التحول المذهبي‏

التحول المذهبي‏0%

التحول المذهبي‏ مؤلف:
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 374

التحول المذهبي‏

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: علاء الحسون
تصنيف: الصفحات: 374
المشاهدات: 130532
تحميل: 6151

توضيحات:

التحول المذهبي‏
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 374 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 130532 / تحميل: 6151
الحجم الحجم الحجم
التحول المذهبي‏

التحول المذهبي‏

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

خلال حديثه معه بأنّه شيعي فيقول:

( بعد شي‏ء من التردد سألته: هل أنت شيعي؟

وتوقّعت أن يخرجه سؤالي عن هدوئه واتّزانه، وكأنّي عندما سألته كنت أقول له: (هل أنت زنديق)!!

ولكنّه أجاب ودون أن يطرف له جفن: نعم أنا شيعي؟!

قلت في نفسي: سبحان اللَّه، يقولها غير متحرّج ولا متأثّم، أيحسب أنّه بذلك يحسن صنعاً؟

وللحظة، حاولت أن أربط ما بين أفكاره العميقة وحججه المتينة التي أدلى بها أثناء الحوار وبين اعترافه الجري‏ء هذا بالتشيّع...

أخرجني من ذهولي سائلاً: وماذا تعرف أنت عن الشيعة؟

قلت: وما عساني أعرف عنهم غير مفارقتهم للسنّة والجماعة وجرأتهم على الصحابة وغلوّهم في تقديس الإمام علي.

ثمّ أردفت: لقد اطّلعت مؤخّراً على آراء الشيعة ومعتقداتهم ومواقفهم من الصحابة وكنت آمل أن التقي بشيعي حتى أسأله عن صحّة ما ينسب إليهم.

قلت ذلك وأنا أحاول جاهداً أن أخفي عنه خليطاً من الأحاسيس التي اجتاحتني في تلك اللحظة وأنا ألتقي وجها لوجه بشيعي، وأي شيعي! مثقّف، سياسي حركي وقوي الشخصيّة. الآن ربّما أحسم معه الكثير من القضايا العالقة، وربّما ينكشف من الحقائق ما أتمنّى نقيضه.

قد يثبت هذا الشيعي المتمكن - بالدليل - أن الخلافة كانت لعلي، فيثبّت تبعا لذلك أن الخلفاء غصبوه حقّه.

وقد يثبت أنّ عائشة لم تكن محقّة في خروجها على الإمام علي، ومن ثم تتحمّل المسؤوليّة كاملة عن دماء المسلمين التي أهدرت وعن مصالح الأمّة التي تضررت.

وقد يثبت أنّ الصّحابة عرفوا الحقّ لأهل البيت ثمّ أنكَروه، وهكذا تنهار الدعائم

١٢١

التي لم نعرف الدين إلّا قائماً بها.

الآن وقد تحقّق ما كنت أرجوه بلقائي بهذا الشيعي؛ أتمنّى لو أنّه لم يتحقّق ولم ألتق به.

كم هو مرير ذلك الإحساس الذي ينتاب الإنسان وهو يتوقّع أن تتحوّل كل الحقائق التي لديه إلى أباطيل، والمعتقدات إلى أوهام والرموز إلى أصنام.

أنا لا أريد شيئا من ذلك، لا أريد أن أكتشف شائبة في العلاقة بين علي وغيره من الخلفاء، أريد أن تكون واقعة الجمل شيئاً أشبه بالمسرحيّة، حيث يقتتل الممثّلون على المسرح، ثمّ يهنئ بعضهم بعضاً خلف الكواليس على ما حقّقوه من نجاح في أداء الأدوار.

حرصت أن أبدو أمامه متماسكاً ومعتداً بانتمائي المذهبي كاعتدادي بتميّزي الحركي!

فالمرء مهما كان هو ابن مذهبه، وإن جاز له الاعتراف بينه وبين قومه، باهتزاز الثّقة فيه، فليس له أن يكشف ذلك لأهل المذاهب المناوئة!

انطلاقاً من روح العصبيّة هذه، سمحتُ لنفسي أنْ أحادثه بلهجة فيها شي‏ء من النّصح والكثير من الاستهجان، فنحن ننتمي إلى الأصل، إلى (السنّة والجماعة)، وغيرنا مهما كانت مزاعمه، مفارق لهذا الأصل منشق عنه، وربما كان ذلك هو اعتقاد كل من يتبنى ديناً أو مذهباً، فهو الحق وهو الأصل، وإلّا لما تمسّك بشي‏ء من ذلك ودافع عنه، هذا بصفة عامّة وهناك من يحيد عن الحق ويتمسّك بغيره مدركاً للحقيقة، تحدوه مصالح مادّية أو عقد نفسيّة، وقد عبّر القرآن عن هذا الصنف بقوله تعالى:( وَجَحَدوُا بِهَا واسْتَيقَنَتهَا أنفُسُهمْ ظُلْمَاً ) (١) ، ولم نكن - وللَّه الحمد - من هذا الصنف الأخير.

وكأنّه أدرك عمقَ الأزمة التي أعيشها، تجاهل جلّ الكلام الذي قلته و الهجوم الذي واجهته به وأخذ يحدّثني عن العقل ودوره والمنهج السليم في قراءة التاريخ وخطر التعصّب وخطأ التقليد في العقائد، حتى كاد ينسيني الموضوع الأساسي.

____________________

(١) النمل: ١٤.

١٢٢

وللحقيقة فقد كان بارعاً سلس الحديث مرتّب الفكر، استطاع بلباقته وحكمته أن يمتص حماسي وينتزع تعصّبي، فلم أملك إلّا أن أصغي إليه بكل جوارحي.

وبعد أن فرغ من حديثه حول مناهج البحث وأصول الفكر، قمت بإطّلاعه على ما كان من أمري وأمر أصحابي وما نحن فيه من الحيرة وتشتت الفكر.

