نشأة التشيع والشيعة

نشأة التشيع والشيعة0%

نشأة التشيع والشيعة مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 150

نشأة التشيع والشيعة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 150
المشاهدات: 23376
تحميل: 6681

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 150 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 23376 / تحميل: 6681
الحجم الحجم الحجم
نشأة التشيع والشيعة

نشأة التشيع والشيعة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

عليّ وزوجته البتول وولديهما الحسن والحسينعليهم‌السلام .

ب - تؤكد أن هؤلاء هم أهل البيت دون سواهم(٥٥) . وبالتالي نفهم أنهم هم المقصودون في آية التطهير التي هي قوله تعالى:( ... إِنَّمَا يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِير ) (٥٦) وفي آية التطهير هذه يتبين لنا نزاهة عليّ وأمانته، وسمو ذاته وطهارته، بل عصمته.

ومن هنا يبدأ الاستحقاق لأن يحتلَّ عليٌّ مقام الخلافة والولاية وقيادة المسيرة، قال الراغب الأصفهاني: «لا يصلح لخلافة الله ولا يكمل لعبادته وعمرة أرضه إلاّ من كان طاهر النفس قد اُزيل رجسها ونجسها، فللنفس نجاسة كما إنّ للبدن نجاسة، لكن نجاسة البدن قد تدرك بالبصر ونجاسة النفس لا ترك إلاّ بالبصيرة... وإنما لم يصلح لخلافة الله إلاّ من كان طاهر النفس، لأنَّ الخلافة هي الاقتداء به تعالى على الطاقة البشرية، ومن لم يكن طاهر القول والفعل فكل إناء بالذي فيه يرشح...»(٥٧) .

____________________

(٥٥) التاج الجامع للأصول / ج ٤ / ص ٢٠٧ قال روى الترمذي ومسلم عن عمر بن اُم سلمة ربيب رسول الله: لما نزلت هذه الآية - التطهير - في بيت اُم سلمة دعا رسول الله فاطمة وحسناً وحسيناً وعلياً، فجللهم بكساء ثمّ قال: الله هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً قالت ام سلمة، وأنا معهم يا رسول الله. قال: أنت على مكانك، وأنت على خير.

(٥٦) الأحزاب / ٣٣.

(٥٧) الذريعة إلى مكارم الشريعة / ابن المفضل الراغب الأصفهاني / ص ٢٩ مراجعة وتعليق طه عبد الرؤوف سعد / ط ١ / مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة / ١٣٩٣ هجري، وراجع استفادة العصمة من آية التطهير / الاُصول العامة للفقه المقارن / محمد تقي الحكيم / ص ١٧٤.

١٢١

يتبين لنا من ذلك أنَّ القرآن الكريم بعد أن أشادَ بفضل علي وبفضائله، ارتقى به الى منزلة التزكية المطلقة «التطهير» ثمّ صعدَ به إلى منزلةٍ على غاية من الأهمية إذ جعل نفسَ عليّ كنفس النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله كما هو صريح آية المباهلة. وتأسيساً على ذلك، أكدّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مراراً وكراراً قائلاً: «عليّ مني وأنا من علي»(٥٨) وعندما حاول بعض الناس الشكوى من عليّ بغيةَ التشويش على مقامه هذا ومنزلته، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما تريدون من عليّ..؟» ردّدها ثلاثاً، ثمّ قال «إنَّ علياً مني وأنا منه»(٥٩) .

ومن أجل قطع الطريق أمام المتشككين بهذه المنزلة الرفيعة التي أنزل الله تعالى فيها عليّاً، ولترسيخ وتأكيد ولايته وخلافته بع النبي، في كل ما يهم المسلمين من أجل ذلك جاء قوله تعالى:( إِنَّمَا وَليُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (٦٠) فقد ذكر الزمخشري أن هذه الآية المباركة نزلت في عليّعليه‌السلام حين سأله سائل، وهو راكع في صلاته فطرح له خاتمه(٦١) . ولإزالة الالتباس، وقطعاً لدابر أيّ تأويل في المراد بالولي

____________________

(٥٨) التاج الجامع للأصول / ناصف ج ٣ / ص ٣٣٤، وراجع تاريخ الخلفاء / السيوطي / ص ١٦٩.

(٥٩) صحيح الترمذي / ج ٥ / ص ٥٩٤.

(٦٠) المائدة / ٥٥.

(٦١) الكشاف / الزمخشري / ج ١ / ص ٦٤٩ قال في الهامش في تخريج الحديث: رواه ابن أبي حاتم من طريق سلمة بن كهيل: قال: تصدق عليّ بخاتمه وهو راكع فنزلت / أي الآية.

