استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

استخراج المرام من استقصاء الإفحام0%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 456

استخراج المرام من استقصاء الإفحام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني
تصنيف: الصفحات: 456
المشاهدات: 209605
تحميل: 7048


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 209605 / تحميل: 7048
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

هذا ، ونقل عن كتاب( الإمامة والسياسة ) مع نسبته إلى ابن قتيبة ، جماعة آخرون من أعلام القوم :

كابن خلدون في : تاريخه المعروف...٢ : ١٦٦ .

وأبي عبد الله محمّد بن علي التوزري المصري في كتابه :( صلة السمط وسمة المرط في الأدب والتاريخ ) (١) ، في الفصل الثاني من الباب ٣٤ .

وشاه سلامة الله البدايوني ـ أحد علماء الهند ـ في كتابه :( معركة الآراء ) : ١٢٦ .

وذكر حيدر علي الفيض آبادي في كتابه : منتهى الكلام في الردّ على الشيعة : أنّهم ـ أي الشيعة ـ يعتمدون على كتاب ( الإمامة والسياسة ) لابن قتيبة اعتمادهم على القرآن الكريم...!!

فنقول : والعياذ بالله من هذا الكلام... فالإماميّة إنّما تستند إلى هذا الكتاب لكونه من مؤلّفات أحد أعلام أهل السنّة المنحرفين عن أهل البيتعليهم‌السلام ، ومن باب الإلزام والاحتجاج ، ولا تقول الشيعة بصحّة كلّ ما فيه من الأخبار ، بل شأنه شأن سائر الكتب ، فيه الحق والباطل ، فكيف يُقاس بالقرآن الكريم الذي( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ.... ) (٢) .

هذا ، وقد نسب كتاب ( الإمامة والسياسة ) إلى ابن قتيبة ، جلّ المؤلّفين المعاصرين أمثال :

فريد وجدي في : دائرة المعارف .

وعمر رضا كحّالة في : معجم المؤلّفين .

ـــــــــــــــــــ

(١) انظر : معجم المؤلفين ١١ : ٥٧ .

(٢) سورة فصّلت : ٤٢ .

١٠١

وإلباس سركيس في : معجم المطبوعات العربيّة .

وجرجي زيدان في : تاريخ آداب اللغة العربيّة .

وها هو كتاب ( الإمامة والسياسة ) مطبوع ـ بتحقيق غير واحدٍ من المحقّقين ـ طبعات عديدة في بلاد مختلفة ، قال جرجي زيدان : ومنه نسخ خطيّة في مكتبات باريس لندن .

قلت : ومنه نسخة نفيسة جدّاً ، ترجع إلى القرن الثالث أو الرابع في مكتبة المجلس بطهران .

عبد الله بن الزبير

وأمّا عبد الله بن الزبير ، فقوادحه تفوق الحصر والعدّ ، ونحن نتعرّض لبعضها مع الاختصار...

أوّل شهادة زور في الإسلام

إنّ أوّل ما نذكره مِن مطاعن الرجل وقبائحه : كذبه وإقامته شهادة زورٍ في قضيّة كلاب الحوأب ؛ وذلك أنّه لمّا وصلت عائشة ـ في مسيرها إلى البصرة تقود الجيوش من أجل قتال عليّعليه‌السلام ـ إلى منطقة الحوأب ونبحتها كلابها ، تذكّرت قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأرادت الرجوع إلى الحجاز ، فرأى ابن الزّبير أنّها إنْ رجعت انكسر جيشهم وخسروا المعركة ، فجاء وحلَف بأنّ هذا المكان ليس الحوأب ، وأقام شهوداً على ذلك أيضاً ، فكانت أوّل شهادة زور في الإسلام ، وقد قال رسول الله :( من سَنّ سنّةً سيّئة فعليه وزرها ، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة...) وهكذا انخدعت عائشة وواصلت سيرها ، ووقعت الحرب وأُريقت الدماء وهُتكت الأعراض... كما هو مثبت في كُتب التاريخ...

١٠٢

ونحن نكتفي هنا بإيراد بعض الأخبار في كذب ابن الزبير وشهادته الكاذبة :

قال السمعاني(١) :

( وورد في حديث عصام بن قدامة ، عن عكرمة ، عن ابن عبّاس : أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لنسائه :( ليت شعري أيّتكنّ صاحبة الجمل الأدبب ، وقيل : الأحمر ،تنبحها كلاب الحوأب ) .

وروى إسماعيل بن أبي خالد كذلك ، عن قيس بن أبي حازم عن عائشة : أنّها مرّت بماء ، فنبحتها كلاب الحوأب ، فسألت عن الماء ، فقالوا : هذا ماء الحوأب ، والقصّة في ذلك :

أنّ طلحة والزبير بعد قتل عثمان وبيعة عليّ ، خرجا إلى مكّة ، وكانت عائشة حاجّة تلك السنة ، بسبب اجتماع أهل الفساد والعيث من البلاد بالمدينة لقتل عثمان ، خرجت عائشة هاربة من الفتنة ، فلمّا لحقها طلحة والزبير حملاها إلى البصرة في طلب دم عثمان من عليّرضي‌الله‌عنه ، وكان ابن الزبير عبد الله ابن أُختها أسماء ذات النطاقين ، فلمّا وصلت عائشة رضي الله عنها معهم إلى هذا الماء نبحت الكلاب عليها، فسألت عن الماء واسمه ، فقيل لها : الحوأب ، فتذكّرت قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أيّتكنّ ينبح عليها كلاب الحوأب ) ، فتوقّفت وعزمت على الرجوع ، فدخل عليها ابن أُختها ابن الزبير وقال : ليس هذا ماء الحوأب ، حتّى قيل أنّه حلَف على ذلك وكفّر عن يمينه والله أعلم ، ويمّمت عائشة إلى البصرة وكانت وقعة الجمل المعروفة ) .

