نشأة التشيع والشيعة

نشأة التشيع والشيعة0%

نشأة التشيع والشيعة مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 150

نشأة التشيع والشيعة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 150
المشاهدات: 23378
تحميل: 6681

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 150 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 23378 / تحميل: 6681
الحجم الحجم الحجم
نشأة التشيع والشيعة

نشأة التشيع والشيعة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

٢١

منه الإنسان الإسلامي، الذي يحمل النور الجديد إلى العالم، وتجتث منه كل جذور الجاهلية ورواسبها(٦) .

وقد خطا القائد الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله بعملية التغيير خطواتٍ مدهشة، في برهةٍ قصيرة، وكان على العملية التغييرية أن تواصل طريقها الطويل حتى بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله . وكان النبي يدرك منذ فترةٍ قبل وفاته، أنّ أجله قد دنا، وأعلن ذلك بوضوح في «حجة الوداع»(٧) ، ولم يفاجئه الموت مفاجأة. وهذا يعني أنه كان يملك فرصةً كافية للتفكير في مستقبل الدعوة بعده، حتى إذا لم نُدخل في الموقف عاملَ الاتصال الغيبي والرعاية الإلهية المباشرة للرسالة عن طريق الوحي(٨) . وفي هذا الضوء يمكننا أن نلاحظ أنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان أمامه ثلاثة طرق بالامكان انتهاجها تجاه مستقبل الدعوة. أولها: الطريق السلبي، وثانيها: الطريق الإيجابي ممثلاً بالشورى، وثالثها: التعبيين ] وهنا ثلاثة مباحث [.

____________________

(٦) جاء في القرآن الكريم قوله تعالى:( هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبدِهِ آيَاتٍ بَيّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلماتِ إلَى النُّورِ ) الحديد / ٩.

(٧) جاء ذلك عنه صلوات الله وسلامه عليه في خطبة حجة الوداع: إذ قال:« ألا وإني اوشك أن أُدعى فأُجيب... وفي رواية كأني قد دُعيت فأجبتُ، واني تركت فيكم الثقلين...» / صحيح مسلم / ج ٤ / ص ١٨٧٤، وعن عبد الله بن مسعود قال: «كنّا مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ليلةً فتنفّس، فقلت: ما شأنك يا رسول الله؟ قال: نُعيت اليّ نفسي...» مختصر تاريخ ابن عساكر / ج ١٨ / ص ٣٢.

(٨) بمعنى أننا لو افترضنا أنَّ النبيّ حريصٌ على دعوته المباركة - كما هو شأنه - وعلى أن تصلَ هذه الدعوة إلى مداها المقدر لها، وقد كان متطلعاً إلى أن تصلَ الى العالم أجمع، فإنّ هذا بحد ذاته يقتضيه أن يحسب حساب المستقبل.

٢٢

المبحث الأول : الموقف السلبي: إهمال أمر الخلافة (*)

وذلك بأن يقف من مستقبل الدعوة موقفاً سلبياً، ويكتفي بممارسة دوره في قيادة الدعوة وتوجيهها فترة حياته، ويترك مستقبلها للظروف والصدف.

وهذه السلبية في الموقف لا يمكن افتراضها في النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنها إنما تنشأ من أحد أمرين كلاهما لا ينطبقان عليه:

الأمر الأول:

الاعتقاد بأن هذه السلبية والإهمال لا تؤثر على مستقبل الدعوة، وإن الأُمة التي سوف يخلّف الدعوة فيها قادرة على التصرف

____________________

(*) عناوين المباحث الثلاثة للفصلين الأول والثاني مستوحاة من كلام السيد الشهيد الصدر وهي ليست في الأصل.

٢٣

بالشكل الذي يحمي الدعوة، ويضمن عدم الانحراف.

وهذا الاعتقاد لا مبرر له من الواقع إطلاقاً، بل إنّ طبيعة الأشياء كانت تدل على خلافه، لأنَّ الدعوةَ - بحكم كونها عملاً تغييرياً انقلابياً في بدايته، يستهدف بناء أمة واستئصال كل جذور الجاهلية منها - تتعرض لأكبر الأخطار إذا خلت الساحة من قائدها، وتركها دون أي تخطيط، فهناك،

أولاً: الأخطار التي تنبع عن طبيعة مواجهة الفراغ دون أي تخطيط مسبقٍ، وعن الضرورة الآنية لاتخاذ موقف مرتجل في ظل الصدمة العظيمة بفقد النبي، فإنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا ترك الساحة دون تخطيط لمصير الدعوة فسوف تواجه الأمة، ولأول مرة، مسؤولية التصرف بدون قائدها تجاه أخطر مشاكل الدعوة، وهي لا تمتلك أي مفهوم سابق بهذا الصدد، وسوف يتطلب منها الموقف تصرفاً سريعاً آنياً على رغم خطورة المشكلة، لأنّ الفراغ لا يمكن أن يستمر(٩) ، وسوف يكون هذا التصرف السريع في لحظة الصدمة التي تُمنى بها الأُمة، وهي تشعر بفقدها لقائدها الكبير، هذه الصدمة التي تزعزع بطبيعتها سير التفكير، وتبعث على الاضطراب حتى أنها جعلت

____________________

(٩) أصبح معلوماً أن شغور كرسي الرئاسة في الدولة يستتبع محاذير وأخطاراً لا حصرَ لها، بالأخص إذا لم تكن ثمةَ ضوابط دستورية محددة واضحة لملئه بشكل عاجل. راجع النظريات السياسية الإسلامية / الدكتور الريس / ص ١٣٤.

