة المائدة: آية ٦٤.

(٥) سورة الأنعام: آية ٢.

(٦) سورة الصافات: آية ١٠٢ - ١٠٧.

(٧) سورة الرعد: آية ١١.

(٨) سورة الروم: آية ٤.

١٠٨

( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ) (١) .

( وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) (٢) .

( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ... ) (٣) .

( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ، الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (٤) .

وهكذا يتحدّث القرآن عن التغيير والتبديل؛ بسبب الدعاء المخلِص لله، أو بسبب ضَعف المؤمنين الصادقين، ورحمته بهم، وعِلمه بضَعفهم الذي انكشف فيهم بعد التكليف الأوّل، وهو سبحانه عالِم بكلّ ذلك قبل أن يكلّف المقاتلين المؤمنين بمقاتلة الكافرين، الذين يفوقونهم عشرة أضعاف عددهم.

وقد فسّر الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، وأوضح معنى البَداء الذي ورَد في الآيات، فقد فسّر قول الله تعالى: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً

____________________

(١) سورة الأنبياء: آية ٨٣، ٨٤.

(٢) سورة الأنبياء: آية ٨٩، ٩٠.

(٣) سورة النمل: آية ٦٢.

(٤) سورة الأنفال: آية ٦٥، ٦٦.

١٠٩

وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ) (١)، (وقال: الأجَل المقضي، هو المحتوم الذي قضاه الله وحتَمه، والمسمّى هو الذي فيه البَداء، يقدّم ما يشاء، ويؤخّر ما يشاء، والمحتوم ليس فيه تقديم ولا تأخير) (٢) .

وفسّر الصادق (عليه السلام) قول الله (عزّ وجلّ): ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ... ) (٣) ، فقال: لمْ يعنوا أنّه هكذا، ولكنّهم قالوا: قد فرغ مِن الأمْر، فلا يزيد ولا ينقص. فقال الله (جلّ جلاله) تكذيباً لهم: ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ... ) (٤) .

ألم تسمع الله (عزّ وجلّ) يقول: ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (٥).

وفسّر قوله تعالى: ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ... ) بقوله: (وهل يمحو الله إلاّ ما كان، وهل يُثبت إلاّ ما لمْ يكن) (٦) .

وفسّر قصّة أمْر الله لإبراهيم بأن يذبح ولَده إسماعيل، وتبديل ذلك الأمْر، وفدْيه بذِبحٍ عظيم، فسّره بأنّه مِن أوضح مصاديق البداء بقوله: (ما بدا لله بداء كما بدا له في إسماعيل أبي، إذ أمَر أباه بذبحه، ثمّ فداه بذِبحٍ عظيم) (٧) .

____________________

(١) سورة الأنعام: آية ٢.

(٢) عليّ بن إبراهيم / تفسير القمّي ١: ١٩٤.

(٣) سورة المائدة: آية ٦٤.

(٤) سورة المائدة: آية ٦٤.

(٥) سورة الرعد: آية ٣٩.

انظر المجلسي / بحار الأنوار ٤: ١٠٤ ط - مؤسسة الوفاء - بيروت.

(٦) الشيخ الصدوق / التوحيد: ص ٣٣٣ (باب البَداء).

(٧) المصدر السابق: ص ٣٣٦.

١١٠

البَداء في تحليل العلماء:

وقد تناول علماء أهل البيت (عليهم السلام) مفهوم البداء بالدراسة والتحليل، فكشفوا غوامضه العقيدية، وأوضحوا محتوى الفكرة ومضمون المصطلح، نذكر مِن ذلك البيان: حديث الشيخ الصدوق عن البَداء، الذي أوضح لنا معناه، كما أوضح أنّ البداء هو ردّ على الفهْم اليهودي المحرّف، فقال (رحمه الله):

(ليس البَداء كما يظنّه جهّال النّاس بأنّه بداء ندامةٍ، تعالى الله عن ذلك، ولكن يجب علينا أن نقرّ لله (عزّ وجلّ) بأنَّ له البداء، معناه أنَّ له أن يبدأ بشيءٍ مِن خلْقه فيخلُقه قبل شيء، ثمَّ يعدم ذلك الشيء ويبدأ بخلْق غيره، أو يأمر بأمْرٍ، ثمَّ ينهى عن مِثله، أو ينهى عن شيءٍ، ثمَّ يأمر بمِثل ما نهى عنه، وذلك مثل نسْخ الشرايع، وتحويل القِبلة، وعدَّة المتوفّى عنها زوجها.

