استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ١

استخراج المرام من استقصاء الإفحام0%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 384

استخراج المرام من استقصاء الإفحام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني
تصنيف: الصفحات: 384
المشاهدات: 156286
تحميل: 7160


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 384 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156286 / تحميل: 7160
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

 ( الشمعونيّة قالوا :

أوّلاً : إن كان النسخ لحكمة ظهرت للنّاسخ الآن ولم تكن ظاهرة من قبل فبداء ، أي فالنسخ بداء وجهل بعواقب الأُمور ، وإلاّ يكن لحكمة ظهرت فعبث ، أي فهو عبث من غير فائدة

قلنا : المصلحة قد تتجدّد بتجدّد الأحوال، والحاكم كان يعلم في الأزل أنّ المصلحة تتجدّد ، فإنّ الكلام فيما ليس بحسن ولا قبيح لذاته ، وأمّا ما هو حسن لذاته وقبيح كذلك ، فلا يقبل النسخ عندنا أيضاً ، فلا بداء ، فإن أريد بالظهور الظهور للحاكم بعد الجهل به ، فنختار أنّه لم يظهر الآن بل كان ظاهراً له من الأزل ، ولا يلزم العبث ، فالملازمة الثانية ممنوعة ، وإن أُريد به الوجود في الفعل واتصافه به فلزوم البداء ممنوع ، كيف ؟ وإنّه كان يعلم من الأزل أنّه تتجدّد مصلحة فيه ، على أنّ الأشاعرة التابعين للشيخ أبي الحسن الأشعري يختارون الشق الثّاني ويلتزمون عبثاً ، فإنّهم لا يرون اشتمال أحكامه على المصالح ؛ لأنّ الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد )(١) .

وقال أيضاً :

( مسألة : لا يجوز عند الحنفيّة والمعتزلة نسخ حكم فعل لا يقبل حسنه أو قبحه السقوط ، كوجوب الإيمان وحرمة الكفر وسائر العقائد الباطلة ، وقد مرّ من قبل .

إنْ قلت : الكلّ عند المعتزلة غير الجبّائية كذلك ؛ لأنّ حسن كلّ فعل وقبحه عندهم لذات الفعل ، وما بالذّات لا يتخلّف .

قلت : ما لغيره قد يغلب على ما بذاته فيتخلّف عنه ما لذاته ، كما في برودة الماء ، وقد مرّ في المبادي الأحكاميّة .

ـــــــــــــــــ

(١) فواتح الرحموت ٢ : ٥٦ .

٣٠١

ويجوز نسخ وجوب الإيمان وحرمة الكفر عند الأشاعرة التابعين للشيخ أبي الحسن الأشعري ومنهم الشافعيّة ، إذ لا حسن ولا قبح عندهم إلاّ شرعاً ، فالإيمان والكفر سيّان عندهم ، وما أوجب الشرع فهو حسن ، وما حرّم فهو حرام ، ومن ثمّة جوّزوا نسخ جميع التكاليف عقلاً ، إلاّ الإمام حجّة الإسلام الغزالي ( قدّس الله سرّه ) قال : يجب معرفة النسخ والناسخ وهو تكليف

قيل في جوابه : سلّمنا أنّه لابدّ من تلك المعرفة ، ولا يجب على المكلّف تحصيل تلك المعرفة ، بل يجب على الله تعالى ـ عقلاً على أُصول أهل الاعتزال ، أو عادة على ما يقتضيه أُصول أهل السنّة القامعين للبدعة كثّرهم الله تعالى ـ تعريف الناسخ للعباد ، تفضّلاً منه تعالى على عباده ، وإذا لم يجب على المكلّف فلا تكليف به .

أقول : يجب على المكلّف اعتقاد أنّ الناسخ خطاب من الله تعالى ، وإلاّ أي وإن لم يجب ، فهو يعمل بالمنسوخ ، ولو عمل به لأثم قطعاً ، فإنّ العمل بالمنسوخ حرام ، فهذا العقد مطلوب منه وهو تكليف ، فتدبّر .

واعترض عليه مطلع الأسرار الإلهيّة والدي ( قدّس سرّه ) :

أمّا أوّلاً : فلأنّه لمّا فرض وجوب إعلام الله تعالى انتساخ الحكم فلا يقرب إلى العمل به فلا يأثم ، وإن عمل به مع هذا العلم فلا ينفع الوجوب عليه دفعاً لهذا الإثم

وأمّا ثانياً : فلأنّ الغرض انتفاء التكاليف رأساً ، لا بالإيجاب ولا بالتحريم ، فلو فرض انتفاء هذه المعرفة والعمل بالمنسوخ لا يلزم الإثم ، كيف ؟ وصار حال هذه الأحوال حال انتفاء البعثة ، فالأفعال كلّها على الإباحة ، فالعمل بالمنسوخ والناسخ سيّان فلا إثم نعم ، لو لم تكن هذه المعرفة وقع في تعب العمل بالأحكام المنسوخة من غير فائدة ، فيلزم العبث ، لكن لا يلزم منه وجوب هذه المعرفة ، إذ لا استحالة عند الأشعريّة في إيقاع الله تعالى عبيده في العبث فافهم )(١) .

ـــــــــــــــــ

(١) فواتح الرحموت ٢ : ٦٧ ـ ٦٨ .

٣٠٢

قال الرازي : يجوز إدخال الله العُبّاد في النار والكفّار في الجنّة

هذا ، وقد نصَّ الفخر الرازي على جواز إدخال الله الزهّاد والعبّاد في النار ، وهذه عبارته بتفسير قوله تعالى :( إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) :

( مذهبنا أنّه يجوز من الله تعالى أن يدخل الكفّار في الجنّة ، وأن يدخل الزهّاد والعبّاد في النّار ؛ لأنّ الملك ملكه ، والملك يفعل في ملكه ما شاء ، لا اعتراض لأحدٍ عليه ، فذكر عيسى هذا الكلام ، ومقصوده منه تفويض الأُمور كلّها إلى الله ، وترك التعريض والاعتراض بالكليّة ، ولذلك ختم الكلام بقوله :( فَإِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (١) يعني أنت قادرٌ على ما تريد ، حكيم في كلّ ما تفعل لا اعتراض لأحدٍ عليك ، فمَن أنا والخوض في أحوال الربوبيّة )(٢) .

