استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ١

استخراج المرام من استقصاء الإفحام20%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 384

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 384 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 164211 / تحميل: 7830
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

3 - جاءت دراسة الشيخ شمس الدين متأنّية، فيما جاءت الدراستان الأخريان سريعتان وأكثر استرسالاً.

وقد يكون ذلك عائداً إلى أنّ رأي الشيخ شمس الدين، جاء ضمن بحث يهدف إلى دراسة المأتم الحسيني فيما كان الرأيان الآخران ضمن موضوع عامّ، لم يُقصد فيه التتبع والبحث.

4 - أحسب أنّ الرأي الثالث، كان موفّقاً حينما أكّد على مرحلة بروز الدول الشيعيّة، وتأثيرها الإيجابي على تطوّر المنبر الحسيني واتّساعه. وهو الأمر الذي أغفله الرأي الأول، وكذلك فعل الرأي الثاني.

5 - إنّ المرحلتين اللّتين تمّ الاتفاق عليهما، ضمن هذه الآراء الثلاثة، هما: المرحلة الأولى؛ والتي كانت بعد واقعة كربلاء، وضمن حياة أئمّة أهل البيت، وتوجيهاتهم لشيعتهم، بإقامة المآتم وإحياء أيام عاشوراء.

وأمّا الثانية، فهي المرحلة الأخيرة (الثالثة ضمن تقسيم الشيخ محمد مهدي شمس الدين وما أورده معجم الخطباء، والسادسة، ضمن تقسيمات مركز الدراسات الحسينيّة)، وهي المرحلة التي تناولت، بداية العصر الحديث، وعودة الوعي إلى الأمة الإسلامية، والتي لا تزال تمتد إلى زمننا الحاضر.

وأرى أنّ كل دراسة، تريد البحث في متابعة الأدوار، والمراحل، التي مرّ بها المنبر الحسيني، سوف توافق الآراء الثلاثة، على المرحلتين الأولى والأخيرة، ولكن الاختلاف في وجهات النظر، ومعرفة الأدوار، تأتي في الزمن الممتد بين هاتين المرحلتين.

ولا أعتقد، أنّي أُجانب الحقيقة، إذا ما قلت: إنّ الأساس الذي يُعتمد في مسالة تطوّر المنبر الحسيني، هو مقدار الوعي، الذي يسود الأمّة، في أي مرحلة من مراحلها. فالمنبر الحسيني، هو ظاهرة دينيّة اجتماعية، على حدّ سَواء، وإنّ حالة الوعي، سوف تترك أثرها

١٦١

واضحاً، على هذه الظاهرة، في نوعية التطوّر، ومستوى أداء المنبر، وسعة المساحة التي يتناولها في امتداداته.

ولتوضيح المسألة؛ يمكن لنا أنْ نستعين بمنبر الجمعة، وتطوّر الموضوعات، والأبحاث والاهتمامات، التي يتناولها خطيب الجمعة. إذ لا شك ولا ريب، أنّ منبر الجمعة في أيام الإسلام الأولى، وارتباط المسلمين الشديد والواعي بدينهم، كان منبراً حيّاً فاعلاً في الأمّة.. ومع شيوع حالة الضمور في وعي الأمّة، ودخولها في عصور الظلام والتخلّف، فإنّ منبر الجمعة لم يكن إلاّ متأثّراً بتلك الظروف والأحوال. ولهذا فإنّنا نلمس اليوم مع عودة الوعي والصحوة الإسلامية المباركة، كيف عاد منبر الجمعة، منبراً فاعلاً، ينتظر الناس من خطيبه، أنْ يكون بمستوى من الوعي، والطرح، يتناسب وهموم الناس، وآمالهم وآلامهم على حدٍّ سواء.

فوعي الأمّة، ومستوى فهمها، وتفقّهها في دينها، أمور أساسيّة، تؤثّر على مستوى أداء منبر الجمعة.

وهذا ما ينطبق كذلك على المنبر الحسيني ومستوى عطائه، ضمن الدوائر التي ينشط فيها. وكملاحظة واقعيّة، فإنّ المنبر يختلف في زمنٍ واحدٍ، وضمن المرحلة الواحدة بين مكان وآخر ومنطقة وثانية، حسب مستوى الوعي، والأرضية الثقافيّة والتعليميّة.

فالمنبر الحسيني اليوم، لا يختص بأداء واحد، في كل الأقاليم والمناطق. فهو في العواصم، أو مهاجر المسلمين في العالم الغربي، حيث المستوى الثقافي المرتفع، غير المنبر، في المناطق الريفيّة أو ذات الحظ الثقافي المتواضع(1) .

____________________

(1) ستتضح هذه النقطة أكثر في الفصل الرابع حيث نتحدّث عن أوصاف الخطيب الحسيني، وخاصة فيما يتعلّق بالمستوى الثقافي، والتعليمي له.

١٦٢

فإذا كان المنبر يختلف في أدائه، وهو في فترة زمنية واحدة من مكان إلى آخر، فكيف لا يختلف ولا يتميّز، من جيل إلى آخر، ومن قرن إلى آخر؟!

ولهذا فإنّي أذهب إلى ضرورة أخذ عامل الوعي والمستوى الفكري والثقافي، كعامل مهم من عوامل تطوّر المنبر الحسيني. ولا شك أنّ الأحداث المهمّة والمفاصل الأساسية في حياة الأمّة وتاريخها، هي من مسببات زيادة الوعي، وتفتّح الأذهان، وارتفاع مستوى التفكير. وقد كانت بعض مراحل الآراء الثلاثة أعلاه، قد تأثّرت بمثل تلك الأحداث في بداياتها. مع التأكيد على أنّه لا يوجد حد فاصل وواضح، يمكن أنْ نفصل فيه دوراً عن دور آخر، كما الوضوح والدقّة مثلاُ، في نهاية الدولة الأمويّة وبداية الفترة العبّاسية حيث يمكن أنْ تحدّد باليوم، في بداية حكم ونهاية آخر.

نقول هذا، مع عدم إغفال خصوصيّة المنبر الحسيني، وطبيعة تأثّره بالأوضاع، بما يتلاءم مع مهمّاته، التي تختزن الجوانب المُحزنة وذات التأثير العاطفي، بشكل بارز.

الرأي المختار:

ولهذا فإنّ المراحل التي مرّ بها المنبر الحسيني، كما أراها هي أربع، وكما سبق ذكره، فإنّ الآراء لم تختلف لا في تحديد المرحلة الأولى (في عهد الأئمّة من أهل البيت، بعد الإمام الحسينعليهم‌السلام )، ولا في المرحلة الأخيرة، وهي منذ بداية العصر الحديث، وعصر الاستعمار، إلى الوقت الحاضر.

وأحب أنْ أضيف كذلك، أنّ المنبر الحسيني، أصيب بما أصيب به عموم وضع المسلمين، في عصور التخلّف والركود، وذلك قبل

١٦٣

العصر الحديث، حيث ضعف المسلمون، وتشتّت كلمتهم.

وعلى ضوء ذلك، لابدّ أنْ نتوقّف عند هذه المراحل، بشيء من التوضيح والبيان.

1 - المرحلة الأولى:

وهي المرحلة التي تبدأ بعد واقعة عاشوراء سنة 61 هـ، إلى حين قيام الدول الشيعيّة، ولا سيما البويهيين في بغداد ومجيء سنة 352 هجرية.

وتحديدي لهذه المرحلة، على أساس، أنّ أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام عملوا على أنّ تستمر المآتم، على الإمام الحسينعليه‌السلام ، بشكل مقصود وهادف، لا أنْ تنتهي مع ضمور التعاطف المأساوي مع الواقعة، الذي شهدته الكوفة والشام والمدينة. حيث أفلح الأئمّة في تركيز هذه المسالة، في وجدان الإنسان الشيعي، عبر الحثّ المستمر، وبيان ثواب البكاء على الحسين، وقول الشعر الرثائي فيه، والدعوة إلى حضور المآتم والمجالس، التي يرثى فيها الحسينعليه‌السلام .

وقد سجّلنا بعض تلك التوجيهات، التي صدرت عن أئمّة أهل البيت لشيعتهم في هذا الشأن حينما تحدّثنا عن المنبر الحسيني، ونشوئه والآراء في ذلك، وأدلّة كل رأي، في الفصل السابق وفي الرأي الرابع من تلك المسألة (الفصل الثاني ص59 - 64)، واستمر الوضع بالاتساع، حتى صار قبر الحسين في كربلاء، محجّاً لزوّاره، وكان رثاء الحسينعليه‌السلام ، والبكاء والإنشاد الحزين، أمور ملازمة للزيارة. ولم يكن كل الأئمّة على وتيرة واحدة، من حيث الظروف التي تعينهم، على إقامة المآتم واستقبال الشعراء والمنشدين.

فالحالة التقليديّة هي حالة التشنّج مع خلفاء بني أمية وبني العبّاس، إلاّ في فترات خاصة حيث هدأت الأوضاع السياسية، ممّا مكّن الأئمة من أهل البيت وشيعتهم من

١٦٤

توسيع نطاق المنابر والمآتم الحسينية، بشكل أكثر بروزاً واتساعاً من المستوى العادي والمحدود، في ظل الظروف السياسية الخانقة.

وأفضل تلك الفترات، كانت فترة الإمام الصادقعليه‌السلام (جعفر بن محمد) (83 - 148 هجرية) حيث شهدت انتقال الخلافة من بني أميّة إلى بني العباس، ممّا هيّأ ظروفاً مميزةً انتعش فيها المأتم الحسيني. وقد انعكس ذلك، على وفرة الأحاديث والروايات الواردة، عن هذا الإمام في الحث على إقامة المجالس الحسينية، وعلى زيارة قبر الحسين في كربلاء، بما سجّله التاريخ، عن وفود العديد من الشعراء والمنشدين والراثين، على بيت الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام .

والفترة الثانية، التي شهدت توسّعاً في المآتم الحسينية، كانت فترة إمامة حفيده، الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام (148 - 203 هجرية)، حيث انتعشت المآتم، بشكل واضح، حينما صار الرضا وليّاً لعهد المأمون العباسي(1) . ممّا مكّن العديد من الشعراء وشجّعهم، على قصده وإنشاد الشعر الرثائي بحضرته وقد سجّلت بعض كتب الأدب وتراجم الشعراء، دخول بعض الشعراء على هذين الإمامين،

____________________

(1) لا يذهب الشيعة - حسب ما يرونه - إلى شرعية الخلافة العباسية وما سبقتها من أموية. وأمّا مسألة ولاية عهد الإمام علي بن موسى الرضا للمأمون العباسي، فهم يرون أنّ المأمون هدّد الرضا بقبول ولاية عهده، فلمّا رأى الإمام ذلك، شرط على المأمون أنْ لا يأمر ولا ينهى ولا يعزل ولا يولّي، ولا يتكلّم بين اثنين في حكومة، ولا يغيّر شيئاً ممّا هو قائم على أصله.

وفي مصدر آخر عن الإمام الرضا (ولا أفتي ولا أقضي) (قد علم الله كراهتي لذلك، فلمّا خيّرت بين قبول ذلك وبين القتل اخترتُ القبول على القتل). وعلى كل حال، فإنّ الشيعة يرون أنّ قبول الإمام علي بن موسى الرضا بولاية العهد يعني إضفاء الشرعية على الخلافة العباسية.

