التشيع نشأته معالمه

التشيع نشأته معالمه0%

التشيع نشأته معالمه مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 390

  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 19532 / تحميل: 6920
الحجم الحجم الحجم
التشيع نشأته معالمه

التشيع نشأته معالمه

مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

عليك ورحمة الله وبركاته، وعلى أبيك مِن قبلك) (1) .

فتوجّه الحسين مِن المدينة المنوّرة إلى العراق، ووقعت المواجهة بينه وبين الجيش الأمويّ، واستشهد الإمام الحسين وثمانية وسبعون مِن أصحابه وأهل بيته، وحلّت الفاجعة بآل البيت النبويّ، ونشبت الفتن والثورات، وانطوت مرحلة قيادة المواجهة المسلّحة مِن جانب أئمّة أهل البيت بعد عليٍّ والحسن والحسين [ عليهم السلام ].

وباستقراء وقائع الكفاح السياسي والفكري، الذي استمرّ طيلة حياة الإمام عليٍّ وولَدَيه السِبْطين، الحسن والحسين (عليهما السلام)، ومَن تابعهم وجاهد معهم، نلاحظ أنَّ دعوتهم تركّزت حَول المطالبة بالتمسّك بكتاب الله وسنّة رسول الله والعمل بهما؛ لإيضاح وبلوَرة هويّة التشيّع لأهل البيت (عليهم السلام)، وجوهر حركتهم الفكرية.

ويتجسّد ذلك واضحاً في المواقف والتصريحات، التي صدرت عن الأئمّة وآبائهم. مِن ذلك ما ورَد في كتاب الصُلح الذي ثبّت فيه الحسن بن عليّ (عليهما السلام)، واشترط على معاوية: (أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنّة نبيّه) ، ويظهر ذلك واضحاً في الرسالة التي كتبها الإمام الحسين (عليه السلام) لأهل العراق: (... وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله، وسنّة نبيّه، فإنّ السنّة قد أُميتت، وأنّ البِدْعة قد أُحييَت، وإنْ تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدِكم سبيل الرشاد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته).

وهكذا يتّضح لدينا ظهور شيعتَين متواجهتين: شيعة آل البيت بقيادة عليٍّ والحسن والحسين، وشيعة بني أُميّة خلال حكومة معاوية وابنه يزيد وما تلاها مِن فترة الحُكم الأمويّ.

____________________

(1) السيّد ابن طاووس / مقتل الإمام الحسين: ص 15 - 16.

٤١

التَشرذم والخروج عن الخطّ الشيعي

في معركة صِفّين التي وقعت بين عليّ ومعاوية، والتي انتهت بالتحكيم، انشقَّ جيش عليٍّ، وخرجت منه جماعة محتجّة على التحكيم، وسمّيت هذه الفِرقة بالخوارج، ويعدّها علماء الفِرق فِرقةً شيعيّةً، غير أنّ الدراسة الموضوعية تنفي انتساب هذه الفِرقة إلى الشيعة؛ ذلك لأنّهم انشقّوا على الإمام عليّ مؤسّس التشيّع، ورفضوا إمامته، وقاتلوه واغتالوه، ثمّ تحوّلوا إلى كيانٍ سياسي، وأصحاب عقائدٍ خاصّةٍ بهم، تختلف عن الآراء العقيدية التي يحملها أئمّة أهل البيت وأتباعهم، كما أصبح لهم فِقْه ونظرية سياسية في الحُكم والإمامة، تختلف عن فقْه أهل البيت ونظريّتهم في الحُكم والسياسة.

وبعد مقتل الإمام الحسين (1) في العاشر مِن المحرّم سنة (61 هـ)، انسحب الإمام عليّ بن الحسين زَين العابدين (عليهما السلام)، إمام أهل البيت في تلك الفترة مِن المواجهة المكشوفة والكفاح المسلّح، الذي سلكَه آباؤه الأطهار؛ لعدم توفّر الظروف المناسبة لذلك، فواصل قيادة وتنظيم الكيان الشيعي بصورةٍ سرّية، كما واصل مهامّه العِلمية والفكرية في حِفْظ الرسالة والدفاع عن نقائها وأصالتها القرآنية، وبيان أحكامها ومعارفها.

وفي تلك المرحلة نشأت فِرق وتكتّلات شيعية ذات أهداف سياسية، ظهرت في ميدان الصراع ضدّ الحُكم الأمَويّ، فظهرت جماعة التوّابين، وأتباع المختار بن عبيدة الثقفي، ثمّ أتباع زيد بن عليّ بن الحسين (رضي الله عنه) الذين سمُّوا بالزيدية.. نسبةً إليه، وقد أعلن زيد الثورة على هشام بن عبد الملك الأمَويّ، الذي قتَل زيداً وصلَبه سنة (121 هـ).

____________________

(1) سنعرض جانباً مِن مأساة أهل البيت في كربلاء في موضوع (لماذا التقية) مِن هذا الكتاب.