هل يجوز التكليف بما لا يطاق ؟

وأمّا عبد العزيز البخاري فقد قال في (كشف الأسرار ) :

( واعلم أنّ الأئمّة قد اختلفوا في جواز التكليف بالممتنع ، وهو المسمّى بتكليف ما لا يطاق ؛ فقال أصحابنا ( رحمهم الله ) : لا يجوز ذلك عقلاً ، ولهذا لم يقع شرعاً

وقالت الأشعريّة : إنّه جائز عقلاً ، واختلفوا في وقوعه والأصحّ عدم الوقوع ـ إلى أن قال ـ

ـــــــــــــــــ

(١) فواتح الرحموت ٢ : ٦٧ ـ ٦٨ .

(٢) سورة المائدة ٥ : ١١٨ .

(٣) تفسير الرازي ١٢ : ١٣٦ .

٣٠٣

وتمسّك أصحابنا بأنّ تكليف العاجز عن الفعل بالفعل يعدّ سفهاً في الشاهد ، كتكليف الأعمى بالنظر ، فلا يجوز نسبته إلى الحكيم جلّ جلاله

تحقيقه : أنّ حكمة التكليف هو الإبتلاء عندنا ، وإنّما يتحقّق ذلك فيما يفعله العبد باختياره فيثاب عليه ، أو يتركه باختياره فيعاقب عليه، فإذا كان بحال لا يمكن وجود الفعل منه، كان مجبوراً على ترك الفعل، فيكون معذوراً في الإمتناع، فلا يتحقّق معنى الإبتلاء. ويعرف باقي الكلام في علم الكلام)(١) .

تصريح الرازي بعقيدة الجبر

ونصّ الفخر الرازي على عقيدة الجبر ، قال بصحّتها ودافع عنها ، بتفسير قوله تعالى :( لَهُمْ قُلُوبٌ لاَيَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَيُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَيَسْمَعُونَ بِهَا ) قال :

( احتجّ أصحابنا بهذه الآية على صحّة قولهم في خلق الأعمال ، فقالوا : لا شكّ أنّ أولئك الكفّار كانت لهم قلوب يفقهون بها مصالحهم المتعلّقة بالدنيا ، ولا شكّ أنّه كانت لهم أعين يبصرون بها المرئيّات ، وآذانٌ يسمعون بها الكلمات ، فوجب أن يكون المراد من هذه الآية تقييدها بما يرجع إلى الدين ، وهو أنّهم ما كانوا يفقهون بقلوبهم ما يرجع إلى مصالح الدين ، وما كانوا يبصرون ويسمعون ما يرجع إلى مصالح الدين ، وإذا ثبت هذا فنقول : ثبت أنّه تعالى كلّفهم بتحصيل الدين ، مع أنّ قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم ما كانت صالحة لذلك ، وهو يجري مجرى المنع عن الشيء والصدّ عنه مع الأمر به ، وذلك هو المطلوب .

قالت المعتزلة : لو كانوا كذلك لقبح من الله تكليفهم ؛ لأنّ تكليف من لا قدرة له على الفعل قبيح غير لائق بالحكيم ، فوجب حمل الآية على أنّ المراد منه : أنّهم ـ لكثرة الإعراض عن الدلائل وعدم الإلتفات إليها ـ صاروا مشبّهين بمن لا يكون له قلب فاهم ولا عين باصرة ولا أُذن سامعة .

ـــــــــــــــــ

(١) كشف الأسرار ١ : ١٩١ ـ ١٩٢ .

٣٠٤

والجواب : إنّ الإنسان إذا تأكّدت نفرته عن شيء ، صارت تلك النفرة المتأكّدة الراسخة مانعة له عن فهم الكلام الدالّ على صحّة الشيء ، ومانعة عن إبصار محاسنه ، ومانعة له عن سماع محاسنه وفضائله ، وهذه حالة وجدانيّة ضروريّة يجدها كلّ عاقلٍ من نفسه ، ولهذا السبب قالوا في المثل المشهور : حبّك الشيء يعمي ويصمّ

وإذا ثبت هذا ، فنقول : إنّ أقواماً من الكفّار بلغوا في عداوة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي بغضه وفي شدّة النفرة عن قبول دينه والاعتراف برسالته ، هذا المبلغ وأقوى منه ، والعلم الضروري حاصل بأنّ حصول الحبّ والبغض في القلب ليس باختيار الإنسان ، بل هو حالة حاصلة في القلب ، شاءه الإنسان أم كرهه .

إذا ثبت هذا فنقول : ظهر أنّ حصول هذه العداوة والنفرة في القلب ليس باختيار العبد ، وثبت أنّه متى حصلت هذه النفرة والعداوة في القلب ، فإنّ الإنسان لا يمكنه ـ مع تلك النفرة الراسخة الشديدة ـ تحصيل الفهم والعلم ، وإذا ثبت هذا ثبت القول بالجبر لزوماً لا محيص عنه

ونُقل عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه خطبةً في تقرير هذا المعنى ، وهو في غاية الحسن :

روى الشيخ أحمد البيهقي في كتاب مناقب الشافعي ( رحمة الله عليه ) عن عليّ بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه أنّه خطب الناس فقال :

( وأعجب ما في الإنسان قلبه ، فيه موادّ من الحكمة وأضدادها ، فإن سنح له الرجاء أولهه الطمع ، وإن هاج له الطمع أهلكه الحرص ، وإن ملكه اليأس قتله الأسف ، وإن عرض له الغضب اشتدّ به الغيظ ، وإن أسعد بالرضى نسي التحفّظ ، وإن ناله الخوف شغله الحزن ، وإن أصابته المصيبة قتله الجزع ، وإن وجد مالاً أطغاه الغنى ، وإن عضّته فاقة شغله البلاء ، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف ، فكلّ تقصير به مضرّ ، وكلّ إفراط له مهلك ) .

