استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

استخراج المرام من استقصاء الإفحام0%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 456

استخراج المرام من استقصاء الإفحام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني
تصنيف: الصفحات: 456
المشاهدات: 209361
تحميل: 7031


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 209361 / تحميل: 7031
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ووجه آخر ، وهو : إنّه إنّما ساغ لعائشة ذلك لأنّها أُمّ المؤمنين ، لا سيّما بالنسبة إلى ابن الزبير ، لأنّها خالته ، وذلك الكلام الذي قال في حقّها كان كالعقوق لها ، فهجْرَتها منه كانت تأديباً له ، وهذا من باب إباحة الهجران لمن عصى) (١) .

لكنْ لا يخفى وهن التوجيه الأوّل وسخافته ، وتفوّه هذا العالم النحرير به عجيب ، ولكن العصبيّة والمراء عضال داءٍ ليس له دواء ؛ وذلك لأنّ الهجران ترك الملاقاة ، وقد خصّه ابن بطال بترك السلام عند الملاقاة ، وهذا تأويل عليل وليس عليه دليل ، وكلمة ( يلتقيان فيعرض ) لا دلالة فيها عليه ؛ لأنّها تفريع على الهجران وليست نفس الهجران ؛ لأنّ اللفظ في( البخاري ) هكذا :( إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( لا يحلّ لرجلٍ أنْ يهجر أخاه فوق ثلاث ليال ، فيلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا ، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام )) (٢) .

فالصحيح هو الوجه الثاني فقط .

بل إنّ ألفاظ الخبر عند البخاري شاهدة على بطلان التأويل الأوّل ، فقد جاء فيه ، في قضيّة شفاعة المسور وعبد الرحمان لابن الزبير عند عائشة : ( وطفق المسور وعبد الرحمان يناشدانها إلاّ ما كلّمته وقبلت منه ، ويقولان : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عمّا قد علمت من الهجرة ، فإنّه لا يحلّ لمسلمٍ أنْ يهجر أخاه فوق ثلاث ليال ، فلمّا أكثرا على عائشة من التذكرة والتحريج ، طفقت تذكرهما وتبكي وتقول : إنّي نذرت والنذر شديد ، فلم يزالا بها حتّى

ـــــــــــــــــــ

(١) الكواكب الدراري في شرح البخاري ٢١ : ٢٠٨ ، شرح صحيح البخاري لابن بطّال ٩ : ٢٧٠ .

(٢) صحيح البخاري ٨ : ٢٦ كتاب الأدب ـ باب الهجرة

١٤١

كلّمت ابن الزبير ) (١)

فلو لم تكن بينهما هجرة لم يكن لهذه التفاصيل معنى .

قوله معاوية لابن الزبير : إنّك لمخالف...

وتكلّم معاوية في عبد الله بن الزبير في حديثٍ كان بينهما ، فقد جاء في( المسند ) :

( حدّثنا عبد الله ، حدّثني أبي ، ثنا محمّد بن جعفر قال : ثنا شعبة عن يزيد ابن أبي زياد قال : سألت عبد الله بن الحارث عن الركعتين بعد العصر ، فقال : كنّا عند معاوية ، فحدّث ابن الزبير عن عائشة رضي الله عنها : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلّيهما ، فأرسل معاوية إلى عائشة ـ وأنا فيهم ـ فسألناها فقالت : لم أسمعه من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنْ حدّثتني أُمّ سلمة ، فسألناها فحدّثت أُمّ سلمة : ( إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى الظهر ثمّ أُتي بشيء فجعل يقسّمه حتّى حضرت صلاة العصر ، فقام فصلّى العصر ، ثمّ صلّى بعدها ركعتين ، فلمّا صلاّها قال :( هاتان الركعتان كنت أُصلّيهما بعد الظهر ) ، فقالت أُمّ سلمة : ولقد حدّثتها إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عنهما .

قال : فأتيت معاوية فأخبرته بذلك .

فقال ابن الزبير : أليس قد صلاّهما ؟ لا أزال أُصلّيهما .

فقال له معاوية : إنّك لمخالف ، لا تزال تحبّ الخلاف ما بقيت) (٢) .

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ٨ : ٢٥ كتاب الأدب ـ باب الهجرة .

(٢) مسند أحمد بن حنبل ٧ : ٤٣٩ / ٢٦١١١ .

١٤٢

لعن أمير المؤمنينعليه‌السلام ابن الزبير

ومن الطرائف : رواية القوم إنّ عليّاًعليه‌السلام لعن عبد الله بن الزبير ، فقد رواه ابن السمّان في كتاب( الموافقة ) وعنه المحب الطبري في( الرياض النضرة ) .

ولا يخفى أنّ المحبّ الطبري من كبار الأئمّة الحفّاظ ، كما ترجم له الأسنوي في( طبقات الشافعيّة ) (١) وقال الذهبي في( المعجم المختص ) :

( أحمد بن عبد الله بن محمّد ، الإمام الحافظ المفتي ، شيخ الحرم ، ومحبّ الدين أبو العبّاس ، الطبري ، ثمّ المكّي، الشافعي ، مصنّف الأحكام الكبرى ، كان عالماً عاملاً جليل القدر عارفاً بالآثار ، ومن نظر في أحكامه عرف محلّه من العلم والفقه عاش ثمانين سنة ، وكتب إليّ بمرويّاته في سنة ثلاث وسبعين وستّمئة )(٢) .