وقال قاضي القضاء محبّ الدين أبو الوليد محمّد بن محمّد بن الشحنة

ـــــــــــــــــــ

(١) قال الذهبي: ( الإمام الحافظ الكبير الأوحد الثقة ، محدّث خراسان ، أبو سعد عبد الكريم... السمعاني...) وأرخ وفاته بسنة ٥٦٢ سير أعلام النبلاء ٢٠ : ٤٥٦ .

١٠٣

الحنفي الحلبي (١) :

( في سنة ست وثلاثين : أرسل عليّ بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه إلى البلاد عمّاله ، فبعث عمارة بن شهاب إلى الكوفة ، وكان من المهاجرين ، وولّى عثمان بن حنيف الأنصاري البصرة ، وعبيد الله بن عبّاس اليمن ، وقيس بن سعد الأنصاري مصر ، وسهل بن حنيف الأنصاري الشام ، فرجع من الطريق لمّا سمِع بعصيان معاوية ، وكذلك عمارة لقيه طلحة بن خويلد الذي كان ادّعى النبوّة في خلافة أبي بكررضي‌الله‌عنه فقال له : إنّ أهل الكوفة لا يستبدلون بأبي موسى الأشعري ، فرجع ، ولمّا وصل عبيد الله إلى اليمن خرج الذي كان بها من قبل عثمان ـ وهو يعلى بن منبّه ـ بما بها من الأموال إلى مكّة ، وصار مع عائشة وطلحة والزبير ، وجمعوا جمعاً عظيماً وقصدوا البصرة ، ولم يوافقهم عبد الله بن عمر ، وأعطى يعلى بن منبّه لعائشة رضي الله عنها جملاً كان اشتراه بمائة دينار اسمه عسكر ، وقيل بثمانين ، وركبته ، ومرّوا بمكان اسمه الحوأب ، فنبحتهم كلابه .

فقالت عائشة : أيّ ماء هذا ؟

فقيل لها : هذا ماء الحوأب ، فصرخت وقالت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول ـ وعنده نساؤه ـ :( ليت شعري أيّتكنّ تنبحها كلاب الحوأب ) ، ثمّ ضربت عضد بعيره فأناخته وقالت : ردّوني ، فأقاموا يوماً وليلة .

فقال لها عبد الله بن الزبير : إنّه كذب ، ليس هذا ماء الحوأب .

ولم يزل بها وهي تمتنع ، فقال : النجا النجا ، فقد أدرككم عليّ .

ـــــــــــــــــــ

(١) المتوفّى سنة ٨١٥ توجد ترجمته في : الضوء اللامع ١٠: ٣ وشذرات الذهب ٧ : ١١٣ .

١٠٤

فارتحلوا فوصلوا البصرة) (١) .

وقال ابن قتيبة في كتاب ( الإمامة والسياسة ) :

( فلمّا انتهوا إلى ماء الحوأب في بعض الطريق ومعهم عائشة ، نبحها كلاب الحوأب ، فقالت لمحمّد بن طلحة : أيّ ماء هذا ؟ قال : هذا ماء الحوأب فقالت : ما أراني إلاّ راجعة قال : ولِمَ ؟ قالت : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لنسائه :( كأنّي بإحداكنّ قد نبحها كلاب الحوأب ، وإيّاك أنْ تكوني هي أنت يا حميراء ) ، فقال لها محمّد بن طلحة : تقدّمي ـ رحمك الله ـ ودعي هذا القول .

وأتى عبد الله بن الزبير ، فحلف لها بالله لقد خلّفته أوّل الليل ، وأتاها ببيّنة زور من الأعراب ، فشهدوا بذلك )(٢) .

قبائح ابن الزبير في هذه القصّة

وقد ارتكب ابن الزير في هذه القصّة قبائح عديدة ، تكفي الواحدة منها للعنه والطعن فيه ، فكيف إذا اجتمع الجميع في الواقع واتّسع الفتق على الراقع ؟ :

١ ـ إنّه ارتكب الكذب ، إذ قال لعائشة : إنّ هذا المكان ليس ( الحوأب ) .

٢ ـ وقد حلف على ذلك كاذباً .

٣ ـ وأقام شهود الزور على كذبه .

٤ ـ وجعل يقول : النجاء النجاء ، فقد أدرككم علي .

ـــــــــــــــــــ

(١) روضة المناظر في علم الأوائل والأواخر ، حوادث السنة ٣٦ .

(٢) الإمامة والسياسة : ٦٣ .

١٠٥

٥ ـ وكان السبب في تلك المفسدة الكبيرة التي قاموا بها وأراقوا الدماء فيها .

هذا ، وقد جاء في بعض الأخبار مشاركة طلحة والزبير في إقامة تلك الشهادة الكاذبة والآثمة :

قال سبط ابن الجوزي : قال ابن جرير في تاريخه :

(... فمرَّت على ماء يُقال له الحوأب ، فنبحتها كلابه ، فقالت : ما هذا المكان ؟ فقال لها سائق الجمل العرني : هذا الحوأب ، فاسترجعت وصرخت بأعلى صوتها ، ثمّ ضربت عضد بعيرها فأناخته ، ثمّ قالت : أنا ـ والله ـ صاحبة كلاب الحوأب ، ردّوني إلى حرم الله ورسوله ـ قالتها ثلاثاً ـ .

