التحول المذهبي‏

التحول المذهبي‏0%

التحول المذهبي‏ مؤلف:
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 374

التحول المذهبي‏

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: علاء الحسون
تصنيف: الصفحات: 374
المشاهدات: 130553
تحميل: 6151

توضيحات:

التحول المذهبي‏
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 374 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 130553 / تحميل: 6151
الحجم الحجم الحجم
التحول المذهبي‏

التحول المذهبي‏

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

كمحاولة للوصول إلى الخلل الذي أوجد التناحر والتكاثر بين هذه التيّارات.. لم أجد هذا الخلل من الحاضر، بل وجدته من الماضي )(١) .

ويقول هشام آل قطيط حول إحدى العوامل التي حفّزته للبحث:

( إنّ قصّة الانتقال في العصر الحاضر من السنّة إلى الشيعة، زادتني حيرة وتأمّلاً وتفكّراً في هذا المجال العقائدي، فصرت أتساءل مع نفسي ما هذا الانتقال الضخم والتحوّل الهائل من التسنن إلى التشيّع؛ من علماء أهل السنّة ومثقّفيهم ولم أجد العكس...؟!!

لماذا...؟!!

فقلت لو لم تكن الأدلة مقنعة لما انتقل هؤلاء بهذه الكثرة وتركوا التسنن وأصبحوا شيعة )(٢) .

شروط البحث في المجال العقائدي:

إنّ البحث ومحاولة توسيع دائرة المعرفة والقيام بجولة فكريّة في رحاب المذاهب الإسلاميّة من أجل الوصول إلى الحقيقة لا تأتي ثمارها إلّا إذا تمّ خلالها مراعاة جملة من الشروط التي تؤدّي إلى سلامة المنهج وتضمن صحّة نتائجه وثماره.

ويمكننا عدّ الأمور التالية من جملة الشروط التي ينبغي للباحث الذي يطمح للوصول إلى النتائج الصحيحة أن يقوم بمراعاتها خلال البحث:

١ - التحلّي بالرؤية الشموليّة:

وهي أن يتوجّه الباحث في دراسته للقضايا العقائديّة توجّهاً شاملاً بحيث يتناولها

____________________

(١) صالح الورداني/ الخدعة: ٤.

(٢) هشام آل قطيط / ومن الحوار اكتشفت الحقيقة: ٢١٧.

٢١

من جميع جوانبها، ويلحظ جميع ما يرتبط بها، لأن تقصي المعطيات والإحاطة بكل ما له صلة بموضوع البحث من شأنه ان يتيح للباحث القدرة على أداء عمليات التحليل والنقد والتفسير في نطاق واسع وشامل، وبهذا يتمكّن الباحث من كشف الحقيقة بصورة كاملة.

أما النظرة الجزئيّة أو الضيّقة التي يقتصر فيها نظر الباحث إلى الموضوع من زاوية محدّدة، فإنّها تفضي في الغالب إلى النتائج الخاطئة، وتكون النتائج عموماً قاصرة نتيجة قلّة المعلومات التي يمتلكها الباحث حول الموضوع المطروح على طاولة البحث.

ومن أهم السبل للحصول على الشموليّة في الرؤية العقائديّة هي الوقوف على مختلف الاتّجاهات المذهبيّة، والانفتاح على الأفكار والرؤى المختلفة، وتحليلها ومعرفة أدلّتها وتبيين إيجابيّاتها وسلبياتها، لأن ذلك يتيح للباحث أن يوسّع دائرة معارفه من خلال تعرّفه على الرأي الآخر.

وهذا ما توجّه إليه إدريس الحسيني خلال رحلته المضنية في البحث عن الحقيقة، حيث أنّه يقول:

( وأنّه لجدير أن أكشف عن مدى الفجاجة التي لمستها في كل المذاهب التي انفتحت عليها، لقد قادني التفكير إلى مراجعة كل معتقداتي.

وامتدّت محاولاتي في البحث والتنقيب في كل المذاهب بل والديانات بما فيها الديانات الاسطوريّة. إنّني حاكمت نفسي يوماً في خلوتها، واشترطت عليها التجرّد الكامل في البحث عن الحقيقة العُليا. عن (اللَّه) الحقيقي، وعن وحيه الأخير! لقد انفتحت على الإنجيل باحثاً فيه عمّا ما يشفي غليلي، فرجعت أجرّ أذيال البؤس ويدي بيضاء من ذلّ السؤال. وكذلك سارت بي الراحلة، من مذهب إلى آخر، من دين إلى آخر، أنقلب، أبحث فراوحت إلى

٢٢

حضيرة الثقلين، منبت الهداية، وموطن الحق... )(١) .

كما أنّه يقول: ( تعلّمت أنّ من شروط البحث عن الحقيقة، عدم الاستماع إلى القول الواحد، وإلى الفرقة الواحدة، ولكن( الّذينَ يَسْتَمِعوُنَ القَوْلَ فيتَّبِعُون أحسَنه ) (٢) )(٣) . فعلى هذا، لا سبيل لمعرفة الحقّ إلّا عن طريق البحث الشمولي الذي يفتح أمام بصيرة الإنسان آفاقاً رحبة تُعينه على غربلة معتقداته وتمييز الصحيح منها عن السقيم. أمّا الّذين اقتصرت رؤيتهم على ما توارثوه من معتقدات، فهم على غير بيّنة من أمر دينهم، وعليهم أن يلمّوا بما لدى الآخرين من المذاهب الإسلاميّة، ليكون انتماؤهم المذهبي عن وعي و قناعة و حجّة وبرهان. وهذا ما قام به أغلبيّة المستبصرين حيث أنّهم أحاطوا بصورة إجماليّة على آراء المذاهب الإسلاميّة، ثمّ اتّخذوا قرارهم النهائي عن وعي فيما يخصّ انتمائهم المذهبي. وفي هذا الصعيد ينبغي لكلّ باحث يستهدف التعرّف على عقائد وأفكار باقي المدارس الفكريّة والمذاهب الإسلاميّة، أن يعي بان أفضل السبل لمعرفة آراء الغير ومعتقداته هي أقواله وتصريحاته، وعليه أن يبحثها بنفسه ويطّلع عليها من مصادرها المعتبرة والمعتمدة والموثوقة عندهم، لا من كتب ومصادر غيرهم أو ما كتبه عنهم خصومهم. لأنّ الخصم قد يكون جاهلا متطفّلاً، فيحرف الواقع عن غير قصد، أو قد يكون حاقداً متحاملا يفتري بقصد التنكيل و التشهير، أو قد يكون متطرّفاً يلجأ إلى المغالطات في تقييمه دون علم ودراية، أو قد يكون خائناً مستأجراً من قبل الأيادي