٤٢

ولمْ تزل تلك الفِرقة الشيعية موجودة حتّى الآن، ويكثر أتباع زيد في اليمن، وتعتقد هذه الفِرقة بإمامة زيد بن عليّ بن الحسين، ثمّ الإمامة هي في وُلد فاطمة لمَن اتّصف بالعِلم والشجاعة منهم، وتصدّى للقيادة بالثورة على الظلم.

وفي فترة حياة الإمامَين الباقر والصادق (عليهما السلام) بدأت تظهر النظريات الفكرية والسياسية، والاختلافات في فَهْم الإمامة وتحديد شخص الإمام، في الصفّ الشيعي. وبدأ الانحراف والضلال يسوق فِرقاً كثيرةً انتسبت إلى التشيّع كالمغيرية والخطّابية وغيرها مِن فِرَق الغُلاة والمفوّضة، وقد عدّها كُتّاب الفِرق مِن فِرَق الشيعة، غير أنّ أهل البيت تبرّؤوا منهم ولَعَنوهم وطردوهم.

في حين استمرّ خطّ التشيّع بنقائه وأصالته المعهودة أيّام عليّ والحسن والحسين وعليّ بن الحسين، يكافح كفاحاً عِلمياً ضدّ انحراف تلك الفِرق وغيرها مِن الفِرَق الضالّة، التي وُلدَت في البيئة الإسلامية، وقد قاد الكفاح مِن أجْل النقاء والأصالة الإسلامية أئمّةُ التشيّع في تلك الفترة محمّد الباقر (عليه السلام)، ثمّ ابنه جعفر الصادق (عليه السلام)، ثمّ ابنه موسى بن جعفر (عليهما السلام)، ثمّ ابنه عليّ بن موسى الرضا (عليهما السلام)، ثمّ ابنه محمّد بن عليّ الجواد (عليهما السلام)، ثمّ ابنه عليّ بن محمّد الهادي (عليهما السلام)، ثمّ ابنه الحسن بن عليّ (عليهما السلام).. ثمّ انتهت مسيرة التشيّع إلى قيادة محمّد بن الحسن المهدي (عجّل الله فرَجَه).

والحديث عن التشيّع في هذه المرحلة، هو حديث عن خطّ أهل البيت ومذهبهم بنقائه وأصالته القرآنية.

وسنعرف فيما هو آتٍ مِن البحث هذا المذهب الإسلامي - مذهب أهل البيت - الذي سُمّيَ بمذهب الشيعة الإمامية؛ لاعتقاده بإمامة اثني عشر إماماً مِن سادة أهل البيت (عليهم السلام)، وسُمّيَ كذلك بالمذهب الجعفريّ نسبةً إلى الإمام

٤٣

جعفر الصادق؛ لِما أظهر مِن العِلم والفقْه، كما نسبت المذاهب الفقهية إلى أصحابها، كالمذهب الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي والزيدي... الخ.

٤٤

الفصل الثاني

منهج البحث والتفكير

في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)

٤٥

٤٦

تقديمٌ

منهج البحث والتفكير، عبارة عن الطريقة التي يسلكها الباحث أو المفكّر في تنظيم وإجراء أبحاثه؛ للوصول إلى النتائج المرجوّة مِن البحث، وقد عرّف منهج البحث بأنّه: (الطريقة التي يتّبعها العلماء في وضْع قواعد العِلم، وفي استنتاج معارفه على ضوء تلك القواعد) (1) .

ومِن الواضح أنّ لكلّ عِلمٍ ومعرفةٍ بشَريّةٍ منهجها الخاصّ بها، رغم وجود عناصر مشتركة بين منهاج العلوم والمعارف البشرية كافّة.

إنّ المتأمّل في العلوم والمعارف الإسلامية، يجد علماء الإسلام قد ساروا في دراساتهم وأبحاثهم، وتحديد عطائهم العِلمي وفْق أُسُسٍ منهجيّةٍ منظّمةٍ ومحدّدة؛ لذا كانت البُنية النظرية لكلّ عِلمٍ ومعرفةٍ، كعِلم التوحيد والأخلاق والحديث والفقْه والتصوّف والعِرفان بُنية منسّقة، قائمة على أساس منهج بحثٍ متّسق الخُطى، متوافق النتائج، إلاّ ما أخطأ الباحث في تطبيقه، كما كان لكلّ اتّجاهٍ مذهبيٍّ وحدته

____________________

(1) عبد الهادي الفضلي / خلاصة المنطق: ص 123.

٤٧

المنهجيّة، ومبانيه الأساسية التي ساهمت في تصميم شخصيّته الفكرية.

