نشأة الشيعة الامامية

نشأة الشيعة الامامية12%

نشأة الشيعة الامامية مؤلف:
الناشر: دار المؤرخ العربي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 318

  • البداية
  • السابق
  • 318 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 16993 / تحميل: 7427
الحجم الحجم الحجم
نشأة الشيعة الامامية

نشأة الشيعة الامامية

مؤلف:
الناشر: دار المؤرخ العربي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

أمّا في زمَن الرشيد، فقد تعرّض موسى بن جعفر لمـُراقبة مِن الرشيد لخوف الرشيد منه ولوصول الأخبار إليه بأنّ له جماعة تقول بإمامته، وقد كثرت الوشايات في موسى بن جعفر حتّى حبسه.

ويذكر الأصفهاني السبب الذي مِن أجله حُبس موسى بن جعفر، ويجعل للبرامكة يداً في ذلك، فيذكر أنّ يحيى بن خالد بن برمك استطاع أنْ يُغري عليّ بن إسماعيل بن جعفر بن محمّد بالأموال وكان إسماعيل هذل على صلة بموسى بن جعفر وعلى عِلم بأخباره، فلم يزل حتّى سعى بموسى عند الرشيد وأخبره أنّ الأموال تُحمل إليه مِن المشرق والمغرب، وأنّ له بيوت أموال، وأنّه اشترى ضيعة بثلاثين ألف دينار وسمّاها اليسيرة، فسمع منه الرشيد ذلك ووصله(١) .

ولمـّا حجّ الرشيد في تلك السَنة ( ١٨٣هـ ) بدأ بقبر النبيّ، فقال: ( يا رسول الله، إنّي أعتذر إليك مِن شيء أُريد أنْ أفعله، أُريد أنْ أحبس موسى بن جعفر، فإنّه يُريد التشتيت بين أُمّتك وسفك دمائها )(٢) .

ويذكر ابن طباطبا أنّ سبب حبس الرشيد لموسى بن جعفر أنّ بعض حُسّاده مِن أقاربه قد وشوا به إلى الرشيد، وذكروا أنّ الناس يحملون إلى موسى خُمس أموالهم ويعتقدون إمامته وأنّه عازم على الخروج، فأقلق ذلك الرشيد فسجنه(٣) .

وهكذا عملت الوشايات عملها حتّى حبس الرشيد موسى بن جعفر عند عيسى بن جعفر بن المنصور، وكان على البصرة ولمـّا لم يجد هذا حجّة عليه كَتب إلى الرشيد يطلب منه إخلاء سبيله(٤) .

أمّا المصادر الإماميّة، فتذكر أنّ السبب في حبس موسى بن جعفر زمَن الرشيد أنّ الرشيد لمـّا حجّ اجتمع إليه بنو هاشم وبقايا الهاجرين والأنصار

____________________

(١) الأصفهاني: مقاتل الطالبيّين ص ٥٠١ - ٥٠٢.

(٢) الأصفهاني: مقاتل الطالبيّين ص ٥٠٢.

(٣) ابن طباطبا: الفخري ص ١٩٦.

(٤) الأصفهاني: مقاتل الطالبيّين ص ٥٠٢.

٢٢١

ومعهم موسى بن جعفر، فلمّا انتهوا إلى قبر رسول الله وقف الرشيد وقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا بن عمّ؛ ( افتخاراً على قبائل العرب، واستطالة عليهم بالنسب )، ثُمّ تَقدّم موسى بن جعفر، فقال:( السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبة ) ، ( فتغيّر لون الرشيد، وقال: يا أبا الحسن إنّ هذا لهو الفَخر الجسيم )(١) .

ولعلّ غضب الرشيد مِن موسى بن جعفر هُنا لأنّه يُذّكره بأنّه ابن رسول الله وهو أولى به.

أمّا ابن عنبة، فيذكر أنّ مِن أسباب غضب الرشيد على موسى بن جعفر أنّ محمّد بن إسماعيل بن الصادق كان مع عمّه موسى الكاظم يَكتب له السرّ إلى شيعته في الآفاق، وأنّ إسماعيل هذا سعى بعمّه موسى عند الرشيد، وقال للرشيد: ( إنّ في الأرض خليفتين يُجبى إليها الخراج، فقال: الرشيد ويلك أنا ومَن؟ قال: موسى بن جعفر، وأظهر أسراره، فقبض الرشيد على موسى الكاظم وحبسه، وكان سبب هلاكه )(٢) .

ويعطي ابن شهرآشوب سبباً آخر لحبس موسى بن جعفر، فيذكر أنّ الرشيد كان يُريد إرجاع فدك إلى موسى بن جعفر، وكان موسى يأبي ذلك، ولمـّا ألحّ عليه الرشيد طلب موسى أنْ يأخذها بحدودها، ولمـّا سأله الرشيد عن حدودها، قال:( الحدّ الأوّل عدن، والحدّ الثاني سمرقند، والحدّ الثالث إفريقية، والحدّ الرابع سيف البحر مما يلي الخزر وأرمينية ) ، فغضب الرشيد وقال له: ( فلم يبقَ لنا شيءٌ فتحوّل إلى مجلسي ...، فعند ذلك عزمَ الرشيد على قتله )(٣) .

فقول موسى هذا يعني أنّه صاحب الحقّ؛ لأنّه ذَكر أمصار الخلافة العبّاسيّة.

ويبدو ممّا يرويه الصدوق أنّ العبّاسيّين كانوا يُضيّقون على آل

____________________

(١) المـُفيد: الفُصول المـُختارة مِن العيون والمحاسن ج ١ ص ١٥، الإرشاد ص ٢٩٨، الطبرسي: أعلام الورى بأعلام الهدى ص ٢٩٧.

(٢) ابن عنبة: عُمدة الطالب ص ٢٣٣ - ٢٣٤.

(٣) ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٣٢٠ - ٣٢١، واُنظر أيضاً: سبط ابن الجوزي، تذكرة الخواص ص ٣٥٩ - ٣٦٠.

٢٢٢

البيت ويُقلّلون أعطياتهم؛ لئلاّ يلتفّ حولهم أنصار يحاربونهم بهم، ذُكر أنّ الرشيد أعطى موسى بن جعفر مئتي دينار بينما أعطى غيره ٥ آلاف دينار، ولمـّا سأله الفضل بن الربيع عن سبب ذلك، قال الرشيد: ( لو أعطيتُ هذا ما كُنت أمنته أنْ يضرب وجهي غداً بمئة ألف سيف مِن شيعة هذا ومواليه، وفَقر هذا وأهل بيته أسلم لي، ولكم من بسط أيديهم وأعينهم )(١) .

وبالرغم مِن شدّة الرشيد مع موسى بن جعفر، إلاّ أنّه كان عارفاً قدره ومنزلته، فقد كان يقول عن موسى بن جعفر: ( أما أنّ هذا مِن رُهبان بني هاشم )، ولمـّا سئل لِمَ ضيّقَ عليه في الحبس؟ قال: هيهات لا بدّ مِن ذلك(٢) .

فيبدو أنّ موسى بن جعفر كان مصدر قلق وخوف للرشيد بالرغم مِن أنّه لم يشهر سيفاً بوجهه.

وقد أطلق الرشيد موسى بن جعفر حينما حبسه أوّل مرّة بعد أنْ رأى في نومه مَن يقول له: ( إنْ لم تُخلِّ عن موسى بن جعفر الساعة، وإلاّ نحرتك بهذه الحربة )، فأطلقه وخيّره بين البقاء في العراق أو الذهاب إلى المدينة، ودفع إليه ثلاثين ألف درهم(٣) .

ولكنّ هذا لم يمنع الرشيد مِن حبسه مَرّة أُخرى كانت فيها نهايته، فيذكر اليعقوبي: إنّ موسى بن جعفر تُوفّي ١٨٣ هـ في حبس الرشيد، قَتله السندي بن شاهك.

ثُمّ إنّ الرشيد دعا القوّاد والكُتّاب الهاشميّين والقُضاة والطالبيّين، ثُمّ كشف عن وجه موسى وسألهم أتعرفون هذا؟ قالوا: ( نعرفه حقّ معرفته، هذا موسى بن جعفر، فقال هارون: أترون أنّ به أثراً وما يدلّ على اغتيال؟ قالوا: لا، ثُمّ غُسّل وكُفّن ودُفن بمقابر قريش في الجانب الغربي )(٤) .

ويبدو أنّ الرشيد بعد أنْ حبس موسى بن جعفر وقتله أراد أن يُبرّئ

____________________

(١) الصدوق: عيون أخبار الرضا ج١ ص ٧٥ - ٧٦.

(٢) ن م: ج١ ص ٧٩.

(٣) المسعودي: مُروج الذَهب ج٣ ص ٣٥٦ - ٣٥٧.

(٤) اليعقوبي: التاريخ ج٣ ص ١٤٥.

٢٢٣

نفسه مِن الشُكوك، فكان يُحاول أنْ يُفهّم الناس أنّه لا يدَ له في موته.

ويرى الدوري: ( إنّ هذا السؤال في ذاته يؤكّد الشكوك في قتل الإمام )(١) .

المسعودي يذكر أنّ موسى بن جعفر مات مسموماً(٢) .

أمّا الأصفهاني، فيروي أنّه بعد موت موسى بن جعفر نودي عليه: ( هذا موسى بن جعفر الذي تزعّم الرافضة أنّه لا يموت، فانظروا إليه )(٣) .

وقد نودي بهذا النداء؛ لأنّ جماعةً مِن الشيعة اعتقدت بأنّ موسى بن جعفر لا يموت وأنّه حيٌّ، وهؤلاء هُم الواقفة، وسيأتي بيان ذلك في فصلِ الإمامة.

وتُجمع المصادر الإماميّة أنّ موسى بن جعفر توفّي مسموماً في حبس الرشيد على يد السندي بن شاهك، وأنّ الرشيد كان يُحاول أنْ يتخلّص مِن مسؤوليّة قتله، فيذكر الصدوق أنّ الرشيد أدخل على موسى بن جعفر في سجنه ثمانين رجلاً مِن الوجوه، وطلب إليهم أنْ ينظروا إليه إنْ كان حدث به مكروه، وهذا ( منزله وفرشه مُوسّع عليه غير مُضيّق، فوجدوه على ما ذَكر الرشيد، إلاّ أنّ موسى أخبرهم أنّه سُقي السُم )(٤) .

المـُفيد يذكر أنّ موسى بن جعفر قُتل مسموماً في طعامٍ قُدّم إليه، وأنّ الرشيد أدخل إليه الفُقهاء ووجوه بغداد وفيهم الهيثم بن عدي، وأشهدهم أنّه مات حتفَ أنفه، فشهدوا على ذلك(٥) .

ويقول ابن عنبة: إنّه لُفّ في بساط حتّى مات، ثُمّ أُخرج للناس وعُمل محضراً أنّه مات حتف أنفه، وتُرك ثلاثة أيّام على الطريق يأتي مَن يأتي فينظر إليه، ثُمّ يكتب في المحضر(٦) .

____________________

(١) الدوري: العصر العبّاسي الأوّل ص ١٤٢.

(٢) المسعودي: مُروج الذَهب ج٣ ص ٣٦٥.

(٣) الأصفهاني: مقاتل الطالبيّين: ص ٥٥٠، واُنظر ابن الشحنة: روضة المناظر في أخبار الأوائل والأواخر ج ٨ ص ٥٣. ( طُبع الكتاب على هامش كتاب الكامل لابن الأثير ).

(٤) الصدوق: الأمالي ص ١٤٩ - ١٥٠.

(٥) المـُفيد: الإرشاد ص ٣٠١ - ٣٠٢.

(٦) ابن عنبة: عمدّة الطالب ص ١٦٩، واُنظر أيضاً ابن زهرة: غاية الاختصار ص ٩١.

٢٢٤

ويبدو مِن الأساليب التي اتّخذها الرشيد في قضيّة قتل موسى بن جعفر أنّها سبيل آخر مِن سياسة المـُخادعة التي اتّبعها مع العلوييّن.

ولمـّا مات موسى بن جعفر سنة ١٨٣ هـ(١) ، انتقلت الإمامة إلى ابنه عليّ بن موسى الرضا، وكانت إمامته أيّام المأمون المـُتسامحة مع العلوييّن.

ولقد قام المأمون بعمل انفرد به، وهو تقديم عليّ بن أبي طالب على العبّاس بن عبد المطلب، وهذا شيءٌ غريبٌ بالنسبة للعبّاسيّين، فقد ذَكر طيفور أنّ السندي بن شاهك دخل على الفضل بن سهل مُتعجّباً - بعد أنْ سَمع أنّ المأمون قدَّم عليّ بن أبي طلب على العبّاس - وكان يقول: ( ما ظننتُ أنّي أعيش حتّى أسمع عبّاسيّاً يقول هذا، فقال له الفضل: تعجب مِن هذا؟ هذا والله ما كان قول أبيه قبله )(٢) ، ولكن لم نجد أحداً مِن الخُلفاء العبّاسييّن صرّح بتفضيل عليّ سوى المأمون، وقد قام المأمون بالبيعة لعليّ بن موسى الرضا وجعله وليّ عهده، وتروي المصادر التاريخيّة قصّة بيعة المأمون للرضا.