____________________

(١) إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: ٤٠٧.

(٢) الزمر: ١٨.

(٣) إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: ٣٥.

٢٣

الأثيمة، فيكذب ويدسّ بقصد التفرقة وإيقاظ الفتنة.

وهذا ما يتحتّم مراعاته عند دراسة مذهب التشيّع، لأن هذا المذهب قد تعرّض للهجمات الشرسة من قبل السلطات الحاكمة على مرّ العصور، وقد استغلّ الحاقدون ذلك من أجل الكيد بهذا المذهب والوقيعة به على غير دليل وبرهان، وقد نُسب إلى هذا المذهب الكثير من الأفكار والرؤى التي هو بري‏ء منها.

فلهذا ليس من الحقّ والإنصاف أن يُدان مذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام بما ينسبه إليه غيره، أو بما يقوله الشواذ الّذين لا وزن لكلمتهم، بل الصحيح أن يقوم الباحث بمطالعة كتب الشيعة المعتبرة بنفسه، ليتعرّف بصورة مباشرة على ما هو متّفق عليه عند علمائهم، أو ما هو متسالم عليه عندهم.

وإلّا فمن المؤسف أن نجد باحثين ومحقّقين يقومون بإدانة مذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام ، وهم ممن قد خفي عليهم أصول ومبادئ‏ وفكر هذا المذهب، وقد اكتفوا بما قيل عن هذا المذهب، ولم يبادروا للتعرّف عليه من كتبه المعتبرة.

ولهذا دعا الهاشمي بن علي بعد استبصاره أن يتعرّف الباحثون على التراث الشيعي من كتبهم أنفسهم، فقال:

( وصيّتي لكلّ قارئ‏ حرّ عنده عقل يميّز به الحق من الباطل، أن يقرأ عن الشيعة والتشيّع من كتب أهل الشيعة أنفسهم.. )(١) .

و اكّد هذا المستبصر على هذا الأمر في موضع آخر من كتابه قائلاً:

( عرفت الحديث القائل: (( النّاسُ أعْداءُ مَا جَهلوا ))(٢) .

وأنا من موقعي هذا أدعو كل إنسان حرّ أن يطّلع على كتب الشيعة وعلى آرائهم دون واسطة)(٣) .

____________________

(١) الهاشمي بن علي/ الصحابة في حجمهم الحقيقي: ٨٣.

(٢) نهج البلاغة: ١٧٢، الكلمات القصار.

(٣) الهاشمي بن علي / الصحابة في حجمهم الحقيقي:١٢.

٢٤

٢ - الموضوعيّة:

من أهمّ شروط الدراسة في المجال العقائدي أن يكون البحث موضوعيّاً، بحيث يتناسى الباحث انتماءه المذهبي ويصعد إلى أعلى درجات التجرّد، ومن ثم يقوم بالمقارنة القائمة على توثيق الحقائق، ليستطيع أن يصل إلى فكر موضوعي لا تحكمه عاطفة متحيّزة أو نزعة متعصبة أو رؤية موروثة أو تصوّرات سابقة.

ومن أهم سمات البحث الموضوعي في هذا المجال، هو التحلّل من القيود والمجاملات وانتحاء منحى الصراحة والتوجّه إلى البحث العلميّ المجرّد من التحيّز، والترفّع عن التعصّب البغيض والتمسّك بالحقائق مهما كانت مزعجة ومؤلمة، واستعمال العقل والتفكير العلمي المجرّد عن ضباب الانحراف النفسي والتعتيم الدعائي المخرّب، ودراسة المذاهب الأخرى دراسة واعية متأمّلة من منابعها الأصليّة.

وفي ظل هكذا أجواء يتمكّن الباحث بسهولة ومن دون أي توجّهات سلبيّة أن يعيد النظر في مصادر هدايته، وأن يقرأ من جديد وبروح بنّاءة قراءة المتدبر المستهدي المستفيد.

وهذا ما اتّبعه محمد عبد العال خلال بحوثه العقائديّة، حيث أنّه يقول:

( قرّرت بعد أن وقعت في هذه الحيرة العقائديّة أن أقف وأكف عن البحث، ثمّ أضع معياراً يصلح أن يكون قاعدة للآتي ممّا سأتبنى، وكان المعيار هو التجرّد، فالتجرّد عين ذات الحكمة؛ ((وَمَن يُؤتَ الحِكمَةَ فَقَد أوْتيَ خَيراً كَثيراً ))، ولم يكن التجرّد مجرد كلمة، بل كان تجرّداً عميقاً، لصيقاً في أعماقي، حرصت على أن أطمئن له )(١)

وهذا أيضاً ما قام به التيجاني السماوي خلال بحثه عن الحقيقة، حيث أنّه يقول:

( اقتحمت نفسي في البحث، بغية الوصول للحقيقة...، وتجرّدت من كلّ الأفكار

____________________

(١) مجلّة المنبر/ العدد:٢٦.