بل قد أجمعت الشيعة على أنّ موضوع ولاية العهد كان عملاً سياسياً ومناورة قام بها المأمون لإخماد ثورات العلويين. (الحسني، هاشم معروف: سيرة الأئمّة الاثني عشرة 2 / 383) (القمّي، عباس: الأنوار البهيّة، ص191) (الأمين، محسن: في رحاب أئمّة أهل البيت، 4 / 119) (ابن بابوية، محمد بن علي بن الحسين: عيون أخبار الرضا، 1 / 150) (دخيّل، علي محمد علي، أئمّتنا، 2 / 138).

١٦٥

كما بيّن شيء من ذلك في الفصل الثاني من هذا البحث.

وفي الفترة الأولى، أيام الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام ، استخدم مصطلح (منشد) لأوّل مرّة في تاريخ المأتم الحسيني. ولعلّ أوّل من لقّب به، في هذا الحقل كان أبو عمارة المنشد(1) ، كما وبرز آخرون كمنشدين، وإنْ لم يلقّبوا بهذا اللقب، مثل أبو هارون(2) المكفوف، وجعفر بن عفان الطائي(3) .

نجد من ناحية ثانية في رواية متقدّمة عن الإمام جعفر بن محمدعليه‌السلام ، حينما يسأل رجلاً من أهل الكوفة، عن الحالة التي وصفت له، عند قبر الحسين: (بلغني أنّ قوماً يأتونه، (قبر الحسين عليه السلام) من نواحي الكوفة، وناساً من غيرها ونساءً يندبنه، وذلك في النصف من شعبان، فمن بين قاري يقرأ، وقاصٍ يقصّ، ونادبٍ يندب، وقائل يقول المراثي...)(4) .

فقد وردت الإشارة لأول مرّة إلى وجود (قصّاصين) يقصّون على الناس، ما جرى على الإمام الحسينعليه‌السلام وعياله بعده.

ويعتبر ذلك (تطوّراً شكليّاً آخر طرأ على ممارسة المأتم الحسيني، وذلك بأنْ غدا ثمّة رجال ونساء، متخصّصون في تلاوة

____________________

(1) أبو عمارة المنشد، ولد في المدينة عرف برثائه للإمام الحسين، من أعلام القرن الثاني الهجري. (الكرباسي، محمّد صادق: معجم خطباء المنبر الحسيني ص318).

(2) هو موسى بن عمير الكوفي، من أصحاب الإمامين محمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق (ت: عام 148م) كان يدخل على الإمام الصادق ويرثي الإمام الحسين عنده، بقصائد الشاعر السيد الحميري. (الكرباسي، محمد صادق، معجم خطباء المنبر الحسيني، ص42).

(3) جعفر ابن عفان الكوفي الطائي، من الشعراء الشيعة توفي في حدود 150 هـ عرف بإنشاده الشعر في أهل البيت وربّما ذكرته بعض المصادر بـ جعفر بن عثمان وهو تصحيف. (الكرباسي، محمد صادق: معجم خطباء المنبر الحسيني، ص42).

(4) ابن قولويه، جعفر بن محمد: كامل الزيارات ص539.

١٦٦

سيرة الحسين، وآخرون متخصّصون، في إنشاد الشعر المقول في رثائه، بأسلوب النوح. فبعد أنْ كانت السيرة حواراً بين مجتمعين غدت نصّاً، يتلى ويستمع إليه الآخرون. والذين يتولّون التلاوة، هم القصّاص)(1) .

والقصّاصون لم يوجدوا في هذا العصر، بل سبقوه (ولم يكن القصّاص، زمن النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا في زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، لاجتماع كلمة المسلمين، ولقرب العهد من الرسالة، وإنّما أحدثت القصص زمن معاوية، حيث كانت الفتنة بين الصحابة رضي الله عنهم، وكانت مقصورة على الموعظة الحسنة والتذكير وما إلى ذلك..)(2) .

والقصّاصّون أو القصاص (هم الذين يقصّون على الناس، ويكون من علمهم التفسير والأثر والخبر عن الأمم البائدة وغيرهم، ينقلون ذلك تعليماً وموعظةً،.. ثمّ صار القصص، ممّا يلقى في مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأول من لزم ذلك؛ مسلم بن جندب الهذلي)(3) .

ويورد الجاحظ(4) في بيانه، عدداً من أسماء من عرفوا كقصّاص(5) .

فالقصّاصون، كانوا موجودين، حتى قبل واقعة كربلاء ولكن (يبدو أنّ المأتم الحسيني، بعدما غدا مؤسّسة نامية، تجتذب مزيداً من الجماهير، قد غدا من جملة اهتمامات القصّاص، أو أنّه قد أوجد

____________________

(1) شمس الدين، محمد مهدي: ثورة الحسين في الوجدان الشعبي، ص258.

(2) الرافعي، مصطفى صادق: تاريخ آداب العرب، ص379.

(3) المصدر نفسه، ص379.

(4) سبقت ترجمته.

(5) الجاحظ، عمرو بن بحر، البيان والتبيين 1 / 195.

١٦٧

قصاصه الخاصّين به)(1) .

إذن فقد برز مصطلحان، أو قل استخدم مصطلحان، فيما يتعلّق بالمنبر الحسيني، أحدهما؛ المنشد (وأحياناً يعبّر عنه بالنائح أيضاً) والثاني؛ هو القاص. حيث يتولّى الأول، إنشاد ما قيل من شعر، في رثاء الإمام الحسين، فيما يتولّى الثاني؛ مسألة سرد قصة وسيرة الإمام الحسينعليه‌السلام ، وحوادث كربلاء، وما بعدها.

وإنّ خطيب المنبر الحسيني اليوم، يقوم بإنشاد أبيات من الشعر الرثائي، إضافة إلى ذكر شيءٍ من قصة كربلاء(2) .

إذن، لقد كانت هاتان الفترتان، في عهدَي الإمامين جعفر ابن محمد الصادق وحفيده بعد ذلك، علي بن موسى الرضاعليهم‌السلام ، أفضل الفترات التي مرّت على المنبر أو المأتم الحسيني، في المرحلة الأولى.

فيما كانت أحرج تلك المرحلة، هي في زمن الإمام علي بن محمد بن علي بن محمد بن جعفر الملقّب بالهاديعليه‌السلام (3) ، والذي كانت إمامته قد شملت فترة حكم المتوكّل العباسي، وإجراءاته العنيفة ضدّ قبر الإمام الحسين وعموم الشيعة.

____________________

(1) شمس الدين، محمد مهدي: ثورة الحسين في الوجدان الشعبي، ص239.

(2) سنفصل ذلك، في الفصل الرابع، من هذه الدراسة إنْ شاء الله في مبحث أوصاف خطيب المنبر الحسيني ومبحث هيكلية المنبر الحسيني.

(3) الإمام علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام ، الهاشمي القرشي العسكري (نسبه إلى عسكر وهي مدينة سامراء)، أبو الحسن، العاشر من أئمّة أهل البيت، ولد في المدينة المنورة عام 212م عاصر الخلفاء العباسيين، من المعتصم حتى المعتمد، استدعاه المتوكّل العباسي مع أهله من المدينة إلى سامراء، حينما كانت عاصمة العباسيين، وله مواقف معه، وبقي في سامراء وتوفّي في سنة 254 هـ وقبره معروف بارز. (الطبرسي: الفضل بن الحسين: تاج المواليد ص105).

١٦٨

وكان المنبر الحسيني، يتّسع ويضيق، تبعاً لتلك الظروف السياسية. وكان يجد الدعم والتأييد، من أئمّة أهل البيت في هذه المرحلة. وقد تبيّن لنا في الفصل السابق، من هذا البحث، مدى الارتباط الواضح بين المنبر الحسيني، والأوضاع السياسية المحيطة به.

2 - المرحلة الثانية: 334 - 567 هجرية

وهي الفترة التي تلت، ما عرف عند الشيعة، بالغيبة الصغرى، لآخر إمام من أئمّة أهل البيت، محمد بن الحسن المهديعليه‌السلام ، حيث طرأت أحداث مهمّة، أسهمت إلى حد كبير في توسيع دائرة المنبر الحسيني وإبرازه بصورة علنية وجليّة في العديد من البلاد الإسلامية آنذاك. ممّا أدخل المنبر الحسيني في مرحلة جديدة، حينما ظهرت الدول الشيعية، حيث سيطر آل بويه على مقاليد الأمور في بغداد سنة 334 هجرية، والفاطميّون على القاهرة سنة 362 هجرية، فيما سيطر الحمدانيّون على حَلَب وأماكن أخرى، سنة 333 هجرية.

إنّ بروز هذه الدول الشيعية الثلاث، وفي فترة زمنية تكاد تكون واحدة، قد شكل دفعاً كبيراً للمأتم، أو المنبر الحسيني، وقد مرّ بنا في الفصل الثاني من هذا البحث، كيف عمّت المآتم وانتشرت النياحات، في بغداد والقاهرة، أيام البويهيين، والفاطميين.

لقد أسهم في دعم مؤسّسة المنبر الحسيني، أيام هذه الدول، الانتماء المذهبي لملوكها وسلاطينها من جهة، وتلك الجدلية، التي عاشها الإنسان الشيعي، في مسألة المأتم الحسيني، طوال الحكمين الأموي والعباسي. حيث كان التضييق والاضطهاد، سمة تكاد تكون عامّة، في تعامل الخلافتين السابقتين، مع ظاهرة المآتم، التي كانت تقام أيام عاشوراء، أو مع ظاهرة زيارة قبور شهداء كربلاء، من جهة أخرى.

١٦٩

فكأنّ الإنسان الشيعي، قد وجد في دوله هذه متنفّساً وفرصةً، كان ينتظرها طويلاً لترجمة ما كان يعتقده من الولاء لأهل البيت. كما أنّ الدول الشيعية، من جهتها أرادت أنْ تبرهن للشيعة، صدقها في ولائها، عبر تشجيعها للمآتم والنياحات(1) .

ولقد تحوّل المنبر الحسيني، والمآتم التي كانت تقام في عاشوراء، تحوّل كل ذلك، إلى جوٍّ نفسي يجتذب الإنسان الشيعي، ينفّس فيه من كُربَهِ وآلامه، ويجد في إصراره على إقامة هذه المآتم نوعاً من التحدّي، يواجه به الحاكم الذي يضطهده. وهذا الشعور ما يزال إلى الآن، ولاسيما في تلك الأماكن التي لا يزال فيه المنبر الحسيني ومريدوه مضطهدين.

إذن فقد كان بروز تلك الدول الشيعية، قد هيّأ لفترة ازدهار كبيرة وواسعة، للمنبر الحسيني، والمآتم مع امتداد حكم تلك الدول.

____________________

(1) إنّ علماء الشيعة لا يرون في هذه الدول الشيعية الأطروحة المطلوبة، ولا يعتقدون إنّها كانت تمثّل الدولة الشرعية التي تطبّق أحكام الله تعالى في كل شؤونها، فهي دول ضمن ما كان قائماً من دولٍ في تلك الفترة الزمنية، نعم هي دول كانت تتميّز بالتعاطف والاندكاك مع مدرسة أهل البيت بأنحاء متفاوتة وقد وجدت جماهير الشيعة فيها متنفّساً، فراحت تبرز بعض طقوسها وممارساتها المذهبية بشكل واضح، وأنقل هنا نصّاً لأحد العلماء الشيعة حول البويهيّين فقد ورد في كلمة للشيخ محمد مهدي شمس الدين، قالها أيام عاشوراء وهو ينتقد مذهبة ذكرى استشهاد الإمام الحسين، فيقول: (على مدى التاريخ المتأخّر في الإسلام، من العصر البويهي، ولدواع طائفية محضة، أعطيت هذه الذكرى، مضموناً شيعياً، وكان تزويراً حقيراً وإجرامياً في حق هذه الذكرى، وتزويراً للتاريخ واستغلالاً، على أننا نكنّ احتراماً للبويهيين، ولكنهم زوّروا التاريخ، وسرقوا الذكرى، وأعطوها مفهومها الطائفي، على حساب جوانبها الإسلامية) (شمس الدين، محمد مهدي: عاشوراء، ص7).