وعلى الأثر تشعّب الحديث بيننا دون أن ينال أيّاً من القضايا التاريخيّة والمذهبيّة، ولم يبدوا الأخ أيّ حرص على استدراجي أو تغيير قناعتي وكان خلاصة الحديث نُصحُه لي أن أبحث عن الحقيقة بتجرّد، وأن أحرّر عقلي من إسار التقليد والموروث.

وعدته بالعمل بنصحه، ولم أكن أتوقّع أن يكون للقائنا ذاك ما بعده، فهو نزيل بالفندق، يغادره بين يوم وليلة، فلا تبقى منه إلّا ذكرى هذا اللقاء المثير، لذلك سألته أن يعدّ لي قائمة بالكتب الضروريّة للبحث التاريخي والعقائدي.

فقال: هناك كتابان يعّد كل واحد منهما دليلا كاملاً لمراجع البحث، كما يعدّان من أقوى ما كتب حول الإمامة والمذاهب أحدهما (المراجعات) وهو عبارة عن رسائل متبادلة بين عالم شيعي هو سيّد شرف الدين الموسوي من جبل عامل في لبنان والشيخ سليم البشري، عالم مصري وأحد شيوخ الأزهر السابقين.

هذا الكتاب عظيم الفائدة ويخدم بحثكم كثيراً، لأن الجانب الشيعي اعتمد بالكامل في احتجاجه على المصادر المعتمدة عند السنّة، ولم يأت بدليل واحد من غيرها، وقد أقرّ الشيخ البشري، وهو ضليع في علوم الحديث، بصحّة جميع الأدلّة التي أوردها السيّد شرف الدين، وما انتهت المراسلات بينهما إلّا وكان قد أيقن بولاية أهل البيت‏عليهم‌السلام وإمامتهم.

ثمّ قال: هذا الكتاب لا أتوقّع وجوده بالمكتبات السودانيّة، وقد طفت على أكثرها ولم أره.

أمّا الغدير فهو موسوعة في التاريخ والعقائد قوامه أحد عشرة مجلّداً يدور حول محور الحديث النبويّ المشهور بل المتواتر الذي قاله النبي‏صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما كان راجعاً من

١٢٣

حجّة الوداع امتثالاً لقوله تعالى:( يا أيّها الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أَنْزَلَ إلَيكَ مِنْ رَبّك وإنْ لَمْ تَفْعَل فَمَا بلّغْتَ رِسَالَتَه واللَّهُ يَعصِمُك مِنَ النَّاسِ ) (١) .

وأهمّ ما في الحديث قوله‏صلى‌الله‌عليه‌وآله أمام مائة ألف صحابي أو يزيدون: (( ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم))؟ قالوا: بلى. قال:(( من كنتُ مولاه هذا علي مولاه، اللهمَّ وال من والاه و عاد من عاداه، وانصر من نصره وأخذل من خذله )).

ثم قال الشيخ إنّ هذا الكتاب موجود بمكتبة الدار السودانيّة للكتب. وهكذا ودّعته وقد عقدت العزم على شراء كتاب الغدير ).

المفاجأة الكبيرة:

ويضيف محمد علي المتوكّل:

( لم يهنّئني المنام في ليلتي تلك، إذ كان ذهني يسترجع محاور الحوار الذي دار بيننا مرّة بعد مرّة، وقد شغلني أمر الكتاب الذي تذكّرت أنه الكتاب ذاته الذي اطلع صديقنا طاهر على أحد أجزائه فدخل و أدخلنا معه في هذه الطرق الشائكة التي لا تؤمن عقباها.

في صباح اليوم التّالي وبينما كنت أتأهّب للذهاب إلى المكتبة لشراء كتاب الغدير كان ساعي البريد يسلم إلى موظّف الاستقبال مجموعة من الرسائل بينها مظروف مرسل عبري إلى أحد أصدقائي وكان على اتّصال بمؤسّسة البلاغ الإيرانيّة التي ترسل له كتيّبات ثقافيّة صغيرة. غير أنّ الأمر كان مختلفاً هذه المرّة فالمظروف أكبر من المعتاد، وكالعادة فضضت الظروف فوراً لأعرف الكتاب الذي بداخله.

وكم كانت المفاجأة كبيرة عندما أخرجت كتابَ المراجعات من المظروف، بصراحة انتابني شي‏ء من الخوف في تلك اللحظة، فالحدث لم يكن بكل المقاييس

____________________

(١) المائدة: ٦٧.

١٢٤

عادياً. في الليلة السابقة تجمعني الأقدار بعالم من علماء الشيعة وكنت من قبل أبحث عن أحد عوامهم! ثمّ أسمع بكتاب المراجعات للمرّة الأولى فأجده في طريقي وأنا ذاهب لشراء الغدير!

فلم يخامرني شك في تلك اللحظة أنّ امراً ما له علاقة بالغيب يتحكّم في اتّجاه بحثنا فليكن ذلك هو توفيق اللَّه وهدايته التي يمنّ بها على من يسعى إليها( وَالّذينَ جاهَدُوا فِنَا لَنَهديَنَّهم سُبُلَنا ) )(١) .

السير في ظل العناية الربّانيّة:

يقول محمد علي المتوكّل:

( أخذت أتصفّح الكتاب وأتنقّل بين عناوينه، فما من سؤال راود ذهني قبل ذلك إلّا وكان الكتاب قد تناوله بشكل أو بآخر، وكأنّه كتب لأمثالي ممن تبيّنوا، في جانب من الطريق أنّ هناك سبلاً أخرى ربما كانت هي الأقرب؛ بل الأصوب.

عدت بالكتاب إلى غرفتي وقد توقّفتْ تلقائيّاً كل برامجي وأعمالي، وتعطّلت الهموم إلّا هم واحد؛ هو اكتشاف الحقيقة.