٢٥

المسبقة بكل إخلاص )(١) .

ويرى التيجاني السماوي أن من مصاديق الموضوعيّة أن يشكّك الفرد في انتمائه الموروث، ليحفّزه ذلك على البحث بدقّة عن صحّة ما ينتمي إليه.

فيقول في هذا المجال:

( وعلى الباحث المحقّق أن لا يأخذ الأشياء على ما هي عليه بأنّها من المسلّمات، بل عليه أن يعكسها ويشكّك فيها في أغلب الأحيان، ليصل إلى الحقيقة المطموسة التي لعبت فيها السياسة كلّ أدوارها.

وعليه أن لا يغتر بالمظاهر ولا بكثرة العدد، فقد قال تعالى في كتابة العزيز:( وَإنْ تُطِع أكثَر مَنْ في الأرضِ يُضلّوكَ عن سَبيلِ اللَّهِ إن يَتَّبِعُونَ إلّا الظنّ وإن هُم إلّا يَخرُصوُنَ ) (٢) )(٣) .

ويقول التيجاني السماوي حول المنهج الذي اتّبعه في بحثه العقائدي:

( عاهدت ربّي - إن هداني - أن أتجرّد من العاطفة لأكون حيادياً، موضوعياً، ولأسمع القول من الطرفين فأتّبع أحسنه، ومرجعي في ذلك:

١ - القاعدة المنطقيّة السليمة: وهي أن لا اعتمد إلّا ما اتّفقوا عليه جميعاً في خصوص التفسير لكتاب اللَّه والصحيح من السنّة النبويّة الشريفة.

٢ - العقل: فهو أكبر نعمة من نعم اللَّه عزّ وجل على الإنسان، إذ به كرّمه وفضّله على سائر مخلوقاته، ألا ترى أن اللَّه سبحانه عندما يحتجّ على عباده يدعوهم للتعقّل بقوله:( أفَلا يَعقِلُون ) ،( أفَلا يَفْقَهُون ) ،( أفَلا يَتَدَبَّرُون ) ،( أفَلا يُبصِرُونَ... الخ ) (٤) .

وله أيضاً في موضع آخر:

____________________

(١) محمد التيجاني السماوي/ ثمّ اهتديت: ٨٠.

(٢) الأنعام: ١١٦.

(٣) محمّد التيجاني السماوي/ الشيعة هم أهل السنّة: ١١.

(٤) محمد التيجاني السماوي/ ثمّ اهتديت: ٨٠.

٢٦

( وقد عاهدت ربّي أن أكون منصفاً، فلا أتعصب لمذهبي ولا أقيم وزناً لغير الحق، والحقُّ هنا مُرّ كما يُقال، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (( قل الحقّ وَلَو على نَفسِك، وقل الحقّ ولو كان مرّاً )) )(١) .

ويقول التيجاني في موضع آخر:

( وأخذت على نفسي عهداً وأنا أدخل هذا البحث الطويل العسير، أن أعتمد الأحاديث الصحيحة التي اتّفق عليها السنّة والشيعة، وأن أطرح الأحاديث التي انفرد بها فريق دون آخر.

بهذه الطريقة المعتدلة، أكون قد ابتعدت عن المؤثّرات العاطفيّة، والتعصّبات المذهبيّة، والنّزعات القوميّة أو الوطنيّة، وفي نفس الوقت أقطع طريق الشكّ لأصل إلى جبل اليقين وهو صراط اللَّه المستقيم )(٢) .

ويرى طارق زين العابدين أنّ من جملة مصاديق الموضوعيّة هو الاحتزاز عن التعصّب والتقليد، فيقول:

( إنّ من حَزَم الأمر على التحقيق والبحث في اعتقاده فهو لا يستطيع إحراز شي‏ء من تحقيقه إن كان مفعماً بالتعصّب وتقليد الذين لا يتيحان الفرصة للتحقيق الحرّ، فلابد له لكي يكون حرّ الحركة والتفكير، أن يفرّغ نفسه من كلّ ما يمكن أن يتسبب في إفساد التحقيق عليه والحيلولة بينه وبين ما يصبو إليه من بحثه، وأن يهيئ نفسه جيّداً لتقبّل الحقيقة التي يصل اليها، بعد إنجاز التحقيق والاطمئنان إلى سلامته من حيث المنهج السليم والأدلّة المقنعة بلا شكّ. لأنّ الخوف من خوض التحقيق أو الخوف من تقبّل النتيجة عدوّ المحقّق النزيه، فالنتيجة تحتّم عليه رحابة الصدر لتقبّلها باعتبار أنّها الحقّ، بل تحتّم عليه الدفاع عنها

____________________

(١) المصدر السابق: ٨٨.

(٢) المصدر السابق: ٧٦.

٢٧

وعرضها على الآخرين.

ومن لا يهدف إلى هذا من تحقيقه وبحثه فعليه ألّا يشرع في شي‏ء من التحقيق، لأنّه يكون عندئذٍ مضيعة لوقته، بل يكون عبثاً ولعباً، ولماذا يتحمّل المشاق ويقطع الحجّة على نفسه، ثمّ لا يقبل نتيجة بحثه وتحقيقه ولا يدافع عنها؟! )(١) .

ويقول صالح الورداني حول أهمّية اتّباع الموضوعيّة في البحث:

( لا تستطيع أن تجرّد الحقيقة في دائرة الفكر السني وأن تستخلصها من هذه التراكمات الطويلة العميقة المعقدة إلّا بصفة التجرّد.

والذين يقرؤون التراث السنّي بدون تجرّد لن يصلوا إلى شي‏ء، لأنه الخطوة الضروريّة لاستخلاص الحقيقة وسط هذه التراكمات )(٢) .