وهذا نصّ ما رواه المحبّ الطبري في خبر قتل عثمان :

( فبلغ عليّاً وطلحة والزبير وسعداً ومن كان بالمدينة ، فخرجوا وقد ذهبت عقولهم حتّى دخلوا على عثمان ، فوجدوه مقتولاً ، فاسترجعوا ، وقال عليّ لابنيه : كيف قُتل أمير المؤمنين : وأنتما على الباب ؟ ورفع يده فلطم الحسن ، وضرب صدر الحسين ، وشتم محمّد بن طلحة ، ولعن عبد الله بن الزبير ، وخرج عليّ وهو غضبان )(٣) .

ـــــــــــــــــــ

(١) طبقات الشافعية للأسنوي ٢ : ٧٢/ ٧٩٦ .

(٢) المعجم المختص للذهبي : ٢٤/ ٢٠ .

(٣) الرياض النضرة ٣ : ٦٥ ـ ٦٦ .

١٤٣

وإذا كان في هذا الخبر فضيلة لعثمان ، فهو يشتمل على لعن الإمامعليه‌السلام عبد الله بن الزبير... وقد صرّحوا بأنّ اللعن دليل الكفر ؛ لأنّ مرتكب الكبيرة لا يجوز لعنه عندهم كما في( التحفة الاثني عشرية ) بل في( الصواعق ) : ( لا يجوز أنْ يُلعن شخص بخصوصه ، إلاّ إنْ عُلِم موته على الكفر ، كأبي جهلٍ وأبي لهبٍ وأمّا مَن لم يُعلم فيه ذلك فلا يجوز لعنه ، حتّى أنّ الكافر الحيّ المعيَّن لا يجوز لعنه )(١) .

فإذا كان أمير المؤمنين قد لعن ابن الزبير ، فلا ريب في أنّه قد مات على الكفر ، وإلاّ لم يلعنه الإمامعليه‌السلام وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما في ( صحيح البخاري ) ـ :( لعن المؤمن كقتله ) (٢) فيشمله الوعيد في الآية :( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ) (٣) .

وأيضاً : ففي الحديث ما معناه : إنّ اللعن غير السائغ يعود على صاحبه ، روى المتّقي الهندي : ( إذا خرجت اللعنة من فيّ صاحبها نظرت ، فإنْ وجدت مسلكاً في الذي وجّهت إليه وإلاّ عادت إلى الذي خرجت منه هب عن عبد الله .

إنّ العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء فتُغلق أبواب السماء دونها ، ثمّ تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها ، ثمّ تأخذ يميناً وشمالاً ، فإذا لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لعن ، إن كان لذلك أهلاً ، وإلاّ رجعت إلى

ـــــــــــــــــــ

(١) الصواعق المحرقة ٢ : ٦٣٧.

(٢) صحيح البخاري ٨ : ١٩ كتاب الأدب ـ باب ما يُنهى من السباب واللعن .

(٣) سورة النساء ٤ : ٩٣

١٤٤

قائلها د عن أبي الدرداء ) (١) .

تحريف الرواية

ومن هنا ، فقد عمد غير واحدٍ من أئمّة القوم إلى تحريف الخبر ، بحذف لفظ ( اللعن ):

قال ابن حبّان في( كتاب الثقات ) :

( وبلغ الخبر عليّ بن أبي طالب وطلحة والزبير وسعداً ، فخرجوا مذهلين كادت عقولهم تذهب ، لعظم الخبر الذي أتاهم، حتّى دخلوا على عثمان، فوجدوه مقتولاً واسترجعوا، وقال علي لابنيه: كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب ؟ قالا: لم نعلم. قال: فرفع يده ولطم الحسن، وضرب صدر الحسين ، وشتم محمّد بن طلحة وعبد الله بن الزبير) (٢) .

وقال السيوطي في( تاريخ الخلفاء ) نقلاً عن ابن عساكر :

( وقال عليٌّ لابنَيه : كيف قُتل عثمان أمير المؤمنين وأنتما على الباب ؟ ورفع يده ، فلطم الحسن وضرب صدر الحسين وشتم محمّد بن طلحة وعبد الله بن الزبير )(٣) .

ومنهم من روى الخبر بزيادة لعن الإمام أمير المؤمنين ولديه ـ والعياذ بالله ـ !! ففي كتاب( الإعلام بسيرة النبيّ عليه‌السلام ) للحافظ الزرندي :

( وخرج عليّ وهو غضبان يسترجع ، يرى أنّ ، طلحة قد أعان على قتله ،

ـــــــــــــــــــ

(١) كنز العمّال ٣ : ٦١٤ / ٨١٦٩ و٨١٧٠ .

(٢) كتاب الثقات ٢ : ٢٦٥ .

(٣) تاريخ الخلفاء : ١٢٧ .

١٤٥

فلقيه طلحة فقال له : مالك يا أبا الحسن ، ضربت الحسن والحسين ؟ قال : عليك وعليهم لعنة الله ، ألا يسؤني ذلك ! يُقتل أمير المؤمنين ، رجل من أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقم عليه بيّنه ولا حجّة ؟! فقال طلحة : لو دفع مروان إليهم لم يُقتل فقال عليّ : لو خرج مروان إليكم لقُتل قبل أنْ يثبت عليه حكومة ) (١) .