وأقول : هذا الفصل في غاية الجلالة والشرف ، وهو كالمطلع على سرّ مسألة القضاء والقدر ؛ لأنّ أعمال الجوارح مربوطة بأعمال القلوب ، وكلّ حالةٍ من أحوال القلب فإنّها مستندة إلى حالةٍ أُخرى حصلت ، وإذا وقف الإنسان على هذه الحالة علم أنّه لا خلاص من الاعتراف بالجبر .

٣٠٥

وذكر الشيخ الغزالي (رحمه‌الله ) في كتاب الإحياء فصلاً في تقرير مذهب الجبر )(١) .

قال ابن تيميّة : الرازي من الجبريّة

هذا ، وقد جاء في كلام ابن تيمية التصريح بكون الرازي والآمدي من الجبريّة ، حيث قال :

( ثمّ المثبتون للصّفات ، منهم من يثبت الصفات المعلومة بالسّمع ، كما يثبت الصفات المعلومة بالعقل ، وهذا قول أهل السنّة الخاصّة ، أهل الحديث ومن وافقهم ، وهو قول أئمّة الفقهاء وقول أئمّة الكلام من أهل الإثبات ، كأبي محمّد بن كلاب ، وأبي العبّاس القلانسي ، وأبي الحسن الأشعري ، وأبي عبد الله ابن مجاهد ، وأبي الحسن الطبري ، والقاضي أبي بكر ابن الباقلاني ، ولم يختلف في ذلك قول الأشعري وقدماء أصحابه ، لكن المتأخّرين من أتباعه ـ كأبي المعالي وغيره ـ لا يثبتون إلاّ الصفات العقليّة ، وأمّا الجبريّة ، فمنهم من ينفيها ومنهم من يتوقّف فيها : كالرازي والآمدي وغيرهما ) .

حديث الطينة ومعناه

ولا يتوهّم دلالة حديث الطينة المروي في كتب أصحابنا على الجبر ، فيكون منافياً لما ذهبوا إليه من قواعد العدل ؛ لأنّ رواية الحديث الموهم لما تقرّر في المذهب خلافه ، لا تجوّز نسبة مؤدّاها إلى الطائفة ، وهذا القرآن الكريم ، والآيات الموهمة للتجسيم والتشبيه وغير ذلك كثيرة فيه ، فلو صحّ نسبة الإماميّة إلى الجبر لمجرّد خبر الطينة ، صحّ نسبة التجسيم وغيره من المذاهب الفاسدة إلى أهل الإسلام .

ـــــــــــــــــ

(١) تفسير الرازي ١٥ : ٦٣ ـ ٦٤ .

٣٠٦

وعلى الجملة ، فإنّ مجرَّد رواية مثل هذا الحديث لا يصحّح نسبة الجبر إلى الأصحاب ، بخلاف الأشاعرة الذين هم أئمّة أهل السنّة ومشايخهم ، القائلين بنفي اختيار العباد وقدرتهم بكلّ صراحةٍ كالإمام الرازي وأمثاله .

وإنّ حديث الطينة المتضمّن ردّ حسنات المخالفين إلى الشيعة ، وردّ سيئات الشيعة إلى المخالفين فيه جهتان :

أمّا عدم ترتّب الأجر والثواب للمخالف على أعماله الصالحة ؛ فلأنّ قبول الأعمال منوط بالإيمان ، ولمّا كان مخالفاً فاقداً للإيمان فلا أجر له

وأمّا ردّ الثواب والحسنة إلى أهل الحقّ ؛ فذاك بفضل الله سبحانه وإحسانه ...

وأمّا ردّ معاصي الشيعة إلى المخالفين ، فلعلّه لأنّ المخالفين ـ لمنعهم من ظهور بركات أهل البيتعليهم‌السلام في الناس ، ومساعدتهم لأهل الظلم والجور والبغي ، للاستيلاء والسلطة ـ كانوا هم السبب الحقيقي لصدور المعاصي من الشيعة ، فالله سبحانه يجعل في يوم القيامة السيّئات الصادرة من الشيعة في صحائف المخالفين ويعذّبهم عليها ...

وليس في شيءٍ من ذلك مخالفة لأيّ قاعدةٍ من قواعد العدل :

قال مولانا المجلسي ـ بعد حديث أبي إسحاق الليثي عن الإمام الهمام أبي جعفر محمّد بن علي الباقرعليهما‌السلام :

( اعلم أنّ هذا الخبر وأمثاله ممّا يصعب على القلوب فهمه وعلى العقول إدراكه ، ويمكن أن يكون كنايةً عمّا علم الله تعالى وقدّره من اختلاط المؤمن والكافر في الدنيا ، واستيلاء أئمّة الجور وأتباعهم على أئمّة الحقّ وأتباعهم ، واعلم أنّ المؤمنين إنّما يرتكبون الآثام لاستيلاء أهل الباطل عليهم ، وعدم تولّي أئمّة الحقّ لسياستهم ، فيعذرهم بذلك ويعفو عنهم ، ويعذّب أئمّة الجور وأتباعهم ، بتسبيبهم لجرائم من خالطهم ، مع ما يستحقّون من جرائم أنفسهم ، والله يعلم وحججه صلوات الله عليهم ) (١) .

وهذا وجه صحيح لحلّ هذه الرواية .

ـــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار ٥ : ٢٣٤/ الباب ١٠ ، الطينة والميثاق .