قال ابن سعد ـ فيما حكاه عن هشام بن محمّد الكلبي ـ استرجَعت وذكرت قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( كيف بك إذا نبحتك كلاب الحوأب ) ؟

فقال لها طلحة والزبير : ما هذا الحوأب ، وقد غلط العرني ثمّ أحضروا خمسين رجلاً فشهدوا معهما على ذلك وحلفوا .

قال الشعبي : فهي أوّل شهادة زور أُقيمت في الإسلام )(١) .

خروجه لقتال الإمامعليه‌السلام

ولا خلاف في أنّ عبد الله بن الزبير مِن الخارجين على الإمام ، والمبادرين لمحاربة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهذا من أعظم معاصيه وأقبح مخازيه ، وقد أفادت الأحاديث النبويّة الثابتة بأنّ قتال الإمامعليه‌السلام كُفر ؛

ـــــــــــــــــــ

(١) تذكرة خواصّ الأُمّة : ٦٨ وانظر : تاريخ الطبري ٤ : ٤٦٩.

١٠٦

لأنّ قتال المسلم أشنع وأقبح من سبابه ، وإذا كان سبّ أمير المؤمنين كفراً ، فمحاربته وقتاله كفر ، بالأولويّة القطعيّة .

أمّا الدليل على أنّ المحاربة والقتال أشدّ من السب ، فقد أخرج البخاري في كتاب الإيمان بإسناده عن عبد الله : ( إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر ) (١) .

وفي كتاب الفتن بإسناده : ( قال عبد لله : قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر ) (٢) .

وفي كتاب الأدب ، بإسناده عن عبد الله قال : ( قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر ) (٣) .

وقال المنذري في( الترغيب والترهيب ) :( عن ابن مسعودرضي‌الله‌عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر ) .

رواه البخاري ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة) (٤) .

فقال ابن حجر في شرحه :

( لمّا كان القتال أشدّ من السباب ؛ لأنّه مفضٍ إلى إزهاق الروح ، عبّر عنه بلفظ أشدّ من لفظ الفسق ، وهو الكفر )(٥) .

وأمّا الدليل على أنّ سبّ عليّعليه‌السلام كفر ، فالأحاديث الصحيحة الثابتة :

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ١ : ١٩ كتاب الإيمان ـ باب خوف المؤمن من أنْ يحبط عملُهُ... .

(٢) صحيح البخاري ٩ : ٦٣ كتاب الفتن ـ باب قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا ترجعوا بعدي كفّاراً...) .

(٣) صحيح البخاري ٨ : ١٨ كتاب الأدب ، باب ما يُنهى من السّباب واللعن .

(٤) الترغيب والترهيب ٣ : ٤٦٦/ ٢ .

(٥) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ١ : ٩٣ .

١٠٧

أخرج الحاكم :

( أخبرنا أحمد بن كامل القاضي ، حدّثنا محمّد بن سعد العوفي ، حدّثنا يحيى بن أبي بكر ، حدّثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبد الله الجدلي قال : دخلت على أُمّ سلمة رضي الله عنها فقالت لي : أيُسبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكم ؟ فقلت : معاذ الله أو سبحان الله أو كلمة نحوها .

فقالت : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :( مَن سبّ عليّاً فقد سبّني ) . هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يُخرجاه .

وقد رواه بكير بن عثمان البجلي ، عن أبي إسحاق بزيادة ألفاظ : حدّثنا أبو جعفر أحمد بن عبيد الحافظ بهمدان ، حدّثنا أحمد بن موسى بن إسحاق التميمي ، حدّثنا جندل بن والق ، حدّثنا بُكير بن عثمان البجلي قال : سمعت أبا إسحاق التميمي يقول : سمعت أبا عبد الله الجدلي يقول : حججت ـ وأنا غلام ـ فمررت بالمدينة ، وإذا الناس عنقٌ واحد فأتبعتهم ، فدخلوا على أُم سلمة زوج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسمعتها تقول : يا شبث بن ربعي ، فأجابها رجل جلف جاف : لبّيك يا أُمّاه قالت : يُسبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ناديكم ؟ ! قال : وأنّى ذلك .

قالت : فعليّ بن أبي طالب قال : إنّا لنقول أشياء نريد عرض الدنيا ، قالت : فإنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :( من سبّ عليّاً فقد سبّني ، ومن سبّني فقد سبّ الله تعالى ) (١) .

وأخرج الحاكم :

( أخرج محمّد بن أحمد بن تميم القنطري ، حدّثنا أبو قلابة الرقاشي ،

ـــــــــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٢١ كتاب معرفة الصحابة .

١٠٨

حدّثنا أبو عاصم ، عن عبد الله بن مؤمّل ، حدّثني أبو بكر بن عبيد الله بن أبي مليكة عن أبيه قال : جاء رجلٌ من أهل الشام ، فسبّ عليّاً عند ابن عبّاس ، فحصبهُ ابن عبّاس فقال : يا عدّو الله ، آذيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً ) لو كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيّاً لآذيته هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يُخرجاه ) (١) .