فاليعقوبي يذكر أنّ المأمون استقدم عليّ الرضا مِن المدينة إلى طوس سَنة ٢٠١هـ، وبايع له وألبس الناس الخضرة مكان السواد، ودعا للرضا على المنابر، وضرب الدنانير والدراهم باسمه(٣) .

واليعقوبي يكتفي بهذا ولا يوضح سبب البيعة للرضا.

أمّا الطبري، فيذكر أنّ السبب الذي دعا المأمون لمـُبايعة الرضا؛ لأنّه لم يجد أحداً أفضل ولا أورع ولا أعلم منه في بني العبّاس وبني عليّ، وسمّاه الرضا مِن آل محمّد(٤) .

أمّا ابن طباطبا، فيقول عن المأمون: ( ومِن اختراعاته نقل الدولة مِن

____________________

(١) الخطيب: تاريخ بغداد ج١٣ ص ٣٢.

(٢) طيفور: بغداد ص ١٧.

(٣) اليعقوبي: التاريخ ج٣ ص ١٧٦.

(٤) الطبري: تاريخ الرُسُل والمـُلوك ج١٠ ص ٢٤٣، ابن الثير: الكامل ج٥ ص ١٨٣.

٢٢٥

بني العبّاس إلى بني علي )، ويذكر السبب الذي دعا المأمون لذلك: ( كان المأمون فكّر في حال الخلافة بعده، وأورد أنْ يجعلها في رجلٍ يَصلح لها لتبرأ ذمّته، كذا زعم )(١) ، كما إنّه وجد الرضا أفضل أعيان البيتين العلوي والعبّاسي(٢) .

أمّا السيوطي، فيرى أنّ السبب الذي دفعَ المأمون إلى تولية الرضا العهد إفراطه في التشيّع حتّى أنّه هَمّ بخلع نفسه وتفويض الأمر إليه(٣) .

وتُبيّن المصادر التاريخيّة دور الفضل بن سهل وتأثيره على المأمون في إسناد ولاية العهد إلى الرضا، فاليعقوبي يذكر أنّ رجاء بن أبي الضحّاك - قريب الفضل بن سهل - كان رسول المأمون إلى الرضا، وهو الذي أتى به مِن المدينة(٤) .

أمّا الطبري، فيُبيّن ردّ الفِعل عند البغداديّين بعد سماعهم ببيعة الرضا، فقالوا: ( إنّما هذا دسيس مِن الفضل بن سهل )(٥) .

ويبدو أنّ الفضل بن سهل لم يفعل هذا حُبّاً لعليّ الرضا، ويؤيّد هذا ما رواه الجهشياري مِن أنّ كلاماً دار بينه وبين نعيم بن أبي خازم بحضرة المأمون، فقال له نعيم: ( إنّك تُريد أنْ تُزيل المـُلك عن بني العبّاس إلى وُلد علي، ثُمّ تحتال لتجعل المـُلك كسرويّاً، ولولا أنّك أردت ذلك لما عَدلت عن لبسة عليّ ووُلده، وهي البياض إلى الخُضرة، وهي لباس كسرى والمـَجوس )(٦) .

وهذا يصحّ إذا نظرنا إلى الخلاف الذي حصل بين الرضا وابن سهل بعد البيعة، ويؤكّد ذلك أيضاً ابن طباطبا، فيذكر: ( وكان الفضل بن سهل وزير المأمون هو القائم بهذا الأمر والمـُحسّن له )(٧) .

ويعتقد الدوري: ( أنّ تأثير الفضل بن سهل ووجود المأمون في

____________________

(١) ابن طباطبا: الفخري ص ٢١٦.

(٢) ن. م ص ٢١٧.

(٣) السيوطي: تاريخ الخُلفاء ص ٣٠٧.

(٤) اليعقوبي: التاريخ ج٣ ص ١٧٦.

(٥) الطبري: تاريخ الرُسُل والمـُلوك ج١٠ ص ٢٤٣.

(٦) الجهشياري: الوزراء والكُتّاب ص ٣١٢ - ٣١٣.

(٧) ابن طباطبا: الفخري ص ٢١٧.

٢٢٦

خُراسان هُما اضطرّاه لاتّخاذ هذه الخطّة )(١) .

ويرى جبريالي أنّ سبب ذلك أنّ المأمون كان له ميلٌ عاطفيٌّ دينيّ سابق للعلويّين، إلاّ أنّ هذا الميل ظهر بصورة فُجائيّة ولأوّل مرّة في الحقل السياسي في البيعة للرضا(٢) .

ويبدو ممّا ترويه بعض المصادر التاريخيّة أنّ عليّ بن موسى الرضا لم يقبل البيعة في أوّل الأمر، وإنّما تردّد في قبولها، فيذكر المسعودي: ( ثُمّ كَتب إليه وسأله القُدوم ليعقد له الأمر، فامتنع عليه، ثُمّ كاتبه في الخروج وأقسم عليه )(٣) .

ويذكر الأصفهاني أنّ المأمون هدّد الرضا بقبول البيعة قائلاً: ( لا بدّ مِن قبولك ما أُريد، فإنّي لا أجد محيصاً عنه، إنّ عُمر بن الخطّاب جعل الشورى في ستّة أحدهم جدّك ...، وشرط فيمَن خالف أنْ تُضرب عُنقه )(٤) .

ويروي الدوري أنّ إجبار المأمون الرضا على البيعة؛ لأنّه كان مُرغماً على مُجاراة الخُراسانييّن، كما أنّه أراد أنْ يسير خُطوة جديدة في إحياء حُكم العَدل الذي وعد به الخُراسانيّين، فلذلك قال: إنّه اختار للخلافة خير ما يصلح لها مِن بني هاشم(٥) .

ويبدو أنّ المأمون تساهل مع العلوييّن رغبةً في كسب وُدّهم وأراد تصفية الجوّ المـُتوتّر الذي خَلّفته سياسة أبيه مع العلوييّن، كما أنّه أراد القضاء على تذمّر العلوييّن وثوراتهم فبايع للرضا.

أمّا المصادر الإماميّة، فتعطي أسباباً أُخرى دفعت المأمون لمـُبايعة

____________________

(١) الدوري: العصر العبّاسي الأوّل ص ٢٠٨.

(٢) جبريالي: المأمون والعلويّون، ( عن العصر العبّاسي الأوّل ص ٢٠٧ ).

(٣) المسعودي: إثبات الوصيّة ص ١٧٢.

(٤) الأصفهاني: مقاتل الطالبيّين ص ٥٦٣.

(٥) الدوري: العصر العبّاسي الأوّل ص ٢٠٩ واُنظر:

Hamid; The pro-Alid policy of M’mun, Bullein of the College of Arte and Sciences, Baghdad, Vol. I, June, ١٩٥٦

٢٢٧

الرضا بالإضافة إلى ما ورد مِن أسبابٍ في المصادر التاريخيّة، وأحسن مَرجع في هذا الباب مِن المصادر الإماميّة كتاب عيون أخبار الرضا للصدوق.

فقد ذَكر الصدوق أنّ السبب الذي دفع المأمون للبيعة للرضا؛ وذلك لأنّه كان يعتقد أنّ الرضا يدعو إلى نفسه في السرّ، فأراد أنْ يجعله وليّ عهده ليعترف بالخلافة والمـُلك له، ( وليعتقد فيه المـَفتونون به أنّه ليس ممّا ادّعى في قليل ولا كثير، وأنّ هذا الأمر لهم دونه ( العبّاسييّن ))(١) .

وهكذا كان الخُلفاء العبّاسيّون يعتقدون أنّ الأئمّة يدعون إلى أنفسهم ويطلبون الخلافة ولو لم يخرج منهم أحدٌ؛ لا تّخاذهم الجانب السلبي تجاه الأحداث السياسية بعد أنْ رأوا أنْ لا جدوى مِن خروجهم، إلاّ أنّ الظاهر أنّ خوف الخُلفاء العبّاسييّن كان مِن أتباع الأئمّة الذين اعتقدوا إمامتهم ولم يعترفوا بشرعيّة الحُكم للعبّاسي.

كما أنّ منزلة الأئمّة وما يتمتّعون به مِن احترام قد أثار خوف العبّاسييّن، يدلّ على ذلك ما رواه الكُليني عن الرضا بعد قبوله ولاية العهد، فكان يقول:( والله ما زادني هذا الأمر الذي دخلتُ فيه مِن النعمة عندي شيئاً، ولقد كنتُ بالمدينة وكتابي ينفذ في المشرق والمغرب، ولقد كنتُ أركب حماري وأمرّ في سكك المدينة وما بها أعزّ منّي، وما كان بها أحد منهم يسألني حاجةً يُمكنني قضاؤها إلاّ قضّيتها له ) (٢) .

فلذلك كما يعتقد الصدوق أنّ المأمون ( جعل له ولاية العهد مِن بعده؛ ليرى الناس أنّه راغبٌ في الدُنيا، فيسقط محلّه مِن نفوسهم )(٣) .

كما يذكر الصدوق أنّ المأمون إنّما فعل ذلك إشارة بما أملاه الفضل ابن سهل على المأمون ( أنْ يتقرب إلى ألله عزَّ وجلّ وإلى رسوله بصلة رحمه بالبيعة بالعهد لعليّ بن موسى الرضا؛ ليمحمو بذلك ما كان مِن أمر

____________________

(١) الصدوق: عيون أخبار الرضا ج٢ ص ١٧٠.

(٢) الكُليني: الكافي ج٨ ص ١٥١.

(٣) الصدوق: عيون أخبار الرضا ج٢ ص ٢٣٩.

٢٢٨

الرشيد، وما كان يقدر على خلافه في شيء )(١) .

وتُجمع المصادر الإماميّة على أنّ الرضا لم يقبل ولاية العهد إلاّ كارهاً لها، وخوفاً مِن تهديد المأمون، فيذكر الصدوق عِدّة روايات تدلّ على أنّ الرضا كان كارهاً للبيعة، وكانت مِن غير رضاه، ( وذلك بعد أنْ هدّده بالقتل وألحّ عليه مرّة بعد أُخرى، وفي كلّها يأبي عليه حتّى أشرف مِن تأبيه على الهلاك )(٢) .

كما ترى الإماميّة أنّ الرضا قَبِل العهد وشرط على المأمون أنْ لا يُولّي ولا يَعزل أحداً، ولا يُغيّر رسماً ولا سُنّة(٣) .

وتُكثِر الإماميّة مِن الروايات مِن هذا الباب، مُحاولةً تبرير قبول الرضا لولاية العهد؛ لأنّ الإماميّة ليس مِن رأيها الخروج أو الاشتراك مع السلطة الظالمة؛ لأنّهم في تقيّة حتّى يقوم قائمهم، يؤيّد هذا ما رواه الطبرسي، عن أيوب بن نوح، قال: ( قلت للرضا: إناّ نرجو أنْ تكون صاحب هذا الأمر، وأنْ يسديه الله إليك مِن غير سيف، فقد بويع لك وُضربت الدراهم باسمك، فقال:( ما منّا أحدٌ اختلف إليه الكُتب وسُئل عن المسائل وأشارت إليه الأصابع وحُملت إليه الأموال، إلاّ اغتيل أو مات على فراشه، حتى يبعث الله عزَّ وجلّ بهذا الأمر رجلاً خفيّ المولد والمنشأ، غير خفيٍّ في نَسَبه ) (٤) .

وقد استاء أهل بغداد حينما وصلهم خَبر البيعة للرضا، وخافوا خروج الأمر مِن أيديهم إلى بني عليّ أو بالأحرى إلى الخُراسانيّين، فيقول الطبري: إنّهم ( أنفوا مِن غلبَة الفضل بن سهل )(٥) .

وقد بلغَ استياء أهل بغداد مِن البيعة مبلغاً كبيراً، حتّى أنّ أهل محلّة الحربيّة ثاروا ضدّ الحسن بن سهل وأخرجوه مِن بغداد، وأرادوا أنْ يُبايعوا

____________________

(١) الصدوق: عيون أخبار الرضا ج٢ ص ١٧٠.

(٢) ن. ط م ج١ ص ١٩.

(٣) ن. م ج١ ص ٢٠، واُنظر المـُفيد: الإرشاد ص ٣١٠، الطبرسي: أعلام الورى ص ٣٢٠.

(٤) الطبرسي: أعلام الورى ص ٤٠٧.

(٥) الطبري: تاريخ الرُسُل والمـُلوك ج١٠ ص ٢٢٧.

٢٢٩

محمّد بن صالح بن المنصور؛ خوفاً مِن خُروج الأمر مِن آل العبّاس(١) .

كما يذكر الطبري أيضاً أنّ أهل بغداد امتنعوا عن البيعة ولبس الخضرة، ورفضوا أنْ يُخرجوا هذا الأمر عن وُلد العبّاس، وقالوا: ( إنّما هذا دسيس مِن الفضل بن سهل )(٢) .

وقد استمرّ استياء أهل بغداد، فبايعوا لإبراهيم بن المهدي ( بعد أنْ رفض محمّد بن صالح بن المنصور ) سنة ٢٠١ هـ(٣) .