لكنّه يشتمل على لعن طلحة أيضاً...

ثمّ عمد بعضهم إلى تحريف هذا اللفظ ، فوضع كلمة ( عليك وكذا وكذا ) بدلاً من كلمة ( لعن ) طلحة !...(٢) .

قول النبيّ لابن الزبير : ويل للناس منك...

ومن الدلائل على سوء حال عبد الله بن الزبير : قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له ـ في قضيّة ـ :( ويلٌ للناس منك ، وويلٌ لك من الناس ) وذاك ما أخرجه الحكيم الترمذي في كتاب( نوادر الأصول ) قال :

( حدّثنا موسى بن إسماعيل قال : حدّثنا الهند بن القاسم بن عبد الرحمان ابن ماعز قال : سمِعت عامر بن عبد الله بن الزبير : إنّ أباه حدّثه أنّه أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يحتجم ، فلمّا فرغ قال :( يا عبد الله ، اذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحد ) ، فلمّا برز عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمد إلى الدم فشربه ، فلمّا رجع قال :( يا عبد الله ، ما صنعت بها ) ؟ قال : جعلتها في أخفى مكان ـ ظننت أنّه خاف على الناس ـ قال :( لعلّك شربته ) ؟ قال : نعم ،

ـــــــــــــــــــ

(١) الإعلام بسيرة النبيّعليه‌السلام ـ مخطوط .

(٢) الرياض النضرة في مناقب العشرة المبشّرة ٣ : ٦٦

١٤٦

قال : ( لِمَ شربت الدم ؟ ويلٌ للناس منك ، وويلٌ لك من النّاس ) .

وأخرجه الحاكم في( المستدرك ) بالسند واللّفظ وفي آخره :( ومن أمرك أنْ تشرب الدم ؟ ويلٌ لك من الناس ، وويلٌ للناس منك ) (١) .

فأشارصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الفتن التي أثارها ابن الزبير في حرب الجمل ، والفتن التي أثارها في أيّام حكومته بمكّة ، وقد ذهبت آلاف النّفوس ضحيّة لطلب ابن الزبير الدنيا والرئاسة ، كما صرَّح بذلك الصحابي الجليل أبو برزة الأنصاري فيما أخرجوه عنه :

كلام أبي برزة في ابن الزبير

قال الحاكم في( المستدرك ) :

( أخبرني الحسن بن حكيم المروزي ، ثنا أبو الموجة ، أنبأ عبدان ، أنبأ عبد الله ، أنبأ عوف ، عن أبي المنهال ، عن أبي برزة الأسلمي رضي الله تعالى عنه قال : إنّ ذلك الذي بالشام ـ يعني مروان ـ والله إنْ يُقاتل إلاّ على الدنيا ، وإنّ ذلك الذي بمكّة ـ يعني ابن الزبير ـ والله إنْ يُقاتل إلاّ على الدنيا ، وإنّ الذين تدعونهم قرّاءكم والله إنْ يُقاتلون إلاّ على الدنيا فقال له أبي : فما تأمرنا إذاً ؟ قال : لا أرى خير النّاس إلاّ... خماص البطون من أموال الناس ، خفاف الظهور من دماءهم) (٢) .

وأبو برزة الأسلمي من الصحابة الذين يذكرونهم بالجهاد وبالورع والديانة ، قال ابن حجر بترجمته في( الإصابة ) :

ـــــــــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ : ٥٥٤ كتاب معرفة الصحابة .

(٢) المستدرك على الصحيحين ٤ : ٤٧٠ كتاب الفتن والملاحم

١٤٧

 ( قال أبو عمرو : كان إسلامه قديماً ، وشهد فتح خيبر وفتح مكّة وحنيناً... وقال ابن سعد : كان من ساكني المدينة ثمّ نزل البصرة وغزا خراسان وقال غيره : شهِد مع عليّ قتال الخوارج بالنهروان وغزا خراسان بعد ذلك ، ويُقال : إنّه شهد صفّين والنهروان مع عليّ روي ذلك من طريق ثعلبة بن أبي برزة عن أبيه ) .

وذكر ابن حجر كلام أبي برزة في ابن الزبير وغيره عن البخاري قال :

( وقال أخرج البخاري في صحيحه : إنّه عاب على مروان وابن الزبير والقرّاء بالبصرة ، لمّا وقع الاختلاف بعد موت يزيد بن معاوية ، فقال في قصّة ذكرها حاصلها : إنّ الجميع إنّما يقاتلون على الدنيا )(١) .