نعم (راجَ مذهب الشيعة في عصرهم واستنشق رجاله نسيم الحريّة بعدان تحمّلوا الظلم والاضطهاد طيلة الحكم العبّاسي...) (السبحاني، جعفر: الشيعة في موكب التاريخ، ص98).

١٧٠

فقد (تشجّع الشيعة بمصر، وتظاهروا بشعائرهم... واشتكى المتردّدون على المسجد العتيق، بأنّ امرأة عجوزاً عمياء، تنشد بباب المسجد قصائد في رثاء الحسين والثناء عليه)(1) .

وعلى هذا الأساس؛ فإنّ زوال ونهاية دول الشيعة هذه - من طرف آخر - لا شك أنّه قد أثّر سلباً، على فترة الازدهار تلك. وإنْ كانت تلك المناطق تختلف فيما بينها، في مسألة امتداد ظاهرة النياحة وإقامة المآتم. إذ استمر أهل بغداد في إقامتها، حتى مع زوال حكم البويهيين سنة 447 هجرية. فيما لم ينقل التاريخ شيئاً من ذلك عن القاهرة، بعد انهيار الحكم الفاطمي سنة 567 هجرية. ويبدو أنّ الأيّوبيّين، الذين حكموا مصر بعد ذلك، واجهوا تلك المآتم والتجمّعات، التي كانت مألوفة في القاهرة، حتى في أيام الإخشيد وكافور، واجهوا تلك المظاهر بشدّة، بحيث إنّها انتهت إمّا بشكل سريع، وإمّا بعد أمدٍ ليس بالبعيد.

أمّا الحمدانيون، فلم يستمروا طويلاً في حلَب وأطرافها (333 - 394 هجرية)، ويبدو أنّ حظّ حلب، كان كالقاهرة، في مسألة المأتم الحسيني، بعد غياب الفاطميّين والحمدانيين عنها، أو بمستوىً قريبٍ منه. حيث لا تزال المآتم الحسينية، موجودة في قرىً شيعية في أطراف مدينة حلَب الحاليّة. فيما لا يوجد أثر لهذه المآتم في القاهرة اليوم(2) .

3 - المرحلة الثالثة: 567 - 1300 هجرية

بعد أنْ شهد المنبر الحسيني، عصراً مزدهراً، في عهود الدول

____________________

(1) جلال، إبراهيم: المعز لدين الله.

(2) يمكن مراجعة المزيد من موضوع التشيع في حلب في كتاب (حلب والتشيّع) للشيخ إبراهيم نصر الله، مؤسّسة الوفاء بيروت.

١٧١

الشيعية الثلاث السابقة، صار بعد ذلك إلى مستويات بروز مختلفة. كان أفضلها وأكثرها دواماً، في العراق، كما ذكرنا.

حيث يبدو؛ أنّ المنبر الحسيني عاد إلى مستواه الذي كان عليه في بغداد، قبل البويهيّين. ولكن مع امتداد أكبر. وأحسب، أنّ وجود قبور أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في العراق(1) ، وخاصّة قبر الإمام الحسينعليه‌السلام ، حيث كربلاء وساحتها، قد أسهم إلى حدٍ كبير، في بقاء مؤسّسة المأتم الحسيني وثباتها، رغم الظروف والمتغيّرات الكبيرة التي مرّت على العراق.

إضافة إلى عوامل أخرى، لعلّ من أبرزها تمركز الدراسات الدينية الشيعية (الحوزات العلمية) بين بغداد والنجف والحلّة وكربلاء، أي بقاؤها في العراق.

ولهذا فلا يمكن أنْ نؤرّخ لهذا الفترة، بتاريخ محدّد؛ لأنّ وضع المنبر الحسيني يختلف، من منطقة إلى أخرى، حسب امتداده واستمراره، بعد انتهاء فترة الدول الشيعية.

ولكن يمكن لنا أنْ نقول، بأنّ المنبر الحسيني عاد إلى الوضع الذي كان عليه، قبل هذه الدول، مع زيادة ملحوظة في الممارسات، لما تراكم في الذهنية الشيعية طوال تلك المدّة الممتدّة، مع الدول الشيعية، واتساع المآتم في أيامها.

____________________

(1) يوجد في العراق، قبور ستة من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، وهم 1 - الإمام علي بن أبي طالب (الإمام الأول) في النجف الأشرف 165 كلم جنوب غرب العراق. 2 - قبر الإمام الحسين بن علي (الإمام الثالث) في كربلاء 100 كلم جنوب غرب بغداد حيث الواقعة وأحداث عاشوراء. 3 - قبر الإمام موسى بن جعفر الكاظم (الإمام السابع). و4 - قبر الإمام محمد بن علي الجواد (التاسع) في الكاظمية، ضاحية بغداد الشمالية. 5 - قبر الإمام علي بن محمد الهادي (العاشر). و6 - قبر الإمام الحسين بن علي العسكري (الحادي عشر) في سامراء 120 كلم شمال بغداد. إضافة إلى عشرات القبور، المنسوبة إلى أبناء الأئمة الذين كانوا يهربون إلى الكوفة وأطرافها، أيام العباسيّين، وللتوسع يمكن مراجعة: (أبو الفرج الأصفهاني: مقاتل الطالبين) وكذلك (الشيخ محمد حرز الدين: مراقد المعارف).

١٧٢

وقد تستثنى من ذلك القاهرة، التي عرفت النوح على الحسينعليه‌السلام قبل الفاطميّين، ولكن المظاهر العزائية اختفت مع مجيء الأيّوبيّين.

وعاد المنبر الحسيني، ليكون مجرّد استذكار لأيام عاشوراء بشكل سلبي، حيث اعتبر أمثل حالة، يلتجئ إليها الإنسان الشيعي ليخفّف من معاناته، وينفّس عن شعوره بالألم. ولهذا طغت حالات التزهيد في الدنيا، حتى صار البكاء، غاية ما يأمله قاصد تلك المنابر، في هذه المرحلة.

ويمكن لنا أنْ نستشهد بفقرات، من الكتب التي أُلّفت في تلك الفترة، حيث جاءت حاكية، لما كان المنبر الحسيني آنذاك.

فقد ورد في كتاب(اللهوف في قتلى الطفوف) لمؤلّفه علي ابن موسى بن جعفر بن طاووس الحسيني (المتوفّي سنة 664)، والذي كان عبارة، عن كتاب مقتل الحسينعليه‌السلام ، وسيرته قبل كربلاء، ثمّ حالة القتال يوم عاشوراء، ثمّ ذكر الحوادث بعد مقتله. ولكنّنا سنوظف نصّاً، من مقدمة هذا الكتاب، يعيننا على تلمّس وضع المنبر الحسيني في تلك الفترة، حيث يذكر ابن طاووس في مقدمة كتابه (فيا ليت لفاطمة وأبيها، عيناً تنظر إلى بناتها وبنيها، ما بين مسلوب وجريح، ومسحوب وذبيح، وبنات مشققات الجيوب، ومفجوعات بفقد المحبوب، وناشرات الشعور، وبارزات من الخدور(1) ، ولاطمات للخدود، وعادمات للجدود(2) ومبديات للنياحة والعويل، وفاقدات للمحامي والكفيل.

فيا أهل البصائر من الأنام؛ ويا ذوي النواظر والأفهام؛ حدثوا أنفسكم بمصارع تلك العترة(3) ، ونوحوا بالله لتلك الوحدة والكثرة،

____________________

(1) الخدور: جمع خدر، وهو ستر يمدّ للجارية، من طرف البيت.

(2) الجدود: جمع، مفردة جدّ، وهو هنا الحظّ.

(3) العترة، ولد الرجل وذريته، من العَتَر، وهو الأصل والمقصود هنا، عترة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٧٣

وساعدوهم بموالاة الوجد والعبرة(1) ، وتأسّفوا على فوات تلك النصّرة، فإنّ نفوس هؤلاء الأقوام ودائع سلطان الأنام، وثمرة فؤاد الرسول، وقرّة عين البتول، ومَن كان يرشف(2) بفمه الشريف ثناياهم(3) ، ويفضل على أمّه أمهم وأباهم)(4) .

فالنصّ أعلاه يكاد يحصر مسألة الإمام الحسينعليه‌السلام ، وهو يقدّم لكتاب في مقتله، في ضرورة البكاء والنحيب، على تلك المصائب. دون أن يدعوا مثلاً، إلى أخذ الدروس والعبر من موقف الإمام الحسين، أو التزوّد من واقعة كربلاء، بما يعين على حياة حرّة كريمة. وهذا الكتاب، وإنْ لم يكن في الأساس، كتاباً يُتلى كمجالس حسينية في المآتم، إلاّ أنّه يوضّح مستوى التعامل، مع أحداث كربلاء، في ذلك العصر.

كما إنّ أسلوب السجع، وترتيب الكلمات، سمة أخرى واضحة فيه.

ونأخذ نصّاً آخر، ومن كتاب آخر، جاء في أخريات هذه المرحلة. وهو كتاب صيغ على شكل مجالس تتلى في المآتم، وهو كتاب (المنتخب) لمؤلّفه الشيخ فخر الدين الطريحي (المتوفّي سنة 1085 هجرية) وقد قلنا في هذا الفصل، أنّ هذا الكتاب، لا يزال يُتلى في بعض مآتم منطقة الخليج، ممّا يعني أنّه بقي طوال المرحلة، وفي قسمها الأخير بالتحديد، من الكتب المعتمدة عند خطباء المنبر الحسيني. وهو في غاية الأهمية، بالنسبة إلى دراستنا هذه، ولم يصل إلينا كتاب، صيغ على شكل مجالس حسينية، تُقرأ في المآتم، إلاّ هذا الكتاب، والبقية كانت كتب مقاتل، كما بيّن سابقاً.

____________________

(1) العبرة: هي الدمعة، أو الحزن بلا بكاء.

(2) يرتشف: من رشف أي مصّ، يقال رشف الماء إذا مصّه بشفتيه.

(3) الثنايا: هي أسنان مقدم الفم.

(4) ابن طاووس، ع لي بن موسى: اللهوف في قتلى الطفوف، ص7.

١٧٤

يقول هذا النصّ:

(أيّها الأخوان! كيف تخفى زفرات الأحزان؟ أم كيف تطفى لهبات الأشجان؟ أتراكم تعلمون ما جرى على سادات الزمان، في تلك الأماكن والأوطان؟ قسَماً بالبيت العتيق، لو فكّر المؤمن فيما أصابهم من المِحَن، لغدى روحه أنْ تخرج من البدَن! كيف لا وهم أنوار الله في أرضه وسمائه، وأصفياء الله وأبنا أصفيائه، اجتروا عليهم فقطعوا منهم الأوصال، وجدّلوهم على الرمال، وجرّعوهم كؤوس الحتوف، بأرض الطفوف)(1) . (الزفرات: جمع زَفْرة: وهي النَفَس الحارّ. لهبات بالجمع لَهَبة وهي اللسان من النار بدون دخان، والأشجان؛ جمع شجَن، وهو الحزن، اجترأ: أقدم، الأوصال: جمع وُصل أو وِصل: وهو كل عضوّ على حدة. جدّله: رماه، الحتوف: جمع حتف وهو الموت).

