نشأة الشيعة الامامية

نشأة الشيعة الامامية18%

نشأة الشيعة الامامية مؤلف:
الناشر: دار المؤرخ العربي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 318

  • البداية
  • السابق
  • 318 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 16797 / تحميل: 7269
الحجم الحجم الحجم
نشأة الشيعة الامامية

نشأة الشيعة الامامية

مؤلف:
الناشر: دار المؤرخ العربي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

٦١

بعد معرفة أنّ الأصل الأوّلي ومقتضى القاعدة الأوّليّة، هو أنّ الشارع إذا أوردً عنواناً معيّناً في دليلٍ من الأدلّة فإنّه يجب أن يبقى على معناه اللغوي.

أي أنّ كلّ دليل وردَ من الشارع يبقى على معناه اللغوي ما لم ينقله الشارع إلى الحقيقة الشرعيّة، هذا من جهة.

ومن جهةٍ أخرى، هناك أمر آخر يضيفه الأصوليّون، وهو تحقّق هذا العنوان وحصوله في الخارج.

فنحن تارة نتكلّم في مرحلة التأطير والتنظير، وفي أفق الذهن، أو في أفق اللوح باعتباره القانون، فحينئذٍ يبقى المعنى على حاله.

وتارةً نتكلّم عن مرحلة أخرى هي غير التنظير القانوني، بل هي مرحلة التطبيق في الخارج والوجود في الخارج، في هذه المرحلة أيضاً، فما لم يعبّدنا الشارع ويتصرّف في الوجود الخارجيّ لأيّ عنوان، فالأصل الأوّلي هو أن يكون وجوده ومجاله أيضاً عرفيّاً، سواء كان له وجودٌ تكويني، أو كان له وجود اعتباري لدى العرف، إلاّ أن يجعل الشارع له وجوداً خاصّاً بأن ينصب دليلاً على ذلك.

٦٢

أمثلةٌ على تحديد الوجود الخارجي للموضوع من الشارع المقدّس

مثال 1: في تحقّق الطلاق، لو قال الزوج: طلّقتُ امرأتي، أو أطلّقُكِ، أو سأُطلّقك، فكلّ هذه الصيغ لا يمضيها الشارع ولا يقرّها، وهي غير محقّقة، ولا موجّدة للطلاق، وإن كانت في العرف موجدةً له، لكن عند الشارع لا أثر لها، إلاّ أن يقول: أنتِ طالق، بلفظ اسم الفاعل المراد منه اسم المفعول.

هنا الشارع وإن لم يتصرّف في ماهيّة الطلاق ولم يتصرّف في عنوانه، بل أبقاه على معناه اللغوي، لكنّه تصرّف في كيفيّة وجوده وحصوله في الخارج.

مثال 2: الحلف لا يكون حلفاً شرعيّاً بالله، والنذر لا يكون نذراً لله إلاّ أن تأتي به بالصيغة الخاصّة، فهذا تصرّف في كيفيّة الوجود، فإن دلّ الدليل على كيفيّة تصرّف خاصّة من الشارع وفي كيفيّة الوجود، فلا يتحقّق ذلك الأمر إلاّ بها.

أمّا إذا لم يقم الدليل من الشارع على ذلك، فمقتضى القاعدة الأوّليّة أنّ وجوده يكون وجوداً عرفيّاً - تكوينيّاً كان أو اعتباريّاً - ما لم يرد دليل من الشارع لتحديد وجوده وحصوله في الخارج.

نرجع إلى محلّ البحث، لو لم يكن دليل إلاّ عموم آية( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) .

وعموم آية:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) ، وقلنا: إنّ المعنى يبقى على حاله، حيث إنّ الشارع لم يتصرّف في معناه

٦٣

اللغوي الذي هو ما يقال عنه مرحلة تقنين القانون، ولم يتصرّف أيضاً في مرحلة التطبيق الخارجي من جهة خارجيّة، فما يتّفق عليه العرف بحيث يصبح تبياناً وإضاءةً لمعنى من المعاني الدينيّة، يصبح شعيرةً وشعاراً.

ويجدر التنبيه هنا على أنّ وجودات الأشياء على قسمين:

الوجودُ التكويني والوجود الاعتباري للأشياء

القسم الأوّل: هو الوجود التكويني مثل: وجود الماء، الحجر، الشجر، الإنسان، الحيوان.

القسم الثاني: وجود غير تكويني، بل هو اعتباري - أي فرضي، ولو من العرف - مثل: البيع، فالبائع والمشتري يتّفقان على البيع بخصوصيّاته، فيتقيّدان بألفاظ الإيجاب والقبول فيها، فحينئذٍ: هذا البيع، أو الإجارة، أو الوصيّة، أو المعاملة ليس لها وجود حسّي خارجيّ؛ وإنّما وجودها بكيفيّات اعتباريّة فرضيّة في عالَم فرضي يُمثّل القانون، سواء قانون الوضع البشري، أو حتّى قانون الوضع الشرعي عند الفقهاء، إذ يحملون هذا على الاعتبار الفرضي، فهو عالَم اعتبار لمَا يتّخذه العقلاء من فرضيّات.

العقلاء يفترضون عالَماً فرضيّاً معيّناً، لوحة خاصّة بالعقلاء، لوحة القانون العقلائي.

فوجودات الأشياء على أنحاء: تارةً نَسق الوجود التكويني، وتارة نَسق الوجود الاعتباري، وإن كانت اعتبارات الشارع، وتقنينات الشارع، وفرضيّات الشارع وقوانينه، يُطلق عليها أيضاً اعتبار شرعي، ولكن من الشارع.

٦٤

خلاصةُ القول

إنّ كلّ عنوان أُخذ في دليلٍ - كالبيع، أو الهبة، أو الوصيّة، أو الشعائر، أو الطلاق، أو الزوجيّة - إذا أُبقيَ على معناه اللغوي، وأيضاً أُبقي على ما هو عليه من الوجود عند العرف فبها، غاية الأمر أنّ الوجود عند العرف ليس وجوداً تكوينيّاً، بل وجودٌ طارئ اعتباري في لوحة تقنيناتهم وفي لوحة اعتبارهم، مثلاً: حينما يقول الشارع في الآية الكريمة:( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) ليس معناه: أنّ البيع الذي هو بيع عند الشارع قد أحلّه الله ؛ لأنّ ذلك يكون تحصيل الحاصل، لأنّ البيع الذي عند الشارع هو حلال من أساسه، بل المقصود من:( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) ، وكذلك:( أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ) (2) المراد أنّ البيع والعقود التي تكون متداولة في أُفق اعتباركم أنتم أيها العقلاء قد أوجبتُ - أنا الشارع - الوفاء بها، وقد أحللتُها لكم، فإذاً قد أبقاها الشارع على ما هي عليه من وجود ومعنىً لغوي عند العقلاء والعرف.

وقد يتصرّف الشارع في بعض الموارد - كما بينّا في الطلاق - حيث يقيّدها بوجود خاص.

فحينئذٍ، يتبيّن أنّ الأشياء قد يبقيها الشارع على معناها اللغوي، ويبقي وجودها في المقام الآخر على ما هي عليه من وجود إمّا تكويني أو

____________________

(1) البقرة: 275.

(2) المائدة: 1.

٦٥

اعتباري.

ومن جهةٍ أخرى، فإنّ العلامة أو (الدال) إمّا عقليّة أو طبعيّة، أو وضعية..

فهل الشعائر أو الشعيرة هي علامة تكوينيّة، أم عقليّة، أم طبعيّة، أم هي وضعيّة؟

الشعيرةُ علامة وضعيّة

نرى أنّ الشعيرة والشعار هي علامة وضعيّة وليست عقليّة ولا طبعيّة، وهنا مفترق خطير في تحليل الماهيّة؛ للتصدّي للكثير من الإشكالات أو النظريّات التي تُقال في قاعدة الشعائر.

نقول: إنّ الشعيرة هي علامة وضعيّة، بمعنى أنّ لها نوعاً من الاقتران والربط والعلقة الاعتباريّة، فالوضع هو اعتباري وفرضي بين الشيئين.

والأمر كذلك في الأمور الدينيّة أيضاً، مثلاً كان شعار المسلمين في بدر: (يا منصور أمِت)(1) ، حيث يستحب في باب الجهاد أن يضع قائد جيش المسلمين علامة وشعاراً معيّناً للجيش.

الشعائر أو الشعارة: هي ربط اعتباري ووضع جعلي فطبيعتها عند العرف هو الاعتبار، حتّى شعار الدولة، وشعار المؤسّسات، وشعار الأندية، والوزارات..

والشركات التجارية، والفِرق الرياضيّة، لكنّ كلّ ذلك أمر اعتباري..

____________________

(1) المنصور من أسماء الله سبحانه، أمِت: يعني أمِت الكافرين.

٦٦

فهو علامة حسّيّة دالّة على معنى معيّن، لكنّ الوضع والعلقة فيه اعتباريّة.

فلابدّ من الالتفات إلى تحليلٍ أعمق لماهيّة الشعائر والشعيرة، فماهيّة الشعار والشعيرة علامة حسّيّة لمعنى من المعاني الدينيّة، ولكنّ هذه العلامة ليست تكوينيّة، ولا عقليّة، ولا طبعيّة، وإنّما هي علامة وضعيّة.

فالشعائر هي التي تفيد الإعلام، وكلّ ما يُعلِم على معنى من المعاني الدينيّة، أو يدلّ على شيء له نسبة إلى الله عزّ وجل، فإنّ هذا الإعلام والربط بين الـمَعلم والـمُعلم به، وهذا الربط هو في الماهيّة وضعي اعتباري.

فالموضوع يتحقّق بالعُلقة، والوضع الاعتباري.

وإذا كان تحقّق ماهيّة الشعائر والشعيرة بالعُلقة الوضعيّة الاعتباريّة، وافتراضنا أنّ الشارع لم يتصرّف في كيفيّة الوجود، بمعنى أنّ المتشرّعة إذا اختاروا واتّخذوا سلوكاً ما علامة لمعنى ديني معيّن، فبالتالي يكون ذلك السلوك من مصاديق الشعائر.