٢٤

صحابياً معروفاً يعلن - بفعل الصدمة - أن النبي لم يمت ولن يموت(١٠) نعم سوف يكون مثل هذا التصرف محفوفاً بالخطر غير محمود العواقب.

ثانياً: وهناك الأخطار التي تنجم عن عدم النضج الرسالي بدرجةٍ تضمن للنبي، سلفاً، موضوعية التصرف الذي سوف يقع، وانسجامه مع الإطار الرسالي للدعوة، وتغلبه على التناقضات الكامنة التي كانت لا تزال تعيش في زوايا نفوس المسلمين على أساس الانقسام الى مهاجرين وأنصار، أو قريش وسائر العرب، أو مكة والمدينة(١١) .

ثالثاً: هناك الأخطار التي تنشأ لوجود القطاع المتستر بالإسلام، والذي كان يكيد له في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله باستمرار، وهو القطاع الذي كان يسميه القرآن «بالمنافقين»(١٢) . وإذا أضفنا اليهم عدداً

____________________

(١٠) راجع الملل والنحل / الشهرستاني / ج ١ / ص ١٥ فقد جاء فيه: قال عمر بن الخطاب: «من قال إنّ محمداً مات قتلته بسيفي هذا، وإنما رفع الى السماء...». وراجع تاريخ الطبري / محمد بن جرير الطبري / ج ٢ / ص ٢٣٣.. قال: «إن محمداً لم يمت وانه خارجٌ الى من أرجف بموته وقاطع أيديهم وضارب أعناقهم...».

(١١) هناك أكثر من شاهد على هذه الحالة، فقد روى الشيخان والترمذي في كتاب التفسير عن جابر بن عبد الله قال: «كنّا في غزاة فكسع رجلٌ من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: ما بالُ دعوى الجاهلية... وسمع ابن سلول فقال: فعلوها، والله لئن رجعنا الى المدينة ليخرجن الأعزُّ منّا الأذل». التاج الجامع للأصول / الشيخ ناصف / ج ٤ / ص ٢٦٣.

(١٢) حاول قطاع المنافقين في حياة النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقوم بأدوار خطيرة جداً في الكيد للإسلام وللرسول وللمسلمين. لاحظ مثلاً ما نقلناه في الهامش السابق من قول ابن سلول - رأس المنافقين - ولاحظ ما أثاروه وروجوه مثلاً في حادثة الإفك، وفي إشاعة الأراجيف كما حصل في معركة اُحد، وفي معركة الأحزاب. وقد أنزل الله تعالى في القرآن سورة المنافقين سلط فيها الأضواء على هذا القطاع الخبيث، وعرّف الرسول بنواياهم وما يخبئون.

راجع مثلاً تفسير الفخر الرازي / ج ٨ / ص ١٥٧ ط ١ / الخيرية ١٣٠٨ هجري مصر، وراجع الكشاف / الزمخشري / ٤: ص ٨١١.

٢٥

كبيراً ممن أسلم بعد الفتح، استسلاماً للأمر الواقع لا انفتاحاً على الحقيقة، نستطيع حينئذٍ أن نقدر الخطر الذي يمكن لهذه العناصر أن تولده وهي تجد فجأةً فرصة لنشاط واسع في فراغ كبير، مع خلو الساحة من رعاية القائد(١٣) .

فلم تكن إذن خطورة الموقف بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله شيئاً يمكن أن يخفى على أيّ قائد مارسَ العمل العقائدي فضلاً عن خاتم الأنبياء(١٤) . وإذا كان أبو بكر لم يشأ أن يترك الساحة دون أن يتدخل تدخلاً ايجابياً في ضمان مستقبل الحكم بحجة الاحتياط

____________________

(١٣) لاحظ توقع حدوث ظاهرة خروج أعداد كبيرة من الدين بالنسبة لمن أسلم بعد الفتح، حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قال: «سمعت رسول الله يقول: دخل الناس أفواجاً وسيخرجون أفواجاً...» ولاحظ أيضاً حركة الارتداد التي حصلت بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مع تحذيراته الكثيرة من تلك الحالة. الكشاف / ج ٤ / ص ٨١١، وراجع تاريخ الطبري / ج ٢ ص ٢٤٥. وراجع حديث الحوض المشهور في قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنا فرطكم الحوض فيؤتى برجال أعرفهم فيمنعون مني فأقول أصحابي فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي». راجع صحيح البخاري / ج ٨ / ص ٨٦ كتاب الفتن.

(١٤) المصدر السابق.