وهذا النصّ كسابقه، يحكي طبيعة ما يقال في المآتم الحسينية، في هذه المرحلة، من التركيز على جانب الحزن، واستخدام لغة السجع، وتنسيق الألفاظ. ثمّ حدث تطوّر مهم في هذه المرحلة، كان له - ولا شكّ - أثرٌ واضح وجلي على تعميق جذور المنبر الحسني واتساعه، وبالأخص في العراق. إنّ هذا التطوّر، قد تمثّل ببروز الدولة الصفوية(2) في إيران، وامتداد نفوذها ليشمل العراق، ولاسيما المدن المقدّسة فيه. حيث دخل الشاه إسماعيل الصفوي(3) بغداد، سنة

____________________

(1) الطريحي، فخر الدين: المنتخب ص177.

(2) الصفويون: سلالة فارسية، اتخذت قزوين منطلقاً لها. تُنسب إلى الإمام موسى بن جعفر الكاظم وهو السابع من أئمّة أهل البيت، بدأوا كأصحاب طريقة صوفيّة وانتهوا إلى دولة، حتى سيطروا على معظم إيران وأفغانستان والعراق. وكانت عاصمتهم أصفهان في إيران، حكموا من (1502 - 1736م) (معلوف، لويس: المنجد، 2 / 424).

(3) الشاه إسماعيل بن حيدر بن جنبل بن صفي الدين، ينتهي نسبه إلى الإمام موسى بن جعفر =

١٧٥

914 هـ. (وفي اليوم الثاني بلا فصل توجّه إلى كربلاء، وأدّى مراسم الزيارة، وبات ليلته معتكفاً في الحائر)(1) .

لقد لقي المنبر الحسيني، رعاية خاصّة، من قبل الصفويّين، حينما كانت الدائرة لهم. وكان الصفويون حريصين على ضمّ بغداد، ومعها ضاحيتها الشمالية (الكاظمية). ومدينتَي كربلاء والنجف. إضافة إلى الطرق الموصلة إليها.

ولقد هيّأ هذا الحدث أجواءً سياسية وأمنية واقتصادية، مشجّعة لتطوير، واتساع المنبر الحسيني.

فـ (عندما تولّى السلطة على العراق، الملوك الصفويون، أو غيرهم من الإيرانيين، كان الإقبال على إقامة هذه المآتم والنياحات عظيماً. وكانت حرّية الشيعة في إحياء هذه الذكرى الأليمة مضمونة. وقد غالى الشيعة في إقامتها)(2) .

فقام الشاه إسماعيل (بتنظيم الاحتفال بذكرى مقتل الحسين..)(3) .

لقد أولى الصفويون، اهتماماً كبيراً بالمنبر الحسيني، وبقية مراسم العزاء، باعتبارها من أنجح الطرق الشعبية العاطفية في نشر التشيع، الذي تبنّاه الصفويون، وعملوا على نشره في البلاد الإيرانية.

فـ (الوضع كان قد تغيّر، عند مجيء الصفويين، إلى الحكم في

____________________

= الكاظم (ت: 183 هـ) أول ملوك الصفوية، ومؤسّس دولتهم، برز موحّداً للقبائل الفارسية ثمّ بدأ معاركه وفتوحاته ليدخل بغداد عام 914 هـ توفّي سنة 930 هـ. (معلوف، لويس: المنجد 2 /).

(1) مغنية، محمد جواد: دول الشيعة في التاريخ، ص122.

(2) صالح، الشهرستاني: تاريخ النياحة، 2 / 32.

(3) الوردي، علي: لَمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، 1 / 59.

١٧٦

إيران، في بداية القرن السادس عشر الميلادي، وإعلانهم المذهب الشيعي، مذهباً رسمياً للبلاد، واستخدامهم مراسيم العزاء الحسيني، سياسياً ودعائياً لنشر التشيع وبسط نفوذهم، في جميع أنحاء إيران. وممّا ساعد على نشر العزاء الحسيني، وتطويره، أنّ الصفويين، كانوا قد شجّعوا ممارسة الشعائر والطقوس الدينية، ومراسيم العزاء الحسيني، وزيارة العتبات المقدّسة في العراق، لنشر التشيع في إيران)(1) .

وقد بذل الصفويون أموالاً طائلة على عمارة مراقد الأئمّة، في العراق، ورعاية العلويين الساكنين هناك.

وأعتقد - من ناحية أخرى - إنّ فترة الحكم الصفوي في العراق، قد مكّنت مؤسّسة المنبر الحسيني، من الاستثمار والديمومة. فلو تمكّنت القاهرة كبغداد، من أنْ تعيش تجربة حكم شيعي آخر، بعد الفاطميّين، فإنّه من غير المستبعد أنْ نرى اليوم في القاهرة، وجوداً للمنبر الحسيني، استمراراً لما كانت عليه مصر، أيام الفاطميّين.

لقد حكم الصفويون بغداد ومدن عراقية أخرى، لاسيما المقدّسة منها من فترة (914 - 1114 هجرية) وهي تقع ضمن هذه المرحلة، أي المرحلة الثالثة، من المراحل التي مرّ بها المنبر، أو المأتم الحسيني.

ومن الغريب أنّ الآراء الثلاثة، التي ذُكرت آنفاً، في مسألة أدوار ومراحل المنبر الحسيني، قد أهمَلت هذا التطوّر المهم، على صعيد المنبر الحسيني، ولا سيّما في العراق(2) .

____________________

(1) الحيدي، د. إبراهيم: تراجيديا كربلاء، ص60 - 61.

(2) للدولة الصفوية تأثير بالغ على المسيرة المذهبية في إيران، وقد استثمر الصفويون المأتم الحسيني كأداة من أفضل السُبل التي انتهجوها في التبليغ المذهبي. ومسيرة المنبر الحسيني في إيران أو في البلاد الهندية، يحتاج إلى بحث مستقل، لأنّنا ركّزنا الحديث في =

١٧٧

فلم يذكر الشيخ محمد مهدي شمس الدين أي إشارة إلى الدولة الصفويّة، كذلك فعل صاحباً الرأيين الثاني والثالث.

إنّ هذا المرحلة الثالثة قد انتهت مع نهاية فترة الركود والتخلّف، التي مرّ بها العالم الإسلامي عموماً، حتى جاءت بشائر الصحوة الحديثة، بعدما تلقت الأمّة الإسلامية ضرباتٍ قاسية من المستعمر الكافر، وتعرّضت إلى تحدّيات مصيريّة ممّا حدا المستعمر الكافر، وتعرّضت إلى تحدّيثات مصيريّة ممّا حدا بالمخلصين، والواعين من العلماء وروّاد الإصلاح إلى العمل الجاد، لإعادة الحياة إلى هذه الأمّة.

وبهذا بدأ عصر جديد، من الوعي والثقافة والانفتاح البصير، على مفاهيم الإسلام، وقيمه وبمبادئه. في أجواء من التحدّي الواضح للأمّة وعقيدتها.

وبهذا نصل إلى المرحلة الرابعة من هذا التقسيم.

4 - المرحلة الرابعة

وهي المرحلة التي تبدأ مع بدايات القرن العشرين الميلادي، وإلى عصرنا الحالي.

إذ عملت أحداث عالمية، وتغيرات كبيرة في الحرب العالمية، وحركة الاستعمار، والتقدّم التقني المبهر، ووصول تيارات فكريّة إلحادية، وغير الحادية، تتحدّى الإسلام وأهله. هذه الأمور وغيرها أسهمت في إيقاظ المسلمين وتنبيههم على الأخطار المحيطة بهم، فبرزت حركات الإصلاح وشارك العلماء والمثقّفون المصلحون، في

____________________

= هذا البحث، على تطوّر المنبر الحسيني، والأدوار التي مرّ بها من مهده الأول في البلاد العربية، خاصة المدينة المنورة، والكوفة، وامتداده إلى بغداد والقاهرة.

١٧٨

خضم معترك فكري، وتيارات شرقية وغربية.

وحينما عمّ الوعي أغلب المرافق الثقافية والدينية للمسلين، شمل ذلك بصورة جلية وواضحة، المنبر الحسيني؛ لأنّ خطيب المنبر الحسيني عند المسلمين الشيعة، في تماس مباشر مع الناس، فلكي يؤدّي دوره كمبلّغ إسلامي من جهة، وحتى يكون منبره نافعاً(1) ، وجاذباً للجمهور من جهة أخرى، كان على الخطيب الحسيني، أنْ يكون مواكباً للتطوّرات الفكرية والحياتية، التي يعشها الناس، ويشعرون بأهمية الحديث عنها، وتسليط الأضواء عليها.

لقد حدث تطوّر نوعي واضح للمنبر الحسيني في هذه المرحلة، حيث توسّع أفقه بشكل جليّ. فالمنبر الحسيني الذي كان لا يتجاوز سرد قصة كربلاء، وأحداثها الحزينة، مع حفظ القصائد والأشعار الرثائية، (باللغة الفصحى واللهجة الشعبية الدارجة)، وبعض موضوعات التزهيد السلبي، في الدنيا ومتعها، أو مناقشة قضية تاريخية محدّدة، وإذا بهذا المنبر يقفز قفزات نوعية كبيرة، حيث راح شيوخ المنبر الحسيني، من الخطباء المبدعين يخوضون في مواضيع: فكرية، وأخلاقية، وأدبية، متنوعة، وعميقة. وراح الخطباء، ولاسيما الرساليين منهم. يناقشون الأفكار الوافدة، ويحاكمونها، كالمراكسية والرأسمالية، ويردّون شبهات أثيرت حول الإسلام، وأحكامه. كموضوعات حقوق المرأة في الإسلام، والرق، ونظام الأسرة، وعلاقة الدين بالعلم، وأهمية الإسلام كنظام سياسي أو اقتصادي...

وستتوضّح لدينا الصورة بشكل أفضل، إنْ شاء الله في الفصلين

____________________

(1) مصطلح يطلق على الخطيب، حيث يقال عن فلان: إنّ منبره نافعٌ، أي أنّ الموضوع الذي يتناوله على المنبر هو موضوع نافع، ولا يقتصر في منبره على الجوانب العافية والحزينة في أحداث كربلاء.

١٧٩

القادمين، حينما نتحدّث عن أوصاف خطيب المنبر الحسيني، ومنها الثقافية والمعلوماتيّة العامة، وحينما نبحث المدارس الخطابية في عصرنا.

وكلّما كان خطيب المنبر الحسيني، أكثر إحاطة بالجوانب الثقافيّة والتربوية والفكرية، كان الطلب عليه من قبل الهيئات المشرفة، على إقامة المآتم الحسينية، أكثر إلحاحاً(1) .

ولهذا فإنّ من الحقائق المعروفة الآن، أنّه (قد غدت، هذه الدراسات الإسلامية والقرآنية، في بلاد كثيرة، ولدى مساحات واسعة، من الرأي العام مقياساً تعتمد عليه الجماهير، في الإقبال على المأتم الحسيني، أو انكفائها عنه، كما أنّ هذا المقياس، يعتمد، في اختيار الخطيب الحسيني، المجوّد في هذا الشأن)(2) .

