التشيع نشأته معالمه

التشيع نشأته معالمه0%

التشيع نشأته معالمه مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 390

  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 19524 / تحميل: 6920
الحجم الحجم الحجم
التشيع نشأته معالمه

التشيع نشأته معالمه

مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بين الرأي والمعتقد في الفكر الإمامي

يمثّل الفكر العقيدي لدى المسلمين جميعاً الأساس والمنطلق في بناء الرسالة الإسلامية، والفكر العقيدي كالإيمان بوحدانية الله تعالى، وتصديق الأنبياء، وما ارتبط بذلك مِن مسائل وتفريعات، يقسّم بطبيعته إلى قسمين أساسيّين، هما:

1 - الأُسُس الثابتة التي لا اجتهاد فيها ولا رأي، كالإيمان بأنّ الله واحد أحد، متّصف بصفات الكمال منزّه عن النقص، وأنّه بعَث الأنبياء وأنزل الكتُب والشرائع، وأنّه يبعث مَن في القبور، وينصب الموازين العدْل ليوم الحساب والجزاء الذي وعد الخلْق به.

وتلك وأمثالها أُسُس ومسلّمات، ليست قابلة لتعدّد الرأي والاجتهاد لدى المسلمين جميعاً.

2 - هناك مسائل وتفريعات عقيدية اختلف المسلمون في فهْمها وتفسيرها، وتختلف خطورتها العقيدية مِن مسألةٍ إلى أُخرى، كما أنّ هناك تعدّداً في الرأي والفهْم في كثيرٍ مِن التفريعات والمسائل الفرعيّة، في داخل المدرسة العقيديّة الواحدة، كمدرسة الأشاعرة والكرامية والشيعة الإمامية والمعتزلة وغيرهم.

وقد طفحت كتُب الفلسفة الإسلامية والكلام والمناظرات العقيدية بالآراء وطرائق الفهْم، في كثير مِن المسائل الفرعية. والمدرسة الإمامية كغيرها مِن المدارس العقيدية الإسلامية، ينتظم بُنيتها العقيدية صِنفان مِن الفكر العقيدي: صِنف الأُصول والمسلّمات، كالتي ذكرناها آنفاً، وصِنف خضَع لتعدّد الرأي ووجْهات النظَر. فكما نرى للشيخ الصدوق مثلاً رأيه في تلك المسألة، نرى لآل نوبخت آراءهم، وللشيخ المفيد رأيه، ولنصير الدين الطوسي رأيه...

٦١

وهكذا فإنّ هناك أُصولاً تمثّل بُنية المذهب العقيديّة، وهناك آراء ووجْهات نظَر ومتبنّيات للعلماء والمتكلّمين والفلاسفة والعِرفانيين والمتصوّفة الإمامية؛ لذا فإنّ تلك الآراء تخضع للتمحيص العِلمي، ولا تمثّل جميعها الرأي المذهبي، بل تمثّل رأي مَن يذهب إليها ويتبنّاها.

وإنّ صحّة هذا الرأي أو ذاك خاضعة لمدى تطابقه مع الأصل الإسلامي، الذي جاء به الكتاب العزيز، أو بيّنتْه السُنّة المطهّرة، كما أشار أئمّة أهل البيت في مواضع كثيرةٍ مِن بياناتهم.

(إنّ المذهب الصحيح ما نزل به القرآن).

وكما ثبّتوا لتلامذتهم وأتباعهم مبدأ: (لا تجاوزوا ما في القرآن).

وثمّة مسألة حيويّة أُخرى تنبغي الإشارة إليها، وهي أنّ الاعتماد على العقل أو التأمّل الباطني دون الشرع، في فهْم العقيدة وتحديد رؤاها، مسألة يرفضها المنهج المذهبي في المدرسة الإمامية، كما أوضحنا ذلك في دراسة المنهج العقيدي الإمامي؛ لذا فإنّ كثيراً مِن البُنى العقلية المتطرّفـة، أو التأمّلات الباطنية التي أفرزتْها بعض الاتّجاهات والمناهج داخل المنهج والمدرسة الإمامية، لا تمثّل الرأي الإمامي، كرأيٍ يجب الاعتقاد به، كما يجب الاعتقاد بمسلّمات العقيدة.