وهذا نصّ الخبر في( صحيح البخاري ) :

( حدّثنا أحمد بن يونس قال : حدّثنا أبو شهاب ، عن عوف ، عن أبي المنهال قال : لمّا كان ابن زياد ومروان بالشام ، ووثب ابن الزبير بمكّة ، ووثب القرّاء بالبصرة ، فانطلقْتُ مع أبي إلى أبي برزة الأسلمي ، حتّى دخلنا عليه في داره وهو جالس في ظلّ عُليّةٍ له من قصب ، فجلسنا إليه ، فأنشأ أبي يستطعمه بالحديث ، فقال : يا أبا برزة ، ألا ترى ما وقع فيه الناس ، فأوّل شيء سمعته تكلّم به : إنّي احتسبت عند الله أنّي أصبحت ساخطاً على أحياء قريش ، إنّكم ـ يا معشر العرب ـ كنتم على الحال الذي علمتم من الذلّة والقلّة والضلالة ، وإنّ الله أنقذكم بالإسلام وبمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتّى بلغ بكم ما ترون ، وهذه الدنيا التي أفسدت بينكم ، إنّ ذاك الذي بالشام ـ والله ـ إنْ يقاتل إلاّ على الدنيا ، وإنّ ذاك الذي بمكّة ـ والله ـ إنْ يقاتل إلاّ على الدنيا ، وإنّ هؤلاء الذين

ـــــــــــــــــــ

(١) الإصابة في معرفة الصحابة ٦ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨/ ٨٧١٠ .

١٤٨

بين أظهركم ـ والله ـ إنْ يقاتلون إلاّ على الدنيا ) (١) .

وفي( فتح الباري ) لابن حجر العسقلاني :

( قوله : إنّ ذاك الذي بالشام ، زاد يزيد بن زريع : يعني مروان وفي رواية سكين : عبد الملك بن مروان ، والأوّل أولى .

قوله : وإنّ ذاك الذي بمكّة زاد يزيد بن زريع : يعني ابن الزبير .

قوله : وإنّ هؤلاء الذين بين أظهركم ، في رواية يزيد بن زريع وابن المبارك نحوه : إنّ الذين حولكم الذين تزعمون أنّهم قرّاؤكم ، وفي رواية سكين وذكر نافع ابن الأزرق وزاد في آخره : فقال أبي : فما تأمرني إذاً ، فإنّي لا أراك تركت أحداً ؟ قال : لا أرى خير الناس اليوم إلاّ عصابة خماص البطون من أموال الناس ، خفاف الظهور من دمائهم) (٢) .

وفي هذا الحديث دلالة على القدح والذمّ لابن الزبير من وجوه :

١ ـ قوله : ( إنّي احتسبت عند الله ) يدلّ على شدّة قبح أفعال ابن الزبير ، بحيث كانت سبباً لسخط أبي برزة وغضبه عليه ، وأنّه كان يطلب بذلك الأجر من الله تعالى... قال ابن حجر بشرحه : ( قوله: إنّي احتسبت عند الله ، في رواية الكشميهني : احتسبت ، وكذا في رواية يزيد بن زريع ومعناه : إنّه يطلب بسخطه على الطوائف المذكورين من الله الأجر على ذلك ؛ لأنّ الحبّ في الله والبغض في الله من الإيمان )(٣) .

وعليه ، فإنّ بغض ابن الزبير من الإيمان ، وموالاته توجب الخروج عنه ،

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ٩ : ٧٢ كتاب الفتن ـ باب إذا قال عند قوم شيئاً ثمّ خرج فقال بخلافه .

(٢) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ١٣ : ٦٢ .

(٣) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ١٣ : ٦٢

١٤٩

لكون الغضب عليه موجباً للأجر والثواب ، وكذلك بيّن ابن الملقّن الكلمة المذكورة في ( شرح البخاري ) فقال : ( وأمّا قول أبي برزة واحتسابه سخطه على أحياء قريش عند الله تعالى ، فكأنّه قال : اللّهمّ لا أرضى ما صنع قريش من التقاتل على الخلافة فاعلم ذلك من نيّتي ، وأنّي أسخط أفعالهم واستباحتهم للدماء والأموال ، فأراد أنْ يحتسب ما يعتقده من إنكار القتال في الإسلام عند الله أجراً وذخراً ، فإنّه لم يقدر من التغيير عليهم إلاّ بالقول والنيّة التي بها يؤجر الله عباده ) .

٢ ـ قوله : ( وإنّكم يا معشر العرب... ) ظاهرٌ في أنّ ما صنعه ابن الزبير كان محض الضّلال...

٣ ـ قوله : ( والله إنْ يقاتل إلاّ على الدنيا ) نصٌّ لا يقبل أيّ تأويلٍ أو حمل .

ومن الواضح أنّ التقاتل على الدنيا مِن أقبح الفواحش وأفظع المثالب .

وقد ذكر المؤرّخون أنّ أُمّه قالت له : ( إنْ كنت إنّما أردت الدنيا فبئس العبد أنت ، أهلكت نفسك ومن قُتل معك ) .

قال ابن فهد في( إتحاف الورى ) :

( فدخل ـ أي ابن الزبير ـ على أُمّة أسماء بنت أبي بكر الصدّيقرضي‌الله‌عنه فقال : يا أُمّاه ، قد خذلني الناس حتّى ولدي وأهل بيتي ، ولم يبق معي إلاّ اليسير ومَن ليس عنده أكثر من صبر ساعة ، وإنّ خصومي قالوا لي إنْ شئت سلّم نفسك لعبد الملك بن مروان ، يرى فيك رأيه ولك الأمان ، فما رأيك ؟

فقالت له : يا ولدي ! أنت أعلم بنفسك ، إنْ كنت قاتلت لغير الله ، فقد هلكت وأهلكت ، وإنْ كنت قاتلت لله وتعلم أنّك على حقّ وإليه تدعو ، فامض له ، فقد قتل عليه أصحابك ، ولا تمكّن من رقبتك يتعلّب بها غلمان بني أُميّة، وإنْ كنت إنّما أردت الدنيا ، فبئس العبد أنت ، أهلكت نفسك ومن قُتل معك ، وإنْ قلت : كنتُ على حقّ فلمّا وهن أصحابي ضعفت ، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين ، كم خلودك في الدنيا ؟ القتل أحسن ، وإنْ قلت : لم يبقَ معي مُعين على القتل ، فلعمري إنّك مغدور ، ولكن شأن الكرام أنْ يموتوا على ما عاشوا عليه .