ولابن مردويه عن سفيان الثوري عن ابن سنان عن الضحاك عن ابن عباس مثله.

وراجع أيضاً أسباب النزول / الواحدي / ص ١٣٤ قال: نزلت في علي.

١٢٢

وتشخيصه في مثل هذه الموارد، صرّح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في أكثر من مناسبة قائلاً: «إنَّ عليّاً مني، وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن بعدي...»(٦٢) ولتأكيد ولاية عليّ، ودوره الهام بالنسبة إلى الرسالة الإسلامية قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «عليٌّ مني وأنا من عليّ ولا يؤدي عني - أي بصفته نبيّاً رسولاً - إلاّ أنا وعليّ...»(٦٣) ثُم رُسّخ هذا المفهوم عمليّاً جهاراً نهاراً في قصة تبليغ سورة براءة، كما أخرج هذه الرواية الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن أبي بكر الصديق أنه قال: «إنّ النبي بعثه ببراءة إلى أهل مكة، فسارَ ثلاثاً ثمّ قال لعلي: الحقه، فردَّ عليٌّ أبا بكر وبلّغها، فلما قدم أبو بكر على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: يا رسول الله حدثَ فيَّ شيء، قال: ما وجدتُ فيك إلاّ خيراً، لكنني اُمرت أن لا يبلغ إلاّ أنا أو رجلٌ مني...»(٦٤) وفي الكشاف: روي أنَّ أبا بكر لما كان ببعض الطريق - أي لتبليغ سورة براءة - هبط جبرائيلعليه‌السلام ، فقال: «يا محمد: لا يبلغن رسالتك إلاّ رجلٌ منك، فأرسل عليّاً...»(٦٥) .

وأخيراً ختم القرآن الكريم هذا الموضوع الحيوي والمهم أي

____________________

(٦٢) صحيح الترمذي / السابق - باب فضائل الإمام عليّ، وراجع التاج الجامع للأصول / ج ٣ / ص ٣٣٥.

(٦٣) المصدر السابق.

(٦٤) مسند الإمام أحمد بن حنبل / ج ١ / ص ٣ - طبعة دار صادر، وراجع: تفسير الكشاف الزمخشري / ج ٢ / ص ٢٤٣، وراجع الرواية أيضاً في صحيح الترمذي / ج ٥ / ص ٥٩٤.

(٦٥) الكشاف / المصدر السابق.

١٢٣

عملية الإعداد الفكري والتربوي في آخر ما نزل منه في آية التبليغ ثمّ في آية إكمال الدين بعد حديث الغدير المشهور، وعنده لم يعد هناك عذرٌ لمعتذر. وقصة الغدير - كما تناقلها الرواة مع بعض الاختلاف - هي كما يأتي:

لما رجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من حجة الوداع، نزل عليه الوحي مُشدِّداً( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (٦٦) فحطّ الركبُ عندَ غدير خمّ، وجمع الناس في منتصف النهار، والحرُّ شديد، وخطب فيهم قائلاً، كأني قد دُعيت فأجبتُ وإني تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتابَ الله وعترتي - وفي رواية مسلم(٦٧) وأهل بيتي - فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض... ثمّ قال: إنَّ الله مولاي، وأنا مولى كل مؤمن، ثمّ أخذ بيد عليٍّ فقال: من كنت مولاه فهذا وليُّه - فهذا مولاه(٦٨) - اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، واخذل من خذله، وانصر من نصره(٦٩) .. وأدر

____________________

(٦٦) المائدة / ٦٧، قال الواحدي في أسباب النزول / ص ١٣٥، نزلت في غدير خم.

(٦٧) صحيح مسلم / ج ٤ / ص ١٨٧٤.

(٦٨) التاج الجامع للأصول / ج ٣ / ص ٣٣٣. رواية عن زيد بن أرقم عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهي في صحيح الترمذي أيضاً / ج ٥ / ص ٥٩١.

(٦٩) مسند الإمام أحمد بن حنبل / ج ٤ / ص ٢٨١، ٣٦٨ دار صادر، وراجع تفسير ابن كثير / ج ١ ص ٢٢. وراجع سنن ابن ماجة / المقدمة / ج ١ / باب ١١ وراجع تحقيقات وافية شافية في أسانيد الحديث الغدير / العلامة الأميني. وراجع البداية والنهاية / لابن كثير أيضاً بعدة طرق / ج ٧ / ص ٣٦٠ / ٣٦١.