وإذا كانت هذه ملاحظات على بعض المناهج وطرائق الفهْم وبعض حالات الاستنباط، فإنّ هناك ملاحظات منهجية ثبّتها علماء الحديث والرجـال، وهي وجوب التوثّق مِن الروايات والأحاديث والمناظرات، التي رُويَت عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، أو أئمّة أهل البيت [ عليهم السلام ] في المجال العقيدي، فإنّ هناك روايات مدسوسة وأُخرى ضعيفة في مجال العقيدة، وما ارتبط بها مِن مسائل وتفريعات، كما أشرنا إلى ذلك في بحث منهج قبول الحديث في المدرسة الإمامية؛ لذا فإنّ الأفكار العقيدية التي تُبنى على تلك الروايات، أفكار غير صحيحة وخارجة على المُتَبَنّى المذهبي في المدرسة الإمامية.

٦٢

وثمّة ملاحظةٍ عِلميةٍ أُخرى وهي: أنّ المتبنّى العقيدي يجب أن يكون معلومةً يقينيّةً؛ لذا فإنّ أخبار الآحاد، لا يمكن الاعتماد عليها في توليد فكرٍ عقيديٍّ؛ لأنّها طريق ظنّيٌّ إلى المعرفة.

٦٣

٦٤

الفصل الثالث

التوحيد

في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)

٦٥

٦٦

تقديم

( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ) (1) .

( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ ) (2) .

( قُل ادْعُواْ اللّهَ أَو ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ) (3) .

( قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ... ) (4).

وأجاب الإمام الصادق (عليه السلام)على سؤالٍ مِن أحد أصحابه جاء فيه: (أنَّ قوماً بالعراق يصِفون الله بالصورة وبالتخطيط، فإن رأيتَ - جعلني الله فداك - أن تكتب إليَّ بالمذهب الصحيح مِن التوحيد؟ فكتب إليَّ: سألتَ (رحمك الله) عن التوحيد وما ذهب إليه مَن قبلك، فتعالى الله الذي ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، تعالى عمّا يصفه الواصفون المشبّهون الله بخلْقه، المفترون على الله، فاعلم (رحمك الله) أنَّ المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن مِن صفات الله (عزّ وجلّ)، فانفِ عن الله تعالى البطلان والتشبيه، فلا نفيَ ولا تشبيه، هو الله الثابت الموجود، تعالى الله عمّا يصفه الواصفون، ولا تعدوا القرآن فتضلّوا بعد البيان) (5) .

____________________

(1) سورة الإخلاص: آية 1 - 4.

(2) سورة آل عمران: آية 18.

(3) سورة الإسراء: آية 110.

(4) سورة الرعد: آية 36.

(5) الكليني / الأصول مِن الكافي 1: 100.

٦٧

وعن الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام)، عن آبائه، عن أبيهم عليّ بن أبي طالب، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: (قال الله (جلّ جلاله): إنّي أنا الله لا إله إلاّ أنا، فاعبدني وأقِم الصلاة لذِكري، مَن جاء منكم بشهادة أن لا إله إلاّ الله بالإخلاص، دخل حِصني، ومَن دخل في حِصني أمِنَ عذابي) (1) .

التوحيد قاعدة الإسلام، وأساس الدِين، ومرتكز العقيدة في دعوات الأنبياء جميعاً: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ) (2) .

وعقيدة التوحيد هي الأصل الذي تتفرّع عنه العقائد والأفكار الإسلامية، وتبتني عليه البُنية الثقافية والحضارة ومنهج التفكير والسلوك الإنساني بأسْره.

فالإيمان بالوحي والنبوّة وبعالَم الآخِرة وبالقضاء والقدَر، وبالحلال والحرام وأداء العبادات وفعل الخير، كلّها قضايا ترتبط بالإيمان بالله، وبأنّه واحدٌ أحد خالق الخلْق، له الأسماء الحسنى، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وهو على كلّ شيءٍ قدير، متّصف بالكمال، منزّه عن الظلم والنقص والحاجة، مستحقّ وحده للطاعة والعبادة.

ولقد أوضح القرآن عقيدة التوحيد بأجلى صورها، وأدقّ معانيها، وبيّنها الهادي محمّد (صلّى الله عليه وآله) للبشرية بنقاء ويُسر، بعيداً عن التكلّف والتعقيد؛ لأنّها عقيدةُ الفطرة النقية، والمنطق السليم، والحسّ الوحداني الطليق، فخاطب القرآن العقول، وأثار في نفْس الإنسان الإحساس الوجداني العميق، والتأمّل الواسع في عالَم الوجود؛ ليستجلي آثار التوحيد، ويكتشف عظمة الخالق ومظاهر الصفات في نفْسه، وفيما حَوله..