وكما قلنا: إنّ ماهيّة الشعائر تتجسّد في كلّ ما يوجب الإعلام والدلالة فيها وضعيّة، والواضع ليس هو الشارع ؛ لأنّه لم يتصرّف بالموضوع، فبذلك يكون الوضع قد أُجيز للعرف والعقلاء.

كما ذكرنا في البيع أنّ له ماهيّة معيّنة، وكيفيّة خاصّة حسب ما يقرِّره العقلاء، وكيفيّة وجوده اعتباريّة، وذَكرنا أنّ الشارع إن لم يتصرّف في الماهيّة والمعنى في الدليل الشرعي، ولم يتصرّف في كيفيّة الوجود، فالماهيّة تبقى على حالها عند العقلاء، بخلاف الطلاق الذي تصرّف الشارع في كيفيّة وجوده في الخارج.

٦٧

الشعائرُ ومناسك الحج

وممّا تقدّم: تبيّن خطأ عدّ مناسك الحجّ - بما هي مناسك - شعائر.

حيث إنّ الشعائر صفة عارضة لها، وليست الشعائر هي عين مناسك الحجّ كما فسّرها بعض اللغويّين.

بيان ذلك: حينما نقول مثلاً: (الإنسانُ أبيض)، هل يعني أنّ الماهيّة النوعيّة للإنسان هي البياض، كلاّ، أو حين نقول: (الإنسان قائم)، فهل يعني أنّ الماهيّة النوعيّة للإنسان هي القيام، كلاّ، إذ القيام والبياض أو السمرة أو السواد ليست ماهيّةً للإنسان، وإنّما هذه عوارض قد تعرض على الماهيّة وقد تزول عنها.

إنّ كُنه الإنسان وماهيّته بشيء آخر، لا بهذه العوارض، وكذلك مناسك الحجّ، إذ ليست ماهيّة المنسك هي الشعار، بل الشِعار هو ما يكمُن وينطوي فيه جنبة الإعلام والعلانيّة لشيء من الأشياء.

مثال آخر: لفظة (زيد) كنهها ليس أنّها سِمة لهذا الإنسان، كُنهها: هو صوت متموّج يتركّب من حروف معيّنة، نعم، من عوارضها الطارئة عليها أنّها سِمة واسم وعلامة لهذا الإنسان، وهذا من عوارضها الاعتباريّة لا الحقيقيّة، حيث إنّها علامة على ذلك الجسم.

إذاً جنبة العلاميّة لون عارض على أعمال الحج، أو على العبادات، أو على الموارد الأخرى، لا أنّها عين كنه أعمال الحج، وليس كون الشعائر هي نفس العباديّة، ولا كون العباديّة هي الشعائر.

أمّا كيف يسمح الشارع في أن يتصرّف العرف بوضع الشعائر أو غير ذلك، فهذا ما سنقف عليه لاحقاً إن شاء الله تعالى.

٦٨

الترخيصُ في جَعل الشعائر بيد العُرف

إنّ الشارع حينما لا يتصرّف في معنى معيّن، ولا في وجوده في الخارج، فهل يعني هذا تسويغاً من الشارع في أن يتّخذ العرف والعقلاء ما شاءوا من علامة لمعاني الدين وبشكلٍ مطلق؟ أم هناك حدود وقيود، وما الدليل على ذلك؟

هل اتّخاذ المسلمين لهذه المعالِم الحسّيّة مَعلماً وشعاراً، سواء كانت مَعالم جغرافيّة: كموقع بدر، وغدير خمّ، أو مَعلماً زمنيّاً: كمولد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهجرته، وتواريخ الوقائع المهمّة، أو مَعلماً آخر غير زماني ولا مكاني، كأن يكون ممارسةً فعليّة، هل هذا فيه ترخيص من الشارع أم لا؟

للإجابة على هذا السؤال المهمّ لابدّ من تحرير النقاط التالية:

النقطة الأولى: وهذه هي جهة الموضوع في قاعدة الشعائر الدينيّة، وهي: أنّ العناوين التي ترد في لسان الشارع إذا لم يرد دليل آخر يدلّ على نقلها من الوضع اللغوي إلى الوضع الجديد والمعنى الجديد، فهي تبقى على حالها، وعلى معانيها الأوّليّة اللغويّة.

النقطة الثانية: أنّ تحقّق تلك الموضوعات وكيفيّة وجودها في الخارج، إن كان الشارع صرّح وتصرّف بها فنأخذ بذلك، وإلاّ فإنّها ينبغي أن تبقى على كيفيّة وجودها العرفي أو التكويني.

النقطة الثالثة: أنّ وجودات الأشياء على نسقَين:

( أ ) بعض الوجودات وجودات تكوينيّة.

٦٩

(ب) وبعض الوجودات وجودات اعتباريّة.

وقد أشرنا سابقاً لذلك، ولكن لزيادة التوضيح نقول: إنّ عناوين أغلب المعاملات وجودها اعتباري: كالبيع، والإجارة، والهبة، والوصيّة، والطلاق، والنكاح وما شابه ذلك، كلّ هذه العناوين كانت وجودات لدى العرف والعقلاء( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ... ) ،( أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ... ) وغيرها من العناوين.

فآية:( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ... ) لسانٌ شرعي وقضيّة شرعيّة تتضمّن حكماً شرعيّاً وهو الحلّيّة، بمعنى حلّيّة البيع وصحّته وجوازه، ولم يتصرّف الشارع بماهيّة البيع، ولا بكيفيّة وجوده، إلاّ ما استُثني(1) ، فكيفيّة وجوده عند العرف والعقلاء تكون معتبرة، فما يصدق عليه وما يسمّى وما يطلق عليه (بيع) في عرف العقلاء جُعل موضوعاً لقضيّة شرعيّة، وهي حلّيّة ذلك البيع، وإلاّ فإنّ هذا الدليل( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ... ) ليس المقصود منه البيع الشرعي، إذ البيع الشرعيّ أحلّه الله، ولو كان البيع المراد في هذا اللسان هو البيع الشرعي، لمَا كان هناك معنىً لحلّيّته؛ لأنّه سوف يكون تحصيلاً للحاصل، البيع الشرعي إذا كان شرعيّاً فهو حلال بذاته، فكيف يُرتّب عليه الشارع حكماً زائداً وهو الحلّيّة.

فلسان الأدلّة الشرعيّة - والتي وردت فيها عناوين معيّنة - إذا لم يتصرّف الشارع بها ولم يتعبّد بدلالة زائدة، تبقى على ما هي عليه من المعاني

____________________

(1) مثل: حُرمة وفساد بيع المكيل والموزون بجنسه مع التفاضل؛ لأنّه ربا، ومثل: بطلان بيع الكالئ بالكالئ وغيرها.

٧٠

الأوّليّة، وتبقى على ما هي عليه عند عُرف العقلاء.

حينئذٍ يأتي البيان المزبور في لفظة (الشعائر) الواردة في عموم الآيات:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) (1) أو:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ.. ) (2) وقد مرّ بنا أنّ ماهيّة الشعيرة، أو الشعائر التي هي بمعنى العلامة إذا أُضيفت إلى الله عزّ وجل، أو أُضيفت إلى الدين الإسلامي، أو أُضيفت إلى باب من أبواب الشريعة، فإنّها تعني علامة ذلك الباب، أو علامة أمر الله، أو علامة أحكام الله وما شابه ذلك.

والعلامة - كما ذكرنا - ليست عين المنسك، وليست عين العبادة، وليست عين الأحكام الأخرى في الأبواب المختلفة؛ وإنّما العلامة أو الإعلام شيء طارئ زائد على هذه الأمور، كاللون الذي يكون عارضاً وطارئاً على الأشياء، فيكون طارئاً على العبادة، أو المنسك، أو الحُكم المعيّن.

فجنبة الإعلام والنشر في ذلك الحُكم، أو في تلك العبادة، أو ذلك المنسك، تتمثّل بالشعيرة والشعائر، وبهذا النحو أيضاً تُستعمل في شعائر الدولة أو شعائر المؤسّسة والوزارة - مثلاً - فهي ليست جزءاً من أجزاء الوزارة أو المؤسّسة مثلاً، وإنّما هي علامةٌ عليها.

فالنتيجة: أنّ الشعيرة والشعائر والشِعار تبقى على حالها دون تغيير في كلا الصعيدين: صعيد المعنى اللغوي، وصعيد كيفيّة الوجود في الخارج.

____________________

(1) المائدة: 2.

(2) الحجّ: 32.

(1) الحجّ: 36.

٧١

فإطلاق الشعائر على مناسك الحجّ ليس من جهة وجودها التكويني أو الطبعي، بل من جهة الجعل والاتّخاذ من الله عزّ وجل:( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) (1) يعني: باتّخاذ وضعي واعتباري أصبحت علامة ونبراساً للدين.

هذه الشعائر في مناسك الحج، جُعلت - بالوضع والاعتبار - علامةً للدين، ولعلوّ الدين، ولرقيّه وانتشاره وعزّته ونشر أحكامه.

بعد هذا البسط يتّضح من ماهيّة الشعيرة ومن وجود الشعيرة، أنّ وجودها ليس تكوينيّاً، والمقصود ليس نفي تكوينيّة وجود ذات الشعيرة، بل إنّ تَعَنون الشيء بأنّه شعيرة وجعله علامة على شيء آخر تَعنونه هذا، وجعله كذلك ليس تكوينيّاً بل اعتباريّاً، وإلاّ فالبُدن هي من الإبل، ووجودها تكويني.

ولكن كونها شعيرة وعلامة على حُكم من أحكام الدين، أو على عزّة الإسلام شيء اعتباري، نظير بقيّة الدلالات التي تدلّ على مدلولات أخرى بالاعتبار والجعل.