٣٠٧

ولهذه الرواية في كتب القوم نظائر ، فقد أخرج الحاكم في ( المستدرك ) :

(حدّثني علي بن جمشاد العدل ، ثنا محمّد بن بشر بن مطر، ثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، ثنا حرمي بن عمارة بن أبي حفصة ، ثنا شداد بن سعيد أبو طلحة الراسبي ، عن غيلان بن جرير ، عن أبي بردة ، عن أبي موسىرضي‌الله‌عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليجيئنّ أقوام من أُمّتي بمثل الجبال ذنوباً فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى

هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .

وقد روى الحجّاج بن نصير عن أبي طلحة بزيادات في متنه ، حدّثـنيه علي بن جمشاد ، ثنا أبو مسلم ومحمّد بن غالب ، قالا : ثنا حجّاج بن نصير ، ثنا شدّاد بن سعيد عن غيلان بن جرير ، عن أبي بردة ، عن أبيهرضي‌الله‌عنه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : تحشر هذه الأُمّة على ثلاثة أصناف : صنف يدخلون الجنّة بغير حساب ، وصنف يحاسبون حساباً يسيراً ، وصنف يجرّون على ظهورهم أمثال الجبال الراسيات ، فيسأل الله عن ذنوبهم وهو أعلم بهم فيقول : ما هؤلاء ؟ فيقولون : هؤلاء عبيد من عبادك

فيقول : حطّوها عنهم واجعلوها على اليهود والنصارى ، وأدخلوهم برحمتي الجنّة )(١) .

وفي (كنز العمال ) :

( أُمّتي ثلاثة أثلاث : فثلث يدخلون الجنّة بغير حسابٍ ولا عقاب ، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ثمّ يدخلون الجنّة ، وثلث يمحّصون ثمّ تأتي الملائكة فيقولون : وجدناهم يقولون لا إله إلاّ الله وحده ، ويقول الله : صدقوا لا إله إلاّ أنا ، أدخلوهم الجنّة بقول لا إله إلاّ الله ، واحملوا خطاياهم على أهل التكذيب ، فهي التي قال الله :( وَلَيَحْمِلُنّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ ) . ابن أبي حاتم ، طب ـ عن عوف بن مالك .

ـــــــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ٥: ٣٥٩/٧٧١٩ ـ ٧٧٢٠ كتاب التوبة والإنابة .

٣٠٨

تحشر هذه الأُمّة يوم القيامة على ثلاثة أصناف : صنف يدخلون الجنّة بغير حساب ، وصنف يحاسبون حساباً يسيراً ويدخلون الجنّة ، وصنف يجيئون على حمائلهم بأمثال الجبال الراسيات ذنوباً ، فيقول الله عزّ وجلّ لملائكته وهو أعلم بهم : من هؤلاء ؟

فيقولون : ربّنا ، عبيد من عبيدك ، وكانوا يعبدوك ولا يشركون بك شيئاً

فيقول : حطّوها وضعوها على اليهود والنصارى ، وأدخلوهم الجنّة برحمتي طب ، ك ـ عن أبي موسى )(١) .

وفيه :

( ليجيئنّ أقوام من أُمّتي بمثل الجبال ذنوباً ، فيغفر الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى ك عن أبي موسى )(٢) .

وقد عقد السيوطي لهذه الأحاديث باباً في كتابه (البدور السافرة ) :

( بابٌ : أخرج الطبراني والحاكم وصحّحه عن أبي موسى ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تحشر هذه الأُمّة يوم القيامة على ثلاثة أصناف : فصنف يدخلون الجنّة بغير حساب ، وصنف يحاسبون حساباً يسيراً ، وصنف يجيئون على حمائلهم كأمثال الجبال الراسيات ، فيقول الله تبارك وتعالى للملائكة ـ وهو أعلم بهم ـ : من هؤلاء ؟

فيقولون : ربّنا ، عبيد من عبيدك ، كانوا يعبدونك ولا يشركون بك شيئاً ، وعلى ظهورهم الخطايا والذنوب

فيقول : حطّوها عنهم وضعوها على اليهود والنصارى ، وأدخلوهم الجنّة برحمتي .

وأخرج ابن ماجة والطبراني عن أبي موسى ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة ، أذن لأُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسجود ، فيسجدون له طويلاً ، ثمّ يقال لهم : ارفعوا رؤوسكم ، قد جعلنا عدّتكم فداءً لكم من النار .

وأخرج ابن ماجة والبيهقي عن أنس ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ هذه أُمّة مرحومة ، عذابها بأيديها ، فإذا كان يوم القيامة دفع إلى كلّ رجل من المسلمين رجل من المشركين ، فيقال : هذا فداؤك من النّار .

ـــــــــــــــــ

(١) كنز العمّال ١٢ : ١٦٩/٣٤٥٢٢ الباب السابع ـ في فضائل هذه الأمّة المرحومة .

(٢) كنز العمّال ١٢ : ١٧١/٣٤٥٢٩ الباب السابع ـ في فضائل هذه الأمّة المرحومة .

٣٠٩

وأخرج مسلم عن أبي موسى رفعه : يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوبٍ أمثال الجبال ، يغفرها الله لهم ، ويضعها على اليهود والنصارى .

وأخرج ـ أيضاً ـ من وجهٍ آخر ، بلفظ : إذا كان يوم القيامة ، دفع الله إلى كلّ مسلم يهودياً أو نصرانياً ، فيقول : هذا فداؤك من النار .

قال القرطبي :

قال علماؤنا ( رحمهم الله ) : هذه الأحاديث ليست على عمومها ، وإنّما هي في أُناسٍ مذنبين ، يتفضّل الله تعالى عليهم برحمته ، فأعطى كلّ واحدٍ منهم فكاكاً من النّار من الكفّار )(١) .

وربّما حاول بعض علمائهم تأويل الحديث :

قال القرطبي بعد العبارة السابقة :

( وأمّا معنى قوله يضعها على اليهود والنصارى : أنّه يضاعف عليهم عذاب كفرهم وذنوبهم ، حتّى يكون عذابهم بقدر جرمهم وجرم مذنبي المسلمين لو أُخذوا بذلك ؛ لأنّه تعالى لا يؤاخذ أحداً بذنب أحد ، كما قال :( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) ، وله أن يضاعف لمن يشاء العذاب ويخفّف عمَّن يشاء ، بحكم إرادته ومشيّته .