وهكذا تلقّى جيلُ الدعوة النبوية عقيدته وأفكاره وآراءه ومشاعره، وطريقة تفكيره وسلوكه وعلاقته بالله، وفهْمه للكون والحياة.

____________________

(1) الشيخ الصدوق / التوحيد: ص 25.

(2) سورة الأنبياء: آية 25.

٦٨

وهكذا كان القرآن والبيان النبويّ هما مصدر الإلهام والفَهْم العقيدي، والتعريف بعقيدة التوحيد.

لذا رفَض علماء العقيدة الإمامية أن يوصَف الله سبحانه، أو يُسمّى بغير ما وصَف به نفْسه أو سمّاها في كتابه المجيد. وفي ذلك يوضّح المقداد السيوري قائلاً: (فإنّ صفاته تعالى وأسماءه توقيفية، لا يجوز لغيره التهجّم بها إلاّ بإذنٍ منه؛ لأنّه وإن كان جايزاً في نظر العقل، لكنّه ليس مِن الأدب، بجواز أن يكون غير جايز مِن جهةٍ لا نعلمها) (1) .

وازدادت المحنة شدّةً، والانحراف تبريراً، عندما لجأ كثير مِن أصحاب الفِرق والمعتقدات المنحرفة إلى التلاعب بمعاني القرآن وتفسير آياته، أو تأويلها بعيداً عن مراد الله سبحانه، ومحتوى الآية ودلالتها الحقّة؛ لإسناد آرائهم وتبرير انحرافهم، كما لجأت تلك الفِرق إلى وضْع الأحاديث والروايات ودسّها؛ لتعميق الانحراف وإضفاء الشرعية عليه..

وإلى جانب ذلك كان هناك الاتّجاه الخاطئ لفَهْم ظواهر القرآن ومعرفة المراد منها، فافرز أفكاراً ومعتقدات لا تنسجم وعقيدة التوحيد.

وفي خِضَم هذه المعركة الفكرية الصاخبة، مارس أئمّة أهل البيت وتلامذتهم دَورهم في بيان عقيدة التوحيد، والحفاظ على نقائها وأصالتها، فتبلوَر فهْمهم المدرسي المتميّز عن تلك الفِرق والمذاهب والآراء الاعتقادية.

وعند دراسة الاتّجاه والفهْم العقيدي في مدرسة التشيّع، نجده فهْماً قرآنياً قائماً على أساس الدعوة إلى الالتزام بالتوحيد القرآني، والردّ على كثيرٍ مِن الاتّجاهات الفلسفية والكلامية المنحرفة، والتفسيرات التي تلاعَب بها المنطق المنحرف والاندساس والتخريب.

____________________

(1) المقداد السيوري / شرح الباب الحادي عشر: ص 20.

٦٩

فقد نادى أئمّة التشيّع بالالتزام بالقرآن لفهْم المسائل العقيدية، كصفات الله تعالى، والقضاء والقدَر، والهدى والضلال، والجبر والاختيار، وغيرها مِن المسائل الأُخرى.

وإنّ استقراء الروايات والمفاهيم والمناظرات الواردة عن أئمّة التشيّع، توضّح فهْم هذه المدرسة لعقيدة التوحيد، وتجسّد نقاءها وأصالتها القرآنيـة؛ مِن هذه الروايات والمناظرات ما رواه محمّد بن حكيم، قال: (كتب أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) إلى أبي: إنّ الله أعلى وأجلُّ وأعظم مِن أن يبلغ كُنْه صفته، فصِفوه بما وصَف به نفْسه، وكُفّوا عمّا سوى ذلك) (1) .

وعن الفضل قال: (سألت أبا الحسن عن شيءٍ مِن الصفة، فقال: لا تجاوزوا ما في القرآن) (2) .

وهكذا يتّضح أنّ فَهْم مدرسة التشيّع لعقيدة التوحيد، يبتني على أساس الالتزام بما جاء به القرآن، وأنّ مذهب التشيّع في التوحيد هو مذهب القرآن، كما جاء في قول الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن) (3) .