وعند تحليل الاتّجاه العامّ في كلّ بُنيةٍ منهجيّةٍ مِن بُنى العلوم والمعارف الإسلامية، والاتّجاهات الفكرية والمذهبية، نجد أنّ هناك أُسُساً ومنطلقات آمَن بها كلّ فريقٍ إيماناً شرعياً، أو عقلياً، فانطلق منها يحدّد بُنية المنهج العِلمي الذي يثبّت أُسس وقواعد ذلك العِلم، أو البحث في تلك المسألة. ومِن المفيد أن نستعرض بشكلٍ موجز تعريفاً بمناهج البحث الأساسية، التي اتّبعها علماء أهل البيت في المجالات الآتية:

1 - المنهج المعرفي (نظرية المعرفة).

2 - المنهج العقيدي.

3 - منهج الفقْه والاستنباط (1) .

4 - المنهج السلوكي (2) .

وتشمل هذه المناهج المساحة العِلمية، والعطاء الحضاري بمختلف حقوله: (المعرفة، والإلهيّات، والطبيعة، والقيَم، والسلـوك، والشريعـة)، وتصنع منه منظومةً فكريّةً متناسقةً في كلّ اتّجاهٍ مذهبيٍّ ومدرسةٍ فكريّةٍ. وجدير ذِكره: أنّ المعارف والعلوم والأفكار الإسلامية مرّت بعدّة مراحل هي:

1 - مرحلة النصّ (الكتاب والسنّة).

2 - مرحلة التفسير.

3 - مرحلة التنظير.

4 - مرحلة الفلسفة.

____________________

(1) و (2) سنبحث منهج الفقْه والاستنباط والمنهج السلوكي، في المكان المناسب مِن هذا الكتاب في فصلَين مستقلَّين.

٤٨

ولا يخفى أنّ مراحل التفسير والتنظير والفلسفة، وبشكلٍ خاصٍّ مرحلة التنظير والفلسفة، تأثّرت بمخلّفات الشعوب وأفكارها، كالفكر اليوناني والفكر الفارسي والفكر البوذي وأفكار أصحاب الديانات المحرّفة، كالفكر المسيحي واليهودي، وقد حدث هذا التأثّر بدرجاتٍ متفاوتة، فكان سبباً في نشأة عشرات الفِرَق، وحدوث الانحرافات الفكريّة.

وقد جاهد أئمّة أهل البيت، وبصورةٍ خاصّةٍ في عهد الإمامين محمّد الباقر (عليه السلام) وولده جعفر الصادق (عليه السلام) جهـاداً مستمرّاً، وعلى كلّ صعيدٍ مِن أصعدة الفكر والمعرفة، مِن أجل صيانة الفكر والتفكير الإسلامي، والحفاظ على نقاء العقيدة والشريعة، وأصالة الفهْم والاستنباط بشتّى حقوله ومراتع روّاده.

وفيما يلي مِن البحث ننقل عن أساطين الفكر الإمامي الآراء والأُسُس والأُصول، التي ثبّتوها في هذا المجال؛ لنعطي لمحةً تعريفيّةً بالمعالم الأساسية، وبالأُسس العِلمية لبُنية هذه المدرسة المذهبيّة العريقة، التي نشأت في الصفّ الإسلامي، كما نشأت المدارس المذهبية الأُخرى في المعرفة والعقيدة والفقْه والاستنباط والسلوك.

سنلاحظ مِن عَرض المرتكزات الأساسية لمنهج البحث والتفكير الإمامي، أنّه انطلق في مسلّماته الأساسية مِن الشرع والعقل، ونسّق بينهما وفْق منهج القرآن وتوجيهه، فحصل على منهج بحثٍ أصيل ملتزم ومعطاء مُنتِج، بعيدٍ عن الخرافة والتوقّف والتحجّر، فحقّق النموّ والتوالد والالتزام في آنٍ واحد، فكان منهجاً خصباً وأصيلاً، ينطلق مِن الشرع، ويحترم العقل ويوظّفه كما يوظّف الحسّ والتجربة، ويستخدم الاستقراء والاحتمال والقياس استخداماً منهجياً دقيقاً، وإليك هذه الآراء والأُسس:

٤٩

1 - المنهج المعرفي (نظرية المعرفة):

لقد تحدّث الشيخ المفيد وهو مِن أساطين الفكر الإمامي في القرن الرابع والخامس الهجريّين، وتوفّيَ سنة (413 هـ)، عن الأُسس العامّة لنظرية المعرفة، التي تقود إلى الإيمان بقضايا ومسائل عقيدية، قد لا توصل النظريات الأُخرى إلى تلك النتائج والمعطَيات، كما نقرأ ذلك واضحاً في النصّ الآتي:

(أقول: إنّ العِلم بصحّة جميع الأخبار طريقه الاستدلال، وهو حاصل مِن جهة الاكتساب، ولا يصحّ وقوع شيءٍ منه بالاضطرار، والقول فيه كالقول في جملة الغائبات (1) . وإلى هذا القول يذهب جمهور البغداديّين (2) ، ويخالف فيه البصريّون والمشبّهـة وأهـل الإجبـار (الأخبار خ)) (3) .