ولا يأمر الله عباده بأمْرٍ في وقتٍ ما، إلاّ وهو يعلم أنَّ الصلاح لهم في ذلك الوقت في أن يأمرهم بذلك، ويعلم أنَّ في وقتٍ آخَر الصلاح لهم في أن ينهاهم عن مِثل ما أمرَهم به، فإذا كان ذلك الوقت أمرهم بما يصلحهم.

فمَن أقرَّ لله (عزّ وجلّ) بأنَّ له أن يفعل ما يشاء، ويعدم ما يشاء ويخلُق مكانه ما يشاء، ويقدِّم ما يشاء، ويؤخّر ما يشـاء، ويأمر بما شاء كيف شاء، فقد أقرَّ بالبَداء.

وما عُظِّم الله (عزّ وجلّ) بشيءٍ أفضل مِن الإقرار بأنَّ له الخلْق والأمْر، والتقديم، والتأخير، وإثبات ما لمْ يكن، ومَحْو ما قد كان.

والبداء هو ردٌّ على اليهود؛ لأنّهم قالوا: إنَّ الله قد فرغ مِن الأمْر، فقلنا: إنَّ الله كلَّ يومٍ هو في شأن، يُحيي ويُميت ويرزق ويفعل ما يشاء، والبداء ليس مِن ندامةٍ، وإنّما هو ظهور أمْرٍ.

يقول العرب: بدا لي شخص في طريقي، أي ظهر، قال الله

١١١

(عزّ وجلّ): ( وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ) (١) ، أي ظهر لهم، ومتى ظهر لله (تعالى ذِكره) مِن عبدٍ صِلةً لرحِمِه زاد في عمره، ومتى ظهر له منه قطيعةً لرحِمِه نقَّص مِن عمره، ومتى ظهر له مِن عبدٍ إتيان الزِّنا نقَّص مِن رزقه وعمره، ومتى ظهر له منه التعفّف عن الزِّنا زاد في رزقه وعمره) (٢) .

وتحدّث السيّد الداماد في نبراس الضياء، وهو مِن فلاسفة الشيعة وعلمائهم البارزين في القرن الحادي عشر، تحدّث عن البداء، فقال: (البداء منزلته في التكوين منزلة النسْخ في التشريع، فما في الأمْر التشريعي والأحكام التكليفية نسْخ، فهو في الأمْر التكويني والمكوّنات الزمانية بَداء، فالنسْخ كأنّه بَداءٌ تشريعي، والبداء كأنّه نسْخٌ تكويني.

ولا بداء في القضاء (٣) ، ولا بالنسبة إلى جناب القدس الحقّ... وإنّما البداء في القدَر (٤) ، وفي امتداد الزمان الذي هو أُفق التقضّى والتجدّد...

وكما حقيقة النسْخ عند التحقيق انتهاء الحُكم التشريعي وانقطاع استمراره، لا رفْعه وارتفاعه عن وعاء الواقع، فكذا حقيقة البَداء عند الفحْص البالغ انبتات (٥) استمرار الأمر التكويني، وانتهاء اتّصال الإفاضة.

ومرجعه إلى تحديد زمان الكون، وتخصيص وقت الإفاضة، لا أنّه ارتفاع المعلول الكائن عن وقت كونه، وبطلانه في حدّ حصوله) (٦) .

وتحدّث العلاّمة المجلسي عن البداء، وعن أصالة الفكر الإمامي، ودفاعه عن

____________________

(١) سورة الزمر: آية ٤٧.

(٢) الشيخ الصدوق / التوحيد: ص ٣٣٥ (باب البَداء).

(٣) القضاء: إبرام الشيء والحُكم بإيجاده.

(٤) القدَر: هو تقدير الشيء: مِن الشكل والصورة والبقاء والفناء... الخ.

(٥) انبتات: انقطاع.

(٦) المجلسي / بحار الأنوار ٤: ١٢٦ - ١٢٨.