وإذا كانت هذه الدعوة دعوة التمسّك بالتوحيد القرآني قد فصلت بين الاتّجاه الإسلامي الصحيح، واتّجاه تيّارات الغزو الثقافي، التي تمثّلت بالاتّجاهات الفلسفية الوافدة، وحالات الشطَط الكلامي، ومناهج الجدَل، التي أفرزت أفكاراً وتفسيرات للعقيدة الإسلامية بعيدةً عن نقاء التوحيد، وانتهت في بعض تفسيراتها واتّجاهاتها إلى: الشكّ والزندقة والغُلوّ والحلول والاتّحاد والتشبيه والتجسيم والجَبْر

____________________

(1) الكليني / الأصول مِن الكافي 1: 102 / ح6 / (كتاب التوحيد).

(2) المصدر السابق.

(3) الشيخ الصدوق / التوحيد: ص 102.

٧٠

والتفويض... الخ.

فإنّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) قد ثبّتوا الأُسس الصحيحة لفَهْم القرآن، وتوضيح معاني التوحيد الواردة في آياته؛ صيانةً لعقيدة التوحيد، وحفظاً لنقائها مِن التلاعب بمعاني القرآن، وإخضاع آياته لهوى العابثين والفهْم المنحرف، أو الجنوح للظاهرية أو الباطنية، أو الفهْم القاصر الذي يؤدّي إلى حمْل الآي القرآني على غير معناه.

ومَن يستقرئ ما ورَد عن أئمّة أهل البيت (أئمّة التشيّع) (عليهم السّلام) مِن تفسير للآيات المتشابهة (المُجملة)، التي اختلفت الآراء والتفسيرات فيها، واستنتاج المفاهيم العقيدية منها، يجد أنّ تفسير أئمّة أهل البيت لتلك الآيات يدور مدار التنزيه الكامل لله عن مشابهة الخلْق، وإثبات الكمال المطلَق له، ونفْيِ القبح عنه، متّخذاً الآيات المحكَمة والمرتكزات الأساسية - المُبَيَّنة في كتاب الله - محوراً وأساساً للتفسير، وتجليةً للمحتوى القرآني. فثبّتوا منهجاً للتفسير يقوم على أساس:

1 - تفسير القرآن بالقرآن والسنّة الذي حقّق الوحدة الموضوعية للفكر العقيدي، والربط بين مفاهيم الآيات التي تتحدّث عن موضوعٍ واحد، والنظر إليها كوحدة فكرية يُكمّل بعضها بعضاً؛ لأنّ الفهْم الجزئي في هذه الدراسة، هو تقطيع لمفاهيم القرآن، وتمزيق لمحتواه، وتكثيف لأجواء الغموض والانغلاق، التي تؤدّي إلى تضييق أفُق الفكر والمعرفة وإرباكه، وتساعد المغرضين على تحقيق مآربهم، وتمرير فهْمهم.

2 - تفسير القرآن وتأويل آياته بالعقل، الملتزم بالكتاب والسنّة، فقد ساهم التأويل الملتزم مساهمةً فعّالةً في كشف معاني الآيات، وبيان محتواها.

3 - تفسير القرآن عن طريق الفَهْم اللُغَوي، وفْق نظام اللغة، وما حوَت مِن

٧١

حقيقةٍ ومجاز، يُمكِّن الفهْم مِن تشخيص المعنى، واكتشاف المراد على الحقيقة أو المجاز.

وقد حقّق هذا المنهج التخلّص مِن مشكلتين خطيرتين، أحاطت بالمدارس العقيدية التي لمْ تتبنَّ هذا المنهج، وهما:

أ - التخلّص مِن ظاهرة تجميد دَور العقل والتوقّف عن الفَهْم العقلي والاستنباط، الذي دعا إليه الظاهريون.

ب - مشكلة تفسير القرآن وِفْق الرأي الشخصي، وجرّ معاني القرآن إلى المَيل المذهبي للمفسِّر، وتحميل القرآن بالتأويل ما لمْ يقصده (1) .

ولمّا كان القرآن الكريم قد تحدّث عن التوحيد وعن صفات الله وأسمائه المقدّسة، وخاطب الناس باللغة التي يفهمونها في عصر النزول؛ لذا لمْ يحدث لهم ارتباك في الفَهْم، أو اختلاف في التأويل إلاّ بشكلٍ محدود.