وما ذكره بعض المتكلّمين المتعصّبين في الدفاع عن أصحاب الجمل الناكثين ، من أنّهم ما كانوا يقصدون المحاربة ، ووقوع الحرب كان بلا إرادة من الطرفين ، فإنكار للبداهة ، وتخديع للعلوم ، ويكفينا في هذا المقام كلام ابن عبّاس في جواب ابن الزبير ، وإفحامه له ، وذلك ما رواه ابن عبد ربّه في كتابه( العقد ) حيث قال :

( قال ابن الزبير لعبد الله بن عبّاس : قاتلت أُمّ المؤمنين وحواريَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأفتيت بتزويج المتعة .

فقال : أمّا أُمّ المؤمنين ، فأنت أخرجتها وأبوك وخالك ، وبنا سُمّيت أُمّ المؤمنين ، فكنّا لها خير بنين ، فتجاوز الله عنها وقاتلت أنت وأبوك عليّاً ، فإنْ كان عليٌّ مؤمناً ، فقد ضللتم بقتالكم المؤمنين ، وإنْ كان عليٌّ كافراً فقد بُؤتم بسخطٍ من الله بفراركم من الزحف. وأمّا المتعة فإنّي سمعت عليّ بن أبي طالب يقول :( سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رخّص فيها ، فأفتيت بها ، ثمّ عمر نهى عنها ) . وأوّل مجمر سطع في المتعة مجمر آل الزبير )(٢) .

ـــــــــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٢١ ـ ١٢٢ كتاب معرفة الصحابة .

(٢) العقد الفريد ٤ : ٤١٤ .

١٠٩

ترجمة ابن عبد ربّه

وقد ترجم كبار العلماء لابن عبد ربّه الأندلسي ، وأثنوا عليه الثناء الجميل :

قال ابن ماكولا : ( أحمد بن محمّد بن عبد ربّه... أندلسي مشهور بالعلم والأدب والشعر ، وهو صاحب كتاب العقد في الأخبار ، وشعره كثير جدّاً ، وهو مجيد )(١) .

وقال اليافعي : ( كان رأس العلماء المكثرين [من المحفوظات] والإطّلاع على أخبار النّاس )(٢) .

وقال ابن خلّكان : ( كان العلماء المكثرين من المحفوظات والإطّلاع على أخبار الناس ، وصنّف كتابه العقد ، وهو من الكتب الممتعة ، حوى من كلّ شيء )(٣) .

وقال السيوطي : ( قال ابن الفرضي : عالم الأندلس بالأخبار والأشعار وأديبها وشاعرها ، كتب الناس تصنيفه وشعره ، سمع من بقي بن مخلّد وابن وضّاح والخشني مات يوم الأحد لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الأُولى ، سنة ٣٢٨ وهو ابن ٨٢ سنة وثمانية أشهر )(٤) .

وقال الذهبي : ( الأديب الإخباري العلاّمة ، مصنّف العقد... )(٥) .

ـــــــــــــــــــ

(١) الإكمال ٦ : ٣٦ .

(٢) مرآة الجنان ٢ : ٢٢٢ حوادث سنة ٣٢٨ .

(٣) وفيات الأعيان ١ : ١١٠/ ٤٦ .

(٤) بغية الوعاة في طبقات اللغويّين والنحاة ١ : ٣٧١/ ٧٢٧ .

(٥) العبر في خبر من غبر ٢ : ٢٩

١١٠

بل إنّ فساد التأويل المذكور يتّضح من كلام ابن الزبير أيضاً ، إذ لو كان وقوع الحرب غير مقصود من الطرفين ، لَما سأل ابن عبّاس عن السبب لحربه عائشة وأشياعها...

على أنّ هذا السؤال مِن أحسن الشواهد على أنْ لا حياء لابن الزبير ، إذْ يسأل ابن عبّاس عن الدليل على كونه مع أمير المؤمنين ، الذي يدور معه الحقّ حيثما دار !!

كان عمر يرى الزبير وأصحابه مفسدين

ومن كلامٍ لعمر بن الخطّاب مع الزبير أيضاً يتّضح منه أنّ أهل الجمل إنّما خرجوا للإفساد ، وأنّه لا يُوجد أيّ محملٍ صحيح لخروجهم إلى البصرة ضدّ أمير المؤمنينعليه‌السلام :

أخرج الحاكم في (المستدرك ) :( حدّثنا أبو علي الحافظ ، حدّثنا الهيثم ابن خلف الدوري ، حدّثنا إسماعيل بن موسى السدّي ، حدّثنا عبد السلام بن حرب ، حدّثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، قال : جاء الزبير إلى عمر بن الخطّاب يستأذنه في الغزو ، فقال عمر : اجلس في بيتك ، فقد غزوت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : فردّد ذلك عليه ، فقال له عمر في الثالثة ـ أو التي تليها ـ اُقعد في بيتك ، فو الله إنّي لأجد بطرف المدينة منك ومن أصحابك أنْ تخرجوا فتفسدوا على أصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) (١) .

ـــــــــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١١٩ ـ ١٢٠ كتاب معرفة الصحابة .

١١١

كلامٌ لابن طلحة الشافعي

وهكذا يبطل الاعتذار لأهل الجمل بوجهٍ من الوجوه ، بما ذكره الفقيه محمّد بن طلحة الشّافعي ، في هذا المقام ، وهذا نصّ كلامه بطوله ضمن بيان وقائع شجاعة أمير المؤمنينعليه‌السلام :

( فمنها : وقعة الجمل ، فإنّ المجتمعين لها رفضوا عليّاًعليه‌السلام ونقضوا بيعته ونكثوا عهده وغدروا به ، وخرجوا عليه ، وجمعوا النّاس لقتاله ، مستخفّين بعقد بيعته التي لزمهم فرض حكمها ، مسفّين إلى إثارة فتنة عامّة باؤوا بإثمها ، لم يرَ إلاّ مقاتلتهم على إسراع نكثهم لبيعته ، ومقابلتهم على الإقلاع عن مكثهم على الوفاء لله تعالى بطاعته .