ويقول عبد المحسن السراوي في هذا المجال:

( ومن أراد أن يبحث ويقارن بين المذاهب، فعليه أن يلقي جلباب التعصّب المذهبي، ويكون هدفه مرضات اللَّه تعالى، ولم شمل هذه الأمة التي لا تزال تتخبّط في العصبيّة المذهبيّة.

ولا يستفيد من هذا التخبّط إلّا أعداء الدّين الذين يريدون أن تبقى الخلافات ليبقوا هم القدوة ولو على حساب التفرقة بين أبناء هذه الأمة )(٣) .

ويقول مصطفى خميس حول المنهج الذي ينبغي أن يتبعه من يبتغي الوصول إلى الحقيقة:

( إنّنا نبحث عن الحقيقة ونأخذ بها أينما وجدت، ونتوخّى في ذلك الدليل والنقل الصحيح، مسترشدين بقول مولانا الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام :

( نحن أبناء الدّليل، نميل حيث يميل )، بعيدا عن نهج أولئك الذين تلقّوا الّدينَ

____________________

(١) طارق زين العابدين/ دعوة إلى سبيل المؤمنين: ١٩.

(٢) مجلّة المنبر/ العدد: ٢٢.

(٣) عبد المحسن السراوي/ القطوف الدانية في المسائل الثمانية: ١٦.

٢٨

من الرّجال لا من النّصوص التي ورثوها عن النبي‏صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولابدّ من رسم قاعدة أساسيّة تكون منهجاً في البحث؛ وهي:

معرفة الرجال بالحق وليس معرفة الحقّ بالرجال؛ أيّ أن الرجال يُعرّفون بالحق، وليس العكس صحيحاً )(١) .

٣ - إتباع المنهج العلمي الرصين:

إنّ الجهد الذي يبذله الباحث خلال تحرّي الحقيقة لا يؤدي ثماره إلّا إذا سار الباحث في حركته طلبا للحقيقة وفق دراسة منهجيّة واضحة تخضع لخطّة مدروسة ومحدّدة، يلتزم فيها الباحث حين النظر إلى ما يطرحه من أحداث و مواقف تاريخيّة وقضايا فكريّة لها صلة بالعقيدة منهجا غايته الوصول إلى الحق فيما يخص دينه ومعتقده.

ومن فوائد إتباع هكذا منهج أنّه يصون الباحث من التأثّر بالعواطف الهائجة والشعارات المغرية التي تدغدغ العواطف والأحاسيس والهتافات الخادعة التي تزيّن الأمور دون سماح بالنظر إلى الجوهر والحقيقة.

لأن الذي لا يمتلك المنهج المحدّد والخطّة المرسومة في بحثه عن الحقيقة، فانّه من السهولة أن ينساق وراء الزخرف، أو يكون مصيره حين التقائه بشخصيّة ضالّة، تعي ما تفعل، أن يكون لعبة بيدها؛ لأن الشخصيّة الضالّة تكون قادرة على أن تحوّل جهد هكذا شخص لصالحها وتقوّي بذلك جبهتها وتدخله في لوائها وتحت بيرقها.

فلهذا ينبغي لكلّ باحث أن لا يسير خلال بحثه بصورة عفويّة أو ارتجاليّة طائشة، بل عليه أن يتّبع منهجيّة تدفعه لينهل من المنابع العلميّة الأصليّة التي لم تكدرها الأهواء ولم تعبث بها الشبهات، ليصون بذلك عقله من الاضطراب والتخبّط

____________________

(١) مصطفى خميس/ لا تضيّعوا السنّة: ١٠.

٢٩

وتضارب التصوّرات والاجتهادات، وليحترس خلال حركة بحثه من الأجواء التي تموج فيها الأهواء وتضطرب فيها المصالح والشهوات، والتي يتصدّى فيها بعض الشخصيّات لتسويغ باطلهم عن طريق تحريف الكلم عن مواضعه وتأويل الحديث في غير محلّه وتفسير الآيات الكريمة بما تهوى أنفسهم.

وبصورة عامة، فإنّ من أهم الأمور التي ينبغي أن يتّسم بها الباحث خلال دراسته العقائديّة، ليتمكّن من نيل المطلوب من بحثه هو:

١ - الدراسة بإمعان وبعقلٍ واع وفكر ثاقب وعقليّة منفتحة وبصيرة نافذة، والتوجّه إلى البحث بصورة متأنّية ومعمّقة ومستفيضة من أجل معرفة الحقيقة وتلمّس خطاها والاندفاع نحوها.

ولهذا يقول صائب عبد الحميد خلال وقفه له مع بحث عقائدي:

( ثم ليس من حقّنا أن ننتظر أيّ فائدة ترجى من وراء هذه الوقفة مالم يصحبها شرطان متلازمان على طول الطريق وحتى النهاية، وهما:

أ - الجدّ في التأمّل والنظر والمتابعة.

ب - الحياد التّام في التعامل مع المفاهيم والأحداث )(١) .

٢ - التوجّه بشوق ولهفة بحيث يشعر الفرد بمقدار ازدياد مستواه المعرفي خلال البحث أنّه يهفو إلى المزيد ويرغب في الاستزادة من العلم.

٣ - تلقي العلم من المصادر الموثوقة وغير المغرضة من أجل الاستيعاب والإلمام بالحقائق الدينيّة وعدم أخذ الأشياء بعفويّة، والحرص على توثيق المراجع ونسبة الآراء إلى أصحابها.

٤ - ابتغاء الشموليّة عن طريق الالتقاء بالعديد من العلماء والقراءات المستفيضة لعدد كبير من الكتب العقائديّة، وإجراء الموازنة والمقارنة بين الآراء المختلفة

____________________

(١) صائب عبد الحميد/ حوار في العمق من أجل التقريب الحقيقي: ٢٠.