وعند حصول مثل هذا الاختلاف في الفهْم، فإنّ فيهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، الذي يرفع الاختلاف والالتباس وسوء الفَهْم.

وبسبب تعدّد المناهج في فهْم القرآن والتفاوت في القدرات العِلمية، حدث الاختلاف في فهْمه وتأويل آياته، وبدأ ظهور المذاهب والآراء التي ابتعدت عن فهْم المحتوى القرآني، فأخطأت في التعامل مع ظاهره، أو التي لجأت إلى حمْل الظاهر وتأويله على ما لمْ يقصده.

وعند استقراء المدارس العقيدية التي ظهرت في المرحلة التي بدأت في النصف الثاني مِن القرن الأوّل الهجري، وما بعدها بسبب تلك الاتّجاهات والرؤى، نجد عدّة مدارس عقيدية حاولت تفسير العقيدة الإسلامية وفهْم مفرداتها، ومِن أبرز

____________________

(1) لجنة التأليف في مؤسّسة البلاغ / (سلسلة مفاهيم إسلامية) / الفكر الإسلامي 1: 34.

٧٢

هذه المدارس:

1 - مدرسة أهل الظاهر مِن المحدّثين والمفسّرين.

2 - مدرسة المعتزلة.

3 - مدرسة أهل البيت (مدرسة التشيّع).

4 - مدرسة الغُلاة.

5 - مدرسة الأشاعرة.

6 - مدرسة الفلاسفة المتأثّرين بالفلسفة اليونانية والهندية والفارسية وغيرها.

7 - مدرسة المتصوّفة وأهل الباطن والعرفان.

ونلاحظ آراء وآثار تلك المدارس متميّزة في كتُبهم ومدوّناتهم العقيدية، أو فيما دوّن المنصفون مِن كتّاب الفِرق، أو ما نراه واضحاً في التفسير المتأثّر بمدارسهم العقيدية، أو في الروايات الموضوعة التي حاول الوضّاع أن يؤيّدوا بها اتّجاهاتهم المذهبية.

وقد ثبّت أهل البيت (عليهم السلام) معالم مدرستهم، بما وضّحوه وبيّنوه للناس آنذاك، بالإضافة إلى ما حوَت مناقشاتهم لتلك الاتّجاهات والتفسيرات العقيدية، فتبلوَرت مِن خلال كلّ ذلك موارد الاختلاف، وظهرت (مدرسة التشيّع) في التوحيد مبنيّة على أساس القاعدة الكبرى، التي وضّحها الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليهما السلام) بقوله: (إنّ المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن... ولا تعدوا القرآن، فتضلّوا بعد البيان).

٧٣

التوحيد القرآني في مدرسة التشيّع

بعد أن دخل المنهج الفلسفي إلى الفكر الإسلامي، ونشأ عِلم الكلام، وتعدّدت الفِرق الكلامية، وبرز المنهج الظاهري لتفسير القرآن، وثار الجدَل حَول صفات الله سبحانه، ففي خِضَم هذا الصراع حدّد أهل البيت (عليهم السلام) منهجهم العقيدي، وأظهروا معارفهم العقيدية، ونادوا بوجوب إثبات التوحيد لله كما وصف نفسه في كتابه المجيد؛ لذا أثبتوا التوحيد لله، ونفي الشِرك عنه؛ لينزّه الباري (جلّ شأنه) عن شِرك الذات والصفات والأفعال والعبادة، كالآتي:

1 - توحيد الله في ذاته.

2 - توحيد الله في صفاته.

3 - توحيد الله في أفعاله.

4 - توحيد الله في العبادة.

1 - توحيد الله في ذاته:

وقد اعتبرت مدرسة التشيّع أنّ توحيد الله في ذاته هو الأساس الذي تقوم عليه أبنية العقيدة، فالمسلم يؤمن أنّ الله واحد في ذاته، لا يشبهـه شيء، منزّه عن مشابهة الخلْق، لا يحيط به الفكر، ولا يحويه التفكير، وقد وصَف نفْسه سبحانه بقوله: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيـرُ ) (1) .

ويوضّح أئمّة أهل البيت معنى توحيد الله في ذاته بنصوصٍ وبياناتٍ ملأت كتُب الرواية والتفسير والعقائد، نذكر منها:

____________________

(1) سورة الشورى: آية 11.