٢٦

للأمر(١٥) . وإذا كان الناس قد هرعوا الى عمر حين ضُرب قائلين: « يا أمير المؤمنين لو عهدت عهداً»(١٦) ، وكل ذلك كان خوفاً من الفراغ الذي سوف يخلفه الخليفة، بالرغم من التركز السياسي والاجتماعي الذي كانت الدعوة قد بلغته بعد عقدٍ من وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإذا كان عمر قد أوصى الى ستة(١٧) تجاوباً مع شعور الآخرين بالخطر، وإذا كان عمر يدرك بعمق خطورة الموقف في يوم السقيفة، وما كان بالامكان أن تؤدي اليه خلافة أبي بكر بشكلها المرتجل من مضاعفات، إذ يقول: «إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة غير أن الله وقى شرها...»(١٨) ، وإذا كان أبو بكر نفسه يعتذر عن تسرعه إلى قبول الحكم، وتحمل المسؤوليات الكبيرة، بأنه شعر بخطورة الموقف، وضرورة الاقدام السريع على حلٍّ ما، إذ يقول - وقد عوتب على قبول السلطة -: «إنّ رسولَ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قُبض، والناس حديثو عهد بالجاهلية، فخشيتُ أن يفتتنوا، وإنَّ أصحابي حملونيها»(١٩) إذا

____________________

(١٥) راجع قصة استخلاف أبي بكر لعمر بن الخطاب، وقوله: «إنكم إن أمرتم في حياة مني كان أجدر ألاّ تختلفوا بعدي...». مختصر تاريخ ابن عساكر / ج ١٨ / ص ٣٠٨ / ٣٠٩، وراجع تاريخ الطبري / ج ٢ / ص ٢٤٥، ص٢٨٠.

(١٦) راجع تاريخ الطبري / ج ٢ / ص ٥٨٠ (الشهيد)، مختصر تاريخ ابن عساكر / لابن منظور ج ١٨ / ص ٣١٢.

(١٧) تاريخ الطبري / ج ٢ / ص ٥٨١ (الشهيد).

(١٨) تاريخ الطبري / ج ٢ / ص ٢٠٥ تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم، السابق ج ٢ / ص ٥٨١.

(١٩) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد / تحقيق أبو الفضل إبراهيم / ج ٢ ص ٤٢ (الشهيد)، وراجع تاريخ الطبري / ج ٢ / ص ٣٥٣. قال ابو بكر: «وودت لو لم أقبلها...».

٢٧

كان كل ذلك صحيحاً(٢٠) ، فمن البديهي إذن أن يكون رائد الدعوة ونبيُّها اكثر شعوراً بخطر السلبية(٢١) ، وأكبر ادراكاً، وأعمق فهماً لطبيعة الموقف ومتطلبات العمل التغييري الذي يمارسه في أمةٍ حديثة عهدٍ بالجاهلية على حدّ تعبير أبي بكر(٢٢) .

الأمر الثاني - النظرة المصلحية:

إنّ الأمر الثاني الذي يمكن أن يفسر سلبية القائد تجاه مستقبل الدعوة، ومصيرها بعد وفاته، أنه على رغم شعوره بخطر هذا الموقف، لا يحاول تحصين الدعوة ضد ذلك الخطر، لأنه ينظر الى الدعوة نظرة مصلحية، فلا يهمه إلاّ أن يحافظ عليها ما دام حيّاً

____________________

(٢٠) راجع: الفاروق عمر للدكتور محمد حسين هيكل / ج ٢ / ص ٣١٣ / ٣١٤: «كان عمر يودّ لو يتمّ التشاور، ويختاروا خليفة، قبل أن يُقبض ليموت مطمئناً الى مصير الإسلام من بعده...».

(٢١) إنّ حرص النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله على دعوته المباركة وعلى وحدة الأُمة ومصير الإسلام، لابدّ أن يكون بالضرورة أكثر من حرص أصحابه وأشدّ، قال تعالى:( ... عَزيزٌ عليهِ ما عَنِتُّمْ حَريصُ عليكُم بالمؤمنينَ رَؤوفٌ رَحيمٌ ) التوبة / ١٢٨. والأهم فإنّ توعيته للأمة وتربيته لأصحابه في ضرورة تجنب الاختلاف، وممارساته العملية بهذا الشأن لا تحتاج إلى دليل، فضلاً عن كون القرآن قد طفح بعشرات الآيات التي تدعو الى نبذ الخلاف، والتنفير من أسبابه ودواعيه، فكيف يمكن تصور أن يترك النبي الرحيم أهم سبب يدعو الى التنازع وهو الرئاسة دون أن يضع ما من شأنه أن يعطله ويغلق الباب دون تفاعلاته، مع أن هذا الادراك كما يقولون دفع الخليفتين الأول والثاني الى الاستخلاف كما صرحوا به هم انفسهم. / تاريخ الطبري / ج ٢ / ص ٥٨٠.

(٢٢) المصدر السابق.

٢٨

ليستفيد منها، ويستمتع بمكاسبها، ولا يُعنى بحماية مستقبلها بعد وفاته.

