نشأة الشيعة الامامية

مؤلف: نبيلة عبد المنعم داود
الناشر: دار المؤرخ العربي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 318
مؤلف: نبيلة عبد المنعم داود
الناشر: دار المؤرخ العربي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 318
أمّا في زمَن الرشيد، فقد تعرّض موسى بن جعفر لمـُراقبة مِن الرشيد لخوف الرشيد منه ولوصول الأخبار إليه بأنّ له جماعة تقول بإمامته، وقد كثرت الوشايات في موسى بن جعفر حتّى حبسه.
ويذكر الأصفهاني السبب الذي مِن أجله حُبس موسى بن جعفر، ويجعل للبرامكة يداً في ذلك، فيذكر أنّ يحيى بن خالد بن برمك استطاع أنْ يُغري عليّ بن إسماعيل بن جعفر بن محمّد بالأموال وكان إسماعيل هذل على صلة بموسى بن جعفر وعلى عِلم بأخباره، فلم يزل حتّى سعى بموسى عند الرشيد وأخبره أنّ الأموال تُحمل إليه مِن المشرق والمغرب، وأنّ له بيوت أموال، وأنّه اشترى ضيعة بثلاثين ألف دينار وسمّاها اليسيرة، فسمع منه الرشيد ذلك ووصله(١) .
ولمـّا حجّ الرشيد في تلك السَنة ( ١٨٣هـ ) بدأ بقبر النبيّ، فقال: ( يا رسول الله، إنّي أعتذر إليك مِن شيء أُريد أنْ أفعله، أُريد أنْ أحبس موسى بن جعفر، فإنّه يُريد التشتيت بين أُمّتك وسفك دمائها )(٢) .
ويذكر ابن طباطبا أنّ سبب حبس الرشيد لموسى بن جعفر أنّ بعض حُسّاده مِن أقاربه قد وشوا به إلى الرشيد، وذكروا أنّ الناس يحملون إلى موسى خُمس أموالهم ويعتقدون إمامته وأنّه عازم على الخروج، فأقلق ذلك الرشيد فسجنه(٣) .
وهكذا عملت الوشايات عملها حتّى حبس الرشيد موسى بن جعفر عند عيسى بن جعفر بن المنصور، وكان على البصرة ولمـّا لم يجد هذا حجّة عليه كَتب إلى الرشيد يطلب منه إخلاء سبيله(٤) .
أمّا المصادر الإماميّة، فتذكر أنّ السبب في حبس موسى بن جعفر زمَن الرشيد أنّ الرشيد لمـّا حجّ اجتمع إليه بنو هاشم وبقايا الهاجرين والأنصار
____________________
(١) الأصفهاني: مقاتل الطالبيّين ص ٥٠١ - ٥٠٢.
(٢) الأصفهاني: مقاتل الطالبيّين ص ٥٠٢.
(٣) ابن طباطبا: الفخري ص ١٩٦.
(٤) الأصفهاني: مقاتل الطالبيّين ص ٥٠٢.
ومعهم موسى بن جعفر، فلمّا انتهوا إلى قبر رسول الله وقف الرشيد وقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا بن عمّ؛ ( افتخاراً على قبائل العرب، واستطالة عليهم بالنسب )، ثُمّ تَقدّم موسى بن جعفر، فقال:( السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبة ) ، ( فتغيّر لون الرشيد، وقال: يا أبا الحسن إنّ هذا لهو الفَخر الجسيم )(١) .
ولعلّ غضب الرشيد مِن موسى بن جعفر هُنا لأنّه يُذّكره بأنّه ابن رسول الله وهو أولى به.
أمّا ابن عنبة، فيذكر أنّ مِن أسباب غضب الرشيد على موسى بن جعفر أنّ محمّد بن إسماعيل بن الصادق كان مع عمّه موسى الكاظم يَكتب له السرّ إلى شيعته في الآفاق، وأنّ إسماعيل هذا سعى بعمّه موسى عند الرشيد، وقال للرشيد: ( إنّ في الأرض خليفتين يُجبى إليها الخراج، فقال: الرشيد ويلك أنا ومَن؟ قال: موسى بن جعفر، وأظهر أسراره، فقبض الرشيد على موسى الكاظم وحبسه، وكان سبب هلاكه )(٢) .
ويعطي ابن شهرآشوب سبباً آخر لحبس موسى بن جعفر، فيذكر أنّ الرشيد كان يُريد إرجاع فدك إلى موسى بن جعفر، وكان موسى يأبي ذلك، ولمـّا ألحّ عليه الرشيد طلب موسى أنْ يأخذها بحدودها، ولمـّا سأله الرشيد عن حدودها، قال:( الحدّ الأوّل عدن، والحدّ الثاني سمرقند، والحدّ الثالث إفريقية، والحدّ الرابع سيف البحر مما يلي الخزر وأرمينية ) ، فغضب الرشيد وقال له: ( فلم يبقَ لنا شيءٌ فتحوّل إلى مجلسي ...، فعند ذلك عزمَ الرشيد على قتله )(٣) .
فقول موسى هذا يعني أنّه صاحب الحقّ؛ لأنّه ذَكر أمصار الخلافة العبّاسيّة.
ويبدو ممّا يرويه الصدوق أنّ العبّاسيّين كانوا يُضيّقون على آل
____________________
(١) المـُفيد: الفُصول المـُختارة مِن العيون والمحاسن ج ١ ص ١٥، الإرشاد ص ٢٩٨، الطبرسي: أعلام الورى بأعلام الهدى ص ٢٩٧.
(٢) ابن عنبة: عُمدة الطالب ص ٢٣٣ - ٢٣٤.
(٣) ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٣٢٠ - ٣٢١، واُنظر أيضاً: سبط ابن الجوزي، تذكرة الخواص ص ٣٥٩ - ٣٦٠.
البيت ويُقلّلون أعطياتهم؛ لئلاّ يلتفّ حولهم أنصار يحاربونهم بهم، ذُكر أنّ الرشيد أعطى موسى بن جعفر مئتي دينار بينما أعطى غيره ٥ آلاف دينار، ولمـّا سأله الفضل بن الربيع عن سبب ذلك، قال الرشيد: ( لو أعطيتُ هذا ما كُنت أمنته أنْ يضرب وجهي غداً بمئة ألف سيف مِن شيعة هذا ومواليه، وفَقر هذا وأهل بيته أسلم لي، ولكم من بسط أيديهم وأعينهم )(١) .
وبالرغم مِن شدّة الرشيد مع موسى بن جعفر، إلاّ أنّه كان عارفاً قدره ومنزلته، فقد كان يقول عن موسى بن جعفر: ( أما أنّ هذا مِن رُهبان بني هاشم )، ولمـّا سئل لِمَ ضيّقَ عليه في الحبس؟ قال: هيهات لا بدّ مِن ذلك(٢) .
فيبدو أنّ موسى بن جعفر كان مصدر قلق وخوف للرشيد بالرغم مِن أنّه لم يشهر سيفاً بوجهه.
وقد أطلق الرشيد موسى بن جعفر حينما حبسه أوّل مرّة بعد أنْ رأى في نومه مَن يقول له: ( إنْ لم تُخلِّ عن موسى بن جعفر الساعة، وإلاّ نحرتك بهذه الحربة )، فأطلقه وخيّره بين البقاء في العراق أو الذهاب إلى المدينة، ودفع إليه ثلاثين ألف درهم(٣) .
ولكنّ هذا لم يمنع الرشيد مِن حبسه مَرّة أُخرى كانت فيها نهايته، فيذكر اليعقوبي: إنّ موسى بن جعفر تُوفّي ١٨٣ هـ في حبس الرشيد، قَتله السندي بن شاهك.
ثُمّ إنّ الرشيد دعا القوّاد والكُتّاب الهاشميّين والقُضاة والطالبيّين، ثُمّ كشف عن وجه موسى وسألهم أتعرفون هذا؟ قالوا: ( نعرفه حقّ معرفته، هذا موسى بن جعفر، فقال هارون: أترون أنّ به أثراً وما يدلّ على اغتيال؟ قالوا: لا، ثُمّ غُسّل وكُفّن ودُفن بمقابر قريش في الجانب الغربي )(٤) .
ويبدو أنّ الرشيد بعد أنْ حبس موسى بن جعفر وقتله أراد أن يُبرّئ
____________________
(١) الصدوق: عيون أخبار الرضا ج١ ص ٧٥ - ٧٦.
(٢) ن م: ج١ ص ٧٩.
(٣) المسعودي: مُروج الذَهب ج٣ ص ٣٥٦ - ٣٥٧.
(٤) اليعقوبي: التاريخ ج٣ ص ١٤٥.
نفسه مِن الشُكوك، فكان يُحاول أنْ يُفهّم الناس أنّه لا يدَ له في موته.
ويرى الدوري: ( إنّ هذا السؤال في ذاته يؤكّد الشكوك في قتل الإمام )(١) .
المسعودي يذكر أنّ موسى بن جعفر مات مسموماً(٢) .
أمّا الأصفهاني، فيروي أنّه بعد موت موسى بن جعفر نودي عليه: ( هذا موسى بن جعفر الذي تزعّم الرافضة أنّه لا يموت، فانظروا إليه )(٣) .
وقد نودي بهذا النداء؛ لأنّ جماعةً مِن الشيعة اعتقدت بأنّ موسى بن جعفر لا يموت وأنّه حيٌّ، وهؤلاء هُم الواقفة، وسيأتي بيان ذلك في فصلِ الإمامة.
وتُجمع المصادر الإماميّة أنّ موسى بن جعفر توفّي مسموماً في حبس الرشيد على يد السندي بن شاهك، وأنّ الرشيد كان يُحاول أنْ يتخلّص مِن مسؤوليّة قتله، فيذكر الصدوق أنّ الرشيد أدخل على موسى بن جعفر في سجنه ثمانين رجلاً مِن الوجوه، وطلب إليهم أنْ ينظروا إليه إنْ كان حدث به مكروه، وهذا ( منزله وفرشه مُوسّع عليه غير مُضيّق، فوجدوه على ما ذَكر الرشيد، إلاّ أنّ موسى أخبرهم أنّه سُقي السُم )(٤) .