٧٤

قول الإمام عليّ: (التوحيدُ ألاَّ تتوَهَّمَهُ، والعدْل ألاَّ تتَّهمَهُ) (1) .

وما ورد عن الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليهم السلام): (ما عَرَف الله مَن شبّهه بخلْقه...) (2) .

وقد ثبّت الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليهما السلام) الأساس التوحيدي؛ لحماية الفكر البشري مِن الشِرك بتحذيره مِن استخدام القياس في معرفة الله، على ما يحمل الفكر البشري مِن معانٍ وتصوّرات منتزعة مِن عالَم المخلوقات.

قال (عليه السلام): (إنّه مَن يصِف ربّه بالقياس لا يزال الدهر في الالتباس، مائلاً عن المنهاج، ظاعناً في الاعوجاج، ضالاًّ عن السبيل، قائلاً غير الجميل؛ أُعرِّفه بما عرَّف به نفْسه مِن غير رؤية، وأَصِفه بما وَصف به نفْسه مِن غير صورة، لا يُدرك بالحواسّ، ولا يُقاس بالناس، معروف بغير تشبيه، ومتدان مِن بُعده لا بنظير، لا يمثَّل بخليقته، ولا يجور في قضيّته...) (3) .

ويتحدّث الإمام الصادق (عليه السلام) عن توحيد الذات، فيُثبت التنزيه الخالص، والوحدانية المطلقة، وينفي ما التبس على أصحاب بعض الفِرَق والمذاهب العقيدية، وما اعترى تفكيرهم مِن سوء الفهْم للذات الإلهية المقدّسة.

فقد تأثّر مفهوم التوحيد لدى هؤلاء بفهْمهم البشري، وعجْزهم عن التجريد المطلق للذات الإلهية، فتصوّروا مفهوم التوحيد متأثّرين بالنظرة الحسّية والمادّية، فاعتقدوا أنّ لله جسماً وصورة، وأمثال ذلك مِن التصوّرات المادّية المجسّمة.

وقد اعتبر الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ تشبيه الله بخلْقه شِركٌ؛ لذلك

____________________

(1) نهْج البلاغة: ص 558 / ح 470.

(2) الشيخ الصدوق / التوحيد: 47.

(3) المصدر السابق.

٧٥

يقول: (مَن شبَّه الله بخلْقه فهو مُشرك، ومَن أنكر قدرته فهو كافر) (1) .

ولإيمان أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أنّ ذات الله حقيقة أحديّة لا تدرك كُنْهها العقول، حذّروا مِن التفكّر في ذات الله، ودعوا إلى معرفة خلْقه، واستقراء آثار صفاته المتجلّية في عالَم الوجود؛ لتكون دليلاً على عظمته، وداعياً إلى توحيده؛ لذلك نجد الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليهما السلام) يحذّر مِن التفكّر في ذات الله، ويوجّه العقول إلى التفكّر في عظيم خلْقه سبحانه، فيقول:

(إيّاكم والتفكّر في الله، ولكنْ إذا أردتُم أن تنظروا إلى عظمته، فانظروا إلى عظيم خلْقه) (2).

ويقول في موردٍ آخَر:

(تكلّموا في خلْق الله، ولا تتكلّموا في الله، فإنّ الكلام في الله لا يزداد صاحبه إلاّ تحيّراً) (3).

والإمام الصادق في هذا البيان والتوضيح العقيدي، إنّما يعبّر عن محتوى الآية الكريمة، ودلالتها المعبّرة عن هذه الحقيقة:

( ... وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ) (4).

2 - توحيد الله في صفاته:

لقد بحث علماء الكلام وأئمّة الفِرَق والمفسّرون والفلاسفة وأصحاب المذاهب هذه المسألة العقيدية الخطيرة، بحثاً معمّقاً وطويلاً، فتشعّبت الآراء

____________________

(1) المصدر السابق: ص 76.

(2) الكليني / الأصول مِن الكافي 1: 93.

(3) المصدر السابق: ص 92.

(4) سورة الرعد: آية 13.

٧٦

والاتّجاهات، في فهْم وتفسير صفات الله سبحانه، مِن هذه الآراء، آراء الشيعة الإمامية، والمعتزلة، والأشاعرة، والفلاسفة، والكرامية، وغيرهم.