وهذا التفسير لا يمكن أن يصدق على النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتى إذا لم نلاحظه بوصفه نبيّاً ومرتبطاً بالله سبحانه وتعالى في كل ما يرتبط بالرسالة، وافترضناه قائداً رسالياً كقادة الرسالات الاُخرى، لأنَّ تاريخ القادة الرساليين لا يملك نظيراً للقائد الرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، في إخلاصه لدعوته، وتفانية فيها، وتضحيته من أجلها الى آخر لحظة من حياته. وكل تاريخه يبرهن على ذلك، فقد كانصلى‌الله‌عليه‌وآله على فراش الموت وقد ثقل مرضه، وهو يحمل همَّ معركة كان قد خطط لها، وجهزّ جيش اسامة لخوضها، فكان يقول: «جهزوا جيش اسامة، أنفذوا جيش اسامة، ارسلوا بعث اسامة»، يكرر ذلك، ويغمى عليه بين الحين والحين(٢٣) ، فإذا كان اهتمام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بقضية من قضايا الدعوة العسكرية يبلغ الى هذه الدرجة، وهو يجود بنفسه على فراش الموت، ولا يمنعه علمه بأنه سيموت قبل أن يقطف ثمار تلك المعركة، عن تبنيه لها، وأنَّ تكون همه الشاغل وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، فكيف يمكن أن نتصور أن النبي لا يعيش هموم مستقبل الدعوة، ولا يخطط لسلامتها، بعد وفاته (صلوات الله عليه) من الأخطار المرتقبة؟!

وأخيراً فإنّ في سلوك الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في مرضه

____________________

(٢٣) راجع: تاريخ الكامل / لابن الأثير / ج ٢ / ص ٣١٨ (الشهيد)، وراجع أيضاً الطبقات الكبرى لابن سعد / ج ٢ / ص ٢٤٩.

٢٩

الأخير رقماً واحداً يكفي لنفي الطريق الأول، وللتدليل على أنَّ القائد الأعظم، نبينا محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله كان أبعد ما يكون من فرضية الموقف السلبي تجاه مستقبل الدعوة، لعدم الشعور بالخطر، أو لعدم الاهتمام بشأنه، وهذا الرقمُ أجمعت صحاح المسلمين جميعاً - سنةً وشيعة - على نقله، وهو أنَّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لما حضرته الوفاة، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ائتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً»(٢٤) . فإنّ هذه المحاولة من القائد الكريم، المتفق على نقلها وصحتها تدلُّ بكل وضوح على أنه كان يفكر في أخطار المستقبل، ويدرك بعمقٍ ضرورة التخطيط لتحصين الأُمة من الانحراف، وحماية الدعوة من التميّع والانهيار، فليس إذن من الممكن افتراض الموقف السلبي(٢٥) من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بحال من الأحوال.

____________________

(٢٤) راجع: صحيح البخاري / ج ١ / ص ٣٧ كتاب العلم، ج ٨ / ص ١٦١ كتاب الاعتصام (الشهيد) وراجع: صحيح مسلم / ج ٥ / ص ٧٦ باب الوصية / مطبعة محمد علي صبيح القاهرة. (الشهيد) مسند الإمام أحمد / ج ١ / ص ٣٥٥، وراجع الطبقات الكبرى /لابن سعد / ج ٢ / ص ٢٤٢ / ٢٤٤ (الشهيد).

(٢٥) إنّ كلَّ مسلم يؤمن بعظمة شخصية الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فضلاً عن إيمانه بأنه نبيٌّ رسول، يقتضيه ذلك الإيمان استبعاد مثل هذه الفرضية مطلقاً، بل يلزم القول بامتناعها في حقه عليه الصلاة والسلام، وذلك لسببين على الأقل: أولهما: إنه خلاف المعهود من سيرته صلوات الله وسلامه عليه بإجماع الملة، تلك السيرة المشرقة الزاخرة بالعمل والجهاد المتواصل بلا انقطاع من أجل التغيير والبناء وانقاذ الأمة. وثانيهما: إنه مخالف لما تواتر عنه صلوات الله وسلامه عليه، ولما ربّى الأُمة عليه، من الاهتمام بالأمور حتى قال: «من أصبح ولم يهتم باُمور المسلمين فليس منهم» اصول الكافي / ج ٢ / ص ١٣١. ولذا يكون اهماله الاهتمام بمستقبل الدعوة، ومستقبل الأُمة يعني الإخلال الصريح بمصداقيته وعهوده.

٣٠

المبحث الثاني : الإيجابية ممثلةً بنظام الشورى

إنّ الطريق الثاني المفترض، هو أن يخطط الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله لمستقبل الدعوة بعد وفاته، ويتخذ موقفاً إيجابياً، فيجعل القيمومة على الدعوة، وقيادة التجربة للأمة ممثلةً - على أساس نظام الشورى - في جيلها العقائدي الأول الذي يضمُّ مجموع المهاجرين والأنصار، فهذا الجيل الممثل للأمة هو الذي سيكون قاعدة للحكم، ومحوراً لقيادة الدعوة في خط نموها.

بالنسبة لهذا الافتراض، يلاحظ هنا أن طبيعة الأشياء، والوضع العام الثابت عن الرسول الأكرم والدعوة والدعاة، يرفض هذه الفرضية، وينفي أن يكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد انتهج هذا الطريق، واتجه الى ربط قيادة الدعوة بعده مباشرةً بالأمة ممثلة في جيلها الطليعي من المهاجرين والأنصار على أساس نظام الشورى.