المـُفيد يذكر أنّ موسى بن جعفر قُتل مسموماً في طعامٍ قُدّم إليه، وأنّ الرشيد أدخل إليه الفُقهاء ووجوه بغداد وفيهم الهيثم بن عدي، وأشهدهم أنّه مات حتفَ أنفه، فشهدوا على ذلك(٥) .
ويقول ابن عنبة: إنّه لُفّ في بساط حتّى مات، ثُمّ أُخرج للناس وعُمل محضراً أنّه مات حتف أنفه، وتُرك ثلاثة أيّام على الطريق يأتي مَن يأتي فينظر إليه، ثُمّ يكتب في المحضر(٦) .
____________________
(١) الدوري: العصر العبّاسي الأوّل ص ١٤٢.
(٢) المسعودي: مُروج الذَهب ج٣ ص ٣٦٥.
(٣) الأصفهاني: مقاتل الطالبيّين: ص ٥٥٠، واُنظر ابن الشحنة: روضة المناظر في أخبار الأوائل والأواخر ج ٨ ص ٥٣. ( طُبع الكتاب على هامش كتاب الكامل لابن الأثير ).
(٤) الصدوق: الأمالي ص ١٤٩ - ١٥٠.
(٥) المـُفيد: الإرشاد ص ٣٠١ - ٣٠٢.
(٦) ابن عنبة: عمدّة الطالب ص ١٦٩، واُنظر أيضاً ابن زهرة: غاية الاختصار ص ٩١.
ويبدو مِن الأساليب التي اتّخذها الرشيد في قضيّة قتل موسى بن جعفر أنّها سبيل آخر مِن سياسة المـُخادعة التي اتّبعها مع العلوييّن.
ولمـّا مات موسى بن جعفر سنة ١٨٣ هـ(١) ، انتقلت الإمامة إلى ابنه عليّ بن موسى الرضا، وكانت إمامته أيّام المأمون المـُتسامحة مع العلوييّن.
ولقد قام المأمون بعمل انفرد به، وهو تقديم عليّ بن أبي طالب على العبّاس بن عبد المطلب، وهذا شيءٌ غريبٌ بالنسبة للعبّاسيّين، فقد ذَكر طيفور أنّ السندي بن شاهك دخل على الفضل بن سهل مُتعجّباً - بعد أنْ سَمع أنّ المأمون قدَّم عليّ بن أبي طلب على العبّاس - وكان يقول: ( ما ظننتُ أنّي أعيش حتّى أسمع عبّاسيّاً يقول هذا، فقال له الفضل: تعجب مِن هذا؟ هذا والله ما كان قول أبيه قبله )(٢) ، ولكن لم نجد أحداً مِن الخُلفاء العبّاسييّن صرّح بتفضيل عليّ سوى المأمون، وقد قام المأمون بالبيعة لعليّ بن موسى الرضا وجعله وليّ عهده، وتروي المصادر التاريخيّة قصّة بيعة المأمون للرضا.
فاليعقوبي يذكر أنّ المأمون استقدم عليّ الرضا مِن المدينة إلى طوس سَنة ٢٠١هـ، وبايع له وألبس الناس الخضرة مكان السواد، ودعا للرضا على المنابر، وضرب الدنانير والدراهم باسمه(٣) .
واليعقوبي يكتفي بهذا ولا يوضح سبب البيعة للرضا.
أمّا الطبري، فيذكر أنّ السبب الذي دعا المأمون لمـُبايعة الرضا؛ لأنّه لم يجد أحداً أفضل ولا أورع ولا أعلم منه في بني العبّاس وبني عليّ، وسمّاه الرضا مِن آل محمّد(٤) .
أمّا ابن طباطبا، فيقول عن المأمون: ( ومِن اختراعاته نقل الدولة مِن
____________________
(١) الخطيب: تاريخ بغداد ج١٣ ص ٣٢.
(٢) طيفور: بغداد ص ١٧.
(٣) اليعقوبي: التاريخ ج٣ ص ١٧٦.
(٤) الطبري: تاريخ الرُسُل والمـُلوك ج١٠ ص ٢٤٣، ابن الثير: الكامل ج٥ ص ١٨٣.
بني العبّاس إلى بني علي )، ويذكر السبب الذي دعا المأمون لذلك: ( كان المأمون فكّر في حال الخلافة بعده، وأورد أنْ يجعلها في رجلٍ يَصلح لها لتبرأ ذمّته، كذا زعم )(١) ، كما إنّه وجد الرضا أفضل أعيان البيتين العلوي والعبّاسي(٢) .
أمّا السيوطي، فيرى أنّ السبب الذي دفعَ المأمون إلى تولية الرضا العهد إفراطه في التشيّع حتّى أنّه هَمّ بخلع نفسه وتفويض الأمر إليه(٣) .
وتُبيّن المصادر التاريخيّة دور الفضل بن سهل وتأثيره على المأمون في إسناد ولاية العهد إلى الرضا، فاليعقوبي يذكر أنّ رجاء بن أبي الضحّاك - قريب الفضل بن سهل - كان رسول المأمون إلى الرضا، وهو الذي أتى به مِن المدينة(٤) .
أمّا الطبري، فيُبيّن ردّ الفِعل عند البغداديّين بعد سماعهم ببيعة الرضا، فقالوا: ( إنّما هذا دسيس مِن الفضل بن سهل )(٥) .
ويبدو أنّ الفضل بن سهل لم يفعل هذا حُبّاً لعليّ الرضا، ويؤيّد هذا ما رواه الجهشياري مِن أنّ كلاماً دار بينه وبين نعيم بن أبي خازم بحضرة المأمون، فقال له نعيم: ( إنّك تُريد أنْ تُزيل المـُلك عن بني العبّاس إلى وُلد علي، ثُمّ تحتال لتجعل المـُلك كسرويّاً، ولولا أنّك أردت ذلك لما عَدلت عن لبسة عليّ ووُلده، وهي البياض إلى الخُضرة، وهي لباس كسرى والمـَجوس )(٦) .
وهذا يصحّ إذا نظرنا إلى الخلاف الذي حصل بين الرضا وابن سهل بعد البيعة، ويؤكّد ذلك أيضاً ابن طباطبا، فيذكر: ( وكان الفضل بن سهل وزير المأمون هو القائم بهذا الأمر والمـُحسّن له )(٧) .
ويعتقد الدوري: ( أنّ تأثير الفضل بن سهل ووجود المأمون في
____________________
(١) ابن طباطبا: الفخري ص ٢١٦.
(٢) ن. م ص ٢١٧.
(٣) السيوطي: تاريخ الخُلفاء ص ٣٠٧.
(٤) اليعقوبي: التاريخ ج٣ ص ١٧٦.
(٥) الطبري: تاريخ الرُسُل والمـُلوك ج١٠ ص ٢٤٣.
(٦) الجهشياري: الوزراء والكُتّاب ص ٣١٢ - ٣١٣.
(٧) ابن طباطبا: الفخري ص ٢١٧.
خُراسان هُما اضطرّاه لاتّخاذ هذه الخطّة )(١) .
ويرى جبريالي أنّ سبب ذلك أنّ المأمون كان له ميلٌ عاطفيٌّ دينيّ سابق للعلويّين، إلاّ أنّ هذا الميل ظهر بصورة فُجائيّة ولأوّل مرّة في الحقل السياسي في البيعة للرضا(٢) .
ويبدو ممّا ترويه بعض المصادر التاريخيّة أنّ عليّ بن موسى الرضا لم يقبل البيعة في أوّل الأمر، وإنّما تردّد في قبولها، فيذكر المسعودي: ( ثُمّ كَتب إليه وسأله القُدوم ليعقد له الأمر، فامتنع عليه، ثُمّ كاتبه في الخروج وأقسم عليه )(٣) .
ويذكر الأصفهاني أنّ المأمون هدّد الرضا بقبول البيعة قائلاً: ( لا بدّ مِن قبولك ما أُريد، فإنّي لا أجد محيصاً عنه، إنّ عُمر بن الخطّاب جعل الشورى في ستّة أحدهم جدّك ...، وشرط فيمَن خالف أنْ تُضرب عُنقه )(٤) .
ويروي الدوري أنّ إجبار المأمون الرضا على البيعة؛ لأنّه كان مُرغماً على مُجاراة الخُراسانييّن، كما أنّه أراد أنْ يسير خُطوة جديدة في إحياء حُكم العَدل الذي وعد به الخُراسانيّين، فلذلك قال: إنّه اختار للخلافة خير ما يصلح لها مِن بني هاشم(٥) .
ويبدو أنّ المأمون تساهل مع العلوييّن رغبةً في كسب وُدّهم وأراد تصفية الجوّ المـُتوتّر الذي خَلّفته سياسة أبيه مع العلوييّن، كما أنّه أراد القضاء على تذمّر العلوييّن وثوراتهم فبايع للرضا.
أمّا المصادر الإماميّة، فتعطي أسباباً أُخرى دفعت المأمون لمـُبايعة
____________________
(١) الدوري: العصر العبّاسي الأوّل ص ٢٠٨.
(٢) جبريالي: المأمون والعلويّون، ( عن العصر العبّاسي الأوّل ص ٢٠٧ ).
(٣) المسعودي: إثبات الوصيّة ص ١٧٢.
(٤) الأصفهاني: مقاتل الطالبيّين ص ٥٦٣.
(٥) الدوري: العصر العبّاسي الأوّل ص ٢٠٩ واُنظر:
Hamid; The pro-Alid policy of M’mun, Bullein of the College of Arte and Sciences, Baghdad, Vol. I, June, ١٩٥٦
الرضا بالإضافة إلى ما ورد مِن أسبابٍ في المصادر التاريخيّة، وأحسن مَرجع في هذا الباب مِن المصادر الإماميّة كتاب عيون أخبار الرضا للصدوق.
فقد ذَكر الصدوق أنّ السبب الذي دفع المأمون للبيعة للرضا؛ وذلك لأنّه كان يعتقد أنّ الرضا يدعو إلى نفسه في السرّ، فأراد أنْ يجعله وليّ عهده ليعترف بالخلافة والمـُلك له، ( وليعتقد فيه المـَفتونون به أنّه ليس ممّا ادّعى في قليل ولا كثير، وأنّ هذا الأمر لهم دونه ( العبّاسييّن ))(١) .