١٢٤

الحقَّ معه حيثما دار..(٧٠) وقد أعقبَ هذا الحدث الكبير نزول الوحي مرةَ أخرى بقوله تعالى:( ... اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتمَمتُ عَلَيكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِيناً... ) (٧١) .

وقد ورد في بعض الروايات أن الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله قال بعد نزول هذه الآية في ذلك اليوم المشهود وهو يوم الثامن عشر من ذي الحجة(٧٢) يوم الغدير قال: «الله أكبر، الحمد لله على اكمال الدين واتمام النعمة ورضى الرب برسالتي وبالولاية لعلي بعدي»(٧٣) .

وفي رواية لأحمد، «فلقيه عمر بن الخطاب - أي لقي علياً - بعد ذلك، فقال له هنيئاً أصبحت وأمسيتَ مولى كل مؤمن ومؤمنة...»(٧٤) .

ومما يؤسف له حقاً أن بعض الناس كان لا يرضيهم أن يُعطى عليّ مثل هذه الامتيازات والمقامات، وكان بعض الناس يكثر لغطه واعتراضه عندما يَخصُّ الرسول القائد علياً بذلك، فيضطر الرسول الأكرم صلوات الله عليه وآله أن يذكّرهم بأنه رسول ربّ العالمين

____________________

(٧٠) التاج الجامع للأصول / ج ٣ / ص ٣٣٧. رواه مستقلاً: «رحم الله عليّاً اللهم أدر الحق معه حيث دار..».

(٧١) المائدة / ٣.

(٧٢) راجع الإتقان / السيوطي / ج ١ / ص ٧٥ في رواية نزول الآية يوم الغدير وأنه يوم الثامن عشر من ذي الحجة. وراجع أسباب النزول / الواحدي / ص ١٣٥.

(٧٣) مناقب أمير المؤمنين / الحافظ محمد بن سلمان الكوفي القاضي / من أعلام القرن الثالث / تحقيق الشيخ المحمودي / ج ١ / ص ١١٩ مجمع إحياء الثقافة الإسلامية / قم / ١٤١٢ هجري.

(٧٤) مسند الإمام أحمد بن حنبل / ج ٤ / ص ٢٨١، وقد أشهد عليٌّ جمعاً من الناس، فشهد له ثلاثون أنهم سمعوا هذا الحديث من رسول الله. ابن كثير / البداية والنهاية / ج ٧ / ص ٣٦٠.

١٢٥

الذي يصدع بما يؤمر وأنه:( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى* إَنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌّ يُوحَى ) (٧٥) .

ومن الشواهد على ذلك؛ ما رواه الترمذي وحسنه، عن جابر بن عبد الله قال: «دعا رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاً يوم الطائف فانتجاه - أي كلّمة سرّاً - فقال الناس: لقد طال نجواه مع ابن عمّه، فقال الرسول: ما انتجيته ولكن الله انتجاه...»(٧٦) .

وعن ميمون عن زيد بن أرقم قال: «كان لنَفرٍ من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أبواب شارعة في المسجد قال: فقال رسول الله يوماً سدّوا هذه الأبواب إلاّ باب عليّ، قال: فتكلم في ذلك الناس، قال: فقام رسول الله فحمدَ اللهَ وأثنى عليه، ثمّ قال: أما بعدُ فإني أُمرتُ بسدِّ هذه الأبواب، إلاّ باب عليّ، وقال فيه قائلكم؛ وإني والله ما سددتُ شيئاً ولا فتحتُهُ، ولكني اُمرتُ بشيء فاتبعتُه...»(٧٧) .

وهكذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كلما يخصُّ عليّاً دون سواه بأمر، يصرحُ لهم، ويبين للأمة أنَّ ذلك إنما هو بأمر من الله تعالى. وقد حدث ذلك في إرسال عليّعليه‌السلام لتبليغ سورة براءة بدلاً من أبي بكر، وحدث ذلك يوم المناجاة في الطائف،

____________________

(٧٥) النجم / ٣ - ٤.

(٧٦) راجع صحيح الترمذي / ج ٥ / ص ٥٩٧، وراجع البداية والنهاية / لابن كثير / ج ٧ / ص ٣٦٩، وراجع التاج الجامع للأصول / ج ٣ / ص ٣٣٦.

(٧٧) مسند الإمام احمد / ج ٤ / ص ٣٦٩، وراجع تاريخ ابن كثير / ج ٧ / ص ٣٥٥.