٣٠

وغربلتها من أجل تمييز الأفكار والرؤى السقيمة عن الصحيحة، والتمكّن من خلال هذه المقارنة من معرفة وجه الحقيقة العلميّة وفق ما يمليه العقل السليم والمنطق السديد، أيّ وفق ما يشير إليه الدليل العقلي والبرهان المنطقي.

٥ - التمتّع بعلوّ الهمّة والاستعداد للتضحية في سبيل الوصول إلى الحقيقة من قبيل التغرّب لطلب العلم وتحمّل العناء من أجل رفع المستوى المعرفي.

٦ - بذل الوسع واستنفاد الطاقة والعمل بجد واجتهاد وكدّ وكدح ومتابعة ومواصلة بغية الوصول إلى عالم المعرفة وتجلية الحقيقة والوصول إلى الوعي الكامل والقناعة التامّة، وبناء منظومة فكريّة مشيّدة على الأسس العلميّة الرصينة.

٧ - إعادة قراءة التراث الإسلامي، قراءة سليمة وفق منهجيّة معرفيّة تصون صاحبها من الرفض المطلق له أو القبول المطلق له أو المبادرة إلى التلفيق والانتقاء العشوائي منه.

٨ - نبذ الاكتفاء بالظواهر في فهم النصوص والاجتناب عن التمسّك بحرفيّة النصوص، بل المبادرة إلى فهم محتوى النصوص ومعرفة مقاصدها.

٩ - تفعيل الفكر وشحنه بالحيويّة وجعله متوثّباً لا يركن إلى الجمود، وذلك من خلال الابتعاد عن الأجواء التي تحاول تحديد فكر الإنسان بأطر لا يمكن تجاوزها أو الحيد عنها، لأن البقاء في هكذا أجواء يؤدّي إلى إقفال العقل، ويمنع المرء من التقدّم العلمي في مجال البحث، وهذا ما يؤدي بصاحبه إلى الإفلاس العقائدي والمعيشة في ظل الآفاق المعرفيّة الضيّقة

موانع البحث في المجال العقائدي:

قد يظنّ البعض أن البحث من أجل تصحيح العقيدة أو التثبّت من صحّتها طريق مفروش بالزهور، وأنّ الأمور كلّها تسير فيه على ما يرام، ولكن الواقع يشير إلى خلاف ذلك، لأن هذا الطريق شائك و مضني، وأن الباحث يواجه فيه الكثير من الموانع

٣١

والعراقيل التي تحاول أن تسلب اهتمامه بالبحث أو تصرّفه عن مواصلة بحثه.

ومن هذه الموانع يمكننا ذكر الموارد التالية:

١ - تحذير الآخرين من التعرّف على رأي المخالفين

ويذكر الكثير من المستبصرين أنّهم واجهوا العديد من العراقيل التي خلّفها من كان يعيش حولهم، ليصدّوهم عن مواصلة البحث والتعرّف على فكر مذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام .

وليس خشية الكثير من أهل السنّة من الكتاب والفكر الشيعي إلّا وليد هذا التحذير المنتشر في أوساطهم من قبل علمائهم ومَن تبعهم.

ويشير الهاشمي بن علي إلى هذه الحقيقة قائلاً:

( والواقع أن هناك مسألة مهمّة نلفت إليها النظر، وهي خوف بعض اخواننا السنّة من مطالعة كتبنا حتى أنّ البعض منهم يشتريها ويحرقها كما سمعت!!

من يخاف من قراءة كتاب فلن يبلغ الغاية لا في الدين ولا في الدنيا.

اقرؤوا كتبنا، فإن كنّا ضالّين فهاتوا بُرهانَكم وأرشدونا لتكسبوا الثواب، وإن كنّا على الحقّ فتعالوا إليه وإن كان مرّاً )(١) .

ومن هذا المنطلق يدعو محمد الكثيري أبناء الصحوة إلى توسيع آفاق معارفهم بقراءة تراث سائر المذاهب، فيقول:

( على أبناء الصحوة ألا يخافوا من البحث والقراءة واستخدام العقل في التمحيص والمقارنة، لأن هذا هو السبيل الوحيد، الذي يحفظهم من السقوط في أحابيل المصالح السياسيّة المختلفة والمتناقضة، والتي لا يعلمون عنها شيئاً )(٢) .

ويصف معتصم سيّد أحمد حركة التحذير من الانفتاح على باقي المذاهب بأنّها

____________________

(١) جريدة المبلّغ الرسالي/ ٢٧ صفر ١٤١٩ ه ق.

(٢) محمد الكثيري/ السلفيّة: ٦٦٩.

٣٢

حركة نابعة من عقول منغلقة تحاول بإغلاق المنافذ المطلة على الواقع الخارجي أن تبقى في دائرة ما هي عليها.

فيقول حول هذه الدعوة:

( فكل دعوى تأمر بالانغلاق وعدم البحث وتحصيل المعرفة، فإنّها دعوى تقصد تكريس الجهل وإبعاد النّاس عن الحق.

إن ما يقوم به الوهابيّة من تحصّن بعد الإطّلاع على الكتب الشيعيّة وعدم مجالسة أفراد الشيعة والنقاش معهم، هو الأسلوب العاجز وهو منطق غير سليم، وقد عارض القرآن الكريم هذه الفكرة بقوله:

( قُلْ هَاتُوا بُرهنَكُم إنْ كُنتُم صَادقينَ ) (١) )(٢) .

ويقول عالم سنّي من الفيليبين:

( نشأت من صغري على الحسّاسيّة من الشيعة وكرههم والحذر الشديد من كتبهم، لأنها كتب ضلال، حرام قراءتها وبيعها وشراؤها.