وهكذا كان الخُلفاء العبّاسيّون يعتقدون أنّ الأئمّة يدعون إلى أنفسهم ويطلبون الخلافة ولو لم يخرج منهم أحدٌ؛ لا تّخاذهم الجانب السلبي تجاه الأحداث السياسية بعد أنْ رأوا أنْ لا جدوى مِن خروجهم، إلاّ أنّ الظاهر أنّ خوف الخُلفاء العبّاسييّن كان مِن أتباع الأئمّة الذين اعتقدوا إمامتهم ولم يعترفوا بشرعيّة الحُكم للعبّاسي.
كما أنّ منزلة الأئمّة وما يتمتّعون به مِن احترام قد أثار خوف العبّاسييّن، يدلّ على ذلك ما رواه الكُليني عن الرضا بعد قبوله ولاية العهد، فكان يقول:( والله ما زادني هذا الأمر الذي دخلتُ فيه مِن النعمة عندي شيئاً، ولقد كنتُ بالمدينة وكتابي ينفذ في المشرق والمغرب، ولقد كنتُ أركب حماري وأمرّ في سكك المدينة وما بها أعزّ منّي، وما كان بها أحد منهم يسألني حاجةً يُمكنني قضاؤها إلاّ قضّيتها له ) (٢) .
فلذلك كما يعتقد الصدوق أنّ المأمون ( جعل له ولاية العهد مِن بعده؛ ليرى الناس أنّه راغبٌ في الدُنيا، فيسقط محلّه مِن نفوسهم )(٣) .
كما يذكر الصدوق أنّ المأمون إنّما فعل ذلك إشارة بما أملاه الفضل ابن سهل على المأمون ( أنْ يتقرب إلى ألله عزَّ وجلّ وإلى رسوله بصلة رحمه بالبيعة بالعهد لعليّ بن موسى الرضا؛ ليمحمو بذلك ما كان مِن أمر
____________________
(١) الصدوق: عيون أخبار الرضا ج٢ ص ١٧٠.
(٢) الكُليني: الكافي ج٨ ص ١٥١.
(٣) الصدوق: عيون أخبار الرضا ج٢ ص ٢٣٩.
الرشيد، وما كان يقدر على خلافه في شيء )(١) .
وتُجمع المصادر الإماميّة على أنّ الرضا لم يقبل ولاية العهد إلاّ كارهاً لها، وخوفاً مِن تهديد المأمون، فيذكر الصدوق عِدّة روايات تدلّ على أنّ الرضا كان كارهاً للبيعة، وكانت مِن غير رضاه، ( وذلك بعد أنْ هدّده بالقتل وألحّ عليه مرّة بعد أُخرى، وفي كلّها يأبي عليه حتّى أشرف مِن تأبيه على الهلاك )(٢) .
كما ترى الإماميّة أنّ الرضا قَبِل العهد وشرط على المأمون أنْ لا يُولّي ولا يَعزل أحداً، ولا يُغيّر رسماً ولا سُنّة(٣) .
وتُكثِر الإماميّة مِن الروايات مِن هذا الباب، مُحاولةً تبرير قبول الرضا لولاية العهد؛ لأنّ الإماميّة ليس مِن رأيها الخروج أو الاشتراك مع السلطة الظالمة؛ لأنّهم في تقيّة حتّى يقوم قائمهم، يؤيّد هذا ما رواه الطبرسي، عن أيوب بن نوح، قال: ( قلت للرضا: إناّ نرجو أنْ تكون صاحب هذا الأمر، وأنْ يسديه الله إليك مِن غير سيف، فقد بويع لك وُضربت الدراهم باسمك، فقال:( ما منّا أحدٌ اختلف إليه الكُتب وسُئل عن المسائل وأشارت إليه الأصابع وحُملت إليه الأموال، إلاّ اغتيل أو مات على فراشه، حتى يبعث الله عزَّ وجلّ بهذا الأمر رجلاً خفيّ المولد والمنشأ، غير خفيٍّ في نَسَبه ) (٤) .
وقد استاء أهل بغداد حينما وصلهم خَبر البيعة للرضا، وخافوا خروج الأمر مِن أيديهم إلى بني عليّ أو بالأحرى إلى الخُراسانيّين، فيقول الطبري: إنّهم ( أنفوا مِن غلبَة الفضل بن سهل )(٥) .
وقد بلغَ استياء أهل بغداد مِن البيعة مبلغاً كبيراً، حتّى أنّ أهل محلّة الحربيّة ثاروا ضدّ الحسن بن سهل وأخرجوه مِن بغداد، وأرادوا أنْ يُبايعوا
____________________
(١) الصدوق: عيون أخبار الرضا ج٢ ص ١٧٠.
(٢) ن. ط م ج١ ص ١٩.
(٣) ن. م ج١ ص ٢٠، واُنظر المـُفيد: الإرشاد ص ٣١٠، الطبرسي: أعلام الورى ص ٣٢٠.
(٤) الطبرسي: أعلام الورى ص ٤٠٧.
(٥) الطبري: تاريخ الرُسُل والمـُلوك ج١٠ ص ٢٢٧.
محمّد بن صالح بن المنصور؛ خوفاً مِن خُروج الأمر مِن آل العبّاس(١) .
كما يذكر الطبري أيضاً أنّ أهل بغداد امتنعوا عن البيعة ولبس الخضرة، ورفضوا أنْ يُخرجوا هذا الأمر عن وُلد العبّاس، وقالوا: ( إنّما هذا دسيس مِن الفضل بن سهل )(٢) .
وقد استمرّ استياء أهل بغداد، فبايعوا لإبراهيم بن المهدي ( بعد أنْ رفض محمّد بن صالح بن المنصور ) سنة ٢٠١ هـ(٣) .
وكان الفضل بن سهل يُخفي هذه الأخبار عن المأمون، ولكن الرضا أخبره ( بما فيه الناس مِن الفتنة والقتال مُنذُ قُتل أخوه، وبما كان الفضل بن سهل يستر عنه مِن الأخبار، وأنّ أهل بيته والناس نقموا عليه استياء )(٤) ، كالبيعة له بولاية العهد وتغيُّر لباس السواد(٥) .
فلمّا اطّلع المأمون على ذلك وعرف نوايا ابن سهل ووضعه الخَطر سار إلى بغداد، وكان أنْ قام بمُحاولة للتخلّص مِن الرضا، فسمّه بالعنب أو بعصير الرمّان سنة ٢٠٣ هـ في قرية نوقان قُرب طوس(٦) .
الطبري لا يذكر ذلك وإنّما يقول: ( إنّه أكلَ عنباً فأكثر منه فمات )(٧) .
وتُجمع المصادر الإماميّة على أنّ المأمون سمّ الرضا لأسباب، فالصدوق يرى أنّ المأمون حَسد الرضا؛ لِما رأى مِن علوّ منزلته وعظمها في نفوس الناس(٨) .
أمّا الطبرسي، فيرى أنّ سبب قتله مسموماً أن الرضا كان لا يُحابي
____________________
(١) اليعقوبي: التاريخ ج٣ ص ١٧٩.
(٢) الطبري: تاريخ الرُسُل والمـُلوك ج١٠ ص ٢٤٣.
(٣) اليعقوبي: التاريخ ج٣ ص ١٧٩.
(٤) الطبري: تاريخ الرُسُل والمـُلوك ج١٠ ص ٢٥٠.
(٥) ابن طباطبا: الفخري ص ١٦٧، واُنظر ابن الشحنة: روضة المناظر في أخبار الأوائل والأواخر ج٨ ص ٥٧ ( على هامش كتاب الكامل لابن الأثير ).
(٦) اليعقوبي: التاريخ ج٣ ص ١٨٠، واُنظر أيضاً الأصفهاني: مقاتل الطالبيّين ص ٥٧٧.
(٧) الطبري: تاريخ الرُسُل والمـُلوك ج١٠ ص ٢٥١، المسعودي: مُروج الذَهب ج٤ ص ٢٨، إثبات الوصيّة ص ١٧٥ - ١٧٦، أبو الفدا: المـُختصر في أخبار البشر ج٣ ص ٣٢.
(٨) الصدوق: عُيون أخبار الرضا ج٢ ص ٢٣٩.
المأمون في حقّ ويُجابهه في أكثر الأحوال(١) .
وهكذا انتهت هذه المـُحاولة التي قام بها المأمون، ويرى الدوري: ( إنّ البيعة ذاتها لم تُقرّب جميع العلوييّن مِن المأمون، ولكنّها أرضت قِسماً منهم فقط )(٢) ، فلم يؤيّد المأمونَ أحدٌ مِن العلوييّن، إلاّ إبراهيم بن موسى بن جعفر، وكان مُتغلّباً على الحِجاز، فإنّه بايع للمأمون حالما سمع بالتولية(٣) .
واستمرّ المأمون على علاقته الحسنه بالعلويّين، وفي زمانه انتقلت إمامة الشيعة والإماميّة إلى محمّد الجواد ابن الرضا.
وقد عاصر محمّد الجواد كلاًّ مِن المأمون والمـُعتصم، ولا تذكر المصادر التاريخيّة أخباره إلاّ أخباره أيّام المأمون، وتُبيّن حُسن معاملة المأمون له وتزويجه ابنته(٤) .
وتروي المصادر الإماميّة أخبار محمّد الجواد مع المأمون والمـُعتصم، فيذكر ابن رستم الطبري أنّه بلغَ عُمره ستّ سنين فقتل المأمون أباه، وبقيت الشيعة في حيرة واختلفت الكلمة بين الناس واستصغر سنّ أبي جعفر محمّد الجواد(٥) .
أمّا أخباره في زمن المـُعتصم، فلا يُذكر عنها شيء، وقد توفّي محمّد الجواد سنة ٢٢٠ هـ.
وانتقلت إمامة الشيعة إلى أبي الحسن عليّ بن محمّد ( الهادي )، وقد عاصر الهادي مِن الخُلفاء: المـُعتصم الواثق والمـُتوكّل والمـُنتصر والمـُستعين والمـُعتز(٦) .
وقد بيّنا سياسة الواثق تجاه العلوييّن، فلم يلاقوا شدّة زمانه، ولكنّ
____________________
(١) الطبرسي: أعلام الورى ص ٣٢٥.
(٢) الدوري: العصر العبّاسي الأوّل ص ٢١٠.
(٣) اليعقوبي: التاريخ ج٣ ص ١٧٣.