وكان الفضل بن سهل يُخفي هذه الأخبار عن المأمون، ولكن الرضا أخبره ( بما فيه الناس مِن الفتنة والقتال مُنذُ قُتل أخوه، وبما كان الفضل بن سهل يستر عنه مِن الأخبار، وأنّ أهل بيته والناس نقموا عليه استياء )(٤) ، كالبيعة له بولاية العهد وتغيُّر لباس السواد(٥) .

فلمّا اطّلع المأمون على ذلك وعرف نوايا ابن سهل ووضعه الخَطر سار إلى بغداد، وكان أنْ قام بمُحاولة للتخلّص مِن الرضا، فسمّه بالعنب أو بعصير الرمّان سنة ٢٠٣ هـ في قرية نوقان قُرب طوس(٦) .

الطبري لا يذكر ذلك وإنّما يقول: ( إنّه أكلَ عنباً فأكثر منه فمات )(٧) .

وتُجمع المصادر الإماميّة على أنّ المأمون سمّ الرضا لأسباب، فالصدوق يرى أنّ المأمون حَسد الرضا؛ لِما رأى مِن علوّ منزلته وعظمها في نفوس الناس(٨) .

أمّا الطبرسي، فيرى أنّ سبب قتله مسموماً أن الرضا كان لا يُحابي

____________________

(١) اليعقوبي: التاريخ ج٣ ص ١٧٩.

(٢) الطبري: تاريخ الرُسُل والمـُلوك ج١٠ ص ٢٤٣.

(٣) اليعقوبي: التاريخ ج٣ ص ١٧٩.

(٤) الطبري: تاريخ الرُسُل والمـُلوك ج١٠ ص ٢٥٠.

(٥) ابن طباطبا: الفخري ص ١٦٧، واُنظر ابن الشحنة: روضة المناظر في أخبار الأوائل والأواخر ج٨ ص ٥٧ ( على هامش كتاب الكامل لابن الأثير ).

(٦) اليعقوبي: التاريخ ج٣ ص ١٨٠، واُنظر أيضاً الأصفهاني: مقاتل الطالبيّين ص ٥٧٧.

(٧) الطبري: تاريخ الرُسُل والمـُلوك ج١٠ ص ٢٥١، المسعودي: مُروج الذَهب ج٤ ص ٢٨، إثبات الوصيّة ص ١٧٥ - ١٧٦، أبو الفدا: المـُختصر في أخبار البشر ج٣ ص ٣٢.

(٨) الصدوق: عُيون أخبار الرضا ج٢ ص ٢٣٩.

٢٣٠

المأمون في حقّ ويُجابهه في أكثر الأحوال(١) .

وهكذا انتهت هذه المـُحاولة التي قام بها المأمون، ويرى الدوري: ( إنّ البيعة ذاتها لم تُقرّب جميع العلوييّن مِن المأمون، ولكنّها أرضت قِسماً منهم فقط )(٢) ، فلم يؤيّد المأمونَ أحدٌ مِن العلوييّن، إلاّ إبراهيم بن موسى بن جعفر، وكان مُتغلّباً على الحِجاز، فإنّه بايع للمأمون حالما سمع بالتولية(٣) .

واستمرّ المأمون على علاقته الحسنه بالعلويّين، وفي زمانه انتقلت إمامة الشيعة والإماميّة إلى محمّد الجواد ابن الرضا.

وقد عاصر محمّد الجواد كلاًّ مِن المأمون والمـُعتصم، ولا تذكر المصادر التاريخيّة أخباره إلاّ أخباره أيّام المأمون، وتُبيّن حُسن معاملة المأمون له وتزويجه ابنته(٤) .

وتروي المصادر الإماميّة أخبار محمّد الجواد مع المأمون والمـُعتصم، فيذكر ابن رستم الطبري أنّه بلغَ عُمره ستّ سنين فقتل المأمون أباه، وبقيت الشيعة في حيرة واختلفت الكلمة بين الناس واستصغر سنّ أبي جعفر محمّد الجواد(٥) .

أمّا أخباره في زمن المـُعتصم، فلا يُذكر عنها شيء، وقد توفّي محمّد الجواد سنة ٢٢٠ هـ.

وانتقلت إمامة الشيعة إلى أبي الحسن عليّ بن محمّد ( الهادي )، وقد عاصر الهادي مِن الخُلفاء: المـُعتصم الواثق والمـُتوكّل والمـُنتصر والمـُستعين والمـُعتز(٦) .

وقد بيّنا سياسة الواثق تجاه العلوييّن، فلم يلاقوا شدّة زمانه، ولكنّ

____________________

(١) الطبرسي: أعلام الورى ص ٣٢٥.

(٢) الدوري: العصر العبّاسي الأوّل ص ٢١٠.

(٣) اليعقوبي: التاريخ ج٣ ص ١٧٣.

(٤) طيفور: بغداد ص ١٤٢ - ١٤٣.

(٥) ابن رستم الطبري: دلائل الإمامة ص ٢٠٤.

(٦) الكُليني: الكافي ج١ ص ٤٩٧.

(٧) ابن رستم الطبري: دلائل الإمامة ص ٢١٦.

٢٣١

الحال اختلف أيّام المـُتوكّل، فقد اشتدّ في مُعاملة العلوييّن، وقد بيّنّا الأساليب التي اتّخذها المـُتوكّل في معاملة العلوييّن، ونتيجةً لذلك فقد تعرّض عليّ الهادي للسعايات التي وَجدت آذاناً صاغية مِن المـُتوكّل، فيذكر اليعقوبي أنّه استقدَم عليّ الهادي مِن المدينة إلى سرّ مَن رأي بعد أنْ وصلته الأخبار بأنّ هُناك قوماً يقولون أنّه الإمام، ( فلمّا وصل إلى الياسريّة تلقّاه إسحاق بن إبراهيم، فرأى تَشوّق الناس إليه واجتماعهم لرؤيته فدخل به في الليل، فأقام ببغداد ثُمّ ذهبَ إلى سامراء، ثُمّ لا يُذكر بعد ذلك عنه شيئاً(١) .

أمّا المسعودي، فيذكر أنّه قد قيل للمتوكّل: ( إنّ في منزله - عليّ الهادي - سلاحاً وكُتباً مِن شيعته )، فلمّا ذَهب الرسول لم يجد مِن ذلك شيئاً، ووجد أبو الحسن متوجّهاً إلى ربّه يترنّم بآياتٍ مِن القرآن في الوعد والوعيد، فجيء به إلى المـُتوكّل وهو في مجلس الشراب، فأعظمه وأجلسه إلى جنبه وردّه إلى منزله سالماً(٢) .

وقد تبدّلت سياسة العبّاسييّن تجاه الشيعة أيّام المـُنتصر، فلم يُسئ للعلويّين ثُمّ مَلك المـُستعين، ولا تَذكر المصادر شيئاً عن العلاقة بين الإماميّة والمـُستعين، وقد توفّي عليّ الهادي أيّام المـُعتز سنة ٢٥٤ هـ(٣) .

وقد انتقلت إمامة الشيعة الإماميّة بعد عليّ الهادي إلى ابنه الحسن بن عليّ العسكري، وقد عاصر المـُعتز والمـُعتمَد.

ولا تَردُ أخبار الحسن العسكري في المصادر التاريخيّة سوى إشاراتٍ قليلةٍ، ولكنّ أخباره مع العبّاسييّن ترد في المصادر الإماميّة.

ويبدو أنّ الفترة التي عاشها الحسن العسكري قد امتازت بالشدّة في معاملة العلوييّن - بما فيهم الزيدية والإماميّة -(٤) ، لذلك تُجمع المصادر الإماميّة أنّ الحسن العسكري قد حُبس في زَمن المـُعتمد واشتدّ في

____________________

(١) اليعقوبي: التاريخ ج٣ ص ٢٠٩.

(٢) المسعودي: مُروج الذَهب ج٤ ص ٩٣ - ٩٤.

(٣) اليعقوبي: التاريخ ج٣ ص ٢٢٥.

(٤) اُنظر الأصفهاني: مقاتل الطالبيّين، عن الثورات في هذه الفترة ص ٦٨٥ وما بعدها.

٢٣٢

معاملته(١) .

وتُوفّي الحسن العسكري سَنة ٢٦٠هـ في خلافة المـُعتمد، وقد تنازع الشيعة بعد وفاة الحسن العسكري واختلفوا فيمَن يَخلِفه، فيذكر المسعودي أنّ الحسن العسكري هو والد المهدي المـُنتظر والإمام الثاني عشر عند القطعيّة مِن الإماميّة، وهُم جمهور الشيعة، وقد تنازع هؤلاء في المـُنتظر مِن آل محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وافترقوا عشرين فرقة(٢) .

أمّا المصادر الإماميّة، فتذكر لمـّا توفّي الحسن العسكري، خَلَفه ابنه المـُنتظر لدولة الحقّ، وكان قد أخفى مولده وستر أمره؛ لصعوبة الوقت، وشدّة طلب سُلطان الزمان له واجتهاده في البحث عن أمره، ولمـّا شاع مِن مذهب الإماميّة وعُرف مِن انتصارهم له، فلم يظهر وَلده في حياته ولا عرفه الجمهور بعد وفاته )(٣) ، لذلك لم يَره ( إلاّ الخواصّ مِن شيعته )(٤) .

وسيأتي الكلام عن المهدي المـُنتظر في الفصل الخامس؛ لأنّ هذا يدخل في باب العقائد.

وهكذا نجد أنّ الشيعة الإماميّة التزمتْ الجانب السَلبي في الصراع مع العبّاسييّن، واتقت السلطان فلم يدعُ أحدٌ منهم إلى الخروج عليه، فكانت إمامتهم إمامة روحيّة، وقد كثُر أتباعهم ومَن بأمرهم، ولعّل هذا كان مصدر قلقٍ وخوفٍ للعبّاسيّين فكان ما كان في مُعاملة الأئمّة وأتباعهم.

____________________

(١) الكُليني: ج١ ص ٥١٣، واُنظر أيضاً ابن شهرآشوب: المناقب ج٤ ص ٤٢٩، الطبرسي: أعلام الورى ص ٣٦٠، المفيد: الإرشاد ص ٣٤٤.

(٢) المسعودي: مُروج الذَهب ج٤ ص ١٩٩. ويجعلهم سعد القُمّي ١٥ فرقة، ص ١٠٢.

(٣) المـُفيد: الإرشاد ص ٣٤٥.

(٤) الطبرسي: أعلام الورى ص ٣٦٠.

٢٣٣

٢٣٤

الفصل الخامس: الإمامـة وتَطوّرها عند الشيعة الإماميّة

١ - الإمامة:

أ - إمامة جعفر بن محمّد الصادق

ب - إمامة موسى بن جعفر الكاظم

جـ - إمامة عليّ بن موسى الرضا

د - إمامة محمّد بن عليّ الجواد

هـ - إمامة عليّ بن محمّد الهادي

و - إمامة الحسن بن عليّ العسكري

ز - إمامة محمّد بن الحسن المهدي ( صاحب الزمان )

٢ - عقائد الإماميّة

أ - الإمامة

ب - العصمة

ج - التقيّة

د - الرَجعة

٢٣٥

٢٣٦

الإمامة:

أ - إمامة جعفر الصادق:

لمّا توفّي أبو جعفر الباقر سنة ١١٤ هـ(١) قال بعض الشيعة بإمامة ابنه أبي عبد الله جعفر الصادق(٢) .

وتستدلّ الشيعة على إمامة الصادق بِعدّة أدلّة، فقد ذَكر الكُليني عن أبي عبد الله أنّه قال:( إنّ أبي استودعني ما هناك، فلمّا حضرته الوفاة قال: ادعُ لي شُهوداً، فدعوت له أربعة نَفر مِن قُريش، فيهم نافع مولى عبد الله بن عُمر، فقال: اكتب، هذا ما أوصى به يعقوب بنيه ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) ،وأوصى محمّد بن عليّ إلى جعفر بن محمّد ...، ثُمّ قال للشهود: انصرفوا رحمكم الله، فقلت له: يا أبتِ - بعدما انصرفوا -ما كان في هذا بأنْ تُشهد عليه، فقال: يا بنيّ كَرهتُ أنْ تغلب وأنْ يُقال: إنّه لم يوصِ إليه، فأردت أنْ تكون لك الحُجّة ) (٣) .

ويذكر المسعودي أنّ محمّداً الباقر أشار إلى الصادق في حياته مُدّة أيّامه، ثُمّ نصّ عليه. ويورد روايةً في النصّ على أبي عبد الله الصادق، عن زرارة وأبي الجارود(٤) ، ( إنّ أبا جعفر أحضر أبا عبد الله وهو صحيح لا علّة به، فقال:( إنّي أُريد أنْ آمرك بأمر ٍ، فقال له:مُرني بما شئت ، فقال:

____________________

(١) النوبختي: فِرَق الشيعة ص ٥٣.

(٢) ن. م ص ٥٥.

(٣) الكُليني: الكافي ج١ ص ٣٠٧ ( الأُصول )، واُنظر المـُفيد: الإرشاد ص ٢٧١.