وفي لحظة فكرت في نفسي وقلت: أليس من المنطقي أن يطّلع الإنسان على وجهة النظر الأخرى ويفهمها، ثم يناقشها ويردّها؟

أليس موقفنا شبيهاً بموقف الذين يقول اللَّه تعالى عنهم:( جَعَلُوا أصَابِعَهم في آذانِهِم ) ؟ ومن ذلك اليوم قررت أن أقرأ كتب الشيعة، وليقل الناس عنّي ما يقولون! )(٣) .

٢ - تفشّي روح اللامبالات بالبحوث الدينيّة ومنها العقائديّة، وهو اتّجاه مطروح في عصرنا الحاضر، وهو يدعو إلى ترك البحث والتفكير فيما يخص الأمور العقائديّة، ويرى أن هذا الأمر لا جدوى فيه، لأنّه لم ولن يؤدّ يوماً ما إلى قرار حاسم أو فكرة

____________________

(١) البقرة: ١١١.

(٢) معتصم سيّد أحمد/ الحقيقة الضائعة: ٣٠ - ٣١.

(٣) الإمامة والقيادة/ أحمد عِزّ الدّين - مقدّمة الناشر.

٣٣

يتّفق عليها أصحاب المدارس الفكريّة المتجادلة في هذا المجال.

ويدعو هذا الاتّجاه أن يصرف الإنسان تفكيره إلى ما هو أجدى في حياته من الرفاهيّة وإلى ما يعود عليه بالفائدة الملموسة بمختلف جوانبها.

وهذا الاتجاه - في الحقيقة - قد نشأ نتيجة الجهل بأهمية العقيدة والغفلة عن أمر الآخرة والانغماس في الملذات الدنيويّة.

و أفكار هذا الاتجاه لم تترعرع إلّا في نفوس الذين حجبت التقنيّة الحديثة بصائرهم وأحاطتهم أوهام الدنيا من كلّ جانب وأسرتهم بين مخالبها وأحكمت سيطرتها - بقوّة - على نفوسهم، فجعلتهم لاهثين وراء الجانب المادّي وملذات الحياة الدنيا تاركين وراء ظهورهم كل القيم والعقائد والجوانب الروحيّة، بل حتى الجوانب الخُلقيّة، محبذين إمضاء أوقاتهم في إشباع أنفسهم بالملذات وتلبية ميولهم ورغباتهم المشروعة وغير المشروعة بدل التوجه إلى الجد والاجتهاد في المطالعة والبحث في الأمور الدينيّة.

ويمكننا إلقاء بعض التقصير في هذا المجال على عاتق بعض رجال الدّين، حيث أنهم نتيجة بعض مواقفهم غير المسؤولة وعدم محاولة فهمهم لعقليّة الجيل المعاصر، خلقوا بين الجيل الجديد وبين العقيدة الدينيّة فجوة دفعت بعض الشباب إلى إدارة ظهورهم للعقيدة الدينيّة وابتعادهم عن البحث في هذا المجال.

ويشير هشام آل قطيط إلى ما عاناه في هذا المجال قائلاً:

( عندما كنت في القرية وأنا طالب في الجامعة أتردد على بعض المساجد في المنطقة فأجد الخطاب عند العلماء متشابها تماماً، بحيث لا يختلف عالم عن آخر بطريقة الخطاب، من حيث المقدمة والموضوع والخاتمة والدعاء.

أشعر بأنّ علماءَنا يتّبعون بطريقة روتينيّة في إلقاء الكلام، بحيث إذا غاب إمامُ المسجد لمرض أو لظرف معيّن، يكلّف أحد الاخوة المصلّين بإلقاء الخطبة، يصعد على المنبر ويقرأ علينا بطريقة الدرج والسرعة، فأنظر من حولي أجد قسم من الناس

٣٤

نيام، والقسم الآخر كأنّه مسافر في حافلة، هذا من جهة الخطاب.

وأمّا من جهة الحوار الموضوعي والانفتاح الفكري، فهو مفقود تماماً. لماذا؟

لأنّنا ترعرعنا على طريقة التفكير التقليدي الموروث الغير قابل للتطور، رغم أن الإسلام دين التطور ودين المرونة ودين الانفتاح ودين المعاملة ودين النصيحة ودين الأخلاق ودين الإنسانية دين السّماحة والعزة والكبرياء والأنفة، هذه هي مبادئ ديننا الحنيف الذي نزل به الوحي على نبيّنا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله بحيث إذا أردت السؤال من أحد العلماء فإجابته على شقّين:

الشقّ الأول: إما يجاوبني وإما يقول لي: ما هذا السؤال الذي تطرح، فيسفّه سؤالي!

والشقّ الثاني: إذا كان سؤالي عن مذهب معيّن ولم يكن الجواب حاضراً في ذهن الشيخ، فيقمّعني، ما يجوز تسأل هكذا سؤال، هذا سؤالك غلط، لا يجوز أن تجادل، الجدلُ فيه إثم، صوم وصلّي وبس، لماذا تقلق نفسك بهكذا أفكار، فالشيخ عندنا في البلد ديكتاتور.

فصرت أتساءل في نفسي يا إلهي إذا أريد أنْ أستفسر عن ديني وعن بعض الأفكار الصعبة التي تدور في ذهني أواجه بالقمع.. والإرهاب، وأهل البلد مع الشيخ وليسوا معي ولا مع أفكاري، فعشت في حيرة )(١) .

وقد تكون مسألة اللامبالات للبحث ناشئة من الكسل وحب الراحة كما يشير إلى ذلك التيجاني السماوي قائلا:

( وقد اكتشفت أيضاً أن الكثير من العلماء يمتلكون الكثير من الكتب مما يزينون به غرفهم وبيوتهم، ولكن قد تفتح الكتاب فتجده مغلقاً من الداخل، ولم تفصل أوراقه بعد.