ونقرأ في ما عرَضه العلاّمة الحِلّي بلوَرةً وتنظيراً لنظرية المعرفة والبحث في المنهج الإمامي، الذي يقود إلى الخروج بنتائج مذهبية محدّدة، تختلف عن عطاء غيره مِن المناهج، قال (رحمه الله):

(لمّا كان الإدراك أعرَف الأشياء وأظهرها على ما يأتي، وبه تُعرَف الأشياء، وحصل فيه مِن مقالاتهم أشياءً عجيبةً غريبةً، وجَب البدْء به؛ فلهذا قدّمناه. اعلم أنّ الله تعالى خلَق النفْس الإنسانية في مبدأ الفطرة، خالية عن جميع العلوم (*)

____________________

(1) جملة الغائبات: مختلف القضايا المجهولة لدى الإنسان، والتي يراد اكتشافها.

(2) يقصد بهم مدرسة الاعتزال البغدادية، التي افترقت في بعض متبنّياتها عن مدرسة الاعتزال البصرية، التي هي الأصل في مدرسة الاعتزال.

(3) الشيخ المفيد / أوائل المقالات: ص 104.

(*) قسّم العلماء العلوم والمعارف البشرية على قسمين هما:

1 - العلوم الضرورية: وهي العلوم التي لا يحتاج التصديق بها إلى الاستدلال، مثل استحالة اجتماع النقيضين، ومثل الكلّ أكبر مِن الجزء.

2 - العلوم النظرية: وهي العلوم التي تحتاج إلى إثباتٍ برهانيٍّ واستدلال، مثل وجود الله، وكُرَويّة الأرض.

٥٠

بالضرورة، قابلة لها، وذلك مُشاهَد في حال الأطفال.

ثمّ إنّ الله تعالى خلَق للنفْس آلات، بها يحصل الإدراك، وهي القوى الحسّاسة، فيحسّ الطفل في أوّل ولادته بحسّ لمْس ما يدركه مِن الملموسات، ويميّز بواسطة الإدراك البَصَري، على سبيل التدريج بين أبويه وغيرهما، وكذا يتدرّج في العلوم وباقي المحسوسات إلى إدراك ما يتعلّق بتلك الآلات.

ثمّ يزداد تفطّنه، فيدرك بواسطة إحساسه بالأُمور الجزئية الأُمورَ الكلّية، مِن المشاركة، والمباينة، ويعقل الأُمور الكلّية الضرورية بواسطة إدراك المحسوسات الجزئية.

ثمّ إذا استكمل العلوم، وتفطّن بمواضع الجدال، أدرك بواسطة العلوم الضرورية العلوم الكَسْبية، فقد ظهر مِن هذا أنّ العلوم الكسْبية فرعٌ على العلوم الضروريّة الكلّية، والعلوم الضروريّة الكلّية فرعٌ على المحسوسات الجزئية، فالمحسوسات إذن هي أصول الاعتقادات، ولا يصحّ الفرع إلاّ بعد صحّة أصله، فالطعن في الأصل طعنٌ في الفرع.

وجماعة الأشاعرة الذين هُم اليوم كلّ الجمهور مِن الحنفية، والشافعية، والمالكية، والحنابلة، إلاّ اليسير مِن فقهاء ما وراء النهر، أنكروا قضايا محسوسة على ما يأتي بيانه، فلزِمَهم إنكار المعقولات الكلّية التي هي فرع المحسوسات، ويلزمهم إنكار الكَسْبيّات...) (1) .

وهكذا يتّضح لنا مِن خلال التأمّل في هذه النصوص المنهجية، أنّ المنهج الإمامي يرتّب نظرية المعرفة كالآتي:

1 - الإيمان بأنّ المعارف الحسّية، هي أصل المعرفة البشرية، فالإنسان يحصل مِن خلال أدَوات الحسّ - عن طريق الممارسة والتجربة - على الجزئيّات الحسّية.

____________________

(1) العلاّمة الحِلّي / نهْج الحقّ وكشْف الصدْق: ص 39 - 40.

٥١

2 - إنّ العقل ينتزع مِن تلك المعارف الحسّية الجزئيّة معارف كليّة عامّة.

3 - إنّ الحصول على المعارف الكلّية مِن تلك الجزئيات، هي عملية استقرائية، وهي المعبّر عنها بمنهج الاستقراء، الذي عُرّف بأنّه:

(عبارة عن دراسة جزئيّاتٍ عديدةٍ يستنبط منها حُكم عامّ).

4 - تتوفّر لدى الإنسان عن طريق إدراك المحسوسات الجزئية، المعلومات الضروريّة الكلّية.

5 - إنّ العلوم الضروريّة تُسلَك كأُسُس؛ لتحصيل المعارف والعلوم الكسْبية والبناء عليها، وبذا تكون العلوم والمعارف التي يحصل عليها الإنسان، وبمختلف فروعها المادّية والعقلية والإنسانية، إنّما هي فرع على العلوم الضرورية الكلّية.