١١٢

عقيدة التوحيد بتثبيت مفهوم البداء، فقال: (فنقول - وبالله التوفيق ـ: إنّهم إنّما بالغوا في البداء ردّاً على اليهود الذين يقولون: إنّ الله قد فرغ مِن الأمْر، وعلى النظّام، وبعض المعتزلة الذين يقولون: إنّ الله خلَق الموجودات دفعةً واحدةً على ما هي عليه الآن: معادن ونباتاً وحيواناً وإنساناً، ولمْ يتقدّم خلْق آدم على خلْق أولاده، والتقدّم إنّما يقع في ظهورها، لا في حدوثها ووجودها.

وإنّما أخذوا هذه المقالة مِن أصحاب الكُمون والظهور مِن الفلاسفة القائلين بالعقول والنفوس الفلَكية، وبأنّ الله تعالى لمْ يُؤثِّر حقيقةً إلاّ في العقل الأوّل، فهُم يعزلونه تعالى عن مُلكه، وينسبون الحوادث إلى هؤلاء.

فنفَوا ذلك، وأثبتوا أنّه تعالى كلّ يومٍ في شأن، مِن إعدام شيءٍ، وإحداث شيءٍ آخَر، وإماتة شخصٍ، وإحياء آخَر، إلى غير ذلك؛ لئلاّ يترك العباد التضرّع إلى الله ومسألته وطاعته، والتقريب إليه بما يُصلح أُمور دنياهم وعُقْباهم. وليرجوا عند التصدّق على الفقراء وصِلة الأرحام وبرّ الوالدين والمعروف والإحسان، ما وُعدوا عليها مِن طول العمر وزيادة الرزق وغير ذلك) (١) .

وتحدّث المرجع الديني السيّد أبو القاسم الخوئي (قدّس سرّه) عن البداء، وعن قدرة الله ومشيئته وعِلمه سبحانه، فقال: (لا رَيب في أنّ العالَم بأجمعه تحت سلطان الله وقدرته، وأنّ وجود أيّ شيءٍ مِن الممكنات منوطٌ بمشيئته تعالى، فإن شاء أوجده، وإن لمْ يشأ لمْ يوجده.

ولا رَيب أيضاً في أنّ عِلم الله سبحانه قد تعلّق بالأشياء كلّها منذ الأزل، وأنّ الأشياء بأجمعها كان لها تعيّن عِلميٌّ في عِلم الله الأزلي، وهذا التعيّن يعبّر عنه بـ (تقدير الله) تارةً، وبـ (قضائه) تارةً أخرى... فمعنى تقدير الله تعالى للأشياء وقضائه بها: أنّ الأشياء جميعها كانت متعيّنة في العِلم الإلهي منذ الأزل، على ما هي عليه مِن أنّ وجودها معلّق على أن تتعلّق المشيئة بها،

____________________

(١) المصدر السابق ص ١٢٩ - ١٣٠.

١١٣

حسَب اقتضاء المصالح والمفاسد، التي تختلف باختلاف الظروف، والتي يحيط بها العِلم الإلهي) (١).

ثمّ أوضح بعد ذلك موقف الفكر اليهودي المنحرف، مِن قدرة الله تعالى، فقال: (وذهب اليهود إلى أنّ قلم التقدير والقضاء حينما جرى على الأشياء في الأزل، استحال أن تتعلّق المشيئة بخلافه؛ ومِن أجْل ذلك قالوا: يَد الله مغلولة عن القبْض والبسْط والأخذ والإعطاء، فقد جرى فيها قلم التقدير، ولا يمكن فيها التغيير) (٢) .

وهذا القسم هو الذي يقع فيه البداء: ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (٣) ، ( لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِـن بَعْـدُ ) (٤) .

ثمّ أوضح رأي الشيعة الإمامية في البداء بقوله: (موقع البداء عند الشيعة الإمامية: ثمّ إنّ البداء الذي تقول به الشيعة الإمامية، إنّما يقع في القضاء غير المحتوم، أمّا المحتوم منه فلا يتخلّف، ولا بدّ مِن أن تتعلّق المشيئة بما تعلّق بـه القضـاء) (٥) .

ثمّ استدلّ لذلك بتفسير أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، الإمام الباقر والصادق والكاظم (عليهم السلام)، لقول الله (عزّ وجلّ): ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (٦) ، (أي يقدِّر الله كلّ أمْرٍ مِن الحقّ ومِن الباطل، وما يكون في تلك السنّة، وله فيه البداء والمشيئة، يقدّم ما يشاء، ويؤخّر ما يشاء مِن الآجال والأرزاق والبلايا والأعراض والأمراض، ويزيد فيها ما يشاء وينقص ما يشاء...) (٧) .