(٤) زرارة بن أعيُن، مِن أصحاب الإمام الباقر، كان فقيهاً ومُحدّثاً، وعُدَّ أيضاً مِن أصحاب الإمام الصادق، تُوفّي سَنة ١٥٠ هـ. اُنظر الطوسي: الفهرست ١٠٠، أمّا أبو الجارود، فهو المـُنذر بن زياد زيديّ المذهب، إليه تُنسب الجاروديّة عَدّه الطوسي مِن أصحاب الإمام الباقر، اُنظر الفهرست ص ٩٨.

٢٣٧

ائتني بصحيفةٍ ودواةٍ )، فأتاه بها، فكتب له وصيته الظاهرة، ثُمّ أمر أنْ يدعو له جماعةً مِن قريش، فدعاهم وأشهدهم على وصيّته إليه )(١) .

كما أورد الكُليني عِدّة روايات استدلّ بها على إمامة الصادق، فعن أبي الصباح الكناني، قال: ( نظرَ أبو جعفر إلى أبي عبد الله يمشي، فقال:( ترى هذا؟ مِن الذين قال الله عزّ وجل: ( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) ) (٢) .

وعن سدير الصيرفي، قال: ( سمعت أبا جعفر يقول:( إنّ مِن سعادة الرجل أنْ يكون له الولد يُعرف فيه شَبه، خَلقه وخُلقه وشمائله، وإنّي لأعرف مِن ابني هذا شبه خَلقي وخُلقي وشمائلي ) يعني أبا عبد الله(٣) .

ورُويَ أيضاً عن أحمد بن مهران صاحب أبي جعفر الباقر، قال: ( كُنت قاعداً عند أبي جعفر، فأقبل جعفر - الصادق -، فقال أبو جعفر:( هذا خير البريّة ) )(٤) .

كما رويَ عن جابر الجُعفي(٥) روايةً عدّها مِن أدلّة إمامة الصادق، فقد ذكر جابر عن أبي جعفر قال: سُئل الباقر عن القائم، فضَرب بيده على أبي عبد الله فقال:( هذا والله قائم آل محمّد ) ، قال عنبة: فلمّا قُبض أبو جعفر دخلتُ على أبي عبد الله فأخبرته بذلك، فقال:( صدق جابر، ثُمّ قال:لعلّكم ترون أنْ ليس كلّ إمام هو القائم بعد الإمام الذي قبله ) (٦) .

فيُلاحظ أنّ أبا جعفر الباقر كان يؤكّد إمامة ابنه جعفر الصادق؛ خوفاً مِن أن تذهب ظُنون الشيعة إلى القول بإمامة غيره، ولعلّه فعل ذلك لظهور

____________________

(١) المسعودي: إثبات الوصيّة ص ١٧٨.

(٢) الكُليني: الكافي ج١ ص ٣٠٦ ( الأُصول )، وقد ذَكر هذه الرواية المـُفيد في الإرشاد ص ٢٧١ في باب إمامة الصادق.

(٣) الكُليني: الكافي ج١ ص ٣٠٦ ( الأُصول ).

(٤) ن. م ج١ ص ٣٠٧ واُنظر المفيد: الإرشاد ص ٢٧١.

(٥) جابر بن يزيد الجعفي، مِن أصحاب الإمام الباقر، تُوفّي سنة ١٢٨ هـ. اُنظر الطوسي: الرجال ص ١١١.

(٦) الكُليني: الكافي ج١ ص ٣٠٧، المسعودي: إثبات الوصيّة ص ١٧٨، المـُفيد: الإرشاد ص ٢٧١، النيسابوري ( ت ٥٠٨ ): روضة الواعظين ص ٢٤٩.

٢٣٨

أخيه زيد بن عليّ بن الحسين وقول جماعة مِن الشيعة بإمامته، لذلك وضّح الصادق قول أبيه مؤكّداً إمامته بعده.

ويقول المـُفيد في إمامة الصادق: ( وكان الصادق جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين مِن بين إخوته خليفة أبيه محمّد بن عليّ ووصيّه والقائم بالإمامة بعده )(١) .

ويستدلّ الطوسي على إمامة الصادق لكونه عالِماً بجميع أحكام الشريعة؛ لأنّه لم يكن هناك مَن ادُعيَت له هذه الصفة، كما أنّ تواتر الشيعة بالنصّ عليه مِن أبيه دليلاً على إمامته(٢) .

واختلفتْ الشيعة أيّام جعفر بن محمّد الصادق في الإمامة وتفرقوا، وظهرت حركات غلوٍّ خرجتْ عن الخطّ الشيعي، فقد ظهر في أيّام الصادق الكيسانيّة التي بإمامة محمّد بن الحنفيّة وتَطوّرت حتى أخرجت الإمامة مِن وُلد عليٍّ إلى آل العبّاس، وقد مرّ ذِكر ذلك في باب الدعوة العبّاسيّة.

كما خرج في أيّام الصادق محمّد بن عبد الله النفس الزكيّة على المنصور سنة ١٤٥٠ هـ - كما مرّ ذكره في الفصل الرابع - وقُتل محمّد فظهرت طائفةٌ قالت بإمامته، وزعمت بأنّه القائم وأنّه المهدي(٣) .

وقد أنكر هؤلاء - الذين قالوا بإمامة محمّد النفس الزكيّة - إمامة الصادق، وادّعت فرقة منهم أنّ الإمامة في المغيرة بن سعيد إلى خروج المهدي، وهو عندهم محمّد النفس الزكيّة، وقالوا بأنّه حيٌّ لم يمتْ ولم يُقتل، وهؤلاء هُم المغيريّة(٤) .

____________________

(١) المـُفيد: الإرشاد ص ٢٧٠.

(٢) الطوسي: تلخيص الشافي ج٤ ص ١٩٦، ويُضيف الطبرسي دليلاً آخر على أدلّة إمامة الصادق، فيُروى عن الكُليني قصّة مُناقشة أحد الشاميّين مع الإمام الصادق في الإمامة ودعوة الصادق هشام بن الحَكم لإجابته، إلاّ أنّ الشاميّ رفض إلاّ أنْ يُناقشه الصادق، فلمّا ناقشه وأقنعه قال الشامي أشهد أنْ لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله، وأنّك وصيّ الأوصياء. الطبرسي: الاحتجاج ج١ ص ١٩٩، إلاّ أنّ الخبر غير وارد في الكُليني في باب إمامة الصادق، اُنظر: الكليني ج١ ص ٣٠٧.

(٣) النوبختي: فِرَق الشيعة ص ٥٤.

(٤) النوبختي ص ٥٥.

٢٣٩

كما ظهرت فِرَقٌ أُخرى مِن الغُلاة، منهم العلبائيّة، وقد ادّعى هؤلاء أنّ محمّداً عبداً لعليّ، وعليٌّ هو الربّ، وهؤلاء أصحاب بشّار السعيري(١) .

ولعلّ أخطر حركات الغلوّ التي ظهرتْ أيّام الصادق ( الخطّابيّة )، أتباع أبي الخطّاب محمّد بن أبي زينب الأجدع الأسدي، وكان هذا مِن أتباع جعفر الصادق، وقد زَعم أبو الخطّاب أنّ لجعفر الصادق طبيعة إلهيّة، وأنّ له معجزات، وأنّه يعلمـُ الغَيب(٢) .

وقد كثُر أتباع أبي الخطّاب في الكوفة، فيذكر الكشّي ( أنّ أبا الخطّاب أفسد أهل الكوفة، فصاروا لا يُصلّون المغرب حتّى يغيب الشفَق )(٣) .

وقد وقف الصادق موقفاً صارماً تجاه أبي الخطّاب وأتباعه، فمنع أصحابه مِن الاتّصال بهم، فروى المـُفضّل بن يزيد أنّ أبا عبد الله الصادق - عندما ذكر أصحاب أبي الخطّاب والغُلاة - قال له:( لا تُواكلوهم ولا تُشاربوهم ولا تُصافحوهم ولا توارثوهم ) (٤) .

ِومن مبادئ الخطابيّة: أنّهم زعموا أنّه لا بدّ مِن وجود رسولين في كلّ عصرٍ، واحد ناطق والآخر صامت، فكان محمّد ناطقاً وعليّ صامتاً، وتأوّلوا في ذلك قول الله تعالى:( ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا ) ، وقد قال بعضهم هُما آلهة، ثُمّ إنّهم افترقوا لَمّا بلغهم أنّ الصادق لَعنهم وتبرّأ منهم، كما لعنَ أبا الخطّاب وتبرّأ منه(٥) .

____________________

(١) سعد القُمّي: المقالات والفِرَق ص ٥٩.

(٢) الكشّي: الرجال ص ٢٤٦ - ٢٤٨.

(٣) ن. م ص ٢٤٩.

(٤) ن. م ص ٢٥٢.

(٥) سعد القُمّي: المقالات والفِرَق ص ٥٠، ويذكر سعد القُمّي أنّ الخَطابيّة افترقوا إلى أربع فِرَق: منهم مَن قال أنّ جعفر بن محمّد هو الله، وأنّ أبا الخطّاب نبيّ مُرسل، أرسله جعفر وأمر بطاعته، وقال آخرون: أنّ بزيغاً - وكان حائكاً مِن حاكة الكوفة - هو نبيّ مُرسل مثل أبي الخطّاب وشريكه، أرسله الصادق وجعله شريك أبي الخطّاب في النبوّة والرسالة، ومنهم مَن قال: إنّ السرى الأقصم أرسله الصادق، كما زعموا أنّ جعفر الصادق هو الإسلام والإسلام هو السِلم والسِلم هو الله، ونحن بنو الإسلام، ودعوا إلى نبوة السرى وصلّوا =

٢٤٠

وقد انتهي أمر أبي الخطّاب، فقد قُتل مع سبعين شَخصاً مِن أتباعه بالكوفة، قتله عيسى بن موسى عامل الكوفة بعد أنْ بلغه أنّ أبا الخطّاب وأتباعه أظهروا الإباحات(١) .

وهكذا كانت الإمامة لا تزال غير مُستقرّة على خطٍّ مُعين، إلاّ أنّ الشيعة التي قالت بإمامة جعفر الصادق ظلّت ثابتةً على إمامته حتى أشار إلى إمامة ابنه إسماعيل، ويبدو أنّ إسماعيل كان على صِلة بأبي الخطّاب وأتباعه، فقد روى الكشّي، عن المـُفضّل بن عُمر الجعفي - وكان خطابياً - أنّ الصادق قال له:( يا كافر يا مُشرك، مالك ولابني - يعني إسماعيل بن جعفر - وكان مُنقطعاً إليه يقول فيه مع الخطّابيّة، كما أنّ الصادق قال لإسماعيل:( أيت المـُفضّل وقلّ له: يا كافر يا مُشرك، ما تُريد إلى ابني؟ تُريد أنْ تقتله؟ ) (٢) .

ويذكر لويس: ( إنّ الكُنية - أبو إسماعيل - التي يُضيفها الكشّي على أبي الخطّاب إنّما تُشير إلى إسماعيل بن جعفر، وأنّ أبا الخطّاب كان المـُتبنّي لإسماعيل، والأب الروحاني له )(٣) .

ويُناقش المـُفيد إمامة إسماعيل، ويرى أنّ الصادق لم ينصَّ على إمامته، وإنّما اعتقد الناس بها؛ لكونه أكبر أولاد أبيه، ولِما رأوا مِن تعظيمه إيّاه(٤) .

ويقول لويس: ( ومِن هذا كلّه نستطيع أنْ نستنتج مُؤيّدات قويّة للفَرضيّة القائلة بأنّ إسماعيل كان ذا صِلةٍ وثيقةٍ بالأوساط المـُتطرّفة والثوريّة التي أوجدت الفِرقة المـُسمّاة باسمه، وبأنّ عزلَ جعفر له كان لهذه الصِلة )(٥) .

____________________

=

وصاموا وحجّوا لجعفر بن محمّد، وفِرقة منهم قالت: جعفر بن محمّد هو الله، وإنّما هو نورٌ يدخلٌ في أبدان الأوصياء، فحلّ فيها مكان ذلك النور في جعفر، ثُمّ خَرج منه فدخل في أبي الخطّاب، وصار جعفر مِن الملائكة. المقالات والفِرَق: ص ٥١ - ٥٢.

(١) النوبختي: فِرَق الشيعة ص ٦١.

(٢) الكشّي: الرجال ص ٢٧٢ - ٢٧٤.

(٣) لويس: أُصول الإسماعيليّة ص ١١٠.

(٤) المـُفيد: الفُصول المـُختارة ج٢ ص ٩١.

(٥) لويس: أُصول الإسماعيليّة ص ١١١.

٢٤١

وهكذا كانت الآراء التي جاء بها أبو الخطّاب أصبحت أساساً للمذهب الإسماعيلي فيما بعد.

وقد ماتَ إسماعيل في حياة أبيه فرجع بعض الشيعة عن القول بإمامة جعفر بن محمّد الصادق، وقالوا: ( كذّبَنا ولم يكن إماماً؛ لأنّ الإمام لا يكذبْ، ولا يقول ما لا يكون ...، فمالوا إلى مقالة البتريّة )(١) .

والبتريّة إحدى فِرَق الزيديّة التي، وضح أمرها في هذه الفترة، وتبنّى آراءها أبناء الحسن، ومنهم محمّد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن(٢) .