١٥٠

فقال : يا أُمّاه أخاف إنْ قتلني أهل الشام أنْ يمثّلوا بي ويصلّبوني .

فقالت : أي بني ، إنّ الشاة لا تبالي بالسلخ ، فامض على بصيرتك واستعن بالله تعالى.

فقبّل رأسها وقال : هذا رأيي ) .

٤ ـ قوله : ( لا أرى خير الناس اليوم...) مفهومه أنّ ابن الزبير وأمثاله قد ملأوا بطونهم من أموال الناس ، وباؤوا بغضبٍ من الله ومأواهم جهنّم وبئس المصير

كلمات الحفّاظ بشرح كلام أبي برزة

ثمّ إنّ علماء القوم ـ بالرَّغم من تأوّلهم للأحاديث القادحة في الصّحابة دفاعاً عنهم ـ لم يتمكّنوا مِن تأويل كلام أبي برزة ولو بالتمحّل ، بل أيّدوا بشرحه دلالته على الذمّ والقدح لابن الزّبير ، كما عرفت من كلمات ابن حجر والملقّن .

وقال ابن حجر بشرحه :

( وفيه : استشارة أهل العلم والدين عند نزول الفتن ، وبذل العالم

١٥١

النصيحة لمن يستشيره وفيه : الاكتفاء في إنكار المنكر بالقول ولو في غيبة مَن ينكر عليه ، ليتّعظ مَن يسمعه فيحذر من الوقوع فيه ) (١) .

وقال ابن الملقّن بشرحه :

( وأمّا يمينه : أنّ الذي بالشام ما يقاتل إلاّ على الدنيا ، وهو عبد الملك ، فوجّهه أنّه كان يُريد أنْ يأخذ بسيرة عثمان والحسن وأمّا يمينه على الذي بمكّة ، يعني ابن الزبير ، فإنّه لمّا وثب بمكّة ـ بعد أنْ دخل فيما دخل فيه المسلمون ـ جعله نكثاً وحرصاً على الدنيا وهو في هذه أقوى رأياً منه في الأُولى ، وكذا القرّاء بالبصرة ؛ لأنّه كان لا يرى الفتنة في الإسلام أصلاً ، وكان يرى أنْ يترك صاحب الأمر حقّه لِمَن نازعه فيه ؛ لأنّه مأجور في ذلك ممدوحٌ بالإيثار على نفسه ، وكان يُريد من المقاتل أنْ لا يقتحم النّار في قيامه وتفريقه الجماعة وتشتيت الكلمة ، ولا يكون سبباً لسفك الدماء واستباحة الحرام ، أخذاً بقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النّار ، فلم يرَ القتال البتّة وخشي أنْ يقول في ابن الزبير شيئاً ؛ لأنّه كان من العبادة بمكان ، وممّا عيّر عليه في خلافته أنّه استأثر بشيءٍ من مال الله ) .

وما قاله ابن الملقّن في آخر كلامه من أنّ أبي برزة ( خشي أنْ يقول في ابن الزبير شيئاً ) واضحٌ ما فيه ، لأنّ أبا برزة يقسم قائلاً بأنّ ابن الزبير ما يقاتل إلاّ على الدنيا... وفي هذا الكلام كلُّ شيء ، لأنّ القتال على الدنيا أمّ الخبائث والشرور وأصل الفسق والفجور ، فكيف يُقال أنّه لم يقل فيه شيئاً ؟! وأيّ فائدةٍ مع هذا لكثرة العبادة ؟

ـــــــــــــــــــ

(١) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ١٣ : ٦٢ .

١٥٢

تكلّم ابن عمر في ابن الزبير

وتكلّم ابن عمر أيضاً في ابن الزبير وبما لا يحتمل التأويل كذلك ، فقد أخرج الحاكم بإسناده :

( عن نافع عن ابن عمر أنّه قال لرجلٍ يسأله عن القتال مع الحجاج أو مع ابن الزبير ؟ فقال له ابن عمر : مع أيّ الفريقين قاتلت فقُتلت ، ففي لظى ) قال الحاكم : ( هذا حديثٌ صحيح على شرط الشيخين ولم يُخرجاه )(١) .

ومن المعلوم أنّه إذا كان من يُقتل مع ابن الزبير في لظى ، فابن الزبير نفسه فيها بطريقٍ أولى ، مع أنّه قد قُتل في نفس هذه المعركة التي حكم عبد الله ابن عمر على من قُتل فيها بما حكم... هذا مضافاً إلى هتكه حرمة الحرم ، ولأجل ذلك تكلّم فيه ابن عمر أيضاً ، فيما رواه الحكيم الترمذي حيث قال :

( حدّثنا إبراهيم بن المستمر الهذلي قال : حدّثني عبد الرحمان بن سليمان ابن غياث أبو زيد قال : سمعت أبي يذكر عن أبيه قال : صحبت ابن عمر من مكّة إلى المدينة ، فقال لنافع : لا تمر بي على المصلوب ـ يعني ابن الزبير ـ .