فالشعائر وإن كانت وجودات في أنفسها تكوينيّة، ولكن عُلقتها ودلالتها على المعاني اتّخاذيّة واعتباريّة، بواسطة عُلقة وضعيّة ربطيّة اعتباريّة، هذا من جهة وجودها.

ومن جهةٍ أخرى، فقد دلّلنا على أنّ الشعائر والشعيرة تكون بحسب ما تُضاف إليه، كما قد يتّخذ المسلمون الشعائر في الحرب مثلاً، كما وردَ

____________________

(1) الحجّ: 36.

٧٢

دليل خاص في باب الجهاد على استحباب اتّخاذ المسلمين شعاراً لهم، مثل ما اتّخذه المسلمون في غزوة بدر، وهو شعار: (يا منصور أمِت).

فالمقصود إذا لم يرد لدينا دليل خاصّ على التصرّف في معنى الشعائر أو الشعيرة - التي هي بمعنى العلامة كما ذكرنا - فإنّه يبقى على معناه اللغوي الأوّلي.

الوجودُ الاعتباري للشعيرة

وكذلك في الوجود الخارجي، إذ المفروض أنّ المتشرّعة إذا اتّخذوا شيئاً ما كشعيرة، يعني علامة على معنى ديني سامي، معنىً من المعاني الدينيّة السامية، أو حكماً من الأحكام العالية، وجعلوا له علامة، شعيرة وشِعار وشعائر. فالمفروض جَعل ذلك بما هي شعيرة لا بما هي هي، أي: بوجودها النفسي، لكن بما هي شعيرة، (كاللفظ بما هو دال على المعنى، لا يكون دالاً على المعنى إلاّ بالوضع..) فالشعيرة بما هي شعيرة، أي بما هي علامة دالّة على معنى سامي من المعاني الدينيّة، وتشير بما هي علامة على حُكم من الأحكام الدينيّة الركنيّة مثلاً، أو الأصليّة وهي دلالة اعتباريّة اتّخاذيّة وضعيّة.

وهذا يعني أنّها مجعولة في ذهن الجاعل، وبالتبادل وبالاتفاق تصبح شيئاً فشيئاً شعيرة وشِعار، مثل ما يجري في العرف بأن يضعوا للمنطقة الفلانيّة اسماً معيّناً مثلاً، وبكثرة الاستعمال شيئاً فشيئاً ينتشر بينهم ذلك الاسم فيتواضعون عليه، ويتعارف بينهم أنّ هذه المنطقة تُعرف باسم كذا، ويحصل الاستئناس في استعمال اللفظ في ذلك المعنى، فينتشر ويتداول، فحينئذٍ يكون اللفظ المخصوص له دلالة على المعنى المعيّن دلالةً وضعيّةً.

٧٣

خلاصةُ القول

إلى هنا عرفنا أنّ في آية:( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) (1) ، وآية:( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (2) ثلاثة مَحاور:

محور الحُكم، ومحور المتعلّق، ومحور الموضوع.

فنقول: لو كنّا نحن ومقتضى القاعدة، لو كنّا نحن وهاتين الآيتين الشريفتين فقط وفقط فحينئذٍ، نقول: إنّ المعنى لشعائر الله - كالزوال، وكدِلوك الشمس - بقيَ على ما هو عليه في المعنى، ووجوده أيضاً على ما هو عليه من وجود، وقد بيّنّا في كيفيّة وجوده أنّها ليست تكوينيّة، بل هي وضعيّة واعتباريّة واتخاذيّة، كما في آية( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ... ) نبقيه على ما هو عليه من معنى، ونُبقيه على ما هو عليه من وجود، ووجوده هو وجود اعتباري لدى العقلاء.

وكذلك الأمر في شعائر الله، حيث هناك موارد قد تصرَّف فيها الشارع بنفسه وجعلَ شيئاً ما علامة، وغاية هذا التصرّف هو جعل أحد مصاديق الشعائر، كالمناسك في الحجّ.

وهناك موارد لم يتصرّف الشارع بها ولم يتّخذ بخصوصها علامات معيّنة.

وإنّما اتّخذ المتشرِّعة والمكلّفون شيئاً فشيئاً فعلاً من الأفعال - مثلاً -

____________________

(1) المائدة: 2.

(2) سورة الحج: 32.

٧٤

علامة وشعاراً على معنى من المعاني الإسلاميّة، فتلك الموارد يشملها عموم الآية:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (1) ، وكذلك يشملها عموم:( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) (2) .

فلو كنّا نحن وهاتين الآيتين فقط، يتقرّر أنّ معنى الشعائر ووجودها هو اتّخاذي بحسب اتّخاذ العرف.

لكن قبل أن يتّخذها العرف شعيرة ومشاعر، وقبل أن يتواضع عليها العرف، والمتشرِّعة والعقلاء والمكلّفون لا تكون شعيرة، وإنّما تتحقّق شعيريّتها بعد أن تتفشّى وتنتشر ويتداول استعمالها، فتصبح رسماً شعيرة وشعائر، ويشملها عموم( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) ، و( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ... ) .

فالمفروض أنّ المعنى اللغوي لشعائر الله، هو معنىً عام طُبّق في آية سورة المائدة، أو في آية سورة الحجّ على مناسك الحجّ.

ولكن لم تُحصر الشعائر بمناسك الحجّ، بل الآية الكريمة دالّة على عدمه:( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) (3) ، و (من) دالّة على التبعيض والتعميم.

فإذن، اللفظ حسب معناه اللغوي عام، ونفس السياق - الذي هو سياق تطبيقي - ليس من أدوات الحصر، كما ذكرَ علماء البلاغة ؛ فإنّهم لم يجعلوا

____________________

(1) الحجّ: 32.

(2) المائدة: 2.

(3) الحج: 36.

٧٥

تطبيق العام على المصداق من أدوات الحصر.

بل عُلّل تعظيم مناسك الحج لكونها من الشعائر، فيكون من باب تطبيق العام على أفراده، وذَكرنا أنّ أغلب علماء الإماميّة - من مفسّريهم، وفقهائهم، ومحدّثيهم - ذَهبوا في فتاواهم وتفاسيرهم إلى عموم الآية لا إلى خصوصها، ومنهم: الشيخ الطوسي في التبيان، حيث ذَكر أقوالاً كثيرة نقلاً عن علماء العامّة، ثُمّ بعد ذلك ذهب إلى أقوائيّة عموم الآية، وإنّه لا دليل على تخصيصها.

كما أنّ هناك دليلاً على ذلك من الآية الشريفة( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) (1) ، حيث إنّ من الواضح أنّ حُرمات الله أعمّ من حُرمات الحجّ، هنا الموضوع للحُكم هو مُطلق حُرمات الله، وكذلك الأمر بالنسبة لشعائر الله في الآية الأخرى.

فإذن لو كنّا نحن ومقتضى هاتين الآيتين، فهاتان الآيتان - بحسب معناهما اللغوي، وبحسب وجودهما بين العقلاء وعُرف المكلّفين - وجودهما اعتباري اتّخاذي، ولو من قِبَل المتشرِّعة.

هذا الكلام بحسب اللسان الأوّلي في أدلّة الشعائر وقاعدة الشعائر، أمّا بحسب اللسان الإلزامي، فالأمر أوضح بكثير كما سنتعرّض إليه.

الاعتراضُ بتوقيفيّة الشعائر

في مقابل ذلك، أدُّعي وجود أدلّة تُثبت اختصاص جعل الشعائر بيد

____________________

(1) الحج: 30.

٧٦

الشارع المقدّس من حيث تطبيق وجودها، كما أنّ الشارع حينما جعل البيع، صار له وجود وكيفيّة خاصّة، وهو ذلك الوجود الذي رتّب عليه الحلّيّة، وأخذَ فيه قيوداً معيّنة.

ويقرِّر ذلك بعينه في بحث الشعائر، كما هو الحال في الطلاق، حيث إنّ الشارع جعلَ له كيفيّة وجود خاصّة.

فالشعائر لابد أن تُتّخذ وتُجعل من قِبَل الشارع، ومن ثُمّ يَحرم انتهاكها، أمّا مجرّد اتّخاذها - والتعارف عليها والتراضي بها من قِبَل العرف والعقلاء - لا يجعلها شعيرة ولا يترتّب عليها الحُكم، أي: وجوب التعظيم وحرمة الهتك.

أدلّةُ المُعترض:

الأوّل: باعتبار أنّ الشعائر تعني أوامر الله، ونواهي الله، وأحكام الله، فلابدّ أن تكون الشعائر من الله، فكيف يوكَّل تشريعها غير الله سبحانه( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ) (1) .

الثاني: ما في الآية من سورة الحجّ( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) (2) من كونها شعائر الله، إنّما هو بجعل الشارع لا بجعل المتشرِّعة.

وآية( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) (3) ، وآية:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ

____________________

(1) الأنعام: 57.

(2) الحج: 36.

(3) المائدة: 2.

٧٧

فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) (1) ترتبط كلّ منها بموارد مناسك الحجّ، ومناسك الحجّ مجعولة بجعل الشارع.

فالحاصل أنّ ألفاظ الآيات ظاهرة في أنّ جعل الشعائر إنّما هو جعل من الله، وليس هو جعل وإنشاءٌ واتخاذٌ حسب قريحة واختيار المتشرِّعة.

الثالث: لو كانت الشعائر بيد العرف لاتّسع هذا الباب وترامى، ولمَا حُدّ بحدّ، بحيث يُعطى الزمام للعرف وللمتشرِّعة بأن يجعلوا لأنفسهم شعائر كيف ما اختاروا واقترحوا، وبالتالي سوف تطرأ على الدين تشريعات جديدة وأحكام مستحدَثة ورسوم وطقوس متعدّدة، حسب ما يراه العرف والمتشرِّعة، فتُجعل شعائر دينيّة.

فإيكال الشعائر إلى العرف والمتشرّعة وإلى عامّة الناس المتديّنين، سوف يستلزم إنشاء تشريع دين جديد وفقَ ما تُمليه عليهم رغباتهم وخلفيّاتهم الذهنيّة والاجتماعيّة.