وهكذا - كما يعتقد لويس - ( أنشأ أبو الخطّاب وإسماعيل - مُتعاونين على ما يُحتمل - نظام عقيدةٍ صارت أساساً للمذهب الإسماعيلي فيما بعد، وسعياً كذلك إلى خلقِ فِرقَة شيعيّة ثوريّة لتجمع كلّ الفِرَق الشيعيّة الصغرى على إمامة إسماعيل وذُريّته )(٣) .

وقد انقسمت الشيعة بعد وفاة أبي عبد الله الصادق بالمدينة سنة ١٤٨ هـ(٤) إلى ستّ فِرَق(٥) .

ففِرقَة قالت: إنّ جعفر بن محمّد حيٌّ لمـّا يمت، ولا يموت حتّى يظهر ويلي أمر الناس، وهو القائم المهدي، وزعموا أنّهم رووا عنه أنّه قال: إنْ رأيتم رأسي يدهده عليكم مِن جبل فلا تُصدّقوا، فإنّي أنا صاحبكم. وهذه الفِرقَة تُسمّى الناووسيّة، نسبةً إلى رئيسٍ لهم يُقال له ( فلان بن فلان الناووس )(٦) .

وفِرقَة ( زعمتْ أنّ الإمام بعد جعفر هو ابنه إسماعيل، وأنكرتْ موت إسماعيل في حياة أبيه، قالوا: وكان ذلك يلتبّس على الناس؛ لأنّه خاف على

____________________

(١) النوبختي: فِرَق الشيعة ص ٥٥.

(٢) ن. م ص ١٨.

(٣) لويس: أُصول الإسماعيليّة ص ١١٥.

(٤) الكُليني: الكافي ج١ ص ٤٧٢.

(٥) سعد القُمّي: المقالات والفِرَق ص ٧٩.

(٦) ن. م ص ٨٠، ويذكر الشهرستاني الناووسيّة: أتباع رجلٍ يُقال له ناووس، وقيل نُسبوا إلى قرية ناوسا. المِلَل والنِحل ج١ ص ٢٧٣.

٢٤٢

نفسه، وزعموا أنّ إسماعيل لا يموت لا يموت حتّى يملك الأرض ويقوم بأمور الناس، إنّه هو القائم؛ لأنّ أباه أشار إليه بالإمامة بعده وقلّدهم ذلك له، وأخبرهم أنّه صاحبهم والإمام، لا يقول إلاّ الحقّ ...، وهذه الفِرقَة هُم الإسماعيليّة الخالصة )(١) .

ويقول الرازي: ( إنّ جعفر أشار إلى ( إسماعيل ) في حياته، ودلّ الشيعة عليه، فكانوا مُجتمعين كلّهم على أنّه الإمام بعد أبيه )(٢) .

ثُمّ جعلتْ طائفة مِن الشيعة الإمامة لمحمّد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، وقالوا: ( إنّ الأمر كان لإسماعيل في حياة أبيه، فلمّا تُوفّي قَبل أبيه جعل جعفر بن محمّد الأمر لمحمّد بن إسماعيل، وكان الحقّ له، ولا يجوز غير ذلك؛ لأنّها لا تُنقل مِن أخٍ إلى أخٍ بعد حسن وحسين، وهؤلاء هُم المباركيّة، سُمّوا كذلك برئيس لهم كان يُسمّى المـُبارك مولى إسماعيل بن جعفر(٣) .

وقد انضمّ إلى هذه الفِرقة قِسمٌ مِن الخطابيّة، قالوا: إنّ روح جعفر بن محمّد حلّتْ في أبي الخطّاب، ثُمّ تحوّلت بعد غيبة أبي الخطّاب في محمّد بن إسماعيل بن جعفر، ثُمّ ساقوا الإمامة في وُلد محمّد بن إسماعيل(٤) .

وظهرتْ مِن المـُباركة فِرقَةٌ أُخرى قالت بإمامة محمّد بن إسماعيل، وتسمّى القرامطة، وكانوا في الأصل على مقالة المـُباركيّة، إلاّ أنّهم خالفوها فقالوا: لا يكون بعد محمّد النبيّ إلاّ سبعة أئمّة: عليٌّ وهو إمام رسول، والحسن، والحسين، وعليّ بن الحسين، ومحمّد بن عليّ، وجعفر بن محمّد، ومحمّد بن إسماعيل، وهو الإمام القائم المهدي، وهو رسولٌ، وزعموا أنّ النبيّ انقطعت عنه الرسالة في حياته في اليوم الذي نَصّب فيه عليّاً للناس بغدير خُم ...، وأنّ النبيّ بعد ذلك كان مأموماً بعليّ محجوجاً به، ولمـّا مضى عليّ صارت الإمامة في الحسن ثُمّ الحسين ثُمّ عليّ بن الحسين ثُمّ

____________________

(١) سعد القُمّي: المقالات والفِرَق ص ٨٠.

(٢) الرازي: الزينة الوَرِقة ٢٣١.

(٣) سعد القُمّي: المقالات والفِرَق ص ٨١.

(٤) النوبختي: فِرَق الشيعة ص ١٦.

٢٤٣

الباقر ثُمّ الصادق، ثُمّ انقطعت عن الصادق في حياته فصارت في إسماعيل، كما انقطعت عنه وصارت في ابنه محمّد(١) .

وترى هذه الجماعة أنّ محمّد بن إسماعيل هو القائم والمهدي، وتقول: ( جُعل لمحمّد بن إسماعيل جنّة آدم، ومعناها عندهم: الإباحة للمحارم وجميع ما خُلق في الدنيا، وهو قول الله عزّ وجلّ( وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ ) ، أي موسى بن جعفر ووُلده مِن بعده ومَن ادّعى منهم الإمامة، كما زعموا أنّ محمّد بن إسماعيل هو خاتم النبيّين )(٢) .

وهكذا كانت الحَركة الإسماعيليّة التي ظهرتْ في القرن الثاني للهجرة حركة دينيّة اجتماعية للشيعة مُتشعّبة النواحي، لعبت دوراً مُهمّاً في التاريخ، نشأت بتمازج عِدّة فِرَق مِن الغُلاة، ولعلّ بعضها كان مِن أصلٍ فارسي، كما أنّ فيها أُصولاً سريانيّة وغنوصيّة(٣) .

وجاءت بمبادئ وآراء جديدة لا مجال لذكرها هُنا؛ لخروجها عن نطاق البحث(٤) .

ومِن الشيعة مَن ساق الإمامة في محمّد بن جعفر بعد أبيه، واستدلّوا على ذلك وتأوّلوا في إمامته خبراً زعموا ( أنّه رواه بعضهم، وهو أنّ محمّد بن جعفر دخل ذات يومٍ على أبيه وهو صبيٌّ صغير، فدعاه أبوه فاشتدّ يعدو نحوه فكبا وعَثر بقميصه وسقط لحرّ وجهه، فقام جعفر فعدا نحوه حافياً، فحمله وقبّل وجهه، ومسحَ التُراب عنه بثوبه، وضمّه إلى صدره، وقال: سمعتُ أبي محمّد بن عليّ يقول:( يا جعفر، إذا وُلد لك وَلد يشبهني فسمّه باسمي وكنِّه بكُنيتي فهو شبيهي وشبيه رسول الله ) ، فجعل هؤلاء الإمامة في محمّد بن جعفر وفي وُلده مِن بعده، وهذه الفرقة تُسمّى السميطيّة، وتُنسب

____________________

(١) النوبختي: فِرَق الشيعة ص ٦١.

(٢) النوبختي: فِرَق الشيعة ص ٦١.

(٣) الدوري: دراسات في العصور العبّاسيّة المـُتأخّرة ص ١٢٦.

(٤) اُنظر: عن أُصول الإسماعيليّة ومبادئهم، لويس. الدوري: دراسات في العُصور العباسيّة المـُتأخّرة الفصل الخاص بالإسماعيليّة والقرامطة.

٢٤٤

إلى رئيس يُقال له يحيى بن أبي السميط، وقال بعضهم الشميطيّة؛ لأنّ رئيسهم كان يُقال له يحيى بن أشمط(١) .

ثُمّ قالت فِرقَةٌ أُخرى أنّ الإمامة انتقلت بعد جعفر إلى ابنه عبد الله؛ لأنّه كان أكبر أبناء أبيه سِنّاً، وجلس مجلس أبيه، وادّعى الإمامة ووصيّة أبيه، واعتلّوا بذلك بأخبار رُويت عن جعفر وعن أبيه قَبله، قالاً: ( الإمامة في الأكبر مِن وُلد الإمام إذا نصب )، فمال إلى عبد الله وإمامته جلُّ مَن قال بإمامة أبيه وأكابر أصحابه، إلاّ نَفر يسير عرفوا الحقّ، وامتحنوا عبد الله بالمسائل في الحلال والحرام والصلاة والزكاة فلم يجدوا عنده عِلماً، وهذه الفِرقَة هي الفطحيّة؛ سمّوا بذلك لأنّ عبد الله كان أفطح الرأس، وقال بعضهم كان أفطح الرِجلين(٢) .

ويقول الرازي: إنّهم قالوا بإمامته؛ ( لأنّه هو الذي تولّى غُسل أبيه بعد موته والصلاة عليه، والإمام لا يُصلّي عليه إلاّ الإمام، وأخذَ خاتمه )(٣) .

ويقول الرازي أيضاً: ( ورويَ أنّ جعفراً أودع إليه وديعةً، وأمره أنْ يدفعها إلى مَن يطلبها )(٤) .

ولكنّ هذه الجماعة لم تستمرّ على إمامته عبد الله؛ لأنّه مات ولم يُخلّف ذَكراً، فشكّ القوم في إمامته، ( فرجع عامّة الفطحيّة مِن القول بإمامته - سوى قليل منهم - إلى القول بإمامة موسى بن جعفر، وقد كان رجعَ جماعةٌ منهم في حياته ثُمّ رجع عامّتهم بعد وفاته )(٥) .

ويقول سعد القُمّي ( ارتاب القوم في إمامة عبد الله، واضطربوا وأنكروا ذلك؛ للروايات الكثيرة التي رووها عن عليّ بن الحسين ومحمّد بن عليّ

____________________

(١) سعد القُمّي: المقالات والفِرَق ص ٨٦، النوبختي يسمّوهم السمطيّة نسبةً إلى يحيى بن أبي السميط ص ٦٥، الرازي في الزينة يقول: الشمطية نسبة إلى يحيى بن أبي أشمط الورقة ٢٣٠.

(٢) سعد القُمّي: المقالات والفِرَق ص ٨٧.

(٣) الرازي: الزينة الورقة ٢٣١.

(٤) ن. م الورقة ٢٣١.

(٥) النوبختي: فِرَق الشيعة ص ٦٦.

٢٤٥

وجعفر بن محمّد أنّ الإمامة لا تكون في أخَوَين بعد الحسنين، ولا تكون إلاّ في الأعقاب وأعقاب الأعقاب إلى انقضاء الدنيا ...، فرجعوا عن القول بإمامته )(١) .

وحديث الإمامة لا تكون في أخَوَين لم يرد في المصادر الإماميّة إلاّ عن الصادق، ولكن سعد القُمّي ينفرد بأنّ الحديث كان عن عليّ بن الحسين والباقر، فقد أورد الكُليني عِدّة أحاديث عن الصادق تُفيد بأنّ الإمامة لا تكون إلاّ في الأعقاب وأعقاب الأعقاب(٢) ، ولعلّه أدقّ، كما يروي سعد القُمّي أنّه في زمَن عليّ بن الحسين لوجود زيد والباقر وكون الإمامة للباقر، ثُمّ إنّ زيداً كان قد تكلّم في الإمامة، فظهر هذا الحديث ليقطع الطريق على زيد وعلى مَن ادّعى الإمامة لزيد.

ب - إمامة موسى بن جعفر الكاظم:

أمّا الشيعة الذين ساروا في الإمامة على المنهاج الأوّل - أي التسلسل مِن عليّ وأولاده - فقالوا أنّ الإمامة بعد جعفر تكون لابنه موسى بن جعفر، وخطّؤوا إمامة عبد الله، وكان فيهم مِن وجوه أصحاب جعفر بن محمّد، مثل: ( هشام الجواليقي، وعبد الله بن يعفور، وعُمر بن يزيد بن بيّاع السابري، ومحمّد بن النُعمان - أبي جعفر الأحوال مؤمن الطاق - وعبيد بن زرارة، وغيرهم )(٣) .

فموسى بن جعفر هو الإمام بعد أبيه جعفر الصادق، وتَستدلّ الشيعة على إمامته بعدّة أدلّة، فقد أورد الكُليني عِدّة روايات في النصّ على إمامة موسى بن جعفر، قال: عن أحمد بن مهران ...، عن أبي عبد الله الصادق: ( إنّ الفيض بن المـُختار(٤) قال لأبي عبد الله: خُذ بيدي مِن النار مَن لنا بعدك؟ فدخل عليه أبو إبراهيم موسى بن جعفر - وهو يومئذٍ غُلام - فقال:( هذا صاحبكم فتمسّك به ) (٥) ، وعن أحمد بن مهران ...، عن معاذ بن كثير

____________________

(١) سعد القُمّي: المقالات والفِرَق ص ٨٧.

(٢) الكُليني: الكافي ج١ ص ٢٨٦.