٣١

وفيما يأتي بعض النقاط التي توضح ذلك:

النقطة الأولى:

لو كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد اتخذ من مستقبل الدعوة بعده موقفاً إيجابياً يستهدف وضع نظام الشورى موضع التطبيق، بعد وفاته مباشرةً، وإسناد زعامة الدعوة الى القيادة التي تنبثق عن هذا النظام، لكان من أبْدَهِ الأشياء التي يتطلبها هذا الموقف الإيجابي، أن يقوم الرسول القائد بعملية توعيةٍ للأمة والدعاة على نظام الشورى، وحدوده وتفاصيله، وإعطائه طابعاً دينياً مقدساً، وإعداد المجتمع الإسلامي إعداداً فكرياً وروحياً لتقبل هذا النظام، وهو مجتمع نشأ من مجموعة من العشائر، لم تكن قد عاشت - قبل الإسلام - وضعاً سياسياً على أساس الشورى، وإنما كانت تعيش، في الغالب، وضع زعامات قبلية وعشائرية تتحكم فيها القوة والثروة وعامل الوراثة إلى حد كبير(٢٦) .

ونستطيع بسهولة أن ندرك أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يمارس عملية التوعية على نظام الشورى، وتفاصيله التشريعية، ومفاهيمه الفكرية، لأنّ هذه العملية لو كانت قد اُنجزت، لكان من الطبيعي أن تنعكس وتتجسد في الأحاديث المأثورة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي ذهنية الأُمة، أو على الأقل في ذهنية الجيل

____________________

(١) راجع: النظم الإسلامية / الدكتور عبد العزيز الدوري / ص ٧، مطبعة نجيب - بغداد ١٩٥٠ م أيضاً النظم الإسلامية / الدكتور صبحي الصالح / ص ٥٠ / دار العلم للملايين ١٩٦٥.

٣٢

الطليعي منها، الذي يضمُّ المهاجرين والأنصار، بوصفه هو المكلف بتطبيق نظام الشورى، مع أننا لا نجدُ في الأحاديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أيَّ صورةٍ تشريعية محددة لنظام الشورى(٢٧) .

وأما ذهنية الأُمة أو ذهنية الجيل الطليعي منها فلا نجد فيها أيَّ ملامح أو انعكاسات محددة لتوعيةٍ من ذلك القبيل. فإنَّ هذا الجيل كان يحتوي على اتجاهين، أحدهما الاتجاه الذي يتزعمه أهل البيت، والآخر الاتجاه الذي تمثله السقيفة والخلافة التي قامت فعلاً بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فأما الاتجاه الأول ؛ فمن الواضح أنه كان يؤمن بالوصاية والإمامة، ويؤكد على القرابة، ولم ينعكس منه الإيمان بفكرة الشورى(٢٨) .

____________________

(٢٧) يعترف الدكتور ضياء الدين الريس في كتابه «النظريات السياسية الإسلامية» بأن الخلافة بالصورة التي انتهى اليها نظام الشورى لم يكن أساسها الأحاديث، وإنما إجماع الصحابة على حدّ زعمه. ص ١٠٦ في الهامش ردّاً على آرنولد. ويظهر ذلك بصورة أوضح في معرض ردّه ومناقشته للدكتور عليّ عبد الرزاق في كتابه «الإسلام وأصول الحكم» إذ نفى هذا الأخير وجود أي نصوص تشريعية حديثية يستفاد منها نظام الحكم والسياسة وقد ردُّ عليه الدكتور الريس، محتجاً بما جرت عليه سيرة الخفاء الراشدين وإنَّ فعلهم ذاك هو الآخر له قيمة تشريعية في الإسلام. راجع ص ١٧٤ / ١٧٥.

وراجع مناقشة وافية شافية كافية للنصوص التي قيل انها في الشورى / اساس الحكومة الإسلامية للعلامة السيد كاظم الحائري / ص ٨١ وما بعدها - مطبعة النيل - بيروت / ١٣٩٩.

(٢٨) راجع انكار الإمام عليّ «ع» فكرة الشورى، واحتجاجه على المؤتمرين في السقيفة عندما احتج أبو بكر بالقرابة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله / الخطبة الشقشقية وقوله عليه السلام: «فيالله وللشورى...» نهج البلاغة / شرح الإمام محمد عبده / ج ١ / ص ٣٠ / ٣٤.

٣٣

وأما الاتجاه الثاني ؛ فكل الأرقام والشواهد في حياته وتطبيقه العملي تدلُّ بصورة لا تقبل الشك على أنه لم يكن يؤمن بالشورى، ولمْ يبنِ ممارساته الفعلية على أساسها، والشيء نفسه نجده في سائر قطاعات ذلك الجيل الذي عاصرَ وفاة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله من المسلمين(٢٩) .

ونلاحظ بهذا الصدد للتأكد من ذلك، أنَّ أبا بكر - حينما اشتدت به العلة - عهد الى عمر بن الخطاب، فأمر عثمانَ أن يكتب عهدَه، وكتبَ «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عهد به أبو بكر خليفة رسول الله، الى المؤمنين والمسلمين: سلام عليكم فإني أحمد الله اليكم.