الرابع: يلزم من ذلك تحليل الحرام، وتحريم الحلال، حيث سيتّخذون بعض ما هو محرّم شعائر فيجعلونها عَلَماً وعلامة على أمر ديني، وهذا تحليل للحرام، أو قد يجعلون لأشياء محلّلة حرمة معيّنة مثلاً ؛ لأنّها إذا اتُّخذت شعيرة وعُظِّمت فسوف يُجعل لها حرمة، مع أنّ حكمها في الأصل كان جواز الإحلال والابتذال.

أمّا بعد اتّخاذها شعيرة فقد أصبح ابتذالها حراماً وتعظيمها واجباً، فيلزم من ذلك تحريم الحلال.

____________________

(1) الحج: 30.

٧٨

جوابُ الاعتراض:

والجواب تارةً إجمالاً وأخرى تفصيلاً.. أمّا الجواب الإجمالي: فهو وجود طائفة الأدلّة من النوع الثاني والثالث، حيث مرّ أنّ لقاعدة الشعائر الدينيّة ثلاثة أنواع من الأدلّة:(1)

النوع الأول: لسان الآيات التي وردت فيها نفس لفظة الشعيرة والشعائر.

النوع الثاني: لسان آخر، وهو ظاهر الآيات التي وردت في وجوب نشر الدين، وإعلاء كلمة الله سبحانه، وبثّ الشريعة السمحاء.

وقد قلنا: إنّ قاعدة الشعائر الدينيّة تتقوّم برُكنين:

ركن الإعلام والنشر والبثّ، والانتشار لتلك العلامة الدينيّة ولِذيها.

وركن علوّ الدين واعتزازه، وهذا اللسان نلاحظه في جميع الألسن لبيان القاعدة، سواء كان في اللسان الأوّل الذي وردت فيه بلفظ الشعائر، أو في اللسان الثاني الذي لم يرد فيه لفظ الشعائر.

النوع الثالث : أو اللسان الثالث من الأدلّة: الذي ذكرنا بأنّه العناوين الخاصّة في الألفاظ الخاصّة.

فلو بنينا على نظريّة هذا المعترض؛ فإننّا لن ننتهي إلى النتيجة التي يتوخّاها بأنّ الشعائر حقيقة شرعيّة، أو وجودها حقيقة شرعيّة، لأنّ النتيجة

____________________

(1) راجع ص: 31 - 38 من هذا الكتاب.

٧٩

التي يريد أن يتوصّل إليها هي الحكم ببدعيّة كثير من الرسوم والطقوس التي تمارَس باسم الشعائر الدينيّة المستجدّة والمستحدَثة، وهذه النتيجة سوف لا يصل إليها حتّى لو سلّمنا بأنّ الشعائر الدينيّة هي بوضع الشارع وبتدخّله؛ لعدم انسجام ذلك مع النَمَطين الأخيرين من لسان أدلّ الشعائر، والوجه في ذلك يتّضح بتقرير الجواب التفصيلي على إشكالات المعترِض.

الجوابُ التفصيلي الأوّل

يتمّ بيانه عبر ثلاث نقاط:

النقطة الأولى: تعلّق الأوامر بطبيعة الكلّي

ما ذكرهُ علماء الأصول: من أنّ الشارع إذا أمرَ بفعل كلّي، مثل: الأمر بالصلاة( أَقِيمُواْ الصَّلاَةَ ) (1) ، أو الأمر بعتق رقبة، أو الاعتكاف، ولم يُخصِّص ذلك الفعل بزمن معيّن، أو بمكان معيّن، أو بعوامل معيّنة؛ وإنّما أمرَ بهذه الطبيعة على حدودها الكلّيّة، كأن يأمر الشارع مثلاً بصلاة الظهرين بين الحدّين، أي: بين الزوال والغروب، فالمكلّف يختار الصلاة في أيّ فردٍ زمني من هذه الأفراد، وإن كان بعض الأفراد له فضيلة، إلاّ أنّ المكلّف مُفوّض في إيجاد طبيعة الصلاة، وماهيّة الصلاة، وفعل الصلاة في أيّ فرد شاء، وفي أيّ آنٍ من الآنات بين الزوال والغروب، سواء في أوّل الوقت، أو وسط الوقت، أو آخر الوقت، كما أنّه مفوّض ومخيّر في إيقاع الصلاة في هذا المسجد، أو في ذلك المسجد، أو في منزل، جماعة أو فرادى، وبعبارة

____________________

(1) البقرة: 43، 83، 110.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

مثله، وأنّه كان في بني إسرائيل التابوت فيه بقيّة ممَّا ترك آل موسى وآل هارون، وأنّ هذا فينا مِثل التابوت، وقامت السبأيّة ورفعوا أيديهم وكبّروا ثلاثاً )(١) .

فيظهر أنّ السبأيّة كانت مُلتفّة حول المـُختار، حتّى أنّ أتباع المـُختار كانوا يُسمّون السبأيّة، وفي ذلك يقول أعشى همدان:

شهــدتُّ عليــكم أنـّكم سبئيـّةٌ

وأنّي بكم يـا شرطـة الشِرك عارفُ

وأقسـم مـا كـُـرسيّكـم بسكينـةٍ

وإنْ كـان قـد لفـّت عليـه اللفائف

وأنْ ليس في التابوت فينا وإنْ سعت

شبـام حـواليه ونهـد وخارف (٢)

وهكذا فالكيسانيّة فِرقَةٌ جديدةٌ من فِرَق الشيعة، إلاّ أنّها لا تُعدُّ ضِمن الشيعة الذين قالوا بإمامة عليٍّ والحسن والحسين وأبناء الحسين؛ لأنّها أخرجت الإمامة إلى محمّد بن الحنفيّة، كما أنّها جاءت بمبادئ كمبادئ السبأيّة أو الغلاة، وهؤلاء خارج نطاق الخطّ الشيعي الذي نحن بصدده.

ولعلّ هذا السبب الذي دعا الرازي لأنْ يعدّ الكيسانيّة مِن الغُلاة، فقال: ( ومِن السبأيّة انبعثت أصناف الغلاة، وتفرّقوا بالمقالات، ومنهم أصناف الكيسانيّة، منهم: البيانيّة أتباع بيان، والنهديّة أتباع صائد النهدي، والهاشمية )(٣) .

وقد جاءت الكيسانيّة بآراء مُختلفة ولم تقتصر دعواتها إلى محمّد بن الحنفيّة فقط، وإنّما دعا بعض أتباع هذه الفِرَق إلى أنفسهم، كما يظهر ذلك مِن دعوة حمزة بن عمارة البربري، حيث ادّعى أنّه نبيٌّ، وأنّ محمّد بن الحنفيّة هو الله، وأنّه الإمام فتبعه بيان وبرئت منه الشيعة(٤) .

إلاّ أنّ أهمّ فِرقة مِن الكيسانيّة هي الفرقة التي أقرّت بموت محمّد بن الحنفيّة، وقالت: ( إنّ محمّد بن الحنفيّة مات والإمام بعده عبد الله بن

____________________

(١) الطبري: تاريخ الرُسل والمـُلوك ج٦ ص ٨٢.

(٢) ن. م ج٦ ص ٨٣.

(٣) الرازي: الزينة، الورقة ٢٤٨.

(٤) النوبختي: فِرَق الشيعة ص ٢٠.

١٦١

محمّد ابنه، وكان يُكنّى أبا هاشم، وهو أكبر ولده وإليه أوصى أبوه، فسُمّيت هذه الفِرقَة الهاشميّة بأبي هاشم )(١) .

فأبو هاشم هو وصيّ محمّد بن الحنفيّة؛ لذلك قالت الكيسانيّة: إنّ الإمامة جرتْ في علي ثمّ في الحسن ثمّ في الحسين ثمّ في ابن الحنفيّة، ومعنى ذلك أنّ روح الله صارت في النبيّ وروح النبيّ صارت في عليّ وروح عليّ صارت في الحسن وروح الحسن صارت في الحسين وروح الحُسين صارت في محمّد بن الحنفيّة وروح ابن الحنفيّة صارت في ابنه أبي هاشم(٢) .

كما قالوا: ( إنّه أفضى إليه بأسرار العُلوم وأطلعه على مناهج تطبيق الآفاق على الأنفس، وتقدير التنزيل على التأويل، وتصوير الظاهر على الباطن، وقالوا: إنّ لكلّ ظاهراً باطناً، ولكلّ تنزيل تأويل وهو العِلم الذي استأثر عليّ به ابنه محمّد وهو أفضى بذلك السرّ إلى ابنه أبي هاشم، وكلّ مَن اجتمع له هذا العِلم فهو الإمام حقّاً )(٣) .

ودعوة الغلوّ في الأئمّة ليست جديدة، فقد ظهرتْ أيّام عليّ وأيّام أبنائه، كما ظهرتْ في أيّام محمّد بن الحنفيّة، ولكنّهم تبرّؤوا منها كما مرّ بنا.

ويظهر أنّ الأمر قد اختلف في أيّام أبي هاشم، فيرى الدوري: ( أنّ أبا هاشم كان طموحاً فحاول الاستفادة من هذه الآراء )(٤) .

ويذكر ابن عبد ربّه أنّه قام بأمر الشيعة، وأنّهم كانوا يأتونه ويقوم بأمرهم ويؤدّون إليه الخَراج(٥) .

وتَرِد هُنا كلمة شيعة، والمقصود بها هُنا ليست الجماعة التي شايعت عليّاً وقدّمته على سائر أصحاب الرسول، وإنّما الجماعة التي أخرجت

____________________

(١) النوبختي: فِرَق الشيعة ص ٢٧.

(٢) سعد القُمّي: المقالات والفِرَق ص ٢٦.

(٣) الشهرستاني: المِلَل والنِحَل ج١ ص ٢٤٣.