وكان من الدّاخلين في البيعة أوّلاً ، الملتزمين بها ، ثمّ من المحرّضين ثانياً على نكثها ونقضها ، طلحة والزبير ، فأخرجا عائشة وجمعها ممّن استجاب لهما ، وخرجوا إلى البصرة ، ونصبوا لعليّ حبائل الغوائل وألّبوا عليه مطيعيهم ، من الرامح والنابل ، مظهرين المطالبة بدم عثمانرضي‌الله‌عنه ، مع علمهما في الباطن أنّ عليّاً ليس بالقاتل ، فلمّا رحل من المدينة طالباً إلى البصرة وقرب منها ، كتب إلى طلحة والزبير يقول :

( أمّا بعد ، فقد علمتما أنّي لم أرد النّاس حتّى أرادوني ، ولم أُبايعهم حتّى أكرهوني ، وأنتما ممّن أرادوا بيعتي وبايعوا ، ولم تُبايعا لسلطانٍ غالب ولا لغرضٍ حاضر ، فإنْ كنتما بايعتما طائعين ، فتوبا إلى الله عزّ وجلّ عمّا أنتما عليه ، وإنْ كنتما بايعتما مكرهين فقد جعلتما السبيل عليكما بإظهاركما الطاعة وكتمانكما المعصية وأنت ـ يا زبير ـ فارس قريش ، وأنت ـ يا طلحة ـ شيخ المهاجرين ، ودفعكما هذا الأمر قبل أنْ تدخلا فيه كان أوسع لكما مِن خروجكما منه بعد إقراركما به وأمّا قولكما إنّني قتلت عثمان بن عفّان ، فبيني وبينكما مَن تخلّف عنّي وعنكما مِن أهل المدينة ، ثمّ يُلزم كلّ امرئ بقدر ما احتمل ، وهؤلاء بنو عثمان ـ إنْ قُتل مظلوماً كما تقولان ـ أولياؤه ، وأنتما رجلان من المهجرين ، وقد بايعتماني ونقضتما بيعتي ، وأخرجتما أُمّكما مِن بيتها الذي أمرها الله عز ّوجلّ أنْ تقرّ فيه ، والله حسبكما ، والسّلام .

١١٢

وكتب إلى عائشة :

أمّا بعد ، فإنّك خرجت مِن بيتك عاصيةً لله تعالى ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تطلبين أمراً كان عنك موضوعاً ، ثمّ تزعمين أنّك تريدين الإصلاح بين الناس ، فخبّريني ما للناس وقود العساكر ؟ وزعمت أنّك طالبة بدم عثمان ، وعثمان رجل من بني أُميّة ، وأنت امرأة من بني تيم بن مرّة ، ولعمري ، إنّ الذي عرّضك للبلاء وحملك على المعصية لأعظم إليك ذنباً من قتلة عثمان ، وما غضبت حتّى أغضبت ، ولا هِجت حتّى هيّجت ، فاتّقي الله يا عائشة ، وارجعي إلى منزلك ، وأسبلي عليك سترك ، والسّلام ) .

فجاء الجواب إليه :

يا ابن أبي طالب ، جلّ الأمر عن العتاب ، ولنْ ندخل في طاعتك ، فاقض ما أنت قاض ، والسّلام .

ثمّ تراءى الجمعان ، وقرب كلّ من الآخر ، ورأى عليّعليه‌السلام تصميم عزم أولئك على قتاله ، فجمع أصحابه ولم يترك منهم أحداً ، وخطبهم خطبة بليغة منها :

( واعلموا أيّها النّاس ، أنّي تأنّيت هؤلاء القوم وراقبتهم وناشدتهم ، كيما يرجعوا ويرتدعوا ، فلم يفعلوا ولم يستجيبوا ، وقد بعثوا إليّ أنْ أثبت للجلاد وأبرز للطعان ، وقد كنت وما اُهدّد بالحرب ولا أدعى إليها ، وقد أنصف القارّة من راماها ، ولعمري ، لئن أبرقوا وأرعدوا ورأوا نكايتي ، فأنا أبو الحسن الذي فللت حدّهم وفرّقت جماعتهم ، فبذلك القلب ألقى عدوّي وأنا على بيّنةٍ من ربّي لما وعدني من النصر والظفر ، وإنّي لعلى غير شبهةٍ من أمري ، ألا وإنّ الموت لا يفوته المقيم ولا يعجزه الهارب ، ومن لم يُقتل يمت ، وإنّ أفضل الموت القتل ، والذي نفس عليٍّ بيده لألف ضربةٍ بالسيف أهون علَيّ من ميتةٍ على الفراش .

ثمّ رفع يده إلى السّماء وهو يقول :

اللّهمّ ، إنّ طلحة بن عبيد الله أعطاني صفقة يمينه طائعاً ثمّ نكث بيعتي ، اللّهمّ فعاجله ولا تُمهله ، اللّهمّ وإنّ الزبير بن العوّام قطع قرابتي ، ونكث عهدي ، وظاهر عدوّي ، ونصب الحرب لي وهو يعلم أنّه ظالم ، اللّهمّ فاكفنيه كيف شئت وأنّى شئت ) .