أما بعد: فإني قد استعملتُ عليكم عمرَ بن الخطاب، فاسمعوا وأطيعوا»(٣٠) ودخل عليه عبد الرحمن بن عوف فقال: كيف أصبحتَ يا خليفة رسول الله؟ فقال: أصبحت مولياً، وقد زدتموني على ما بي، إذ رأيتموني استعملتُ رجلاً منكم، فكلكم قد أصبح وَرِماً أنفُه، وكلٌّ يطلبها لنفسه...»(٣١) .

____________________

(٢٩) لاحظ ما جرى يوم السقيفة من نقاش وحجاج؛ إذ لم يرد للشورى ذكر ولا اسم بل الذي جرى على خلافها، ومنها إطروحة منا أمير ومنكم أمير، وكيف رفض أبو بكر ومن بعده عمر بن الخطاب هذه الفكرة، ثمّ كيف بادر عمر بن الخطاب الى حسم الموقف بأن أخذ يد أبي بكر، وقال: «ابسط يدك لأبايعك...».

راجع نصوص السقيفة في؛ تاريخ الطبري / ج ٢ / ص ٢٣٤ وما بعدها، وفي ص ٢٠٣ طبعة دار التراث، وراجع شرح النهج / لابن أبي الحديد / ج ٦ / ص ٦ - ٩ تحقيق أبو الفضل ابراهيم.

(٣٠) راجع: مختصر تاريخ دمشق / ابن منظور / ج ١٨ / ص ٣١٠، تاريخ الطبري / ج ٢ / ص ٣٥٢.

(٣١) تاريخ اليعقوبي / ج ٢ / ص ١٢٦، طبعة النجف الحيدرية، (الشهيد) وراجع مختصر تاريخ ابن عساكر /ج١٨/ ص ٣١٠، وتاريخ الطبري / ج ٤ / ص ٥٢ / ط ١ / الحسينية المصرية.

٣٤

وواضح من هذا الاستخلاف، وهذا الاستنكار للمعارضة، أنّ الخليفة لم يكن يفكر بعقلية نظام الشورى، وأنه كان يرى من حقه تعيين الخليفة، وأن هذا التعيين يفرض على المسلمين الطاعة، ولهذا أمرهم بالسمع والطاعة(٣٢) ، فليس هو مجرد ترشيح أو تنبيه، بل هو إلزامٌ ونصبٌ.

ونلاحظ أيضاً أنّ عمر رأى هو الآخر، أيضا، أن من حقه فرض الخليفة على المسلمين، ففرضه في نطاق ستة أشخاص، وأوكل أمرَ التعيين إلى الستة أنفسهم دون أن يجعلَ لسائر المسلمين أيَّ دور حقيقي في الانتخاب(٣٣) ، وهذا يعني أيضاً، أن عقلية نظام الشورى لم تتمثل في طريقة الاستخلاف التي انتهجها عمر، كما لم تتمثل، من

____________________

(٣٢) راجع مختصر تاريخ ابن عساكر / ج ١٨ / ص ٣١٢: عن قيس بن أبي حازم، قال: خرج علينا عمر ومعه شديد مولى أبي بكر ومعه جريدة... فقال: أيها الناس اسمعوا قول خليفة رسول الله، إني قد رضيتُ لكم عمر، فبايعوه، وفي رواية: اسمعوا وأطيعوا لمن في هذه الصحيفة.

(٣٣) قال عمر لصهيب: «صلّ بالناس ثلاثة أيام، وأدخل عليّاً وعثمان والزبير وسعداً وعبد الرحمن بن عوف وطلحة، إنّ قَدِمَ، وأحضر عبد الله بن عمر ولا شيء له من الأمر وقم على رؤوسهم، فإن اجتمع خمسةٌ ورضوا رجلاً وأبى واحد فاشدخ رأسه، أو اضرب رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة فرضوا رجلاً منهم وأبي اثنان فاضرب رؤوسهما، فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم، وثلاثة رجلاً منهم فحكموا عبد الله بن عمر، فاي الفريقين حكم له فليختاروا رجلاً منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس...». راجع: تاريخ الطبري / ج ٢ / ص ٥٨١، الكامل في التاريخ / ابن أثير / ج ٣ / ص ٦٧ / طبعة دار صادر، وهذا النصّ غنيّ عن التعليق.

٣٥

قبلُ، في الطريقة التي سلكها الخليفة الأول.

وقد قال عمر - حين طلب منه الناسُ الاستخلاف-: «لو أدركني أحد رجلين فجعلتُ هذا الأمر اليه لوَثِقتُ به: سالم مولي أبي حذيفة، وأبي عبيدة بن الجراح، ولو كان سالمٌ حيّاً ما جعلتها شورى...»(٣٤) .

وقد قال أبو بكر لعبد الرحمن بن عوف، وهو يناجيه على فراش الموت: «وددتُ أني كنت سألت رسولَ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لمن هذا الأمر، فلا ينازعه أحدٌ...»(٣٥) وحينما تجمع الأنصار في السقيفة لتأمير سعد بن عبادة، قال منهم قائل: «إنْ أبت مهاجرة قريش فقالوا نحن المهاجرون، ونحن عشيرتُه وأولياؤه، فقالت طائفة منهم إذن نقول منّا أميرٌ ومنكم أمير، لن نرضى بدون هذا منهم أبداً...»(٣٦) . وحينما خطب أبو بكر فيهم قال:

«كنّا معاشر المسلمين المهاجرين أول الناس اسلاماً، والناس لنا في ذلك تبع، نحن عشيرة رسول الله وأوسط العرب أنساباً...»(٣٧) .