قال : فما فجئه في جوف الليل إلاّ أنْ صكّ محمله جذعه ، فجلس يمسح عينيه ثمّ قال : يرحمك الله يا أبا خبيب ، إنْ كنت وإنْ كنت ، ولقد سمعت أباك الزبير يقول : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( مَن يعمل سوءاُ يُجزَ به ، في الدنيا أو في الآخرة ) ، فإنْ يك هذا بذاك فهه فهه .

قال أبو عبد الله : فأمّا في التنزيل فقد أجمله فقال : فـ( مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ) ودخل فيه البَرّ والفاجر ، والولي والعدو ، والمؤمن والكافر ، ثمّ ميّز رسول

ـــــــــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ٤ : ٤٧١ كتاب الفتن والملاحم .

١٥٣

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الحديث بين المواطنين فقال : ( يُجزَ به في الدنيا وفي الآخرة ) ، كأنّه أخبر بأنْ يجزي بذلك السوء في أحد الموطنَين ، إمّا في الدنيا وإمّا في الآخرة ، وليس يُجمع عليك الجزاء في الموطنَين .

ألا ترى أنّ ابن عمر قال : فإنْ يك هذا بذاك فهه فهه ، معناه أنّه قاتل في حرم الله ، وأحدَث حدثاً عظيماً فيها ، حتّى أحرق البيت ورمي الحجر الأسود بالمنجنيق ، فانصدع حتّى ضبب بالفضّة ، فهو إلى يومنا كذلك ، وسمع للبيت أنين آه آه ، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم فتح مكّة :( إنّها لم تحلّ لأحدٍ قبلي ولا تحلّ لأحدٍ بعدي ، وإنّما حلّت لي ساعة من نهار ، وإنّها حُرمت يوم خلقت السماوات والأرض ) .

ولمّا رأى ابن عمر فعله ، ثمّ رآه مقتولاً مصلوباً ، ذكر قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( مَن يَعمل سوء يُجز به ) ، ثُمّ قال : إنْ يك هذا القتل بذاك الذي فعله فهه ، أي كأنّه جوزي بذلك السوء من هذا القتل والصلب) (١) .

هذا ، وقد رَوَوا عن ابن عمر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إخباره عن صنع عبد الله ، مع التعبير عن ذلك بـ ( الإلحاد ) :

( يلحد رجلٌ مِن قريش بمكّة ، يُقال له عبد الله ، عليه شطر عذاب العالم ) ، طب عن ابن عمر .

( إنّه سيلحدُ في الحرم رجلٌ مِن قريش ، لو تُوزَن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت ) . حم ك عن ابن عمر .

( يحلّها ويحلّ به رجلٌ من قريش ، لو وُزِنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوَزَنتها ) حم عن ابن عمر .

ـــــــــــــــــــ

(١) نوادر الأصول ٢ : ١٦ وقد اُسقط منه : ( قال أبو عبد الله...) .

١٥٤

 ( يلحد بمكّة كبش ـ أي سيّد ـ من قريش اسمه عبد الله ، عليه مثل أوزار نصف الناس ) حم عن عثمان .

( يلحد رجل من قريش بمكّة ، يكون عليه نصف عذاب العالم ) ، حم

عن عثمان ورجال الحديثين ثقات(١) .

بل لقد رَوَوا أنّ ابن عمر قد ذكّر ابن الزبير بقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا ، وحذّره من أنْ يكون الملحد القرشي هو :

في( جمع الجوامع ) للسيوطي عن ابن أبي شيبة :

( عن إسحاق بن سعيد ، عن أبيه قال : أتى عبد الله بن عمر عبد الله بن الزبير ، فقال لابن الزبير : إياك والإلحاد في حرم الله ، فإنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :( إنّه سيلحد فيه رجلٌ مِن قريش ، لو أنّ ذنوبه تُوزَن بذنوب الثقلين لرجحت عليه ) ، فانظر لا تكونه ش ) .

فكان هذا رأي عبد الله بن عمر في ابن الزبير... وبذلك صرّح الحجّاج عند أسماء أُمّ ابن الزبير، إذ قال لها ـ كما في( السيرة الحلبيّة ) ـ :

( رأيت كيف نصر الله الحق وأظهر أنّ ابنك ألحد في هذا البيت ، وقد قال تعالى :( وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) وقد أذاقه الله ذلك العذاب الأليم )(٢) .

وقال في( إتّحاد الورى ) :

( سنة ستٍّ وستّين : فيها دعا عبد الله بن الزبير محمّد ابن الحنفيّة ومن معه من أهل بيته ، وسبعة عشَرَ رجلاً مِن وجوه أهل الكوفة ، منهم أبو الطفيل

ـــــــــــــــــــ

(١) كنز العمّال ١٢ : ٢٠٨ ـ ٢٠٩/ ٣٤٦٩١ ـ ٣٤٦٩٥ : وبعضه عن ابن عمرو .

(٢) إنسان العيون = السيرة الحلبيّة ١ : ١٧٥.

١٥٥

عامر بن واثلة الصحابي ، ليُبايعوه ، فامتنعوا وقالوا : لا نُبايع حتّى تجتمع الأُمّة .