(٣) سعد القُمّي: المقالات والفِرَق ص ٨٨.

(٤) الفيض بن المختار مِن أتباع الإمام جعفر الصادق، الكشّي ص ٣٠١.

(٥) الكُليني: الكافي ج١ ص ٣٠٧.

٢٤٦

عن أبي عبد الله قال: قلت له أسأل الله الذي رزق أباك مِنك هذه المنزلة أنْ يرزقك مِن عَقبك قبل الممات مِثلها، فقال:( قد فعل الله ذلك ) ، قال قلت: مَن هو جُعلت فداك؟ فأشار إلى العبد الصالح وهو راقد، فقال:( هذا الراقد ) ، وهو غلامٌ(١) .

وعن أحمد بن مهران أيضاً، عن المـُفضّل بن عُمر، قال: كُنتُ عند أبي عبد الله فدخل أبو إبراهيم وهو غُلام، فقال:( استوصِ به وضع أمره عند مَن تثق به مِن أصحابك ) (٢) .

ويُورد عن أبي عبد الله أنّ منصوراً بن حازم سأله بحضرة عبد الله بن جعفر عمَّن يتولّى الإمامة بعده، فأشار إلى موسى بن جعفر وعمره خمس سِنين(٣) .

وبهذا تنفي الشيعة إمامة عبد الله بن جعفر.

وذكر الكُليني، عن محمّد ابن يحيى، عن عيسى بن عبد الله، عن محمّد بن عُمر بن علي، عن أبي عبد الله قال: قُلت له، إنْ كان كونٌ فبمَن أئتمّ؟ قال: فأومى إلى ابنه موسى، قال قلتُ: فإنْ حَدَث بموسى ( عليه السلام ) حَدَثٌ فبمَنْ أئتم؟ قال:( بولده ) ، قلت: فإنْ حَدَث بولده حَدث وترك أخا كبيرا أو ابنا صغيرا، فبمَن أئتم؟ قال:( بولده )، ثُمّ قال:( هكذا أبداً )، قلت: فإنْ لم أعرفه ولا أعرف موضعه؟ قال تقول:( اللّهمّ إنّي أتولّى مَن بقي مِن حُجَجك مِن وُلد الإمام الماضي، فإنّ ذلك يُجزيك إنْ شاء الله ) (٤) .

فهذا تأكيد آخر مِن الصادق على إمامة ابنه موسى بن جعفر، وإنّ الإمامة بعده في أولاده، ونَفيّ إمامة مَن ادّعى الإمامة مِن غير موسى وأولاده، وقد قال الصادق ذلك لكثرة ما ظهر في عصره مِن اختلافات في الإمامة، وكثرة مَن ادّعاها مِن ولده ومَن دعا إليهم مِن أتباعه.

وأورد الكُليني، عن فيض بن المـُختار، عن أبي عبد الله: أنّ فيضاً

____________________

(١) الكُليني: الكافي ج١ ص ٣٠٨، ويقصد بالعبد الصالح موسى بن جعفر.

(٢) ن. م ج١ ص ٣٠٨.

(٣) ن. م ج١ ص ٣٠٩.

(٤) ن. م ج١ ص ٣٠٩.

٢٤٧

حَدّث الصادق في أمرِ أبي الحسن موسى بن جعفر؛ حتّى قال له أبو عبد الله:( هو صاحبك الذي سألت عنه، فقُم إليه فأقر له بحقّه )، فقمتُ حتّى قبّلت رأسه ويده ودعوت الله له، فقال أبو عبد الله:( أما إنّه لم يؤذن لنا في أول منك ) ، قال قلت: جُعلتُ فداك فأخبر به أحداً؟ قال:( نعم، أهلُك ووُلدك )، وكان معي أهلي ووُلدي ورفقائي، فلمّا أخبرتهم حمدوا الله(١) .

ويبدو أنّ موسى بن جعفر كان أقرب إخوته إلى أبيه، وأرفعهم منزلة عنده، يدلّ على ذلك ما رواه الكُليني مِن أنّ الصادق كان يلوم ابنه عبد الله الأفطح ويُعاتبه ويقول:( ما منعك أنْ تكون مثل أخيك، فوالله إنّي لأعرف النور في وجهه؟ ) فقال عبد الله: لِمَ، أليس أبي وأبوه واحداً، وأُمّه وأُمّي واحدة؟ فقال له أبو عبد الله:( إنّه مِن نفسي وأنت ابني ) (٢) .

فهذا دليل آخر أكّد به الصادق إمامة ابنه موسى مِن بين أولاده، كما أنّ الصادق كان حَذِراً حتّى في وصيّته لموسى أبنه، فلم يوصِ له فقط، وإنما أشرك معه آخرين مِن أولاده ليُبهم الأمر على المنصور آنئذ؛ لشدّته مع العلويّين - كما مرّ سابقاً - فيروي المسعودي أنّ الصادق أوصى وصيّته الظاهرة خوفاً على ابنه موسى وتقيّةً إلى أربعة: المنصور وابنه عبد الله الأفطح وابنته فاطمة وابنه موسى بن جعفر، فقام موسى بأمر الإمامة سِرّاً واتّبعه المؤمنون(٣) .

ويستدلّ الكُليني على إمامة موسى بن جعفر بما رواه عن فيض بن المـُختار، قال: إنّي لعند أبي عبد الله إذ أقبل أبو الحسن موسى وهو غُلام، فالتزمته وقبّلته، فقال أبو عبد الله:( أنتم السفينة وهذا ملاّحها ) ، قال: فحججتْ مِن قابل ومعي ألفاً دينار، فبعثتُ بألفٍ إلى أبي عبد الله وألفٍ إليه، فلمّا دخلتُ على أبي عبد الله قال:( يا فيض عدلته بي؟! ) قُلتُ: إنّما فعلتُ ذلك لقولك، فقال:( أما والله ما أنا فعلتُ ذلك، بل الله عزّ وجل فعله به ) (٤) .

____________________

(١) الكُليني: الكافي ج١ ص ٣٠٩.

(٢) ن. م ج١ ص ٣١٠.

(٣) المسعودي: إثبات الوصيّة ص ١٥٩.

(٤) الكُليني: الكافي ج١ ص ٣١١.

٢٤٨

وهذا تأكيد آخر على إمامة موسى بن جعفر؛ لأنّ الفيض عدله بأبيه الإمام، كما أنّ إمامته منصوصٌ عليها مِن الله.

ويذكر المسعودي أنّ مِن دلائل إمامة موسى بن جعفر ما رواه عليّ بن حمزة الثمالي، عن أبي بصير، قال: سمعتُ العبد الصالح - يعني موسى بن جعفر - يقول:( لمـّا وقعَ أبو عبد الله في مرضه الذي مضى فيه قال لي: يا بُني، لا يلي غُسلي غيرك، فإنّي غَسّلتُ أبي، والأئمّة يُغسّل بعضهم بعضاً ) (١) .

ويبدوا أنّ الشيعة في هذه الفترة كانت في شكّ مِن أمر الإمامة، والظاهر أنّ الظُروف السياسيّة واضطهاد العبّاسيّين للشيعة دعتْ إلى التكتُّم في أمر الإمامة، لا سيّما في فترة الصادق كما مرّ سابقاً.

أمّا الشيخ المـُفيد، فيُشير إلى مَن أكّد النصّ على إمامة موسى بن جعفر، ويقول: وممَّن روى صريح النصّ بالإمامة مِن أبي عبد الله على ابنه أبي الحسن موسى بن جعفر مِن شُيوخ أصحاب أبي عبد الله وخاصّته وبطانته وثُقاته الفُقهاء الصالحين منهم: المـُفضّل بن عُمر الجُعفي، ومعاذ بن كثير، وعبد بن الحجّاج، والفيض بن المـُختار، ويعقوب السارج ...، وقد روى ذلك مِن أخَويه إسحاق وعليّ ابنا جعفر، وكانا مِن الفضل والوَرع على ما لا يَختلف فيه اثنان(٢) .

ويُضيف المـُفيد إلى الأدلّة السابقة دليلاً آخر على إمامة موسى بن جعفر، فيذكر روايةً عن محمّد بن الوليد، قال: سمعتُ عليّ، بن جعفر بن محمّد الصادق يقول: سمعتُ أبي جعفر بن محمّد يقول لجماعةٍ مِن خاصّته وأصحابه:( استوصوا بابني موسى خيراً، فإنّه أفضل وُلدي ومَن أُخلّف مِن بعدي، وهو القائم مقامي والحجّة لله تعالى على كافّة خلقه مِن بعدي ) (٣) .

____________________

(١) المسعودي: إثبات الوصيّة ص ١٦١.

(٢) المـُفيد: الإرشاد ص ٢٨٨، وقد ذَكر المـُفيد أدلّة إمامة موسى بن جعفر كما وردتْ عند الكُليني، مع اختلافٍ بسيطٍ في الألفاظ، واختلافٍ في بعض الأسانيد، اُنظر المـُفيد: الإرشاد ص ٢٨٩ - ٢٩٠.

(٣) المـُفيد: الإرشاد ص ٢٩٠.

٢٤٩

ويتكلّم الطوسي عن إمامة موسى بن جعفر ويُفنّد إمامة ما عداه، ويستدلّ على إمامته بتواتر الشيعة بالنصّ عليه مِن أبيه، وما ورد مِن القول بإمامة الاثني عشر يُبطل إمامة مَن عداه؛ لأنّ كلّ مَن قال ذلك قطع على إمامته بعد أبيه(١) .

فموسى بن جعفر هو الإمام بعد أبيه؛ لاجتماع خصال الفضل فيه، ولِنصّ أبيه عليه بالإمامة(٢) .

ولكنّ الشيعة اختلفوا في إمامة موسى بن جعفر بعد أنْ حسبه الرشيد ومات في الحبس سنَة ١٨٣ هـ(٣) ، وشكّوا في إمامته وافترقوا إلى عِدّة فِرَق، قالت جميعها بأنّ موسى بن جعفر حيٌّ لا يموت حتّى يملك الأرض شرقها وغربها، ويملأها عدلاً كما مُلئت جوراً، وأنّه خرج مِن الحبس واختفى عن السُلطان، وقالوا: إنّه القائم المهدي، واعتلّوا في ذلك بروايات مِن أبيه أنّه قال: ( هو القائم المهدي، فإنْ يُدهده رأسه عليكم مِن جبل فلا تُصدّقوا؛ فإنّه القائم )(٤) .

ومنهم مَن قال أنّه قد مات، وأنّه القائم، ( وإنّ فيه سنةٌ مِن عيسى بن مريم، وكذّبوا مَن قالوا أنّه رجع، ولكنّه يرجع في وقتِ القيامة؛ فيملأ الأرض عدلاً، ورووا في ذلك خبراً عن أبيه أنّه قال: إنّ ابني هذا فيه سنة مِن عيسى بن مريم، وإنّ وُلد العبّاس يأخذونه فيحسبونه مَرّتين، فيُقتل في المرّة الثانية )، فقد قُتل(٥) .

ومِن الشيعة مَن أنكر قَتل موسى بن جعفر، وقالوا: ( مات ورفعه الله إليه، وأنّه يَردّه عند قيامه، فسُمّوا هؤلاء جميعاً الواقفة؛ لوقوفهم على موسى

____________________

(١) الطوسي: تلخيص الشافي ج٤ ص ٢٠٣.

(٢) النيسابوري: روضة الواعظين ج١ ص ٢٥٤، ويذكر الطبرسي دلائل إمامة موسى بن جعفر، ويذكر في هذا الصدد رواياتِ الكُليني والمـُفيد، اُنظر أعلام الورى ص ٢٨٨ - ٢٩١، وكذا الأربلي، فقد أخذ عن الكُليني كما أخذ عن المـُفيد، اُنظر كشف الغُمّة ج٣ ص ١٠ - ١٣.

(٣) النوبختي: فِرَق الشيعة ص ٦٧.

(٤) النوبختي: فِرَق الشيعة ص ٦٧.

(٥) سعد القُمّي: المقالات والفِرَق ص ٩٠.

٢٥٠

ابن جعفر، وأنّه الإمام القائم، ولم يأتمّوا بعده بإمامٍ، ولم يتجاوزوه إلى غيره )(١) .

وقد ظهرتْ أيضاً فِرقَةٌ أُخرى سمّاها سعد القُمّي الهمسويّة، وهؤلاء أتباع محمّد بن بشير، مولى بني أسد مِن أهل الكوفة، قالوا: إنّ موسى بن جعفر غابَ ولم يمتْ ولم يُحبس، وهو القائم المهدي، وقد خَلّف على الأُمّة وقتَ غيبته محمّد بن بشير، وبعده ابنه سميع بن محمّد، فهو الإمام(٢) .

فهذه الفِرقَة أخرجت الإمامة حتّى مِن أولاد موسى إلى أُناسٍ لا صِلة لهم بالشيعة والأئمّة.

ويتكلّم النوبختي عن الفِرقَة السابقة، ويُسمّيهم البشريّة، ويذكر أنّ لهم مبادئ كمبادئ الغُلاة(٣) .