وقد تسأل أحدهم عن حديث فيستنكره ويُقسم باللَّه أن لا وجود له، ولكن عندما

____________________

(١) هشام آل قطيط/ ومن الحوار اكتشفت الحقيقة: ١٩-٢٠.

٣٥

تطلعه على ذلك الحديث في كتابه الذي يحمله أو يقتنيه في بيته، يستغرب، ثمّ يَستنكر، ثمّ يُنكر، ثمّ يتكبّر )(١) .

ويشير معتصم سيّد أحمد أيضا إلى هذا المانع قائلاً:

(ومن عوامل الخطأ أيضاً، التسرّع، وهو نتاج حبّ الراحة، فمن غير أن يتعّب الإنسان نفسه في البحث والتنقيب يريد أن يصدر حكمه من أول ملاحظة، ومن هنا قلّ المفكّرون في العالم لصعوبة التفكير والبحث، فمن يريد الحق فلابدّ أن يجهد نفسه في البحث.

وغير ذلك من الملاحظات العلميّة التي لابدّ من أن يضعها الباحث نصب عينيه قبل الشروع في البحث، وهذا مع التجرّد التام والتسليم المطلق إذا ظهر الحق، وبالإضافة إلى طلب العون والتضرّع إلى اللَّه تعالى لكي ينير قلبك بنور الحقّ:

(( اللهمّ أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابَه)) حديث شريف )(٢) .

وقد يكون سبب عدم التوجّه إلى البحوث العقائديّة وعدم المبادرة إلى معرفة أصول ومباني سائر المذاهب نتيجة أسباب أخرى يشير إليها محمد الكثيري قائلا:

( لن أكون مجانباً للصواب إذا قلت بأنّ مسألة التمذهب والمذهبيّة أو الاختيارات الفقهيّة والأصوليّة، كانت قضايا مُبهمة لدينا ولدى غالبيّة الملتزمين الشباب من جيلنا.

أوّلا: لندرة الكتب التي تعالج هذه القضيّة الشائكة.

ثانيا: لعدم معرفتنا بتفاصيلها و خلفياتها التاريخيّة ونحن في بداية التحصيل العلمي الديني.

زد على ذلك خلو الساحة من أيّ تعدد مذهبي فقهي أو أصولي...

____________________

(١) محمد التيجاني السماوي/ اعرف الحق: ١٤.

(٢) معتصم سيّد أحمد/ الحقيقة الضائعة: ٣٢

٣٦

لذلك كانت معرفتنا بباقي المذاهب الفقهيّة والأصوليّة الأخرى هزيلة، بل نَكاد لا نعرف شيئاً عن المذاهب الإسلاميّة خارج إطار أهل السنّة والجماعة )(١) .

وقد يكون سبب إهمال البحث في الأمور العقائدية وعدم الالتفات إلى الاختلافات المذهبية غير ما ذكر، لأن كل إنسان قد يكون له دليل خاص به في هذا المجال.

ويقول أسعد وحيد القاسم حول أسباب عدم توجّهه نحو البحوث العقائدية والخلافات المذهبيّة قبل الاستبصار:

( ولم أكن حتى أفرق بين السني والشيعي، لأنني كنت قد غضضت نظري عن تلك الفروق التي بينهما، والتي لا تجعل بأي حال من الأحوال احدهما مسلماً والآخر كافراً، والتي لم أكن أعلم تفاصيلها، ولم أكن مستعدا حتى للتفكير فيها أو حتى البحث عنها لشعوري بعدم الحاجة إلى مثل هذه البحوث التي تطلب التنبيش في التاريخ، والدخول في متاهات قد لا تصل إلى نتيجة، وكنت مقتنعاً في ذلك الحين [قبل الاستبصار] أنّ التقصي لمعرفة مثل هذه الفروق والاختلافات هو من نوع الفتنة التي ينبغي الابتعاد عنها أو الحديث فيها )(٢) .

وقد يكون سبب عدم التوجّه إلى البحوث العقائديّة هو الجهود المكثّفة التي تبذلها بعض السلطات الحاكمة لتجهيل أبناء مجتمعاتها بأمور دينهم وإحداث حالة من الضياع الفكري والإفلاس العقائدي والانحسار الثقافي فيهم، من أجل غرس روح التبعيّة وتهيئة أرضية السيادة عليهم وتسييرهم بكل سهولة!

٣ - إنّ البعض قد يواجه عراقيل كثيرة في حياته نتيجة الأجواء التي تحيطه، أو الظروف الاقتصاديّة الصعبة التي يمرّ بها، فيمنعه ذلك من تنمية وعيه وارتقاء مستواه

____________________

(١) محمد الكثيري/ السلفيّة: ١١-١٢.

(٢) أسعد وحيد القاسم/ حقيقة الشيعة الاثنى عشريّة: ١٠.

٣٧

الفكري وإثراء رصيده المعرفي وتوسيع نطاق ثقافته، فلا تتهيّأ لديه الأرضية المناسبة للبحث العلمي والتعمّق في ظواهره وخوافيه.

وعلاج ذلك هو أن يسعى هكذا إنسان بكلّ وسعه أن يهاجر إلى البلدان التي تتوفّر فيها الأجواء المناسبة لتنمية وعيه ولهذا قال تعالى:

( إنّ الّذينَ تَوفَاهُم الملائِكةُ ظالِمِي أنفُسِهِم قالُوا فيمَ كنتُم قالُوا كُنَّا مُستَضعَفينَ في الأرضِ قالُوا ألَم تَكُن أرضُ اللَّهِ واسِعةً فتُهاجِروا فِيهَا فأولئِكَ مَأواهُم جَهنّمُ وسَآءَتْ مَصيرا * إلّا المُستَضعَفينَ مِنَ الرّجالِ والنِّسَاء والوِلْدانِ لا يَسْتَطيعُونَ حِيلةً ولا يَهتَدُونَ سَبيلاً * فأولئك عَسَى‏ اللَّهُ أنْ يَعفُوا عَنهُم وَكانَ اللَّهُ عفُوّاً غَفوراً ) (١) .