لقد شهدت هذه المرحلة تطوّراً في المنبر الحسيني، على صعيد المضمون، كما ذكرنا في نوعية الموضوعات، والأبحاث التي يتعرّض لها خطيب المنبر الحسيني. وكذلك على صعيد الشكل الفنّي - إنّ صحّ التعبير - وأقصد به، أنّ خطيب المنبر الحسيني في العصر الحديث، راح يطعّم أبحاثه بالعديد من الشواهد الأدبية، والتاريخية وأرقام علمية، ونتائج، وإحصاءات، ومعلومات حديثة. يدعم بها الموضوع الذي يطرحه، بما يناسبه من أرقام وشواهد. كما أنّ الخطيب، أخذ يسلك طريقة فنية، في السير بالمستمعين، وإدخالهم إلى أجواء كربلاء الحزينة، في نهاية محاضرته، وبانسيابيّة فنّية بحيث لا يشعر المستمع، إلاّ وقد دخل في الأجواء العاطفيّة الحزينة، حينما يجد الخطيب نقطة في بحثه يتخلّص بها من موضوع

____________________

(1) هناك مبحث خاص في الفصل القادم، حول الهيئات التي تشرف على إقامة المآتم الحسينية، ودعوة خطباء المنبر الحسيني إليها.

(2) شمس الدين، محمد مهدي: ثورة الحسين في الوجدان الشعبي، ص299.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

قصّة بعض الفضلاء

ومنها : قصّة تغيّر الأمر الإلهي في قبض روح بعض الفضلاء من أهل السنّة ، كما حكاه الشعراني في (لواقح الأنوار ) بترجمة الشيخ محمد الشريبي ، إذ قال :

( وأخبرني والده الشيخ أحمد ـ أيضاً ـ وصدّقه على ذلك الإمام العالم العلاّمة شهاب الدين البهوني الحنبلي ، قال : مرضت مرّةً حتّى أشرفت على الموت ، وحضرني عزرائيل ، ورأيته جالساً عندي لقبض روحي ، فدخل عليّ والدي ، فقال لعزرائيل : راجع ربّك فإنّ ذلك الأمر تغيَّر ، فخرج عزرائيل وأنا أعيش إلى الآن ، والحكاية لها أكثر من ثلاثين سنة )(١) .

تبدّل حال الرجل

ومنها : تبدّل حال الرّجل من الشقاوة إلى السعادة ، كما ذكر القاضي ثناء الله في (تفسيره ) بعد ذكر مذهب ابن مسعود وعمر ، قال :

( ويوافق مذهب عمر وابن مسعود ( رضي الله عنهما ) ما ذكر في المقامات المجدديّة : أنّ المجدّدرضي‌الله‌عنه نظر ببصيرة الكشف مكتوباً في ناصية ملاّ طاهر اللاّهوري ( شقيّ ) ، وكان ملاّ طاهر معلّماً لابنيه الكريمين محمّد سعيد ومحمّد معصوم ( رضي الله عنهما ) ، فذكر المجدّدرضي‌الله‌عنه ما أبصر لولديه الشريفين ، فالتمسا منه ( رضي الله عنهم ) أن يدعو الله سبحانه أن يمحو عنه الشقاوة ويثبت مكانه السعادة ، فقال المجدّدرضي‌الله‌عنه : نظرت في اللّوح المحفوظ ، فإذا فيه : إنّه قضاءٌ مبرم لا يمكن ردّه ، فألجأه ولداه الكريمان في الدعاء لمّا التمسا منه ، فقال المجدّدرضي‌الله‌عنه : تذكّرت ما قال غوث الثقلين السيّد السند محي الدين عبد القادر الجيليرضي‌الله‌عنه : إنّ القضاء المبرم أيضاً يردّ بدعوتي ، فدعوت الله سبحانه ، وقلت : اللّهمّ رحمتك واسعة وفضلك غير مقتصرٍ على أحد ، أرجوك وأسألك من فضلك العظيم أن تجيب دعوتي في محو كتاب الشقاء من ناصية ملاّ طاهر وإثبات السعادة مكانه ، كما أجبت دعوة السيّد السندرضي‌الله‌عنه قال : فكأنّي أنظر إلى ناصية ملاّ طاهر

ـــــــــــــــــ

(١) لواقح الأنوار ـ ترجمة الشيخ محمّد الشريبي .

٢٢١

إنّه مُحِي منها كلمة ( شقيّ ) وكُتب مكانه ( سعيد ) وما ذلك على الله بعزيز ) .

قصّة أبي رومي

ومنها : قصّة أبي رومي ، التي رووها عن ابن عباس ، كما في (الدر المنثور ) قال :

( أخرج ابن مردويه والديلمي عن ابن عبّاسرضي‌الله‌عنه قال : كان أبو رومي من شرّ أهل زمانه ، وكان لا يدع شيئاً من المحارم إلاّ ارتكبه ، وكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لئن رأيت أبا رومي في بعض أزقّة المدينة لأضربنّ عنقه .

وإنّ بعض أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتاه ضيف له ، فقال لامرأته : اذهبي إلى أبي رومي فخذي لنا منه بدرهم طعاماً حتّى ييسّر الله تعالى فقالت له : إنّك لتبعثني إلى أبي رومي وهو أفسق أهل المدينة ؟!

فقال : اذهبي فليس عليك منه بأس إنْ شاء الله تعالى ، فانطلقت فضربت عليه الباب ، فقال : من هذا ؟

قالت : فلانة

قال : ما كنت لنا بزوّارة ؟!

ففتح لها الباب فأخذها بكلام رفث ، ومدّ يده إليها فأخذتها رعدة شديدة ، فقال : ما شأنك ؟

قالت : إنّ هذا عمل ما عملته قطّ

قال أبو رومي : ثكلت أبا رومي أُمّه ، هذا عمل عَمِله وهو صغير لا تأخذه رعدة ولا يبالي على أبي رومي ، عهد الله إن عاد لشيء من هذا أبداً .

فلمّا أصبح غدا على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : مرحباً يا أبا رومي وأخذ يوسّع له المكان ، وقال له : يا أبا رومي ما عملت البارحة ؟

فقال : ما عسى أن أعمل يا نبيّ الله ، أنا شرّ أهل الأرض ، فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله قد حوّل مكتبك إلى الجنّة فقال :( يَمْحُوا اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ) ) .

٢٢٢

وأخرج يعقوب بن سفيان وأبو نعيم عن ابن عبّاسرضي‌الله‌عنه قال : كان أبو رومي من شرّ أهل زمانه ، وكان لا يدع شيئاً من المحارم إلاّ ارتكبه ، فلمّا أصبح غدا على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا رآه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بعيد قال : مرحباً يا أبا رومي وأخذ يوسّع له المكان ، فقال له : يا أبا رومي ، ما عملت البارحة ؟

قال : ما عسى أن أعمل يا نبيّ الله ، أنا شرّ أهل الأرض

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله جعل مكتبك إلى الجنّة ، فقال :( يَمْحُوا اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمّ الْكِتَابِ ) (١) .

وبعد :

فهل يبقى المعاندون يشنّعون على الإماميّة رواياتهم في البداء وعقيدتهم في هذه الحقيقة الدينيّة ؟

وهل يستمرّون على التبحّج بكلام سليمان ابن جرير الزيدي(٢) وأمثاله من أعداء أهل البيت ؟

ـــــــــــــــــ

(١) الدر المنثور ٤ : ٦٦٣ .

(٢) انظر الملل والنحل ١ : ١٥٩ ـ ١٦٠ .

٢٢٣

الميثـاق والصّـور

رأي السيّد المرتضى في خبر الميثاق

لقد نسب الشيخ عبد العزيز الدهلوي صاحب كتاب (التحفة الإثني عشريّة ) ـ تبعاً لشيخه الكابلي صاحب (الصواقع ) ـ إلى السيّد المرتضى ـ رضي الله عنه ـ الحكم بوضع خبر الميثاق ، وقد أجاب عن ذلك علماؤنا الأعلام في ردودهم على كتاب (التحفة ) بالجملة والتفصيل ، وكان مجمل كلامهم : إنّ السيّد المرتضى لم يكذّب أخبار الميثاق المرويّة بالطرق المختلفة والأسانيد المتكثّرة ، ونحن نذكر أوّلاً كلام (التحفة ) ثمّ نعقّبه بنصّ عبارة السيّد المرتضىرحمه‌الله ؛ ليتّضح واقع الحال ، ويظهر كذب الدهلوي فيما نُسب إلى السيّد من المقال :

قال الدهلوي في (التحفة ) عند تعداد موارد غلوّ الإماميّة في الأئمّة المعصومين عليهم الصلاة والسلام :

( الثاني ـ قولهم : إنّ الله تعالى أخذ من الملائكة والأنبياء الميثاق على ولاية الأئمّة وطاعتهم .

وهذا ـ أيضاً ـ خلاف العقل تماماً ؛ لأنّ أخذ الميثاق من الأنبياء على ذلك ـ مع العلم القطعي بعدم معاصرتهم للأئمّة ـ عبث محض ، إذ الغرض من أخذ الميثاق هو النصرة والإعانة وبيان المناقب ونشر المدائح ، وأيّ فائدةٍ في ذلك مع عدم اتّحاد الزمان

وأمّا أخذ الميثاق منهم على بيان وصف خاتم الأنبياء كما في القرآن المجيد ؛ فلأنّ نصوص نبوّته وصفاته ونعوته نازلة في الكتب السماويّة ومصرَّح بها فيها ، ووجود أهل الكتاب في زمانه وإظهار تلك النصوص على يده مقطوع به ، فلذا أخذ الميثاق من الأنبياء على تفهيم تلك النصوص وتبليغها إلى أُممهم ، وأخذ ذلك الميثاق من الأُمم أيضاً ؛ حتّى تبقى تلك النصوص قرناً بعد قرن ، من دون تغيير وتبديل ، إلى أنْ يأتي وقت الحاجة إلى إظهارها والاحتجاج بها .

٢٢٤

بخلاف إمامة الأئمّة ، فلا هي ممّا نزل في كتب الأنبياء ، ولا هي ممّا أُبلغ به الأُمم ، ولا ممّا وقعت الحاجة إلى إظهاره ؛ لأنّ الإمامة إنّما تثبت بالنصّ من النبي ؛ لكونها نيابةً عنه ، ولم يراجع أهل الكتاب بشأنها ولم يكن لقولهم فيها اعتبار ، ولو كان أخذ الميثاق في هذا الأمر ضروريّاً ، لأُخذ من أبي بكر وعمر وعثمان ، بل كان على النبيّ أنْ يأخذ منهم كتاباً في أنْ ليس لهم حقٌّ في الإمامة ، ويستشهد على ذلك الثقات ، ويودعه عند الأمير ، لا أنْ يأخذ الميثاق من موسى وعيسى وهارون ، الذين ليس لهم ولا لأتباعهم دخلٌ في غصب الإمامة من الأئمّة أو تقريرها والتسليم بها .

ومستمسك هؤلاء في هذا الغلوّ الباطل ، ما رواه محمّد بن الحسن الصفّار ، عن محمّد بن مسلم ، قال : سمعت أبا جعفر يقول : إنّ الله أخذ ميثاق النبيّين بولاية عليّ بن أبي طالب .

وما رواه محمّد بن بابويه في كتاب التوحيد ، عن داود الرّقي ، عن أبي عبد الله في خبرٍ طويل ، قال : ( لمّا أراد الله أن يخلق الخلق نشرهم بين يديه ، وقال : من أنا ؟

فكان أوّل من نطق رسول الله وأمير المؤمنين والأئمّة ـعليهم‌السلام ـ فقالوا : أنت ربّنا

فحمّلهم العلم والدين ثمّ قال للملائكة : هؤلاء حملة علمي وديني وأمانتي من خلقي ، ثمّ قال لبني آدم : أقرّوا لله بالربوبيّة ولهؤلاء النّفر بالطاعة ، فقالوا : نعم ربّنا أقررنا ) .