قال : وقوله في الرواية الأُخرى : لا يموت رجل منكم إلاّ أدخل الله مكانه يهوديّاً أو نصرانيّاً ، معناه : أنّ المسلم المذنب لمّا كان يستحقّ مكاناً من النّار بسبب ذنوبه ، وعفا الله عنه وبقي مكانه خالياً منه ، أضاف الله تعالى ذلك المكان إلى يهودي أو نصراني ، ليعذّب فيه زيادةً على تعذيب مكانه الذي يستحقّه بحسب كفره ، وقد جاءت أحاديث دالّة على أنّ لكلّ مسلمٍ مذنبٍ كان

ـــــــــــــــــ

(١) البدور السافرة عن أُمور الآخرة : ٢١٢ ـ ٢١٤ .

٣١٠

أوّلاً منزلين : منزلاً في الجنّة ومنزلاً في النّار، وكذا الكافر، وذلك معنى قوله :( أُولئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ) أي يرث المؤمنون منازل الكفّار من الجنّة والكفّار منازل المؤمنين في النّار ، إلاّ أنّ هذه الوراثة تختلف : فمنهم من يرث بلا حساب ، ومنهم من يرث بحساب ومناقشة وبعد الخروج من النّار .

وقال البيهقي : يحتمل أن يكون الفداء في قومٍ كانت ذنوبهم كُفّرت عنهم في حياتهم ، أو في مَن أُخرج من النّار ، يقال لهم ذلك بعد الخروج .

وقال غيره : يحتمل أن يكون الفداء مجازاً ، عن وراثة المنزل التي تقدّمت الإشارة إليها ، هذا ما رجّحه النووي وغيره .

وقيل : المراد بالذنوب التي توضع على الكفّار ، ذنوب كان الكفّار سبباً فيها بأن سنّوها ، فلمّا غفرت سيّئات المؤمنين ، بقيت سيّئات الذي سنّ تلك السنّة السيّئة باقية على أربابها الكفرة ؛ لأن الكفّار لا يغفر لهم ، فيكون الوضع كنايةً عن إبقاء الذنب الذي لحق الكافر بما سنّه من عمله السيّئ الذي عمل به المؤمن قال ابن حجر : وهذا أقوى )(١) .

وقال النووي في (شرح صحيح مسلم ) :

( بابٌ في سعة رحمة الله المؤمنين ، وفداء كلّ مسلمٍ بكافرٍ من النّار : قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا كان يوم القيامة دفع الله تعالى إلى كلّ مسلم يهوديّاً أو نصرانيّاً فيقول : هذا فكاكك من النّار

وفي رواية : لا يموت رجل مسلم إلاّ أدخل الله مكانه النّار يهوديّاً أو نصرانيّاً

وفي رواية : يجيء يوم القيامة ناسٌ من المسلمين بذنوب أمثال الجبال ، فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى .

ـــــــــــــ

(١) البدور السافرة عن أُمور الآخرة : ٢١٤ .

٣١١

الفكاك ـ بفتح الفاء وكسرها ، الفتح أفصح وأشهر ـ وهو الخلاص والفداء ، ومعنى هذا الحديث ما جاء في حديث أبي هريرة : لكلّ أحدٍ منزل في الجنّة ومنزل في النّار ، والمؤمن إذا دخل الجنّة خلفه الكافر في النّار ؛ لاستحقاقه ذلك بكفره ، ومعنى فكاكك من النّار : كنت تتعرّض لدخول النّار وهذا فكاكك ؛ لأنّ الله قدّر لها عدداً يملؤها ، فإذا دخلها الكفّار بكفرهم وذنوبهم ، صاروا في معنى الفكاك للمسلمين .

وأمّا رواية يجيء يوم القيامة ناسٌ من المسلمين بذنوبٍ فمعناه : أنّ الله تعالى يغفر الذنوب للمسلمين ويسقطها عنهم ، ويضع على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم وذنوبهم ، فيدخلهم النّار بأعمالهم لا بذنوب المسلمين ، ولابدّ من هذا التأويل ؛ لقوله تعالى :( ولا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) .

وقوله : ويضعها مجاز ، والمراد يضع عليهم مثلها بذنوبهم كما ذكرنا ، لكن لمّا أسقط سبحانه وتعالى عن المسلمين سيّئاتهم وأبقى على الكفّار سيّئاتهم ، صاروا في معنى من حمل إثم الفريقين ؛ لكونهم حملوا الإثم الباقي وهو إثمهم ، ويحتمل أن يكون المراد آثاماً كان للكفّار سبب فيها بأن سنّوها ، فتسقط عن المسلمين بعفو الله تعالى ، ويوضع على الكفّار مثلها ؛ لكونهم سنّوها ، ومن سنّ سنّة سيّئة كان عليه مثل وزر كلّ من عمل بها والله أعلم )(١) .

هذا ، وقد انتقد القرطبي في كتاب (التذكرة ) إنكار من أنكر هذه الأحاديث ، فقال ما نصّه :

( أنكر بعض المتغفّلة ، الذين اتّبعوا أهوائهم بغير هدىً من الله ، إعجاباً برأيهم وتحكّماً على كتاب الله وسنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بعقولٍ

ـــــــــــــــــ

(١) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجّاج ١٧ : ٨٥ .

٣١٢

ضعيفة وأفهام سخيفة فقالوا : لا يجوز في حكم الله وعدله أن يضع سيّئات من اكتسبها على من لم يكتسبها ، ويؤخذ حسنات من عملها وتؤتى من لم يعملها ، وزعموا هذا جوراً ...