شرعت بالقراءة، وكان الشيخ سليم البشري يجادل عنّي، ويطرح أسئلتي، بل يطرح ما هو أشمل وأعمق منها، فيرد عليه السيّد شرف الدين الموسوي بثقة العارف ويقين المؤمن. وأنا بين هذا وذاك تقذفني موجة من شك إلى أخرى من يقين ثم يحدث العكس، ويخامرني الشك حول الشيخ البشري وبساطة تعاطيه مع مناظره إذ يتنازل دون تردد عن موقفه كلّما واجهه الآخر بالحجج والأدلّة.

وكأني وددت لو أنّه يماري قليلاً أو يبدي إصراراً على رأيه!! فأراجع نفسي وأقول ماذا يضير الرجل إن كان موضوعيّاً ومخلصاً للحقيقة؟ فهو بذاك إلى القوّة أقرب منه

____________________

(١) القصص: ٦٩.

١٢٥

إلى الضعف، إذ لا يجد حرجاً في الاعتراف للطرف الآخر بقوّة الحجّة وسلامة الموقف وصحّة المعتقد حتى ولو كان في ذلك اعتراف بالعكس.

كنت أطوي الصّفحات طيّاً في شبه ذهول عن الوقت وما يجري من حولي، وعندما كان وقت صلاة العصر كنت قد بلغت من الكتاب مداه وقلبت آخر صفحاته. ولقد قرأت من قبله الكثير، وتأثّرت ببعض ما قرأت... بيد أنّ (المراجعات) كان شيئاً آخر!

وساعات من نهار قضيتها متنقلا بين صفحاته أجبرتني على العودة من أوّل الطريق، أرغمتني على وضع كل الماضي وكل الموروث على صدر علامة استفهام كبيرة ).

العودة إلى نقطة الصفر:

يستمرّ محمد علي المتوكّل في سرد حكايته قائلاً:

( والآن على أنْ أرى ذلك الذي أوصاني بهذا الكتاب... لأقول له أنّ الذي جمعني بك قد وضع بين يديّ كتاب المراجعات الذي عهدي باسمه البارحة، فمن أنت؟ وماذا تريد؟ وكيف أتيت إلى هنا؟ ومن ذا الذي أرسلك إلينا؟ أتراك تعي أو تقصد ما تحدثه في حياتنا؟...

كل تلك الأسئلة كانت تتشابك في ذهني بينما كنت أطرق باب غرفته بيد مرتجفة، مددت إليه الكتاب، تناوله قائلاً: نعم، إنّه هو، من أين أتيت به، فأخبرته بقصّته. ثمّ سألني عن رأيي فيما قرأت.

فقلت له: أرجعني المراجعات إلى نقطة الصفر، محا من ذهني و روحي كل الماضي، فما أحوجني الآن إلى من يمسك بيدي ويخرجني مما أنا فيه، وما أحسبه إلّا أنت.

فردّ بكل تواضع: أستغفر اللَّه، وهل أنا وأنت إلّا سواسية في طلب الحقّ والبحث عن الهدى، ومع ذلك لا بأس في التحاور والتباحث ف( إنّ أعقل النّاس مَن جمع عقولَ النّاس إلى عقله).

١٢٦

عندئذٍ حدثته عن المجموعة التي أشاركها البحث والتنقيب عن الحقيقة، فبدا متحمّساً لرؤيتهم، وكنت بدوري أتعجل لقياهم حتى أزفّ إليهم الأخبار الجديدة وأطلعهم على (المراجعات).

وهكذا أطلعتهم على المستجدّات التي كانت في نظرهم فتحاً وتوفيقاً إلهيّاً، ودليلاً على سلامة التوجّه واستقامة طريق البحث.

وفي أوّل لقاء للمجموعة مع الشيخ، كان هناك إحساس مشترك يغمر الجميع، الإحساس بآثار رحمة اللَّه ودلائل الاستجابة للدّعاء، وإحساس آخر بالأُلفة تجاه ذاك الرجل الذي كان بمثابة يد امتدّت لغريق ).

البحث بصورة منظّمة:

ويضيف محمد علي المتوكّل:

( انتظمت جلساتنا معه صباحاً ومساء، طيلة شهر كامل، فتحنا خلاله كل الملفّات المغلقة، تنقّلنا بين أطلال الماضي وبحثنا تحت الأنقاض، أيقظنا الكثير من الحقائق النائمة في طيّ النسيان.

تارة لا نملك إلّا أن نسلّم له ونوافقه الرأي، وتارة نعارضه ونقف وإيّاه على طرفي نقيض، ونُثير الشبهات ونطرح الأسئلة.

كنّا، كمجموعة، نتّفق في بعض الأحيان، وأحياناً أخرى نختلف، عندما ينضم بعضنا إلى جانبه ويعارضه الآخرون، وهكذا كانت الرؤية تزداد وضوحاً يوماً بعد يوم، وقد تصدرت القضايا التاريخيّة قائمة الموضوعات المثارة.

كان يتحاشى التطرّق إلى المسائل التي من شأنها استفزاز مشاعرنا، وبالمقابل يسهب في الحديث عن أهل البيت فلا نملّ ولا نسأم، بل نطالب بالمزيد، إذ كنّا لا نعرف شيئاً عنهم، ومن لم يعرف أهل البيت لم يعرف شيئاً من الإسلام.

أحياناً كثيرة يلتقي الحديث عن أهل البيت بالحديث عن غيرهم من الصّحابة،

١٢٧

فتبدو الصورة على غير ما نحبّ.