(٤) طيفور: بغداد ص ١٤٢ - ١٤٣.
(٥) ابن رستم الطبري: دلائل الإمامة ص ٢٠٤.
(٦) الكُليني: الكافي ج١ ص ٤٩٧.
(٧) ابن رستم الطبري: دلائل الإمامة ص ٢١٦.
الحال اختلف أيّام المـُتوكّل، فقد اشتدّ في مُعاملة العلوييّن، وقد بيّنّا الأساليب التي اتّخذها المـُتوكّل في معاملة العلوييّن، ونتيجةً لذلك فقد تعرّض عليّ الهادي للسعايات التي وَجدت آذاناً صاغية مِن المـُتوكّل، فيذكر اليعقوبي أنّه استقدَم عليّ الهادي مِن المدينة إلى سرّ مَن رأي بعد أنْ وصلته الأخبار بأنّ هُناك قوماً يقولون أنّه الإمام، ( فلمّا وصل إلى الياسريّة تلقّاه إسحاق بن إبراهيم، فرأى تَشوّق الناس إليه واجتماعهم لرؤيته فدخل به في الليل، فأقام ببغداد ثُمّ ذهبَ إلى سامراء، ثُمّ لا يُذكر بعد ذلك عنه شيئاً(١) .
أمّا المسعودي، فيذكر أنّه قد قيل للمتوكّل: ( إنّ في منزله - عليّ الهادي - سلاحاً وكُتباً مِن شيعته )، فلمّا ذَهب الرسول لم يجد مِن ذلك شيئاً، ووجد أبو الحسن متوجّهاً إلى ربّه يترنّم بآياتٍ مِن القرآن في الوعد والوعيد، فجيء به إلى المـُتوكّل وهو في مجلس الشراب، فأعظمه وأجلسه إلى جنبه وردّه إلى منزله سالماً(٢) .
وقد تبدّلت سياسة العبّاسييّن تجاه الشيعة أيّام المـُنتصر، فلم يُسئ للعلويّين ثُمّ مَلك المـُستعين، ولا تَذكر المصادر شيئاً عن العلاقة بين الإماميّة والمـُستعين، وقد توفّي عليّ الهادي أيّام المـُعتز سنة ٢٥٤ هـ(٣) .
وقد انتقلت إمامة الشيعة الإماميّة بعد عليّ الهادي إلى ابنه الحسن بن عليّ العسكري، وقد عاصر المـُعتز والمـُعتمَد.
ولا تَردُ أخبار الحسن العسكري في المصادر التاريخيّة سوى إشاراتٍ قليلةٍ، ولكنّ أخباره مع العبّاسييّن ترد في المصادر الإماميّة.
ويبدو أنّ الفترة التي عاشها الحسن العسكري قد امتازت بالشدّة في معاملة العلوييّن - بما فيهم الزيدية والإماميّة -(٤) ، لذلك تُجمع المصادر الإماميّة أنّ الحسن العسكري قد حُبس في زَمن المـُعتمد واشتدّ في
____________________
(١) اليعقوبي: التاريخ ج٣ ص ٢٠٩.
(٢) المسعودي: مُروج الذَهب ج٤ ص ٩٣ - ٩٤.
(٣) اليعقوبي: التاريخ ج٣ ص ٢٢٥.
(٤) اُنظر الأصفهاني: مقاتل الطالبيّين، عن الثورات في هذه الفترة ص ٦٨٥ وما بعدها.
معاملته(١) .
وتُوفّي الحسن العسكري سَنة ٢٦٠هـ في خلافة المـُعتمد، وقد تنازع الشيعة بعد وفاة الحسن العسكري واختلفوا فيمَن يَخلِفه، فيذكر المسعودي أنّ الحسن العسكري هو والد المهدي المـُنتظر والإمام الثاني عشر عند القطعيّة مِن الإماميّة، وهُم جمهور الشيعة، وقد تنازع هؤلاء في المـُنتظر مِن آل محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وافترقوا عشرين فرقة(٢) .
أمّا المصادر الإماميّة، فتذكر لمـّا توفّي الحسن العسكري، خَلَفه ابنه المـُنتظر لدولة الحقّ، وكان قد أخفى مولده وستر أمره؛ لصعوبة الوقت، وشدّة طلب سُلطان الزمان له واجتهاده في البحث عن أمره، ولمـّا شاع مِن مذهب الإماميّة وعُرف مِن انتصارهم له، فلم يظهر وَلده في حياته ولا عرفه الجمهور بعد وفاته )(٣) ، لذلك لم يَره ( إلاّ الخواصّ مِن شيعته )(٤) .
وسيأتي الكلام عن المهدي المـُنتظر في الفصل الخامس؛ لأنّ هذا يدخل في باب العقائد.
وهكذا نجد أنّ الشيعة الإماميّة التزمتْ الجانب السَلبي في الصراع مع العبّاسييّن، واتقت السلطان فلم يدعُ أحدٌ منهم إلى الخروج عليه، فكانت إمامتهم إمامة روحيّة، وقد كثُر أتباعهم ومَن بأمرهم، ولعّل هذا كان مصدر قلقٍ وخوفٍ للعبّاسيّين فكان ما كان في مُعاملة الأئمّة وأتباعهم.
____________________
(١) الكُليني: ج١ ص ٥١٣، واُنظر أيضاً ابن شهرآشوب: المناقب ج٤ ص ٤٢٩، الطبرسي: أعلام الورى ص ٣٦٠، المفيد: الإرشاد ص ٣٤٤.
(٢) المسعودي: مُروج الذَهب ج٤ ص ١٩٩. ويجعلهم سعد القُمّي ١٥ فرقة، ص ١٠٢.
(٣) المـُفيد: الإرشاد ص ٣٤٥.
(٤) الطبرسي: أعلام الورى ص ٣٦٠.
الفصل الخامس: الإمامـة وتَطوّرها عند الشيعة الإماميّة
١ - الإمامة:
أ - إمامة جعفر بن محمّد الصادق
ب - إمامة موسى بن جعفر الكاظم
جـ - إمامة عليّ بن موسى الرضا
د - إمامة محمّد بن عليّ الجواد
هـ - إمامة عليّ بن محمّد الهادي
و - إمامة الحسن بن عليّ العسكري
ز - إمامة محمّد بن الحسن المهدي ( صاحب الزمان )
٢ - عقائد الإماميّة
أ - الإمامة
ب - العصمة
ج - التقيّة
د - الرَجعة
الإمامة:
أ - إمامة جعفر الصادق:
لمّا توفّي أبو جعفر الباقر سنة ١١٤ هـ(١) قال بعض الشيعة بإمامة ابنه أبي عبد الله جعفر الصادق(٢) .
وتستدلّ الشيعة على إمامة الصادق بِعدّة أدلّة، فقد ذَكر الكُليني عن أبي عبد الله أنّه قال:( إنّ أبي استودعني ما هناك، فلمّا حضرته الوفاة قال: ادعُ لي شُهوداً، فدعوت له أربعة نَفر مِن قُريش، فيهم نافع مولى عبد الله بن عُمر، فقال: اكتب، هذا ما أوصى به يعقوب بنيه ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) ،وأوصى محمّد بن عليّ إلى جعفر بن محمّد ...، ثُمّ قال للشهود: انصرفوا رحمكم الله، فقلت له: يا أبتِ - بعدما انصرفوا -ما كان في هذا بأنْ تُشهد عليه، فقال: يا بنيّ كَرهتُ أنْ تغلب وأنْ يُقال: إنّه لم يوصِ إليه، فأردت أنْ تكون لك الحُجّة ) (٣) .
ويذكر المسعودي أنّ محمّداً الباقر أشار إلى الصادق في حياته مُدّة أيّامه، ثُمّ نصّ عليه. ويورد روايةً في النصّ على أبي عبد الله الصادق، عن زرارة وأبي الجارود(٤) ، ( إنّ أبا جعفر أحضر أبا عبد الله وهو صحيح لا علّة به، فقال:( إنّي أُريد أنْ آمرك بأمر ٍ، فقال له:مُرني بما شئت ، فقال:
____________________
(١) النوبختي: فِرَق الشيعة ص ٥٣.
(٢) ن. م ص ٥٥.
(٣) الكُليني: الكافي ج١ ص ٣٠٧ ( الأُصول )، واُنظر المـُفيد: الإرشاد ص ٢٧١.
(٤) زرارة بن أعيُن، مِن أصحاب الإمام الباقر، كان فقيهاً ومُحدّثاً، وعُدَّ أيضاً مِن أصحاب الإمام الصادق، تُوفّي سَنة ١٥٠ هـ. اُنظر الطوسي: الفهرست ١٠٠، أمّا أبو الجارود، فهو المـُنذر بن زياد زيديّ المذهب، إليه تُنسب الجاروديّة عَدّه الطوسي مِن أصحاب الإمام الباقر، اُنظر الفهرست ص ٩٨.
ائتني بصحيفةٍ ودواةٍ )، فأتاه بها، فكتب له وصيته الظاهرة، ثُمّ أمر أنْ يدعو له جماعةً مِن قريش، فدعاهم وأشهدهم على وصيّته إليه )(١) .
كما أورد الكُليني عِدّة روايات استدلّ بها على إمامة الصادق، فعن أبي الصباح الكناني، قال: ( نظرَ أبو جعفر إلى أبي عبد الله يمشي، فقال:( ترى هذا؟ مِن الذين قال الله عزّ وجل: ( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) ) (٢) .
وعن سدير الصيرفي، قال: ( سمعت أبا جعفر يقول:( إنّ مِن سعادة الرجل أنْ يكون له الولد يُعرف فيه شَبه، خَلقه وخُلقه وشمائله، وإنّي لأعرف مِن ابني هذا شبه خَلقي وخُلقي وشمائلي ) يعني أبا عبد الله(٣) .
ورُويَ أيضاً عن أحمد بن مهران صاحب أبي جعفر الباقر، قال: ( كُنت قاعداً عند أبي جعفر، فأقبل جعفر - الصادق -، فقال أبو جعفر:( هذا خير البريّة ) )(٤) .