والجواب : إنّ الله سبحانه لم يبن أُمور الدنيا على عقول العباد ، ولم يعد ولم يوعد على ما تحتمله عقولهم ويدركونها بأفهامهم ، بل وعد وأوعد بمشيّته وإرادته ، وأمر ونهى بحكمته ، ولو كان كلّما لا تدركه العقول مردوداً ، كان أكثر الشرائع مستحيلاً على موضوع عقول العباد ؛ وذلك أنّ الله أوجب الغسل بخروج المني الذي هو طاهر عند بعض الصحابة وكثير من الأُمّة ، وأوجب غسل الأطراف من الغائط الذي لا خلاف بين الأُمّة وسائر من يقول بالعقل وغيرهما في نجاسته وقذارته ونتنه ، وأوجب بريحٍ يخرج من موضع الحدث ما أوجب بخروج الغائط الكثير المتفاحش ، فبأيّ عقلٍ يستقيم هذا ؟

أو بأيّ رأيٍ يجب مساواة ريحٍ ليس لها عينٌ قائمة بما يقوم عينه ويزيد على الريح نتناً وقذراً ؟

وقد أوجب الله قطع يمين مؤمن لعشرة دراهم ، وعند بعض الفقهاء بثلاثة دراهم ودون ذلك ، ثمّ سوّى بين هذا القدر من المال وبين مائة ألف دينار فيكون القطع فيها سواء ، وأعطى الأُم من ولدها الثلث ، ثمّ إن كان للمتوفّى إخوة جعل لها السدس من غير أن يرث الإخوة من ذلك شيئاً ؟

فبأيّ عقلٍ يدرك هذا ؟ إلاّ تسليماً وانقياداً من صاحب الشرع ، إلى غير ذلك .

وكذلك القصاص بالحسنات والسيّئات ) (١) .

وأخرج مسلم :

ـــــــــــــــــ

(١) التذكرة في أحوال الموتى وأُمور الآخرة : ٣١٠ ـ ٣١١/ باب القصاص يوم القيامة ممّن استطال في حقوق الناس .

٣١٣

 (حدّثنا أبوبكر ابن أبي شيبة ، ثنا أبو أُسامة ، عن طلحة بن يحيى ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كلّ مسلم يهوديّاً أو نصرانيّاً ، فيقول : هذا فكاكك من النّار .

وحدّثنا أبوبكر ابن أبي شيبة ، ثنا عفّان بن مسلم ، ثنا همام ، ثنا قتادة : أنّ عوناً وسعيد بن أبي بردة حدّثاه أنّهما شهدا أبا بردة يحدّث عمر بن عبد العزيز ، عن أبيه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا يموت رجل مسلم إلاّ أدخل الله مكانه النّار يهوديّاً أو نصرانيّاً

قال : فاستحلفه عمر بن عبد العزيز بالله الذي لا إله إلاّ هو ـ ثلاث مرّات ـ أنّ أباه حدّثه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : فحلف له

قال : فلم يحدّثني سعيد أنّه استحلفه ، ولم ينكر على عون قوله .

حدّثنا إسحاق بن إبراهيم بن مثنّى جميعاً ، عن عبد الصّمد بن عبد الوارث ، أخبرنا همام ، ثنا قتادة بهذا الإسناد نحو حديث عفّان ، وقال : عون ابن عتبة )(١) .

وأخرج في ( مسند أحمد ) :

( حدّثنا عبد الله ، حدّثني أبي ، ثنا أبو المغيرة ـ وهو النضر بن إسماعيل يعني القاضي ـ ثنا يزيد ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا كان يوم القيامة لم يبق مؤمن إلاّ أُتي بيهوديّ أو نصرانيّ ، حتّى يدفع إليه ، فيقال له : هذا فداؤك من النّار

قال أبو بردة : فاستحلفني عمر بن عبد العزيز بالله الذي لا إله إلاّ هو ، أسمعت أبا موسى يذكره

ـــــــــــــــــ

(١) صحيح مسلم ٤: ٢١١٩/٢٧٦٧ كتاب التوبة ـ باب (٨) قبول توبة القائل وإن كثر قتله .

٣١٤

عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

قال : قلت : نعم ، فسُرَّ بذلك )(١) .

وأخرج :

( حدّثنا عبد الله ، حدّثني أبي ، ثنا عبد الصمد ، ثنا همام ، ثنا قتادة ، عن سعيد بن أبي بردة ، عن أبيه ، عن أبي موسى الأشعري ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يموت مسلم إلاّ أدخل الله مكانه النّار يهوديّاً أو نصرانيّاً .

حدّثنا عبد الله ، حدّثني أبي ، ثنا عبد الصمد ، ثنا همام ، ثنا قتادة ، عن سعيد بن أبي بردة وعون بن عتبة حدّثاه : أنّهما شهدا أبا بردة يحدّث عمر بن عبد العزيز بهذا الحديث ، فاستحلفه بالله الذي لا إله إلاّ هو ، أنّ أباه حدّثه أنّه سمع من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلم ينكر ذلك سعيد على عون أنّه استحلفه )(٢) .

وأخرج ابن ماجة :

( حدّثنا جبارة بن المغلس ، حدّثنا عبد الأعلى بن أبي المساور ، عن أبي بردة عن أبيه ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة ، أذن لأُمّة محمّدٍ في السجود ، فيسجدون له طويلاً ، ثمّ يقول : ارفعوا رؤوسكم قد جعلنا عدّتكم فداءكم من النّار .

حدّثنا جبارة بن المغلس ، حدّثنا كثير بن سليم ، عن أنس بن مالكرضي‌الله‌عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ هذه الأُمّة مرحومة ، عذابها بأيديها ، فإذا كان يوم القيامة دفع إلى كلّ رجل من المسلمين رجلاً من

ـــــــــــــــــ

(١) مسند أحمد ٥ : ٥٤٩/١٩١٠٣ .

(٢) مسند أحمد ٥ : ٥٣١/١٨٩٩١ ـ ١٨٩٩٢ .

٣١٥

المشركين فيقال : هذا فداؤك من النّار )(١) .