فأكثر ابن الزبير الوقيعة في ابن الحنفيّة وذمّه ، فأغلظ له عبد الله بن هاني الكندي وقال : لئن لم يضرّك إلاّ تركنا بيعتك ، لا يضرّك شيء ، وإنّ صاحبنا يقول : لو بايعني الأُمّة كلّها غير سعد مولى معاوية قتلته ، وإنّما عرّض بذكر سعد ؛ لأنّ ابن الزبير أرسل إليه فقتله ، فسبّه عبد الله وسبّ أصحابه وأخرجهم من عنده ، فأخبروا ابن الحنفيّة بما كان منهم ، فأمرهم بالصبر ولم يلحّ عليهم ابن الزبير .

فلمّا استولى المختار على الكوفة ، وصارت الشيعة تدعو لابن الحنفيّة ، خاف ابن الزبير أنْ يتداعى النّاس إلى الرماية ، فحينئذٍ ألحّ على ابن الحنفيّة وعلى أصحابه على البيعة له ، فحبسهم بزمزم وتوعّدهم بالقتل والإحراق ، وأعطى الله عهداً إنْ لم يُبايعوه ينفذ فيهم ما توعّدهم به ، وضرب لهم في ذلك أجلاً .

فأشار بعض مَن كان مع ابن الحنفيّة عليه ، أنْ يبعث إلى المختار وإلى مَن بالكوفة رسولاً يُعلمهم حالهم وحال مَن معهم ، وما كان توعّدهم به ابن الزبير ، فوجد ثلاثة نفر مِن أهل الكوفة حين نامَ الحرس على باب زمزم ، وكتب معهم إلى المختار وأهل الكوفة ؛ يُعلمهم حاله وحال من معه وما توعّدهم به ابن الزبير من القتل والتحريق بالنّار ، ويطلب منهم النجدة ، ويسألهم أنْ لا يخذلوه كما خذلوا الحسين وأهل بيته .

فقدموا على المختار ، فدفعوا إليه الكتاب ، فنادى في الناس ، فقرأ عليهم الكتاب .

( إلى أنْ قال في إتحاف الورى ) : فوجّه ـ يعني المختار ـ أبا عبد الله الجدلي في سبعين راكباً من أهل القوّة ، ووجّه ظبيان بن عمارة أخا بني تميم ومعه أربعمئة ، وبعث معه لابن الحنفيّة أربعمئة درهم ، وسيّر أبا المعتمر في مئة ، وهاني بن قيس في مئة ، وعُمير بن طارق في أربعين ، ويونُس بن عمران في أربعين ، وكتب إلى محمّد بن عليّ مع أبي الطفيل عامر ومحمّد بن قيس بتوجيه الجند إليه .

١٥٦

وخرج النّاس أثرهم في أثر بعض ، وجاء أبو عبد الله الجدلي حتّى نزل ذات عرق في سبعين راكباً ، فأقام بها حتّى أتاه عمير ويونس في ثمانين راكباً ، فبلغوا مئة وخمسين رجلاً ، فسار بهم حتّى دخلوا المسجد الحرام ومعهم الكافركوبات وهم ينادون : يا لثارات الحسين ، حتّى انتهوا إلى زمزم ، وقد أعدّ ابن الزبير الحطب ليحرقهم ، وكان قد بقي مِن الأجَل يومان ، فطردوا الحرس وكسروا أعواد زمزم ودخلوا على ابن الحنفيّة فقالوا : خلّ بيننا وبين عدوّ الله ابن الزبير .

فقال لهم : إنّي لا أستحلّ القتال في حرم الله .

فقال ابن الزبير: واعجباً لهذه الخشبية ، ينعون حسيناً كأنّي أنا قتلته ، والله لو قدرت على قتلته لقتلتهم .

وإنّما قيل لهم خشبيّة ؛ لأنّهم وصلوا إلى مكّة وبأيديهم الخشب ، كراهة إشهار السيوف في الحرم .

وقيل : لأنّهم أخذوا الحطب الذي أعدّه ابن الزبير .

وقال ابن الزبير : أيَحسبون أنّي اُخلّي سبيلهم دون أنْ أُبايع ويُبايعون .

فقال أبو عبد الله الجدلي : أي وربّ الكعبة والمقام وربّ الحلّ والحرام ، لتخلّينّ سبيلهم أو لنجالدنّك بأسيافنا جلاداً يرتاب منه المبطلون .

فقال ابن الزبير : هل أنتم ـ والله ـ إلاّ أكلة رأس ، لو أذنت لأصحابي ما مضت ساعة حتّى تُقطف رؤوسكم .

فقال له قيس بن مالك : أما والله إنّي لأرجو إذ رِمت ذلك ، أنْ يرسل إليك قبل أنْ ترى ما تحب.

فكفّ ابن الحنفيّة أصحابه وحذّرهم الفتنة .

ثمّ قدم أبو المعتر في مائة ، وهاني بن قيس في مائة، وظبيان بن عمارة في مائتين ومعه المال، حتّى دخلوا المسجد الحرام فكبّروا وقالوا : يا لثارات الحسين .

فلمّا رآهم ابن الزبير خافهم .