١٢٦

وحدث ذلك يوم الغدير، إلى غير ذلك. ومما يلاحظ أيضاً أن المواقف الحاسمة في تاريخ الإسلام، وفي حياة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بما فيها ما يتصل بحماية التجربة الإسلامية ومستقبلها، يلاحظ أن الرسول القائد كان يقدّم عليّاً ويدعوه شخصياً دون غيره لحسم تلك المواقف ودفع الخطر الداهم، حدث ذلك في معركة بدر الكبرى، إذ كان عليٌّ صاحب الراية، وقتل من صناديد المشركين من قتل، وحدث ذلك يوم اُحد إذ قتل عليٌّ طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين، روى الطبري قال: لما قتلَ عليُّ بن أبي طالب أصحاب الالوية، أبصرَ رسولُ الله جماعةً من المشركين فقال لعلي: احمل عليهم، فحمل عليهم ففرق جمعهم، وقتل عمرو الجمحي، ثمّ أبصرَ رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جماعةً من المشركين، فقال لعلي احمل عليهم، فحمل عليهم ففرق جمعهم وقتل شيبة بن مالك، فقال

(جبريل) يا رسولَ الله إنَّ هذه للمواساة، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنه مني وأنا منه، فقال (جبريل) وأنا منكما، قال الطبري ثمّ سمعوا صوتاً يهتف:

لا سيف إلاّ ذو الفقار

ولا فتى إلاّ علي(٧٨)

ويكفي ما نقله سعد بن أبي وقاص على ما روى الشيخان في يوم خيبر(٧٩) .

____________________

(٧٨) تاريخ الطبري / ج ٢ / ص ٢٥ وص ٦٥ - ٦٦ - طبعة المكتبة العلمية - بيروت.

(٧٩) رواية سعد أخرجها الشيخان / راجع هامش ٥٤ و٥٥.

١٢٧

وقد يكون من المناسب أن نذكر هنا ما أخرجه الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ولقد عاتبَ اللهُ أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في غير موضع وما ذكر علياً إلاّ بخير(٨٠) .

____________________

(٨٠) تأريخ الخلفاء / السيوطي / ص ١٧١.

١٢٨

المبحث الثالث : مدخلية اختصاص عليّ بالمعرفة القرآنية في الإعداد لخلافته

في ضوء ما تقدم، لاحظنا أن هناك علاقة وارتباطاً من نوع خاصٍّ بين عليّعليه‌السلام والقرآن الكريم، نشأت هذه العلاقة، ونمت، وتطورت حتى انتهت - على حد تعبير الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله - إلى أنَّ: «القرآن مع عليّ، وعليّ مع القرآن، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض...»(٨١) . وكذلك انتهت أيضاً الى أنّ علياً سيقاتل على تأويل القرآن كما كان قد قاتل على تنزيله(٨٢) ، فما هي مدخلية ذلك في عملية الإعداد الفكري والتربوي لخلافة علي؟

نستطيع أن نؤكد أولاً أن الرسول القائد صلوات الله وسلامه عليه نفسه قد قام بتنمية وترسيخ مثل هذه العلاقة، وبأمر من الله تعالى كما كان يحدث دائماً. ويظهر أنَّ هدفاً كبيراً يلزم الوصول إليه عِبرَ

_____________________________

(٨١) راجع: الصواعق المحرقة / لابن حجر / ص ١٢٣ وراجع تاريخ الخلفاء / السيوطي / ص ١٧٣.

(٨٢) ينابيع المودة / القندوزي البلخي الحنفي / ج ٢ / ص ٥٨ / ط ١ منشورات الأعلمي / بيروت. وراجع الصواعق المحرقة / لابن حجر / ص ١٢٧.

١٢٩

تلك الإجراءات والخطوات العلمية والعملية.

ونستطيع أن نبين ذلك الهدف في ضوء الملاحظات الآتية:

أولاً : إنّ منطق الشريعة الخالدة الكاملة يقتضي تأمين الوصول إلى فهم القرآن ومعرفة تفسيره وفقه أحكامه، بصفته المصدر الأساس(٨٣) لهذه الشريعة الخالدة وإن تحكيم القرآن في البلاد والعباد هو ما أمرنا الله تعالى به، إذ جاء فيه:( أَفَحُكْمَ الجَاهِليَّةِ يَبغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (٨٤) . ومقتضاه أن نحتكم إلى القرآن في كل صغيرة وكبيرة. وأن نكفر بحكم الجاهلية الذي هو حكم الأهواء. كما نهانا الله تعالى أيضاً أن نتحاكم إلى الطاغوت، فقال:( أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ اُنزِلَ إليكَ وَما اُنزِلَ مِن قَبلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إلَى الطَّاغُوتِ وقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيد ) (٨٥) .