في هذه الرواية والرواية السابقة لم يذكر أخذ الميثاق من الملائكة ، وإنّما الغرض من الرواية الثانية مجرّد إظهار فضل الأئمّة ، وشرفهم عند الملائكة ، ومن الواضح أنْ لا معنى لأخذ الميثاق من الملائكة ، ولذا لم يدخل الملائكة في أخذ ميثاقٍ من المواثيق ؛ لأنّ الميثاق إنّما يؤخذ من المكلَّفين ؛ لأنّهم الذين يحتمل منهم الطاعة والعصيان ، بخلاف الملائكة فإنّهم :

( لاَ يَعْصُونَ اللّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)

فأيّ فائدةٍ في أخذ الميثاق منهم ؟

وأيضاً ، فلم يذكر في الرواية الأخيرة أخذ الميثاق من الأنبياء ، إلاّ أنْ يستفاد ذلك من عموم لفظ ( بني آدم ) ولكنْ قد أشتهر أنّه : ما من عام إلاّ وقد خصّ منه البعض .

٢٢٥

وأيضاً ، فإنّ هذه الرواية فيها أخذ ميثاق الطاعة للنبيّ والأمير والأئمّة فقط ، فلابدَّ وأنْ يكون وجوب الطاعة للأنبياء أُولي العزم وغيرهم ـ الذي لا شكّ في ثبوته ـ قد وقع بطريق البداء !

والرواية التي تعجب هؤلاء القوم ، تجدها في مجاميع الشيخ ابن بابويه ، فقد روى ابن بابويه في خبرٍ طويل عن ابن عبّاس عن النبي ، أنّه لمّا أُسري به وكلّمه ربّه ، قال بعد كلامٍ : إنّك رسولي إلى خلقي وإنّ عليّاً وليّ المؤمنين ، أخذت ميثاق النبيّين وملائكتي وجميع خلقي بولايته .

وأحوال الصفّار وابن بابويه ورجالهما ـ خصوصاً محمّد بن مسلم وغيره ـ معروفة ، وركّة ألفاظ هذه الأخبار تشهد بكونها كذباً وافتراءً ، ومع هذا ، فإنّ أهل السنّة ـ والحمد لله ـ في غنىً عن توهين وتضعيف هذه الأخبار أو تأويل هذه المفتريات ؛ لأنّ الشريف المرتضى ـ الملقَّب بزعم الشيعة بـ ( علم الهدى ) ـ قد أثبت جدارته بهذا اللقب في كتابه (الدرر والغرر ) بتكذيب خبر الميثاق بكلّ جزمٍ وحتم ، وكفى الله المؤمنين القتال )(١) .

التحقيق فيما نُسب إلى السيّد المرتضى

حاصل هذا الكلام دعوى موافقة السيّد المرتضى العامّةَ في إنكار أخذ الميثاق على ولاية أمير المؤمنينعليه‌السلام من الأنبياء والملائكة ، وهل هذا إلاّ محض البهتان وصريح الإفك وواضح الهذيان ؟

وتوضيح ذلك :

أوّلاً : إنّ السيّد المرتضى لم يذكر في كتابه (الدرر والغرر ) خبر الميثاق أصلاً ، فضلاً عن أن يكذّب أو يصدّق به ، نعم ، قد ذكر السيّد قوله تعالى( وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ مِن بَنِي آدَمَ ) وأنكر أن يكون المراد منها أنّ الله تعالى أخذ من جميع ذريّة آدم الذين في ظهره الميثاق على الإقرار بمعرفته تعالى ، وأنّه أشهدهم على ذلك ، وإنّما ذكر للآية تأويلاً آخر ، وأيّ ربطٍ لذلك بتكذيب أخبار الميثاق ؟!

ــــــــــــــ

(١) التحفة الاثني عشريّة : ١٦١ .

٢٢٦

وثانياً : إنّه على فرض أنّ السيّد ينكر وقوع أخذ الميثاق في عالم الأرواح ، فأين الدليل من كلامه على إنكار أخذ الميثاق على الإطلاق ، كما يدّعيه الدهلوي ؟

وكيف يثبت بذلك تضعيف خبر الصفّار وخبر ابن بابويه ، الدالّين على مطلق أخذ ميثاق ولاية أمير المؤمنينعليه‌السلام ؟

فظهر أنّ نسبة تكذيب أخبار الميثاق على الإطلاق إلى السيّد المرتضى كذب بحت وبهتان صريح ، وهذا كتاب (الغرر والدرر ) موجود بين أيدي الناس ، ونسخه شائعة في البلاد ...

وبعد ، فإنّ العلماء قد اختلفوا في معنى الآية المباركة على قولين ، فذهب الأكثر إلى الأخذ بظاهرها ، وقالوا : بأنّ ذريّة آدم كانوا في عالم الأرواح ذوي عقولٍ ـ كما هم في هذا العالم ـ وقد أخذ منهم الميثاق ، وقال جماعة ـ منهم السيّد المرتضى ـ بتأويل الآية على معنىً آخر ، وهذا نصُّ عبارة السيّد في الكتاب المذكور :

( إنّه تعالى ، لمّا خلقهم وركّبهم تركيباً يدلّ على معرفته ، ويشهد بقدرته ووجوب عبادته ، وأراهم العبر والآيات والدلائل في غيرهم وفي أنفسهم ، كان بمنزلة المشهد لهم على أنفسهم ، وكانوا ـ في مشاهدة ذلك ومعرفته وظهوره فيهم على الوجه الذي أراده الله تعالى وتعذر امتناعهم منه وانفكاكهم من دلالته ـ بمنزلة المقرّ المعترف ، وإن لم يكن هناك إشهاد ولا اعتراف على الحقيقة ، ويجري ذلك مجرى قوله تعالى :( ثُمّ اسْتَوَى‏ إِلَى السّماءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَللأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) وإن لم يكن منه تعالى قول على الحقيقة ولا منهما جواب ، ومثله قوله تعالى :( شَاهِدِينَ عَلَى‏ أَنْفُسِهِم بِالْكُفْرِ ) ونحن نعلم أنّ الكفّار لم يعترفوا بالكفر بألسنتهم ، وإنّما لما يظهر منهم ظهوراً لا يتمكّنون من دفعه كانوا بمنزلة المعترفين به )(١) .

فدلَّ هذا الكلام منه على أنّه غير منكرٍ لأصل الميثاق ، وإنّما له كلامٌ في كيفيّته ، وله رأيٌ في تأويل الآية .

ـــــــــــــــــ

(١) الغرر والدرر أمالي السيّد المرتضى ١ : ٣٠ .

٢٢٧

رأي الغزالي في خبر الميثاق

وهذا بخلاف الغزّالي مثلاً ـ من علماء القوم ـ فإنّه ينكر أصل الميثاق ، كما في كتابه (المضنون به على أهله ) :

 ( فقيل له ـ أي للغزالي ـ : إن كانت الأرواح حادثة مع الأجساد ، فما معنى قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ، وقولهعليه‌السلام : أنا أوّل الأنبياء خلقاً وآخرهم بعثاً ، وقالعليه‌السلام : كنت نبيّاً وآدم بين الماء والطين ؟

فقالرضي‌الله‌عنه : شيء من هذه لا يدلّ على قدم الروح ، بل يدلّ على حدوثه وكونه مخلوقاً ، نعم ، ربّما يدلّ بظاهره على تقدّم وجوده على الجسد ، وأمر الظواهر ضعيف وتأويلها يمكن ، والبرهان القاطع لا يدرء بالظواهر ، بل يسلّط على تأويل الظواهر ، كما في ظواهر التشبيه في حقّ الله .

وأمّا قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ، فأراد بالأرواح أرواح الملائكة ، وبالأجساد أجساد العالم من العرش والكرسي والسماوات والكواكب والماء والهواء والأرض ، كما أنّ أجساد الآدميّين بجملتهم صغيرة بالإضافة إلى الأرض ، وجرم الأرض أصغر من الشمس بكثير ، ثمّ لا نسبة لجرم الشمس إلى فلكه ، ولا لفلكه إلى السماوات التي فوقه ، ثمّ كلّ ذلك اتّسع له الكرسي ، إذ وسع كرسيّه السماوات والأرض ، والكرسي صغير بالإضافة إلى العرش ، فإذا تفكّرت في جميع ذلك ، استحقرت جميع أجساد الآدميّين ، ولم تفهمها من مطلق لفظ الأجساد .

فكذلك فاعلم وتحقّق : أنّ أرواح البشر بالإضافة إلى أرواح الملائكة كأجسادهم بالإضافة إلى أجساد العالم ، ولو انفتح لك باب معرفة أرواح الملائكة لرأيت الأرواح البشريّة كسراج اقتبس من نار عظيمة طبّق العالم ، وتلك النار العظيمة هي الروح الأخير من أرواح الملائكة ، ولأرواح الملائكة ترتيب ، ولكلّ واحد انفراد بمرتبة ، ولا يجتمع في مرتبة واحدة اثنان ، بخلاف

٢٢٨

الأرواح البشريّة المتكثّرة مع اتّحاد النوع والمرتبة ، أمّا الملائكة فكلّ واحدٍ نوعٌ برأسه وهو كلّ ذلك النوع ، وإليه الإشارة بقوله تعالى :( وَإِنّا لَنَحْنُ الصّافّونَ ) وبقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الراكع منهم لا يسجد ، والقائم منهم لا يركع ، وإنّه ما من واحد إلاّ له مقام معلوم ، فلا تفهمنّ إذاً من الأرواح والأجساد المطلقة أرواح الملائكة .

وأمّا قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : أنا أوّل الأنبياء خلقاً وآخرهم بعثاً ؛ فالخلق هاهنا هو الإيجاد ، فإنّه قبل أن ولدته أُمّه ليس موجوداً مخلوقاً ، ولكنّ الغايات والكمالات سابقة في التقدير لاحقة في الوجود ، وهو معنى قولهم : أوّل الفكرة آخر العمل بيانه : أنّ المقدّر المهندس أوّل ما يتمثّل صورته في تقديره ، وهي دار كاملة ، وآخر ما يوجد في أثر أعماله هي الدار الكاملة ؛ فالدار الكاملة أوّل الأشياء في ذهنه تقديراً وآخرها وجوداً ؛ لأنّ ما قبلها من ضرب اللبنات وبناء الحيطان وتركيب الجذوع وسيلة إلى غاية الكمال وهي الدار ، فالغاية هي الدار ، ولأجلها تُقدّر الآلات والأعمال )(١) .

فإن لم يتيسّر الوقوف على كتاب الغزالي ، فقد نقل المتأخّرون مقالته في كتبهم ، ففي (المواهب اللدنيّة ) ـ مثلاً ـ جاء محصّل المقالة المذكورة ، حيث قال :

( فإن قلت : إنّ النبوّة وصف ، ولابدّ أن يكون الموصوف به موجوداً ، وإنّما يكون بعد بلوغ أربعين سنة أيضاً ، فكيف يوصف به قبل وجوده وإرساله ؟

ـــــــــــــــــ

(١) المضنون به على أهله وهذا الكلام موجود في رسالته ( الأجوبة الغزالية في المسائل الأخروية ) ضمن ( مجموعة رسائل الإمام الغزالي ) : ١٧٨ ـ ١٨٠ .