كما رويَ عن جابر الجُعفي(٥) روايةً عدّها مِن أدلّة إمامة الصادق، فقد ذكر جابر عن أبي جعفر قال: سُئل الباقر عن القائم، فضَرب بيده على أبي عبد الله فقال:( هذا والله قائم آل محمّد ) ، قال عنبة: فلمّا قُبض أبو جعفر دخلتُ على أبي عبد الله فأخبرته بذلك، فقال:( صدق جابر، ثُمّ قال:لعلّكم ترون أنْ ليس كلّ إمام هو القائم بعد الإمام الذي قبله ) (٦) .
فيُلاحظ أنّ أبا جعفر الباقر كان يؤكّد إمامة ابنه جعفر الصادق؛ خوفاً مِن أن تذهب ظُنون الشيعة إلى القول بإمامة غيره، ولعلّه فعل ذلك لظهور
____________________
(١) المسعودي: إثبات الوصيّة ص ١٧٨.
(٢) الكُليني: الكافي ج١ ص ٣٠٦ ( الأُصول )، وقد ذَكر هذه الرواية المـُفيد في الإرشاد ص ٢٧١ في باب إمامة الصادق.
(٣) الكُليني: الكافي ج١ ص ٣٠٦ ( الأُصول ).
(٤) ن. م ج١ ص ٣٠٧ واُنظر المفيد: الإرشاد ص ٢٧١.
(٥) جابر بن يزيد الجعفي، مِن أصحاب الإمام الباقر، تُوفّي سنة ١٢٨ هـ. اُنظر الطوسي: الرجال ص ١١١.
(٦) الكُليني: الكافي ج١ ص ٣٠٧، المسعودي: إثبات الوصيّة ص ١٧٨، المـُفيد: الإرشاد ص ٢٧١، النيسابوري ( ت ٥٠٨ ): روضة الواعظين ص ٢٤٩.
أخيه زيد بن عليّ بن الحسين وقول جماعة مِن الشيعة بإمامته، لذلك وضّح الصادق قول أبيه مؤكّداً إمامته بعده.
ويقول المـُفيد في إمامة الصادق: ( وكان الصادق جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين مِن بين إخوته خليفة أبيه محمّد بن عليّ ووصيّه والقائم بالإمامة بعده )(١) .
ويستدلّ الطوسي على إمامة الصادق لكونه عالِماً بجميع أحكام الشريعة؛ لأنّه لم يكن هناك مَن ادُعيَت له هذه الصفة، كما أنّ تواتر الشيعة بالنصّ عليه مِن أبيه دليلاً على إمامته(٢) .
واختلفتْ الشيعة أيّام جعفر بن محمّد الصادق في الإمامة وتفرقوا، وظهرت حركات غلوٍّ خرجتْ عن الخطّ الشيعي، فقد ظهر في أيّام الصادق الكيسانيّة التي بإمامة محمّد بن الحنفيّة وتَطوّرت حتى أخرجت الإمامة مِن وُلد عليٍّ إلى آل العبّاس، وقد مرّ ذِكر ذلك في باب الدعوة العبّاسيّة.
كما خرج في أيّام الصادق محمّد بن عبد الله النفس الزكيّة على المنصور سنة ١٤٥٠ هـ - كما مرّ ذكره في الفصل الرابع - وقُتل محمّد فظهرت طائفةٌ قالت بإمامته، وزعمت بأنّه القائم وأنّه المهدي(٣) .
وقد أنكر هؤلاء - الذين قالوا بإمامة محمّد النفس الزكيّة - إمامة الصادق، وادّعت فرقة منهم أنّ الإمامة في المغيرة بن سعيد إلى خروج المهدي، وهو عندهم محمّد النفس الزكيّة، وقالوا بأنّه حيٌّ لم يمتْ ولم يُقتل، وهؤلاء هُم المغيريّة(٤) .
____________________
(١) المـُفيد: الإرشاد ص ٢٧٠.
(٢) الطوسي: تلخيص الشافي ج٤ ص ١٩٦، ويُضيف الطبرسي دليلاً آخر على أدلّة إمامة الصادق، فيُروى عن الكُليني قصّة مُناقشة أحد الشاميّين مع الإمام الصادق في الإمامة ودعوة الصادق هشام بن الحَكم لإجابته، إلاّ أنّ الشاميّ رفض إلاّ أنْ يُناقشه الصادق، فلمّا ناقشه وأقنعه قال الشامي أشهد أنْ لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله، وأنّك وصيّ الأوصياء. الطبرسي: الاحتجاج ج١ ص ١٩٩، إلاّ أنّ الخبر غير وارد في الكُليني في باب إمامة الصادق، اُنظر: الكليني ج١ ص ٣٠٧.
(٣) النوبختي: فِرَق الشيعة ص ٥٤.
(٤) النوبختي ص ٥٥.
كما ظهرت فِرَقٌ أُخرى مِن الغُلاة، منهم العلبائيّة، وقد ادّعى هؤلاء أنّ محمّداً عبداً لعليّ، وعليٌّ هو الربّ، وهؤلاء أصحاب بشّار السعيري(١) .
ولعلّ أخطر حركات الغلوّ التي ظهرتْ أيّام الصادق ( الخطّابيّة )، أتباع أبي الخطّاب محمّد بن أبي زينب الأجدع الأسدي، وكان هذا مِن أتباع جعفر الصادق، وقد زَعم أبو الخطّاب أنّ لجعفر الصادق طبيعة إلهيّة، وأنّ له معجزات، وأنّه يعلمـُ الغَيب(٢) .
وقد كثُر أتباع أبي الخطّاب في الكوفة، فيذكر الكشّي ( أنّ أبا الخطّاب أفسد أهل الكوفة، فصاروا لا يُصلّون المغرب حتّى يغيب الشفَق )(٣) .
وقد وقف الصادق موقفاً صارماً تجاه أبي الخطّاب وأتباعه، فمنع أصحابه مِن الاتّصال بهم، فروى المـُفضّل بن يزيد أنّ أبا عبد الله الصادق - عندما ذكر أصحاب أبي الخطّاب والغُلاة - قال له:( لا تُواكلوهم ولا تُشاربوهم ولا تُصافحوهم ولا توارثوهم ) (٤) .
ِومن مبادئ الخطابيّة: أنّهم زعموا أنّه لا بدّ مِن وجود رسولين في كلّ عصرٍ، واحد ناطق والآخر صامت، فكان محمّد ناطقاً وعليّ صامتاً، وتأوّلوا في ذلك قول الله تعالى:( ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا ) ، وقد قال بعضهم هُما آلهة، ثُمّ إنّهم افترقوا لَمّا بلغهم أنّ الصادق لَعنهم وتبرّأ منهم، كما لعنَ أبا الخطّاب وتبرّأ منه(٥) .
____________________
(١) سعد القُمّي: المقالات والفِرَق ص ٥٩.
(٢) الكشّي: الرجال ص ٢٤٦ - ٢٤٨.
(٣) ن. م ص ٢٤٩.
(٤) ن. م ص ٢٥٢.
(٥) سعد القُمّي: المقالات والفِرَق ص ٥٠، ويذكر سعد القُمّي أنّ الخَطابيّة افترقوا إلى أربع فِرَق: منهم مَن قال أنّ جعفر بن محمّد هو الله، وأنّ أبا الخطّاب نبيّ مُرسل، أرسله جعفر وأمر بطاعته، وقال آخرون: أنّ بزيغاً - وكان حائكاً مِن حاكة الكوفة - هو نبيّ مُرسل مثل أبي الخطّاب وشريكه، أرسله الصادق وجعله شريك أبي الخطّاب في النبوّة والرسالة، ومنهم مَن قال: إنّ السرى الأقصم أرسله الصادق، كما زعموا أنّ جعفر الصادق هو الإسلام والإسلام هو السِلم والسِلم هو الله، ونحن بنو الإسلام، ودعوا إلى نبوة السرى وصلّوا =
محمّد البدر، آخر أئمة الزيديّة، فليرجع إلى كتابنا (بحوث في الملل والنحل). (1)
فكما قامت للزيديّة دولة في المغرب واليمن، فهكذا قامت دولة زيديّة في طبرستان بين الأعوام (250 - 360هـ)؛ حيث ظهر الحسن بن زيد بن محمّد بن إسماعيل بن زيد بن الحسين في طبرستان أيّام المستعين الله، وتمكّن من بسط نفوذه على طبرستان وجُرجان، وقام بعده أخوه محمّد بن زيد، ودخل بلاد الديلم عام 277هـ، ثُمَّ ملك طبرستان بعد ذلك الناصر للحق الحسن بن عليّ المعروف بالأطروش، وجاء بعده الحسن بن القاسم، وبعده محمّد بن الحسن بن القاسم المتوفّى 360هـ.
هذه إلمامة موجزة وضعتها أمام القارئ عن ثوّارهم ودولهم.
لم يكن زيد الشهيد صاحب نهج كلامي ولا فقهي، فلو كان يقول بالعدل والتوحيد ويكافح الجبر والتشبيه، فلأجل أنّه ورثهما عن آبائه (عليهم السّلام)، وإن كان يفتي في مورد أو موارد، فهو يصدر عن الحديث الّذي يرويه عن آبائه.
نعم، جاء بعد زيد مفكّرون وعاة، وهم بين دعاة للمذهب، أو بناة للدولة في اليمن وطبرستان، فساهموا في إرساء مذهب باسم المذهب الزيدي، متفتّحين في الأُصول والعقائد مع المعتزلة، وفي الفقه وكيفيّة الاستنباط مع الحنفيّة، ولكن الصلة بين ما كان عليه زيد الشهيد في الأُصول والفروع وما أرساه
____________________
(1) بحوث في الملل والنحل: 7/371 - 386.
هؤلاء في مجالي العقيدة والشريعة منقطعة إلاّ في القليل منهما.
ولا أُغالي إذا قلت: إنّ المذهب الزيدي مذهب ممزوج ومنتزع من مذاهب مختلفة في مجالي العقيدة والشريعة، ساقتهم إلى ذلك الظروف السائدة عليهم، وصار مطبوعاً بطابع مذهب زيد، وإن لم يكن له صلة بزيد إلاّ في القسم القليل.
ومن ثَمَّ التقت الزيديّة في العدل والتوحيد مع شيعة أهل البيت جميعاً، إذ شعارهم في جميع الظروف والأدوار رفض الجبر والتشبيه، والجميع في التديّن بذينك الأصلين عيال على الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام)، كما أنّهم التقوا في الأُصول الثلاثة: ـ
1 - الوعد والوعيد.