وقد جعل القرآن الكريم هنا اختيار التحاكم إلى غير ما أنزل الله وإلى غير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تحاكماً إلى الشيطان(٨٦) الذي يسير بهم إلى الضلال حتماً، ثمّ أكّد القرآن الكريم أن الاحتكام إلى غير ما أنزل الله هو فسق وظلم وكفر؛ قال تعالى( ... وَمَن لَّمْ

____________________

(٨٣) كون القرآن المصدر الأول والأساس للشريعة الإسلامية محل اجماع الملة الإسلامية.

راجع: الاُصول العامة للفقه المقارن / العلامة محمد تقي الحكيم / ص ١٠١.

(٨٤) المائدة / ٥٠.

(٨٥) النساء / ٦٠.

(٨٦) الكشاف / الزمخشري / ج ١ / ص ٥٢٥.

١٣٠

يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ ) (٨٧) وقال تعالى:( ... وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٨٨) وقال تعالى( ... وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ فأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ ) (٨٩) وقد بُعث نبينا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله لإمحاء صفحة الظلم والفسق والكفر.

إذن فبحسب منطق القرآن، يكونُ عدم الرجوع إلى أحكام القرآن التي أنزلها الله تعالى، يعني الاحتكام إلى الطاغوت(٩٠) ، وعليه فإذا كان ذلك أي الرجوع إلى أحكام القرآن. أمراً إلهياً، وارادة ربانية، وإذا كان ذلك يتطلب بالضرورة الوصول إلى حكم الله تعالى الذي أنزله في القرآن الكريم، فلا بدَّ من افتراض من هو مؤهل ومعدٌّ إعداداً أميناً لتحقيق ذلك الأمر الإلهي، وتلك الإرادة الربانية، وليس ذلك بالضرورة إلاّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أو من هو منه يؤدي عنه(٩١) ، ويبلغ عنه، ومؤهل مثله، ومعدٌّ لذلك الغرض.

ثانياً : إنّ العلماء قد وقع بينهم الاختلاف الكثير، وقد حصل ذلك منذ وقت مبكر، بالأخص في الأقضية التي تهمُّ الناس، وتتصل بحياتهم،

____________________

(٨٧) المائدة / ٤٧.

(٨٨) المائدة / ٤٥.

(٨٩) المائدة / ٤٤.

(٩٠) الطاغوت: يطلق على كل رئيس في الضلالة، وعلى كل من عُبد من دون الله، ويطلق على الكافر والشيطان والأصنام / مجمع البحرين / الطريحي / ج ١ / ص ٢٧٦، باب الألف أوله ط.

(٩١) راجع قصة تبليغ سورة براءة / مسند الإمام أحمد بن حنبل / ج ١ / ص ٣ طبعة دار صادر، وراجع نصّ الحديث في الصواعق المحرقة / لابن حجر / ص ١٢٢.

١٣١

وليس إلاّ بسبب عدم فقههم بالقرآن.

وقد تحدث الإمام عليّ عن هذه المسألة في معرض ذمّهِ لمثل هذا الاختلاف مع وجود القرآن بين أظهرهم، فقالعليه‌السلام : «تردُ على أحدهم القضية، في حكم من الأحكام، فيحكم فيها برأيه، ثمّ تردُ تلك القضية بعينها على غيره، فيحكم فيها بخلاف قوله، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعاً، والههم واحد! ونبيّهم واحد! وكتابهم واحد! أفأمرهم الله سبحانه بالاختلاف فأطاعوه؟! أم نهاهم عنه فعصوه؟! أم أنزل الله ديناً ناقصاً فاستعان بهم على اتمامه؟! أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟! أم أنزل الله ديناً تاماً فقصّر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عن تبليغه وأدائه، والله سبحانه وتعالى يقول:( ... مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيءٍ ) (٩٢) ،( ...وَنَزَّلْنَا عَلَيكَ الكِتَابَ تِبيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً... ) (٩٣) ، وذكر أن الكتابَ يصدق بعضه بعضاً وأنه - أي القرآن - لا اختلاف فيه فقال سبحانه( ... وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِير ) (٩٤) . وإنّ القرآن ظاهر أنيق...»(٩٥) إذن

____________________

(٩٢) الأنعام / ٣٨.

(٩٣) النحل / ٨٩.

(٩٤) النساء / ٨٢.