(٤) الدوري: العصر العبّاسي الأوّل ص ٢٠.

(٥) ابن عبد ربّه: العُقد الفَريد ج٣ ص ١٩٤.

١٦٢

الإمامة مِن أبناء عليّ إلى غيرهم، وجاءت بآراء غريبةٍ عن الشيعة كما فعل الكيسانيّة، ثمّ أطلقت هذه اللفظة على شيعة بني العبّاس كما سنرى ذلك.

ويبدو ممّا يرويه صاحب أخبار العبّاس أنّ هُناك جماعةٌ أو شيعة لأبي هاشم تأتمّ به، فقد ذكرَ أنّ أبا هاشم قدم على الوليد بسبب نزاعه مع زيد بن الحسن، فوشى زيد بن الحسن بأبي هاشم وقال: إنّ له شيعةٌ مِن أصحاب المـُختار يأتمون به ويحملون إليه صدقاتهم فحبسه الوليد(١) .

وقد توسّط عليّ بن الحسين ( زين العابدين ) عند الوليد فأطَلق أبا هاشم وقَرّب منزلته منه(٢) .

وهناك روايات تُفيد أنّ أبا هاشم وفدَ على سُليمان بن عبد المـَلك، وأنّ سُليمان خافَ منه فدسّ له السُمّ(٣) .

فلمّا مات أبو هاشم افترق أصحابه إلى عِدّة فِرَق، منها مَن قال إنّ عبد الله مات وأوصى إلى أخيه عليّ بن محمّد بن الحنفيّة(٤) .

وأُخرى قالت: أوصى إلى عبد الله بن مُعاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب(٥) .

وقالت فِرقَةٌ من أتباع أبي هاشم: إنّه أوصى إلى محمّد بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس بن عبد المطلب؛ لأنّه مات عنده بأرض الشراة بالشام، وأنّه دفعَ الوصيّة إلى أبيه عليّ بن عبد الله بن العبّاس لصِغَر سنّ محمّد بن علي عند وفاة أبي هاشم، وأمره أنْ يدفعها إليه(٦) .

فنُلاحظ أنّه مِن هُنا بدأ التحوّل في الإمامة إلى آل العبّاس، وكانت هذه حجّة بني العبّاس في انتقال الإمامة إليهم.

____________________

(١) مُؤلّف مجهول: أخبار العبّاس الورقة ٧٩ أ.

(٢) ن. م الورقة ٢٨٠ ب.

(٣) اليعقوبي ج٣ ص ٤٠، الأصفهاني: المقاتل ص ١٢٦، أخبار العبّاس الورقة ٨٤ ب.

(٤) سعد القُمّي: المقالات والفِرَق ص ٣٨.

(٥) سعد القُمّي: المقالات والفِرَق ص ٣٩.

(٦) النوبختي: فِرَق الشيعة ص ٢٩.

١٦٣

ويذكر البلاذري: لمـّا سُمّ أبو هاشم وهو في طريقه إلى الحجاز عَدل إلى محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس بالحميمة، فأوصى إليه وجَمعَ بينه وبين قومٍ مِن الشيعة وأعطاه كُتبه، فقالت الشيعة: ( قد زالت الشبهة وصرح اليقين بأنّك الإمام، وأنّ الخلافة في وُلدك، فمال إليه الناس وثبتوا على إمامته وإمامة وُلده(١) .

فالمقصود بالشيعة هُنا: الشيعة الهاشميّة التي قالت بانتقال الإمامة مِن أبي هاشم إلى محمّد بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس، وقد ظلّ اسمهم هذا فترةً مِن الزمن، وكان محمّد بن عليّ أوّل عبّاسيّ اعتبرته الهاشميّة شيعة أبي هاشم إماماً(٢) .

ويبدو ممّا مرّ أنّ أبا هاشم توفّي ولا عَقب له(٣) .

ويبدو أنّ الصِلة بين أبي هاشم ومحمّد بن عليّ كانت وثيقة جدّاً، فقد اتّصل محمّد بن عليّ بأبي هاشم، وكَتب عنه العِلم وصار تلميذاً أميناً له، حتّى أنّه إذا قام أبو هاشم يركب أخذ له بالرِكاب(٤) .

كما يذكر صاحب أخبار العبّاس أنّه بعد وفاة أبي هاشم اشتدّ وَجدُ محمّد بن عليّ عليه، وظهر ذلك في وجهه ولمـّا سُئل عن سبب جَزَعه، قال: ( إنّ أبا هاشم كان رجلاً مِن وُلد علي، وكان يتقدّم أهلي جميعاً في شدّة وِدّه ولي وتعظيمه إيّاي )(٥) .

وقبل وفاة أبي هاشم دفع إلى محمّد بن عليّ الصحيفة الصفراء، وهذه الصحيفة كانت لعليّ بن أبي طالب، ثمّ أخذها محمّد بن الحنفيّة مِن أخَوَيه الحسن والحسين لتكون حصّته مِن عِلم أبيه ظن، فلمّا حضرته الوفاة دفعها إلى ابنه أبي هاشم، وفيها ( عِلم رايات خُراسان السوداء، متى تكون وكيف تكون ومتى تقوم ومتى زمانها وعلاماتها وآياتها وأيّ أحياء

____________________

(١) البلاذري: أنساب الأشراف ج٣ الورقة ٦٦ أ.

(٢) أخبار العبّاس الورقة ٧٥ ب.

(٣) البخاري: سرّ السلسلة العلويّة ص ٨٥.

(٤) أخبار العبّاس الورقة ٧٨ ب.

(٥) أخبر العبّاس الورقة ٨٧ أ.

١٦٤

العرب أنصارهم وأسماء رجال يقومون بذلك وكيف صفتهم وصفة رجالهم وأتباعهم )(١) .

وقد ذكر صاحب أخبار العبّاس وصيّة أبي هاشم إلى محمّد بن علي، فذكر أنّ أبا هاشم أخرج مَن كان في الدار معهما، ثمّ قال له: ( يا أخي أوصيك بتقوى الله ...، ومِن بعد ذلك، فإنّ هذا الأمر الذي تطلبه وتسعى في طلبه وسعوا فيه فيك وفي وُلدك، حدّثني أبي أنّ علياً قال: ( يا بنيَّ لا تسفكوا دماءكم فيما لم يُقدّر لكم بعدي، فإنّ هذا الأمر كائن بعدكم ببني عمّكم مِن وُلد عبد الله بن عبّاس )(٢) .

ثمّ دعا أبو هاشم أتباعه، وقال لهم: ( وهذا صاحبكم - محمّد بن علي - فاتمّوا به وأطيعوه ترشدوا، فقد تناهت الوصايا إليه )(٣) .

وبهذا صار محمّد بن علي ( مُرشّحاً للإمامة، واستقر الأمر حين أُعطي الصحيفة الصفراء أو صحيفة العِلم الباطن )(٤) .

ويذكر الشهرستاني أنّ الهاشميّة تعتقد بالتأويل، وأنّ عِلم الباطن انتقل من عليّ إلى محمّد بن الحنفيّة ومِنه إلى أبي هاشم، ( وكلّ مَن اجتمع فيه هذا العِلم فهو الإمام حقّاً )(٥) .

وهكذا يظهر أنّ انتقال الإمامة كان بسببُ العِلم والبُنوّة الروحيّة(٦) ، وعلى أثر هذا العهد دُعي محمّد بن علي إماماً سَنة ٩٨ هـ(٧) .

وقد لَعِب محمّد بن علي دوراً كبيراً في تنظيم الدعوة العبّاسيّة، فيذكر الدينوري أنّه أوّل مَن قام بالأمر وبثّ دُعاته بالآفاق(٨) .

____________________

(١) أخبار العبّاس الورقة ٨٤ ب.

(٢) ن. م الورقة ٨٥ ب.

(٣) أخبار العبّاس الورقة ٧٩ ب.

(٤) الدوري: ضوء جديد على الدعوة العبّاسية، مقالة في مجلّة كُلّية الآداب والعُلوم العَدد الثاني ١٩٥٧ ص ٦٨.

(٥) الشهرستاني: المِلَل والنِحَل ج١ ص ٢٤٣.

(٦) ن. م ج١ ص ٢٤٣.

(٧) أخبار العبّاس الورقة ٧٥ ب.

(٨) الدينوري: الأخبار الطِوال ص ٣٣٢ - ٣٣٣.

١٦٥

وقد ابتدأ محمّد بن علي بدعوة شيعته الجديدة ( أتباع أبي هاشم )، ثمّ أخذ يستعدّ لنشر دعوته، وقد اقتصرت الدعوة على الكوفة في أوّل الأمر، حتّى مرّت سنة ١٠٠ هـ ولم يتجاوز عدد الأتباع ٣٠ رجلاً(١) .

وبالرغم من أنّ الدعوة ابتدأت من الكوفة إلاّ أنّه كما يبدو من كلام محمّد بن علي للدُعاة - ( ولا تُكثروا من أهل الكوفة، ولا تقبلوا منهم إلاّ النيّات الصحيحة ) - أنّ الكوفة لم تكن المـَحلّ المـُناسب لنشر الدعوة لمـُيولها العلويّة(٢) .

لذلك فقد اتّجهت النيّة بعد سنة ١٠٠ هـ إلى خُراسان(٣) ، وأوصاهم، قال: ( إنّه مُحرّم عليكم أنْ تشهروا سيفاً على عدوّكم، كُفّوا أيديكم حتى يُؤذَن لكم )؛ لذلك سُمّي الأتباع الكفّيّة(٤) .

وهكذا كان اختيار خُراسان حَدثاً فاصلاً في الدعوة، ولعلّ هذا يُفسّر اضطراب المـُؤرّخين في تحديد بدء الدعوة، إذ أنّهم يتحدّثون عنها في خُراسان ويغفلون الفترة الأُولى في الكوفة(٥) .