2 - المنزلة بين المنزلتين.
3 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. - مع المعتزلة حيث أدخلوا هذه الأُصول في مذهبهم ورتّبوا عليه:
1 - خلود مرتكب الكبيرة في النار إذا مات بلا توبة، وحرمانه من الشفاعة؛ لأنّها للعدول دون الفسّاق.
2 - الشفاعة؛ بمعنى ترفيع الدرجة، لا الحطّ من الذنوب.
3 - الفاسق في منزلة بين المنزلتين؛ فهو عندهم لا مؤمن ولا كافر بل فاسق.
فاستنتجوا الأمرين الأوّلين من الأصل الأوّل، والثالث من الأصل الثاني.
وأمّا الأصل الثالث، فهو ليس من خصائص الاعتزال، ولا الزيديّة، بل يشاركهم الإماميّة. هذه عقائدهم في الأُصول.
وأمّا الفروع فقد التفّت الزيديّة حول القياس والاستحسان والإجماع، وجعلوا الثالث بما هو هو حجّة، كما قالوا بحجيّة قول الصحابي وفعله، وبذلك صاروا أكثر فِرق الشيعة انفتاحاً على أهل السنّة.
ولكن العلامة الفارقة والنقطة الشاخصة الّتي تميّز هذا المذاهب عمّا سواه من المذاهب، ويسوقهم إلى الانفتاح على الإماميّة والإسماعيليّة، هو القول بإمامة عليّ والحسنين بالنصّ الجليّ أو الخفيّ عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، والقول بأنّ تقدّم غيرهم عليهم كان خطأ وباطلاً.
وها نحن نأتي برؤوس عقائدهم الّتي يلتقون في بعضها مع المعتزلة والإماميّة:
1 - صفاته سبحانه عين ذاته، خلافاً للأشاعرة.
2 - إنّ الله سبحانه لا يُرى ولا تجوز عليه الرؤية.
3 - العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها.
4 - الله سبحانه مريد بإرادة حادثة.
5 - إنّه سبحانه متكلّم بكلام، وكلامه سبحانه فعله: وهو الحروف والأصوات.
6 - أفعال العباد ليست مخلوقة لله سبحانه.
7 - تكليف ما يطاق قبيح، خلافاً للمجبّرة والأشاعرة.
8 - المعاصي ليس بقضاء الله.
9 - الإمامة تجب شرعاً لا عقلاً، خلافاً للإمامية.
10 - النصّ على إمامة زيد والحسنين عند الأكثريّة.
11 - القضاء في فدك صحيح، خلافاً للإماميّة.
12 - خطأ المتقدّمين على عليّ في الخلافة قطعيّ.
13 - خطأ طلحة والزبير وعائشة قطعيّ.
14 - توبة الناكثين صحيحة.
15 - معاوية بن أبي سفيان فاسق لبغيه لم تثبت توبته.
هذه رؤوس عقائد الزيديّة استخرجناها من كتاب (القلائد في تصحيح الاعتقاد)، المطبوع في مقدّمة البحر الزخّار. (1)
قد ذكر مؤرّخو العقائد للزيديّة فِرقاً، بين مقتصر على الثلاث، وإلى مفيض إلى ست، وإلى ثمان، منهم: الجاروديّة والسليمانيّة والبتريّة والنعيميّة، إلى غير ذلك من الفِرق، وبما أنّ هذه الفِرق كلّها قد بادت وذهبت أدراج الريح، مع بقاء الزيديّة في اليمن، ولا يوجد اليوم في اليمن بين الزيديّة من المفاهيم الكلاميّة المنسوبة إلى الفِرق كالجاروديّة أو السليمانيّة أو البتريّة أو الصالحيّة إلاّ مفهوم واحد، وهو المفهوم العام الّذي تعرفت عليه، وهو القول بإمامة زيد والخروج
____________________
(1) البحر الزخّار: 52 - 96.
على الظلمة، واستحقاق الإمامة بالطلب والفضل، لا بالوراثة، مع القول بتفضيل عليّ - كرم الله وجهه - وأولويتّه بالإمامة، وقصرها من بعده في البطنين الحسن والحسين.
وأمّا أسماء تلك الفِرق والعقائد المنسوب إليهم، فلا توجد اليوم إلاّ في بطون الكتب والمؤلَّفات في الفِرق الإسلاميّة كالمِلل والنحل ونحوها، فإذا كان الحال في اليمن كما ذكره الفضيل شرف الدين، فالبحث عن هذه الفِرق من ناحية إيجابيّاتها وسلبيّاتها ليس مهمّاً بعد ما أبادهم الدهر، وإنّما اللاّزم دراسة المفهوم الجامع بين فِرقهم.
15
الإسماعيليّة
الإسماعيليّة فِرقة من الشيعة القائلة بأنّ الإمامة بالتنصيص من النبيّ أو الإمام القائم مقامه، غير أنّ هناك خلافاً بين الزيديّة والإماميّة والإسماعيليّة في عدد الأئمّة ومفهوم التنصيص.
فالأئمّة المنصوصة خلافتهم وإمامتهم بعد النبيّ عند الزيديّة لا يتجاوز عن الثلاثة: عليّ أمير المؤمنين (عليه السّلام)، والسبطين الكريمين: الحسن والحسين (عليهما السّلام)، وبشهادة الأخير أغلقت دائرة التنصيص وجاءت مرحلة الانتخاب بالبيعة كما تقدم.
وأمّا الأئمّة المنصوصون عند الإماميّة فاثنا عشر إماماً آخرهم غائبهم يظهره الله سبحانه عندما يشاء، وقد حوّل أمر الأُمّة - في زمان غيبته - إلى الفقيه العارف بالأحكام والسنن والواقف على مصالح المسلمين على النحو المقرّر في كتبهم وتآليفهم.
وأمّا الإمامة عند الإسماعيليّة فهي تنتقل عندهم من الآباء إلى الأبناء، ويكون انتقالها عن طريق الميلاد الطبيعي، فيكون ذلك بمثابة نصّ من الأب بتعيين الابن، وإذا كان للأب عدّة أبناء فهو بما أُوتي من معرفة خارقة للعادة يستطيع أن يعرف من هو الإمام الّذي وقع عليه النص، فالقول بأنّ الإمامة عندهم بالوراثة أولى من القول بالتنصيص.
وعلى كلّ حال فهذه الفِرقة منشقّة عن الشيعة، معتقدة بإمامة إسماعيل بن جعفر بن الإمام الصادق (عليه السّلام)، وإليك نبذة مختصرة عن سيرة إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (110 - 145هـ).
إنّ إسماعيل هو الإمام الأوّل والمؤسّس للمذهب، فوالده الإمام الصادق (عليه السّلام) غنيّ عن التعريف وفضله أشهر من أن يُذكر، وأُمّه فاطمة بنت الحسين بن عليّ بن الحسين الّتي أنجبت أولاداً ثلاثة هم:
1 - إسماعيل بن جعفر.
2 - عبد الله بن جعفر.
3 - أُم فروة.
وكان إسماعيل أكبرهم، وكان أبو عبد الله (عليه السّلام) شديد المحبّة له والبرَّ به والإشفاق عليه، مات في حياة أبيه (عليه السلام) (بالعريض) وحمل على رقاب الرّجال إلى أبيه بالمدينة حتّى دفنه بالبقيع. (1)
كان الإمام الصادق حريصاً على إفهام الشيعة بأنّ الإمامة لم تُكتب لإسماعيل، فليس هو من خلفاء الرسول الاثني عشر الّذين كُتبت لهم الخلافة والإمامة بأمر السماء وإبلاغ الرسول الأعظم.
____________________
(1) إرشاد المفيد: 284.
ومن الدواعي الّتي ساعدت على بثّ بذر الشبهة والشكّ في نفوس الشيعة في ذلك اليوم؛ هو ما اشتهر من أنّ الإمامة للولد الأكبر، وكان إسماعيل أكبر أولاده، فكانت أماني الشيعة معقودة عليه، ولأجل ذلك تركّزت جهود الإمام الصادق (عليه السّلام) على معالجة الوضع واجتثاث جذور تلك الشبهة وأنّ الإمامة لغيره، فتراه تارة ينصّ على ذلك، بقوله وكلامه، وأُخرى بالاستشهاد على موت إسماعيل وأنّه قد انتقل إلى رحمة الله ولن يصلح للقيادة والإمامة.
وإليك نموذجاً يؤيّد النهج الّذي انتهجه الإمام لتحقيق غرضه في إزالة تلك الشبهة.
روى النعماني عن زرارة بن أعين، أنّه قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السّلام) وعند يمينه سيّد ولده موسى (عليه السّلام) وقدّامه مرقد مغطّى، فقال لي: «يا زرارة جئني بداود بن كثير الرقي وحمران وأبي بصير» ودخل عليه المفضّل بن عمر، فخرجت فأحضرت من أمرني بإحضاره، ولم يزل الناس يدخلون واحداً إثر واحد حتّى صرنا في البيت ثلاثين رجلا.
فلمّا حشد المجلس قال: «يا داود اكشف لي عن وجه إسماعيل»، فكشف عن وجهه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا داود أحيٌّ هو أم ميّت؟» ، قال داود: يا مولاي هو ميّت، فجعل يعرض ذلك على رجل رجل، حتّى أتى على آخر من في المجلس، وانتهى عليهم بأسرهم، وكل يقول: هو ميّت يا مولاي، فقال: «اللّهم اشهد» ثُمَّ أمر بغسله وحنوطه، وإدراجه في أثوابه.