فنحن، مثلاً، وقد بدأنا نكتشف بعض جوانب العظمة في شخصيّة الزهراء، ترتسم في مخيّلتنا طبيعة العلاقة التي كانت بينها وبين أصحاب رسول اللَّه المقرّبين، فمن المؤكّد أنّهم أحبّوها كما أحبّوا أباها، وأكرموها إكراماً له وإقراراً بعظمتها وعرفاناً لحقّها، تلك أمانينا، ونتلهّف إلى أن نسمع تصديقها من الشيخ، فيتردّد ويُناور حتى لا يفتح الملف المطلوب، وعندما نلح عليه يبوح بما عنده، فيعتصر الألم قلوبنا، ونكون بين مصدّق ومشكّك، كيف تموت الزّهراء في رفعتها وعظمتها وسموّ مقامها، غاضبة على كبار الصحابة، ومن أين أتوا بالجرأة ليغضبوها؟

وعلي، ذلك الصدّيق الأكبر، والفاروق الأعظم، المأمول من كلّ الذين نحبّهم ونقدّسهم من أصحاب رسول اللَّه أن يكونوا على وفاق كامل معه، ولكن الحقيقة تأتي بعكس ما نهوى، فنعاني التنازع والانفصام في عواطفنا، نحن نقّدرهم جميعاً، وهم يحيف بعضهم على بعض، ويبغض بعضهم عليّا، يبغضه وهو يسمع قول النبي عن علي أنه لا يحبّه إلّا مؤمن ولا يبغضه إلّا منافق)(١) .

تبدّد الغيوم عن وجه الحقيقة:

يقول محمد علي المتوكّل:

( شيئاً فشيئاً بدأنا ندرك أنّ الكثير من الحقائق المُكتشفة لا يمكن قبولها إلّا بعد التخلّي عن مسلّمات قديمة، وأننا بصدد التوصّل إلى دعائم جديدة يقوم عليها الدّين، وهي أعلى وأسمى من تلك التي توهّمنا أنّ الدّين قائم بها.

بتعبير آخر لقد بتنا على ضوء تلك المستجدّات، مطالبين باتّخاذ موقف فاصل،

____________________

(١) روى‏ مسلم في صحيحه/ كتاب الإيمان: ١/٤٦؛

عن الإمام علي قوله:(( والذي فَلقَ الحبّة وبرأ النّسمة إنّه لعهد النبيّ الأمّي إلى انه لا يحبّني إلّا مؤمنٌ ولا يبغضني إلّا منافق)).

١٢٨

ولا مجال للتمييع. وإلّا كنّا مثل ذلك الانتهازي الذي قال في فترة التمرّد العسكري الذي قاده معاوية ضدّ الإمام علي‏عليه‌السلام : الأكلُ مع معاوية أَدسم، والصّلاة مع على أتمّ، والوقوف على التلّ أسلم.

سارع بعضُنا إلى اجتياز هذه العقبة النفسيّة، واستطاع أن يتخطّى الماضي ومخلّفاته والتقليد وقيوده، فلم يعد يتردّد في القبول بنتائج البحث، مهما كانت قاسية ومريرة.

ولكنّي ومع آخرون، توقفت كثيراً وفكّرت طويلاً لَعَلّي أوفّق بين هذا الولاء الذي أخذ يتجذّر في قلبي لأهل البيت، وبين ولاءات سابقة، انتفت عوامل بقائها، ولم يبق منها سوى بعض الرّواسب النفسيّة. ولكن هيهات،( مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرجُلٍ مِن قَلبَينِ في جَوفِهِ ) (٢) ، ولا مكان للغير في نفس بات يعمرها الحبُّ والولاء لأهل البيت.

لم يتعرّض الشيخ للمسائل الفقهيّة، ولم يبد ملاحظة على ما نحن عليه من فقه، وبدوري كنت أمنّي نفسي وأرجو أنْ لا تكون هناك اختلافات فقهيّة بين مذهب أهل البيت ومذاهب أخرى.

إذ كَم هو قاس أن تكتشف أنّ الفقه الذي عملت به طيلة سنوات مضت يعاني من خَلَل في بعض جوانبه.

وكم هو عسير أن تتواءم نفسيّاً وعمليّاً مع أحكام جديدة غير التي اعتدت عليها!

لذلك استنكرت نفسي ما شاهدته من تفاوت، لكنّي فوجئت عندما بدأت ألاحظ بعض الأشياء الغريبة في وضوء الشيخ وصلاته، استفسرنا منه عنها فكان عنده على كل حكم دليل، مع ذلك أبت نفسي أن تسلّم.

وكنت أقول للآخرين أنّني لن أتبع الشيعة في كلّ شي‏ء، وكوني أوافقهم الآن فيما يتعلّق بولاية أهل البيت لا يعني أن أقلّدهم في كلّ شي‏ء، لاسيّما هذه المسائل الفقهيّة التي لا يؤيّدها العقل، وأيّهما أفضل، غسل الرجل وإزالة ما يعلق بها من غبار وغيره، أم

____________________

(١) الأحزاب: ٤.

١٢٩

تمرير اليد المبتلّة عليها فلا تزداد إلّا اتّساخاً؟!

ولكن الأخوة كان بعضهم قد وطّن نفسه على قبول كل ما يقول به الشيعة، بعد أن أسقط الاعتبار عن السبل الموازية لأهل البيت. وهكذا كنّا في جدل دائم حول القضايا الفرعيّة مع اتفاقنا الكامل على الأصول.

وعندما طرحنا الأمر على الشيخ تجنّب الخوض في التفاصيل الفقهيّة، ولكنّه أرسى قاعدة وأوصى باتّباعها، وهي عدم مناقشة الأحكام الفقهيّة من حيث حِكَمها وعِلَلها إلّا بعد التّحقق من مصادرها، وما يثبت وروده عن النبيّ وأهل بيته صحيح، حتى ولو خالف المألوف ولم تَستوعبه العقول، إذ ليس للرأي مكان في الفقه ).

مرحلة اقتطاف ثمار البحث:

يقول محمد علي المتوكّل:

( في نهاية المطاف، وبعد شهر من الحوار الدائم، والتحقق من صحّة الأدلّة التي أوردها الشيخ في المصادر السنّيّة، كانت الرؤية قد اتّضحت تماماً، وزالت الشبهات، وتخطّينا الحواجز النفسيّة والعاطفيّة، ولم يبق إلّا أن نتعرّف إلى الدّين من جديد بعد أن اكتشفنا الطرّيق الموصل له، وحدّدنا الجهة التي منها نأخذ ديننا.