وقد بيّن محمّد بن علي السبب الذي دعاه لاختيار خُراسان في وصيّته إلى دعاته، والتي يُمكن أن نعدّها ( برنامج الدعوة )(٦) ، قال محمّد بن علي: ( أمّا الكوفة وسوادها فشيعة عليّ ووُلده، وأمّا البصرة وسوادها فعثمانيّة تُدين بالكفّ، وتقول كُنْ عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل، وأمّا الجزيرة، فحروريّة مارقة وأعراب كأعلاج ومسلمون في أخلاق النصارى، وأمّا أهل الشام فليس يعرفون إلاّ آل أبي سفيان وطاعة بني مروان وعداوة راسخة وجهل مُتراكم، وأمّا مكّة والمدينة فقد غلب عليها أبو بكر وعُمر، ولكنْ عليكم بخراسان، فإنّ هُناك العدد الكثير والجلد

____________________

(١) أخبار العبّاس الورقة ٨٩ ب.

(٢) ن. م الورقة ٨٩ ب.

(٣) أخبار العبّاس الورقة ٨٨ أ - ٩٠ ب.

(٤) ن. م الورقة ٩٣ أ وما بعدها.

(٥) الدوري: ضوء على الدعوة العبّاسيّة ص ٧١.

(٦) الدوري: العصر العبّاسي الأوّل ص ١٧.

١٦٦

الظاهر وهناك صدور سليمة وقلوب فارغة لم تتقسّمها الأهواء ولم يتوزّعها النِحَل، وهُم جُند لهم أجسام وأبدان ومناكب وكواهل وهامات ولحى وشوارب وأصوات هائلة ولغات فخمة تخرج من أجواف مُنكرة، وبعد فإنّي أتفاءل إلى المشرق وإلى مَطلع سراج الدنيا ومصباح الخلق )(١) .

فبيّن هُنا حالة الأمصار وأنّ خُراسان أصلح مكان للدعوة.

وقد استطاع محمّد بن عليّ أنْ يسير بالدعوة خُطواتٍ كانت بطيئةً في بادئ الأمر، إلاّ أنّه استطاع بتدبيره أنْ يُحكم أمرها، فقد أرسل الدُعاة وقال لهم: ( انطلقوا أيّها النفر فادعوا الناس في رمقٍ وسِتر )(٢) ، وكما أنّه استطاع أنْ يجلب كلّ العلويّين المـُقاومين للأُمويّين إلى جانبه، وأظهر أنّهم إنّما يُدعون للقضاء على الدولة الأُموية، ( وأنّ قضيّتهم هي قضيّة جهاد الحقّ ضدّ الباطل )(٣) .

كما أنّ العبّاسيين دعوا إلى الرضا مِن آل محمّد ولم يُعيّنوا شخصاً، وهذه الدعوة مُبهمة على العلويّين الذين عطفوا على الدعوة وعلى الأُمويّين الذين قاموا بها، فقد ذُكر أنّ عبد الله بن حسن دعا أهل بيته إلى طعام، وكان فيهم إبراهيم بن محمّد بن عليّ بن عبد الله، وكان قد بلغه خبر الدعوة في خُراسان، فقال: ( إنّه قد بلغنا أنّ أهل خُراسان قد تحرّكوا لدعوتنا، فلو نظرنا في ذلك واخترنا منّا مَن يقوم بالأمر، فقال إبراهيم: نجمع مشايخنا وننظُر في ذلك )(٤) . فيبدو من هذا أنّ الأمر قد خفيَ على عبد الله بن الحسن ولم يعرف كُنه الدعوة إلى الرضا مِن آل محمّد، وأنّه قد خُدع بها من قوله ( دعوتنا ).

وكما أُبهم الأمر على العلويّين كذلك على الأُمويّين، فقد كان مروان بن محمّد حين بلغة أمر الدعوة إلى الرضا من آل محمّد شكّ في شخصيّة المدعو إليه، وكان يعتقد أنّه عبد الله بن الحسن بن الحسن(٥) .

____________________

(١) ابن الفقيه: مُختصر كتاب البُلدان ص ٣١٥.

(٢) الدينوري: الأخبار الطوال ص ٣٣٢.

(٣) الدوري: العصر العبّاسي الأوّل ص ٢٥.

(٤) مؤلّف مجهول: نُبذة مِن كتاب التاريخ ص ١٠٢ - ١٠٣.

(٥) ن. م ص ٨٩.

١٦٧

وهكذا أبعد العبّاسيّون الشُبهة عن أنفسهم، كما أنّهم لم يُحاولوا الاشتراك مع مَن قام من العلويّين ضدّ الأُمويّين، ففي أيّام محمّد بن علي ثار زيد بن عليّ بالكوفة سَنة ١٢٢ هـ، حذّر العبّاسيّون شيعتهم من الخروج معه، فيرد عن بكير بن ماهان أنّه قال لأصحابه: ( إنّي أعلم ما لا تعلمون، ألزموا بيوتكم وتجنّبوا زيداً وأصحاب زيد ومُخالطتهم، فوالله ليُقتلنَّ وليُصلبنّ بمجمع من أصحابكم )(١) كما أنّ بكيراً خرج هو وجماعة من أتباعه إلى الحيرة ولم يرجعوا حتّى قُتل زيدٌ وصُلب(٢) .

وفي سَنة ١٢٥ هـ توفّي محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس، وكان قد أوصى إلى ابنه إبراهيم(٣) .

وقام إبراهيم الإمام بأمر الدعوة وقد ساعدته الظُروف على نشرها، فالحروب الأهليّة والفوضى والعصبيّة القبليّة حتّى يئس الناس من أمر الدولة الأُمويّة في إصلاح الأُمور، ويدلّ على ذلك قول العبّاس بن الوليد يُخاطب الأُمويّين:

إنّ البـريـّة قـد ملّـت سياستكـم

فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا(٤)

وهكذا استطاع العبّاسيّون أنْ يستغلّوا الظُروف المـُحيطة بهم، فاستفادوا من أُمور عِدّة، منها فكرة المـُنقذ أو المهدي، فتنبّؤوا بسلطان يحيي العدل، فيذكر الدينوري في سنة ١٠١ هـ: ( توافدت الشيعة على الإمام محمّد بن عليّ، وقالوا له: أبسط يدك نُبايعك على هذا السلطان، لعلّ الله يُحيي بك العدل ويُميت بك الجور، فإنّ هذا وقتٌ ذاك أوانه الذي وجدناه مأثوراً عن عُلمائكم )(٥) .

____________________

(١) أخبار العبّاس الورقة ١١٠ أ، وبكير بن ماهان داعي الدُعاة، ولم أتكلّم عن الدعاة وأخبارهم وعن تفصيلات الدعوة؛ لأنّ هذا يُخرج عن الموضوع، وإنّما اكتفيت بذكر الخطوط الرئيسيّة للدعوة.

(٢) أخبار العبّاس الورقة ١١٠ أ.

(٣) اليعقوبي: التاريخ ج ٣ ص ٧٢، أخبار العبّاس الورقة ١١٤ أ.

(٤) الطبري: تاريخ الرُسُل والمـُلوك ج ٩ ص ٨.

(٥) الدينوري: الأخبار الطوال ص ٣٣٢.

١٦٨

وقد أثّرت هذه النبوءات حتّى على الأُمويّين، فيذكر اليعقوبي أنّ مروان بن محمّد قصد الزاب لمواجهة الجيوش العبّاسيّة؛ ( لأنّ بني أُميّة كانت تروي في ملاحمها أنّ المسودة لا يجوز سلطانهم الزاب )(١) .

وقد استفاد العبّاسيّون من اختيار الراية السوداء؛ لكونها راية رسول الله في حروبه مع الكفّار، وقد أوصاهم أبو هاشم باتّخاذها وقال: ( فعليكم بالسوداء فليكن لباسكم )(٢) .

ويعتقد فان فلوتن أنّ لاختيار الراية السوداء علاقة بكُتب الملاحم؛ إذ كان لواء الرسول أسود، لذا صارت الراية السوداء رمز الحقّ والعدل، ومَن ثمّ صار من الضروري للإمام الذي يزول علي يده سلطان بني أُميّة أنْ يتّخذ الألوية السوداء شعارا له(٣) . وقيل: إنّ ذلك كان حُزناً على إبراهيم الإمام.

وقد قام الدُعاة أيضاً بنصيبٍ وافرٍ في تقوية الدعوة، وادّعوا بأنّ العبّاسيّين هُم آل البيت وأصحاب ميراث الرسول، فيذكر مسكويه أنّ أبا داود خالد بن إبراهيم تكلّم فقال مُبيّناً فضل النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وعِلمه، وأنّ ذلك خَلّفه عند عترته منهم ورثته وأقرب الناس إليه(٤) .

ويقول الدوري: ( ولم يتورّع الدُعاة عن إدخال الآراء غير الإسلاميّة - كمبدأ تناسخ الأرواح ومبدأ الحلول - في دعوتهم، وبهذا جذبوا قِسماً كبيراً ممَّن لم يدخل الإسلام قلوبهم واكسبوا الأئمّة حقّاً مُقدّساً )(٥) .

ويذكر الطبري أنّ خداشاً - وهو أحد الدعاة - ( أظهر دين الخرميّة ودعا إليه، ورخّص لبعضهم في نساء بعض )(٦) .

كما أنّ الراونديّة أتباع أبي هريرة الراوندي قالوا: إنّ الإمامة لعمّ

____________________

(١) اليعقوبي: التاريخ ج٣ ص ٨٣.

(٢) أخبار العبّاس الورقة ١١٧ أ.

(٣) فان فلوتن: السيادة العربيّة ص ١٢٦.

(٤) مسكويه: تجارب الأُمم الورقة ١٠٦ ب ( حوادث سنة ١٠٤ هـ ١٣٤ هـ ).

(٥) الدوري: العصر العبّاسي الأوّل ص ٣٦.

(٦) الطبري: تاريخ الرُسُل والمـُلوك ج٨ ص ٢٢٩.