فلمّا فرغ منه قال للمفضّل: (يا مفضّل أحسر عن وجهه)، فحسر عن وجهه، فقال: «أحيُّ هو أم ميّت؟» فقال له: ميّت، قال(عليه السّلام): «اللّهم اشهد عليهم» ، ثُمَّ
حمل إلى قبره، فلمّا وضع في لحده، قال: «يا مفضّل اكشف عن وجهه»، وقال للجماعة: (أحيّ هو أم ميّت؟)، قلنا له: ميّت، فقال: «اللّهم اشهد، واشهدوا فانّه سيرتاب المبطلون، يريدون إطفاء نور الله بأفواههم - ثُمَّ أومأ إلى موسى - والله متمّ نوره ولو كره المشركون»، ثُمَّ حثونا عليه التراب، ثُمَّ أعاد علينا القول، فقال: «الميّت، المحنّط، المكفّن المدفون في هذا اللحد من هو؟» قلنا: إسماعيل، قال: «اللّهم اشهد». ثُمَّ أخذ بيد موسى (عليه السّلام) وقال: «هو حقّ، والحقّ منه، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها». (1)
إنّ الإسماعيليّة تدّعي أنّ ما قام به الإمام الصادق (عليه السّلام) كان تغطية؛ لستره عن أعين العباسيّين، الّذين كانوا يطاردونه بسبب نشاطه المتزايد في نشر التعاليم الّتي اعتبرتها الدولة العباسيّة منافية لقوانينها. والمعروف أنّه توجّه إلى سلمية ومنها إلى دمشق فعلم به عامل الخليفة، وهذا ما جعله يغادرها إلى البصرة ليعيش فيها متستّراً بقيّة حياته.
مات في البصرة سنة 143هـ، وكان أخوه موسى بن جعفر الكاظم حجاباً عليه، أمّا وليّ عهده محمّد فكان له من العمر أربع عشرة سنة عند موته. (2)
ما ذكره أُسطورة حاكتها يدُ الخيال، ولم يكن الإمام الصادق (عليه السّلام) ولا أصحابه الأجلاّء، ممّن تتلمذوا في مدرسة الحركات السريّة، حتّى يفتعل موت ابنه بمرأى ومسمع من الناس وهو بعد حيّ يرزق، ولم يكن عامل الخليفة
____________________
(1) غيبة النعماني: 327، الحديث 8، ولاحظ؛ بحار الأنوار: 48/21.
(2) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: 180.
بالمدينة المنوّرة بليداً، يكتفي بالتمويه، حتّى يتسلّم المحضر ويبعث به إلى دار الخلافة العبّاسيّة.
والظاهر أنّ إصرارهم بعدم موت إسماعيل في حياة أبيه جعفر الصادق (عليه السّلام)، لأجل تصحيح إمامة ابنه عبد الله بن إسماعيل؛ حتّى يتسنّى له أخذ الإمامة من أبيه الحيّ بعد حياة الإمام الصادق (عليه السّلام).
لكن الحقّ أنّه توفّي أيّام حياة أبيه، بشهادة الأخبار المتضافرة الّتي تعرّفت عليها، وهل يمكن إغفال أُمّة كبيرة وفيهم جواسيس الخليفة وعمّالها؟!، وستْر رحيل إسماعيل إلى البصرة بتمثيل جنازة بطريقة مسرحيّة يُعلن بها موته، فإنّه منهج وأُسلوب السياسيّين المخادعين، المعروفين بالتخطيط والمؤامرة، ومن يريد تفسير فعل الإمام عن هذا الطريق فهو من هؤلاء الجماعة (وكلّ إناء بالّذي فيه ينضح). وأين هذا من وضع الجنازة مرّات وكشف وجهه والاستشهاد على موته وكتابة الشهادة على كفنه؟!
والتاريخ يشهد على أنّه لم يكن لإسماعيل ولا لولَده الإمام الثاني، أيّة دعوة في زمان أبي جعفر المنصور ولا ولَده المهدي العبّاسي، بشهادة أنّ ابن المفضّل كتب كتاباً ذكر فيه صنوف الفِرق، ثُمَّ قرأ الكتاب على الناس، فلم يذكر فيه شيئاً من تلك الفِرقة مع أنّه ذكر سائر الفِرق الشيعيّة البائدة.
والحق إنّ إسماعيل كان رجلاً ثقة، محبوباً للوالد، وتوفّي في حياة والده وهو عنه راض، ولم تكن له أي دعوة للإمامة، ولم تظهر أي دعوة باسمه أيّام خلافة المهدي العبّاسي الّذي توفّي عام 169هـ، وقد مضى على وفاة الإمام الصادق (عليه السّلام) إحدى وعشرون سنة.
الخطوط العريضة للمذهب الإسماعيلي
إنّ للمذهب الإسماعيلي آراء وعقائداً:
كانت الدعوة الإسماعيليّة يوم نشوئها دعوة بسيطة لا تتبنّى سوى: إمامة المسلمين، وخلافة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) واستلام الحكم من العباسيّين بحجة ظلمهم وتعسّفهم، غير أنّ دعوة بهذه السذاجة لا يُكتب لها البقاء إلاّ باستخدام عوامل تضمن لها البقاء، وتستقطب أهواء الناس وميولهم.
ومن تلك العوامل الّتي لها رصيد شعبي كبير هو ادّعاء انتماء أئمّتهم إلى بيت الوحي والرسالة وكونهم من ذريّة الرسول وأبناء بنته الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السّلام)، وكان المسلمون منذ عهد الرسول يتعاطفون مع أهل بيت النبيّ، وقد كانت محبّتهم وموالاتهم شعار كلّ مسلم واع.
وممّا يشير إلى ذلك أنّ الثورات الّتي نشبت ضد الأُمويّين كانت تحمل شعار حبّ أهل البيت (عليهم السّلام) والاقتداء بهم والتفاني دونهم، ومن هذا المنطلق صارت الإسماعيليّة تفتخر بانتماء أئمّتهم إلى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، حتّى إذا تسلّموا مقاليد الحكم وقامت دولتهم اشتهروا بالفاطميّين، وكانت التسمية يومذاك تهزّ المشاعر وتجذب العواطف بحجّة أنّ الأبناء يرثون ما للآباء من الفضائل والمآثر، وأنّ
تكريم ذريّة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) تكريم له (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فشتّان ما بين بيت أُسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوانه وبيت أُسّس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم.
إنّ تأويل الظواهر وإرجاعها إلى خلاف ما يتبادر منها في عرف المتشرّعة هي السمة البارزة الثانية للدعوة الإسماعيليّة، وهي إحدى الدعائم الأساسيّة؛ بحيث لو انسلخت الدعوة عن التأويل واكتفت بالظواهر لم تتميّز عن سائر الفِرق الشيعيّة إلاّ بصرف الإمامة عن الإمام الكاظم (عليه السّلام) إلى أخيه إسماعيل بن جعفر، وقد بنوا على هذه الدعامة مذهبهم في مجالي العقيدة والشريعة، وخصوصاً فيما يرجع إلى تفسير الإمامة وتصنيفها إلى أصناف.
إنّ تأويل الظواهر والتلاعب بآيات الذكر الحكيم وتفسيرها بالأهواء والميول جعل المذهب الإسماعيلي يتطوّر مع تطوّر الزمان، ويتكيّف بمكيّفاته، ولا ترى الدعوة أمامها أي مانع من مماشاة المستجدات وإن كانت على خلاف الشارع أو الضرورة الدينيّة.
إنّ ظاهرة الجمود على النصوص والظواهر ورفض العقل في مجالات العقائد، كانت من أهم ميّزات العصر العبّاسي، هذه الظاهرة ولّدت رد فعل عند أئمّة الإسماعيليّة، فانجرفوا في تيّارات المسائل الفلسفيّة وجعلوها من صميم
الدّين وجذوره، وانقلب المذهب إلى منهج فلسفي يتطوّر مع تطوّر الزمن، ويتبنّى أُصولاً لا تجد منها في الشريعة الإسلاميّة عيناً ولا أثراً.
يقول المؤرّخ الإسماعيلي المعاصر مصطفى غالب: إنّ كلمة (إسماعيليّة) كانت في بادئ الأمر تدلّ على أنّها من إحدى الفِرق الشيعيّة المعتدلة، لكنّها صارت مع تطوّر الزمن حركة عقليّة تدلّ على أصحاب مذاهب دينيّة مختلفة، وأحزاب سياسيّة واجتماعيّة متعدّدة، وآراء فلسفيّة وعلميّة متنوّعة. (1)
ظهرت الدعوة الإسماعيليّة في ظروف ساد فيها سلطان العبّاسيّين شرق الأرض وغربها، ونشروا في كلِّ بقعة جواسيس وعيوناً ينقلون الأخبار إلى مركز الخلافة الإسلاميّة، ففي مثل هذه الظروف العصيبة لا يُكتب النجاح لكلّ دعوة تقوم ضدّ السلطة إلاّ إذا امتلكت تنظيماً وتخطيطاً متقناً يضمن استمرارها، ويصون دعاتها وأتباعها من حبائل النظام الحاكم وكشف أسرارهم.
وقد وقف الدعاة على خطورة الموقف، وأحسّوا بلزوم إتقان التخطيط والتنظيم، وبلغوا فيه الذروة؛ بحيث لو قُورنت مع أحدث التنظيمات الحزبيّة العصريّة، لفاقتها وكانت لهم القدح المعلّى في هذا المضمار، وقد ابتكروا أساليب دقيقة يقف عليها من سبر تراجمهم وقرأ تاريخهم، ولم يكتفوا بذلك فحسب بل جعلوا تنظيمات الدعوة من صميم العقيدة وفلسفتها.
____________________
(1) تاريخ الدعوة الإسماعيليّة: 14.
إنّ الأقلّية المعارضة من أجل الحفاظ على كيانها لا مناص لها من تربية فدائيّين مضحّين بأنفسهم في سبيل الدعوة؛ لصيانة أئمتهم ودعاتهم من تعرّض الأعداء، فينتقون من العناصر المخلصة المعروفة بالتضحية والإقدام، والشجاعة النادرة، والجرأة الخارقة ويكلّفون بالتضحيات الجسديّة، وتنفيذ أوامر الإمام أو نائبه، وإليك هذا النموذج:
في سنة 500 هـ فكّر فخر الملك بن نظام وزير السلطان سنجر، أن يُهاجم قلاع الإسماعيليّة، فأوفد إليه الحسن بن الصباح أحد فدائيّيه فقتله بطعنة خنجر، ولقد كانت قلاعه في حصار مستمر من قبل السلجوقيّين.
إنّ استعراض تاريخ الدعوات الباطنيّة السرّيّة وتنظيماتها رهن الوقوف على وثائقها ومصادرها الّتي تنير الدرب لاستجلاء كنهها، وكشف حقيقتها وما غمض من رموزها ومصطلحاتها، ولكن للأسف الشديد أنّ الإسماعيليّة كتموا وثائقهم وكتاباتهم ومؤلّفاتهم وكلّ شيء يعود لهم، ولم يبذلوها لأحد سواهم، فصار البحث عن الإسماعيليّة بطوائفها أمراً مستعصياً، إلاّ أن يستند الباحث إلى كتب خصومهم وما قيل فيهم، ومن المعلوم أنّ القضاء في حقّ طائفة استناداً إلى كلمات مخالفيهم خارج عن أدب البحث النزيه.