عندئذٍ قرّر الشيخ الرحيل، تاركاً خلفه خمسة مستبصرين وآخرين على طريق الاستبصار، يكونون فيما بعد نواة للتشيع في السودان، وبداية لحركة استبصار واسعة النطاق تشمل في غضون عشرة أعوام، كافة أنحاء السودان، وتؤسّس العديد من المؤسّسات الثقافيّة التي تضطلع حتى الآن بدور مشهود في تصحيح المسار الفكري والعقائدي الذي تعرّض عبر القرون لمؤامرات الطمس والتحريف )(١) .

____________________

(١) محمد علي المتوكّل/ ودخلنا التشيّع سجّداً: ٤٢-٥٠.

١٣٠

الدافع الرابع:

قوّة أدلّة الشيعة

إنّ من أهمّ العوامل التي تدفع الباحث السنّي حين التقائه بأحد أتباع مذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام إلى تقبّل كلامه هي الأدلّة التي يستقيها الشيعي من الكتاب والسنّة في بيان معتقدات مذهبه، بحيث تأخذ هذه الأدلّة نتيجة قوّتها بيده حتى تبلغه مرتبة القناعة الكاملة بأحقيّة مذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام .

ويقول محمد مرعي الانطاكي في هذا المجال:

( من جملة الأسباب التي دعتنا إلى التشيّع، هي وقوع كثير من المناظرات التي جرت بيني وبين بعض علماء الشيعة.

وفي حال المناظرة كنت أجد نفسي محجوجاً معهم، غير أنّني أتجلّد وأدافع دفاع المغلوب، مع ما أنا عليه بحمد اللَّه تعالى من الاطّلاع الواسع والعلم الغزير في المذهب السنّي الشافعي وغيره، إذ أنّني تلمّذت حوالي ربع قرن على فطاحل العلماء والجهابذة على مشيخة الأزهر حتى حصلت لي شهادات راقية )(١) .

ويصف التيجاني السماوي حجج الشيعة الرصينة والواضحة قائلاً:

( وليس دليل الشيعة دليلاً واهياً أو ضعيفاً حتى يمكن التغاضي عنه وتناسيه بسهولة، وإنّما الأمر يتعلّق بآيات من الذّكر الحكيم أنزلت في هذا الشأن وأولاها رسول اللَّه‏صلى‌الله‌عليه‌وآله من العناية والأهميّة ما سارت به الركبان وتناقله الخاص والعام حتى ملأت كتبَ التّاريخ والأحاديث وسجّله الرواةُ جيلاً بعد جيل )(٢) .

ولهذا يقول التيجاني السماوي في هذا المجال:

( ممّا زاد قناعتي بأنّ الشيعة الإماميّة هي الفرقة الناجية هو أنّ عقائدهم سمحة

____________________

(١) محمد مرعي الانطاكي/ لماذا اخترت مذهب الشيعة: ٥١.

(٢) محمد التيجاني السماوي/ لأكون مع الصّادقين: ٤٤.

١٣١

وسهلة القبول لكلّ ذي عقل حكيم وذوق سليم، ونجد عندهم لكلّ مسألة من المسائل ولكلّ عقيدة من العقائد تفسيراً شافيا كافياً لأحد أئمة أهل البيت‏عليهم‌السلام ، قد لا نجد لها حلّاً عند أهل السنّة وعند الفرق الأخرى )(١) .

ويذكر التيجاني السماوي أيضاً في كتابه ( كل الحلول عند آل الرسول ):

( ونحن إذ قدّمنا في كتبنا السابقة ومن خلال الأبحاث العلميّة والتاريخيّة بأنّ الشيعة الإمامية الإثني عشرية هي الفرقة الناجية التي تمثّل الخطَّ الإسلامي الصّحيح، فليس ذلك الحكم هو وليد الظروف والملابسات التي عشتها وتفاعلتُ معها فحسب، وإنّما هي حقيقة أثبتها النّقلُ من خلال القرآن والسنّة كما أثبتها التاريخ الذي سَلِم من التزييف والتحريف، واهتدى إليها العقل بما وهبه اللَّه سبحانه من قدرة التميّز وإثبات الدّليل.

فقال عزّ من قائل:( فبَشِّر عِبَادِ * الّذينَ يَستَمعوُنَ القولَ فيَتَّبعوُنَ أحسَنَه أولئِكَ الّذينَ هَداهُم اللَّهُ وأولئك هم أولُوا الأَلبابِ ) (٢) .

وقال في حقّ الّذين عطّلوا عقولَهم فاستحقّوا العذاب:( وقالوا لو كنّا نسمَعُ أو نعقِلُ ما كنّا في أصحابِ السّعير.. ) (٣) )(٤) .

ويقول محمد الكثيري حول مدى قوّة عقائد الشيعة وأدلّتهم الوضاءة والمشرقة حين مقارنتها مع أدلّة غيرهم:

( إنّ هذه الكتب السلفيّة التي تنشرها المملكة السلفيّة للطعن في عقائد الشيعة، تُساهم من جانب آخر في نشر التشيّع، لأنّه يكفي أن يطّلع أبناء الصَحوة على عقائد الشيعة في كتبهم ومجلّاتهم وعند المقارنة تنهدم صروح الكذب السلفيّ بسرعة،

____________________

(١) المصدر السابق: ٢٤.

(٢) الزمر: ١٨.

(٣) الملك: ١٠.

(٤) محمد التيجاني السماوي/ كل الحلول عند آل الرسول: ١٧.

١٣٢

ويتحوّل أبناءُ الصّحوة بعد اكتشاف الحقيقة إلى أعداء للدعوة السلفيّة ومبادئها، ويعتنقون التشيّع زرافات، وهذا ما يقع حاليّاً )(١) .