أمّا الرازي، فحين يتحدّث عن الواقفة يقول: ( إنّما سُمّوا بذلك؛ لأنّهم قالوا: الإمام موسى بن جعفر بعد أبيه، وزعموا أنّه حيٌّ لا يموت، وأنّه القائم الذي يملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جوراً، ووقفوا على القول بإمامته، وأنكروا إمامة ابنه عليّ بن موسى بعده )(٤) .

والوقف على الأئمّة قد ظَهر عند السبئيّة التي أنكرت قَتل عليّ بن أبي طالب، وقالت بعودته بعد الموت، كما ظَهر عند الكيسانيّة التي قالت برجوع محمّد بن الحنفيّة(٥) .

____________________

(١) النوبختي: فِرَق الشيعة ص ٦٨، ويذكر النوبختي: إنّ الواقفة لُقّبت عند مُخالفيها ممَّن قال بإمامة عليّ بن موسى الرضا بالممطورة، وغَلب عليها هذا الاسم؛ وسببُ ذلك أنّ عليّاً بن إسماعيل الميثمي ويونس بن عبد الرحمان ناظرا بعضهما، فقال له عليّ بن إسماعيل الميثمي - وقد اشتدّ الكلام بينهما -: ما أنتم إلاّ كلابٌ ممطورة. أراد أنّكم أنتن مِن جيف ...، فلزمهم هذا اللَقب، فإذا قيل للرجل أنّه ممطور، فقد عُرف أنّه مِن الواقفة على موسى بن جعفر خاصّة؛ لأنّ كلّ مَن مضى له واقفة وقفت عليه، وهذا اللقب لأصحاب موسى خاصّة ص ٦٩.

(٢) سعد القُمّي: المـُقالات والفِرَق ص ٩١.

(٣) النوبختي: فِرَق الشيعة ص ٧٠.

(٤) الرازي: الزينة الوَرِقة ٢٣٥.

(٥) النوبختي: فِرَق الشيعة ص ١٩، ٢٠.

٢٥١

ويروي الصدوق أنّ السبب الذي مِن أجله قال بعض الشيعة بالوقف على موسى بن جعفر، أنّ موسى عاش أيّام الرشيد، وقد كثُر أعداؤه ومَن يسعى به عند الرشيد، ومَن يقول أنّ لديه الأموال الكثيرة، وأنّه يدّعي الإمامة ويروم الخُروج، فأراد موسى أنْ ينفي هذه الشائعات؛ ففرّق أمواله بين أصحابه، ومنهم: زياد القندي وكان عنده سبعون ألف دينار، وعليّ بن أبي حَمزة وعنده ثلاثون ألف دينار، فلمّا مات موسى بن جعفر وخَلَفه ابنه عليّ بن موسى الرضا امتنعا مِن دفع المال، وأنكرا موت موسى بن جعفر(١) .

واستمرّ الواقفة على قولهم هذا، إلاّ أنّ جماعةً منهم رجعيت عن قولها بعد أنْ رأت أُموراً مِن الرضا ودلائل؛ فقالت بإمامته(٢) .

ج - إمامة عليّ بن موسى الرضا:

أمّا الشيعة أتباع موسى بن جعفر، فَقد قالتْ بعد وفاته بإمامة ابنه عليّ بن موسى الرضا، وهذه الفرقة القطعية؛ ( لأنّها قَطعتْ على وفاة موسى بن جعفر، وعلى إمامة ابنه عليّ بن موسى الرضا، ولم يشكّ في أمرها ولم يرتب، وأقرّت بموت موسى، وأنّه أوصى إلى ابنه علي وأشار إلى إمامته قَبل حبسه، وجرت على المنهاج الأوّل )(٣) .

ويَقصد بالمنهاج الأوّل: تسلسل الإمامة في عليّ والحسن والحسين وأبناء الحسين.

ويقول الرازي: ( سُميتْ هذه الفرقة القطعية؛ لقطعهم على موت موسى بن جعفر، والقول بإمامة عليّ بن موسى مِن بعده، ثُمّ بواحد بعد الآخر وُلد عليّ بن موسى )(٤) .

فالإمام بعد موسى بن جعفر أبو الحسن عليّ بن موسى الرضا بنصّ

____________________

(١) الصَدوق: عِلَل الشرائع ج١ ص ٢٣٥ - ٢٣٦.

(٢) النوبختي: فِرَق الشيعة ص ٦٩، واُنظر عن الواقفة المـُفيد: الفصول المـُختارة مِن العيون والمحاسن ج٢ ص ٩٣، الطوسي: الغَيبة ص ١٩ وما بعدها.

(٣) سعد القُمّي: المقالات والفِرَق ص ٨٩.

(٤) الرازي: الزينة الوَرِقة ٢٣٥.

٢٥٢

أبيه عليه واجتماع رُؤوس أصحاب أبيه عليه(١) .

وتستدلّ الشيعة على إمامته بوصيّة أبيه، وبروايات تستدلّ منها على إمامته.

فقد ذكر الكُليني عن أحمد بن مهران ...، قال: حدّثني المخزومي - وكانت أُمّه مِن وُلد جعفر بن أبي طالب - قال: ( بَعث إلينا أبو الحسن موسى، فجمعنا ثُمّ قال لنا:( أتدرون لِمَ دعوتكم؟ ) فقلنا: لا، فقال:( اشهدوا أنّ ابني هذا وصيّي والقيّمُ بأمري، والخليفة مِن بعدي، مَن كان له عندي دينٌ فليأخذه مِن ابني هذا، ومَن كانت له عندي عدّة فلينجزها منه، ومَن لم يكن له بدٌّ مِن لقائي فلا يلقني إلاّ بكتابه ) (٢) .

ويورد الكُليني، عن محمّد بن الحسن ...، عن ابن سنان، قال: دخلت على أبي الحسن موسى قبل أنْ يقدِم العراق بسَنة وعليّ ابنه جالسٌ بين يديه، فنظر إليّ فقال:( يا محمّد، أمّا أنّه سيكون في هذه السَنة حركةٌ، فلا تجزع لذلك ) ، قال، قُلت: وما يكون؟ قال:( أصير إلى الطاغية، أمّا إنّه لا يبدأني منه سوء، ومِن الذي يكون بعده ) ، قال قلت: وما يكون؟ قال:( يُضلّ الله الظالمين، ويفعل ما يشاء )، قال: قلت وما ذاك؟ قال:( مَن ظَلم ابني هذا حقّه وجَحد إمامته مِن بعدي كان كمَن ظَلم عليّ بن أبي طلاب حقّه، وجحد إمامته بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ))، قال، قلت: والله لئن مدّ الله لي في العُمر لأُسلّمنَّ له حقّه، ولأُقرّنّ له بإمامته، قال:( صدقت يا محمّد، يمدّ الله في عُمرك وتسلّم له حقّه وتقرّ له بإمامته وإمامة مَن يكون بعده ) ، قال: قلت: ومَن ذاك؟ قال:( محمّد ابنه ) (٣) .

ويروي المسعودي، عن العبّاس بن محمّد ...، عن صفوان بن يحيى وعليّ بن جعفر، قالا: ( كُنّا مع عبد بن الرحمان بن الحجّاج بالمدينة، فدخلناها بعدما حٌمل موسى، فجاءنا إسحاق وعليّ ابنا أبي عبد الله فشهدوا عند عبد الرحمان أنّ عليّ بن موسى وصيّ أبيه وخليفته مِن بعده )(٤) .

____________________

(١) النيسابوري: روضة الواعظين ج١ ص ٢٦٥.

(٢) الكُليني: الكافي ج١ ص ٣١٢.

(٣) ن. م ج١ ص ٣١٩.

(٤) المسعودي: إثبات الوصيّة ص ١٦٦.

٢٥٣

ويذكر الصدوق وصيّة موسى بن جعفر لابنه الرضا، عن حسن بن بشير قال: أقام لنا أبو الحسن موسى بن جعفر ابنه عليّاً كما أقام رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عليّاً يوم غدير خُم، فقال:( يا أهل المدينة )، أو قال:( يا أهل المسجد، هذا وصيّي مِن بَعدي ) (١) .

ويورد الصدوق حديثاً آخر في الوصيّة، فيروي عن حيدر بن أيّوب، قال: ( كُنّا بالمدينة في موضع يُعرف بالقباء، فيه محمّد بن زيد بن علي، فجاء بعد الوقت الذي كان مجيئنا فيه، فقلنا له: ما حبسك؟ قال: دعانا أبو إبراهيم موسى بن جعفر اليوم سبعة عشر رجلاً مِن وُلد عليٍّ وفاطمة، فأشهدنا لعليّ ابنه بالوكالة والوصيّة في حياته وبعد موته، وأنّ أمره جايز عليه وله، ثُمّ قال محمّد بن زيد: والله يا حيدر، لقد عقد له الإمامة اليوم، وليقولنّ الشيعة به مِن بعده، قال حيدر، قلت: بل يبقيه الله وأيّ شيء هذا؟ قال يا حيدر إذا أوصى إليه عقد له الإمامة )(٢) .

ويذكر الكُليني نصّ وصيّة موسى بن جعفر لابنه عليّ بن موسى الرضا، ومما جاء فيها:( وإنّي قد أوصيتُ إلى عليّ وبني بعد معه، وإنْ شاء وآنس منهم رُشداً وأحبّ أنْ يقرّهُم فذاك له، وإن كرههم وأحبّ أنْ يُخرجهم فذاك له، ولا أمر لهم معه، وأوصيتُ إليه بصدقاتي وأموالي ومواليَّ وصبياني الذين خَلّفت ووُلدي إلى إبراهيم والعبّاس وقاسم وإسماعيل وأحمد وأُمّ أحمد، وإلى عليٍّ أمرُ نسائي دونهم، وثُلثُ صدقة أبي وثُلُثي يضعه حيث يرى، ويجعل فيه ما يجعل ذو المال في ماله، فإنْ أحبّ أنْ يبيع أو يهب أو يتصدّق بها على مَن سَمّيتُ له وعلى غير مَن سمّيت فذاك له، وهو أنا في وصيّتي في مالي وفي أهلي ووُلدي ...، وإنْ أراد رجلٌ منهم أنْ يُزوّج أخته، فليس له أنْ يُزوّجها إلاّ بإذنه وأمره ...، وأيّ سُلطان أو أحدٍ مِن الناس كفّه عن شيءٍ أو حال بينه وبين شيءٍ ممّا ذكرتُ في كتابي هذا أو أحد ممَّن ذكرتُ فهو مِن الله ومِن رسوله بريء، والله ورسوله منهم بُراء، وعليه لعنه الله ) (٣) .

____________________

(١) الصدوق: عُيون أخبار الرضا ج١ ص ٢٨.

(٢) الصدوق: عُيون أخبار الرضا ج١ ص ٢٨.

(٣) الكُليني: الكافي ج١ ص ٣١٧، وذَكر الصدوق نصّ وصيّة موسى بن جعفر إلى ابنه =

٢٥٤

وتستدلّ الشيعة أيضاً على إمامة عليّ بن موسى الرضا بعدّة أدلّة أُخرى، وأحاديث ترويها عن أبيه، ومِن ذلك ما رواء الكُليني، فقد روي عن أحمد بن مهران ...، عن زياد بن مروان القندي - وكان من الواقفة - قال: ( دخلتُ على أبي إبراهيم وعنده أبو الحسن الرضا، فقال لي:( يا زياد، هذا ابني فلان، كتابه كتابي، وكلامه كلامي، ورسوله رسولي، وما قال فالقول قوله ) (١) .

وذَكر روايةً أُخرى عن أحمد بن مهران، عن محمّد بن علي ...، قال: جئتُ إلى أبي إبراهيم بمالٍ، فأخذ بعضه وترك بعضه، فقلت: أصلحك الله، لأيّ شيءٍ تركته عندي؟ قال:( إنّ صاحب هذا الأمر يطلبه منك ) ، فلمّا جاءنا نعيه بعث إليّ أبو الحسن ابنه، فسألني ذلك المال فدفعته إليه(٢) .

كما ذكر عن محمّد بن يحيى ...، عن الحسين بن نعيم الصحّاف، قال: ( كُنت أنا وهشام بن الحَكم وعليّ بن يقطين ببغداد، فقال عليّ بن يقطين: كُنتُ عند العبد الصالح - موسى بن جعفر - جالساً، فدخل عليه ابنه علي، فقال لي:( يا عليّ بن يقطين، هذا علي سيد وُلدي، أما إنّي قد نحلته كُنيتي ) (٣) .

وروي عن نعيم القابوسي، عن ابن الحسن أنّه قال:( إنّ ابني عليّاً أكبر وُلدي، وأبرّهم عندي، وأحبهم إليّ، وهو ينظر معي في الجفر، ولم ينظر فيه إلاّ نبيٌّ أو وصيّ نَبي ) (٤) .

وأورد عن الحسين بن محمّد ...، عن محمّد بن إسحاق بن عمّار، قال: قلت لأبي الحسن الأوّل - موسى بن جعفر -، ألاّ تدلّني إلى مَن آخذ عنه ديني؟ فقال:( هذا ابني عليّ، إنّ أبي أخذ بيدي

____________________

=

الرضا، كما ذكرها الكُليني مع اختلاف في بعض العبارات والأسانيد، الصدوق: عُيون أخبار الرضا ج١ ص ٣٣ - ٣٦.

(١) الكُليني: الكافي ج١ ص ٣١٢.