(٩٥) راجع النص في الخطبة ١٨ / نهج البلاغة ضبط الدكتور صبحي الصالح / ص ٦٠ / ٦١، وراجع: الصواعق المحرقة / ص ١٥٢، نقل عن الإمام زين العابدين في دعاء له قائلاً: «فالى من يفزع خلف هذه الأُمة وقد درست أعلام هذه الملة، ودانت الأُمة بالفرقة والاختلاف يكفر بعضهم بعضاً، والله تعالى يقول:(وَلاَ تكُونُواْ كَالذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُواْ مِنَ بَعدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِنَاتُ ) فمن الموثوق به على إبلاغ الحجة وتأويل الحكم إلاّ أبناء أئمة الهدى، ومصابيح الدجى الذين احتج الله بهم على عباده، ولم يدع الخلق سدىً من غير حجة، هل تعرفونهم أو تجدونهم إلاّ من فروع الشجرة المباركة، وبقايا الصفوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وبرأهم من الآفات وافترض مودتهم في الكتاب...».

١٣٢

بموجب هذا وبمقتضاه لابدّ من افتراض إعدادِ أحدٍ مؤهلٍ لفقه القرآن.

ثالثاً : إن اختصاص عليٍّ بالعلوم القرآنية، وبمعرفة القرآن ظاهره وباطنه محكمه ومتشابهه، خاصه وعامه، وإنَّ قدرته الفذّة على فهم آياته وفقه أحكامه، أمرٌ متسالم عليه عند علماء الصحابة - كما نوهنا -(٩٦) وقد ساعدت النصوص النبوية، على تأكيده وبيانه - كما ذكرنا - ويؤيده أيضاً، ما أورده أصحاب التفسير والأثر عن عليٍّعليه‌السلام ومن طرق اُخرى: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا عليٌّ إنَّ الله عزَّ وجل أمرني أن اُدنيك واُعلمك لتعِي، واُنزلت هذه الآية( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) (٩٧) فأنت أُذن واعية لعلمي...»(٩٨) .

وقد جاء عن عليّعليه‌السلام أيضاً قوله:

«ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق، ولكن اُخبركم عنه... ألاّ وإنَّ فيه علم ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم

____________________

(٩٦) راجع الصفحة (١١٣) في الملحق.

(٩٧) الحاقة / ١٢.

(٩٨) راجع: ما نزل من القرآن في عليّ / لأبي نعيم / تحقيق المحمودي / ص ٢٦٦ وقد ذكر المحقق في الهامش أسانيده. وراجع الدر المنثور / السيوطي / ج ٦ / ص ٢٦٠ منشورات المرعشي.

١٣٣

أمركم...»(٩٩) . وهكذا يصرّحُ الإمامُ عليٌّ ويؤكد بأن هذا القرآن بما انطوى عليه من هذه المطالب الجليلة والمعاني العميقة من شفاء الأدواء الاجتماعية، وانتظام اُمور الحياة بكل جوانبها، كل ذلك لا يكون بمقدور أحدٍ أن يصل إليه، أو يفقههُ إلاّ هو، وإلاّ عن طريقه. وهكذا يتضح لدينا أنه ليس هناك أحدٌ مؤهل لفقه القرآن ومعدّ لتحقيق الأمر الإلهي وتنفيذ الإرادة الربانية بإزالة الظلم والفسق والكفر غير عليّ بن أبي طالب حصراً. كما هو مقتضى النصوص والوقائع. وهو الافتراض المنطقي والمعقول جداً لتفسير الاجراءات العلمية والعملية التي اتخذها الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله بإفراد عليٍّ وتخصيصه دون غيره بالعلوم القرآنية والمعارف القرآنية والأحكام القرآنية كما صرحت النصوص المتواترة.

وأخيراً يقتضي الموقف أن نعالج تساؤلاً يثور بالضرورة، أو هو طالما اُثير مراراً وهو:

إذا كانت كل تلك الإجراءات والخطوات العلمية والعملية قد اتُّخذت من أجل تولي عليّ بن أبي طالب الخلافة وقيادة المسيرة بعد الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله فلماذا لم يكن هناك عهدٌ مكتوب بصورة جازمة قاطعة ليس فيه عذرٌ لمعتذر ولا تأويل لمتأول؟!(١٠٠) .

____________________

(٩٩) نهج البلاغة: ص ٢٢٣ / خطبة (١٥٨).

(١٠٠) هذا السؤال أُثير في (المراجعات) بين العلامة شرف الدين، والشيخ سليم البشيري شيخ الجامع الأزهر.