ويُعلّل محمد الكثيري هذا الأمر قائلاً:

( وبالجملة فليس هناك عقيدة أو فكرة يدعو لها الشيعة الإمامية إلّا ولها مستند قويّ، ليس في القرآن وما صحّ من السنّة لديهم، بل ما صحّ من السنّة لدى‏ خصومهم.

لذلك ترى المتشيّعين من أبناء السلفيّة أو أهل السنّة اليوم لا يرجعون في الاستدلال على عقائد الشيعة التي اعتنقوها إلى مصادر الشيعة التاريخيّة والحديثيّة، بل يجدون مُبتغاهم في تراث أهل السنّة والسلفيّة، وهذا ممّا يزيدهم اطمئناناً وإيماناً بصحّة عقائد الشّيعة وما يَدعون إليه )(٢) .

ويشير محمد مرعي الانطاكي إلى قوّة أدلّة الشيعة خلال ذكره الأسباب التي دعته إلى الالتحاق بمذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام قائلاً:

( هي أمور كثيرة، نذكر منها:

أوّلاً: رأيت أنّ العمل بمذهب الشيعة مجزٍ، وتبرأ به الذمّة بلا ريب، وقد أفتى به كثيرٌ من علماء السنّة من السّابقين واللاحقين، وأخيراً منهم الشيخ الأكبر زميلنا الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر بفتواه الشهيرة المنتشرة في العالم الإسلامي(٣) .

____________________

(١) محمد الكثيري/ السلفيّة: ٦٦٨.

(٢) المصدر السابق: ٦١٥-٦١٦.

(٣) محمد مرعي الانطاكي: وإليك أخي القارئ‏ نص فتواه - كما ذكرها الشيخ المظفّر في عقائد الإماميّة - في شأن جواز التعبّد بمذهب الشيعة الإماميّة:

أوّلاً: - إنّ الإسلام لا يوجب على أحد من أتباعه اتّباع مذهب معيّن، بل نقول: انّ لكلّ مسلم الحقّ في أن يقلّد بادئ‏ ذي بدء أيّ مذهب من المذاهب المنقولة نقلاً صحيحاً، والمدوّنة أحكامها في كتبها الخاصّة.

ولمن قلّد مذهباً من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره - أيّ مذهب كان - ولا حرج عليه في شي‏ء من ذلك.

ثانياً: - إنّ مذهب الجعفريّة المعروف بمذهب الشيعة الإماميّة الاثني عشريّة، مذهب يجوز التعبّد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنّة.

فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وان يتخلّصوا من العصبيّة بغير الحقّ لمذاهب معيّنة، فما كان دين اللَّه وما كانت شريعته بتابعة لمذهب، أم مقصورة على مذهب، فالكلّ مجتهدون مقبولون عند اللَّه تعالى، يجوز لمن ليس أهلا للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقرّرون في فقههم، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات.

شيخ الجامع الأزهر

محمود شلتوت‏

١٣٣

ثانياً: ثبت عندي بالأدلّة القويّة والبراهين القاطعة والحُجج الدامغة الرّصينة الواضحة التي هي كالشمس الساطعة في ضاحية النهار، ليست دونها سحاب، أحقّية مذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام وأنّه هو المذهب الحقّ الذي أخذه الشيعة عن أئمة أهل البيت عن جدّهم رسول اللَّه‏صلى‌الله‌عليه‌وآله ، عن جبرائيل، عن الربّ الجليل، وليس فيه دخيل، ولن يرضوا عنه بديلاً حتى يلقوا الربّ الجليل.

وأخذه الثقاة عن الثقاة من يوم البِعثَة إلى يوم البَعث لا يختلف آخرهم عن أوّلهم.

ثالثاً: إنّ الوحي نزل في بيتهم، وأهل البيت أدرى وأعرف بما في البيت من غيرهم.

فجدير بالعقل المتدبّر أن لا يترك ما صحّ لديه من الأدلّة منهم ويأخذ من الأجانب الدخلاء.

رابعاً: - كثير من الآيات الواردة في الذكر الحكيم والقرآن المجيد، دالّة على مدّعانا...

خامساً: كثير من الأحاديث المأثورة، والأخبار الواردة عن لنبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله دالّة على ذلك، وقد ذكرها الفريقان - السنّة والشيعة - في كتبهم )(١) .وقد أنشد محمد مرعي الانطاكي حول سبب استبصاره قائلاً:

____________________

(١) محمد مرعي الإنطاكي/ لماذا اخترت مذهب الشيعة: ٤٩-٥١.

١٣٤

لماذا اخترتُ مذهبَ آل طه

وحاربت الأقاربَ في وِلاها

وعفتُ ديارَ آبائي وأهلي

وعيشاً كان ممتلأً رفاها

لأنّي قد رأيتُ الحقَّ نصّاً

وربّ البيت لم يألف سواها

بالاستمساك بالثقلين حازت

بأولاها وأُخراها نجاها

وصارت أعظم المخلوق قدراً

واورثها الولا عزّاً وجاها

ولا أصغي لعذل بعد علمي

بأنّ اللَّه للحقّ اصطفاها

ولا أهتمّ في الدّنيا لأمر

إذا ما النّفس وافاها هُداها

فمذهبي التشيّع وهو فَخْر ٌ

لمن رام الحقيقةَ وامتطاها

وفرعي من عليّ وهو درّ

صفا والدّهرُ فيه قد تباها

وهل ينجو بيوم الحشر فردٌ

مشى في غير مذهبِ آل طه؟!(١)

الدافع الخامس:

قراءة الكتب الشيعيّة أو كتب المستبصرين:

كانت المطالعة والانفتاح على التراث الشيعي أحد أسباب استبصار بعض المستبصرين واعتناقهم لمذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام ، منهم إدريس الحسيني حيث أنّه يقول:

( لا أحد أخذ بيدي - بصورة مباشرة - إلى هذه المدرسة. لقد اندفعتُ إلى ذلك بنفسي معتمداً على امكاناتي، ربّما كانت هناك ظروف وملابسات لها مدخليّة كبيرة في هذا الاختيار، كنت يومئذٍ شابّاً غضّاً طري العود، لكن أسئلتي كانت كبرى.