٤ - التلبّس بالعقليّة المنغلقة التي لا تحب البحث، لأنّها تخشى أن يسلب البحث منها المعتقدات التي ألفتها مدّة طويلة من الزمن.

فهؤلاء يحبذون الجمود والعكوف على الأفكار البالية، ويرجّحون البقاء على الكسل الذهني، لئلا يحلّقوا في الأجواء التي لم يألفوها من قبل.

ويمكننا أن نقول بأن الشخص الذي يوفّق للاستبصار هو الذي يتخطّى جميع هذه العقبات ويصمد إزاء كافّة التيّارات المضادّة بقوّة وعزم، ويقتحم كافّة الموانع التي يجدها أمامه ويخوض معترك البحث، بغية أن يصل إلى العقيدة التي تأخذ بيده إلى أعلى مراتب الكمال.

ولكن مع ذلك لا يمكننا إنكار المصاعب التي يواجهها هكذا شخص خلال رحلته المضنية في مجال الوصول إلى العقيدة الصحيحة التي يمكن الاطمئنان إليها والوثوق في صحّتها وصدقها، لأن الحقيقة عزيزة المنال وطريق البحث إليها شائك واجتيازه مجهد، والموقف محرج والحق مُرّ ثقيل، وتحوّل الإنسان من فكرة منتمي إليها ومؤمن بصحّتها إلى غيرها يحتاج إلى تحمّل الكثير من الجهد والعناء.

____________________

(١) النّساء: ٩٧ - ٩٩.

٣٨

ولهذا يقول التيجاني السماوي للذين يودّون توسيع دائرة معارفهم:

( وعلى الذين يريدون التوسع أن يتكبّدوا عناء البحث والتنقيب والمقارنة كما فعلت، لتكون هدايتهم بعرق الجبين وعصارة الفكر كما يطلبه اللَّه من كل واحد وما يتطلّبه الوجدان لقناعة راسخة لا تزحزحها الرّياح والعواصف.

ومن المعلوم بالضرورة أن الهداية التي تكون عن قناعة نفسيّة أفضل بكثير من التي تكون بمؤثرات خارجيّة)(١) .

ويصف إدريس الحسيني التجربة التي خاضها خلال البحث قائلاً:

( لقد قمت بكلّ ما يمكن أن يفعله باحث عن الحقيقة، ومصر على المضي في دربها الوعر.

لكن، المهمّ، أنّني وصلت إلى البداية حتى لا أقول النّهاية )(٢) .

ثم يصف ما لاقاه من معاناة خلال البحث قائلاً:

( لقد قضيت فترة في البحث قاسية يا اللَّه كم كان الأمر صعبا إنّني كنت أشعر بالانسلاخ إنّه أشبه ما يكون بالمخاض!! )(٣) .

وفي الحقيقة تكمن صعوبة البحث على الحق في المجال العقائدي، في أنّ الحقيقة لا تتم معرفتها بمجرّد معرفة نصوصها الجزئيّة، أو من خلال العثور على النصوص المتفرّقة والمتناثرة والمفصولة بعضها عن بعض، بل ينبغي إرجاع الفروع إلى الأصول والجزئيّات إلى الكلّيات والمتشابهات إلى المحكمات والظنّيات إلى القطعيّات، ليمكن الوصول إليها جميعاً على نسيج واحد يشكّل هيكليّة مترابطة تكشف الواقع والحق.

كما أنّ الكثير من الحقائق مثقلة بركام من الخلط والخبط، وليس من السهولة

____________________

(١) محمد التيجاني السماوي/ ثم اهتديت: ٩٩.

(٢) مجلّة المنبر/ العدد: ٣.

(٣) المصدر السابق.

٣٩

الحصول عليها من بين هذا الركام.

ولهذا يقول التيجاني السماوي:

( فعلى الباحث أن يرجع إلى المصادر الموثوقة، وأن يتجرّد للحقيقة فيمحّص الروايات والأحداث التاريخيّة ليكشف من خلالها الحقائق المكسوّة بثياب الباطل فيجرّدها وينظر إليها في ثوبها الأصلي )(١) .

ويقول صالح الورداني أيضاً حول تجربته في البحث:

(كان البحث عن حقيقة الإسلام وسط ركام من الأقوال والفتاوى والأحاديث وأحداث التاريخ أمراً شاقّا وعسيرا.

فمنذ أن توفّى رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وحتى اليوم علقت بالإسلام الكثير والكثير من الشوائب التي غطّت على معالمه وموّهت على حقيقته وقضت على ملامحه حتى أنّه تحوّل إلى إسلام آخر غير ذلك الإسلام الذي ورّثه الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله للأمّة.

وبدأ وكأنّ الأمر يحتاج إلى رسول جديد لبعث الإسلام مرّة أخرى.

هذا ما توصّلت إليه من خلال بحثي وقراءاتي وتجاربي الطويلة في دائرة الواقع الإسلامي بمصر والتي استمرّت أكثر من عشرين عاماً )(٢) .

وتكمن أيضاً صعوبة البحث في أنّه يتطلّب من الباحث أن يكون في موقف الحيطة والحذر من كلّ ما ألفه واعتاده في المجال العقائدي، لئلا ينجرف خلال البحث وراء خلفيته الموروثة، ليحترز من تأثير هذه الخلفيّة على تفكيره وبحثه، فهو على الدوام خلال البحث في صراع مع عواطفه وتصوّراته السابقة وموروثاته التي ألفها من قبل.

____________________

(١) محمد التيجاني السماوي/ فاسئلوا أهل الذِكر: ٢٥٧.

(٢) صالح الورداني/ الخدعة: ٤.

٤٠