ثمّ تقارب النّاس للقتال ، وتعبّؤوا متسلّحين لابسين دروعهم ، متأهّبين لذلك ، هذا كلّه وعليٌّ بين الصفّين عليه قميصٌ ورداء ، وعلى رأسه عمامة سوداء ، وهو راكبٌ على بلغة رسول الله الشهباء ، فلمّا رأى أنّه لم يبقَ إلاّ التصافح بالصّفاح والتناطح بالرماح ، صاح بأعلى صوته :( أين الزبير بن العوّام ، فليخرج إليّ ) ؟

١١٣

فقال النّاس : يا أمير المؤمنين ! أتخرج إلى الزبير وأنت حاسر ، وهو مدجّج في الحديد ؟!

فقال عليٌّ :( ليس علَيّ منه بأس ) .

ثمّ نادى الثانية :( أين الزبير بن العوّام ، فليخرج إليّ ) .

فخرج إليه الزبير [ وقال : يا علي ، أنا آمن من سيفك ؟

فقال عليٌّ :أنت آمن ].

فدنا منه حتّى واقفه ، فقال له عليٌّ :( يا أبا عبد الله ، ما حملك على ما صنعت ) ؟

فقال الزبير : حملني على ذلك الطلب بدم عثمان .

فقال له :( عليك أنت وصاحبك قتلتموه ، فيجب عليك أنْ تقيد من نفسك .

ولكن أُنشدك الله الذي لا إله إلاّ هو ، الذي أنزل الفرقان على نبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أما تذكر يوم قال لك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا زبير أتحبُّ عليّاً ؟ قلت : وما يمنعني من حبّه وهو ابن خالي : فقال لك : أمّا أنت فستخرج عليه يوماً وأنت ظالم له ) ؟

فقال الزبير: اللّهمّ بلى قد كان ذلك.

فقال عليٌّ :( فأُنشدك بالله الذي أنزل الفرقان على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أما تذكر يوم جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عند ابن عوف وأنت معه وهو آخذٌ بيدك ، فاستقبلته أنا فسلّمت عليه ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وجهي وضحكت أنا إليه ، فقلت أنت : لا يدع ابن أبي طالب زهوه أبداً ، فقال لك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مهلاً يا زبير ، فليس به زهو ، ولتخرجنّ عليه يوماً وأنت ظالم له ) .

فقال الزبير : اللّهمّ بلى ، ولكن أُنسيت ، فأمّا إذ ذكّرتني ذلك لأنصرفنّ عنك ، ولو ذكرت هذا لما خرجت عليك .

١١٤

ثمّ رجع الزبير إلى عائشة فقالت : ما ورائك يا أبا عبد الله؟

فقال الزبير : [والله] ورائي أنّني ما وقفت موقفاً قطّ ، ولا شهدت مشهداً في شركٍ ولا إسلام إلاّ ولي فيه بصيرة ، وإنّي اليوم لعلى شكّ مِن أمري ، وما أكاد أبصر موضع قدمي .

ثمّ شقّ الصفوف وخرج من بينهم ، فنزل على قومٍ من بني تميم ، فقام إليه عمرو بن جرموز المجاشعي وضيّفه ، فلمّا نام قام إليه ، فقتله ، فنفذت دعوة عليّ فيه في عاجلته .

وأمّا طلحة ، فجاءه سهم ـ وهو قائم للقتال ـ من مروان ، فقتله .

ثمّ التحم القتال ، واتّصلت الحرب وكثُر القتل والجرح ، ثمّ تقدّم رجل من أصحاب الجمل يُقال له عبد الله ، فجعل يجول بين الصفوف وهو يقول :

أين أبو الحسن ؟ ويرتجز ، فخرج إليه عليٌّعليه‌السلام ، وشدّ عليه بالسيف وضربه ضربةً أسقط بها عاتقه ، فسقط قتيلاً ، فوقف عليه عليٌّ وقال :( قد رأيت أبا الحسن ، فكيف وجدته ) ؟ ثمّ لم يزل القتل يؤجّج ناره والجمل يفنى أنصاره ، حتّى خرج رجلٌ مدجّج في السلاح ، يظهر بأساً ويروم مراساً ، ويعرّض بعليٍّعليه‌السلام حتّى قال :

أضربكم ولو أرى عليّاً

عمّمتُهُ أبيض مشرفياً

فخرج إليه عليٌّعليه‌السلام متنكّراً وحمل عليه ، فضربه ضربةً على وجهه ، فرمى بنصف قحف رأسه ، ثمّ انصرف .

فسمع صائحاً من ورائه ، فالتفت فرأى ابن خلف الخزاعي من أصحاب الجمل ، فقال : هل لك يا عليّ في المبارزة ؟ فقال عليّ :( ما أكره ذلك ، ولكن ويحك يا ابن خلف ، ما راحتك في القتل وقد علمت من أنا ) ؟ فقال له ابن خلف : ذرني يا ابن أبي طالب من مدحك نفسك ، وادن منّي لترى أيّنا يقتل صاحبه ، فثنى عليٌّ عنان فرسه إليهن فبدره ابن خلف بضربةٍ فأخذها عليٌّ في جحطته ، ثمّ عطف عليه بضربةٍ أطار بها يمينه ، ثمّ ثنّى بأُخرى أطار بها قحف رأسه .