وحينما اقترح الأنصار أن تكون الخلافة دورية بين المهاجرين والأنصار ردّ أبو بكر قائلاً: «إنَّ رسول الله لما بُعث عظُم على

____________________

(٣٤) راجع طبقات ابن سعد / ج ٣ / ص ٣٤٣ - طبعة دار صادر - بيروت (الشهيد)، وراجع تاريخ الطبري / ج ٢ / ص ٥٨٠ا، الدار العلمية، الرواية تختلف عن رواية ابن سعد المذكورة.

(٣٥) تاريخ الطبري / ج ٢ / ص ٣٥٤ / ط ٣ - طبعة دار الكتب العلمية - بيروت / ١٤٠٨ هجري (الشهيد).

(٣٦) المصدر السابق / ج ٢ / ص ٢٤٢.

(٣٧) المصدر السابق / ج ٢ / ص ٢٣٥.

٣٦

العرب أن يتركوا دين آبائهم فخالفوه وشاقوه، وخصَّ الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقهِ... فهم أول من عبدَ اللهَ في الأرض، وهم أولياؤه وعترته، وأحق الناس بالأمر بعده، لا ينازعهم فيها إلاّ ظالم...»(٣٨) .

وقال الحباب بن المنذر، وهو يشجع الأنصار على التماسك: «املكوا عليكم أيديكم إنما الناس في فيئكم وظلكم، فإن أبى هؤلاء فمنّا أميرٌ ومنهم أمير...»(٣٩) وردّ عليه عمر قائلاً: «هيهات لا يجتمع سيفان في غمد.. من ذا يخاصمنا في سلطان محمد وميراثه، ونحن أولياؤه وعشيرته إلاّ مدلٌّ بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكة»(٤٠) .

إنَّ الطريقة التي مارسها الخليفة الأولى والخليفة الثاني

____________________

(٣٨) المصدر السابق / ج ٢ / ص ٢٤٢: وقد ردَّ الإمام عليّ عليه السلام مثل هذا الاحتجاج كما في مختصر تاريخ ابن عساكر / ج ١٨ / ص ٣٨ / ٣٩، وحاصله: إنه إذا كان السبق الى الإسلام والإيمان هو الذي يرشح الإنسان للخلافة مع ضرورة كونه أقرب الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأن يكون من أوليائه وعترته، فإنَّ عليّاً هو الأسبق الى عبادة الله والإيمان برسالة نبيه صلوات الله عليه، بل إنَّ عبادته لله لم تكن مسبوقة بشرك - فهم لم يسجد لصنم قط - على خلاف الجميع وأما القرب من رسول الله فهو من عترته وخاصته وهو بالنص الصريح وليّه وأخوه ونفسه - وأنه هو وحده الذي يؤدي عنه. راجع مسند الإمام أحمد / ج ٤ / ص ٢٨١. إذن بمقتضى هذا المنطق يلزم أن يكون هو الأحق لا غيره.

(٣٩) راجع تاريخ الطبري / ج ٢ / ص ٢٤١ وما بعدها - حوادث سنة (١١) هجرية.

(٤٠) المصدر السابق / ج ٢ / ص ٢٤٣. وراجع شرح نهج البلاغة / لابن أبي الحديد / ج ٦ / ص ٦ - ٩ (الشهيد).

٣٧

للاستخلاف، وعدم استنكار عامة المسلمين لتلك الطريقة، والروح التي سادت على منطق الجناحين المتنافسين من الجيل الطليعي، المهاجرين والأنصار يوم السقيفة، والاتجاه الواضح الذي بدا لدى المهاجرين نحو تقرير مبدأ انحصار السلطة بهم، وعدم مشاركة الأنصار في الحكم، والتأكيد على المبررات الوراثية التي تجعل من عشيرة النبي أولى العرب بميراثه، واستعداد كثير من الأنصار لتقبل فكرة أميرين، أحدهما من الأنصار والآخر من المهاجرين، واعلان أبي بكر الذي فاز بالخلافة - في ذلك اليوم - عن أسفه لعدم السؤال من النبي عن صاحب الأمر بعده...(٤١) ، كل ذلك يوضح، بدرجة لا تقبل الشك، أن هذا الجبل الطليعي من الأُمة الإسلامية - بما فيه القطاع الذي تسلّم الحكم، بعد وفاة النبي - لم يكن يفكر بذهنية الشورى، ولم يكن يملك فكرة محددة عن هذا النظام، فكيف يمكن أن نتصور أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد مارس عملية توعية على نظام الشورى تشريعياً وفكرياً، وأعدَّ جيلَ المهاجرين والأنصار لتسلم قيادة الدعوة بعده على أساس هذا النظام، ثمّ لا نجد لدى هذا الجيل تطبيقاً واعياً لهذا النظام أو مفهوماً محدداً عنه؟(٤٢) كما أننا لا يمكن أن نتصور - من ناحية اخرى - أنَّ الرسول القائد يضع هذا النظام، ويحدده تشريعياً ومفهومياً،

____________________

(٤١) تاريخ الطبري / ج ٢ / ص ٣٥٤.