١٦٩

النبيّ العبّاس(١) ، ومنهم مَن قال: إنّ الروح التي كانت في عيسى بن مريم صارت في عليّ بن أبي طالب ثمّ في الأئمّة واحداً بعد واحد إلى إبراهيم بن محمّد وأنّهم آلهة(٢) .

كما وضعت الأحاديث عن الرسول وعن عليّ بن أبي طالب في انتقال السلطان للعبّاسيّين، فيردُ عن أبي هاشم أنّه قال: حدّثني أبي ( إنّه سمع عليّاً يقول: دخل العبّاس على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ذات يوم وأنا عنده في منزل أُمّ سلمة، وهو مُتوسّد وسادةَ آدم، فألقاها إلى العبّاس وقال له: اجلس عليها، قال: وأقبل عليه يُناجيه دوني بشيءٍ لم أسمعه، ثمّ نهض فخرج، ولمـّا توارى قال: يا علي هوّن عليك نفسك، فليس لك في الأمر نصيبٌ بعدي إلاّ نصيب خسيس، وأنّ الأمر في هذا ووُلده، يأتيهم عفواً مِن غير جُهد، ويُدركون ثأركم وينتقمون ممَّن أساء إليكم )(٣) .

ويذكر المقدسي أنّ عليّ بن أبي طالب افتقد عبد الله بن عبّاس يوماً فسأل عنه، فأُخبر أنّه وُلد له مولود فمضى إليه وأخذ المولود وحنّكه ودعا له، وقال لأبيه: خُذ إليك أبا الأملاك قد سميّته عليّاً وكنيته أبا محمّد(٤) .

وهكذا قوي أمر الدعوة، فيقول ابن الطقطقي: ( لمـّا قُدّر انتقال المـُلك إلى بني العبّاس هُيّأ لهم جميع الأسباب، فكان إبراهيم الإمام بالحجاز أو الشام جالساً على مُصلاّه مُشغولاً بنفسه وعبادته ومصالح عياله وأهل خُراسان يُقاتلون عنه ويبذلون نفوسهم وأموالهم دونه، وأكثرهم لا يعرفه ولا يُفرّق بين اسمه وشخصه، وهو لا ينفق عليهم مالاً ولا يُعطي أحدهم رايةً ولا سلاحاً، بل هُم يجبون إليه الأموال ويحملون إليه الخَراج في كلّ سَنة )(٥) .

ولعلّ ذلك راجع إلى أنّهم كانوا مَدفوعين بعوامل سياسيّة.

____________________

(١) النوبختي: فِرَق الشيعة ٤٢.

(٢) الطبري: تاريخ الرُسُل والمـُلوك ج٩ ص ٣٠٦.

(٣) نُبذة من كُتب التاريخ ص ٣١ - ٣٢.

(٤) المقدسي: البدء والتاريخ ج٦ ص ٥٦ - ٥٧.

(٥) ابن الطقطقي: تاريخ الدول الإسلاميّة ص ١٤٥.

١٧٠

ولمـّا مات إبراهيم الإمام سَنة ١٣١ هـ أوصى إلى أخيه أبي العبّاس، ويذكر البلاذري الوصيّة، وجاء فيها:

( بسم الله الرحمن الرحيم، حفظك الله يا أخي بحفظ أهل الإيمان ...، فإذا أنا هلكتُ فأنت الإمام الذي يُقيم ويرعى حُرمة أوليائنا ودُعاتنا، ويُتمّ الله به وعلى يديه ما أثلنا وما أثل لنا )، ثمّ أوصاه بشيعته وأهل بيته وأهل خُراسان وأهل الكوفة(١) .

فلمّا قُتل إبراهيم الإمام خرج أبو العبّاس مِن الحميمة يُريد الكوفة، وكان أوّل أهله خُروجاً؛ لخوفه على نفسه ولمصير الإماميّة إليه(٢) .

فلمّا دخل أبو العبّاس الكوفة وجماعته ( أظهروا أبا سلمة، وسلّموا إليه الرياسة وسمّوه وزير آل محمّد )(٣) .

وهُنا تأتي مُحاولة أبي سلمة في نقل الخلافة إلى العلوييّن، وتُجمع المصادر التاريخيّة على أنّ أبا سلمة حاول نقل الأمر مِن آل العبّاس إلى آل عليّ، فاختفى أبو العبّاس ولم يُعلن ظهوره، ويُعلل المسعودي سبب هذه المـُحاولة: أنّه لمـّا قُتل إبراهيم الإمام خاف أبو سلمة انتقاض الأمر وفساده(٤) . ولكنّ هذا التفسير مَردود؛ لأنّ مركزَ العبّاسييّن تحسّن بانتصاراتهم العسكريّة(٥) .

أمّا صاحب العيون والحدائق، فيقول: إنّ أبا سلمة كان هواه مع جعفر بن محمّد الصادق، ولكنّه أخفى ذلك ولم يُمكنه مُخالفة الجمهور(٦) .

أمّا ابن الطقطقي، فيذكر أنّ أبا سلمة لمـّا سبر أحوال بني العبّاس عَزم على العدول عنهم إلى بني علي(٧) .

ويقول الدوري: ( وهذا تفسيرٌ اعتذاري؛

____________________

(١) البلاذري: أنساب الأشراف ج٣ الورقة ٢٧ أ.

(٢) ن. م ج٣ الورقة ٢٧ أ، قتله مروان بن محمّد بعد أن بلغه أنّه يُؤهّل نفسه للخلافة. اُنظر اليعقوبي ج٣ ص ٧٩.

(٣) الجهشياري: الوزراء والكُتّاب ص ٨٤.

(٤) المسعودي: مُروج الذَهب ج٣ ص ٢٦٨، اليعقوبي ج٣ ص ٨١، الطبري ج٩ ص ١٢٤.

(٥) الدوري: العصر العبّاسي ص ٥١.

(٦) العيون والحدائق ص ١٨١.

(٧) ابن الطقطقي: تاريخ الدول الإسلاميّة ص ١٥٤.

١٧١

لأنّ الحُكم لم يصبح بيد العبّاسييّن بعد(١) .

وهكذا كان أوّل عَمل قام به أبو سلمة الخَلاّل بعد دخوله الكوفة: ( أنْ أظهر الإمامة الهاشميّة ولم يُسمِ الخليفة )(٢) .

وقد يكون أبو سلمة مدفوعاً بميوله العلوية لذلك عزم على هذا الأمر ( فالكوفة علوية والخلال يميل لبني علي ثمّ أن المجال كان مفسوحاً أمامه ليحقق ما يميل إليه وخاصة أن المدعو له لم يكن معروفاً من الجمهور )(٣) .

وقد أرسل أبو سلمة الخلال ثلاث رسائل إلى كلٍّ مِن: جعفر بن محمّد الصادق وعبد الله بن الحسن بن الحسن وعُمر بن الأشرف بن زين العابدين، فأحرق الصادق الكتاب، ورفض عُمر بن الأشرف وأجاب عبد الله بالرغم من تحذير الصادق له(٤) .

وقد رشّح عبد الله بن الحسن ابنه محمّد لهذا، وقال لرسول أبي سلمة: ( أنا شيخ كبير وابني محمّد أولى بهذا الأمر منّي، وأرسل إلى جماعة مِن بني أبيه، وقال: بايعوا لابني محمّد )(٥) .

وقد منع الصادق عبد الله بن الحسن مِن قبول هذه الدعوة، وقال له:( يا أبا محمّد، ومتى كان أهل خُراسان شيعة لك؟! أأنت بعثت أبا مُسلم إلى خُراسان؟ أأنت أمرته بلبس السواد؟ وهؤلاء الذين قدموا إلى العراق، أكنت سبب قُدومهم أو وجّهت فيهم؟ وهل تعرف منهم أحداً؟ ) (٦) .

وقد كانت نتيجة هذه المـُحاولة الفشل؛ لأنّها لم تجد صدى من قِبَل العلوييّن، ما عدا عبد الله بن الحسن، فلم تخفَ هذه المـُحاولة على

____________________

(١) الدوري: العصر العبّاسي ص ٥١.

(٢) اليعقوبي: التاريخ ج٣ ص ٨٢.

(٣) الدوري: العصر العبّاسي ص ٥٢.

(٤) الجهشياري: الوزراء والكُتّاب ص ٨٦.

(٥) اليعقوبي ج٣ ص ٨٦.

(٦) المسعودي: مُروج الذَهب ج٣ ص ٢٦٧، واُنظر: نُبذة مِن كتاب التاريخ ص ١١٤ - ١١٥.

(١) أخبار العبّاس الورقة ٨٨ ب.

١٧٢

الصادق؛ لأنّ أبا سلمة كان مِن الهاشميّة، ومِن الأوائل الذين ارتبطوا بمحمّد ابن علي(١) .

ولهذا يقول ابن الطقطقي عن أبي سلمة: ( وزير آل محمّد وفي النفس أشياء )(٢) ، كما أنّ المحاولة لم تجد صدى عند الخُراسانيّين، فقد قالوا لأبي سلمة: ( يا أبا سلمة، ما لك تدعونا وما أنت لنا بإمام )(٣) .

وكان على رأس المـُعارضين لهذه الدعوة أحد القوّاد وهو أبو الجهم، فقد ألَحّ على أبي سلمة بإظهار أبي العبّاس، وقد اكتشف مُحاولته، فجاء الخُراسانيّون إلى أبي العبّاس ومعهم أصحابهم في السلاح، فبايعوه وبايع الخَلاّل(٤) .

وقد بويع أبو العبّاس السفّاح بالخلافة سَنة ١٣٢ هـ، وخَطب بالكوفة فقال: ( الحمدُ الله الذي اصطفى الإسلام ديناً لنفسه فكرّمه وشرّفه واختاره لنا وأيّده بنا، وجعلنا أهله وكهفه وحصنه ...، وخصّنا بعمّ رسول الله ...، وأنشأنا من شجرته، واشتقّنا مِن نبعته، فوضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع، وذكرنا في كتابه المـُنزل، فقال:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) ، ثمّ جعلنا ورثته وعُصبته )(٥) .