وفي (جامع الأُصول ) :

( إنّ النبيّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ قال : لا يموت مسلم إلاّ أدخل الله مكانه النّار يهوديّاً أو نصرانيّاً

قال : فاستحلف عمر بن عبد العزيز أبا بردة بالله الذي لا إله إلاّ هو ـ ثلاث مرّات ـ أنّ أباه حدّثه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : فحلف له )(٢) .

هل يدخل ولد الزنا الجنّة ؟

رأي الإماميّة في المسألة

ذهب بعض الإماميّة إلى أنّ ولد الزنا لا يكون مؤمناً ، بمعنى : أنّه يختار الكفر عن اختيار ، وإنْ أظهر الإيمان في الظاهر ولا مخالفة لهذا القول لقواعد العدل

قال في (الفصول المهمّة ) :

( والقول بأنّ ولد الزنا كافر وإنْ أظهر الإسلام ، ليس له دليل يُعتدّ به ، وأكثر الإماميّة على خلافه

ـــــــــــــــــ

(١) سنن ابن ماجة ٢ : ١٤٣٤/٤٢٩١ ـ ٤٢٩٢ كتاب الزهد ـ الباب (٣٤) باب صفة أمّة محمّد .

(٢) جامع الأصول ٩ : ١٩٤/٦٧٥٨ الباب الخامس من كتاب الفضائل والمناقب في فضل هذه الأمّة الإسلاميّة ـ النوع السادس .

٣١٦

ووجه ما مرّ ممّا يوهم ذلك : إنّ خبث أصله سبب لميله إلى أفعال المعاصي غالباً باختياره ، ولا يخفى أنّ تلك الأسباب لا تنتهي إلى حدّ الجبر والإلجاء قطعاً ، للأدلّة العقليّة والنقليّة على امتناع الظلم على الله )(١) .

فالأخبار الواردة في هذا المعنى هي في الحقيقة إخبار عن سوء حال ولد الزنا ، بمعنى أنّ أكثر أولاد الزنا تصدر منهم الأفعال القبيحة والأعمال الشنيعة المانعة من الدخول في الجنّة ، وهذا لا ينافي فلاح بعضهم ، وقد اشتهر أنّه ( ما من عامٍ إلاّ قد خُصَّ ) ولا كلام في جواز تخصيص العمومات وتقييد المطلقات ، الواردة في الكتاب والسنّة ...

فالأخبار المذكورة ـ بعد فهم معناها وحملها على الغالب ـ سالمة من الإشكال .

والحمل على الغالب شائع وذائع في الأخبار ، كحملهم عليه الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أعمار أُمّتي مابين الستّين إلى السبعين ) ، إذ قال المناوي بشرحه :

( قال الطيبي : هذا محمول على الغالب ، بدليل شهادة الحال ، فإنّ منهم من لم يبلغ ستين )(٢) .

فما ذكره الشيخ الحرّ العاملي في تأويل أخبار ولد الزنا في (الفصول المهمّة ) من الحمل على الغالب صحيح .

وعليه الزمخشري والرازي

وهو موافق لما ذكره الزمخشري والرازي في تفسيريهما ، بتفسير قوله تعالى :( لاَ تُطِعْ كُلّ حَلاّفٍ مَهِينٍ * هَمّازٍ ) .

قال في (التفسير الكبير ) :

( هذا يدلّ على أنّ هذين الوصفين ـ وهو كونه عتلاًّ زنيماً ـ معائبه ؛ لأنّه إذا كان جافياً غليظ الطبع ، قسا قلبه واجترأ على كلّ معصية ؛ ولأنّ الغالب أنّ النطفة إذا خبثت خبث الولد ، ولهذا قالعليه‌السلام : لا يدخل الجنّة ولد الزنا ولا ولده ولا ولد ولده )(٣) .

ـــــــــــــ

(١) الفصول المهمّة في أصول الأئمّة ٣ : ٢٦٨/ الباب الأوّل من أبواب نوادر الكليّات .

(٢) فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير ٢ : ١١ .

(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ٨٥ .

٣١٧

وفي (الكشّاف ) :

( وكان الوليد دعيّاً في قريش ، ليس من سنخهم ، ادّعاه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده

وقيل : بغت أُمّه ولم يعرف حتّى نزلت هذه الآية

جعل جفاءه ودعوته أشدّ معائبه ؛ لأنّه إذا جفا وغلظ طبعه قسا قلبه واجترأ على كلّ معصية ؛ ولأنّ الغالب أنّ النطفة إذا خبثت خبث الناشيء منها ، ومن ثمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يدخل الجنّة ولد الزنا ولا ولده ولا ولد ولده )(١) .

هذا ، وللقوم في تأويل هذه الأحاديث أقوال أُخرى :

الأقوال في تأويل خبر : ولد الزنا لا يدخل الجنّة

قال السيوطي في (اللآلئ المصنوعة ) :

( قال الرافعي في تاريخ قزوين : رأيت بخط الإمام أبي الخير أحمد بن إسماعيل الطالقاني : سألني بعض الفقهاء في المدرسة النظامية ببغداد في جمادى الأُولى سنة ٥٧٦ عمّا ورد في الخبر أنّ ولد الزنا لا يدخل الجنّة ، وهناك جمع من الفقهاء ، فقال بعضهم : هذا لا يصحّ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) وذكر أنّ بعضهم قال في معناه : إنّه إذا عمل عمل أصليه وارتكب الفاحشة لا يدخل الجنّة ، وزُيّف ذلك بأنّ ذلك لا يختصّ بولد الزنا بل حال ولد الرشيدة مثله

ثمّ فتح الله علَيّ جواباً شافياً لا أدري هل سبقت إليه ، فقلت : معناه أنّه لا يدخل الجنّة بعمل أصليه ، بخلاف ولد الرشيدة ، فإنّه إذا مات طفلاً وأبواه مؤمنان أُلحق بهما وبلغ درجتهما بصلاحهما ، على ما قال تعالى :( وَالّذِينَ آمَنُوا وَاتّبَعَتْهُمْ ذُرّيّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ ) وولد الزنا لا يدخل الجنّة بعمل أبويه

أمّا الزاني فنسبه منقطع ، وأمّا الزانية فشؤم زناها ـ وإنْ صلحت ـ يمنع من وصول بركة صلاحها إليه )(٢) .