١١٥

ثمّ استعرت الحرب حتّى عُقر الجمل فسقط ، وقد احمرّت البيداء بالدماء وخُذل الجمل وحزبه ، وقامت النوادب بالبصرة على القتلى ، وكان عدّة من قُتل من جند الجمل ستّة عشر ألفاً وسبعمائة وتسعين إنساناً ، وكان جملتهم ثلاثين ألفاً ، فأتى القتل على أكثر من نصفهم ، وقُتِل من أصحاب عليٍّ ألف رجل وسبعون رجلاً ، وكان عدّتهم عشرين ألفاً ، وفي مقابلة عليٍّعليه‌السلام ثلاثين ألفاً بعشرين ومقاتلتهم ، حتّى يقتل منهم أكثر من نصفهم ولم يُقتل من أصحابه غير عُشرهم ، حجّة واضحة تشهد بشجاعته وتسجل بشهامته .

وإذا تأمّل الناظر البصير ، ونظر المتأمّل الخبير فيما صدر من عليٍّ من أقواله وأفعاله ، علم علماً لا يرتاب فيه : أنّهعليه‌السلام يخوض لجج الحروب ، وينغمس في غمرات الموت ، ويُصادم ظباء الصوارم ، ويغمد مصلت سيفه في لباب الكماة ونحور الأبطال ، ولا يحمل لذلك عبأً ولا يُبالي به .

ولمّا انقضت وقعة الجمل ، وندمت عائشة على ما كان ، ورحلت إلى المدينة وسكنت النائرة ، ورحل عليٌّ إلى الكوفة ، قام إليه أبو بُردة بن عوف الأزدي فقال : يا أمير المؤمنين ، أرايت القتلى الذين قُتلوا حول الجمل ، بماذا قُتلوا ؟

فقال علي :( قُتلوا بما قَتلوا من شيعتي وعُمّالي بلا ذنبٍ كان منهم إليهم ، ثمّ صرت إليهم وأمرتهم أنْ يدفعوا إليّ قَتَلَة أصحابي ، فأبَوا علَيّ وقاتلوني ، وفي أعناقهم بيعتي ودماء قريب مِن ألف رجلٍ من أصحابي من المسلمين ، أفي شكٍّ أنت من ذلك يا أخا الأزد ) ؟

١١٦

فقال : الآن استبان لي خطاؤهم وأنّك أنت المُحقّ المصيب )(١) .

والنقاط المستفادة من هذا الكلام :

١ ـ قوله : ( فإنّ المجتمعين ) ظاهر الدلالة في أنّ أصحاب الجمل قد رفضوا اتّباع الإمامعليه‌السلام ، ونكثوا العهد ونقضوا البيعة معه وغدروه .

٢ ـ كتابهعليه‌السلام ، إلى طلحة والزبير ، فيه دلالة على أنّ طاعته كانت واجبةً في أعناق القوم .

٣ ـ إنّهما كانا يتّهمان عليّاًعليه‌السلام بقتل عثمان... وهذا كذبٌ عليه .

٤ ـ قول الإمام :( وهؤلاء بنو عثمان...) يفيد ،أوّلاً : أنّ الإمام كان لا يرى عثمان مظلوماً ، وأنّ طلحة والزبير وأمثالهما ليس لهم أنْ يطلبوا بدم عثمانثانياً .

٥ ـ إنّه قد أنّب الرجلين على إخراجهما عائشة من بيتها ؛ لأنّه منافٍ لما أمر به الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٦ ـ وقد دعا عليهما بقوله :( الله حسبكما ) وحسبهما دعاء الإمام عليهما .

٧ ـ وكذا في كتابه إلى عائشة فقد دلّ على أنّ خروجها من بيتها كان معصيةً لله ورسوله ، وأنّه لا مجوّز له أصلاً ، ولا وجه لطلبها بدم عثمان أبداً .

٨ ـ وقد ذكر أنّ ذنب المخرجين لها من بيتها أكبر من ذنب قتل عثمان ،

ـــــــــــــــــــ

(١) مطالب السؤال في مناقب آل الرسول : ١٥٤ ـ ١٥٩

١١٧

وإذا كان قتلة عثمان كَفَرة ـ كما في ( التحفة الاثنى عشريّة ) وغيرها ـ فالمخرجون لها كفّار بالأولويّة .

٩ ـ وأشار بقوله :( وما غضبت حتّى أغضبت...) إلى أنّها قد أغضبت بفعلها رسول الله ، ومن أغضب رسول الله أغضب الله ، كما في الحديث الشريف عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الفريقين .

١٠ ـ وقوله :( فاتّقي الله يا عائشة ) ظاهر في ارتكابها أمراً محرّماً ومعصية واضحة .

١١ ـ وقوله لها :( وارجعي إلى منزلك...) دليلٌ صريحٌ على أنّها هاتكة لسترها .

١٢ ـ وما كتبته إلى الإمامعليه‌السلام خروجٌ عن حكم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوجوب إطاعة أمير المؤمنين والكون معه ، بالأحاديث الصحيحة الثابتة المتّفق عليها ، من حديث الثقلين وغيره... فتكون بمخالفتها لذلك من الضالّين الهالكين...

١٣ ـ وصريح كلام ابن طلحة أنّ أهل الجمل جاؤوا مُصمّمين على قتال الإمام ومحاربته ، فبطَلَ ما تفوّه به صاحب ( التحفة ) وغيره من أنّه لم يقصد الطرفان تسعير نار هذه الحرب .