وكانت أهمّ المسائل التي بُحثت في هذا المجال هي: هل صفات الله سبحانه، كالعِلم والقدرة هي عين ذاته، أو هي زائدة على ذاته. فهل هو عالِمٌ بعِلم، وقادرٌ بقدرة، وحيّ بحياة، أو لا؟.

قد أوضح الشيعة الإمامية رأيهم في هذه المسألة، وتحدّد هذا الرأي في: أنّ صفات الله مِن العِلم والقدرة والحياة، هي عين ذاته، فلا نفي لصفاته، ولا تشبيه بخلْقه، وفْق ما حدّده الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليهما السلام) بقوله: (إنّ المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن مِن صفات الله (عزّ وجلّ)، فانفِ عن الله تعالى البطلان والتشبيه، فلا نفيٍ ولا تشبيه).

روى الحسين بن خالد، قال: (سمعت عليّ بن موسى الرضا (عليهما السلام) يقول: لمْ يزل الله تبارك وتعالى عليماً قادراً حيّاً قديماً سميعاً بصيراً، فقلت له: يا ابن رسول الله، إنّ قوماً يقولون: إنّه (عزّ وجلّ) لمْ يزل عالِماً بعِلم، وقادراً بقدرة، وحيّاً بحياة، وقديماً بقِدَم، وسميعاً بسمْع، وبصيراً ببصَر.

فقال (عليه السلام): مَن قال ذلك ودان به، فقد اتّخذ مع الله آلهةً أُخرى، وليس مِن ولايتنا على شيء، ثمّ قال (عليه السلام): لمْ يزل (عزّ وجلّ) عليماً قادراً حيّاً قديماً سميعاً بصيراً لذاته، تعالى عمّا يقول المشركون والمشبّهون عُلوّاً كبيراً) (1) .

وعن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال: (مِن صفة القديم أنّه واحد، أحد، صمد، أحديُّ المعنى، وليس بمعانٍ كثيرةٍ، مختلفةٍ، قال: قلت: جعلت فداك، يزعم قوم مِن أهل العراق أنّه يسمع بغير الذي يُبصر، ويُبصر

____________________

(1) الشيخ الصدوق / التوحيد: ص 140.

٧٧

بغير الذي يسمع، قال: فقال: كذبوا وألحدوا وشبّهوا: تعالى الله عن ذلك، إنّه سميع بصير، يسمع بما يُبصر، ويُبصر بما يسمع، قال: قلت: يزعمون أنّه بصير على ما يعقلونه، قال: فقال: تعالى الله، إنّما يعقل ما كان بصِفة المخلوقين، وليس الله كذلك) (1) .

تقسيم الصفات:

استفادةً ممّا تتّصف به الذات الإلهية، وما يصدر عنها مِن آثار نشاهدها في عالَم الإمكان، ولبيان الفكر التوحيدي، ذهبت منهجية الدراسات العقيدية الإمامية إلى تقسيم الصفات الإلهية إلى قسمين:

1 - الصفات الثبوتية الكمالية (الجمالية) التي تُثبت له الكمال: كالعِلم والقدرة والإرادة والحياة وغيرها مِن الصفات، التي وصف الله بها نفْسه في كتابه المجيد، ولا يصحّ سلبها عنه سبحانه.

2 - الصفات السلبية، أو الصفات الجلالية: وهي كلّ صفةٍ لا تصحّ نسبتها إلى الله سبحانه، ويجب تنزيهه عنها لوجوب وجوده؛ ولأنّها صفات نقصٍ يتّصف بها عالَم الممكنات، وقد دخل الفكر الإمامي في جدَلٍ وخصامٍ دار حوْل صحّة نسبة بعض هذه الصفات إلى الله سبحانه، مع بعض الفِرَق الإسلامية، كالظاهرية والمجسّمة والقدْريّة والحشوية... الخ.

ولعلّ منشأ الخلاف كما يرى الشيعة الإمامية، هو خطأ المنهج وطريقة التعامل مع النصّ القرآني عند الآخَرين، وعدم فهْم المعنى علـى حقيقتـه؛ لذا نادت بضرورة تنقية التفكير العقيدي مِن الفهْم الذاتي البشري، وتوسّط ذلك الفهْم، أو القياس عليه، عند فهْم الصفات الإلهية.

فإنّ الفهْم الإنساني يميل بطبيعته إلى قياس الأشياء بعضها على بعض، دون أن

____________________

(1) المصدر السابق: ص 144.