٢٢٩

قلت : أجاب الغزالي في كتابالنفخ والتسوية عن هذا وعن قوله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : أنا أوّل الأنبياء خلقاً وآخرهم بعثاً ، بأنّ المراد بالخلق هنا التقدير دون الإيجاد ، فإنّه قبل أنْ ولدته أُمّه لم يكن موجوداً مخلوقاً ، ولكن الغايات والكمالات سابقة في التقدير لاحقة في الوجود )(١) .

فإنّ هذا الكلام يفيد أنّ الغزالي ينكر تقدّم خلق الأرواح على الأجساد ، ولا يسلّم بأنّ للخلق وجوداً سابقاً على ولادتهم الظاهريّة في هذا العالم ، ولا يرى خلقةً للنبيّ قبل وجوده الظاهري ، فضلاً عن القول بالوجود في عالم الذرّ .

ومن الواضح أنّ أخذ الميثاق في عالم الأرواح فرع على وجودها فيه .

فالغزالي ينكر وقوع الميثاق في ذلك العالم ، مع دلالة الأحاديث الكثيرة الواردة من طرقهم في ذلك ، وكونها مخرّجةً في كتابي البخاري ومسلم ، وفي الموطّأ لمالك(٢) ، وغيرها من كتبهم كما أنّ السيوطي أخرج ما يقارب الخمسين حديثاً في أخذ الميثاق من ذريّة آدم في عالم الأرواح ، بذيل الآية المباركة من (الدرّ المنثور )(٣) .

وقد نصَّ الشعراني في (اليواقيت ) على ابتناء كثيرٍ من الاعتقادات في إثبات الحشر والنشر على مسألة الميثاق(٤) .

وحينئذٍ ، فكلّ جوابٍ يذكرونه من طرف الغزالي ، فهو الجواب من طرف السيّد المرتضى لو صحّت النسبة إليه !

ـــــــــــــــــ

(١) شرح المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّدية : ١ : ٣٦ .

(٢) الموطأ ٢ : ٨٩٨ ـ ٨٩٩/٢ كتاب القدر ، باب النهي عن القول بالقدر .

(٣) الدر المنثور ٣ : ٥٩٨ ـ ٦٠٧ .

(٤) اليواقيت والجواهر : ٤٣٩ ـ ٤٤٢ .

٢٣٠

رأي مجاهد في آية الميثاق

هذا ، وقد أنكر مجاهد أخذ الميثاق من الأنبياء ، والتزم بتحريف الآية المباركة الناصّة على ذلك ، كما ذكر السيوطي في (تفسيره ) إذ قال :

( أخرج عبد بن حميد والفريابي وابن جرير وابن المنذر ، عن مجاهد في قوله تعالى :

( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ)

قال : هي خطأ من الكتّاب ، وهي في قراءة ابن مسعود : ميثاق الذين أُوتوا الكتاب .

وأخرج ابن جرير عن الربيع ، أنّه قرأ : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أُوتوا الكتاب ، قال : وكذلك كان يقرؤها أُبي بن كعب ، قال الربيع : ألا ترى إنّه يقول :( ثُمّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنصُرُنّهُ ) لتؤمننّ بمحمّد ولتنصرنّه

قال : هم أهل الكتاب )(١) .

حول كلام الطبرسي في آية الصّور

وقد نُسب إلى الشيخ الطبرسي بل إلى الشيخ المفيد القول بأنّ ( الصور ) في قوله تعالى:

( وَنُفِخَ فِي الصّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السّماوَاتِ وَمَن فِي الأَرْض ِ ) (٢) هو ( جمع صورة ) وليس المراد ( صور إسرافيل ) .

وهذه النسبة باطلة ، وقد نشأت من الخطأ والغلط في فهم عبارة الشيخ المجلسي ...

فإنّ هذا المتوهّم قد نظر إلى قول الشيخ المجلسي :

( وأمّا الصور فيجب الإيمان به ، على ما ورد في النصوص الصريحة ، وتأويله بأنّه جمع الصورة كما

ـــــــــــــــــ

(١) الدر المنثور ٢ : ٢٥٢ .

(٢) سورة الزمر ٣٩ : ٦٨ .

٢٣١

مرَّ من الطبرسي وقد سبقه الشيخ المفيد )(١) وغفل عن كلامه السابق ، حيث قال :

( قال الطبرسي في قوله تعالى :( وَنُفِخَ فِي الصّورِ ) : اختلف في الصور .

فقيل : هو قرن ينفخ فيه عن ابن عباس وابن عمر

وقيل : هو جمع صورة ، فإنّ الله يصوّر الخلق في القبور كما صوّرهم في أرحام الأُمّهات ، ثمّ ينفخ فيهم الأرواح كما نفخ وهم في أرحام أُمّهاتهم عن الحسن وأبي عبيدة

وقيل : إنّه ينفخ إسرافيل في الصور ثلاث نفخات : النفخة الأُولى نفخة الفزع ، والثانية نفخة الصعق يصعق من في السماوات والأرض بها فيموتون ، والثالثة نفخة القيام لربّ العالمين فيحشر الناس بها من قبورهم )(٢) .

فهذا كلام صاحب (مجمع البيان ) ، وأين اختيار القول الذي نسب إليه ؟

فقول الشيخ المجلسي : ( كما مرّ من الطبرسي ) يعني : كما مرَّ نقل هذا القول ـ الذي قاله غير الطبرسي ـ من الطبرسي ، حيث نقله في تفسيره ، لا أنّه قائل به ومعتقد له .

بل لعلّ في تقديمه القول الأوّل إشارة إلى اختياره له بل إنّ كلامه في تفسير الآية المذكورة صريح في ذلك ، فإنّه قال في (مجمع البيان ) :

(( وَنُفِخَ فِي الصّورِ ) وهو قرن ينفخ فيه إسرافيل

ووجه الحكمة في ذلك : إنّها علامة جعلها الله ليعلم بها العقلاء آخر أمرهم في دار التكليف ثمّ تجديد الخلق ، فشبّه ذلك بما يتعارفونه من بوق الرحيل والنزول ، ولا تتصوّره النفوس بأحسن من هذه الطريقة

وقيل : إنّ الصّور جمع صورة ، فكأنّه ينفخ

ـــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار ٦ : ٣٣٦ .

(٢) بحار الأنوار ٦ : ٣١٨ .

٢٣٢

في صور الخلق )(١) .

ثمّ قال ـرحمه‌الله ـ : (( فَصَعِقَ مَن فِي السّماوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ ) أي : يموت من شدّة تلك الصيحة التي يخرج من الصور جميع من في السماوات والأرض ، يُقال : صعق فلان : إذا مات بحال هائلة شبيهةٍ بالصيحة العظيمة ) .

قال : (( ثُمّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى ) يعني : نفخة البعث ، وهي النفخة الثانية

وقال قتادة في حديثٍ رفعه : إنّ ما بين النفختين أربعين سنة

وقيل : إنّ الله تعالى يفني الأجسام كلّها بعد الصعق وموت الخلق ثمّ يعيدها

وقوله :( فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ ) إخبار عن سرعة إيجادهم ؛ لأنّه سبحانه إذا نفخ النفخة الثانية أعادهم عقيب ذلك ، فيقومون من قبورهم أحياء )(٢) .

وعلى هذا المنوال كلامه في تفسيره الآخر (جوامع الجامع ) في قوله تعالى :( يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصّورِ ) (٣) : ( والصور قرن ينفخ فيه إسرافيل نفختين ، فيفنى الخلق بالنفخة الأُولى ويحيون بالثانية وعن الحسن إنّه جمع صورة )(٤) .

وقد قال في (مجمع البيان ) بتفسيرها : ( وأمّا الصور فقيل فيه إنّه قرن ينفخ فيه إسرافيلعليه‌السلام نفختين ، فيفنى الخلائق كلّهم بالنفخة الأُولى ويحيون بالنفخة الثانية ، فتكون الأُولى لانتهاء الدنيا والثانية لابتداء الآخرة

وقال الحسن : هو جمع صورة ، كما أنّ السور جمع سورة ، وعلى هذا فيكون معناه : يوم ينفخ الروح في الصور .

ويؤيّد الأوّل : ما رواه أبو سعيد الخدري عن النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله

ـــــــــــــــــ

(١) مجمع البيان في تفسير القرآن ٨ : ٤٥٩ .

(٢) مجمع البيان ٨ : ٤٦٠ .

(٣) سورة الأنعام ٦ : ٧٣ .

(٤) جوامع الجامع ١ : ٥٨٤ .

٢٣٣

وسلَّم ) إنّه قال :

( كيف أنتم وقد التقم صاحب القرن وحنا جبينه وأصغى سمعه ينتظر أنْ يُؤمر فينفخ ؟

قالوا : فكيف نقول يا رسول الله ؟

قال :قولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ) .

والعرب تقول : نفخ الصور ونفخ في الصور ، قال الشاعر :

لولا ابن جعدة لم يفتح قهندزكم

ولا خراسان حتّى ينفخ الصور )(١)

وكما أيّد القول الأوّل هنا بالحديث ، كذلك أيّده به بتفسير( يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصّورِ ) حيث قال : ( وقد ورد ذلك في الحديث ) أي : إنّ القول الآخر لا مؤيّد له في الأحاديث ...

وقال بتفسير( فَإِذَا نُقِرَ فِي النّاقُورِ ) : ( الناقور فاعول من النقر ، كهاضوم من الهضم وحاطوم من الحطم ، وهو الذي من شأنه أن ينقر فيه للتصويت به ) قال :

( معناه : إذا نفخ في الصور ، وهي كهيئة البوق ، عن مجاهد

وقيل : إنّ ذلك في النفخة الأُولى وهو أول الشدّة الهائلة العامّة

وقيل : إنّه النفخة الثانية ، وعندها يحيي الله الخلق ، وتقوم القيامة وهي صيحة الساعة ، عن الجبائي )(٢) .

وعلى الجملة ، فإنّ التتبع في كلمات الشيخ الطبرسي في المواضع المختلفة من تفسيريه ، يفيد أنّ ما نُسب إليه من إنكار الصور بالمعنى بالمذكور من غرائب التوهّمات ، بل من عجائب الافتراءات .

حول كلام المفيد في معنى ( الصور )

وأمّا ما نُسب إلى الشيخ المفيد (رحمه‌الله ) من تأويل (الصور ) ، وأنّه يقول

ـــــــــــــــــ

(١) مجمع البيان ٤ : ٩٥ .

(٢) مجمع البيان ١٠ : ١٩١ و ١٩٥ .

٢٣٤

بأنّه جمع للصّورة ، ففيه كلام كذلك ، ومجرّد قول الشيخ المجلسي ( وسبقه الشيخ المفيد ) لا يكفي ، إذ يحتمل أن يكون مراده أنّ الشيخ المفيد قد سبق الشيخ الطبرسي في نقل القول المذكور عن بعض العامّة .

ولو سلّمنا أنّ الشيخ المفيد يجوّز أنْ يكون (الصور ) جمعاً للصورة ، فإنّه لا ينكر (الصور ) بمعنى (القرن ) الذي ينفخ فيه إسرافيلعليه‌السلام ، لثبوت ذلك في الكتاب والسنّة ، غاية ما هناك أنّه جوّز في بعض تلك الأدلّة أنْ يكون (الصور ) جمعاً للصورة ، وذلك لا يلازم إنكار كون المراد هو (القرن ) في البعض الآخر كما هو واضح ...