6 - ينتج مِن هذا التسلسل المنطقي في بُنية نظرية المعرفة في المدرسة الإمامية، أنّ الإيمان بالله وما يرتبط به مِن معارف وعلوم إلهيّة، إنّما يبتني التصديق بها والبرهنة عليها على أوّليات منتزعة مِن المعارف الحسّية، فمبدأ العلّية والسببيّة الذي يوصل إلى الإيمان بالله، إنّما أُنتزع مِن جزئيات حسّية في بدْء تكوّنه في ذهن الإنسان، فالإنسان يشاهد في عالَم الحسّ والطبيعة، أنّ الأشياء مرتبطة بعللِها وأسبابها، فأوصله هذا المبدأ إلى الإيمان بعلّة الوجود وخالق الكون، اعتماداً على مبدأ القياس.

وصوّر أبو إسحاق إبراهيم النوبختي - صاحب كتاب (الياقوت) الكلامي - صوّر العلاقة بين التفكير وإنتاج العلم، كالعلاقة بين السبب والنتيجة، منطلقاً مِن مبدأ الإيمان بقانون العلّية، الذي آمنت به الإمامية، وأنكرته الأشاعرة، قال: (والنظر يولّد العِلم، كسائر الأسباب المولّدة لمسبباتها).

وعلّق الشارح - العلاّمة الحِلّي - على ما أَورده النوبختي، قائلاً: (أقول:

٥٢

اختلف الناس في ذلك، فقالت المعتزلة: النظر الصحيح يولّد العِلم.

وقال الأشاعرة: إنّ العِلم يحصل عقيبه لمجرّد العادة مِن فِعل الله تعالى، كالعاديّات.

وقال أبو بكر الباقلاني، وإمام الحرَمين - الجويني ـ: إنّ العِلم ما يلزم النظر لزوماً واجباً، إنْ لمْ يتولّد عنه) (1).

وهكذا يتحدّد مرتكز أساس في الفكر الإمامي، وهو أنّ التفكير يولّد المعرفة، كما تولِّد الأسباب نتائجها، وهي مِن فِعل الإنسان، خلافاً لنظرية الأشاعرة التي أنكرت قانون السببيّة، وفسَّرت العلاقة بين الأشياء بالعادة؛ إذ ردّت الأفعال كلّها إلى الله سبحانه مباشرة.

2 - المنهج العقيدي:

بعد أنْ تحدّدت نظرية المعرفة بمرتكزاتها الكلّية، وأنّها نظرية شاملة لمعرفة الطبيعة والفكر والإلهيات والمعارف الإنسانية جميعها، وأوضح العلماء - كما مرَّ علينا - العلاقة بين هذه النظرية وبين الإيمان بالله، صار واضحاً لدينا أنّ معرفة الله ورُسُله ودِينه ليس بوِسع العقل أن يستقلّ بإدراكها إدراكاً كاملاً، بل لا بدّ له مِن وحي وشريعة يكمّلان تشخيصه، فهو يستطيع أن يُثبت وجود خالقٍ عالِمٍ قدير، خلَقَ هذا الوجود، وإن لم يكن هناك وحي ورسل، ولكنّه يعجز عن تشخيص عالَم الآخِرة وحساب القبر والجزاء، وكثير من المسائل التي بشّر بها الرسل، كما أنّه عاجز عن تشخيص كثير مِن الأحكام والتكاليف، كوجوب الصوم ووجوب صلاة الظهر، وأنّها أربع ركعات، وإيضاح تفصيلات كثيرة، ليس بوِسعه أن يكتشفها مع عدم وجود بيان شرعي، أو ليس بوِسعه أن يدركها بصورةٍ مطلقة.

____________________

(1) العلاّمة الحِلّي / أنوار المَلَكوت في شرح الياقوت: ص 15.

٥٣

لذا فإنّ مدرسة أهل البيت انطلقت مِن مبدأ: أنّ الإيمان بالله قضية نظرية - أي تحتاج إلى استدلال - فلا بدّ مِن إقامة الدليل والبرهان، ولا يصحّ فيها تقليد الغير، كالأنبياء وغيرهم؛ لأنّ تصديق النبيّ يحتاج إلى دليلٍ للعقل البشري، فبعد الدليل نصدّق الرُسُل، ونؤمن بالله سبحانه، وأنّهم رُسُله حقّاً.

ونورد هنا ما سجّله العلاّمة الحلّي في كتابه (الباب الحادي عشر) في هذا المجال، قائلاً:

(وجوب معرفته تعالى بالدليل لا بالتقليد) (1) .

قال الشارح: (ولمّا وجبَت المعرفة، وجَب أن تكون بالنظَر والاستدلال) (2) .

ثمّ عرّف النظَر، فقال: (والنظَر: هو ترتيب أُمورٍ معلومةٍ للتأدّي إلى أمرٍ آخَر) (3).

ثمّ قال: (ولا يجوز معرفة الله تعالى بالتقليد) (4).