والآية الكريمة في نسخة اللآلي كما نقلت :

ـــــــــــــــــ

(١) الكشّاف ٦ : ١٨٣ .

(٢) اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة ٢ : ١٩٤ .

٣١٨

أقول :

لكنّ تأويل أبي الخير الطالقاني ـ أيضاً ـ لا يخلو من ضعف ؛ لأنّ صريح تلك الأحاديث أنّ ولد الزنا لا يدخل الجنّة ، وأنّه محروم منها ، كما يدلّ عليه ـ أيضاً ـ تشريكه مع العصاة والمجرمين ، وكما يدلّ على ذلك عدم دخول ولد الزنا الجنّة ولا ولده ولا ولد ولده إلى ثلاثة بل إلى خمسة بل إلى سبعة ، فالقول بأنّه لا يدخل الجنّة بعمل أصليه ، إنْ أُريد منه أنّ عملهما هو السبب في عدم دخوله الجنّة فالإشكال باقٍ على حاله ، وإنْ أُريد منه أنّه غير محروم من الجنّة ، بل يدخلها لكنْ لا بعمل أبويه ، فهو مخالفٌ لصريح الأحاديث .

ثمّ إنّ هذا التأويل لا يفيد في حديث أبي هريرة : إنّ ولد الزنا شرّ الثلاثة

وكذا بالنظر إلى حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وكلام سعيد بن جبير من أنّه مخلوق للنّار ، بل يردّه حديث ميمونة ، العام الصريح في سلب الخير من والد الزنا وكذا فتوى أبي حنيفة بأنّ خبث الولادة عيب في المبيع .

ومنهم من تأوّل هذه الأحاديث : بأنّ المراد من ولد الزنا فيها ، هو من واظب على الزنا والتزم به ، كما يقال للشجعان : بنو الحرب ، ولأولاد المسلمين : بنو الإسلام ...

ذكره عبد الحق الدهلوي في ( شرح سفر السّعادة ) عن بعض العلماء .

وهو ضعيف لوجوه ، منها : أنه لا يمكن أن يحمل عليه ما ورد من تلك الأحاديث بلفظ : لا يدخل الجنّة ولد الزنا ولا ولده ولا ولد ولده ، وفي بعضها : ولا شيء من نسله إلى سبعة آباء .

ومنهم من تأوَّل حديث : ولد الزنا شرّ الثلاثة ، بقوله : ( لأنّ الحدّ قد يقام عليها فتكون العقوبة لهما ، وهذا في علم الله لا يدرى ما يصنع به وما يفعل في ذنوبه ) .

أورده السيوطي في (مرقاة الصعود ـ حاشية سنن أبي داود ) عن بعضهم .

وفيه ضعف من وجوه كثيرة :

منها : احتمال أن يتوب ولد الزنا ولا يتوب والداه ، فيكون خيراً منهما .

ومنها : إنّ مجرّد عدم العلم بما يفعله الله فيه لا يقتضي كونه شرّاً منهما .

ومنها : إنّه لا يجري في سائر الأحاديث الواردة في عدم دخول ولد الزنا الجنّة .

٣١٩

ولمّا أُشكل الأمر على بعضهم ، ولم يتمكّن من فهم هذه الأحاديث ، عمد إلى تكذيبها ، كما في كلام القاري ، حيث قال : ( حديث : ولد الزنا لا يدخل الجنّة ، لا أصل له )(١) .

لكن القول بأنّه ( لا أصل له ) لا يستلزم عدم تخريج أحد من المحدّثين للحديث ، ولو تمّ الاستلزام المذكور لزم تكذيب جميع العلماء الذين صرّحوا بوقوع الاختلاف في الأحاديث ، والحال أنّ وقوع الإختلاف في الأحاديث أمر واضح كالشمس في رابعة النهار ، كما لا يخفى على من راجع كتب الحديث ، لاسيّما شروح الصحاح وأمثالها من الأسفار وما أكثر الأحاديث التي قيل بأنْ لا أصل لها ، مع وجود روايات القوم لها بأسانيدهم كما لا يخفى على من راجع (اللآلي المصنوعة ) وأمثاله ، بل قلّما تجد حديثاً ممّا أدرجه ابن الجوزي في (الموضوعات ) لم يروه إمام كبيرٌ من أئمّة الحديث عندهم .

إنّ الاختلاف بينهم في الأحاديث التي يروونها ممّا يعلمه أقلّ الطلبة ...

حتّى أنّه ليعلم وقوع الاختلاف في أحاديث كتابي البخاري ومسلم المعروفين بالصحيحين أيضاً فإنّ ذلك مذكور في سائر الكتب ، وحتّى في الكتب الدرسيّة مثل (فواتح الرحموت في شرح مسلّم الثبوت ) فإنّه قال :

( فرع ـ ابن الصلاح وطائفة من الملقَّبين بأهل الحديث زعموا أنَّ رواية الشيخين محمّد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجّاج صاحبي الصحيحين يفيد العلم النظري ، للإجماع على أنّ للصحيحين مزيّةً على غيرهما ، وتلقّت الأُمّة بقبولهما ، والإجماع قطعي .

وهذا بهت ، فإنّ من رجع إلى وجدانه يعلم بالضرورة أنّ مجرّد روايتهما لا يوجب اليقين ألبتّة ، وقد روي فيهما أخبار متناقضة ، فلو أفاد روايتهما علماً لزم تحقق النقيضين في الواقع .

ــــــــــــــ

(١) الأسرار المرفوعة في الأحاديث الموضوعة : ٣٦٢/٥٧٥ .

٣٢٠