____________________

(١) السيّد الخوئي / البيان في تفسير القرآن: ص ٤٠٧ - ٤٠٨.

(٢) المصدر السابق: ص ٤٠٨.

(٣) سورة الرعد: آية ٣٩.

(٤) سورة الروم: آية ٤.

(٥) السيّد الخوئي / البيان في تفسير القرآن: ص ٤٠٩.

(٦) سورة الدخان: آية ٤.

(٧) السيّد الخوئي / البيان في تفسير القرآن: ص ٤١١.

١١٤

ثمّ يلخّص رأي الشيعة الإمامية بقوله: (وخلاصة القول: أنّ القضاء الحتْمي المعبّر عنه باللوح المحفوظ وأُمّ الكتاب، والعِلم المخزون عند الله، يستحيل أن يقع فيه البداء، وكيف يتصوّر فيه البداء؟...).

وإنّ الله سبحانه عالِم بجميع الأشياء منذ الأزل، لا يعزُب عن عِلمه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء.

روى الصدوق في (كمال الدِين)، بإسناده عن أبي بصير، أو سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (مَن زعم أنّ الله (عزّ وجلّ) يبدو له في شيءٍ لمْ يعلَمْه، فابرأوا منه).

وروى العياشي عن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): (إنّ الله يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء، ويمحو ما يشاء ويُثبت ما يشاء وعنده أُمّ الكتاب. وقال: فكلّ أمرٍ يريده الله، فهو في عِلمه قبل أن يصنعه، ليس شيء يبدو له إلاّ وقد كان في علمه، إنّ الله لا يبدو له مِن جهل) (١) .

ثمّ أوضح بعد ذلك، لماذا البحث في مسألة البداء، فقال: (فالقول في البداء هو الاعتراف الصريح بأنّ العالَم تحت سلطانه وقدرته في حدوثه وبقائه، وإنّ إرادة الله نافذة في الأشياء أزلاً وأبداً...

والقول بالبداء يوجِب انقطاع العبد إلى الله وطلبه إجابة دعائه منه، وكفاية مهمّاته وتوفيقه للطاعة وإبعاده عن المعصية، فإنّ إنكار البداء، والالتزام بأنّ ما جرى به قلم التقدير كائن لا محالة - دون استثناء - يلزمه يأس المعتقد بهذه العقيدة عن إجابة دعائه...

والسرّ في هذا الاهتمام: أنّ إنكار البداء يشترك بالنتيجة مع القول، بأنّ الله غير

____________________

(١) المصدر السابق: ص ٤١٢ - ٤١٣.

١١٥

قادر على أن يغيّر ما جرى عليه قلم التقدير. تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً) (١) .

وجرْياً على هذه القاعدة، ناقش الخواجه نصير الدِين الطوسي الفلاسفة الذين نفَوا عِلم الله بالجزئيات بقوله: (وتغيّر الإضافات ممكن).

وعلّق الشارح العلاّمة الحلّي على ذلك بقوله:

(أقول: هذا الجواب عن اعتراض الحكماء القائلين بنفي عِلمه تعالى بالجزئيات الزمانية، وتقرير الاعتراض: أنّ العِلم يجب تغيّره عند تغيّر المعلوم؛ وإلاّ لانتفت المطابقة، لكن الجزئيات الزمانية متغيّرة، فلو كانت معلومة عند الله تعالى، لزم تغيّر عِلمه تعالى، والتغيّر في عِلم الله تعالى محال. وتقرير الجواب: أنّ التغيّر هذا إنّما هو في الإضافات لا في الذات، ولا في الصفات الحقيقية...) (٢) .

وهكذا يتّضح الرأي الإمامي في مفهوم البداء، وتتحدّد معالِمه الأساسية مِن خلال ما بيّنه أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، وعرَضه وناقشه علماء ومتكلّموا الإمامية.