وقد مرَّ علينا في نظرية المعرفة، كيف يُولَد الإنسان صفحةً بيضاء خاليةً مِن المعارف والعلوم، فيتدرّج الإنسان مِن معرفة الحسّي الجزئي إلى الكلّي المجرّد، ثمّ تتّسع آفاقه، وينطلق مِن الأوّليّات البسيطة؛ ليبرهن على القضايا الكبرى والمعقّدة، كقضية الإيمان بالله تعالى وصفاته بطريقةٍ عقلية، ويصدّق بمعجزة الرُسل، فيذعن لِما جاؤوا به عن الله سبحانه؛ لذا جاء الخِطاب الإلهي في القرآن الكريم داعياً إلى التأمّل في خلْق السماوات والأرض، وفي النفْس البشرية، وفي عوالم الطبيعة؛ للوصول إلى تصديق الأنبياء، والإيمان بالله تعالى:

____________________

(1) المقداد السيوري / شرح الحادي عشر: ص 3 - 4.

(2) المصدر السابق: ص 4.

(3) المصدر السابق.

(4) المصدر السابق.

٥٤

( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ ) (1).

وهكذا نصل إلى أنّ الإيمان بالله قضية برهانية استدلالية، يجب على كلّ فردٍ أن يمارسها بأيّ مستوىً مِن المستوَيات الموصِلة إلى النتيجة، فهي واجب عَيني، وليس واجباً كفائياً؛ لذلك قال المقداد السيوري - شارح الباب الحادي عشر للعلاّمة الحلّي - بعد أن قسّم الواجب على قسمين: عيني وكفائي، قال: (والمعرفة مِن القِسم الأوّل) (2) .

ولذلك قال العلاّمة في حديثه: (يجب على عامّة المكلَّفين) (3).

وتحدّث الشيخ المفيد عن طريق العِلم بالله تعالى، فسجّل لنا الأُسُس المنهجية لرحلة البحث عن الإيمان بالله سبحانه، وحصول اليقين به، فقال (رحمه الله): (أقول إنّ العِلم بالله (عزّ وجلّ)، وبأنبيائه، وبصحّة دِينه الذي ارتضاه، وكلِّ شيءٍ لا تدرَك حقيقته بالحواسّ، ولا يكون المعرفة قائمةً به في البداية، وإنّما يحصل بضرْبٍ مِن القياس، لا يصحّ أن يكون مِن جهة الاضطرار، ولا يحصل على الأحوال كلّها إلاّ مِن جهة الاكتساب، كما لا يصحّ العِلم بما طريقه الحواسّ مِن جهة القياس، ولا يحصل العِلم في حالٍ مِن الأحوال بما في البداية مِن جهة القياس، وهذا قد تقدّم وزِدنا فيه شرحاً هنا للبيان، وإليه يذهب جماعة البغداديين، ويخالف فيه البصريون مِن المعتزلة والمشبّهة وأهل القدر والإرجاء) (4).

ويشرح هذا المنهج العقيدي في موضعٍ آخَر، فيقول: (إنّ المعرفة بالله تعالى

____________________

(1) سورة آل عمران: آية 190.

(2) المقداد السيوري / شرح الباب الحادي عشر: ص 6.

(3) المصدر السابق: ص 2.

(4) الشيخ المفيد / أوائل المقالات: ص 103.

٥٥

اكتساب، وكذلك المعرفة بأنبيائه، وكلّ غائب، وأنّه لا يجوز الاضطرار إلى معرفة شيءٍ ممّا ذكرناه، وهو مذهب كثير مِن الإمامية والبغداديين مِن المعتزلة خاصّة، ويخالف فيه البصريون مِن المعتزلة والمجبّرة والحشوية مِن أصحاب الحديث) (1).

ويربط الشيخ المفيد بين العقل والشرع؛ لإكمال معارف الإنسان الإلهية، فيقول: (اتّفقت الإمامية على أنّ العقل يحتاج (محتاج) في عِلمه ونتائجه إلى السمع - أي إلى ما جاء به الرسول - وأنّ العقل غير منفكٍّ عن سمعٍ ينبّه الغافل، على كيفية الاستدلال، وأنّه لا بدّ في أوّل التكليف وابتدائه في العالَم، مِن رسول) (2).

فالعقل إذن يحتاج في اكتساب المعارف التفصيلية في قضية الإيمان بالله، وبيان التكاليف إلى السمْع، أي إلى الوحي والشرائع الإلهية.

وهكذا يكون منهج المعرفة العقيدي قائماً على العقل والشرع، والشرع هو الضابط والمصحّح، ومبدأ الاستدلال والتصديق هو العقل، ثمّ يتولّى الشرع بيان معارف العقيدة، وضبط مسار العقل في هذا المجال؛ لذا كان على العقل أنْ يُذعن لكلّ ما جاء به الشرع، بعد أن ثبَت لديه بالدليل والبرهان وجود الله سبحانه وصدْق الرُسُل.