١٣٤

وجوابه:

إنَّ النصوص التي أوردناها، والروايات المتضافرة التي تصرّح ببيان الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ولاية عليّ ووزارته، وخلافته، وإمرته من بعده، في مواقف لا تحصى كثرة، ومناسبات لا تعدُّ مما لم يحظ به أمرٌ ديني أو دنيوي، ومما لم ينل من اهتمامه صلوات الله وسلامه عليه ما ناله مثل هذا الأمر، حتى انتهى إلى الإعلان الرسمي يوم الغدير المشهود، وإلى التصريح به مراراً، كما اشرنا إليه - وكما ستجده في البحث الذي بين يديك للشهيد الصدر رضوان الله تعالى عليه - فضلاً عما اقتضاه منطق الأشياء، ومنطق الشريعة الخالدة الكاملة، إنَّ ذلك كله فيه الكفاية لمن القى السمع وهو شهيد. ومع ذلك كله فقد أراد الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يختصر على الأُمة المعاناة، وأن يكرمها بألطاف العناية الربانية فيجنبها العثرات وأسباب الضلال فقال صلوات الله وسلامه عليه وهو على فراش مرضه وفي آخر ساعات حياته الشريفة: «هلموا أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعدي أبداً...»(١٠١) وقد كان عنده جمع من كبار الصحابة، نعم أراد أن يكون ذلك عهداً مكتوباً يشهده جمعهم، إلاّ أن الرزية كلَّ الرزية قد حدثت - على حد تعبير ابن عباس - عندما حيل بين النبي الأكرم وبين كتابة الكتاب على ما أخرجه البخاري قال:

____________________

(١٠١) راجع الطبقات الكبرى / لابن سعد / ج ٢ / ص ٢٤٤ / طبعة دار بيروت للطباعة / ١٩٨٥.

١٣٥

«لما اشتد بالنبي وجعه قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده. قال عمر: إنَّ النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا. فاختلفوا وكثر اللغط. قال - أي النبي - قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع. فخرج ابن عباس يقول: الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين كتابه...»(١٠٢) .

ولعل من المناسب أن نذكر هنا محاورةً رواها ابن عباس جرت بينه وبين عمر بن الخطاب في أوائل عهده بالخلافة؛ وملخّصها أنَّ عمر قال له: «يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتها.. هل بقي في نفس عليٍّ شيء من أمر الخلافة؟ قلتُ: نعم، قال: يزعم أنَّ رسول الله نصَّ عليه؟ قلت: نعم، فقال عمر، لقد كان في رسول الله من أمره ذروة من قول، لا يثبت حجة، ولا يقطع عذراً.. ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعتُ من ذلك اشفاقاً وحيطةً على الإسلام.. فعلم رسول الله ما في نفسي فأمسك...»(١٠٣) وسواء صحّت أم لا، فإنّ هناك ما يؤيد هذا المسعى من الخليفة عمر في أكثر من مناسبة لاحقاً، وقد صرّح مرةً كما نقل الطبري عنه: «إن قومكم يكرهون أن تجتمع فيكم - والخطاب لابن عباس أيضاً - النبوة والخلافة...»(١٠٤) .

والظاهر أن ترك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله للكتابة والعهد

____________________

(١٠٢) صحيح البخاري / ج ١ / ص ٣٧، كتاب العلم - باب كتابة العلم، وراجع ج ٨ / ص ١٦١. كتاب الاعتصام. طبعة اوفسيت عن طبعة دار العامرة - استانبول - دار الفكر بيروت.

(١٠٣) شرح نهج البلاغة / لابن أبي الحديد / ج ٣ / ص ٩٧. دار الكتب العربية الكبرى / مصر.

(١٠٤) راجع: تاريخ الطبري / ج ٢ / ص ٥٧٧ / طبعة دار الكتب العلمية - بيروت.

١٣٦

المذكور قد يكون لاعتبارين والله العالم:

الأول : هو وقوع الاختلاف والتنازع واللغط في الدار عند إرادة كتابة الكتاب - العهد - إلى الحدّ الذي وصل إلى اتهامه صلوات الله وسلامه عليه بأنه يهجر - كما في رواية(١٠٥) أو غلبه الوجع كما في رواية اُخرى - وهذا اتهام خطير يمسُّ أصل النبوة وصدق الرسالة. ثمّ إنَّ الأمر قد كان بيّنه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه مراراً وكراراً كما وضحنا. فليبق إذن الاختيار، ولتبق القضية للامتحان والابتلاء.