ويذكر الطبري نصّ الخُطبة، كما أوردها البلاذري ويُضيف عليه: ( فوضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع ...، ثمّ يذكر قوله تعالى:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ ) ، وقال:( لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) ، وقوله:( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) (٦) .

وقد مرّ بنا ذِكر هذه الآيات واحتجاج الشيعة بها، وأنّها مِن دلائل إمامة علي بن أبي طالب وأولاده.

____________________

(٢) ابن الطقطقي: تاريخ الدول الإسلاميّة ص ١٥٥.

(٣) الجهشياري: الوزراء والكُتّاب ص ٨٦.

(٤) الطبري: تاريخ الرُسُل والمـُلوك ج٩ ص ١٢٥.

(٥) البلاذري: أنساب الأشراف ج٣ الورقة ٣٩ ب.

(٦) الطبري: تاريخ الرُسُل والمـُلوك ج٩ ص ١٢٥.

١٧٣

وكان أبو العبّاس موعوكاً، فقام عمّه داود بن علي، وخَطب مكانه، قال مُبيّناً السبب الذي دعاهُم إلى الخروج: ( وإنّما أخرجتْنا الأنفة مِن ابتزازهم حقّنا، والغَضب لبني عمّنا ...، ثمّ قال: لكم ذمّة الله وذمّة رسول الله وذمّة العبّاس أنْ نحكم فيكم بما أنزل الله، ونعمل بكتاب الله، ونسير في العامّة منكم والخاصّة بسيرة رسول الله )، ثمّ أشاد بجهود أهل الكوفة وأهل خُراسان(١) .

وهكذا أبان العبّاسيّون أنّهم جاؤوا إلى هذا الأمر لكونهم ورثة الرسول، وأنهم آل البيت، وقد ذكرهم الله في القرآن.

ثمّ ادّعوا أنّهم إنّما خرجوا طلباً للثأر ممَّن قتل أبناء عمّهم، ولإحياء العدل بين الناس، كما أكّدوا أنّهم سيسيرون بسيرة الرسول ويعلموا بكتاب الله.

وهكذا نجد أنّ تشيّع العبّاسيّة كان أصله من قِبَل محمّد بن الحنفيّة، وقد بقي هذا مُدّة من الزَمَن، وفي أيّام المنصور أظهر أنّ الخلافة جاءتهم عن طريق العبّاس عمّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )، وأصدق مَثَلٍ على ذلك المـُكاتبات التي دارت بين المنصور ومحمّد ذي النفس الزكيّة، فكلّها تُأكّيد على أحقيّة العبّاس بالخلافة(٢) - وسنأتي على بيان ذلك في الفصل الرابع - ثمّ جاء المهدي فردّهم إلى إثبات الإمامة للعبّاس، وقال لهم: قولوا إنّ الإمامة كانت للعبّاس عمّ النبيّ؛ لأنّه كان أولى الناس به وأقربهم إليه، ثمّ مِن بعده لعبد الله ابن العبّاس، ثمّ لعلي بن عبد الله، ثمّ لمحمّد بن علي، ثمّ لإبراهيم بن محمّد، ثمّ لأبي العبّاس، ثمّ لأبي جعفر، ثمّ للمهدي(٣) .

والذي دعا العبّاسييّن إلى أنّهم في أوّل أمرهم تعلّقوا بوصيّة أبي هاشم بن محمّد بن الحنفيّة ضعف مَركزهم في بداية أمرهم، ولمـّا قويَ مركزهم وتوطّدت أركان دولتهم رجعوا عن دعوتهم الأُولى، وادّعوا بأنّهم جاؤوا لهذا الأمر بوراثة النبيّ من قِبَل عمّه العبّاس.

____________________

(١) الطبري: تاريخ الرُسُل والمـُلوك ج٩ ص ١٢٥.

(٢) البلاذري: أنساب الأشراف ج٣ الورقة ١١ أ - ١١ ب.

(٣) أخبار العبّاس الورقة ٧٤ أ - ب.

١٧٤

وهكذا انفرد العبّاسيّون بالخلافة بعد أنْ استغلوا العلوييّن، واتّخذوهم وسيلةً للوصول إلى أغراضهم، كما حاربوهم ونكّلوا بهم بصورةٍ أشدّ وأقسى من الأُمويّين، وسيأتي بيان ذلك.

وكان أبو جعفر المنصور أوّل هاشميٍّ أوقع الفِرقَة بين بني عبد المطلب بن هاشم، حتّى قيل: عبّاسيٍّ وطالبي(١) .

ولم يقتصر الأمر على التسمية، وإنّما بدأ بسياسة العبّاسييّن مع العلوييّن ومُحاربتهم له، وسنُبيّن ذلك في الفصل التالي.

____________________

(١) اليعقوبي: مُشاكلة الناس لزمانهم ص ٢٢ - ٢٣.

١٧٥

١٧٦

الفَصلُ الرابع: سياسةُ العَلَويّين تجاه الشيعة

١ - الزيديّة

(أ) ثورات الزيديّة

(ب) موقفُ الإماميّة مِن الثورات الزيديّة

٢ - الشيعةُ الإماميّة

(أ) موقف الإماميّة مِن العبّاسيّين

١٧٧

١٧٨

١ - الزيديّة:

(أ) ثورات الزيديّة:

لمـّا انتظم أمرُ الدعوة العبّاسيّة وتمّ لها النجاح انفرد العبّاسيّون بالسلطة، ولم يحاولوا أنْ يُشركوا أبناء عمّهم، سواء كان منهم من أبناء الحسن أم أبناء الحسين، وكان أبناء الحسين ساروا على منهاجٍ اتخذوه وهو ترك مُقاومة السلطان والخروج عليه، إلاّ أنّ أبناء الحسن التزموا الجانب الإيجابي، ولم يتركوا العبّاسيّين ينعمون بما حصلوا عليه مِن ثمّرة الكفاح المـُشترَك لجميع الهاشميّين.

وفي فترة تولّي العبّاسيّين الحُكم كان الشيعة ينقسمون إلى جماعتين: الزيديّة والإمامية.

فأمّا الزيديّة، فهم أتباع زيد بن عليّ بن الحسين، الذي ثار في أيّام هشام بن عبد المـَلك، وقُتل ما بين سَنة ١٢١ هـ - ١٢٢ هـ(١) .

ومِن مبادئ الزيديّة في الإمامة: ( إنّ عليّ بن أبي طالب أفضل الناس بعد الرسول؛ لقرابته وسابقته، ولكن كان جائز للناس أنْ يولّوا غيره إذا كان الوالي الذي يولّونه مُجرّباً )(٢) .

ثمّ جعلوا الإمامة بعد عليٍّ في الحسن والحسين وأولادهما وهي شورى بينهما، فمَن خرجَ منهم وشهر سيفه ودعا إلى نفسه فهو مستحقٌّ للإمامة(٣) . فالخروج بالسيف عند الزيديّة شرطٌ أساسيٌّ للإمامة.

____________________

(١) البلاذري: أنساب الأشراف ج٣ الورقة ٢٢ أ.

(٢) النوبختي: فِرَق الشيعة ص ١٨.

(٣) سعد القُمّي: المقالات والفِرَق ص ١٨.

١٧٩

وتقول الزيديّة أيضاً: أنّ الإمامة في ( كلّ أولاد فاطمة، كائناً مَن كان بعد أنْ يكون عنده شروط الإمامة )(١) .

وشرط الإمامة عندهم هو: ( أنْ يكون كلّ فاطميٍّ عالِم زاهد شجاع سخيّ خرج بالإمامة يكون إماماً واجب الطاعة )(٢) .

لذلك قصرت الزيديّة الإمامة على أبناء الحسن والحسين وأولادهما ( بما امتاز به الحسن والحسين وأولادهما مِن العِلم والورع والتقوى والبصيرة والتديُّن )(٣) .

وبالرغم مِن أنّ الزيديّة ترى أنّ الإمام عليٍّ أفضل الناس بعد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )، وأنّه أولى بالخلافة مِن غيره(٤) ، إلاّ أنّهم قالوا: ( جائز أنْ يكون الإمام مفضولاً، كما يكون الأمير مفضولاً، وفي رعيّته مَن هو أفضل منه )(٥) .

وفي أيّام زيد حينما خرجَ وسألته الشيعة عن رأيه في أبي بكر وعُمر، فقال: ( كُنّا أحقّ البريّة بسلطان رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )، فاستأثرا علينا، وقد وُلّيا علينا وعلى الناس فلم يألوا عن العمل بالكتاب والسُنّة )(٦) .

فالبرغم مِن أنّ زيداً يرى أنّ عليّاً أفضل الصحابة، وأنّ آل البيت أولى بالخلافة مِن غيرهم، إلاّ أنّه لا ينفي غمامة مَن تَقدّمه.

وقد تطوّرت هذه الفكرة بعد زيد وأصبحت مِن مبادئ الزيديّة، وهي جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل.

ويذكر الجاحظ رأي الزيديّة، ويرى أنّ مقياس الفضل عندهم أربعة أقسام:

أوّلها: القِدَم في الإسلام، حيث لا رغبة ولا رهبة إلاّ مِن الله وإليه.

____________________

(١) ابن النديم: الفهرست ص ١٧٨.

(٢) الشهرستاني: المِلَل والنِحَل ج١ ص ٢٤٩.

(٣) المـُفيد: المسائل الجاروديّة ( رسالة طبعت ضِمن رسائل المـُفيد ) ص ٣.

(٤) الجاحظ: ثلاث رسائل للجاحظ، نشرها السندويي ص ٢٤١ ( استحاق الإمامة ).

(٥) الأشعري: مقالات الإسلاميّين ص ١٣٤.

(٦) البلاذري: أنسابُ الأشراف ج٣ الورقة ٢١ أ.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318