فإنْ كان الخصم في شكٍّ من هذا ، ذكرنا له كلام إمامه الفخر الرازي بتفسير قوله تعالى :( يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصّورِ ) فإنّه يصدّق ما قلناه تماماً ، وهذا نصّه :

( المسألة الثالثة : قوله تعالى :( يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصّورِ ) لا شبهة أنّ المراد منه يوم الحشر ، ولا شبهة عند أهل الإسلام أنّ الله سبحانه خلق قرناً ينفخ فيه ملك من الملائكة ، وذلك القرن مسمّى بالصور على ما ذكر الله هذا المعنى في مواضع من الكتاب الكريم ، ولكنّهم اختلفوا في المراد بالصّور في هذه الآية على قولين : الأوّل : إنّ المراد منه ذلك القرن الذي ينفخ فيه وصفته مذكورة في سائر السور ، والقول الثاني : إنّ الصور جمع صورة ، والنفخ في الصور عبارة عن النفخ في صور الموتى )(١) .

فلو فرض تفسير الشيخ المفيد لفظ (الصور ) في بعض الموارد بـ (جمع الصورة ) ، فإنّ هذا لا يستلزم كونه منكراً وجود (الصور ) بمعنى (النفخ ) ، وكيف

ـــــــــــــــــ

(١) تفسير الرازي ١٣ : ٣٣

٢٣٥

يجوز نسبة ذلك إليه ؟ والحال أنّ كلامه في (أجوبة المسائل السروية ) صريح في الاعتقاد بالصور

وهذه عبارة السؤال والجواب على ما نقل في (البحار ) :

( ما قوله ـ أدام الله تأييده ـ في عذاب القبر وكيفيّته ؟

ومتى يكون ؟

وهل تردّ الأرواح إلى الأجساد عند التعذيب أم لا ؟

وهل يكون العذاب في القبر أو يكون بين النفختين ؟

الجواب :

الكلام في عذاب القبر طريقه السمع دون العقل ، وقد ورد عن أئمّة الهدىعليهم‌السلام أنّهم قالوا :

( ليس يعذّب في القبر كلّ ميّت ، وإنّما يعذّب من جملتهم من محّض الكفر محضاً ، ولا ينعم كلّ ماض لسبيله ، وإنّما ينعم منهم من محّض الإيمان محضاً ، فأمّا سوى هذين الصنفين فإنّه يلهى عنهم )

وكذلك روي : أنّه لا يُسئَل في قبره إلاّ هذان الصنفان خاصّة ، فعلى ما جاء به الأثر من ذلك يكون الحكم ما ذكرناه .

فأمّا عذاب الكافر في قبره ، ونعيم المؤمنين فيه ، فإنّ الخبر ـ أيضاً ـ قد ورد بأنّ : الله تعالى يجعل روح المؤمن في قالب مثل قالبه في الدنيا في جنّة من جنانه ينعمه فيها إلى يوم الساعة ، فإذا نُفِخ في الصور أُنشىء جسده الذي بُلي في التراب وتمزّق ، ثمّ أعاده إليه وحشره إلى الموقف وأمر به إلى جنّة الخلد ، فلا يزال منعّماً ببقاء الله عزّ وجلّ ، غير أنّ جسده الذي يُعاد فيه لا يكون على تركيبه في الدنيا ، بل تعدّل طباعه وتحسّن صورته ، فلا يهرم مع تعديل الطباع ، ولا يمسّه نصبٌ في الجنّة ولا لغوب .

والكافر يجعل في قالب كقالبه في الدنيا ، في محلّ عذاب يعاقب به ونار يعذّب بها حتّى الساعة ، ثمّ أُنشئ جسده الذي فارقه في القبر ويعاد إليه ، ثمّ يعذّب به في الآخرة إلى الأبد ، ويركّب ـ أيضاً ـ جسده تركيباً لا يفنى معه ، وقد

٢٣٦

قال الله عزّ وجلّ اسمه :

( النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ الْعَذَابِ)

وقال في قصّة الشهداء :

 ( وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ) .

فدلّ أنّ العذاب والثواب يكونان قبل يوم القيامة وبعدها .

والخبر وارد بأنّه يكون مع فراق الروح الجسد من الدنيا ، والروح هاهنا عبارة عن الفعّال الجوهر البسيط ، وليس بعبارة عن الحياة التي يصحّ معها العلم والقدرة ؛ لأنّ هذه الحياة عرض لا يبقى ولا يصحّ الإعادة فيه .

فهذا ما عوّل عليه بالنقل وجاء به الخبر على ما بيّنّاه )(١) .

هذا كلام الشيخ المفيد ، وهو نصّ قاطع في أنّه غير منكر للصور ، بل ذكر عقيدته على أساس الأخبار المرويّة عن الأئمّة الأطهارعليهم‌السلام وجعلها المعوَّل عليه والمعتَمد .

ولا يتوهّم أنّ هذا الكلام أيضاً ، يحتمل كون المراد من الصور هو نفخ الأرواح في الأجساد ، وأنّ الصور جمع الصورة ؛ لأنّ هذا الإحتمال فاسد قطعاً ، وكلامه صريح في أنّ المراد من (الصور ) هو (القرن ) لا جمع الصورة ، ويدلّ على ذلك وجهان :

الأوّل : قوله : ( فإذا نفخ في الصور أُنشئ جسده ) فإنّه يدلّ بوضوحٍ على أنّ إنشاء الجسد إنّما يكون بعد نفخ الصور ، فنفخ الصور متقدّم على إنشاء الجسد الذي بلي في التراب وتمزّق ، وهذا مقتضى الشرط والجزاء ؛ فإنّ الجزاء متفرّعٌ على وجود الشرط متأخّرٌ عنه

ومن البديهي أنّه لو كان (الصور ) جمع الصّورة ، وكان المراد نفخ الأرواح في الأجساد ، لم يكن تأخّر إنشاء

ـــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار ٦ : ٢٧٢ ـ ٢٧٣ عن أجوبة المسائل السرويّة .

٢٣٧

الجسد ، وإلاّ لزم تأخّر الشيء عن نفسه ؛ لأنّ النفخ في الصور ـ على تقدير كون (الصور ) جمع الصورة ـ هو نفخ الأرواح في الأجساد ، فلابدّ من إنشاء الأجساد قبل النفخ حتى ينفخ فيها الأرواح .

الثاني : إنّ لفظة ( ثمّ ) في قوله : ( ثمّ أعاد إليه وحشره إلى الموقف ) صريحٌ في تأخّر إعادة الروح إلى الجسد ، عن نفخ الصور وإنشاء الجسد ، كما هو ظاهر لفظة ( ثمّ ) الموضوعة للتراخي والبعديّة ، ولا ريب أنّ أعادة الروح إلى الجسد هو عين نفخ الروح فيه فلو كان المراد من( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصّورِ ) هو جمع الصورة ، وكان المراد من النفخ هو نفخ الأرواح في الأجساد ، لزم تأخّر الشيء عن نفسه .

وتلخّص : أنّ الشيخ المفيد (رحمه‌الله ) يقول بوجود الصور بمعنى القرن ، وبوقوع النفخ فيه كما دلّت عليه الأدلّة ، وقد أشار إليها في جواب السؤال ونصَّ على الاعتماد عليها فلا يجوز نسبة غير ذلك إليه ألبتّة .

عقيدة الحسن البصري وأبي عبيدة

لكنّها عقيدة الحسن البصري وأبي عبيدة وغيرهما من أهل السنّة ، وقد نصّ غير واحدٍ من أعلام القوم على أنّها خلاف ما عليه أهل السنّة والجماعة :

قال العيني في (عمدة القاري ) بشرح قول البخاري : ( باب نفخ الصور ) :

( الصور ، وهو بضمّ الصاد وسكون الواو ، وذكر عن الحسن أنّه قرأها بفتح الواو جمع الصورة ، وتأوّله على أنّ المراد النفخ في الأجسام ليعاد إليها الأرواح

قال الأزهري : إنّه خلاف ما عليه أهل السنّة والجماعة )(١) .

ـــــــــــــــــ

(١) عمدة القاري بشرح البخاري ٢٣ : ٩٨ باب نفخ الصور .

٢٣٨

بل هو عقيدة جماعة

وليس هذا قول الحسن وحده ، ففي (فتح الباري ) ما نصّه :

( باب نفخ الصور ، تكرّر ذكره في القرآن ، في الأنعام والمؤمنين والنمل والزمر وقاف وغيرها ، وهو بضمّ المهملة وسكون الواو ، وثبت كذلك في القراآت المشهورة والأحاديث ، وذكر عن الحسن البصري أنّه قرأها بفتح الواو جمع صورة ، وتأوّله على أنّ المراد النفخ في الأجساد ليعاد إليها الأرواح

وقال أبو عبيدة في المجاز : يقال الصور يعني بسكون الواو جمع صورة ، كما يقال سور المدينة جمع سورة

قال الشاعر :

لمّا أتى خــبر الزبير

تواضعت صور المدينة

فيستوي معنى القراءتين .

وحكى مثله الطبري عن قوم وزاد : كالصوف جمع صوفة .

قالوا : والمراد بالنفخ في الصور ـ وهي الأجساد ـ أن تعاد فيها الأرواح ، كما قال تعالى :( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رّوحِي ) .

وتعقّب قوله : جمع ، بأنّ هذه أسماء أجناس لا جموع .

وبالغ النحّاس وغيره في الردّ على التأويل المذكور .

وقال الأزهري : إنّه خلاف ما عليه أهل السنّة والجماعة )(١) .

وقال الرازي في (تفسيره ) :

( اعلم : إنّ الله سبحانه لمّا قال :( وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) ذكر أحوال ذلك اليوم ، فقال :( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصّورِ ) وفيه ثلاثة أقوال :

أحدها : إنّ الصور آلة ، إذا نفخ فيها يظهر صوتٌ عظيم جعله الله علامةً

ـــــــــــــــــ

(١) فتح الباري في شرح البخاري ١١ : ٣٠٨ باب نفخ الصور .

٢٣٩

لخراب الدنيا وإعادة الأموات

روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّه قرن ينفخ فيها .

وثانيها : إنّ المراد من الصور مجموع الصور ، والمعنى : فإذا نفخ في الصور أرواحها ، وهو قول الحسن ، وكان يقرأ بفتح الواو ، وبالفتح والكسر عن أبي رزين ، وهو حجّة لمن فسّر الصّور بجمع صورة .

وثالثها : إنّ النفخ في الصور استعارة ، والمراد منه البعث والحشر .

والأولى الأوّل )(١) .

وقال ابن الأثير في (النهاية ) :

( وفيه ذكر النفخ في الصور ، هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيلعليه‌السلام عند بعث الموتى إلى المحشر

وقال بعضهم : إنّ الصور جمع صورة ، يريد صور الموتى ينفخ فيه الأرواح ، والصحيح الأوّل ؛ لأنّ الأحاديث تعاضدت عليه تارةً بالصور وتارةً بالقرن )(٢) .

وقال محمد طاهر في (مجمع البحار ) :

( ونفخ في الصور ، هو قرن ينفخ فيه إسرافيلعليه‌السلام عند بعث الموتى إلى المحشر ، وقيل : هو جمع صورة يريد صور الموتى ينفخ فيها الأرواح ، والصحيح الأوّل لتظاهر الأحاديث فيه )(٣) .

وفي (الصحاح ) :

( الصور القرن قال الراجز :

ـــــــــــــــــ

(١) تفسير الرازي ٢٣ : ١٢١ .

(٢) النهاية في غريب الحديث والأثر ( صور ) .

(٣) مجمع البحار ( صور ) .

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384