(٢) ن. م ج١ ص ٣١٣.

(٣) ن. م ج١ ص ٣١١.

(٤) ن. م ج١ ص ٣١١، والجفر كما يروي الكُليني عن أبي عبد الله:( وعاء مِن آدم، فيه عِلم النبيّين والوصيّين، وعِلم العُلماء الذين مضوا مِن بني إسرائيل ) ، اُنظر: ج١ ص ٢٣٩.

٢٥٥

فأدخَلَني إلى قبر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقال: يا بني إنّ الله عزّ وجلّ قال: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) (١) وإنّ الله عزّ وجلّ إذا قال قولاً وفى به ) (٢) .

وروي أيضاً عن أحمد بن إدريس، عن محمّد بن عبد الجبّار ...، عن داود الرقّي، قال، قُلت لأبي الحسن موسى: إنّي قد كبرتْ سنّي ودقّ عظمي، وإنّي سألت أباك فأخبَرَني بك، فأخبرني مَن بعدك؟ فقال:( هذا أبو الحسن الرضا ) (٣) .

فهذه كُلّها نُصوص للتدليل على إمامة الرضا، وقد أسهبت المصادر الإماميّة في كلامها على إمامة الرضا؛ نتيجةً لِما ساد تلك الفترة مِن الاختلافات، وظُهور الدعوات والفِرَق المـُتعدّدة حول الإمامة كما مرّ بِنا(٤) .

فعليّ بن موسى الرضا هو الإمام بعد أبيه؛ لفضله على جماعة إخوته وأهل بيته، وظُهور عِلمه وورعه، واجتماع الخاصّة والعامّة على ذلك فيه، ومعرفتهم به منه؛ ولنصّ أبيه على إمامته مِن بَعده، وإشارته إليه بذلك(٥) .

ويبدو أنّه قد أصبح لعِلم الإمام أهميّة خاصّة، سيّما وأنّ الرضا عاش أيّام المأمون، وقد بيّنا ما حَفَلَ به عصر المأمون مِن التيّارات الفكريّة المـُختلفة، وتشجيع المأمون للحركة الثقافيّة.

ويُحدّثنا الصدوق عن كثرةِ المـُناظرات التي كانت تدور بين الرضا والمـُتكلّمين مِن أهل الفِرَق المـُختلفة، وأغلب هذه المـُناظرات كانت حول

____________________

(١) سورة البقرة ٢: ٣٠.

(٢) الكُليني: الكافي ج١ ص ٣١٢.

(٣) ن. م ج١ ص ٣١٢.

(٤) اُنظر عن دلائل إمامة الرضا ما أورده الصدوق، حيث ذَكر ثمانيةً وعشرين نصّاً، وقد أخذ عن الكُليني مع اختلاف في الأسانيد والألفاظ، عيون أخبار الرضا ج١ ص ٢١ - ٤٠، وقد أخذَ المـُفيد أيضاً عن الكُليني في باب إمامة الرضا، وأورد نفس الروايات، الإرشاد ص ٣٠٤ وما بعدها، وكذا فعل الطوسي، اُنظر: الغيبة ص ٢٤ وما بعدها، واُنظر أيضاً: الطبرسي، أعلام الورى ص ٣٠٣ وما بعدها، حيث أخذ عن الكُليني أيضاً، أمّا الأربلي في كشف الغُمّة في معرفة الأئمّة، فقد أخذ عن المـُفيد كما أخذ عن الكُليني ج٣ ص ٦٣ - ٦٦.

(٥) المـُفيد: الإرشاد ص ٣٠٤.

٢٥٦

مسألة الإمامة ومنزلة آل البيت مِن النبيّ ووراثتهم له.

ويذكر الصدوق: ( إنّ المأمون كان يجلب على الرضا مُتكلّمي الفِرَق والأهواء المـُضلّة وكُلّ مَن سمع به؛ حرصاً على انقطاع الرضا عن الحجّة مع واحد منهم، وذلك حسداً منه له ولمنزلته مِن العِلم، فكان لا يُكلّم أحداً إلاّ أقرّ له بالفضل، وأُلزم الحجّة له عليه )(١) .

فمِن جُملة المـُناظرات التي ذكرها الصدوق: إنّ الرضا سُئل عن العِترة: أهُم الآل أم غير الآل؟ فقال:( هُم الآل ) ، فقالت العُلماء: فهذا رسول الله يؤثَر عنه أنّه قال: أُمّتي آلي، وهؤلاء أصحابه يقولون بالخبر المـُستفاض الذي لا يُمكن دفعه: آل محمّد أُمّته، فقال أبو الحسن:( أخبروني، فهل تَحرم الصَدقة على الآل؟ قالوا: نعم، قال:فتحرم على الأُمّة؟ قالوا: لا، قال:هذا فَرقٌ بين الآل والأُمّة ...، أما علمتم أنّه وقعت الوراثة والطهارة على المـُصطفين المـُهتدين دون سائرهم؟ قالوا: ومَن يا أبا الحسن؟ فقال:مِن قول الله ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ) (٢) فصارت وراثة النبوّة والكتاب للمـُهتدين دون الفاسقين ‌) (٣) .

كما يذكر الصدوق أنّ مُناظرةً جرتْ في مجلس المأمون بين الرضا وعدد مِن العُلماء بَيّن فيها الرضا فضل آل البيت ومنزلتهم، فقد سأل المأمون عن معنى الآية:( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) (٤) ، فقالت العُلماء: أراد الله بذلك الأُمّة كلّها، فسأل المأمون الرضا عن ذلك، فقال:( أراد الله العِترة الطاهرة؛ لأنّه لو أراد الأُمّة لكانت أجمعها في الجنّة بقول الله: ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) (٥) ،ثُمّ جمعهم كلّهم في الجنّة، فقال: ( جَنَّاتُ عَدْنٍ

____________________

(١) الصَدوق: التوحيد ص ٣٢٩ - ٣٣٠.

(٢) سورة الحديد ٥٧: ٢٦.

(٣) الصدوق: عيون أخبار الرضا ج١ ص ٢٣٠، واُنظر الطبري: بشارة المصطفى ص ٢٨٢.

(٤) سورة فاطر ٣٥: ٣٢.

(٥) سورة فاطر ٣٥: ٣٢.

٢٥٧

يَدْخُلُونَهَا ) (١) ،فصارت الوراثة للعِترة الطاهرة لا لغيرهم )، فقال المأمون: مَن العِترة الطاهرة؟ فقال الرضا:( الذين وصفهم الله في كتابه فقال: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ ) (٢) وهُم الذين قال فيهم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ): إنّي مُخلّف فيكم الثقلين كتاب الله وعِترتي أهل بيتي ) (٣) .

وآية التطهير وحديث الثَقلين مِن أهمّ الأدلّة عند الشيعة الإماميّة في حصر الإمامة في عليّ وأولاده كما مرّ بِنا، وبهذا احتجّ الرضا على المأمون، وأكّد أنّ الوراثة فيهم لا لغيرهم.

كما أنّ الرضا بيّن أنّهُم أمسّ برسول الله مِن غيرهم، فيذكر المـُفيد أنّ المأمون سأل الرضا، قال: يا أبا الحسن إنّي فكّرت في أمرنا وأمركم ونَسَبنا ونَسَبكم فوجدتُ الفضيلة فيه واحدة، ورأيت اختلاف شيعتنا في ذلك محمولاً على الهوى والعصبيّة ...، فقال الرضا:( لو أنّ الله بعثَ محمّداً فخرج علينا مِن وراء أكمة مِن هذه الأكمام فخطب إليك ابنتك، أكُنت تُزوّجه إيّاها؟ ) فقال: يا سبحان الله، وهل أحدٌ يرغب عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )، فقال الرضا:( افتراه يحلّ له أنْ يَخطب إليّ؟ ) قال: فسكت المأمون ثُمّ قال: أنتم والله أمسّ برسول الله رَحِماً(٤) .

وهكذا استطاع الرضا أنْ يُؤكّد حقّه بالإمامة لاتّصاله برسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ووراثته إيّاه.

ونظراً للاختلافات في أمر الإمامة، فقد أوضح الرضا الإمامة ومنزلة الإمام ودلائله ورُتبته وصفاته.

ففي وصفِ الإمامة قال:( إنّ الإمامة أجلّ قَدراً وأعظم شأناً وأعلى مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً مِن أنْ يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم، أو يُقيموا إماماً باختيارهم، إنّ الإمامة خصّ الله عزّ وجلّ بها

____________________

(١) سورة النمل ١٦: ٣١.

(٢) سورة الأحزاب ٣٣: ٣٣.

(٣) الصدوق: عُيون أخبار الرضا ج١ ص ٢٢٩.

(٤) المـُفيد: الفُصول المـُختارة مِن العيون والمحاسن ج١ ص ١٥ - ١٦.

٢٥٨

إبراهيم الخليل بعد النبوّة والخِلّة مرتبةً ثالثة، وفضيلةً شرّفه بها وأشاد بها جلّ ذِكره فقال: ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ) (١) ، فقال الخليل سُروراً بها ( وَمِن ذُرِّيَّتِي ) (٢) ، قال الله تبارك وتعالى: ( قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (٣) ، فأبطلت هذه الآية إمامة كلّ ظالمٍ إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة، ثُمّ أكرمه الله تعالى بأنْ جعلها في ذريّته أهل الصفوة والطهارة، فقال: ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) (٤) ، فلم تزلْ في ذُريّته يرثها بعضٌ عن بعض، حتّى ورّثها الله تعالى النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )، فقال جلّ وتعالى: ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) (٥) ، فكانت له خاصّة، فقلّدها ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عليّاً ( عليه السلام ) بأمر الله تعالى على رسم ما فَرض الله، فصارتْ في ذُريّته الأصفياء الذين أتاهم الله العِلم والإيمان بقوله تعالى: ( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ) (٦) ، فهي في وُلد عليٍّ خاصّة إلى يوم القيامة؛ إذ لا نبيّ بعد محمّد ) (٧) .

يبدو مِن هذا أنّ الإمامة عهدٌ مِن الله وليس باختيار البشر ولا ينالها الظالمون، وأنّها في الصفوة مِن ذريّة الأنبياء، وقد أورثها الله محمّداً ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )، ثُمّ قلّدها ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عليّاً، ثُمّ اختار الله لها مِن ذريّة عليٍّ الأصفياء.

ويقول أيضاً في الإمامة:( إنّ الإمامة هي مَنزلةُ الأنبياء وإرثُ الأوصياء، إنّ الإمامة خلافةُ الله وخلافةُ الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ومقام أمير المؤمنين ( عليّ )

____________________

(١) سورة البقرة ٢: ١٢٤.

(٢) سورة البقرة ٢: ١٢٤.

(٣) سورة البقرة ٢: ١٢٤.

(٤) سورة الأنبياء ٢١: ٧٢.

(٥) سورة آل عمران ٣: ٦٨.

(٦) سورة الروم ٣٠: ٥٦.

(٧) الكُليني: الكافي ج١ ص ١٩٩.

٢٥٩

وميراث الحسن والحسين ) (١) .

كما أنّ وجود الإمام واجب؛ لأنّ( بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحجّ والجِهاد وتوفير الفيء والصدقات وإمضاء الحُدود والأحكام ومنع الثُغور والأطراف ) (٢) .

كما أنّ مِن واجبات الإمام أنّ( يُحلّ حلال الله ويُحرّم حَرام الله، ويقيم حدود الله، ويذبّ عن دين الله، ويدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحَسنة، والحُجّة البالغة ) (٣) .

أمّا صفات الإمام، فهي:( الإمام البدر المـُنير، السراج الزاهر، النور الساطع، والنجم الهادي في غياهب الدُجى ...، الشمس المـُضيئة والسماء الظليلة ...، الأنيس الرفيق الوالد الشفيق ...، أمين الله في خَلقه وحُجّته على عباده وخَليفته في بلاده، والداعي إلى الله، والذابّ عن حرم الله.

الإمام المطهر من الذنوب والمبرأ عن العيوب، المخصوص بالعلم، الموسوم بالحلم وهو واحد دهره لا يدانيه أحد ولا يعادله عالم ) (٤) .

ولمـّا كانت هذه الصفات غير مُتوفّرة إلاّ في آل بيت النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )، لذلك فقد خصّهم الله تعالى بالإمامة دون غيرهم.

فهكذا أبان الرضا الإمامة وشروطها وصفات الإمام، وقد أصبحت هذه المبادئ فيما بعد مِن المبادئ الأساسيّة، حيث بُنيت عليها نظريّة الإمامة عند الشيعة الإماميّة كما سنرى.

إلاّ أنّ الشيعة اختلفت في أمرِ إمامة عليّ بن موسى الرضا، كما اختلفت في إمامة مَن سبقه.

____________________

(١) الكُليني: الكافي ج١ ص ٢٠٠.

(٢) ن. م ج١ ص ٢٠٠.

(٣) ن. م ج١ ص ٢٠٠.

(٤) الكُليني: الكافي ج١ ص ٢٠٠ - ٢٠١، واُنظر أيضاً الصدوق: عيون أخبار الرضا ج١ ص ٢١٦ - ٢٢٢، فقد ذكر ما جاء في الكُليني مع بعض الإضافات.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318