فهو لا يعني تغيّر عِلم الله تعالى، ولا نقْض إرادته، بل إنّ عِلمه سابق لِما سيكون وسيحدث مِن تغيير موقوف على تغيير المصالح والأوضاع البشرية، كأن يغيّر الإنسان ما بنفْسه مِن سوءٍ أو خير، فيغيّر الله ويُحدِث له وضعاً آخَر، أو يُحدِث الإنسان طاعةً كالدعاء أو الصدقة أو البِرّ والإحسان، فيدفع الله عنه السوء والمكروه، ويُنجز له طلِبَته.

فإنَّ الأمر لا يخرج مِن يَد الله ومشيئته، واستدلّوا لذلك بقوله تعالى: ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (٣) ، ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ

____________________

(١) السيّد الخوئي / البيان في تفسير القرآن: ص ٤١٤ - ٤١٥.

(٢) العلاّمة الحلّي / كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: ص ٢٢٢.

(٣) سورة الرعد: آية ٣٩.

١١٦

مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) (١) .

وبقوله: ( لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ) (٢) ، ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (٣) .

وبعد قراءة بيان الفكر الإمامي لمفهوم البَداء في العقيدة الإسلامية، نلخّص أبرز ما جاء في هذا الفهْم والبيان فهو:

١ - إنّ أوّل مَن استعمل مصطلح البَداء هو الرسول الكريم محمّد (صلّى الله عليه وآله).

٢ - إنّ البَداء في عالم التَكوين، كالنسْخ في عالَم التشريع.

٣ - إنّ المسلمين جميعاً يقولون بالبَداء كمعنىً، ويختلفون في إطلاق المصطلح على هذا المعنى، وبعد أن ثبت استعمال الرسول لهذا اللفظ، يكون الإشكال اللفظي قد حلّ، ولمْ تُعدّ هناك مشكلة عقيدية في استعمال المصطلح.

٤ - إنّ إبراز عقيدة البَداء مِن جانب الفكر الشيعي بهذا الشكل المكثّف، جاء ردّاً على الفكر اليهودي المنحرف، الذي ادّعى بأنّ الله سبحانه قد خلَق الخلْق، وفرغ منه، وهو غير قادر على أنْ يُحدث فيه شيئاً آخَر، أو يغيّر في الخلْق ما يشاء.

كما جاء ردّاً على أصحاب الفكر المنحرف مِن الفلاسفة المتأثّرين بالفكر اليوناني، وبعض متكلّمي المعتزلة الذين شطّ بهم الفهْم عن الرؤية التوحيدية الأصيلة.

٥ - إنّ البَداء لا يعني تغيّر عِلم الله سبحانه، بل إنّ الله عالِم بما يحدث ويتغيّر

____________________

(١) سورة البقرة: آية ١٠٦.

(٢) سورة الروم: آية ٤.

(٣) سورة الرعد: آية ١١.

١١٧

في الخلْق عِلماً أزليّاً.

٦ - إنّ ما جاء في القرآن الكريم مِن إجابة دعاء الأنبياء والمضطرّين وتغيير ما بهم، وما تحدّثت به السُنّة المطهّرة مِن حثٍّ على الصدقة والبرّ وصِلة الأرحام، وتأثير ذلك في إطالة العمر، ورفْع البلاء، وتغيير ما بالإنسان، إن هو إلاّ مصداق لمفهوم البداء. ولا يُقصد بالبداء إلاّ هذا التغيير وأمثاله.

٧ - إنّ ما يثبت في أُمّ الكتاب - اللوح المحفوظ - أي العِلم المخزون الذي لمْ يُطلِع الله سبحانه عليه أحداً مِن ملائكته أو رسُله، هو الأصل الثابت الذي لا تغيير فيه ولا تبديل، إنّما يقع التبديل والتغيير فيما يجري تنفيذه في عالَم الخلائق، الذي عبّر عنه القرآن الكريم بقوله: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ، سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ) (١) .

وقوله سبحانه: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (٢) .

فقد ورَد في تفسير وبيان أهل البيت (عليهم السلام)، أنّ في ليلة القدر تُقدَّر أُمور الخلائق مِن بداية تلك الليلة، وحتّى الليلة الآتية مِن العام الذي يتلوها.

____________________

(١) سورة القدر: آية ١ - ٥.

(٢) سورة الدخان: آية ٣ - ٦.

١١٨

الفصل الرابع

العدْل الإلهي

١١٩

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390