١٤ ـ والإمامعليه‌السلام خطب القوم ووعظهم ، لعلّهم يرجعون عن ضلالتهم ويقلعون من كفرهم وعنادهم... لكنّهم تمادوا في غيّهم ، وأصرّوا على باطلهم ، فدعا الإمامعليه‌السلام على طلحة والزبير ، وكان دعاؤه عند الله مستجاباً ، فأعقبهما في الدنيا خُسراناً وفي الآخرة عذاباً .

١٥ ـ وقد تبيّن ممّا دار بين الإمام والزبير بن العوّام ، أنّ الزّبير كان يتعلّل بالطلب بدم عثمان ، ويتذرّع بذلك كاذباً ، إذ ذكّرهعليه‌السلام بكلام رسول الله ، ولم يجد مناصاً من الإذعان والرجوع... وبعد هذا التنبّه يأتي هذا السؤال : هل أعلم عائشة وسائر أهل الجمل بما نبّهه الإمامعليه‌السلام به أو لا ؟ فإنْ كان قد أعلمهم بذلك فلم ينفعهم النصح ، كان ذلك دليلاً آخر على كُفرهم ، لمحاربتهم الإمام مع العلم بكونهم ظالمين له ، وإنْ لم يكن أعلمهم بالحق الذي ذكّره الإمام به ، كان من الكاتمين للحقّ المُخفين له .

١١٨

عبد الله بن الزبير يُحاول إقناع أبيه

ولكن عبد الله بن الزبير حاول إقناع أبيه بالبقاء في المعركة واستمرار المحاربة والمشاركة في البغي والعدوان ، قال سبط ابن الجوزي :

( ثمّ التقوا منتصف جمادى الأُولى من هذه السنة ـ يعني سنة ست وثلاثين ـ فلمّا تراءى الجمعان ، خرج الزبير على فرسٍ وعليه سلاحه ، وخرج طلحة ، فخرج إليهما عليّ ودنا منهما وعليه قبا طاق ، حتّى اختلفت أعنّة خيلهم ، فقال لهما علي :( لعمري لقد أعددتما خيلاً وسلاحاً ، فهل أعددتما عند الله عذراً ؟ فاتّقيا الله ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً ، ألم أكن أخاكما في دينكما تحرّمان دمي وأحرّم دمكما ؟

فقال طلحة : ألّبت الناس على عثمان .

فقال :لعن الله من ألّب النّاس على عثمان ، وأين أنت يا طلحة ودم عثمان ؟

وأنت يا زبير ، أتذكر يوم مررت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بني غنم ، فنظر إليّ فضحكصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضحكتُ إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقلتَ : لا يدع ابن أبي طالب زهوه ، فقال لك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه ليس بمزهو ، ولتقاتلنّه وأنت ظالم له .

وفي رواية :أتذكر يوم لقيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بني بياضة وهو راكب على حمار ) ، وذكّره .

فقال الزبير : اللّهمّ نعم ، ولو ذكرت هذا ما خرجت من المدينة ، و والله لا أُقاتلك أبداً .

وفي رواية : فقال الزبير : فما الذي أصنع وقد التقتا حلقتا البطان ، ورجوعي علَيّ عار ؟

فقال له عليٌّ : ارجع بالعار ولا تجمع بين العار والنّار .

١١٩

فرج الزبير وهو يقول :

اخترت عاراً على نارٍ مؤجّجة

أنّى يقوم لها خلقٌ من الطّين

نادى عليٌّ بأمرٍ لست أجهله

عارٌ لعمرك في الدّنيا وفي الدّين

فقلت حسبك من لوم أبا حسن

فبعض هذا الذي قد قلت يكفيني

وهذا من جملة أبيات الزبير قالها لمّا خرج من العسكر ، وأوّلها :

ترك الأمور التي يخشى عواقبها

لله أجمل في الدنيا وفي الدين

أخال طلحة وسط القوم منجدلاً

ركن الضعيف ومأوى كلّ مسكين

قد كنت أنصره حيناً وينصرني

في النائبات ويرمي من يراميني

حتّى ابتليت بأمرٍ ضاق مصدرُه

فأصبح اليوم ما يعنيه يعنيني

ثمّ انصرف طلحة والزبير ، فقال عليٌّ لأصحابه :( أمّا الزبير فقد أعطى الله عهداً أنْ لا يُقاتلكم ) ، ثمّ عاد الزبير إلى عائشة وقال لها : ما كنت في موطن منذ عقلت عقلي إلاّ وأنا أعرف أمري ، إلاّ هذا .

قالت له : فما تريد أنْ تصنع ؟

قال : أذهب وأدعهم .

فقال له عبد الله ولده : جمعت هذين الفريقين ، حتّى إذا جدّ بعضهم لبعض أردت أنْ تتركهم وتذهب ، أحسست برايات ابن أبي طالب فرأيت الموت الأحمر منها أو من تحتها ، تحملها فتيةٌ أنجاد سيوفهم حداد .

فغضب الزبير وقال : ويحك قد حلفت أنْ لا أُقاتله .

فقال : كفّر عن يمينك .

فدعا غلاماً له يُقال له مكحول فأعتقه .

فقال عبد الرحمان بن سليمان التميمي :

لم أر كاليوم أخا خوان   أعجب من مكفّر الأيمان

بالعتق في معصية الرحمان

وقال آخر :

يعتق مكحولاً لصونِ دينه

كفّارة لله عن يمينه

والنكث قد لاح على جبينه

١٢٠