٧٨

يلاحَظ الفارق في القياس في كثيرٍ مِن الأحيان، خصوصاً عندما يستعمل اللفظ ذاته للتعريف بتلك المعاني.

وانطلاقاً مِن ذلك فهِمَت مدرسة أهل البيت التوحيد على أساس التنسيق: بين دلالات الآيات بالتأويل، والفهْم العقلي الملتزم. وحمل الخطاب القرآني في كثيرٍ مِن موارده على أساس المجاز، كاليد والكرسي والاستواء والعرش والغضب والأسف والحبّ، وغيرها مِن الصفات التي وصَف الله بها نفْسه.

فإنّ هذا المنهج هو المنهج السليم لفهْم النصّ القرآني، الذي تحدّث عن صفات الله سبحانه.

وقد تحدّثت مئات الأحاديث الواردة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، في بيان صفات الله وأفعاله، ونفي ما لا يصحّ نسبته إليه مِن الصفات.

كما تناولت الدراسات الكلامية التي استخدمت لغةَ المنطق والحوار العقلي، والتي قام بها علماء التوحيد والعقيدة مِن أساطين الفكر والمعرفة في مدرسة أئمّة أهل البيت؛ لتجلية هذه المعاني، وتثبيت الأُصول العقيدية في كتُبهم ودراساتهم، التي دارت حوْل نفي ما يُنافي التنزيه والكمال مِن الصفات عنه سبحانه، عند الحوار والردّ على أصحاب الفِرَق والآراء المنحرفة، أو المخالفة للاتّجاه المستنير في فهْم أهل البيت التوحيدي، نذكر مِن تلك النصوص ما سجّله العلاّمة الحلّي في هذا الموضوع، قال متحدّثاً عن الصفات السلبية:

الصفة الأُولى: أنّه تعالى ليس بمركّب، وإلاّ لافتقر إلى أجزائه، والمفتقر ممكن.

الصفة الثانية: أنّه تعالى ليس بجسم، ولا عَرَض، ولا جوهر، وإلاّ لافتقر إلى المكان، ولامتنع انفكاكه مِن الحوادث، فيكون حادثاً، وهو محال.

٧٩

وعلّق الفاضل المقداد، وهو الشارح لمَتْن الكتاب، قائلاً: (خلافاً للمجسّمة).

ثمّ قال العلاّمة: (ولا يجوز أن يكون في محلّ، وإلاّ لافتقر إليه، ولا في جهةٍ، وإلاّ لافتقر إليها)، وكما ينزّه العلاّمة الحلّي والشارح، الباري جلّ شأنه عن هذه الصفة في هذا الكتاب معبّرين عن اعتقاد الإمامية في ذلك، فإنّ العلاّمة الحلّي يؤكّد تنزيه الله عن الحلول في أيٍّ مِن الخلْـق، عند شرحه لكتاب تجريد الاعتقاد لنصير الدِين الطوسي، إذ يقول - معقّباً على قول نصير الدِين الطوسي، الذي نصّه: أنّه تعالى ليس بحالٍّ في غيره ـ: (فإنّ وجوب الوجود يقتضي كونه تعالى ليس حالاًّ في غيره، وهذا حُكمٌ متّفق عليه بين أكثر العقلاء.

وخالَف فيه بعض النصارى القائلين: بأنّه تعالى حالٌّ في المسيح، وبعض الصوفية القائلين: بأنّه تعالى حالٌّ في بدَن العارفين، وهذا المذهب لا شكّ في سخافته) (1) .

الصفة الثالثة: قال العلاّمة الحلّي: (ولا يصحّ عليه اللذّة والألم؛ لامتناع المزاج عليه تعالى) (2) .

الصفة الرابعة: (ولا يتّحد بغيره؛ لامتناع الاتّحاد مطلقاً) (3) .

ثمّ علّق الشارح المقداد قائلاً: (فقد قال بعض النصارى: إنّه اتّحد بالمسيح، فإنّهم قالوا اتّحدت لاهوتيّة الباري مع ناسوتيّة عيسى (عليه السلام)، وقالت،

____________________

(1) العلاّمة الحلّي / كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد / المقصد الثالث (الفصل الثاني): ص 293 مسألة (13).

(2) المقداد السيوري / شرح الباب الحادي عشر: ص 36.

(3) المصدر السابق: ص 37.

٨٠