وتأسيساً على ذلك انتقد الشيخ المفيد، بما ورَد عنه مِن نصٍّ تحت عنوان: (القول في أنّ العقل لا ينفكّ عن سمْعٍ، وأنّ التكليف لا يصحّ إلاّ بالرُسُل)، انتقد منهج المعتزلة والخوارج والزيديّة الذين: (زعموا بأنّ العقول تعمل بمجرّدها مِن السمْع والتوفيق...).

ويوضّح الشريف المرتضى منهج الإمامية في الإيمان بالله سبحانه، فيقول جواباً على سؤال ورَد عليه: (قد سأل يرحمه الله، عن الطريق إلى معرفة الله، بمجرّد العقل، أو مِن طريق السمْع (3).

____________________

(1) المصدر السابق: ص 66.

(2) المصدر السابق: ص 50 - 51.

(3) السمْع: الرسالات الإلهية، وما يُبلَّغ، ويُسمَع مِن الأنبياء.

٥٦

الجواب: إنّ الطريق إلى معرفة الله تعالى هو العقل، ولا يجوز أن يكون السمْع؛ لأنّ السمْع لا يكون دليلاً على الشيء إلاّ بعد معرفة الله وحكمته، وأنّه لا يفعل القبيح، ولا يُصدّق الكذّابين، فكيف يدلّ السمْع على المعرفة) (1).

وهكذا اعتمد المنهج الإمامي طريق العقل للاستدلال على وجود الله سبحانه، وإثبات نبوّة الأنبياء (عليهم السلام)، بعد أن آمَن بأنّ التفكير يوصِل إلى العِلم.

وبهذا المنهج أعطى العقل قيمته العِلمية، ونقل الأبحاث إلى أرقى مستويات المعرفة، وشاده على أساس البرهان والاستدلال الموصِلَين إلى اليقين الذي لا يتزعزع، معطياً الشرع دَور الموجّه والقائد للعقل، بعد استدلاله على أنّ الشرع صادر عن الخالق العليم.

وإذا كانت هذه آراء فريقٍ مِن العلماء الذين ساهموا في تأسيس منهج التفكير، وتثبيت معالِم نظرية المعرفة في المدرسة الإمامية، فإنّنا نجد الفكر الإسلامي في هذه المدرسة، قد بلَغَ مرحلته العُليا وصيغته المنظَّرة على يد الفقيه الفيلسوف الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر (قدّس سرّه)، في تنظيره لنظرية المعرفة التي شيّدها في كتابه الفريد (الأُسُس المنطقية للاستقراء). فقد بنى الاستدلال في نظرية المعرفة على منهجين هما:

1 - المنهج الاستنباطي.

2 - المنهج الاستقرائي.

ثمّ فسّر الدليل الاستقرائي على أساس نظرية الاحتمال، واعتبر هذه النظرية نظريةً عامّةً للاستدلال على قضايا المعرفة جميعها، الطبيعية التجريبية، والإلهية، والرياضية، وغيرها.

____________________

(1) رسائل الشريف المرتضى / المجموعة الأُولى، المسألة التاسعة: ص 127.

٥٧

وفي ذلك كتَب يقول: (يقسّم الاستدلال الذي يمارسه الفكر البشري عادةً إلى قسمين رئيسيين، أحدهما: الاستنباط، والآخَر: الاستقراء. ولكلٍّ مِن الدليل الاستنباطي، والدليل الاستقرائي منهجه الخاصّ وطريقه المتميّز.

ونريد بالاستنباط: كلّ استدلالٍ لا تكبّر نتيجته المقدّمات التي يكون منها ذلك الاستدلال، ففي كلّ دليلٍ استنباطيٍّ تجيء النتيجة دائماً مساوية أو أصغر مِن مقدّماتها...

فيقال مثلاً: محمّد إنسان، وكلّ إنسان يموت، محمّد يموت، ويقال أيضاً: الحيوان إمّا صامت وإمّا ناطق، والصامت يموت والناطق يمـوت، فالحيوان يموت.

ففي قولنا الأوّل استنتجنا أنّ محمّداً يموت بطريقةٍ استنباطية، وهذه النتيجة أصغر مِن مقدّماتها؛ لأنّها تخصّ فرداً مِن الإنسان وهو محمّد، بينما المقدّمة القائلة: كلّ إنسانٍ يموت، تشمل الأفراد جميعاً.

وبذلك يتّخذ التفكير في هذا الاستدلال طريقه مِن العامّ إلى الخاصّ. فهو يسير مِن الكلّي إلى الفرد، ومِن المبدأ العامّ إلى التطبيقات الخاصّة.

ويطلق المنطق الأرسطي على الطريقة التي انتهجها الدليل الاستنباطي في هذا المثال اسم القياس، ويعتبِر الطريقة القياسية هي الصورة النموذجية للدليل الاستنباطي.