الثاني : إنَّ النبي الأكرم صلوات الله وسلامه عليه قد اتخذ احتياطاً لمثل هذه الحالة الطارئة، إذ قد جهَّز جيش أسامة بن زيد، وأمر بإنفاذه على كل حالٍ، وقد بلغ من حرصه صلوات الله وسلامه عليه على إنفاذه مبلغاً عظيماً، إذ تذكر الروايات أن الرسول الأعظم مع بدء مرضه واشتداده لم يكن يشغله شيء عن محاولة انفاذ جيش أسامة(١٠٦) ، وننقل من رواية ابن سعد في الطبقات ما يثبت ذلك، فقد قال - بعد أن ذكر تجهيز جيش أسامة - لما كان يوم الأربعاء بدأ برسول الله المرض فحُمّ.. فلما أصبح يوم الخميس عقَد لأسامة لواءً بيده ثمّ قال: اغزُ باسم الله وفي سبيل الله، فقاتل من كفر بالله.. قال ابن سعد فخرج بلوائه معقوداً فدفعه إلى بريدة بن الحصيب الأسلمي، وعسكرَ بالجرف - وهو موضع على ثلاثة أميال من المدينة - مع وجوه

____________________

(١٠٥) راجع: النهاية في غريب الحديث والأثر / لابن الأثير / ج ٥ / ص ٢٤٦ / مادة هجرَ / تحقيق الطناحي.

(١٠٦) الكامل في التاريخ / لابن الأثير / ج ٢ / ص ٢١٨ طبعة دار صادر.

١٣٧

المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة... فتكلم قومٌ وقالوا: أيستعمل علينا هذا الغلام على المهاجرين الأولين؟ فغضب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله غضباً شديداً، فخرج وقد عصبَ على رأسه عصابة، فصعد المنبر، وقال: «أما بعد أيها الناس فما مقالةٌ بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة، ولئن طعنتم في إمارة أسامة لقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وأيم الله إنْ كان للإمارة لخليقاً، وإنَّ ابنه من بعده لخليق للإمارة، إن كان لمن أحب الناس إليّ، وانهما لمحلان لكل خير، فاستوصوا به خيراً فإنه من خياركم...، ثمّ نزل صلوات الله عليه، فدخل بيته، وذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول.. وثقل على الرسول المرض، وجعل يقول: انفذوا بعث اسامة...»(١٠٧) .

ويظهر من كل تلك المواقف والكلمات وتطورات الأحداث أن الرسول الأعظم إنما أراد من جملة ما أراد:

١ - تهيئة الأجواء الفكرية والنفسية من جهة تأمير أسامة على وجوه المهاجرين والأنصار، فيكون قبوله سابقةً لقبول تولي عليّ الإمرة والخلافة، فلا يعترض معترض بكونه أصغر سناً من بعضهم.

٢ - أراد ايضاً تهيئة الأجواء السياسية والأمنية وذلك بإبعاد عناصر المعارضة المحتملة(١٠٨) ، ليتولى عليّ بن أبي طالب مهام الخلافة التي كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يتولّى رعايتها والتخطيط

____________________

(١٠٧) الطبقات الكبرى / ج ٢ / ص ٢٤٨ / ٢٥٠.

(١٠٨) المراجعات / العلامة عبد الحسين شرف الدين / ص ٤٧٢.

١٣٨

والسهر من أجل بلوغها، كما توضَّح لنا ذلك.

ومع كل ذلك فقد جرت الأمور والأحداث على غير ما أراده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد أراد أن يختزل على الأُمة المعاناة، وأراد أن يجنبها ويلات تجربة الخطأ والصواب، أراد أن تتمسك الأُمة بالكتاب الكريم، وبالعترة الطاهرة لتسلم من التيه والضلال.

وهكذا ترك أمر (العهد القاطع الجازم المكتوب) لتظلُّ الأُمة عرضة للامتحان في مثل هذه القضية الخطيرة، وكما جرت السنن الإلهية، فقد قال تعالى:( الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُوَاْ أَن يِقُولُوَاْ آمَنَّا وَهُم لاَ يُفتَنُون* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ ) (١٠٩) .

نعم أراد الله تعالى ذلك، كما أراد رسوله الكريم أن يكون إيمان من يؤمن منهم بمن ولاّه عليهم، وجعلهُ خليفةً من بعده إيماناً راسخاً، واعتقادهم بأحقيته اعتقاداً عن تدبر، وتشيّعهم له تشيّعاً مخلصاً، حتى تستمر المسيرة في تنفيذ الإرادة الإلهية تحت قيادته المباركة، ويتحقق إزالة الظلم والفسق والكفر من الوجود.

( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخلِفَنَّهُمْ فِي الأَرضِ كَمَا استَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي

____________________

(١٠٩) العنكبوت / ١ - ٣.

١٣٩

ارتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ ) (١١٠) .

والحمد لله ربّ العالمين أولاً وآخراً

محرم الحرام / ١٤١٤ هجري

د. شراره

____________________

(١١٠) النور / ٥٥.

١٤٠