لقد تعرّفت على هذا المذهب عن طريق البحث والدراسة والإصرار على المعرفة. والحمد للَّه أصبحت شيعيّاً مواليّاً )(٢) .

____________________

(١) محمد مرعي الانطاكي/ لماذا اخترت مذهب الشيعة: ٤٩٣.

(٢) مجلّة المنبر/ العدد: ٣.

١٣٥

أهمّ الكتب التي تأثّر بها المستبصرون:

كتاب المراجعات‏

يُعتبر كتاب (المراجعات) للسيّد عبد الحسين شرف الدّين رحمه اللَّه من أبرز الكتب التي تركت تأثيراً واضحاً على المستبصرين، ولهذا الكتاب الفضل في تكوين قناعة الكثير بأحقّية مذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام .

وقد جاء في كلام المستبصرين حول هذا الكتاب القيّم والأثر الخالد ما فيه الكفاية لتبيين مدى تأثّرهم بهذا السفر العظيم.

يقول التيجاني السماوي في كتابه (ثمّ اهتديت) حول كتاب (المراجعات):

( قرأتُ كتابَ المراجعات للسيّد شرف الدّين الموسوي، وما أنْ قرأت منه بضع صفحات حتى استهواني الكتابُ وشدّني إليه شدّاً، فكنت لا أتركه إلّا غصباً وكنت أحمله في بعض الأحيان إلى المعهد.

وأدهشني الكتاب بما حواه من صراحة العالم الشيعي وحلّه لما أشكل على العالم السنّي شيخ الأزهر.

وجدت في الكتاب بغيتي لأنه ليس كالكتب التي يكتب فيها المؤلّف ما يشاء بدون معارض ولا مناقش، فالمراجعات هو حوار بين عالمين من مذهبين مختلفين يحاسب كلٍّ منهما صاحبه على كل شاردة و واردة، على كل صغيرة وكبيرة متوخّين في ذلك المرجعين الأساسيين لكافّة المسلمين وهما القرآن الكريم والسنّة الصحيحة المتّفق عليها في صحاح السنّة.

فكان الكتاب بحقّ يمثّل دوري كباحث يفتّش عن الحقيقة ويقبلها أينما وجدت، وعلى هذا كان الكتاب مفيداً جدّاً وله فضلٌ عليّ عميم )(١) .

ويصرّح التيجاني السماوي أيضاً في مكان آخر من كتابه (ثمّ اهتديت) بالدور

____________________

(١) محمد التيجاني السماوي/ ثمّ اهتديت: ٧٥.

١٣٦

الأساسي الذي كان لكتاب (المراجعات) في اعتناقه لمذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام ، فيقول:

( قرأت كتاب المراجعات للإمام شرف الدين وراجعته عدّة مرّات وقد فتح أمامي آفاقاً سبّبت هدايتي وشرحت صدري لحبّ أهل البيت ‏عليهم‌السلام ومودّتهم )(١) .

ويقول محمد مرعي الانطاكي معبّراً عن مشاعره النابعة من أعماق قلبه حول كتاب (المراجعات):

( إنّي لأقدّم نصيحة خالصة لوجه اللَّه لا يشوبها رياء، لكلّ واحد من إخواننا السنّة، أن يرجع إلى كتاب (المراجعات) وغيره من كتب الشيعة الإمامية، وأن يطالعها بدقّة وإمعان، ونظر وإنصاف، من أوّلها إلى آخرها، فإنّه سيجد ما فيه المقنع إن شاء اللَّه، ولا يبقى له أيّ عذر أو مجال ليتّهم شيعة العترة الطّاهرة بما هم بريئون منه، براءة ذئب يوسف من يوسف، إن كان حرّاً من الأقاويل المفتعلة التي لم ترض اللَّه ورسوله )(٢) .

ويذكر محمد مرعي الانطاكي حول كيفيّة تعرّفه على كتاب (المراجعات) والأثر الذي تركه هذا الكتاب على بنيته الفكريّة، أنّه حاور شيعيّاً يدعى السيّد عبد القادر الحاج موسى، فأتاه هذا الشيعي بكتاب (المراجعات) وقال له: خذ هذا الكتاب.

يقول محمد مرعي الانطاكي:

( قلت: وما هذا الكتاب؟

قال: كتاب من مؤلّفات الشيعة.

قلت: لا حاجة لي به.

فأعاد على القول.

فقلت له: إنّ الكتاب لا يقرأ في مجلس واحد!

فقال: خذه معك عارية.

____________________

(١) المصدر السابق: ١٣٠.

(٢) محمد مرعي الانطاكي/ لماذا اخترت مذهب الشيعة: ٥٣.

١٣٧

وكان الوقت بعد العصر، فحملته وذهبت إلى منزلي، وبعد أن نام الأولاد وأمّهم، خلوت بنفسي، وبدأت بالمطالعة، وهذا أوّل كتاب وصل إلى من كتب الشيعة، وما أنْ بدأتُ بقراءة المقدّمة حتى أخذتني دهشة لما فيها من البلاغة، وتركيب الألفاظ، وسبك جملها(١) وعذوبة ألفاظه، وحسن معانيه التي قلّ أن يأتي كاتب بمثلها، فقمت أفكّر في هذا الأثر القيّم والسفر العظيم، وما فيه من الحكميات والمحاكمات بين مؤلّفه المفدّى، وبين الشيخ الأكبر الشيخ (سليم البشري) شيخ الجامع الأزهر، وذلك بأدلّته القاطعة، وحججه البالغة، ممّا يفحم الخصم، ويقطع عليه حجّته.

وقد رأيت مؤلّفه العظيم لم يعتمد في احتجاجه على الخصم من كتب الشيعة، بل يكون اعتماده على كتب السنّة والجماعة، ليكون أبلغ في الردّ على الخصم، فبذلك زدت إعجاباً على إعجاب مما جرى به قلمه الشريف )(٢) .