إنّ الإسماعيليّة أعطت للإمامة مركزاً شامخاً، وصنّفوا الإمامة إلى رُتب ودرجات، وزوّدوها بصلاحيّات واختصاصات واسعة، غير أنّ المهمَّ هنا الإشارة إلى تصنيفهم الإمام إلى مستور دخل كهف الاستتار، وظاهر يملك جاهاً وسلطاناً في المجتمع، فالأئمّة المستورون هم الّذين نشروا الدعوة سرّاً وكتماناً، وهم:
1 - إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (110 - 145هـ).
2 - محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الحبيب) (132 - 193هـ)، ولد في المدينة المنوّرة وتسلّم شؤون الإمامة واستتر عن الأنظار خشية وقوعه بيد الأعداء. ولقّب بالإمام المكتوم لأنّه لم يعلن دعوته وأخذ في بسطها خفية.
3 - عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الوافي) (179 - 212هـ)، ولد في مدينة محمّد آباد، وتولّى الإمامة عام 193هـ بعد وفاة أبيه، وسكن السلمية عام 194هـ مصطَحباً بعدد من أتباعه؛ وهو الّذي نظّم الدعوة تنظيماً دقيقاً.
4 - أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (التقي) (198 - 265هـ)، وتولّى الإمامة عام 212هـ، سكن السلمية سرّاً حيث أصبحت مركزاً لنشر الدعوة.
5 - الحسين بن أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الرضي) (212 - 289هـ) تولّى الإمامة عام 265هـ، ويقال أنّه اتّخذ عبد الله بن ميمون القدّاح حجّة له وحجاباً عليه.
6 - عبيد الله المهدي (260 - 322هـ) والمعروف بين الإسماعيليّة أنّ عبيد الله المهدي الّذي هاجر إلى المغرب وأسّس هناك الدولة الفاطميّة كان ابتداءً لعهد الأئمّة الظاهرين الّذين جهروا بالدعوة وأخرجوها عن الاستتار.
7 - محمّد بن عبيد الله القائم بأمر الله (280 - 334هـ)، ولد بالسلمية، ارتحل مع أبيه عبيد الله المهدي إلى المغرب وعهد إليه بالإمامة من بعده.
8 - إسماعيل المنصور بالله (303 - 346هـ)، ولد بالقيروان، تسلّم شؤون الإمامة بعد وفاة أبيه سنة 334هـ.
9 - معد بن إسماعيل المعزّ لدين الله (319 - 365هـ)، مؤسس الدولة الفاطميّة في مصر.
10 - نزار بن معد العزيز بالله (344 - 386هـ)، ولي العهد بمصر سنة 365هـ، واستقلّ بالأمر بعد وفاة أبيه، وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً.
11 - منصور بن نزار الحاكم بأمر الله (375 - 411هـ)، بويع بالخلافة سنة 386هـ وكان عمره أحد عشر عاماً ونصف العام، وهو من الشخصيّات القليلة الّتي لم تتجلّ شخصيّته بوضوح، وقام بأعمال إصلاحيّة زعم مناوئوه أنّها من البدع.
وأمّا عن مصير الحاكم، فمجمل القول فيه أنّه فُقد في سنة 411هـ، ولم يُعلم مصيره، وحامت حول كيفيّة اغتياله أساطير لا تتلاءم مع الحاكم المقتدر.
وبعد اختفائه انشقّت فِرقة من الإسماعيليّة ذهبت إلى إلوهيّة الحاكم وغيبته، وهم المعروفون اليوم بـ (الدروز) يقطنون لبنان.
12 - عليّ بن منصور الظاهر لإعزاز دين الله (395 - 427هـ)، بويع بالخلافة وعمره ستة عشر عاماً، وشنّ حرباً على الدروز محاولاً إرجاعهم إلى العقيدة الفاطميّة الأصيلة.
13 - معد بن عليّ المستنصر بالله (420 - 487هـ)، بويع بالخلافة عام 427هـ، وكان له من العمر سبعة أعوام، وقد ظلّ في الحكم ستّين عاماً، وهي أطول مدّة في تاريخ الخلافة الإسلاميّة.
إلى هنا تمّت ترجمة الأئمّة الثلاثة عشر الّذين اتّفقت كلمة الإسماعيليّة على إمامتهم وخلافتهم، ولم يشذّ منهم سوى الدروز الّذين انشقوا عن الإسماعيليّة في عهد خلافة الحاكم بأمر الله، وصار وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق آخر وظهور طائفتين من الإسماعيليّة، بين مستعلية تقول بإمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ونزاريّة تقول بإمامة نزار بن المستنصر.
وسنأتي بالحديث عن الإسماعيليّة المستعلية والنزاريّة فيما يلي.
صارت وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق الإسماعيليّة مرّة ثانية - بعد انشقاق الدروز في المرّة الأُولى - فمنهم من ذهب إلى إمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ومنهم من ذهب إلى إمامة نزار من المستنصر بالله، وإليك الكلام في أئمّة المستعلية في هذا الفصل مقتصرين على أسمائهم وتاريخ ولادتهم ووفاتهم:
1 - الإمام أحمد بن معد بن عليّ المستعلي بالله (467 - 495هـ).
2 - الإمام منصور بن أحمد الآمر بأحكام الله (490 - 524هـ).
قال ابن خلّكان: مات الآمر بأحكام الله ولم يعقب، وربّما يقال: أنّ الآمر مات وامرأته حامل بالطيّب. فلأجل ذلك عهد الآمر بأحكام الله الخلافة إلى الحافظ، الظافر، الفائز، ثُمَّ إلى العاضد، وبما أنّ هؤلاء لم يكونوا من صلب الإمام السابق، بل كانوا من أبناء عمّه صاروا دعاة؛ حيث لم يكن في الساحة إمام، ودخلت الدعوة المستعلية بعد اختفاء الطيّب بالستر، وما تزال تنتظر عودته، وتوقّفت عن السير وراء الركب الإمامي واتّبعت نظام الدعاة المطلقين.
3 - الداعي عبد المجيد بن أبي القاسم محمّد بن المستنصر الحافظ لدين الله (467 - 544هـ).
4 - الداعي إسماعيل بن عبد المجيد الظافر بأمر الله (527 - 549 هـ).
5 - الداعي عيسى بن إسماعيل الفائز بنصر الله (544 - 555هـ).
6 - عبد الله بن يوسف العاضد لدين الله (546 - 567هـ).
ثُمَّ إنّ العاضد فوّض الوزارة إلى صلاح الدين الأيّوبي الّذي بذل الأموال على أصحابه وأضعف العاضد باستنفاد ما عنده من المال، فلم يزل أمره في ازدياد وأمر العاضد في نقصان، حتّى تلاشى العاضد وانحلّ أمره، ولم يبق له سوى إقامة ذكره في الخطبة، وتتبّع صلاح الدين جُند العاضد، وأخذ دور الأمراء وإقطاعاتهم فوهبها لأصحابه، وبعث إلى أبيه وإخوته وأهله، فقدموا من الشام عليه، وعزل قُضاة مصر الشيعة، واختفى مذهب الشيعة إلى أنّ نُسي من مصر، وقد زادت المضايقات على العاضد وأهل بيته، حتّى مرض ومات وعمره إحدى وعشرون سنة إلاّ عشرة أيام، وهو آخر الخلفاء الفاطميّين بمصر، وكانت مدّتهم بالمغرب ومصر منذ قام عبيد الله المهدي إلى أن مات العاضد 272 سنة، منها بالقاهرة 208 سنين.(1)
قد عرفت أنّ ركب الإمامة قد توقّف عند المستعلية وانتهى الأمر إلى الدعاة الّذين تتابعوا إلى زمان 999هـ، وعند ذلك افترقت المستعلية إلى فِرقتين: داوديّة، وسليمانيّة، وذلك بعد وفاة الداعي المطلق داود بن عجب شاه، انتخبت مستعلية كجرات داود بن قطب شاه خلفاً له، ولكن اليمانيّين عارضوا ذلك وانتخبوا داعياً آخر، يُدعى سليمان بن
____________________
(1) انظر الخطط المقريزيّة: 1/358 - 359.
الحسن، ويقولون: إنّ داود قد أوصى له بموجب وثيقة ما تزال محفوظة.
إنّ الداعي المطلق للفِرقة الإسماعيليّة المستعلية الداوديّة اليوم هو طاهر سيف الدّين، ويُقيم في بومباي الهند، أمّا الداعي المطلق للفِرقة المستعلية السليمانيّة فهو عليّ بن الحسين، ويقيم في مقاطعة نجران بالحجاز. (1)
لاشكّ أنّ كلّ دولة يرأسها غير معصوم لا تخلو من أخطاء وهفوات، وربّما تنتابها بين آونة وأُخرى حوادث وفتن تضعضع كيانها وتشرفها على الانهيار.
والدولة الفاطميّة غير مستثناة عن هذا الخط السائد؛ فقد كانت لديها زلاّت وعثرات، إلاّ أنّها قامت بأعمال ومشاريع كبيرة لا تقوم بها إلاّ الدولة المؤمنة بالله سبحانه وشريعته، كالجامع الأزهر الّذي ظلّ عبر الدهور يُنير الدرب لأكثر من ألف سنة، كما أنّهم أنشأوا جوامع كبيرة ومدارس عظيمة مذكورة في تاريخهم، وبذلك رفعوا الثقافة الإسلاميّة إلى مرتبة عالية، وتلك الأعمال جعلت لهم في قلوب الناس مكانة عالية.
غير أنّا نرى أنّ أكثر المؤرّخين يصوّرها بأنّها من أكثر العصور ظلاماً في التاريخ؛ شأنها في ذلك شأن سائر الفراعنة، وليس هذا إلاّ حدسيّات وتخمينات أخذها أصحاب أقلام السِّير والتاريخ من رُماة القول على عواهنه دون أن يُمعنوا فيه.
____________________
(1) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: 162.