(٤٢) إذ حسب الافتراض لو كان هذا النظام قد جرت التوعية عليه كما يقتضيه الشأن دائماً، فلا بدَّ أن نعثرَ في النصوص عند هذا الجيل مفهوماً معيناً، أو تطبيقات معينةٍ، ولكن شيئاً من هذا لم يتم العثور عليه - كما نبّه الشهيد الصدر - وكما هو الواقع.

٣٨

ثمّ لا يقوم بتوعية المسلمين عليه وتثقيفهم به(٤٣) .

وهكذا يبرهن ما تقدم على أنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن طرح الشورى كنظام بديلٍ على الأُمة، إذ ليس من الممكن عادةً أن تُطرح بالدرجة التي تتناسب مع أهميتها، ثمّ تختفي اختفاءً كاملاً عن الجميع وعن كل الاتجاهات(٤٤) .

ومما يوضح هذه الحقيقة بدرجةٍ اكبر أن نلاحظ:

أولاً : إنَّ نظام الشورى كان نظاماً جديداً بطبيعته على تلك البيئة التي لم تكن قد مارست، قبل النبوة، أي نظام مكتمل للحكم(٤٥) . فكان لابدَّ من توعيةٍ مكثفة ومركزّة عليه كما أوضحنا ذلك.

____________________

(٤٣) لأنّ التوعية في مثل هذه الموارد قد جرت عليه سيرتُه الشريفة وسنته المباركة، ونجد ذلك في الأمور التي هي أقل شأناً وأهمية من هذا الأمر في مناسبات وموارد لا تحصى كثرة.

(٤٤) اختفاء تفاصيل فكرة الشورى حتى على مستوى تحديد معالمها الاساسية كنظام للحكم حقيقة قائمة إذ لم ينقل أن أحداً من المتنازعين سواء في مؤتمر السقيفة أو بعده قد تقدم ولو بنص واحد يتعلق بها من قريب أو بعيد. راجع نصوص السقيفة مثلاً في تاريخ الطبري / ج ٢ / ص ٢٣٤ وما بعدها.

(٤٥) قضية عدم وجود نظام للحكم في الجزيزة العربية - قبل البعثة النبوية وتأسيس دولة الإسلام في المدينة - أمر متسالم عليه عند المؤرخين لضرورة عدم وجود دولة أصلاً من جهة، ولخضوع العرب الى أعرافهم وتقاليدهم القبلية، راجع محاضرات في تاريخ العرب / الدكتور صالح أحمد العلي / ط ٢ - بغداد؛ وراجع محاضرات في تاريخ العرب الإسلام / الدكتور عبد اللطيف الطيباوي / ج ١ / ص ١٢١ - دار الأندلس - بيروت / ١٩٦٣؛ وراجع تاريخ العرب قبل الإسلام / القسم السياسي / د جواد عليّ - طبعة دار المجمع العلمي العراقي، وراجع تاريخ الإسلام السياسي / الدكتور حسن إبراهيم حسن / ص ٥١.

٣٩

ثانياً : إنَّ الشورى، كفكرةٍ، مفهوم غائمٌ، لا يكفي طرحه هكذا، لإمكان وضعه موضع التنفيذ، ما لم تشرح تفاصيله وموازينه ومقاييس التفضيل عند اختلاف الشورى، وهل تقوم هذه المقاييس على أساس العدد والكم، أو على أساس الكيف والخبرة؟؟ الى غير ذلك مما يحدد للفكرة معالمها ويجعلها صالحة للتطبيق(٤٦) فورَ وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثالثاً : إنّ الشورى تعبّر في الحقيقة عن ممارسة للأمة - بشكل أو آخر - للسلطة عن طريق التشاور وتقرير مصير الحكم، فهي مسؤولية تتعلق بعدد كبير من الناس هم كل الذين تشملهم الشورى، وهذا يعني أنها لو كانت حكماً شرعياً يجب وضعه موضع التنفيذ عقيب وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لكان لا بدَّ من طرحه على أكبر عدد من اولئك الناس لأنَّ موقفهم من الشورى ايجابي، وكلّ منهم يتحمل قسطاً من المسؤولية(٤٧) .

وكل هذه النقاط تبرهن على أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في حالة تبنّيه لنظام الشورى، كبديلٍ له بعد وفاته، يتحتم عليه أن يطرح

____________________

(٤٦) بلحاظ ضرورة الوضوح بدرجة كافية لحسم مسألة الرئاسة بعد شغور كرسيها تجنباً للمخاطر المتوقعة في حالة عدم وجود معايير محددة في هذا المجال.

(٤٧) أي كما هو الشأن في كل تكليف شرعي، إذ يقتضي البيان والتفصيل، وهذا ما كان عليه دأبه صلوات الله وسلامه عليه، في كل التكاليف الشرعية قال تعالى:( ... وأنزَلنَا إليْكَ الذّكرَ لتُبيّنَ لِلنَّاسَ مَا نُزلَ إليْهِم ) النحل /٤٤؛ فلو كان حكماً شرعياً إذن، وواجباً يجب ممارسته ممن عنده الأهلية، لكان يقتضي البيان.

٤٠