ونريد بالاستقراء: كلّ استدلالٍ تجيء النتيجة فيه أكبر مِن المقدّمات التي ساهمت في تكوين هذا الاستدلال، فيقال مثلاً: هذه القطعة مِن الحديد تتمدّد بالحرارة، وتلك تتمدّد بالحرارة، وهذه القطعة الثالثة تتمدّد بالحرارة أيضاً، إذن كلّ حديدٍ يتمدّد بالحرارة.

٥٨

هذه النتيجة أكبر مِن المقدّمات؛ لأنّ المقدّمة لمْ تتناول إلاّ كمّية محدودة مِن قِطع الحديد: ثلاثة أو أربعة أو ملايين، بينما النتيجة تناولت كلّ حديدٍ، وحكَمت أنّه يتمدّد بالحرارة؛ وبذلك شملت القِطع الحديدية التي لمْ تدخل في المقدّمات، ولمْ يجرِ عليها الفحص).

ويخلص الشهيد الصدر إلى القول بأنّ: (السَير الفكري في الدليل الاستقرائي معاكس للسَير في الدليل الاستنباطي الذي يصطنع الطريقة القياسيـة، فبينما يسير الدليل الاستنباطي - وفْق الطريقة القياسية - مِن العامّ إلى الخاصّ عادةً، يسير الدليل الاستقرائي - خلافاً لذلك - مِن الخاصّ إلى العامّ) (1) .

ثمّ يفسّر الشهيد الصدر (قدّس سرّه) الدليل الاستقرائي، على أساس نظرية الاحتمال، التي تقوم على أساس تراكم الاحتمالات، والوصول إلى اليقين المعرفي عن هذا الطريق.

وبعد ذلك يوظّف هذه النظرية - نظريّة الاستقراء - التي تقوم في مرحلةٍ منها على أساس الاستدلال الاستنباطي - كما أوضح ذلك - يوظّفها في الاستدلال على وجود الله سبحانه، ويعتبرها صادقةً ومنطقيةً في مجال الطبيعيات والمعارف الإلهية، كما هي صادقة ومنطقية في مجال الطبيعيات والمعارف الرياضية وغيرها.

وفي ذلك كتَب يقول: (إنّ الأُسس المنطقية التي تقوم عليها كلّ الاستدلالات العِلمية المستمدّة مِن الملاحظة والتجربة، هي نفْس الأُسس المنطقية التي يقوم عليها الاستدلال على إثبات الصانع المدبّر لهذا العالم، عن طريق ما يتّصف به العالَم مِن مظاهر الحكمة والتدبير، فإنّ الاستدلال كأيّ استدلالٍ عِلميٍّ آخَر، استقرائي بطبيعته

____________________

(1) المجموعة الكاملة لمؤلّفات السيّد الشهيد الصدر / الأُسس المنطقية للاستقراء: ص 6.

٥٩

وتطبيق للطريقة العامّة التي حدّدناها للدليل الاستقرائي في كِلتا مرحلتيه (*) ، فالإنسان بين أمرين: فهو إمّا أن يرفض الاستدلال العِلمي ككلّ، وإمّا أن يقبل الاستدلال العِلمي، ويعطي للاستدلال الاستقرائي على إثبات الصانع نفْس القيمة التي يمنحها للاستدلال العِلمي.

وهكذا نبرهن على أساس أنّ العِلم والإيمان مرتبطان في أساسهما المنطقي) (1) .

وهكذا ينظّم الفكر الإمامي منهج البحث والتفكير في العلوم والمعارف جميعها، بما فيها إثبات الخالق والمعارف الغيبيّة التي خفيَت على الحواسّ البشرية.

ويكون بهذا قد ثبَّت منهجاً قرآنياً للبحث والتفكير، منهجاً متّسماً بالأصالة والخصوبة والدقّة العِلمية.

____________________

(*) يمرّ الاستقراء، كما يوضّحه الشهيد الصدر (قدّس سرّه) بمرحلتين هما:

1 - مرحلة التوالد الموضوعي للفكر، أو المرحلة الاستنباطية مِن الدليل الاستقرائي، ويقوم على أساس التلازم الموضوعي بين المعرفة المولِّدة، والجانب الموضوعي مِن المعرفة المتولّدة.

2 - مرحلة التوالد الذاتي، وهذه النظرية تعني إمكانية نشوء معرفة، وتولّد عِلمٍ على أساس معرفةٍ أخرى، دون أيّ تلازم بين موضوعَي المعرفتين، وإنّما يقوم التوالد على أساس التلازم بين نفْس المعرفتين. ووفْق هذا المنهج استنتج الفكر البشري مِن معرفته بعالَم المخلوقات والمعاجز والدلائل المختلفة، استنتج المعرفة بوجود الله سبحانه؛ لوجود التلازم بين المعرفتين.

(1) المجموعة الكاملة لمؤلّفات السيّد الشهيد الصدر / الأُسس المنطقية للاستقراء: ص 469.

٦٠