ويضيف محمد مرعي الانطاكي:

( وزادت دهشتي عند وصولي إلى (المراجعة الرّابعة) إذ فيها القول الفصل لمن كان له عقل أو ألقى السّمع وهو شهيد.

ولم أقتصر عليها، بل أخذت كلّما انتهيت من واحدة بدأت في الأخرى، وهكذا إلى أن مضى عليّ أكثر من ثلثي الليل، وأنا لا أشعر بملل ولا كلل، لما وجدت فيه من حلاوة ألفاظه وطلاوة عباراته، وحينئذٍ تفتّحت امامي أبواب الصدق والصواب الصائب الذي لا مرية فيه، ولست بمغال إن قلت: كأنّي صهرت في بودقة، وفقدت شعوري لأنه قد استدرجني الكتاب، وقادني إليه، فسرت معه مختاراً أو غير مختار(٣) .

هذا ولم يمض عليَّ الليل إلّا وأنا مقتنع تماماً، بأنّ الحقّ والصواب مع الشيعة، وأنّهم على المذهب الحقّ الثابت عن رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن أهل بيته الطاهرين ‏عليهم‌السلام ، ولم

____________________

(١) محمد مرعي الانطاكي/ لماذا اخترت مذهب الشيعة: ٤٣٩.

(٢) المصدر السابق: ٥٢-٥٤.

(٣) المصدر السابق: ٤٣٩.

١٣٨

يبق لي أدنى شبهة البتّة، واعتقدت بأنّهم على خلاف ما يقال فيهم من المطاعن والأقاويل المفتعلة الباطلة.

ثمّ في صبيحة تلك الليلة، عرضت الكتاب الشريف على أخي وشقيقي، فضيلة العلّامة الفذّ الحافظ الشيخ (أحمد أمين الانطاكي) حفظه اللَّه، فقال لي:

ما هذا؟

فقلت: كتاب شيعي، لمؤلّف شيعي.

فقال: أبعده عنّي، أبعده عنّي، أبعده عنّي - ثلاثاً - فإنّه من كتب الضلال، وليس لي به حاجة، وإنّي أكره الشيعة وما هم عليه!!

فقلت: خذه واقرأه، ولا تعمل به، وماذا يضرّك إن قرأته؟

فأخذ الكتاب ودرسه وطالعه بدقّة وإمعان؛ وحصل له ما حصل لي من الاعتراف بأحقّية المذهب الشيعي، وقال:

إنّ الشيعة على الحقّ والصواب، وغيرهم خاطئون، ثمّ تركت أنا وأخي المذهب الشافعي، واعتنقنا المذهب الشيعي الجعفري الإمامي وذلك لقيام الأدلّة الكثيرة الواضحة، والبراهين الرّصينة الناصعة )(١) .

ويصف هشام آل قطيط رحلته مع كتاب (المراجعات) بعد استعارته من أحد أصدقائه قائلاً:

( بدأت في القراءة في هذا الكتاب، وكنت واثقاً من نفسي بأنّه كتاب ضلال سوف أرد عليه وأفهم الشيعي من هو السنّي؟!

فقرأت ترجمة الكتاب. واستمريت بالقراءة وقطعت منه تقريباً أكثر من مائتين صفحة، ففوجئت وتشنّجت من هذا الكتاب المدسوس، واستغربت من هذه المعلومات الغريبة التي لأول مرّة تطرقُ ذهني، وخاصّة علمائنا دائماً يحذّرونا من

____________________

(١) المصدر السابق: ٥٣-٥٤.

١٣٩

قراءة كتب الضلال، فقلت إن استمريت في القراءة في هذا الكتاب سوف يحرفني لاشكّ في ذلك إطلاقاً، وإذا أردت أنْ اتتبّع الأدلّة ليس لديّ المصادر وليس لديّ الفراغ الكافي للبحث في هذه القضيّة الشائكة، فأغلقت الكتاب لأنّه شوّش تفكيري )(١) .

ويقول هشام آل قطيط في المرّة الأخرى التي وقع هذا الكتاب بيده:

( راجعت المصادر ووقفت عليها و وجدت صدق ما يأتي به العالم الشيعي، فاستغربت من قوّة استدلال هذا العالم وإحاطته الدّقيقة بالتاريخ والسيرة والصّحاح واستهواني الكتاب بأسلوبه الجذّاب وثوبه الناعم المُزركش وصرت أفكّر: يا إلهي أين كنت أنا؟

أين علماؤنا من هذه الكتب؟ فهل يعرف علماؤنا ما في هذه الكتب من أدلّة ويتعمدون طمس هذه الحقائق عنّا؟ لأنّه ليس من اختصاصنا البحث في الدين، وإنّما هو حكر على الشيوخ والعلماء فقط، أم انّهم لا يعلمون حقيقة هذه الكتب؟! )(٢) .

ويقول عبد المنعم حسن حول إعجابه بهذا الكتاب وما لاقاه من ردود أفعال ممن حوله بعد تأثّره بهذا الكتاب:

( ولا أظنّني سأجد كتاباً على أديم الأرض أكثر قوّة وحجّة ومنطقاً من كتاب المراجعات الذي أماط اللثام وأبطل كل حُجَج الشيخ البشري بأدب و وقار.

وأذكر ذات يوم أن أحد الأشخاص استعار كتاب المراجعات من أحد الأصدقاء وبعد فترة وجيزة جاء بالكتاب وهو يقول - محاولاً الاستهزاء به كردّة فعل طبيعيّة - إنّه مختلق، انّ هذه المناظرة أساساً لم تقم.

فأجابه الأخ: يا شيخنا فلنفرض جدلاً أنّ هذه المناظرة لم تكن، وأنّ هذه

____________________

(١) هشام آل قطيط/ ومن الحوار اكتشفت الحقيقة: ٢٣.

(٢) المصدر السابق: ٣٩.

١٤٠