فخرج محمّد بن الحنفيّة ومن معه إلى شعب عليّ ، وهم يسبّون ابن الزبير ويستأذنون محمّد بن الحنفيّة فيه ، فيأبى عليهم ، واجتمع مع محمّد في الشعب أربعة آلاف رجل ، فقسّم بينهم ذلك المال .

١٥٧

ويقال : إنّ ابن الزبير أرسل إلى ابن عبّاس وابن الحنفيّة أنْ يُبايعا ، فقالا : حتّى يجتمع النّاس على إمام ثمّ نُبايع فإنّك في فتنة ، فعظم الأمر بينهما وغضب من ذلك ، وحبس ابن الحنفيّة في زمزم ، وضيّق على ابن عبّاس في منزله ، وأراد إحراقهما ، فأرسل المختار جيشاً كما تقدّم .

( إلى أنْ قال في إتحاف الورى ) : سنة سبعٌ وستّين ، فيها حجّ بالنّاس عبد الله بن الزبيررضي‌الله‌عنه ، وفيها أو في التي بعدها ـ بعد أنْ قُتل المختار بالكوفة ـ استوسقت البلاد لابن الزبير ، وتضعضع حال ابن الحنفيّة وأصحابه واحتاجوا ، فأرسل ابن الزبير أخاه عروة إلى ابن الحنفيّة أنْ أدخل في بيعتي وإلاّ نابذتك .

الصفحة ١٧١

فقال ابن الحنفيّة: بؤساً لأخيك ، ما ألحّه فيما أسخط الله تعالى ، وأغفله عن ذات الله عزّ وجلّ .

وقال لأصحابه : إنّ ابن الزبير يُريد أنْ يثور بنا ، وقد أذنت لمن أحبّ الانصراف عنّا ، فإنّه لا ذمام عليه ولا لوم ، فإنّي مقيم حتّى يفتح الله بيني وبين ابن الزبير وهو خير الفاتحين .

فقام إليه أبو عبد الله الجدلي وغيره ، فأعلموه أنّهم غير مُفارقيه .

وبلغ خبره عبد الملك بن مروان ، فكتب إليه يُعلمه أنّه إنْ قدم عليه أحسن مقدمه ، وأنّه ينزل أيّ الشام أراد ، حتّى يستقيم أمر النّاس .

فخرج ابن الحنفيّة وأصحابه إلى الشام .

( إلى أنْ قال في إتحاف الورى ) : فارتحل ابن الحنفيّة إلى مكّة ، ونزل شعب آل أبي طالب ، فأرسل إليه ابن الزبير يأمره بالرحيل عليه ، وكتب إلى أخيه مصعب ابن الزبير يأمره : أنْ يُسيّر نساءَ مَن معَ ابن الحنفيّة ، فسيّر نساء منهنّ امرأة أبي الطفيل عامر بن واثلة ، فجاءت حتّى قدمت عليه .

١٥٨

فقال أبو الطفيل :

وإنْ يك سيّرها مُصعب

فإنّي إلى مصعب متعب

أقودُ الكتيبةَ مستلماً

كأنّي أخو عرّة أجرب

وهي عدّة أبيات .

وألحّ ابن الزبير على ابن الحنفيّة بالانتقال عن مكّة ، فاستأذنه أصحابه في قتال ابن الزبير فلم يأذن لهم وقال : اللّهمّ ألبس ابن الزبير لباس الذلّ والخوف ، وسلّط عليه وعلى أشياعه مَن يسومهم الذي يسوم النّاس ، ثمّ صار إلى الطائف .

فدخل ابن عبّاس على ابن الزبير ، فأغلظ له وجرى بينهما كلام ، وخرج ابن عبّاس أيضاً فلحق بالطائف ، وأرسل ابنه عليّاً إلى عبد الملك بالشام وقال : لأن يربّني بنو عمّي أحبّ إليّ من أنْ يربّني رجلٌ مِن بني أسد ـ يعني ببني عمّه بني أُميّة ـ لأنّهم جميعهم مِن وِلد عبد مناف ، ويعني برجلٍ مِن بني أسد ابن الزبير ، فإنّه من بني أسد بن عبد العزّى بن قصي )(١) .

ـــــــــــــــــــ

(١) إتحاف الورى بأخبار أُمّ القرى ـ حوادث السنة ٦٦ .

١٥٩

ثمّ قال السيوطي في ( الإتقان ) :

( وقد ورد عن جماعةٍ من الصحابة غير هؤلاء اليسير من التفسير .

كأنَس ، وأبي هريرة ، وابن عمر ، وجابر ، وأبي موسى الأشعري .

وورد عن عبد الله بن عمرو بن العاص أشياء تتعلّق بالقصص وأخبار الفتن والآخرة وما أشبهها ، بأنْ يكون ممّا تحمّله عن أهل الكتاب ، كالذي ورد عنه في قوله تعالى :( فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ ) )(١) .

أقول :

إنّه وإنْ كان يكفي معرفة أحوال الصحابة المذكورين ، وهُم الذين رَوَوا عنهم الكثير مِن التفسير ، لمعرفة شأن تفاسيرهم وقيمة رواياتهم وأخبارهم في التفسير ، لكنّا نتعرّض لحال هؤلاء ـ الذي رَوَوا عنهم السير ـ أيضاً ولو بإيجاز ، فنقول :

ـــــــــــــــــــ

(١) الإتقان في علوم القرآن ٤ : ٢٤٠ .

١٦٠